سورة البقرة
*ما دلالة الحروف المقطعة في أوائل بعض السور في القرآن الكريم؟(د.فاضل السامرائى)
القدماء انتبهوا إلى أن السور التي تبدأ بالأحرف المقطعة بُنيت على ذلك الحرف، فمثلاً سورة ق تتكرر فيها الكلمات التي فيها حرف القاف مثل: (قول، رقيب، القرآن، تنقص، ألقينا، باسقات، الخلق)، وكذلك سورة ص تكثر فيها الكلمات التي فيها حرف الصاد مثل: (مناص، اصبروا، أصحاب، صيحة، فصل، الخصم)، حتى إنهم عملوا إحصائية في (الر)، وقالوإنها تكررت فيها الكلمات التي فيها (الر) 220 مرة، هذا قول القدامى.
العلماء جمعوا الأحرف المقطعة، وقالوا عندما نجمعها نجد أنها (14) حرفاً، تمثّل نصف حروف المعجم، وجاءت في 29 سورة، وهي عدد حروف المعجم، نصف الأحرف المجهورة، ونصف الأحرف الشديدة، ونصف المطبقة، ونصف المنقوطة، ونصف الخالية من النقط، ونصف المستقرة، ونصف المنفتحة، ونصف المهموسة، ونصف المستعلية، و نصف المقلقلة، و نصف الرخوة، وهكذا.
هذه الأحرف المفرّغة من المعنى رُكبت تركيباً خاصاً، فصارت آيات مبينة موضحة، وهي موضع الإعجاز، وموضع التحدي للعرب الفصحاء. وهم يقيناً أدركوا هذا المعنى، وإلا لكانوا سألوا عنه.
قسم من العلماء قالوا: إنها تشتمل على أنصاف الأحرف، فمثلاً كل سورة بدأت بـ (الم) تذكر بدء الخلق (حرف الألف)، ووسط الخلق (حرف اللام)، ونهاية الخلق (حرف الميم).
وقسم قالوا: إن كل السور التي تبدأ بحرف (ط) تبدأ بقصة موسى أولاً، وهناك من جعل منها معادلة رياضية، فقال: إن كل سورة فيها (الم) نسبة الحروف ألف إلى لام تساوي نسبة الحروف لام إلى ميم.
وقسم يجمع الحروف في جمل، وقسم أجروها على الطوائف، فجعلوا من الأحرف الأربعة عشر جملاً متعددة، وقسم جعلها رموزاً لأمور ستقع، مثلما قالوا في (حم عسق)، ففي تفسير ابن كثير إشارة إلى أمور في واحد من آل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وقسم كانوا يجمعون على حساب الجمل فيجعلون الألف واحدا، وهكذا.
والم هي حروف متقطعة، وليست كلمات، وإن كان قسم من القدامى حاولوا أن يجمعوا هذه الأحرف، ويستخرجوا منها جملاً، ولاحظوا أن كل طائفة تضع جملة تنصر بها طائفتها، وقسم يقول لو جمعت الأحرف تحصل على جملة “نص حكيم قاطع له سر”، سألتمونيها، اليوم تنساه، وقسم يقول: يا أوس هل نمت؟ أو: الوسمي هتّان (أي المطر ينزل)، هويت السمان، تُجمع منها عبارات، يجمعون من الأحرف بصور مختلفة، كل واحدة لها معنى.
سؤال: هل كانت العرب تتكلم في لغتها العربية بالأحرف المقطعة؟
كلا، ويقولون: إن القرآن استخدمها لشد انتباههم؛ لأنها غير مألوفة في كلامهم.
والقول الفصل فيها أنها حروف لها سر من قبل الله تعالى لا نعلمه، أو أنها من المتشابه الذي لا نعلمه، وقد يكون هذا الرأي أكثر قبولا، لكن كل ما سبق ملاحظات جديرة بالاهتمام أيضاً.
انتبه القدامى أيضاً إلى أن السور التي تبدأ بهذه الأحرف تستخدم فيها هذه الأحرف بكثرة، يعني التي تبدأ بالصاد تكثر فيها الكلمات الصادية، في سورة ص ذكر الخصومات، الخصم، يختصمون، مناص، صيحة، اصبروا، صيحة، اصبر، وفي سورة ق تتردد الكلمات التي فيها قاف: ق والقرآن المجيد، إذ يتلقى المتلقيان، قعيد، سائق، تشقق، ثم استدلوا بالإحصاء فضربوا مثالاً بسورة يونس التي تبدأ بـ الر، وفي هذه السورة تكررت الكلمات التي فيها راء كثيراً(فيها 220 راء) ، وأقرب السور إليها سورتا النمل والنحل.
ثم الملاحظة أن كل السور التي تبدأ بالطاء (طه، طس، طسم) كلها تبدأ بقصة موسى أولاً، كلها بلا استثناء، ويبدو كما يقولون أن الحروف المذكورة أولاً تطبع طابع السورة فتكون من باب السمة التعبيرية.
ليس هذا فقط، ولكن قبل سنوات أخرج دكتور مهندس كتاباً عن المناهج الرياضية في التعبير القرآني، استخدم فيه الكمبيوتر، وهو يقول أنه لاحظ أن الأحرف المذكورة في بداية السور تتناسب في السور تناسباً طبيعياً، فالتي تبدأ بـ (الم) تكون الألف فيها أكثر تكراراً في السورة، ثم اللام ثم الميم، وليس هذا فقط، وإنما نسبة الألف إلى اللام مثل نسبة اللام إلى الميم، هذه معادلة رياضية، حتى إنني ناقشته، وسألته: هل راجعت المصحف وطبقتها عليه، فقال: نعم طبقتها على المصحف، لكنه وجد القرآن متفرداً بها.
والذي عليه الكثيرون أن هذه من دلائل الإعجاز، بمعنى أن هذا القرآن المبين الواضح مكوّن من هذه الأصوات غير المبينة في ذاتها، وأن القرآن جاء بكلام معجز من جنس كلامهم، (فأتوا بمثله إن استطعتم)، والسلف كانوا يوكلون معاني هذه الأحرف لله تعالى
*لماذا وردت بعض أسماء السور مرفوعة مثل الكافرون والمؤمنون، وبعضها بالجرّ بالإضافة مثل سورة الحجِ و البقرةِ؟ (د.حسام النعيمى)
الناظر في فهرس السور، وفي مواطنها. يجد كلمة: سورة البقرة، وتعرب خبرا لمبتدأ محذوف، وتقديره هذه سورة البقرة، وهذه سورة آل عمران، وهكذا. فالأسماء المفردة جاءت بالجر مجرورة، والأسماء التي جاءت بصيغة جمع المذكر السالم يبدو أن تسميتها جاءت كما وردت في السورة، فلما كانت (قل يا أيها الكافرون) بالرفع، سميت سورة الكافرون على الحكاية، والسور التي اسمها فيه جمع مذكر سالم أربع سور: المؤمنون (قد أفلح المؤمنون)، المنافقون (إذا جاءك المنافقون)، الكافرون (قل يا أيها الكافرون)، المطففين (ويل للمطففين) جاءت مجرورة باللام فسميت المطففين. فجمع المذكر السالم حُكي في السورة، والباقي أُخضع للقاعدة، فإذا كان منصرفاً جُرّ بالكسرة، وإذا كان ممنوعاً من الصرف مثل سورة يونسَ جُرَّ بالفتحة نيابة عن الكسرة، وكذلك سورة يوسفَ.
*لماذا لم يلتزم نفس الأحرف المقطعة في كل السور؟وهل هناك مناسبة بين تلك الأحرف والآية التي تليها؟(د.حسام النعيمى)
إلى الآن بقدر بحثنا لا توجد مناسبة ظاهرة، لكن هناك مناسبة في اختيار ما بعدها بالنظر إليها، سأذكرها: وجدت أنها من الجانب الصوتي تنطبق على جميع ما ورد ذكره من كلمة كتاب وكلمة قرآن، أي أنه حيثما اختار كلمة الكتاب تكون الأحرف المقطعة كذا بمقاطعها الصوتية,
الأحرف المقطعة جاءت في 29 موضعاً في القرآن الكريم والذي توصلنا إليه ما يأتي:
القاعدة: أنه إذا كانت الحروف المقطعة أكثر من مقطعين، فعند ذلك يأتي معها الكتاب، لأن الكتابة ثقيلة. وإذا كانت الحروف المقطعة من مقطعين يأتي معها القرآن، بإستثناء ما إذا كان المقطع الثاني مقطعاً ثقيلاً. مثلاً (حم) الحاء مقطع والميم مقطع ثقيل؛ لأنه مديد (ميم، حركة طويلة، ميم: قاعدتان وقمة طويلة) وهو من مقاطع الوقف، فالميم ثقيل لأنه يبدأ بصوت، وينتهي بالصوت نفسه، وبينهما هذه الحركة الطويلة، والعرب تستثقل ذلك ولذلك جعلوه في الوقف.
(الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) أكثر من مقطعين، جاء بعدها كلمة الكتاب.
أما في سور (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) طه)، (ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1))، (يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2)) لم يقل الكتاب،
ورسم هذه الحروف رسم توقيفي، أي على ما رسمه صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
هذه الأحرف جميعاً حيثما وردت تشير إلى أصوات متناسقة ليس بينها تنافر، كأن القرآن يقول لهم هذه الأصوات ينبغي أن لا يكون فيها نوع من التنافر. (الم) الألف من أقصى الحلق من الوترين، اللام مخرجها الذي هو فويق مفارز الثنايا والرباعية والناب والضاحك، اللام مخرجه منتشر ويميل، والميم بانضمام الشفتين. (كهيعص) في لفظ واحد، ولذلك لما جاء عندنا في موضع حرفان من مخرج واحد مع ما فيهما من اختلاف، جعل كل واحد في آية فقال (حم) آية،و (عسق) آية، لأن الحاء والعين من مخرج واحد فلا يكونان في لفظ واحد مع أن بين الحاء والعين فروقاً. من حيث الصفات في مسألة الشدة والرخاوة: الحاء رخوة يجري بها الصوت، والعين متوسط، والصفات من حيث الشدة والرخاوة: أصوات شديدة، وأصوات رخوة، وأصوات متوسطة كأنها تبدأ شديدة وتنتهي رخوة، أو ظاهرها الشدة، لكن يجري بها الصوت من غير مخرجها، مثل الميم أوالنون، وفرق آخر بين الحاء والعين هو أن الحاء مهموس والعين مجهور، ومع وجود هذا الإختلاف جُعِل كل حرف في آية حتى لا يكونا في بناء واحد، فإذًا نوعية الصوت أيضاً منتقاة.
وبعض الحروف المقطعة عُدّت آيات وبعضها ما عُدّ آية. (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) ألم آية، وأرقام الآيات توقيفي على ما فعله الصحابة، هم لم يضعوا أرقاماً، وإنما وضعوا فجوات ثم بعد ذلك وضعت الأرقام.
(2):
*ما الفرق بين دلالة كلمة الكتاب والقرآن؟ وما دلالة إستخدام ذلك الكتاب في الآية (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) ولم تأت هذا الكتاب أو هذا القرآن أو ذلك القرآن؟
د.فاضل السامرائى :
كلمة قرآن هي في الأصل في اللغة مصدر الفعل قرأ مثل غفران وعدوان: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} القيامة) ثم استعملت علماً للكتاب الذي أُنزل على الرسول (صلى الله عليه وسلم) (القرآن).
أما الكتاب فهي من الكتابة، وأحياناً يسمى كتاباً؛ لأن الكتاب متعلق بالخط، وأحياناً يطلق عليه الكتاب وإن لم يُخطّ (أنزل الكتاب) لم يُنزّل مكتوباً، وإنما أُنزل مقروءاً، ولكنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن ينزّل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
هذا من ناحية اللغة، أما من ناحية الإستعمال، فيلاحظ أنه عندما يبدأ بالكتاب يتردد في السورة ذكر الكتاب أكثر بكثير مما يتردد ذكر القرآن، أو قد لا تذكر كلمة القرآن مطلقاً في السورة. أما عندما يبدأ بالقرآن فيتردد في السورة ذكر كلمة القرآن أكثر الكتاب، أو قد لا يرد ذكر الكتاب مطلقاً في السورة، وإذا اجتمع القرآن والكتاب يترددان في السورة بشكل متساو تقريباً ونأخذ بعض الأمثلة:
في سورة البقرة بدأ بالكتاب (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2}) وذكر الكتاب في السورة 47 مرة، والقرآن مرة واحدة في آية الصيام (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
في سورة آل عمران بدأ السورة بالكتاب (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ {3}) وورد الكتاب 33 مرة في السورة، ولم ترد كلمة القرآن مطلقا في السورة كلها.
في سورة طه: بدأ السورة بالقرآن (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى {2}) وورد القرآن فيها ثلاث مرات، والكتاب مرة واحدة.
في سورة ق بدأ بالقرآن (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ {1}) وورد القرآن ثلاث مرات في السورة بينما ورد الكتاب مرة واحدة.
في سورة ص تساوى ذكر القرآن والكتاب.
في سورة الحجر بدأ (الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ {1}) وورد ذكر القرآن ثلاث مرات والكتاب مرتين.
في سورة النمل بدأ (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ {1}) وورد ذكر القرآن ثلاث مرات والكتاب أربع مرات.
* ما دلالة استخدام اسم الإشارة (ذلك) في الآية (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) بدل اسم الإشارة هذا؟(د.فاضل السامرائى)
إسم الإشارة أحياناً يستعمل في التعظيم وأحياناً يستعمل في الذم، والذي يبين الفرق بينهما هو السياق.
كلمة (هذا) تستعمل في المدح والثناء “هذا الذي للمتقين إمام” ويستعمل في الذم (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) الفرقان)، و(أولئك) تستعمل في المدح “أولئك آبائي فجئني بمثلهم” أولئك جمع ذلك، وهؤلاء جمع هذا، وتستخدم أيضا في الذم، (ذلك) و(تلك) من أسماء الإشارة (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (32) يوسف) تعظيم، وأحياناً تكون في الذم فتقول: ذلك البعيد، لا تريد أن تذكره، فالسياق هوالذي يميز دلالة الاستعمال.
(ذلك الكتاب لا ريب فيه) هنا إشارة إلى علوه وبعد رتبته، وبعده عن الريب، وأنه بعيد المنال لا يستطيع أن يؤتى بمثله، (ذلك) دلالة على البعيد، والله تعالى قال في نفس السورة (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ (24)) هذا الأمر بعيد عن المنال أن يؤتى بمثله، إذًا ذلك الكتاب إشارة إلى بعده وعلو مرتبته.
والقرآن يستعمل (هذا) لكن في مواطن، مثل: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9) الإسراء)، فعندما قال يهدي للتي هي أقوم يجب أن يكون قريباً حتى نهتدي به، لكن حين قال ذلك الكتاب أراد أنه عالٍ بعيد لا يستطاع أن يؤتى بمثله.
ثم إنه حين يذكر القرآن لا يشيرإليه إلا بـ (هذا)، ولا يقول (ذلك)؛ لأن القرآن من القراءة، وهو مصدر الفعل قرأ، وكلمة قرآن أصلاً مصدر، قرأ قراءة وقرآناً، وأنت إذا قرأت تقرأ القريب، فهذا هو القرآن، أما الكتاب فهو بعيد، لأنه قد يكون في مكان آخر، فهو في اللوح المحفوظ يسمى كتاباً،أما القرآن فيكون قريباً حتى يُقرأ.
وفي سورة الأنعام أشار إلى الكتاب فقال: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (92) الأنعام). بينما لم يقل في آية البقرة “هذا الكتاب لا ريب فيه” لكونه بعيدا، لا يستطاع أن يؤتى بمثله، وقد قال في السورة نفسها: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) يعني أنه بعيد عليكم، فاسم الإشارة (ذلك) دل على علوِّ منزلته.
*مقارنة بين بداية سورة لقمان وبداية سورة البقرة ؟(د.فاضل السامرائى)
• في سورة لقمان أشار إلى الآيات (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)، ولم يشر إلى الكتاب كما في البقرة (ذلك الكتاب)، ولو لاحظنا في سورة لقمان تتردد كثير من الآيات السمعية والكونية، مثلاً قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7))، وذكر الآيات الكونية كخلق السموات بغير عمد، وإلقاء الرواسي، وإخراج النبات، وسمّاها آيات (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)).
• استخدمت كلمة الكتاب ومشتقات الكتابة في البقرة أكثر من استخدام كلمة الآيات، بينما في لقمان كلمة الآيات أكثر من الكتابة. في البقرة مشتقات الكتاب والكتابة ذكرت 47 مرة وذكرت الآيات 21 مرة، وفي لقمان ذكر الكتاب مرتين، والآيات خمس مرات، هذه سمة تعبيرية السور التي بدأت بالكتاب ذكر فيها الكتاب أكثر، والتي بدأ فيها بالآيات ذكرت فيها الآيات أكثر.
• وصف الله الكتاب في لقمان فقال: (الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)، بينما في البقرة لم يصف الكتاب. ما معنى الحكيم؟ الحكيم قد يكون من الحكمة أو من الحكم، أو استواؤه وعدم وجود الخلل فيه، وهذا من باب التوسع في المعنى، فلو أراد تعالى معنى محدداً لخصّص، في سورة البقرة لم يصف الكتاب لأن السورة فيها اتجاه آخر. وفي لقمان قال: (الحكيم)، ثم قال: (هدى ورحمة)، وفي البقرة قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة). ووصفه بالحكيم في لقمان مناسب لما ورد في لقمان من الحكمة والحِكَم: (آتينا لقمان الحكمة) ، وقوله في البقرة :(لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) متناسب مع (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ (23) البقرة) وربنا وصف نفسه بأنه عزيز حكيم في سورة لقمان أكثر من مرة، فكلمة حكيم مناسبة لجو السورة التي تبدأ (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)).
• في البقرة قال (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ثم قال (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ (24)) اتقوا النار مقابل المتقين، فهناك مناسبة بين هدى والمتقين، وكلمة التقوى ترددت كثيراً في البقرة، فإذًا (لاَ رَيْبَ فِيهِ) متناسب مع قوله (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ) والمتقين واتقوا الله. وفي لقمان قال بينما في البقرة قال فقط (هدى للمتقين)، فما الفرق بين المتقي والمحسن؟ المتقي هو الذي يحفظ نفسه ويتقي الأشياء، والمُحسِن هو الذي يحسن إلى نفسه وإلى غيره (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) البقرة)، الإحسان يتعداه إلى نفسه وإلى غيره، أما التقوى فتقتصر على النفس، والإحسان إلى الآخرين من الرحمة، فلما تعدى إحسانهم إلى غيرهم فرحموهم استخدمت كلمة رحمة(هدى ورحمة للمحسنين) ، حتى في الآخرة زاد لهم الجزاء، قال تعالى في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس) وهذه رحمة، فكما زاد الجزاء لهم في الآخرة زاد لهم في الدنيا، (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) و(هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ).
