آية (183):
*(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)) الفعل كُتب مبني للمجهول وجاء مع (عليكم) تحديداً مع أنه ورد في القرآن (إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ (120) التوبة)؟( د.فاضل السامرائى)
نلاحظ أن ربنا تعالى قال: يا ايها الذين آمنوا، ناداهم بنفسه ولم يقل (قل يا أيها الذين آمنوا)، لم يخاطب الرسول، وإنما ناداهم مباشرة لأهمية ما ناداهم إليه؛ لأن الصيام عبادة عظيمة قديمة كتبها تعالى على من سبقنا فنادانا مباشرة ولم ينادينا بالواسطة. واستعمال (كتب) فيه شدة ومشقة، وما يستكره من الأمور، وحين يقول كُتب عليكم يكون أمرا فيه شدة ومشقة وإلزام، في أمور مستثقلة، ومن معاني كتب: ألزم ووجب وفرض، مثلاً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (178))، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ (216))، فيه شدة.
أما (كُتب له) فهو في الخير(وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ (187))، إذن كُتِب عليكم فيه شدة ومشقة وإلزام، والصوم مشقة يترك الطعام والشراب والمفطرات من الفجر إلى الليل، لذا لم يقل لكم.
بناء الفعل للمجهول (كُتِب) لأن فيها مشقة وشدة؛ لأن الله تعالى يظهر نفسه في الأمور التي فيها خير، مثل (حبب إليكم الإيمان وزينه في لقوبكم) ، أما في الأمور المستكرهة، وفي مقام الذم أحياناً فيبني للمجهول، (زّين للناس حب الشهوات) فالأمور التي فيها شر لا ينسبها لنفسه، ومثلها آتيناهم الكتاب وأوتوا الكتاب: ففي مقام الذم يقول أوتوا الكتاب مطلقاً، وفي مقام الخير يقول آتيناهم الكتاب. فلما كان هناك مشقة على عباده قال كُتب، ولم يقل كتبنا. بينما في الأمور التي فيها خير ظاهر يظهر نفسه (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (12) الأنعام) (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الأعراف) هذا خير. أما قوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ (45) المائدة) فهذه فيها إلزام لهم، كتب على بني إسرائيل الأمور التي شددها عليهم، شدد عليهم؛ لأنهم شددوا على أنفسهم، وحرف الجر يغير الدلالة، وأحياناً تصير نقيضها، مثل رغب فيه يعني أحبّه، ورغب عنه يعني كرهه، وضعه عليه يعني حمّله، ووضعه عنه أي أنزله.
*ما دلالة استخدام الصيام لا الصوم؟( د.فاضل السامرائى)
هذا من خصائص التعبير القرآني، لم يستعمل الصوم في العبادة، وإنما استعملها في الصمت فقط (إني نذرت للرحمن صوماً). والصوم هو الإمساك، والفعل صام يصوم صوماً وصياماً كلاهما مصدر، وربنا استعمل الصوم للصمت، وهما متقاربان في اللفظ والوزن (الصوم والصمت)، واستعمل الصيام للعبادة: لأن المدة أطول (صيام)، والمتعلقات أكثر من طعام وشراب ومفطرات، فهو أطول فقال صيام. (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ).
لم يستعمل الصوم في العبادة، وهذا من خواص الاستعمال القرآني أنه يفرد بعض الكلمات أحياناً بدلالة معينة، كما ذكرنا في الرياح والريح، في الغيث والمطر، في وصى وأوصى، ومن جملتها الصوم والصيام.
في الحديث الشريف يستعمل الصوم والصيام للعبادة “الصوم لي وأنا أجزي به”، ” الصوم نصف الصبر” لكن من خواص الاستعمال القرآني أنه يستعمل الصيام للعبادة فحسب.
*ختمت الآية (لعلكم تتقون) فما اللمسة البيانية فيها؟( د.فاضل السامرائى)
قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هذا يدل على علو هذه العبادة وعظمتها، وربنا سبحانه وتعالى كتب هذه العبادة على الأمم التي سبقتنا، ولا نعلم كيفيتها، لكن كان الصيام موجوداً. ثم تدل على الترغيب في هذه العبادة؛ ولأهميتها بدأ بها تعالى في الأمم السابقة، ثم إن الأمور إذا عمّت هانت، الصيام ليس بِدعاً لكم، وإنما هو موجود في السابق، فهذا الأمر يدل على أهميته، ويدل على تهوينه، إنه ليس لكم وحدكم، وإنما هي مسألة قديمة، كما كتبت عليكم كتبت على الذين من قبلكم.
كلمة (تتقون) أطلقها، ولم يقل تتقون كذا، كما جاء اتقوا النار أو اتقوا ربكم، يحتمل أن أشياء مرادة، يحتمل: تتقون المحرمات، وتحذرون من المعاصي؛ لأن الصوم يكسر الشهوة ويهذبها ويحُدّها (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يتسطع فعليه بالصوم فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج). تتقون المفطرات والإخلال بأشياء تؤدي إلى ذهاب الصوم، لعلكم تتقون، تحتمل: تصلون إلى منزلة التقوى، وتكونوا من المتقين.
فيها احتمالات عديدة، وهي كلها مُرادة. إذا كانت تتقون المعاصي فهي تحتمل؛ لأن الصوم يكسر الشهوة، وإذا كانت تتقون المفطرات تحتمل، وإذا كانت تصل إلى منزلة التقوى أيضاً تحتمل.
وفي هذا السياق تكرر ذكر التقوى والمتقين قال (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)) (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)) (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)) (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)) (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)) تكررت التقوى في السياق، وهي مناسبة لأن الله تعالى في أول السورة قال (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)). ففي عموم السورة إطلاق التقوى، وسورة البقرة ترددت فيها التقوى ومشتقاتها 36 مرة، والتقوى فِعلها وقى، وقى نفسه، أي حفظ نفسه وحذر، والمتقون الذين حفظوا نفسهم من الأشياء التي ينبغي أن يبتعدوا عنها، والبعض يقول إن التقوى هي أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك، يعني الابتعاد عن المحرمات، والانهماك في الطاعات، هذه هي التقوى.