ونلاحظ أن هذه الأوصاف هدى ورحمة للمحسنين مناسبة لما ورد في عموم السورة، وما شاع في جو السورة، الهدى والرحمة والإحسان، فمن مظاهر الهدى المذكورة في سورة لقمان قال: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15)) فالذي يسلك السبيل يبتغي الهداية، ومن مظاهرالرحمة قوله تعالى: (أن تميد بكم) فهذا من الرحمة، ولما ذكر تسخير ما في السموات والأرض : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) هل هناك أعظم من هذه الرحمة؟ ومن مظاهر الإحسان إيتاء الزكاة والوصية بالوالدين والإحسان إليهما، فجو السورة كلها شائع فيه الهدى والرحمة والإحسان، وهذا ليس في البقرة.
وإنما سورة البقرة ذكرت أموراً أخرى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)) (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أوصاف كثيرة انتهت بقوله: (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5))، أما في لقمان فاختصر (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). وفي لقمان كرر كلمة (هم) وفي البقرة لم يكررها (وبالآخرة هم يوقنون).
والإيمان أعمّ من الإحسان، ولا يمكن للإنسان أن يكون متقياً حتى يكون مؤمناً، وورود كلمة المتقين، المؤمنين، المحسنين، المسلمين يعود إلى سياق الآيات في كل سورة.
• في البقرة قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ولم يقلها في لقمان، وقال في البقرة (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) ولم يقلها في لقمان، وقال في لقمان (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة)، وفي البقرة قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وهذه أعم من الزكاة، فالزكاة من الإنفاق.
في سورة البقرة، قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وبعدها قال (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)) وهذا من الغيب، لم يؤمنوا لا بالله ولا باليوم الآخر، وقال على لسان بني إسرائيل (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (55)) هم لا يؤمنون بالغيب، وطلبهم عكس الغيب، لذلك قال في البداية (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، لا مثل هؤلاء الذين يقولون آمنا وما هم بمؤمنين، ولا مثل هؤلاء الذين طلبوا أن يروا الله جهرة.
بينما في لقمان قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) فهم مؤمنون بالغيب وقال (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ (32) هم دعوا الله، الطابع العام في سورة البقرة : الإنكار على عدم الإيمان بالغيب، بينما في لقمان: الإيمان بالغيب حتى الذين كفروا قال: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فهم يؤمنون بجزء من الغيب، بينما أولئك في سورة البقرة ينكرون (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) .
ونلاحظ أنه في لقمان قال: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، وفي البقرة قال :(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) لأنه تكرر في البقرة ذكر الإنفاق 17 مرة، وذكرت الزكاة في عدة مواطن، ذكر الإنفاق (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (261)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى (262)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً (274)) 17 مرة تكرر الإنفاق، فهذا أعم.
في لقمان لم يذكر الإنفاق فطابع السورة يختلف.
قال في البقرة (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ)، ولم يقل هذا في لقمان؛ لأن هذا جرى في البقرة، وطلب من أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أُنزل إليه وما أنزل من قبلك في آيات كثيرة جداً (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ (41) البقرة) فالمتقون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وهؤلاء لم يؤمنوا (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ (75)) (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا (76)) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ (91)) وفي آخر البقرة قال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (285)) هذا هو طابع سورة البقرة، وهو مختلف عما في لقمان.
• قال تعالى فى سورة لقمان(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)، وفي آية البقرة قال(وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أي أنه كرر هم قبل (بالآخرة) في لقمان، ذلك أنه تردد في سورة لقمان ذكر الآخرة وأهوالها، والتوعد بها في زهاء نصف عدد آيات السورة وفي أولها وآخرها (لهم عذاب مهين، فبشره بعذاب أليم، لهم جنات النعيم، عذاب غليظ، إليه المصير، مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِه) ثم إنها بدأت بالآخرة :(وَبِالآخِرَةِ هُمْ يوقنون) وانتهت بالآخرة بقوله تعالى :(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (34))، فناسب ذلك زيادة (هم) توكيداً على طابع السورة.
إضافة إلى ما جاء في السورة من ذكر أنهم محسنون، والمحسنون كما علمنا يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم، وليس كما في البقرة من ذكرالمتقين، والمتقي الذي يحفظ نفسه فحسب، فزاد في وصف هؤلاء الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، وهذا من الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه”- زاد في ذكر إيقانهم ويقينهم لما كانوا أعلى مرتبة وزاد لهم في الرحمة، وزاد لهم في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس). زاد في ذكر إيمانهم فقال: (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، هم أعلى في اليقين؛ لأن اليقين درجات، والإيمان درجات، والمحسنون يعبدون الله كأنهم يرونه، فدرجة يقينهم عالية، فأكد هذا الأمر فقال: (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بينما اكتفى في سورة البقرة بقوله: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) .
لكن الملاحظ أنه في البقرة وفي لقمان قدم الجار والمجرور على الفعل: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فلم يقل وهم يوقنون بالآخرة، والأصل في اللغة العربية أن يتقدم الفعل، ثم تأتي المعمولات الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور، والتقديم لا بد أن يكون لسبب، وهنا قدم (وبالآخرة) (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)؛ لأن الإيقان بالآخرة صعب، ومقتضاه شاق، أما الإيمان بالله فكثير من الناس يؤمنون بالله، لكن قسما منهم مع إيمانه بالله لا يؤمن بالآخرة مثل كفار قريش (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ (32) الجاثية)، وهم مؤمنون بالله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25) لقمان)، هم مؤمنون بالله لكن غير مؤمنين بالآخرة، ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) والتقديم هنا للإهتمام والقصر.
• النهاية واحدة (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، هؤلاء المذكورون بهذه الصفات (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ)، واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة؛ لأن الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، لم يقل على هدى من الله، وإنما قال على هدى من ربهم، وفيها أمران: كان يمكن أن يقال هدى من الله؛ لأن لفظ الجلالة الله، الاسم العلم يصح أن تُنسب إليه كل الأمور، ولكن هناك أشياء من الجميل أن تنسب إلى صفاته سبحانه وتعالى بما يناسب المقام مثل أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم، فهنا قال على هدى من ربهم، والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد، فيتناسب اللفظ مع الهداية، واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن، وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) طه) (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (161) الأنعام) فكثيراً ما تقترن الهداية بالرب، وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي، إضافة إلى أن كلمة: (ربهم) تفيد الإخلاص بالنصح والتوجيه والإرشاد (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) فلا شك أن ربهم فيه إخلاص الهداية وإخلاص التوجيه، ورب الإنسان يعني: مربيه أخلص له من غيره.
وهناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى، وبين إضافة رب إلى هم ، فلو استعمل الاسم العلم فلن تكون هناك إضافة لهم، لكن على هدى من ربهم، لا شك أن ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم؛ لذا فاختيار كلمة رب مناسبة مع الهداية، ثم إضافته إليهم أمر آخر يفيد أنه أرأف بهم وأرحم بهم، يحبهم ويقربهم إليه، وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه .
وهناك أمر التفت إليه الأقدمون: قال تعالى (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ)، (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) يس) (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) النمل) يستعمل القرآن مع الهداية لفظ (على)، بعكس الضلال فإنه يستعمل له لفظ (في ) (لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) يوسف)، (إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) يس) وليس فقط في الضلال وإنما ما يؤدي إلى الضلال (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) التوبة) (فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس) كأن المهتدي مستعلٍ، يبصر ما حوله، ويتمكن مما هو فيه، ثابت يعلم ما حوله،ويعلم ما أمامه، أما الساقط في اللجة أو في الغمرة أو في الضلال فلا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة .لذا يستعمل ربنا تعالى مع الهداية (على ) ومع الضلال (في).
• ثم ختم الآية بقوله (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولاً: جاء بضمير الفصل (هم)، وجاء بالتعريف (المفلحون)، لم يقل أولئك مفلحون، ولم يقل هم مفلحون، وإنما أخبر أن هؤلاء هم المفلحون حصراً، ليس هنالك مفلح آخر. وأولئك: الأصل أنه اسم إشارة من الناحية المحسوسة – إذا لم نرد المجاز- للبعيد وهؤلاء للقريب، هذا الأصل، مثل هذا وذلك. ثم تأتي أمور أخرى مجازية، كأن يكون هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلو مرتبتهم وفلاحهم بأولئك، إشارة إلى علو منزلتهم، وعلو ما هم فيه، فالذي على هدى هو مستعلٍ أصلاً فيشار إليه بما هو بعيد، وبما هو مرتفع، وبما هو عالٍ، ثم حصر الفلاح فيهم، فقال :(وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فمن أراد الفلاح – ولا شك أن كل إنسان يريد الفلاح – فليكن منهم.
• والذي يؤمن بالآخرة يؤمن بكل شيء، وهي ليست كلمة تقال. ولذلك ذكر ركنين أساسيين واحدة في إصلاح النفس، وواحدة في الإحسان إلى الآخرين: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإقامة الصلاة هي أول ما يسأل عنه المرء، ولذلك قال: (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصراً، لا فلاح في غير هؤلاء، ومن أراد الفلاح فليسلك هذا السبيل، وليس وراء ذلك فلاح.
*ما الفرق بين دلالة كلمة الكتاب والقرآن؟ وما دلالة إستخدام ذلك الكتاب في الآية (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) ولم تأت هذا الكتاب أو هذا القرآن أو ذلك القرآن؟
د.حسام النعيمى:
الذي أنزله الله عز وجل على رسوله (صلى الله عليه وسلم) يمكن أن يقال هو الكتاب، ويمكن أن يقال هو القرآن، ويمكن أن يقال هو الفرقان، ويمكن أن يقال هو الذِكر.
لكن أسماء الإشارة عندما تُستعمل تستعمل لغايتها، فاسم الإشارة في الأصل هو (ذا) وحدها لكن تدخله الهاء للتنبيه، حينما يقدم عليه شيء ينبّه فيقال (هذا)، وأحياناً تدخل عليه الكاف التي تشير إلى البُعد فيقال (ذاك)، وقد تدخل عليه اللام التي تشير إلى البُعد المُفرِط (ذلك) للبعيد جداً
بعض علمائنا يقولون: هذا نوع من تشريف الكتاب بأنه لم يُشر إليه بإشارة القريب، وكأنما أراد الله أن يعظّمه. وقسم قال: إذا أشار إلى الكتاب الذي في اللوح المحفوظ قال (ذلك)، فمعناه الكتاب الذي في اللوح المحفوظ، والذي لا يمسه إلا المطهّرون من الملائكة، فإذا أشار إليه بهذا أراد الذي بين أيدي الناس، فيشير إليه إشارة القريب كقوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) فهو بين أيديهم.
القرآن والكتاب واحد، وهو الآيات التي أنزلها الله عز وجل على محمد (صلى الله عليه وسلم) ، لكن حين يقول الكتاب فكأنه إشارة إلى هذا المدوّن وهو نفسه المقروء، الذي كان مسطّراً في اللوح المحفوظ، ثم نزل مقروءاً، ثم قرأه الرسول (صلى الله عليه وسلم) .
فالإشارة إلى الكتاب الذي في اللوح المحفوظ ويراد الرسم والكتابة، فجاءت كلمة (الكتاب)، وكان يمكن في غير القرآن أن يقال (ذلك القرآن)، لكن لأن الكلام جاء على أنه ليس فيه شك في تكوينه ، في ماهيّته، أي أنه خالٍ من الشك الذاتي، يعني هو غير قابل لأن يُشكّ فيه بذاته – قال (لا ريب فيه)، فانصرف الذهن إلى الكتاب الذي في اللوح المحفوظ (ذلك الكتاب لا ريب فيه)، والريب أدنى درجات الشك، والشك أقوى من الريب ، فهذا الكتاب بذاته يخلو من أي ذرة من ذرات الشك، فإذًا هو يخلو من الريب.
آية (3):
*لم قال(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) ولم يقل آمنوا بالغيب مع أن إيمان المتقين بالغيب مؤكد في الآية ؟(من برنامج ورتل القرآن ترتيلاً)
قال تعالى يؤمنون بصيغة المضارع، ولم يقل آمنوا بصيغة الماضي؛ لأن الإيمان منهم مستمر متجدد لا يطرأ عليه شك ولا ريبة.
آية (5):
*ما الغرض البلاغي من ضمير الفصل هو ؟(د.فاضل السامرائى)
التوكيد والقصر في الغالب (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) البقرة) حصراً ليس هناك مفلح غيرهم، (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) البقرة) ضمير الفصل يفيد في الغالب التوكيد والقصر،حتى تسمية ضمير الفصل، قالوا يفصل الخبر عن الصفة؛ حتى يُعلم أن الذي بعده خبر، وليس صفة؛ فلو لم يوجد الضميرلالتبس على القارئ الأمر فظن أن هذا الخبر صفة .
*(خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ) جعل الله تعالى القلوب والأبصار جمعاً، بينما أفرد السمع، والإنسان يملك قلباً واحداً بينما يملك عينين وأذنين، فكان الأوْلى من حيث الظاهر أن يُفرِد القلب فيقول ختم على قلبهم، فلِمَ أفرد السمع دون القلوب والأبصار؟(من برنامج ورتل القرآن ترتيلاً)
إن السمع يتعلق بما تسمع، وما يُلقى إليك، فكل الناس يسمعون الخبر متساوياً لا تفاوت فيه ولا تفاضل، وإنما نختلف أنا وأنت والناس جميعاً في تحليل المسموع وتدبره، وهذا يتم عبر القلوب.
آية (7):
* لماذا يرد السمع مفردا، والأبصار ثم القلوب بالجمع، (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) البقرة) ؟(د.حسام النعيمى)
هذه هي الآية الثانية في الكلام عن الكفار في أول سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)).
هؤلاء كانوا من عتاة الكفرة، من الذين علم الله سبحانه وتعالى أنهم قد أقفلوا قلوبهم؛ لذا يقال لهم (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، هذه التصريحات في القرآن تجاه الكفار من دلائل النبوة، فهذا لا يكون من كلام بشر؛ لأنه ماذا يكون الموقف لو أن هؤلاء تظاهروا بالإسلام، وقالوا نحن أسلمنا؟ فيصبح الكلام غير وارد، لكن هذا علم الله سبحانه وتعالى.
الختم هو الطابَع من الطين،والأصل فيه أن العربي كان إذا أراد أن يحفظ شيئا من الأشياء يغلق فوهته، ويأتي بشيء من الطين يضعه على مكان عقدة الخيط ويختمه بخاتِمه، ويستخدم الآن ما يسمى الختم بالشمع الأحمر، يعني يقفل المكان، ثم يختم عليه بالشمع الأحمر، هم أغلقوا قلوبهم أولاً، فختم الله سبحانه وتعالى عليها.
ولا يحتج بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ختم فهم مسيّرون؛ لأنهم هم أغلقوا قلوبهم أولاً؛ فالختم لا يكون إلا على شيء مغلق؛ لذا قيل للرسول (صلى الله عليه وسلم) (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) هؤلاء لا يؤمنون، هؤلاء انتهى أمرهم، وهذا الأمر لا يكون لعموم المسلمين، فلا تقل هذا الإنسان مقفل قلبه، لأنك أنت لا تعلم ذلك.
القلب عند العرب هو موطن العقل والتفكير، هكذا يستعملونه، والدماغ عندهم حشو الجمجمة، ففي لغة العرب أن الإنسان يعقل ويفكر ويحس من القلب؛ ولذلك كلّم القرآن الناس على أن موطن العقل وموطن التفكير عندهم هو القلوب.
بماذا يتدبر الإنسان؟ بما يسمعه، لأن الأصل أن الآيات تلقى إلقاء على الناس، فالدعوة شفاهاً، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يكلم الناس ليسمعوا فيتدبروا، فإذا أغلقوا قلوبهم وختم عليها، فكأنهم لا يحتاجون إلى آذانهم. فإذا سمعوا شيئاً يدعوهم إلى التفكر، إلى النظر (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) فالسمع هو الوسيلة الأولى التي تدعوك إلى أن تنظر، الطريق إلى القلوب هو السمع، وقد تعطل فما عاد ينفع، فختم عليه أيضا، والسمع وسيلة التذكير بالإبصار فغشّيت الأبصار، أي جعل عليها(غشاوة) .
لذلك جاء هذا الترتيب الطبيعي، ولا يمكن أن يتغير إلا في ظرف معين سنتطرق إليه في سورة الاسراء: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97).
ومن جانب آخر :
القلوب وما يجول فيها من تفكير شيء واسع مطلق، والإنسان يكون ساكتا وفكره في قلبه ليس له حدود، والنظر أيضاً واسع، لكنه لا شك أقل من القلب، فأنت تنظر إلى مكان محدود؛ ولذلك يأتي النظر في الدرجة الثانية من حيث السعة، ومع ذلك فالنظرمتنوع، يعني أنت ترى أشياء كثيرة، لكن السمع لا يستقبل سوى الصوت اللغوي. البصر يتعامل مع أشياء كثيرة، والقلب يتعامل مع أشياء أكثر، فالذي يتعامل مع الكثير استعمل له الجمع، والذي يتعامل مع الواحد استعمل له المفرد (السمع). فلو أن مجموعة من الناس ألقيت عليهم آية من الآيات، فإنها سوف تدخل آذانهم جميعا ذبذبات واحدة، وتترجم في رؤوسهم – إذا كانوا يعرفون العربية – بصورة واحدة لا تختلف، فالمستقبل في السمع واحد، لكن بعد استقباله كلٌ سيفكر فيه بطريقة خاصة، من زاوية مختلفة، حسب وجهة نظره ، وليس بصورة واحدة، فهذا يقتضي توحيد السمع وجمع القلوب.
القلوب جمع قلب، والأبصار جمع بصر، ليس لهما جمع آخر ، قلوب جمع كثرة، وأبصار جمع قِلّة، فالعرب جمعوا القلب على قلوب لأن القلوب كما قلنا مشاربها وتهيؤاتها وتصوراتها واسعة، فناسبها جمع الكثرة، وجمعوا البصر على أبصار، لأنه أقل سعة من القلب، فناسبه جمع القلة، وهذه بعض أسرار العربية.
ومن خلال النظر في كتاب الله سبحانه وتعالى، قال بعض علمائنا إن إفراد كلمة السمع حدث لأن صورته صورة المصدر، والمصدر عادة لا يُجمع، لكونه يدل على الحدث المطلق.
استخدم القرآن الختم على القلب وعلى السمع، وعطف لأنه أراد أن يجمعهما بختم واحد لارتباط الموضوع، فموضوع التفكر يكون عن طريق السماع، فلما أغلقوا قلوبهم لم يعد هناك فائدة للسمع فختم على الإثنين: ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، (وعلى أبصارهم غشاوة) هذه جملة جديدة وليست معطوفة، ولو أردنا أن نقف فإننا نقف على سمعهم، ثم نقول: وعلى أبصارهم غشاوة، البصر يحتاج لتغطية، أما السمع فيحتاج إلى ختم؛ لأنه ليس هناك شيء يغطيه.
* ما الفرق بين (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)) (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)) و (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) البقرة)؟(د.حسام النعيمى)
هذه الآيات في الكلام عن المنافقين، وفي قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) حين يعلن هؤلاء أنهم آمنوا يعتقدون أنهم يخادعون الله سبحانه وتعالى. (وما يشعرون) الفعل المضارع يدل على الحال أو الاستقبال، أو أحياناً الدوام والثبات على الوصف، فحين تقول: زيد ينظم الشعر، إما أنك تعني أنه ينظم الشعر الآن، أو أنه هو من الشعراء فهذه حاله، فاستعملوا (ما) لنفي الحاضر يقولون: زيد ما ينظم الشعر، أي الآن، وإذا أرادوا المستقبل استعملوا (لا) قالوا: لا ينظم الشعر أي ليس شاعرا.
وفي مسألة (يشعرون) استعمل القرآن مرة (وما يشعرون) ومرة (لا يشعرون) معنى ذلك أنه يريد أن ينفي عنهم الإحساس والشعور الآن وفي المستقبل.
آية (10):
*(فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ (10) البقرة) المرض هو الضعف والفتور فهل كل كافر مصاب بمرض في قلبه؟ تخيل شخصاً مريضاً ما الذي يبدو عليه؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
وماذا يفعل المرض بجسد المريض؟ إن مظهره يبدو شاحباً، والمرض يقتل جسده وروحه رويداً رويداً، وكذلكم الأمر بالنسبة إلى النفاق، فالجهل وسوء العقيدة مرض إيماني وأخلاقي يميت نور الإيمان في قلب ص
*ما الفرق بين (لا يشعرون) و(لا يعلمون)؟(د.حسام النعيمى)
استعمل الشعور في الكلام عن القضايا الظاهرة، وعن الأحاسيس الواضحة، فالمخادعة عمل ظاهر، يخادعون، يقولون، يتصرفون، فالشيء الذي يكون بالأحاسيس، يتلمسه بحواسه، بالكلام، بالحركة يناسبه الشعور الذي فيه معنى الإحساس (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) فاستعمل (لا يشعرون)؛ لأن الإفساد ظاهر. لكن حين تكلم عن القضايا القلبية المعنوية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13) استعمل (لا يعلمون) دعاهم إلى الإيمان والإيمان شيء قلبي لا تعلمه فاستعمل (لا يعلمون) ولم يقل لا يشعرون؛ لأن الإيمان ليس شعوراً ظاهراً، وإنما هو علم باطن.
. آية (14):
* (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ (14) البقرة) ضبط واو الجماعة في لقوا وخلوا؟ ومتى تُفتح الواو وتُضَم؟(د.فاضل السامرائى)
الواو ليست مفتوحة ولا مضمومة، وإنما هي ساكنة في الحالتين ويتعلق هذا بما قبلها، ويتعلق الأمر بطبيعة الفعل، وبما قبل الواو هل هو واو أو ياء أو ألف، فإذا كان الفعل منتهياً بياء أو واو تُحذف، ويضم ما قبل واو الجماعة: (لقي لقُوا، نسي، نسُوا، خشي، خشُوا)، وإذا كان ما قبلها ألفا تحذف، ويفتح ما قبلها (رمى رمَوا، دعا دعَوا، مشى، مشَوا، قضى قضَوا).
*ما الفرق بين (خلا بعضهم إلى بعض(76) و (خلوا إلى شياطينهم(14)فى سورة البقرة؟(د.أحمد الكبيسى)
في قوله تعالى (وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴿76﴾ البقرة) أي الشياطين مع بعضهم، أو الكفار مع بعضهم، أما قوله (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴿14﴾ البقرة) أي خلوا إلى رؤسائهم وإلى قادتهم، الخ.
آية (15):
*(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) البقرة) لِمَ قال يعمهون ولم يقل يعمون؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
العمى فقد البصر وذهاب نور العين، أما العَمَه فهو الخطأ في الرأي، والمنافقون لم يفقدوا أبصارهم، وإنما فقدوا المنطق السليم، فهم في طغيانهم يعمهون.
آية (16):
* ما دلالة قوله تعالى في الآية (اشتروا الضلالة بالهدى)في سورة البقرة؟(د.فاضل السامرائى)
لماذا جاءت الَضلالة بالهدى، ولم تأت الهدى بالضلالة ؟ نقول أن هناك قاعدة تقول أن الباء تكون مع المتروك كما في قوله تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) البقرة).
*ما الفرق بين الفسق والضلالة؟ (د.فاضل السامرائى)
الضلال هو نقيض الهداية (أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى (16) البقرة)، لكن الفرق بين الفسق والضلال أن الضلال قد يكون عن غير قصد، وعن غير علم. والضلال هو عدم تبيّن الأمر، تقول ضلّ الطريق، قال تعالى (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) الكهف) فهم ضلّوا دون معرفة ولا علم (وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ (119) الأنعام)، أما الفسق فهو بعد العلم تحديداً، وحتى يكون فاسقاً ينبغي أن يكون مبلَّغاً حتى يكون فسق عن أمر ربه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) هذا بعد التبليغ (فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ)، تنكّبوا الصراط بعد المعرفة، وأصل الفسق هو الخروج عن الطريق، يقال فسقت الرطبة أي خرجت من قشرتها.
وقوله (ولا الضالين) عامة، لأن الضلال عام، واليهود والنصارى منهم، وليس حصراً عليهم، وقوله (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) النجم) نفى عنه الضلال بعلم أو بغير علم.
*يقول تعالى (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ) لِمَ قال تعالى ذهب الله بنورهم؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
إنه يعني أنه تعالى مضى به واستصحبه، وهذا يدلك أنه لم يبق لهم مطمع في عودة النور الذي افتقدوه، كما تقول عن خبر لا يعرفه إلا شخص واحد وقد مات : ذهب فلان بالخبر، إذ لم يعد لك أمل في معرفته.
*ما سبب استخدام المفرد والجمع في قوله تعالى في سورة البقرة (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ {17})؟(د.فاضل السامرائى)
من الممكن ضرب المثل للجماعة بالمفرد كما في قوله تعالى (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلهامن بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم)
(الذي) تستعمل للفريق، وليس للواحد، فالمقصود بالذي في الآية ليس الشخص، ويقال عادة: الفريق الذي فعل كذا، ولا يقال (الفريق الذين).
يمكن الإخبار عن الفريق بالمفرد والجمع (فريقان يختصمون)
الذي نفسها يمكن أن تستعمل للمفرد والجمع. كما جاء في الشعر العربي
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
آية (17):
*ما دلالة المثل في قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) البقرة) لماذا ذهب بنورهم وليس بنارهم؟ وما الفرق بين ذهب به وأذهب؟(د.حسام النعيمى)
هذه الآية الكريمة من مجموعة آيات تكلمت عن المنافقين، ومعلوم أن المنافقين إنما سُمّوا بهذه التسمية لأن ظاهرهم مع المسلمين وباطنهم في حقيقة الأمر أنهم مع الكفار، حتى قيل أن الكفار خير منهم، لأن الكافر صريح في كفره، لكن المنافق يقول لك إنه مؤمن مسلم، ولكنه يهدم ويخرّب من داخل المجتمع المسلم.
فضرب الله عز وجل لهم هذا المثل، والنار في الصحراء عند العرب مثال معروف على الظهور والانكشاف وهداية الضالّ:
الآية تتحدث عن شخص أوقد هذه النار، ولما أوقدها وتعالى لهيبها أضاءت ما حوله، وامتدت هذه الإضاءة إلى مسافات بعيدة، أي أن هؤلاء عاشوا في هذا الضوء، واستضاؤوا واستناروا به – ويمكن أن يحمل هذا المثل على أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الموقِد لهذه النار الهادية – فلما جاؤوا من حولها، ورأوا هذا النور، وتذوقوا حلاوة الإيمان طمس على قلوبهم، ولم يستفيدوا منه، و نلاحظ (كمثل الذي استوقد ناراً ) هنا مفرد، (فلما أضاءت ما حوله) حوله أناس، فالعربي لا يعيش وحده، فحين يوقد النار تستضيء قبيلته حوله بهذه النار، وكذلك الأغراب البعداء يهتدون بهذه النار. (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) عاشوا في ضوء ولو لحقبة يسيرة، اطلعوا على الإسلام بخلاف الكافر الذي كان يضع إصبعيه في أذنيه، ويقول لا أسمع، (فلما أضاءت) لم يستفد هؤلاء من هذا النور، فذهب الله بنورهم.
والفرق بين النور والضوء أن النور لا يكون فيه حرارة، أما الضوء ففيه حرارة، ويرتبط بالنار، والإنسان يمكن أن تأتيه حرارة الضوء، فالنار المضيئة إذا خفتت وخمدت يبقى الجمرمن مخلفات النار، وهو بصيص يُرى من مسافات بعيدة. فحين يقول تعالى (ذهب الله بنورهم) يعني أن أصغر الأمور التي فيها هداية زالت عنهم. لو قال في غير القرآن: ذهب الله بضوئهم لعنى أن الضوء ذهب، لكن بقيت الجمرات، لكن القرآن يريد أن يبين أن هؤلاء بعد أن أغلقوا قلوبهم (ذهب الله بنورهم فهم لا يبصرون) لا يبصرون شيئاً حتى الجمر الصغير.
*ما الفارق بين أذهب نورهم وذهب بنورهم؟(د.حسام النعيمى )
أذهبت هذا الشيء، أي جعلته يذهب، أذهبته فذهب، فعلت فاستجاب للفعل، فلو قال أذهب الله نورهم، كأنها تعني أمر النور أن يذهب فاستجاب وذهب، لكن هذا الذي ذهب قد يعود. أما قوله (ذهب الله بنورهم) فيعني أن الله تعالى اصطحب نورهم بعيداً عنهم، وما اصطحبه الله عز وجل لا أحد يملك أن يعيده، وهذا نوع من تيئيس الرسول (صلى الله عليه وسلم) من المنافقين، لأن الجهد معهم ضائع، وتلك خصوصية للرسول (صلى الله عليه وسلم) ،فلا يقولن أحد إن هذا الشخص لا نفع من ورائه فلا داعي لوعظه وتذكيره.
*ما الفرق بين(صم بكم عمي) كما جاءت في سورة البقرة و(صم وبكم) في سورة الأنعام؟السامرائى
قال تعالى في سورة البقرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ {18}) وفي سورة الأنعام (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {39}) فما الفرق بين (صم بكم) و(صم وبكم)؟ صم بكم يحتمل أن يكون بعضهم صم وبعضهم بكم، ويحتمل أن يكونوا في مجموعهم صم بكم، أما (صم وبكم) فلا تحتمل إلا معنى واحداً، وهو أنهم جميعاً صم بكم. ولو لاحظنا سياق الآيات في السورتين نجد أنه في سورة الأنعام لم يقل عمي، وإنما قال صم وبكم فقط، أما في البقرة فالكلام عن المنافقين طويل، وذكر فيه أشياء كثيرة كالاستهزاء وغيره. والأعمى أشد من الذي في الظلام، لأن الأعمى سواء كان في الظلمات أو في النور فهو لا يري، والمعروف أن الأصم أبكم، لكن ليس كل أصم لا يتكلم، فهناك أنواع من الصُم يتكلمون، وقد قال بعضهم: أن آية سورة الأنعام في الآخرة :(رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا) فهو أعمى ويتكلم ويسمع.
* ما دلالة الواو في الآية (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ (39) الأنعام، وفي البقرة لم يستخدم الواو (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18))؟(د.فاضل السامرائى)
ما الفرق بين الصم والبكم وبين صم بكم؟ الأصم الذي لا يسمع، والأبكم الذي لا يتكلم، وقد قال في البقرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) وفي الأنعام قال (صُمٌّ وَبُكْمٌ). (صم بكم عمي) هم في جماعة واحدة، (صم وبكم) فيها احتمالان أن يكونوا جماعة أو أكثر من جماعة، قسم صم وقسم بكم. حين أقول: هؤلاء شعراء فقهاء كتاب، الصفات الثلاث في فئة واحدة، أما هؤلاء شعراء وفقهاء وكتاب فيحتمل أن المجموعة فيها ثلاث فئات. وذكر في القرآن من يتكلم ولا يبصر (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) طه) أعمى وليس أبكم.
ويبقى السؤال: لماذا اختار في آية البقرة أن لا يذكر الواو، وذكرها في آية الأنعام؟ لماذا هذه المغايرة؟ آية البقرة أشدّ لأنها في جماعة واحدة ذكر العمى والصمم والبكم (صم بكم عمي)، وقال أيضاً في الظلمات (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) البقرة، آية الأنعام أقلّ لأنه لم يذكر العمى قال (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) فأهل البقرة أشد الموصوفين.
وقد ذكرالله في المنافقين تسع آيات من الآية (8) إلى الآية (20)، ووصفهم بصفات متعددة، فذكر الإفساد ومخادعة الله والذين آمنوا، والاستهزاء، وشراء الضلالة بالهدى، إضافة إلى صفة التكذيب، أما في الأنعام فهي آية واحدة، وصفة واحدة هي التكذيب (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39)). فأيهما الأولى بالذمّ وكثرة الصفات السيئة؟ الذين في سورة البقرة، فهم جماعة واحدة، صم بكم عمي، وهم في الظلمات، فلا يمكن من الناحية البيانية وضع إحداهما مكان الأخرى، فهذا قانون بياني بلاغي.
آية (18):
*ما دلالة تكرار صفة (صم بكم عمي) بنفس الترتيب في القرآن؟ ولماذا اختلاف الخاتمة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) و( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171)فى سورة البقرة ؟(د.حسام النعيمى)
في سورة البقرة قال تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)) نجد أن الآيات نزلت في المنافقين، المنافقون الذين رأوا الإيمان، وسمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كلام الله عز وجل، وكأنه يُفترض أنهم تذوقوا شيئاً من الإيمان، عُرِض عليهم الإيمان، ثم انتكسوا بعد ذلك، يعني تحولوا من الإيمان إلى الضلال، فمَثَلهم كمثل الذي استوقد ناراً، كأنه أُضيء أمامهم هذا الدين لكنهم لم ينتفعوا بذلك، وسمعوه وكأنهم لم يشهدوه (فهم لا يرجعون) لا مجال لهم للرجوع إلى الدين، في الظلمة (في ظلمات لا يبصرون) هذا الهائم على وجهه لا يعرف طريقه، فالتائه أول ما يفقد يفقد بصره، لا يرى، ولو كان يرى لعرف طريقه، حينما يفقد البصر يريد أن يتسمع كأنه لا يسمع فيحاول أن يصرخ لعل أحداً يسمعه، وإذا لم يسمعه أحد يحاول أن يبصر لعل نوراً ينبثق في داخل هذه الظلمة، لكن لا يبصر، فالصورة مختلفة.فهذا الترتيب(صم بكم عمي) فلا يوجد حرف عطف في آيتى سورة البقرة (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) يعني هذه حالهم،أما فى سورة الاسراء(عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) على نية تكرار العامل، يعني نحشرهم عمياً ونحشرهم صماً ونحشرهم بكماً، فيكون فيها نوع من التمييز للتنبيه أو للتركيز.
واستعمل في موضع آخر في سورة البقرة (لا يعقلون)، وسنتحدث عنها لاحقاً.
*ماالفرق بين( لا يرجعون )و( لا يعقلون )؟(د.حسام النعيمى)
تبقى مسألة في الآية التي سأل عنها السائل: في الآيةالأولى قال تعالى (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) بيّنا أنهم لا يرجعون إلى النور الذي فقدوه؛ لأنهم نافقوا وطُبِع على قلوبهم والعياذ بالله، فلا مجال للرجوع، فيناسبه (لا يرجعون). وفي الآية الثانية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171)). في الآية السابقة حين تكلم عن آبائهم قال (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً) فالمناسب أن تختم الآية الثانية (لا يعقلون)، فكما أن آباءهم لا يعقلون هم لا يعقلون.
والمسألة الثانية أن المثال الذي ضُرِب (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171)) يعني أن صورة هؤلاء وهم يُلقى عليهم كلام الله سبحانه وتعالى كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء، مثل مجموعة أغنام ينعق الراعي فيها، يصيح فيها، وهذه الأغنام تسمع أصواتاً، لكنها لا تستطيع أن تعقلها، فكأن هؤلاء وهم يستمعون إلى كلام الله سبحانه وتعالى كالأغنام.
وعندنا آية آخرى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) الأعراف) مثّلهم في كونهم لا يعقلون كلام الله سبحانه وتعالى ولا يستعملون عقولهم في إدراكه بالأغنام والبهائم. وهذه الصورة يناسبها كلمة (لا يعقلون).
*ما الفرق البياني بين قوله تعالى (من مثله) و(مثله)؟
*د.فاضل السامرائى :
تحدّى الله تعالى الكفار والمشركين بالقرآن في أكثر من موضع، فقال تعالى في سورة البقرة (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23))،
وقال في سورة يونس (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)) وفي سورة هود (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)).
*أولاً: ينبغي أن نلحظ الفرق في المعنى بين (من مثله) و(مثله)، ثم كل آية تنطبع بطابع الفرق هذا. فإذا قلنا مثلاً : إن لهذا الشيء أمثالاً فيقال: ائتني بشيء من مثله، فهذا يعني أننا نفترض وجود أمثال لهذا الشيء، أما عندما نقول : ائتني بشيء مثله فهذا لا يفترض وجود أمثال، لكنه محتمل أن يكون لهذا الشيء مثيل، وقد لا يكون، فإن كان موجوداً ائتني به، وإن لم يكن موجوداً فافعل مثله. هذا هو الفرق الرئيس بينهما.
هذا الأمر طبع الآيات كلها، أولاً: قال تعالى في سورة البقرة (وإن كنتم في ريب)، وفي آيتي سورة يونس وهود قال تعالى (افتراه)، وبلا شك (إن كنتم في ريب) هي أعمّ من (افتراه)، لأن مظنة الإفتراء أحد أمور الريب، يقولون ساحر، يقولون يعلمه بشر، يقولون افتراه، فأمور الريب أعم وأهم من الافتراء، والافتراء واحد من أمور الريب.
والأمر الآخر: أننا نلاحظ الهيكلية قبل الدخول في التفصيل (وإن كنتم في ريب) أعمّ من قوله (افتراه) و(من مثله) أعمّ من (مثله) لماذا؟ المفسرون وضعوا احتمالين لقوله تعالى (من مثله) فمنهم من قال: من مثله، أي من مثل القرآن، وآخرون قالوا: إن من مثله، أي من مثل هذا الرسول الأمي الذي ينطق بالحكمة، أي فأتوا بسورة من القرآن من مثل رجل أمي كالرسول (صلى الله عليه وسلم). وعليه فإن (من مثله) أعمّ؛ لأنه تحتمل المعنيين، أما (مثله) فهي لا تحتمل إلا معنى واحداً، وهو مثل القرآن، ولا تحتمل المعنى الثاني. الاحتمال الأول أظهر في القرآن، ولكن اللغة تحتمل المعنيين، وعليه فإن (إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) أعم من (أم يقولون افتراه فأتوا بسورة مثله) لأن إن كنتم في ريب أعمّ من الافتراء، و(من مثله) أعمّ من (مثله).
ثم هناك أمر آخر: وهو أنه حذف مفعولي الفعلين المتعديين (تفعلوا) في قوله تعالى (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا)، والحذف قد يكون للإطلاق في اللغة، كأن نقول: “قد كان منك ما يؤذيني” فهذا خاص و” قد كان منك ما يُؤذي” وهذا عام. وإن كان المعنى في الآية هنا محددا واضحا، لكن الحذف قد يعني الإطلاق عموماً (وسياق التحديد ظاهر جداً، والحذف قد يأتي في مواطن الإطلاق).
*ما الفرق البياني بين قوله تعالى (من مثله) و(مثله)؟
*د.أحمد الكبيسى :
المسألة الثالثة: رب العالمين تكلم عن الذين ينكرون نبوة محمد، وينكرون أن هذا قرآن، فمرة قال (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴿23﴾ البقرة)، وفي مكان آخر (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ﴿38﴾ يونس) بدون (من)، ومن أجل هذا في سورة يونس يقول (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ (38) يونس) على القرآن (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴿38﴾ يونس). في الأولى قال (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) والثانية (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)، في الأولى شك في نبوة محمد، في أنه ليس نبيا، فالخلاف في كونه نبياً أم لا، فكأنه يقول لهم: هاتوا برجل من عندكم، من رجالكم، اقترحوا أي واحد يأتي ويقول كلاما مثل ما يقوله محمد، وهاتوا شهداء على أن فلانا الفلاني الشاعر الأديب قال كلاما مثل كلام محمد بالضبط، ومستحيل أن تجدوا هذا الشيء، فليس هناك رجل يشبه محمدا لا في أخلاقه، ولا في خلقه، ولا في صفاته، ولا في تاريخه، ولا في نصاعة نسبه، من كل قومكم وعشائركم وقبائلكم.
إذاً أين الإشكال؟ (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ) أي من رجل مثل محمد، يقول نفس السورة أو قريبا منها، فالشك هنا والريب كان في شخص النبي صلى الله عليه وسلم.
أما في قوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) فالشك في القرآن، فهؤلاء يقولون أن محمدا نبي، لكن هذا القرآن يمكن أنه قاله من عنده، قال: فأتوا بسورة مثلما قال، فهناك من مثل محمد، وهنا مثل القرآن، هذا هو الفرق بين (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) و (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ)، لهذا قال في البقرة حين طالبهم أن يأتوا بشخص مثل محمد قال: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ) هاتوا شهودا يشهدون بأننا رأينا واحداً مثل محمد، ويقول كلاماً مثل محمد، وفي سورة يونس لما تحداهم أن يقولوا كلاماً كالقرآن قال (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ)، استعينوا بكل من تستطيعون، بكل الشعراء والأدباء والحكماء إذا استطعتم أن تقولوا سورة، مثل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴿1﴾الإخلاص)، نحن نقبل التحدي.
آية (23):
*ما الفرق بين (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) البقرة) و (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) يونس) و(قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)هود )؟(د.حسام النعيمى)
التحدي كان بأكثر من صورة، كان هناك تحدٍ في مكة، وتحدٍ في المدينة. والسور المكية جميعاً جاءت من غير (من) ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) الطور)، الحديث مطلق يمكن أن يكون آية أو عشر آيات أو سورة كاملة، (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) يونس) بسورة مثله، (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) هود) بعشر سور، (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء) حكاية حالهم بأسلوب القرآن الكريم، فكان أحياناً يطالبهم بحديث، أحياناً يقول لهم: فأتوا بقرآن مثله، أحياناً عشر سور، أحياناً سورة مثل الكوثر أو الإخلاص، كان هذا في مكة.
في المدينة (في سورة البقرة) قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) البقرة) كان القرآن قد انتشر، وصار أسلوبه معروفاً، فقال لهم (بسورة من مثله)، و(من) هذه للتبعيض، ولم يقل: بسورة مثله، كما قال سابقاً، لأنه لم يكن له مثل حتى يطالَبهم به ، وإنما ببعض ما يماثله، أو بعض ما تتخيلونه مماثلاً، ولا يوجد ما يماثله، فما معنى ذلك؟ معناه زيادة التوكيد.
حين تأتي (مثل)، مسبوقة بحرف في شيء ليس له مثل، فذلك توكيد، كما قال تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) الشورى) الكاف للتشبيه، ومثل للتشبيه، والمعنى: أنكم لو تخيلتم مثالاً لهذا القرآن فحاولوا أن تأتوا بمثل ذلك المثال ، بجزء من ذلك المثال الذي تخيلتموه، فهذا أبعد في التيئيس، وإمعان في التحدي، وأبعد من قوله (مثله) مباشرة، وقد سبق أن قال تعالى (لا يأتون بمثله) .
*هل يمكن أن نضيف كلمة مفتراة في آية سورة البقرة؟(د.حسام النعيمى)
فنقول مثلاً: فأتوا بسورة من مثله مفتراة؟ كما قال في (مفتريات) في سورة يونس؟
هذا التعبير لا يصح من جهتين: أولاً: هم لم يقولوا: افتراه، كما قالوا في سورة يونس وهود، والأمر الآخر: وهو المهم، أنه لا يحسن أن يأتي بعد “من مثله” بكلمة مفتراة؛ لأنه عندما قال: من مثله – افترض وجود مثيل له، إذاً هو ليس مفترى، ولا يكون مفترى إذا كان له مثيل، ومن هنا تنتفي صفة الافتراء مع افتراض وجود مثل له. والأمر الآخر: لا يصح كذلك أن يقال في سورتي يونس وهود مع الآية (أم يقولون افتراه) “فأتوا بسورة من مثله” بإضافة (من)، وإنما الأصح كما جاء في الآية أن تأتي كما هي باستخدام “مثله” بدون “من” (فأتوا بسورة مثله)، لأن استخدام “من مثله” تفترض أن له مثل، وبالتالي هو ليس بمفترى، ولا يصح بعد قوله تعالى (أم يقولون افتراه) أن يقول (فأتوا بسورة من مثله) لنفس السبب الذي ذكرناه سابقاً. إذاً لا يمكن استبدال إحدهما بالأخرى، أي لا يمكن قول (مثله) في البقرة، كما لا يمكن قول (من مثله) في سورتي يونس وهود.
*ما دلالة قوله تعالى (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، ولماذا لم يقل ادعوا من استطعتم كما في سورة يونس وهود ؟(د.حسام النعيمى)
في آية سورة البقرة عندما قال (من مثله) افترض أن له مثل، إذاً هناك من استطاع أن يأتي بهذا المثل، وليس المهم أن تأتي بمستطيع، لكن المهم أن تأتي بما جاء به، فلماذا تدعو المستطيع إن لم يكن ليأتي بالنصّ؟ لماذا تدعو المستطيع في سورة البقرة ما دام افترض أن له مثل، وإنما صحّ أن يأتي بقوله (وادعوا شهداءكم) ليشهدوا إن كان هذا القول مثل هذا القول، فالموقف إذن يحتاج إلى شاهد محكّم، ليشهد بما جاؤوا به، وليحكم بين القولين. أما في آيتي يونس وهود، فالآية تقتضي أن يقول (وادعوا من استطعتم) ليفتري مثله. فقوله تعالى (وادعوا شهداءكم) أعمّ وأوسع لأنه تعالى طلب أمرين: دعوة الشهداء، ودعوة المستطيع ضمناً، أما في آيتي يونس وهود فالدعوة للمستطيع فقط.
ومما سبق نلاحظ أن آية البقرة بُنيت على العموم أصلاً (لا ريب)، (من مثله)، (ادعوا شهداءكم)، والحذف قد يكون للعموم، ثم إنه بعد هذه الآية في سورة البقرة هدّد تعالى بقوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24))، والذي لا يؤمن قامت عليه الحجة، إذ لم يستعمل عقله، فيكون بمنزلة الحجارة.
*مادلالة قوله تعالى (ولن تفعلوا)؟(د.حسام النعيمى )
قوله تعالى (فإن لم تفعلوا)، هي الشرط، وقوله تعالى (ولن تفعلوا)هي جملة اعتراضية بغرض القطع بعدم الفعل، وهذا يناسب قوله تعالى (لا ريب فيه) .
*ما دلالة استخدام إسم الإشارة للبعيد (ذلك) في مطلع سورة البقرة ؟(د.حسام النعيمى)
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)) في البقرة، بينما في آيات أخرى جاء اسم الإشارة القريب “هذا” كما في قوله تعالى في سورة الإسراء (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9))، ونقول أنه تعالى عندما قال: (ذلك الكتاب لا ريب فيه)، ثم دعا من يستطيع أن يأتي بمثله، وهذا أمر بعيد الحصول، ولذلك استخدم اسم الإشارة للبعيد: ذلك، إشارة إلى أنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إليه أبدا. أما استخدام إسم الاشارة “هذا” فجاء مع الهدى، لأن الهداية ينبغي أن تكون قريبة من الناس حتى يفهموا ويعملوا. بينما في التحدي يستعمل “ذلك”؛ للدلالة على صعوبة الوصول إليه.
ونلاحظ أيضاً أن الآية (23))) جاءت مناسبة لما جاءفي أول السورة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)) ومرتبطة بها حيث نفى الريب عن الكتاب في بداية السورة، ثم جاءت هذه الآية (وإن كنتم في ريب) فكأنما هذه الآية جاءت مباشرة بعد الآية التي في بداية السورة، (ذلك الكتاب لاريب فيه)، (وإن كنتم في ريب).
آية (25):
* في سورة البقرة يقول تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ (25)) وفي الكهف يقول (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ (31)) فما الفرق؟(د.فاضل السامرائى)
فى سورة البقرة (من تحتها) الكلام عن الجنة (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)، وفى سورة الكهف(من تحتهم) يتكلم عن ساكني الجنة المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)، فإذا كان الكلام عن المؤمنين يقول (من تحتهم)، وإذا كان الكلام عن الجنة يقول (من تحتها).
قد يقول بعض المستشرقين: إن في القرآن تعارضا مرة، مرة يقول: تجري من تحتها، ومرة: من تحتهم، لكن نقول إن الأنهار تجري من تحت الجنة، ومن تحت المؤمنين، وليس في الأمر إشكال ولا تعارض، ولكنه مرتبط بالسياق.
*قال تعالى في سورة النساء (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)) وفي سورة البقرة (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25))ذكر الباء في الآية الأولى (بأن) وحذفها في الثانية (أن) مع أن التقدير هو (بأن) لماذا؟(د.فاضل السامرائى)
لأن تبشير المنافقين آكد من تبشير المؤمنين، ففي السورة الأولى أكّد وفصّل في عذاب المنافقين في عشر آيات من قوله (ومن يكفر بالله وملائكته)، أما الآية الثانية فهي الآية الوحيدة التي ذكر فيها كلاماً عن الجزاء وصفات المؤمنين في كل سورة البقرة. إذاً كلمة(بأن) تزيد عن (أن) بحرف، فالباء الزائدة تناسب الزيادة في ذكر المنافقين وجزائهم.
وقال تعالى في سورة الأحزاب (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)) لأنه تعالى فصّل في السورة جزاء المؤمنين وصفاتهم.
* ما دلالة( المطهّرون) و( المتطهرين) ؟(د.فاضل السامرائى)
الذي يبدو والله أعلم أن (المطهّرون) هم الملائكة؛ لأنه لم ترد في القرآن كلمة المطهرين لغير الملائكة، والمُطهّر اسم مفعول، وهي تعني مُطهّر من قِبَل الله تعالى، وبالنسبة للمسلمين يقال لهم متطهرين أو مطّهّرين كما في قوله تعالى (إن اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) البقرة) و(وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)التوبة) ومتطهرين أو مطّهّرين هي بفعل أنفسهم، أي هم يطهرون أنفسهم.
لمّا وصف الله تعالى نساء الجنة وصفهم بقوله تعالى (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25) البقرة)، فلم ترد إذن مطهّرون إلا للملائكة، ولذلك هذا المعنى يقوّي القول بأن المقصود في الآية الكتاب المكنون الذي هوفي اللوح المحفوظ، وليس القرآن الذي بين أيدينا لأكثر من سبب، والله أعلم.
*ما دلالة البناء للمجهول فى قوله تعالى(رُزِقوا)؟(د.فاضل السامرائى)
الله تعالى ينسب النعمة والخير إلى نفسه، ولا ينسب الشر لنفسه (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً {83} الإسراء)، أما في الجنة حيث لا حساب ولا عقاب يقول تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {25} البقرة).
آية (26):
*(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا (26) ما المقصود بـ (فما فوقها)؟ القدامى يفسرون هذه الآية أنها دلالة على قدرة الله تعالى، وفي دراسة علمية حديثة تبين أن فوق البعوضة جرثومة صغيرة لا ترى بالعين المجردة فهل هذا ما كان يُقصد بالآية ؟(د.فاضل السامرائى)
هنالك أشياء تعيش على البعوضة وقد ثبت علمياً هذا، على أية حال، من أبرز ما جاء في التفاسيرأن المراد بذلك أن الله يذكر البعوضة وغيرها، فلا يستحي أن يضرب مثلا بعوضة فما فوقها في الاستدلال على الأشياء التي يريدها، وليس بالضرورة أن تكون (فما فوقها) يعني ما أكبر منها، وإنما ما فوقها في الاستدلال، فهذا يشمل ما هو أصغر من البعوضة، وما هو أعلى من البعوضة كالذباب، إذاً (فما فوقها) يعني في الاستدلال على قوة الله وقدرته وحكمته، فتكون عامة لما ذكر، وأشار إليه الأخ السائل، ولما لم يذكر.
*(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا (26) البقرة) ما معنى فما فوقها؟ هل هو بمعنى دونها؟(د.فاضل السامرائى)
كلمة فوق قد تستعمل للزيادة في الحجم بمعنى أكبر منها، أو الزيادة في الوصف كما تقول هو حقير وفوق الحقير، يعني هذا دون هذا، فوق الحقير تعني دون الحقير. إذاً (فوق) فيها أمران ، في الذم إذا قلنا فوق سيصبح ترقيا إلى أسفل، هو خسيس فوق الخسيس ، وفي المدح سيكون إلى أعلى، هو كريم فوق الكريم. إذن فوقها جمعت أمرين متناقضين تماماً، والله يضرب مثلاً بالعنكبوت (كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ (41) العنكبوت) والذباب (وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا (73) الحج) لا يستحي من ضرب الأمثال، وما فوقها بمعنى ما دونها في الصفات، فما فوقها جمعت أمرين لو قال فما دونها لا تجمع الأمرين. نقول هو لئيم وفوق اللئيم أي أسوأ منه، إذاً فما فوقها في الصفات وفي الكبر والحجم.
استطراد من المقدم: كيف نفهم: فما؟
(فما): بمعنى الذي فوقها، ولا يفهم منها أن ما دونها غير مخصوص بالكلام، فما فوقها تجمع أمرين، وفوق في اللغة تأتي بهذين المعنيين، وهي ظرف.
* ما تفسير قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا (26) البقرة)؟(د.حسام النعيمى)
قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)) يقول علماؤنا أن هذه الآية نزلت بعد أن تكلم بعض يهود، وبعض المشركين على الأمثال التي يضربها القرآن الكريم، وعلى ذِكر بعض مخلوقات الله سبحانه وتعالى: مثل ذكر الذباب فى سورة الحج، بعض يهود قالوا: هذا كلام لا يقوله الله سبحانه وتعالى، وما هذه الأمثلة؟ وهو نوع من المعاندة، إذ إن هذا المثل يضربه القرآن كنوع من التوضيح. وهذه الآيات جاءت بعد ضرب مثلين في القرآن الكريم للمنافقين (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) البقرة)، (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) البقرة): أولاً: المثل مستعمل عند العرب، وفيه حكمة بالغة، أي يؤدي رسالة وكثير من أبيات المتنبي صارت أمثالاً، “مصائب قوم عند قوم فوائد” هي عبارة صغيرة، لكنها تعطي صورة موضحة,
أما كون أن الله سبحانه وتعالى ذكر الذبابة وذكر العنكبوت والبعوضة، فلو فكّر الإنسان وتمعّن في خلق البعوضة، أهي شيء سهل؟ أولاً: المراد بالبعوضة صِغار البقّ؛ لأنها بعض البقّ؛ وسميت بعوضة من البعضية التي هي الجزئية، والقرآن حين يضرب المثل بها كأنه يريد أن يقول: الله سبحانه وتعالى لا يُحجم عن ذكر هذه الأشياء، لأنك لو تفكرت في كل واحدة من هذه المخلوقات لسجدت لله سبحانه وتعالى لعظيم صنعه. البعوضة هي أصغر ما يعرفه العربي، وحتى عندنا الآن ليس معروفا أصغر من البعوضة، الذبابة كبيرة، البقة كبيرة، هذا صغار البقّ صغير جداً، لا يعرف العربي أصغر منه من الأحياء، فحين يقول الباري (إن الله لا يستحي) أي لا يتحرج- ولله المثل الأعلى- أن يضرب مثلاً ما، أيّ مثل مطلق، بعوضة فما فوقها، ونحن لا نعرف في حياتنا الاجتماعية خلقاً لله سبحانه وتعالى أدق من تلك التي تسمى البعوضة (فالبقّة كبيرة يمكن أن ترى، وتنقل الملاريا) البعوضة أصغر من البقّة، وأحياناً تكون بقدر خرطومها لصغرها.
لكن بعض العلماء يقولون: (فما فوقها) المقصود: ما هو دونها، ونحن لا نميل إلى هذا، وإن كانت اللغة تحتمل ذلك، تقول “فلان جاهل” فيقول آخر: “وفوق ذلك” يقصد دون ذلك، نرجح أن (فما فوقها)، أي مما فوقها من البعوضة إلى البقة إلى الذبابة إلى العنكبوت إلى الطير ، كل واحد من هذه المخلوقات لو تفكر فيها الإنسان لسجد لله سبحانه وتعالى لعجيب صنعه تبارك وتعالى، فغير مستغرب أن يضرب الله هذه الأمثال.
هذا معنى ضرب المثل (بعوضة فما فوقها) ولا نُغلِّط الذي يقول فما تحتها، لكن نختار فما فوقها ؛لأن العربي لا يعرف شيئاً دون البعوضة وهذه حالنا نحن.
الحياء – ولله المثل الأعلى – في اللغة حالة في نفس الإنسان تجعله يُحجِم عن شيء، يحجم عن كلامٍ استحياء فلا يتكلم ، أوعن فعل ينوي أن يفعله فلا يفعله، أو يكون قد فعل شيئاً فيوجه إليه اللوم فيصيبه الحياء، هي حالة نفسية لكنها لا تنطبق على الباري سبحانه وتعالى، وإنما يستعمل الله الطريقة التي يتكلم بها العرب فيُفهم من ذلك أن كتاب الله تعالى يرد فيه ذكرٌ لهذه الأمثال من غير إحجام، ومن غير تردد، فإذا ضرب هذا المثل للمؤمن الواعي المدرك يعلم أنه حق لأنه سيتفكر،أما الذين كفروا (فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا)، فيرد عليهم القرآن (يضل به كثيراً)، وهذا المثال يكون سبباً للإضلال وسبباً للهداية، فالمؤمن يتفكر ويهتدي، وغير المؤمن أو الفاسق كما عبّرت الآية (وما يضل به إلا الفاسقين) الخارج من طبعه أو الخارج من فطرته – لأن المخلوق يولد على الفطرة – الفاسق يكون من الضالين.
*(الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ (27) البقرة) تأمل قوله تعالى (الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ) انظر كيف جعل الله تعالى التخلي عن الميثاق والوعد نقضاً. فما سبب اختيار لفظ النقض في هذه الآية؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
إن النقض يدل على فسخ ما وصله المرء وركّبه، فنقض الحبل يعني حلّ ما كنت قد أبرمته، وقطعك الحبل يعني جعله أجزاءً، ونقض الإنسان لعهد ربّه يدلك على عظمة ما أتى به الإنسان من أخذ العهد وتوثيقه، ثم حلّ هذا العهد والتخلي عنه، فهو أبلغ من القطع؛ لأن فيه إفساداً لما عمله الإنسان بنفسه من ذي قبل.
*ما دلالة كلمة (خلفك) وما الفرق بينها وبين (بعدك) ؟(د.فاضل السامرائى)
(بعد) نقيضة قبل، وأظهر استعمال لها في الزمان، أما (خلف) فهي نقيضة قُدّام (وهي في الغالب للمكان) هذا من حيث اللغة، والخلف في اللغة هوالظهر أيضاً.
أحياناً لا يصح وضع إحداهما مكان الأخرى، فلا يمكننا أن نضع (خلف) مكان (بعد)، ففي هذه الآيات لا يمكن أن تحلّ خلف محل بعد (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) البقرة) (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) البقرة) (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) البقرة) (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) البقرة) (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) البقرة) (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (230) البقرة) (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) آل عمران) لأنها كلها متعلقة بالزمان.
أما خلف فهي في الأصل للمكان، (ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) الأعراف) (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) يس) (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) البقرة) (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) النساء) أي يلونهم مباشرة كأنهم واقفون خلفهم.
آية (28):
*(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ (28) البقرة) بدأت الآية بأسلوب استفهام فاستعملت اسم الاستفهام (كيف) الذي يدل على الحال إلا أن الاستفهام قد يخرج عن معناه إلى معان أخرى يدلك عليها الكلام، فما غرض الإستفهام في الآية؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
إن الاستفهام الحقيقي يحتاج إلى جواب، فإذا سألك أحد كيف حالك؟ قلت الحمد لله، وهذا جواب لسؤاله، أما إذا قلت لولدك وهو يضيع وقته أيام الامتحانات: كيف تضيع وقتك على التلفاز؟ فإنك لا تنتظر منه جواباً، وكذلك قوله تعالى(كيف تكفرون)، هواستفهام، ولكنه خرج إلى غرض آخر، وهو التعجب والإنكار.
*ما الفرق بين (ثُمّ) و(ثَمّ) في القرآن الكريم؟(د.فاضل السامرائى)
ثُمّ بضمّ الثاء هي حرف عطف تفيد الترتيب والتراخي، كما في قوله تعالى في سورة البقرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {28}) وسورة الكهف (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً {37}).أما (ثَمّ) بفتح الثاء فهي اسم ظرف بمعنى هناك، كما في قوله تعالى في سورة الشعراء (وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ {64}).
آية (29):
*لِمَ قال تعالى (فسواهنّ) ولم يقل خلقهنّ ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لأن التسوية خلقٌ وبناءٌ وتزيين، أما كلمة خلق فهي تدل على الإيجاد والبناء، ولو تأملت السموات لرأيت بدعة الخلق ودقّته ونظاماً لا يختلُّ ولا يغيب.
والتجدد
آية (29):
*ما تفسير قوله تعالى في سورة البقرة (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29))؟(د.حسام النعيمى)
لعله أشكل على السائل قوله (سواهن).
أولاً: (خلق لكم) هذه اللام كأنها للمِلك، فالله سبحانه وتعالى يخاطب هذا الإنسان حتى يرى كيف أكرمه الله عز وجل، خلق من أجله كل ما في الكون. علماؤنا يقولون أن هناك شيئين في الكون لأجلك، بعضه لتنتفع به مباشرة كالماء والنبات والحيوان، وبعضه للاعتبار (أولم يتفكروا في خلق السموات والأرض) هذا أيضاً لك حتى يحوزك إلى الإيمان، فإذن (خلق لكم) أي لأجلكم للإنتفاع أو للإعتبار.
(ثم استوى إلى السماء) المفسرون يقولون: استوى: أي عمد إلى خلقها، ثم عمد إلى خلق السماء بإرادته سبحانه وتعالى (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب)، ثم عمد إلى خلقها، وهذا نوع من التأويل المقبول، نحن بحاجة إليه الآن؛ لأننا نترجم التفسير القرآني إلى الآخرين.
والسماء لفظها لفظ الواحد- وكل ما علاك فهو سماء- لكن معناها معنى الجمع؛ ولذلك قال: (فسواهن سبع سموات) إشارة إلى تفصيلاتها.
*(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) البقرة): هل من فارق بين نقدس لك ونقدسك؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
الفعل يقدس فعل متعد، يأخذ مفعولاً به دون حرف الجر اللام، فنقول نقدس الله لكن الآية أدخلت اللام على الكاف، فما فائدة هذه اللام؟ فائدتها: التخصيص، أي التقديس لك لا لغيرك، فالملائكة لا تعصي الله ما أمرها، فهي لا تقدس إلا لله، بخلاف البشر الذين قد يقدسون الله، ومع تقديسهم لله قد يقدسون غيره.
آية (30):
*ما دلالة الصيغة الاسمية فى الآية(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً (30) البقرة)؟(د.فاضل السامرائى)
معلوم كما هو مقرر في البلاغة وفي اللغة أن الاسم يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث والتجدد، والإسم أقوى من الفعل، هناك فرق بين أن تقول هو يتعلم، أو هو متعلم، وهو يتثقف أوهو مثقف، هو يتفقه أوهو فقيه، هو يحفظ أو هو حافظ، ومن الثوابت في اللغة والبلاغة أن الاسم يدل على الثبوت في اللغة حتى لو لم يقع، تسأل مثلاً هل سينجح فلان؟ فتقول: هو ناجح، قبل أن يمتحن لأنك واثق أنه ناجح، كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً (30) البقرة) (وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) هود) لم يقل سأغرقهم. هذا في التعبير أقوى دلالة من الفعل، فالاسم إذاً يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث
*(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) البقرة) كيف عرفت الملائكة أن هذا المخلوق سيفسد في الأرض؟(د.فاضل السامرائى )
مما ذكر أنه من المحتمل أنهم اطلعوا على اللوح المحفوط، واللوح المحفوظ كتب فيه كل شيء مما يفعله البشر فرأوا ما يفعله هؤلاء، فقالوا (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) هم اطلعوا، إما بإخبار الله لهم، أو بما اطلعوا عليه في اللوح المحفوظ.
* ما وجه الاختلاف في قصة آدم بين سورتي البقرة والأعراف؟(د.فاضل السامرائى)
قصة آدم (عليه السلام) في سورة البقرة تبدأ من أقدم نقطة في القصة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30}) لم تُذكر هذه النقطة في أي مكان آخر في القرآن وهي أول نقطة نبدأ فيها القصص القرآني:
القصة في سورة البقرة واردة في تكريم آدم (عليه السلام) وما يحمله من العلم والقصة كلها في عباراتها ونسجها تدور حول هذه المسألة فهل كان التكريم لآدم أو لما يحمله من العلم؟.
وقوله تعالى (علّم آدم) ينسحب على ذريته في الخلافة في الأرض، والخلافة تقتضي أمرين: الأول: حق التصرف (خلق لكم ما في الأرض جميعا)، والثاني: القدرة على التصرف، وهل هو قادر على القيام بالمهمة أو لا (أثبت القدرة بالعلم)، وهل الإنسان أكرم من الملائكة؟ والحق أن الإنسان الصالح التقي المؤمن أكرم عند الله تعالى من الملائكة (ولقد كرّمنا بني آدم)، فالله تعالى كرّم الإنسان بالعلم والعقل.
أما في سورة الأعراف فورود قصة آدم ليس من باب التكريم، (قليلاً ما تشكرون) بل هو عتاب من الله تعالى على قلة شكرهم.
إفتتاح كل قصة:
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ {10}) سورة الأعراف، ثم قوله تعالى (قليلاً ما تشكرون) فيه عتاب، وهذا لم يرد في البقرة.
التكريم في البقرة أكبر وأكثر مما هو عليه في الأعراف، (قليلاً ما تذكرون) في الأعراف.
سياق القصة في سورة الأعراف ورد في العقوبات وإهلاك الأمم الظالمة من بني آدم، وفي سياق غضب الله تعالى على الذين ظلموا (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {5}) القائلون في الآية بمعنى النائمين في القيلولة، وفي سياق العتب عليهم (قليلاً ما تذكرون، قليلاً ما تشكرون).
في سورة البقرة جمع تعالى لإبليس ثلاث صفات: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34}) (أبى، استكبر، وكان من الكافرين) وهذه الصفات لم تأت مجتمعة إلا في سورة البقرة لبيان شناعة معصية إبليس، أما في الأعراف فقال (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {11}) فذكر صفة: لم يكن من الساجدين فقط.
في سورة البقرة جاء الخطاب بإسناد القول إلى الله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35}) والملاحظ في القرآن أنه حين ينسب الله تعالى القول إلى ذاته يكون في مقام التكريم، أما في الأعراف فعندما طرد إبليس جمع إبليس وآدم في قول واحد: (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ {18} وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {19}).
زاد في سورة البقرة (رغداً) (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35}) وهو وصف مناسب للتكريم في السورة، لم يرد في سورة الأعراف (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {19}).
كما أن الواو في (وكُلا منها رغداً) في سورة البقرة تدل على مطلق الجمع، وتفيد أن لآدم (عليه السلام) حق الاختيار في كل الأزمنة بمعنى اسكن وكُل غير محددة بزمان. أما في سورة الأعراف فاستخدام الفاء في قوله (فكُلا من حيث شئتما) تدل على التعقيب والترتيب، بمعنى اسكن فكُل، أي أن الأكل يأتي مباشرة بعد السكن مباشرة، فالفاء إذًا هي جزء من زمن الواو، أما الواو فتشمل زمن الفاء وغيرها، والجمع وغير الجمع، فهي أعمّ وأشمل، ومجئيها في سورة البقرة في مجال التكريم أيضاً، فلم يقيّد الله تعالى آدم بزمن للأكل.
ونسأل هل الواو تفيد الترتيب؟ الواو لا تفيد الترتيب بدليل قوله تعالى (وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) فلو كانت الواو تفيد الترتيب، لأقر الكافرون بالحياة بعد الموت، وكذلك في قوله تعالى (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك) لا تفيد الترتيب، والعلماء الذين يستندون إلى أن الواو تفيد الترتيب يعتمدون على آية الوضوء، ونقول لا مانع أن تأتي الواو للترتيب، لكن لا تُحصر للترتيب.
(حيث شئتما) في سورة البقرة تحتمل أن تكون للسكن والأكل ،بمعنى اسكنا حيث شئتما، وكُلا حيث شئتما، وفي هذا تكريم أوسع؛ لأن الله تعالى جعل لهم مجال اختيار السكن والأكل، والتناسب مع الواو التي المطلقة، فأوجبت السعة في الإختيار، أما في الآعراف (من حيث شئتما)، بمعنى من حيث شئتما فهي للأكل فقط وليس للسكن، وبما أن الفاء استخدمت في السورة (فكُلا) اقتضت الحصر للأكل فقط.
(فأزلهما الشيطان) في سورة البقرة ليس بالضرورة الزلة إلى محل أدنى، بل يمكن أن يكون في نفس المكان، وقد سُميت زلة تخفيفاً في مقام التكريم الغالب على السورة، أما في سورة الأعراف (فدلاهما بغرور) والتدلية لا تكون إلا من أعلى لأسفل، إذًا في مقام التكليف سماها (زلة)، وفي مقام العقوبة سماها (فدلاّهما) فخفف المعصية في البقرة، ولم يفعل ذلك في الأعراف.
في البقرة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37})، لم يذكر معاتبة الله تعالى لآدم وتوبيخه له، وهذا يتناسب مع مقام التكريم في السورة حتى إنه لم يذكر في السورة اعتراف آدم، ولم يقل أنهما تابا أو ظلما أنفسهما، فطوى تعالى تصريح آدم بالمعصية، وهذا أيضاً مناسب لجو التكريم في السورة.
أما في سورة الأعراف فقد قال تعالى (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ {22}) في مجال التوبيخ والحساب، ثم جاء اعتراف آدم (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23})، وفي الأعراف تناسب بين البداية والاختيار، عتاب على قلة الشكر، وعتاب على عدم السجود. الندم الذي ذكره آدم مناسب لندم ذريته على معاصيهم، وهذا مناسب لسياق الآيات في سورة الأعراف.
اتفق ندم الأبوين والذرية على الظلم (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23}). (إنا كنا ظالمين) بالصيغة الإسمية الدالة على الثبوت والإصرار، وجاءت (ظلمنا) بالصيغة الفعلية، أي أن التوبة فعلية وصادقة، وليس فيها إصرار؛ لذا جاءت العقوبة مختلفة، فتاب سبحانه على الأولين، وأهلك الآخرين.
ذكر في البقرة أن الله تعالى تاب على آدم، ولم يذكر أن آدم طلب المغفرة، لكن وردت التوبة والمغفرة عليه، وهذا مناسب لجو التكريم في السورة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37})، ولم تذكر في الأعراف، بل ذكر أن آدم طلب المغفرة، لكنه لم يذكر أن الله تعالى تاب عليه (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23}).
في سورة الأعراف (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {11})، وفي الآية الأخيرة من السورة (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ {206}) نفى تعالى عن الملائكة التكبر، وأكدّ سجودهم، ولكن بالنسبة لإبليس في السورة نفسها نفى عنه السجود (إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ)، وأكدّ له التكبر (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ {13}).
في سورة الأعراف (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17})، وفي مقدمة القصة قال تعالى (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ {10}) فصدّق عليهم إبليس ظنّه.
في سورة الأعراف (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ {20})، اختار تعالى للتقوى كلمة اللباس الذي يواري السوآت الباطنة (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {26})، واختيار الريش مناسب للباس الذي يواري السوآت الخارجية. وفي هذه الآيات تحذير من الله تعالى لذرية آدم ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {26}).
والالتهاء بالمال هو الانشغال بالوقت والقلب؛ لذا جاءت فيما بعد (وأنفقوا مما رزقناكم) و(مما ): تفيد البعض وليس الكل، فالانفاق يكون بشيء مما رزقنا الله تعالى، حتى تستسهل النفوس الإنفاق؛ لأن الرزق لو كان من عند الناس لبخلوا به (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً {100} الإسراء) . وكلمة (رزقناكم) تعني أن الله تعالى هو الرزاق، (فأنفقوا مما رزقكم الله) وليس الرزق من أنفسكم أيها الناس، فالله تعالى ينسب النعمة والخير إلى نفسه، ولا ينسب الشر لنفسه (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً {83} الإسراء). أما في الجنة حيث لا حساب ولا عقاب فيقول تعالى (وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {25} البقرة
*من أين علمت الملائكة أنه سيكون هناك إفساد في الأرض (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؟(د.حسام النعيمى)
أولاً كلمة خليفة فيها كلام من علمائنا :
القول الأول: وعليه أغلب المفسرين أنه خليفة الله عز وجل في الأرض، أي أن الله سبحانه وتعالى أوكل إليه أن يعمر الأرض، هو يتولى إعمارها، فيبني هذه البيوت وهذه العمارات، ويشق الأنهار، وهذه أفعال لا يفعلها من مخلوقات الله أحد، لا الجن يفعلها، ولا الطيور ولا الدواب، ولا الملائكة، إلا إذا كلفهم الله عز وجل أن يفعلوا شيئا فيفعلونه، أما هذا المخلوق، هذا الإنسان، فقد زُود بوسائل، بحيث يستطيع أن يقوم بالأعمال التي هيأه الله عز وجل لها، فيكون خليفة الله عز وجل في أرضه، فيعمر الأرض، وليس هناك من مخلوقات الله سبحانه وتعالى من يصنع، والتصنيع في اللغة هو الخلق، فهذه الأرض موجود فيها الأشياء، وليس هناك في خلق الله سبحانه وتعالى من يجمع هذه الأشياء، ويجعل منها حاسوبا مثلا إلا هذا الإنسان، فهو مُصنِّع في الأرض، وهذه لا تكون بكلمة كُن فيكون الإلهية، وهو ما يميل إليه الدكتور فاضل السامرائى أيضاً.
القول الثاني : يقول: ممكن أن يكون هناك خلق قبلنا، فهذا المخلوق الجديد آدم هو خلفٌ لذلك الخلق الذي قبلنا.
القول الثالث : أنه خليفة أي يخلف بعضهم بعضاً، فيتوالد ويتكاثر، هذه الآراء جميعاً هي لكبار علمائنا لا نجادل فيها، لأنه أمر غيبي، انتهى خلق الإنسان، والإنسان الآن يعمل، والجدل فيه لا يثمر.
قول رابع: قسم من العلماء يقولون: المراد الأنبياء وبقية البشر تبعٌ لهم، لأن الأنبياء يبلّغون شرع الله ويبلّغون رسالاته، فهم بهذا المعنى خلفاء، لأنهم ينقلون شرع الله عز وجل، وهذا المعنى تحتمله اللغة، ولا مساس فيه بالاعتقاد، خليفة يخلف بعضهم بعضاً، لكن سياق الآية لا يُسعف في هذا، لأن الكلام عن آدم، قال إني جاعل في الأرض خليفة، فتتساءل الملائكة: ما هذا الخليفة؟ ما شأنه؟ ولم يعترضوا على الله سبحانه وتعالى، إنما للاستفسار فقط والكشف، يريدون كشفاً.
من أين علمت الملائكة أن هذا المخلوق الجديد سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟
لعلمائنا أكثر من قول في علم الملائكة بطبيعة هذا المخلوق، وكلها محترمة، وأولها:- وهو الذي يميل إليه عدد من العلماء، وأكاد أجد اطمئناناً إليه، ولا أنفي الباقي، وهو- أن الحوار في القرآن مختصر، كأن الله عز وجل حين قال (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) سألت الملائكة ما شأن هذا الخليفة؟ فقال الله عز وجل: إن هذا مخلوق له ذرية، من هذه الذرية من سيسبحني ويعبدني ويقدسني، ومنهم من سوف يفسد، ويسفك الدماء، ومن هنا نفهم لماذا ذكروا تسبيحهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، فإذا كان هناك من سيسبح ويقدس من هذه الذرية، نحن نسبح ونقدس، والقسم الآخر مفسد يسفك الدماء، فما الداعي لإيجاده؟ إذا كان هناك صنفان: من يفسد فيها ويسفك الدماء، ومن يقدس لك ويسبح ، ونحن – أي الملائكة – نقدس ونسبح، فألغِ هذا الثاني، مجرد سؤال أو مقترح، ونلاحظ: سؤال المؤدب، سؤال الملك (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، فهذا الصنف سيفسد، والصنف الآخر من المسبحين، نحن نعوضه (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
هذا الرأي الأول وقد مال إليه عدد من كبار علمائنا من المفسرين.
الرأي الثاني: يقول: لعل لديهم تجربة سابقة من خلق إنسان سابق، أو مخلوق سابق أفسد وسفك دماءً، فقالوا: هذا سيفعل كما فعل الذي قبله، وخلقُ إنسانٍ سابق فيه نظر، إذ ليس لدينا دليل ، لكن الذي يطمئن إليه القلب حقيقة هو هذا الحوار الذي حدث، حتى إن بعض العلماء يسأل ويقول: ما الداعي إلى أن يحاورهم الله سبحانه وتعالى ؟ ويجيب: إن الله سبحانه وتعالى يذكر لنا ذلك في القرآن حتى يعلمنا المشورة والمشاورة، فلا ينفرد الحاكم برأيه، فرب العزة يشاور الملائكة ويحدثهم، ويذكر لنا هذا الأمر، أنه عرض على الملائكة، وقال لهم سيكون كذا، فقالوا له: يا رب، ما شأنه؟ قال: أن قسما منه يسفك الدماء ويفسد، وقسما منه سيسبحني ويقدسني، وهذا واقع الحال، فالبشر الآن منهم من يفسد فيها ويسفك الدماء، ومنهم من يسبح الله عز وجل ويعبده.
وحين عرض الباري عز وجل على الملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) عرض عليهم؛ لأنهم مشتغلون في الأرض، مهمتهم في الأرض، ولا يعقل أنه عرض على كل ملائكة السماء والكون، وإنما على فئة لها شغل بهذا المخلوق الجديد وبمكانه، فإبليس كان من ضمن هؤلاء، ولم يكن ملكاً، لكنه كان من ضمن الذين لهم شغل بذلك؛ لذلك كُلّف مباشرة (ما منعك أن تسجد إذ أمرتك) أُمِر مباشرة بالسجود.
آية (31):
* ما دلالة استعمال اسم الإشارة هؤلاء في قوله تعالى (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)) واستعماله للعاقل أو لغير العاقل؟ ولماذا جاءت عرضهم للأسماء بدل عرضها في قوله تعالى في سورة البقرة؟(د.حسام النعيمى)
هؤلاء أصلها أولاء، ثم تدخل الهاء للتنبيه، أو أحياناً تدخل الكاف فتصبح أولئك. والإشارة أولاء في الأصل للعقلاء، لكن إذا اجتمع العقلاء وغيرهم يغلّب العقلاء فيُشار إلى المجموع بكلمة هؤلاء أو أولئك بحسب القرب والبعد، هؤلاء للقريب، وأولئك للبعيد.
الأسماء التي عرضت على الملائكة حين يقول (ثم عرضهم) هو عرض هذه المخلوقات، لأن الله تعالى أودع في هذا المخلوق الذي هو الإنسان (آدم) ما يمكن أن يعبِّر ويرمز به إلى الأشياء بالأصوات، فلما عرض هذه الأشياء من العقلاء وغيرهم على آدم (حيوانات، مخلوقات، بشر من أبنائه) كان آدم وحده، لكن الله تعالى كشف له ما سيكون له في الدنيا (الأسماء كلها).
بعض علمائنا – وهذا الذي نميل إليه- يقول: التعليم هنا ليس بمعنى التلقين، وإنما بمعنى الإقدار أي أقدره على أن سمّاها، أي جعل فيه القدرة على أن يرمز لهذه الأشياء، وهذا كلام قديم وليس جديداً.
عندما يتحدث البعض عن اللغة هل هي إلهام أو اصطلاح من الناس، نقول: الآية لا تتناول موضع الخلاف (وعلّم آدم الأسماء كلها) يمكن أن يكون معناها أقدر آدم على وضع هذه الأسماء، جعل لديه القدرة على أن يكتشف ويخترع، ويضع هذه الأصوات لهذه المسميات من العقلاء وغير العقلاء، ولذلك قال عرضهم بالجمع؛ لأن فيهم عقلاء وغير عقلاء. كيف عرضهم؟ هذا شيء في الغيب، ونحن نؤمن بالغيب، هؤلاء تشمل العقلاء وغير العقلاء، عرضهم بأسمائهم، (فلما أنبأهم بأسمائهم) لم يقل بأسمائها؛ لأن فيها خليطا من العقلاء وغير العقلاء.
*ما دلالة استخدام (أنبئونى) فى الآية و ليس (نبئونى) ؟(د.حسام النعيمى)
هذه الظاهرة استعمال نبّأ وأنبأ مضطردة في القرآن الكريم، بحيث أننا إذا أتينا إلى أفعل كما في قوله (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)) فعلى حين أن نبّأ وردت في ستة وأربعين موضعاً في القرآن، لم ترد (أنبأ) سوى في أريعة مواضع في القرآن كله، وسنجد أنها جميعاً فيها اختصار زمن، فيها وقت قصير، وليس فيها وقت طويل.. لاحظ (وعلّم آدم الأسماء كلها) بمفهوم البشر التعليم يحتاج إلى وقت، ولذا قال علّم ولم يقل أعلم، الأسماء كلها أي: هذا الشيء اسمه كذا ، ورب العالمين يمكن أن يقول كن فيكون، لكن أرادت الآية أن تبيّن أنه لقّنه هذه الأشياء في وقت، كما أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكان بإستطاعته أن يقول كن فيكون. (فَقَالَ أَنْبِئُونِي) لأن السؤال: هذا ما اسمه؟ فلان أو كذا، وهذا لا يحتاج إلى شرح وتطويل، لم يقل (نبّئوني) قال(أنبئوني)، لكن في مكان آخر قال: (نبئوني بعلم إن كنتم صادقين)، قالوا (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)) أيضاً ما تعلّموه في وقت. (قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) آدم قال: هذا كذا ، وهذاكذا، وهذاكذا، والإنباء بكل إسم على حدة لا يأخذ وقتا،ً ولهذا قال (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم) (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) واحداً واحداً لا يحتاج إلى وقت.
آية (32):
* أحياناً تختم الآيات ب(عليمٌ حكيمٌ) وفى آيات أخرى (حكيمٌ عليمٌ) فما الفرق بينهما؟(د.فاضل السامرائى)
إذا كان السياق في العلم وما يقتضي العلم يقدم العلم، وإلا تقدم الحكمة، إذا كان الأمر في التشريع أو في الجزاء تقدم الحكمة، وإذا كان في العلم يقدم العلم، وحتى تتضح المسألة (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) البقرة) السياق في العلم فقدّم العلم، (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) النساء) هذا معناه أن هذا علم، (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) يوسف) فيها علم، فقدم عليم. وقال في المنافقين (وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) الأنفال) ، (لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) التوبة) هذه أمور قلبية، ومن الذي يطلع على القلوب؟ الله، فقدم العليم.
نأتي للجزاء، الجزاء حكمة وحكم يعني: من الذي يجازي ويعاقب؟ هو الحاكم، تقدير الجزاء حكمة (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128) الأنعام) هذا جزاء، وهذا حاكم يُحكم تقدير الجزاء ، وليس بالضرورة أن يكون العالم حاكماً، فليس كل عالم حاكم. (وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139) الأنعام) هذا تشريع والتشريع حاكم، فمن الذي يشرع ويجازي؟ الله تعالى هو الذي يجازي وهو الذي يشرع (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) الزخرف)
إذًا حين يكون السياق في العلم يقدّم العلم، وحين لا يكون السياق في العلم تقدّم الحكمة.
آية (33):
* ما دلالة كنتم في الآية (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) البقرة)؟(د.حسام النعيمى)
الآية موضع السؤال (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)) جاءت بعد الآية (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)) لمَ لمْ يقل في غير القرآن: يعلم ما تبدون وما تكتمون؟
هذا الذي جرى في الملأ الأعلى يليق بذلك الموضع، لا ندري على وجه التحديد ما المراد بتلك العبارات التي قيلت؟ وما المراد بهذه الأسماء التي سُئل عنها؟ لأن الإشارة كانت بصيغة العقلاء، فما الذي عُرِض أمام الملائكة؟ ما الذي سئل عنه الملائكة؟ ليس عندنا خبر صحيح عنه، هو وقع، هناك اختبار كان للملائكة، وفي الوقت نفسه كان اختباراً لآدم. لما طلب من الملائكة (فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)) أعلنوا عجزهم وقالوا (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)) ليس عندنا علم إلا الذي علمتنا إياه، عند ذلك قال تعالى (قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ) هذا الإنباء الذي بُنيَ على التعليم (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا) التعليم هنا قد يراد به التلقين، أي أن آدم (عليه السلام) لُقِّن، حُفِّظ، وهو لديه في دماغه خلايا متخصصة للغة، فاستقبلت هذا الذي حٌفِّظ إياه، واستطاع أن يسترجعها عندما احتاج إليها، فبدأ آدم يتكلم، ويخبر بهذه الأسماء، إذًا آدم نجح في الاختبار الذي لم ينجح فيه الملائكة، لأن الملائكة غير مهيئين للخلافة في الأرض، وأهم ركيزة من ركائز الخلافة في الأرض اللغة. والملائكة عندما قالوا (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) هذا القول كان فيه شيء من الإحساس بأنهم هم أفضل من هذا المخلوق، لم يصرحوا به، كأنما أحسوا أنهم أميز من هذا المخلوق، ولما أُمروا بالسجود سجدوا طاعة لله، لكن لأنهم غير مفسدين ومسبحين لله عز وجل، وهذا المخلوق سيكون من ذريته من يفسد ربما داخل في نفس بعضهم أننا أميز منه وأفضل منه، وهذا الذي أشير إليه في (وما كنتم تكتمون) في نفوسكم، شيء مكتوم في صدوركم، لم تصرحوا به، أي بما كانوا يعتقدون أنهم كتموه عن رب العزة.
وحين ننظر في الآية نجد حذفاً في قول الله عز وجل (ألم أقل لكم إني أعلم) لأن الكلام على شمول علم الله سبحانه وتعالى، العلم الشامل لكل الجزئيات، ولكل دقائق الأمور، ألا نقول إن الله سبحانه وتعالى (يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كان كيف كان يكون) هذه كلمة قديمة لعلمائنا، لبيان عظيم علم الله سبحانه وتعالى وشموله وسعته،. هنا الكلام عن شمول العلم؛ لذا قال علماؤنا فيه حذف. حين يقول (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) الذي يعلم الغيب يعلم الشهادة من باب أولى، إذًا هناك حذف (أعلم غيب السموات والأرض وأعلم شهادتهما)، وأعلم ما تبدون الآن، وفي المستقبل، ويقابل ما تبدون وما تكتمون الآن وفي المستقبل، فهي ثلاث صور: أعلم غيب السموات والأرض، والحذف (وأعلم شهادتهما)، والثانية أعلم ما تبدون الآن وفي المستقبل، وما تكتمون الآن وما تكتمون في المستقبل، والثالثة وما كنتم تكتمون وما كنتم تبدون في الماضي.
ما تبدون الآن وفي المستقبل، وما تكتمون الآن وفي المستقبل أعلمه، وما كنتم تكتمون في الماضي وما كنتم تبدون أعلمه، غيب السموات والأرض وشهادتهما أعلمه، فهو علم محيط، لكن حذف من كل جملة فِعلاً: أعلم غيب السموات والأرض، وأعلم شهادتهما هذه مفهومة من السياق، وأعلم ما تبدون، وأعلم ما تخفون أو تكتمون الآن وفي المستقبل، وأعلم ما كنتم تكتمون وما كنتم تبدون كله في علم الله سبحانه وتعالى.
ولذلك جاءت (كنتم تكتمون) حتى تأخذ الحيز الثالث من الكتمان وما يبدو، (كنتم) تبدون في الحاضر وما كنتم تكتمون في الماضي، فالحاضر يكون للآنوللمستقبل في صيغة الإبداء، ومعه الكتمان المحذوف، يعني (ما تبدون وما تكتمون)، والكتمان جعله للماضي (وما كنتم تكتمون) ومعه (وما كنتم تبدون) فاجتمع ما تبدون الآن وفي المستقبل، وما تكتمون الآن وفي المستقبل، وما كنتم تكتمون في الماضي، وما كنتم تبدون في الماضي، وقبل ذلك غيب السموات والأرض، وشهادة السموات والأرض.
إذًا مجيء (كنتم) أشار وأشعر بهذا الحذف الموجود في المكانين حتى تستكمل صورة معرفة علم الله سبحانه وتعالى. وهو الذي أرشد إلى هذا الفهم العام الشامل الذي فهمه علماؤنا وهم يعتقدون أن العربي فهمه أيضاً، وهذا التفصيل مراد؛ لأنهم أبدوا شيئاً وكتموا شيئاً.
الكلام عن غيب السموات والأرض كلام عام، لكن الملائكة بخصوصيتهم أبدوا شيئاً (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء) هذا أبدوه، وبعضهم – كما قال علماؤنا – كتم شيئاً في نفسه لم يصرّح به هو أن هذا المخلوق الذي سيفسد نحن أكرم منه، لأننا لا نفسد، والآيات لم تفصح، لكن ما معنى (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) في مقابل (أتجعل فيها من يفسد فيها)؟ الملائكة لا ينكرون ولا يعترضون؛ لأنه معلوم من صفتهم عدم الإعتراض فهو شيء حاك في نفوسهم، وأظهره بعضهم في العبارة، فلا بد من الجمع بين الآيات، والفهم في ضوء نسق الآيات، ونحن لا نتألّى على الله وعلى العبارة القرآنية لكن هذا الذي يُفهم، الملائكة قالوا كلاماً، هذا الكلام لا يمكن أن يدخل في إطار الإعتراض على موقف أو حكم الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ليست لديهم القدرة على المحاجة والمناقشة، هذه قدرة الإنسان، خلقه الله تعالى على هذا، أما هم فلا يناقشون ولا يحاجون، فحين ننظر في العبارة نفهم ما ذكره علماؤنا.
آية (34):
*هل كان إبليس مأموراً بالسجود لآدم؟(د.فاضل السامرائى)
نعم، أَمرَ الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم أمراً عامّاً (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} البقرة) وأمر إبليس بالسجود أمراً خاصاً (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ {12} الأعراف).
* لماذا جاء ذكر إبليس مع الملائكة عندما امرهم الله تعالى بالسجود لآدم مع العلم بأن إبليس ليس من جنس الملائكة؟(د.فاضل السامرائى)
الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم في آية سورة البقرة: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34})، وأمر ابليس على وجه الخصوص في آية سورة الأعراف (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ {12})، فليس بالضرورة أن يكون الله تعالى أمر ابليس بالسجود مع الملائكة، لكنه تعالى أمر الملائكة بالسجود كما في آية سورة البقرة، وأمر ابليس وحده بالسجود لآدم أمراًخاصاً به في آية أخرى (آية سورة الأعراف).
*لماذا استخدمت كلمة إبليس مع آدم ولم تستخدم كلمة الشيطان؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34}) وفي سورة الأعراف (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {11}) ابليس هو أبو الشياطين، كما إن آدم أبو البشر، وبداية الصراع كان بين أبي البشر وأبي الشياطين. والشيطان يُطلق على كل من كان كافراً من الجن، أي على الفرد الكافر من الجنّ
*ما الفرق بين اسجدوا – قعوا له ساجدين – خرّوا سجداً؟(د.أحمد الكبيسى)
رب العالمين يقول (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿34﴾ البقرة) في آية ص قال (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ﴿71﴾ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿72﴾ ص) وفي مريم قال (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ۩﴿58﴾ مريم) فما الفرق بين سجدوا، وبين قعوا له ساجدين، وبين خروا سجداً؟
كلمة (سجدوا) تدل على السجود الاعتيادي، كالسجود الذي نفعله في الصلاة، وفي يوم الجمعة من السنن أن نقرأ سورة السجدة، ويأتي الإمام إلى قوله تعالى (خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴿15﴾السجدة) خروا، لماذا؟ ونحن واقفون ننزل رأساً إلى تحت، والخرّ هو الهبوط مع صوت، مأخوذة من خرير الماء، وهنالك فرق بين جريان الماء بلا صوت، وبين الخرير من شلال نازل (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)، أما البكاء فشخص قرأ آية مؤثرة، فبدأ بالبكاء ثم وهو يبكي نزل على الأرض بقوة لكي يسجد.
مرة قال (خَرُّوا سُجَّدًا)، ومرة قال (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)، وفي آية أخرى قال (خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا) من التسبيح سبحان الله وبحمده، ورب العالمين يحمل عرشه ثمانية، أما الذين حول العرش فلا يحصى عددهم! (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴿17﴾ الحاقة)، الذين يحملون العرش ومن حوله (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿75﴾ الزمر)، وهذه من أعظم بشائر المسلمين (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ﴿7﴾ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿8﴾ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿9﴾ غافر)، وهذا دعاء مستجاب؛ لأن أكرم وأعظم وأقرب الملائكة إلى الله هم الذين يحملون العرش ومن حوله: الحافّين. والحافون كما يقول الإمام الرازي – ونقل هذا عن صاحب الكشاف، وأثنى عليه فقال: إن لم يكن لصاحب الكشاف إلا هذه اللطيفة لكفته – : الذين يحملون العرش ومن حوله كل واحد منهم له طريقة عبادة، بعضهم واقف عن اليمين وعن اليسار، وبعضهم يسبح فقط، وبعضهم راكع فقط، مئات الآلاف من الخطوط حول العرش .
تصور، لو أردنا أن نضع رجالا حول دولة الإمارت على جميع الحدود، كم نحتاج؟ ملايين.
هؤلاء كلهم أقرب الملائكة إلى الله (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) رب العالمين في هذه القضايا يخاطب أقرب وأحب الملائكة إليه، فلما خلق آدم قال لهؤلاء أو لجزء منهم (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) أنت ألست تعبدني؟ وأنت تسبح؟ اتركوا عملكم وقعوا له ساجدين. إذاً رب العالمين يخاطب هؤلاء الملائكة المشغولين، فالذي يقع هو الذي كان مشغولاً بشيء ثم انتبه. يعني كواحد يشتغل أو يكتب فسمع ابنه وقع، فركض عليه وترك الشغل الذي بيده لأهمية الحدث الآخر، فرب العالمين قال (فَقَعُوا) بالفاء (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) من روحي، لا يستحق أن تسجدوا له لأنه طين أو لأني سويته، ولكن لأني نفخت فيه من روحي (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، ، قسمٌ منهم هو لم يخاطب كل الملائكة، ولكن مجموعة منهم أنتم عندما أنفخ فيه من روحي، فقعوا، اتركوا الذي في أيديكم (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، وهذا الفرق بين (فقعوا له)، وبين (اسجدوا)، وبين (خروا).
*(وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) البقرة): نهي آدم وزوجه عن الاقتراب من الشجرة فأكلا منها ووقعا في النهي. فلِمَ قال تعالى (ولا تقربا) ولم يقل ولا تأكلا؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
نهى الله تعالى آدم عن القرب من الشجرة حتى لا تضعف نفسه عند مشاهدة ثمارها، فتتوق نفسه للأكل منها، ولو نهي عن الأكل، لاقترب منها، وعندها سيقاوم نفسه التي تريد تناول ثمارها، فإما أن يأكل منها وإما أن لا يأكل، أما إذا ابتعد عنها، فلن تتوق نفسه إلى ثمار لم يرها.
*خاطب تعالى آدم لوحده ومرة خاطب آدم وحواء، فهل كان الخطاب مرة واحدة بصيغ متعددة ؟وكيف نفهم الصيغ المتعددة في الخطاب؟(د.فاضل السامرائى)
من الذي قال إن الخطاب كان مرة واحدة؟. ربنا قال في القرآن (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (35) البقرة) (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) طه) هذا الخطاب غير ذاك الخطاب. (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا (123) طه) (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً (38) البقرة) من أدراك أن الخطاب كان واحداً؟ حين قال (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا (19) الأعراف) غير (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ (22) الأعراف)، هذا وقت متغير.
*ما اللمسة البيانية في استخدام كلمة (زوجك) بدل زوجتك في قوله تعالى (اسكن أنت وزوجك الجنة)؟(د.فاضل السامرائى)
الأصل لغوياً هو كلمة زوج، وفي اللغة الضعيفة تستعمل زوجة، ففي اللغة يقال: المرأة زوج الرجل، والرجل زوج المرأة، أما استخدام كلمة زوجة فهي لغة ضعيفة رديئة، فالأولى والأصح أن تستخدم كلمة زوج، ولذا استخدمها القرآن الكريم في الآية.
*ما الفرق بين الزوج والبعل ؟(د.فاضل السامرائى)
البعل هو الذكر من الزوجين ويقال زوج للأنثى والذكر. في اللغة البعل من الاستعلاء، يعني السيد القائم المالك الرئيس هو البعل وهي عامة، بعلُ المرأة سيّدها، وسُميّ كل مستعل على غيره بعلاً (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) الصافات) لأنهم يعتبرونه سيدهم المستعلي عليهم، الأرض المستعلية التي هي أعلى من غيرها تسمى بعلاً، والبعولة هو العلو والاستعلاء، ومنها أُخِذ البعل زوج المرأة؛ لأنه سيدها، يصرف عليها، ويقوم عليها. أما الزوج فهي للمواكبة؛ ولذلك تطلق على الرجل والمرأة، هي زوجه وهو زوجها (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (35) البقرة)، الزوج يأتي من المماثلة، سواء كانت للنساء أوغير النساء (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) الصافات) أي أمثالهم ونظراءهم، (وآخر من شكله أزواج) أي ما يماثله.
البعل لا يقال للمرأة وإنما يقال لها زوج (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ (31) النور) يُنظر به الشخص، ولا ينظر به المماثلة؛ ولذلك هم يقولون أنه لا يقال في القرآن زوجه إلا إذا كانت مماثلة له، قال (اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ (11) التحريم) ولم يقل زوج فرعون؛ لأنها ليست مماثلة له، امرأة لوط وامرأة نوح لأنها مخالفة له، هو مسلم وهي كافرة، لم يقل زوج، وإنما ذكر الجنس (امرأة)، لو قال زوج يكون فيها مماثلة، حتى في سيدنا إبراهيم (عليه السلام) حين كانت المسألة تتعلق بالإنجاب قال (وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ (71) هود)، فهذا يراد به الجنس، وليس المماثلة، الزوج للمماثلة، والمرأة للجنس(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ (6) الأحزاب) فيهن مماثلة؛ لأنهن على طريقه، وهنّ جميعاً مؤمنات، وأزواجه في الدنيا أزواجه في الآخرة.
آية (35):
*د.أحمد الكبيسى:
رب العالمين تعالى سبحانه وتعالى بعد أن تكلم مع آدم فقال (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ﴿35﴾ البقرة) علّمنا أن الاقتراب من الشهوة يوقعك فيها، حين تدخل الجنة – والجنة جنة أرضية، هي ليست بالسموات، بل هي بستان بين نينوى والموصل – إياك أن تقترب من أي شهوة، لأنك إذا اقتربت منها، فلا بد أن تقع فيها، فالعبرة الأساسية من هذه الشجرة: إياك أن تقترب من الشهوة إياك (من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) حتى إن كنت من الصالحين.
* ما سبب تقديم وتأخير كلمة رغدا في آيتى سورة البقرة (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35)) (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58))؟(د.حسام النعيمى)
العيش الرغد، أو الأكل الرغد: هو الهنيء الذي لا جهد معه.
الآية الأولى: الكلام مع آدم (عليه السلام) للترخيص بسكن الجنة أولاً (اسكن أنت وزوجك الجنة)، ثم بالأكل من الجنة (وكلا منها رغداً)، ثم بمطلق المكان (حيث شئتما)، المكان مطلق غير مقيّد ثم قيّده بشجرة (ولا تقربا هذه الشجرة) هذا التقييد بعد الإطلاق هو نوع من الإستثناء كأنه قال: كلوا من كل هذه الأماكن إلا من هذا المكان. فلما كان الكلام استثناء من مكان ربط بين المستثنى والمستثنى منه، المستثنى منه (حيث شئتما) والمستثنى (قربان الشجرة) فلا بد من اتصالهما، ولو قيل في غير القرآن: كلا منها حيث شئتما رغداً ولا تقربا ستكون كلمة (رغداً) فاصلة بين المستثنى منه والمستثنى، وهذا خلل في اللغة إذ لا يجوز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه أو على الأقل فيه ضعف، إن لم نقل خطأ؛ لأن المستثنى والمستثنى منه بينهما علاقة، ولا يفصل بينهما شيء.
كأنه قيل في غير القرآن: كلا منها حيث شئتما إلا من هذا المكان، فلا يستوي أن يكون بينهما كلام، لذلك قدّم رغداً مع نوع من الإهتمام بالعيش الهنيء لهما، كلا منها رغداً حيث شئتما إلا من هذا الموضع، فجمع بين المكان المستثنى منه وبين المكان المستثنى الذي ينبغي أن لا يقرباه، وهذا السر في تقدّم رغداً.
و قال تعالى لآدم (عليه السلام) (حيث شئتما) فأثبت لهما المشيئة من أول خلقتهما.
أما الآية الأخرى (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) أيضاً مكان (فكلوا منها حيث شئتم) المكان، ثم قال (رغداً) بعد أن جمع المكانين، والكلام هنا ليس فيه إستثناء، وإلا كان يقدّم، وإنما قال (وادخلوا الباب سجداً) فانتقل لموضوع آخر. هذه القرية مفتوح أمامكم جميع نواحيها للأكل الرغد، للأكل الهنيء، (ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً) جمع المكانين القرية وحيث شئتم، ثم جاء بـ (رغداً) بعد ذلك، ولو قال رغداً حيث شئتم فسيكون هناك فاصل بين المكانين: القرية وحيث شئتم من دون داع.
التوجيه الإعرابي لكلمة (رغداً): عندنا توجيهان من حيث الإعراب: بعض النحويين ابتكر مصطلح نائب المفعول المطلق؛ لأن أصل العبارة: وكلا منها أكلاً رغداً، أكلاً مفعول مطلق ورغداً صفة للمفعول المطلق، فلما حُذِف المفعول المطلق، وبقيت صفته قال هذه نائب عن المفعول المطلق.
ومنهم من قال لا، هي صفة لموصوف محذوف والموصوف مفعول مطلق، تستطيع أن تقول هي صفة لمفعول مطلق محذوف كأنك تبين غايتها وهدفها، وهو أنها تصف شيئاً، أو تقول إنها نائب لمفعول مطلق.
*ما اللمسة البيانية التي تضفيها كلمة رغداً خاصة أنها جاءت بعد (حيث شئتم)؟ بيان أن الأكل من غير جهد، هذه القرية كانت مليئة بالثمار والأشجار، ترتاحون فيها إكراماً لهؤلاء من الله سبحانه وتعالى، لكنهم مع ذلك قابلوه بقولهم حنطة، وبدلوا (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ).
لله سبحانه وتعالى حكمة في التعامل مع بني إسرائيل، فلا هم سجدوا ولا قالوا حطة، وإنما دخلوا القرية يزحفون على أعقابهم، مع كل هذا الإكرام (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) الإغراء في الكلام والتكريم، ومع ذلك بدّلوا.
* أشار القرآن إلى الشجرة التي أكل منها آدم: هذه الشجرة وتلكما الشجرة فأين كانت الشجرة التي أشار إليها الخالق؟(د.حسام النعيمى)
كلمة الشجرة وردت في القرآن في ثلاث آيات، شجرة الجنة التي أكل منها آدم، وردت الشجرة في تحذيرهما (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) البقرة)، فهي قريبة منهما، حتى يتعرفاعليها، وحتى لا يقول آدم وحواء إنها اختلطت عليهما بغيرها.
فلما جاء إبليس لغوايتهما قرّبهما منها، جلبهما إلى أن أوصلهما إليها (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) الأعراف) فهما إذًا قريبان.
لكن حين ذاقا الشجرة، وبدت لهما سوآتهما، وأحسّا بما ارتكباه، هربا منها، وابتعدا عنها، فقال تعالى (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ (الأعراف)) لبعدهما أولاً، ثم للتهويل من شأنها، فهي شجرة كانت لمجرد التعليم أو الاختبار فلا تستحق أن يقال: هذه، أبعدها من حيث اللفظ، كما ابتعدا عنها من حيث الواقع.
* (قال تعالى (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ (36)فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ (37)) ذكر فأزلهما، فأخرجهما بالمثنى، ثم ذكر آدم عند التلقّي بالمفرد دون حواء؟ فما دلالة هذا الاختلاف؟(د.فاضل السامرائى)
هو نبي، والنبي هو الذي أُنزل عليه وليس زوجه، وهو الذي يتلقى، وليس زوجه، والتبليغ أصلاً كان لآدم (يا آدم اسكن أنت وزجك، وعلم آدم الأسماء، اسجدوا لآدم، فالكلام كان مع آدم، والسياق هكذا قال (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ) فهو نبي، وهو الذي يتلقى الكلمات، فهذا هوالسياق وهذا ليس تحقيراً لحواء.
لو نظرنا في طه (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)) لم يذكر حواء، (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)) لم يذكر حواء، (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) لم يذكر حواء، السياق هكذا، فتلقى آدم، لأن آدم هو المنوط به التواصل مع الله سبحانه وتعالى بالوحي.
* ما الفرق بين استخدام الجمع والمثنى في الآيات (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (36)البقرة و(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (123) طه؟(د.فاضل السامرائى)
في البقرة كان الخطاب لآدم وزوجه، ثم لهما ولإبليس (وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) إذن اهبطوا في البقرة أي آدم وحواء وإبليس. أما في طه فالخطاب لآدم (لا تظمأ، فوسوس إليه، فتشقى، فعصى آدم ربه).
* (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ) قرأها إبن عباس (فتلقى أدمَ) فما وجه الاختلاف؟(د.فاضل السامرائى)
هذه القراءة بالنصب (فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ) الكلمات فاعل، وهذه القراءة بالنصب فيها تكريم لآدم، تلقته الكلمات كما يُتلقى الساقط إلى الأرض لئلا يهلك، تلقته الكلمات ليتوب، لم يقل فتلقت آدم من ربه كلمات، لأن أولاً: (كلمات) مؤنث مجازي، والمؤنث المجازي يجوز فيه التذكير والتأنيث، ثم الأمر الآخر أن هناك فاصلا بين الفعل والفاعل، ووجود الفاصل يحسّن التذكير، وحتى لو لم يكن مؤنثاً مجازياً، وكان مؤنثاً حقيقياً جمع مؤنث سالما، فإنه يُذكّر أيضاً بالفصل، كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ (12) الممتحنة) لم يقل إذا جاءتك، فكيف إذا كان المؤنث مجازياً؟ (فتلقى آدمَ من ربه كلماتٌ)، تلقته الكلمات لأن آدم سقط، ولأن المعصية سقوط، فتلقته الكلمات لئلا يهلِك، ومسألة تقديم وتأخير المفعول به على الفاعل جائز في القرآن.
آية (38):
* أين جواب الشرط في الآية (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {38} سورة البقرة)؟(د.فاضل السامرائى)
فإما يأتينكم: هي (إن وما جمعتا معاً) إن شرطية، وما الزائدة بين أداة الشرط وفعل الشرط، وجملة فمن تبع هداي هي جواب إن، والفاء رابطة لجواب إن، وجملة فلا خوف عليهم جواب لـ(من تبع هداي).
*ما هي الآية التي أشكلت على الدكتور فاضل فترة طويلة حتى اكتشف لمساتها البيانية؟(د.فاضل السامرائى)
هنالك أكثر من تعبير أشكل عليّ وكنت أحلّه، لكن الذي أشكل عليّ مدة طويلة أكثر من سنة ونصف، وربما سنتين – هو قوله تعالى (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) من حيث التأليف والتركيبة البيانية.
عدة أسئلة دارت في الذهن في حينها هو قال (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) لماذا لم يقل لا يخافون، كما قال لا هم يحزنون؟ (لا خوف عليهم) بالاسم، و (ولا هم يحزنون) بالفعل؟ لماذا هذه المخالفة؟ ولماذا لم يقل مثلاً لا خوف عليهم ولا حزن؟ ثم لماذا خصص الحزن بتقديم (هم) (ولا هم يحزنون)؟ ولم يخصص الخوف، قال ولا عليهم خوف مثلاً؟ ثم (لا خوف عليهم) الاسم مرفوع، وهنالك قراءة لا خوفَ بالفتح، فلماذا فيها قراءتان؟ وإذا كان المقصود نفي الجنس فلماذا فيها قراءتان؟ هذه كانت أسئلة شغلت ذهني كثيراً.
لقد قال (لا خوف عليهم) ولم يقل لا يخافون، كما قال ولا هم يحزنون، وذلك لأنهم فعلاً يخافون ذلك اليوم (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) النور) (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) الإنسان) (وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) الإنسان)، هؤلاء مؤمنون يخافون، الخوف مدح هنا.
فلما كان الخوف حقيقة عبّر عنه بالاسم، لأنهم يخافون ذلك اليوم. إذًا هم يخافون في الواقع، وخوفهم يوم الآخرة مدح لهم، وكل المكّلفين المؤمنين يخافون.
يبقى ما معنى (لا خوف عليهم)؟ لا خوف عليهم، يعني لا يُخشى عليهم خطر، ليس عليهم خطر، أما (هم) فقد يكونون خائفين أو غير خائفين، وقد يكون هناك إنسان غير خائف، وهنالك خوف عليه ولا يقدّره، غير خائف لأنه لا يقدر الخطر لكن هنالك خطر عليه، الطفل مثلاً لا يخاف الحية ولا العقرب ولا النار، لكننا نحن نخاف عليه منها، هو لا يعلم العواقب ولا يقدرها، ونحن نخاف عليه، أو هو يخاف من شيء غير مخوف، فالطفل أحياناً يرى اللعبة مخيفة يخاف منها، وليس عليه خوف منها، المهم أن لا يكون عليه خوف، سواء كان خائفاً أو غير خائف.
إذًا لم يقل لا يخافون؛ لأن واقع الأمر أنهم يخافون، فأمّنهم الله بقوله (لا خوف عليهم)، وهذا هو المهم، لأن أحدهم قد لا يخاف الآخرة لأنه لا يعلم.
هو قال (ولا هم يحزنون) جعل الحزن بالفعل، وأسند إليه (ولا هم يحزنون)، ولو قال لا خوف عليهم ولا حزن لما صح المعنى. لا خوف عليهم ولا حزن عليهم، يعني: لا يحزن عليهم أحد، نفى الحزن عن غيرهم، ولم ينفه عنهم، يعني هم قد يحزنون، لكن لا يحزن عليهم أحد، والمطلوب أن تنفي عنهم الحزن، لا أن تنفيه عن غيرهم، فقد يكونوا حزانى ولا يحزن عليهم أحد، فما الفائدة؟ المهم أنهم لا يحزنون، ثم قد يكون أن لا يحزن عليهم أحد ذم، كما قال ربنا (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) النحل) يعني أنهم لا يستحقون أن تحزن عليهم. فلو قال لا خوف عليهم ولا حزن لا يستقيم المعنى، وقد يكون ذما، ولا ينفعهم.
ثم قال (ولا هم يحزنون) بتقديم (هم) يعني أنهم لا يحزنون، ولكن الذي يحزن هو غيرهم، ليس هم الذين يحزنون، لكن الذي يحزن غيرهم من الكفرة، هؤلاء أصحاب الحزن، لو قال لا خوف عليهم ولا يحزنون، يعني هم لا يحزنون، لكن لم يثبت الحزن لغيرهم من الكفرة، لكن هنا هو أثبت الحزن لغيرهم، ونفاه عنهم.
التقديم أفاد الحصر، ما أنا فعلت هذا، يعني فعله غيري، أثبته لغيري، فأراد ربنا تبارك وتعالى أن ينفي عنهم الحزن، ويثبته لغيرهم (ولا هم يحزنون).
لم يقل: لا عليهم خوف بتقديم الجار والمجرور، كما قال ولا هم يحزنون، وهذا أيضاً لا يصح. لأنه لو قال: لا عليهم خوف يعني ليس عليهم الخوف، ولكن الخوف على غيرهم، أنت لا تخاف على الكفار، أنت نفيت الخوف عنه، وأثبته على غيره، يعني أنت تخاف على غيرهم، وهم الكفار، من يخاف عليهم ؟ دعهم يذهبون إلى الجحيم، لماذا نخاف عليهم؟ هذا المعنى يفهم إذا قال لا عليهم خوف، نفاه عنهم وأثبته على غيرهم، ونحن لا نخاف على الكفار، من الذي يخاف على الكفار وهم مغضوب عليهم؟. فلا يصح أن يقال لا عليهم خوف، كما قال ولا هم يحزنون.
يبقى السؤال: لماذا قال لا خوفٌ عليهم برفع الخوف؟ لا خوفَ عليهم نص في نفي الجنس، ولا النافية للجنس تعمل عمل (إنّ)، فلماذا رفع (خوفٌ)؟ ما الفرق في المعنى من حيث الرفع والبناء على الفتح؟ حين تقول لا رجلَ أو لا رجلٌ، إذا قلت لا رجلَ بالبناء على الفتح فهذا نص في نفي الجنس، يعني لا يوجد أيّ رجل مطلقاً، ولا رجلٌ يفيد نفي الجنس على الراجح؛ ويحتمل نفي الواحد، عندما نقول لا رجلٌ احتمال أن يوجد رجلان أو ثلاثة أو أربعة هذا احتمال، واحتمال نفي الجنس على الأرجح.
لا خوفٌ عليهم يعني في غير القرآن يمكن أن تجعله لا خوفٌ عليهم، بل أكثر من خوف، بينما لا خوفَ عليهم نص في نفي الجنس. ولا شك أن السياق نفي الجنس تنصيصاً من أكثر من ناحية: من ناحية أنه مقام مدح، من ناحية أنه قال (ولا هم يحزنون) فإذا كانوا لا يحزنون، فإنه لا خوف عليهم؛ لأن الحزن يتحقق إذا كان هنالك شيء مخوف. إذن دلت القرائن على نفي الخوف تنصيصاً، وجاء بـ (لا) النافية للجنس أيضاً في قراءة أخرى، والقراءتان دلتا على نفي الخوف تنصيصاً وبالقرينة.
لكن هنالك مسألة، إذا كان هو أفاد نفي الجنس تنصيصاً أو بالقرينة، فلماذا لم يأت بنفي الجنس، ولم يقل لا خوفَ عليهم؟ هو عندما يقول (لا خوفٌ عليهم) بالرفع يفيد معنيين: الأول كون حرف الجر (عليهم) متعلق بالخوف مثلاً: (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (7) القصص) متعلق بـ(خاف)، إني أخاف عليك الذئاب (متعلق بخاف)، فلو كان الجار والمجرور (عليهم) متعلقاً بالخوف لكان الخبر محذوفاً؛ ويحتمل أن يكون الجار والمجرور (عليهم) ليس متعلقاً بالخوف، وإنما متعلق بكان واستقر، يعني لا خوف كائن عليك. مثل قولك : الجلوس في الصف، أو الوقوف في الساحة، الجلوس في الصف يعني عليكم أن تجلسوا في الصف، الوقوف في الساحة (مبتدأ وخبر) يعني عليكم أن تقفوا في الساحة، فإذا تعلق الصف بالجلوس لا يكون هنالك خبر، الجلوس في الصف مطلوب نافع مفيد، الوقوف في الساحة مطلوب مأمور به.
لا خوفٌ عليك موجود، لا خوف عليك فيها معنيان واحتمالان، وليست هنالك قرينة سياقية تحدد معنى معيناً، وهذا توسع في المعنى جمع معنيين، إذا أخذناها على أن (عليهم) متعلقة بالخوف يكون الخبر محذوفا، يعني لا خوف عليهم من أي مكروه، أو لا خوف واقع عليهم، أو أن (عليهم) هو الخبر، الخوفُ عليهم. أما لا خوفَ عليهم فليس فيها احتمال، (عليهم) هو الخبر نصّاً لا يجوز أن يتعلق بالخوف نحوياً؛ لأنه لو كان تعلق به سيكون شبيهاً بالمضاف، فنقول لا خوفاً عليهم بالنصب، ولا يصح البناء مطلقاً، لأنه شبيه بالمضاف.
. مثال: لا بائعَ في الدار، يعني ليس هنالك أي بائع في الدار مطلقاً، سواء كان هذا البائع يبيع في الدار أو في السوق، أما لا بائعاً في الدار فيعني أن الذي يبيع في الدار غير موجود، ربما يوجد واحد في الدار يبيع في السوق.
إذًا لا خوفَ ليس له إلا دلالة واحدة (أن (عليهم) خبر لا)، أما لا خوفٌ عليهم ففيها دلالتان. فلو اكتفى بلا خوفَ عليهم سنفقد معنى. و(لا خوفَ) خوفَ نعربها اسم لا النافية للجنس، أما (لا خوفٌ) فـ(لا) نعربها إما عاملة عمل ليس، أو نجعلها مهملة، فيكون خوف مبتدأ وعليهم خبر.
المراد من الآية هو نفى الخوف والحزن الثابت والمتجدد، قوله (لا خوف عليهم) ينفي الخوف الثابت لأنه استعمل الحزن و (ولا هم يحزنون) ينفي الحزن المتجدد. ونفي الحزن المتجدد ينفي الخوف المتجدد؛ لأنك تخاف فتحزن، ونفي الخوف الثابت ينفي الحزن الثابت، فلما جاء أحدهما بالفعل والآخر بالاسم وأحدهما مرتبط بالآخر، نفى (لا خوف) نفى الخوف الثابت (ولا هم يحزنون) نفى الحزن المتجدد، ولما كان نفي الحزن المتجدد يقتضي نفي الخوف المتجدد لأن الأمر قبل أن يقع مخوف منه، فإذا وقع حزنت عليه، الخوف أولاً ثم الحزن يقع إذا وقع ما يخاف منه. فهمنا الحزن المتجدد من الفعل المضارع (لا هم يحزنون) الذي فيه تجدد واستمرار، وهذا يقتضي (لا خوف عليهم) لأن الحزن مرحلة تالية للخوف، فإذا نفى ما يستجد من الحزن، ينفي ما يستجد من الخوف، ونفى الخوف الثابت والحزن الثابت، إذًا عندما جمع الأمرين نفى الخوف عليهم الثابت والمتجدد، والحزن الثابت والمتجدد.
لماذا لم يقل لا خوفٌ عليهم ولا حزن لهم؟ جملتان اسميتان تدلان على الثبوت؟ لو قال لا حزن لهم لنفى الحزن عنهم ولم يثبته لغيرهم، لكنه قال (ولا هم يحزنون) فأثبت الحزن لغيرهم، فلو قال: لا حزن لهم لم يثبته لغيرهم.
ولو قال: ولا لهم حزن لم يكن هذا تنصيصا على الجنس، بمعنى ليس هنالك نص في نفي الجنس، يعني لا لهم حزن؛ لأن لا النافية للجنس لا يتقدم خبرها على اسمها، فإذا تقدّم لا تعود نصاً في نفي الجنس، ثم يجب رفع الحزن، لا يجوز نصبه ولا بناؤه (ولا لهم حزنٌ)، فما دام تقدم الخبر تصير (لا) مهملة، ثم سنخسر الثابت والمتجدد؛ لأنها تصبح اسماً، إذًا تنفي الثابت فقط، ولا تنفي الثابت والمتجدد، ولذلك هذا التعبير أجمع تعبير للدلالة على المعنى، بحيث أن كل تغيير لا يمكن أن يكون فيه، وهذا كله في (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
سؤال: إلى أي كتب رجعت؟
هذه لم أجدها في الكتب، رجعت إلى كتب التفسير، وقد يكون هناك كتب أخرى لم أطلع عليها، راجعت كل الكتب التي بين يدي من كتب اللغة، فلم أجدها بهذا التفصيل.
سؤال: إذًا المدخل إلى فهم آي القرآن هو النحو والتركيب، فما بال الدعاة لا يقيمون جملة صحيحة فصيحة؟ وكيف يفهمون القرآن، وهم لم يفهموا اللغة العربية الفصحى ويخطئون فيها؟
هذا نقص عجيب، ولا بد أن نفهم جيداً قواعد اللغة حتى نعمل على سبر أغوار القرآن الكريم، وهذا أول شرط وضعه أهل علوم القرآن لتفسير القرآن، وهو التبحر في علوم اللغة “ولا تغني المعرفة اليسيرة” هذا أول شرط، ليس المعرفة فقط، وإنما التبحر في علوم اللغة نحوها وصرفها ولغتها وبلاغتها هكذا نصاً “ولا تغني المعرفة اليسيرة”. فلا نأخذ التفسير من أي أحد، ولا بد أن يكون مشهوداً له بالتحصيل في علوم اللغة العربية هذا أولاً، وهنالك أمور أخرى.
*ما الفرق بين قوله تعالى (فمن تبع هداي)و(فمن اتبع هداي)؟(د.أحمد الكبيسى)
الفرق بين تبع واتّبع، رب العالمين يقول (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿38﴾ البقرة) تاء باء عين، هذا في البقرة، مثلها جاءت في طه (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴿123﴾ طه) لماذا هنا في البقرة (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) وهناك (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ)؟ رب العالمين يقول عن سيدنا إبراهيم (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴿36﴾ إبراهيم) وفي مكان آخر (مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ (50) القصص).
حينئذٍ دائماً إما تبعني وإما اتّبعني ناهيك عن اشتقاقاتها.
تَبِع زيدٌ عمراً، مر به فمضى معه، يعني أنت ماش في شارع فرأيت شخصاً واقفاً مررت به، فما إن حاذيته حتى صار خلفك تماماً، انقياد كامل، التبع باللغة العربية الظل، أنت حيثما تسير يسير ظلك معك (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ولو شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا (45) الفرقان)، وحينئذٍ هذا الظل يتبعك- بتسكين التاء- تماماً، ولا يتّبعك- بتشديد التاء- ما الفرق؟ يتبعك تلقائياً محاذاة كظلِّك بشكل مباشر، أما يتّبعك- بتشديد التاء- ففيها جهود، وفيها مراحل، وفيها تلكؤ، وفيها مشقات، وفيها أشياء كثيرة، تقول: أنا أتتبع المسألة حتى حللتها، أو تتبعت المسألة حتى وقفت على سرها، تتبعت مرة مرتين ثلاثا أربعا ليل نهار، هذا اتّبَع.
معنى ذلك أن كلمة تَبِع إما الكفر وإما الإيمان، إما التوحيد وإما الشرك، وحينئذٍ رب العالمين حين يقول (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) يعني التوحيد، أرسلت لكم نبياً يقول اتركوا الأصنام لا إله إلا الله (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴿6﴾ فصلت) هذا تَبِع على طول لا يتردد مثله بالضبط.
فلما قال (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ) هذه الشريعة أرسلت لكم شريعة، حاولوا كل واحد يطبق منها ما يستطيع (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴿16﴾ التغابن) وكل واحد على جهده وعلى قدره وعلى علمه وعلى نشاطه وعلى همته هذا اتّباع.
حينئذٍ من أجل هذا نقول الفرق بين تبِع واتّبع في القرآن الكريم أن تبِع تكون فيها أنت كظل الشيء، وأنت لا تكون ظل النبي إلا في التوحيد لا إله إلا الله، لابد أن تكون مثل ظله، لكن الاتّباع أين أنت؟ وأين هو؟! كل ابن آدم خطاء وهذا معصوم .
من أجل ذلك عليك أن تفهم أن رب العالمين مرة قال تبع ومرة اتبع، وهذا ليس عبثاً، والمفسرون يفرِّقون بين اتّبع وتبِع وأتبع (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ ﴿78﴾ طه)، أتبعهم كان متخلفاً فلحق بهم ( أتبع السيئة الحسنة تمحها) يعني السيئة سبقت بأسبوع أو أسبوعين، أو شهر أو شهرين، فأنت أتبعها بحسنة.
لو كانت التوبة معها بالضبط ما إن أذنبت حتى تبت وأنت على الذنب، يقال تبِع، لكن إن كانت السيئة من زمن فأنت تقول: أتبعتها، ولذلك قال تعالى: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ).
ولذلك نقول إن كلمة تبِع واتّبع وأتبع في القرآن الكريم كل واحدة تعطي معنىً دقيقاً وترسم جزءاً من الصورة، لا ترسمه الكلمة الأخرى، فعليك أن تعلم أن هذا المتشابه من أول ما ينبغي الانتباه إليه تنفيذا لقوله تعالى (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ ﴿82﴾ النساء)، وحينئذٍ هذا الذي نتدبره نتبين من خلاله أن هذا القرآن لا يمكن أن يصنعه مخلوق (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴿82﴾ النساء)، كيف يمكن بهذه الدقة في كل كلمة في كل تصريف في كل فعل في كل حركة في كل صيغة، ترسم صورة مختلفة، هذا لا يقوله إلا رب العالمين على لسان نبي (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴿108﴾، يوسف) يتكلم هنا عن الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن أين أعمالنا وأين النبي؟ نحن نتّبع.
إذًا تبِع تأتي في العقائد إما الكفر وإما الإيمان، يعني إن كفرت تبعت الشيطان، وأن تؤمن تبعت نبيك، أو من دعاك، هذا الفرق بين تبِع واتّبع.
وأخطر استعمال لكلمة اتّبع هي ما جاء في التحذير من إبليس (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ 168البقرة) ما قال تَتْبعوا – بتسكين التاء- هنا لم يقل تكفروا، إذا قالها تكون مع تتْبع- بتسكين التاء- وليس تتَّبع –بتشديد التاء- بل رب العالمين هنا يحذرنا من أن نتّبع الشيطان لا أن نتْبعه، إن نتَّبعه نقلده في بعض الذنوب الخطيرة. فرب العالمين يقول في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) البقرة) ويقول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) البقرة)، وفي الأنعام (وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142)) وفي النور(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) النور). (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) ما هي خطوات الشيطان؟ رب العالمين بهذا التحذير الشديد، وهذا النهي القوي، يردعنا بأقوى أنواع الردع، إننا لو تتبعنا ما يجري في هذه الأمة، وقد جرت في هذه الأمة أشياء تشيب لهولها الولدان من كثرة الفرق الضالة التي دخلت في الإسلام وآمنت بالله ورسوله واليوم الآخر، ثم على حين غرة صارت عندنا فرق كثيرة خوارج وأشكال وألوان كل واحد منهم اتّبع خطوة من خطوات الشيطان، ما هي خطوات الشيطان إذاً؟
يقال إنها معصية إبليس، وإبليس عصى حين قال الله له اسجد فلم يسجد، قال (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) الإسراء) قال (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا (18) الإسراء)، فرب العالمين لعنه وأخرجه من الجنة لأنه عصى الأمر، قال أنا ما أسجد لأدم، أنا فقط أسجد لله – في ظاهر الأمر أن هذا أمر طيب، وأن هذا موحد جداً جداً، ولهذا لا يسجد إلا لله – لكن هذا الغبي أو المتغابي لم يفرّق بين أن يأمره الله، وأن يأمره غير الله، رب العالمين هو الذي أمرك، قال لك: اسجد لهذا الرجل، فعليك أن تطيع الأمر، لو أن شخصا آخر، ملكا أونبيا – حاشاه طبعاً- قال لك تعال اسجد، تقول له: لا، أنا لا أسجد إلا لله، لكن الذي أمرك بالسجود رب العالمين نفسه، الذي قبِلك من عباده وجعلك أنت طاووس الملائكة، كيف لم تفهم؟ كيف غاب عن فهمك أن الذي أمرك بهذا هو الله نفسه؟ وعليك أن لا تناقش ولا تجادل، من أجل هذا دعواك بأنك توحد الله ولا تسجد لغيره، هذه دعوة كذابة وغبية ومقصودة، فيها حسد؛ لأنك أنت تعلم جيداً أن هناك فرقا بين الأمر من الآمِر، وبين الأمر من غيره، الآمر الذي أمرك بأن تسجد لله نفسه أمرك بأن تسجد لآدم، فادعيت أنت أنك موحد، وأنك لا تحب الشرك، أنت خلطت الأمورمما يدل على أنك متعمد هذه الإساءة.
وصار نقاش بينه وبين الملائكة، كيف كان يحاججهم؟ يقول لهم: إن الله لما خلقني كان يعلم قبل خلقي ما سيصدر مني من ضلال، والله يعلم قبل أن يخلقني أني سأكون شيطاناً مريداً، وأضل الناس، وأعدهم (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) الحجر) فلماذا خلقني إذاً؟ هذا السؤال الأول، الثاني: أنه حين خلقني كلفني بمعرفته وطاعته، وهو لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية؟ لماذا أمرنا رب العالمين أن نطيعه ولا نعصيه، ورب العالمين غنيٌ عن كل هذا، فما فائدة أني أطيعه أو أعصيه؟ لماذا أطيعه فيكرمني، وأعصيه فيعذبني؟؟ ولمَّا كلفني بمعرفته لماذا كلفني بالسجود لآدم؟ وذلك لا يزيد في معرفتي ولا عصياني، فكوني أسجد أو لا أسجد لا يزيد من معرفتي شيئا، ولا يقلل منها شيئا، خلقني وكلفني، ولما لم أطعه لعنني وطردني، فلماذا جعلني في طريق آدم، وجعلني أمشي وراءه حتى أوسوس له، وأخرجه من الجنة؟ هو الذي قدَّر علي هذا، فلماذا يسَّر لي أن أتبع آدم، وأتسلل إلى الجنة، وأوسوس لآدم؟ (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لّا يَبْلَى (120) طه) إلى أن قال (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ (36) البقرة) لماذا سمح لي بهذا؟ لماذا وضعني في هذا الطريق؟ ثم عملت في آدم ما عملت، لماذا سلطني على أولاده حتى أني أنا وجنودي نراهم من حيث لا يروننا؟ لماذا سلطني هذا التسليط؟ كان من الممكن أن يقتلني حتى يخلص بني آدم، ثم كونه أمهلني إلى يوم يبعثون، لماذا فعل هذا؟؟ كل هذه أسئلة تجعل إبليس كأنه في الظاهر محق، طبعاً قالت الملائكة كلمة واحدة، قالت له: أنت مصيبتك في كلمة (لِمَ)، ليس لعبدٍ أن يقول لربه الله عز وجل لِمَ، إياك أن تقول لِمَ؟ الجندي الصالح لا يقول لقائده لِمَ؟ والمواطن الصالح لا يقول لرئيسه لِمَ؟ وخاصة أنهم يعرفون أن رئيسهم أو ملكهم أو قائدهم في غاية الإخلاص والوطنية والقدرة وحب الشعب والإنعام، مفروض أن تنفذ، ثم تسأل عن الحكمة، هذا من حقك، أما أن تقول: لا أنا ما أفعل، أنت رددت الأمر على الآمر.
هناك فرق بين من يناقش وبين من يتمرد، في كل جيوش العالم المتمرد يقتل، لأنه سيدمر المعركة، سيفشل الخطة.
إذاً نقاش إبليس على هذا الشكل خطوة من خطوات الفرق الضالة، ولو تأملتم لرأيتم أن كل فرقة تتبع خطوة من هذه الخطوات، يعني هناك ناس يعتبرون كل المسلمين مشركين، وبالتالي هو يقول أنا فقط موحد، أنا لا أعبد غيرك.
وما هي حكاية الخوارج؟ قالوا لسيدنا علي: كيف تحكِّم غير الله؟ الحكم فقط لله، كما قال إبليس (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) بالضبط نفس الخطوة، الخوارج اتبعوا خطوة من خطوات إبليس، عندما ادعوا أنهم لا يحتكمون إلا إلى الله، بينما الله عز وجل قال بين الزوجين (فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا (35) النساء)، وقال بين المسلمين (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا (9) الحجرات) ومن كان الآمر؟ هو سيدنا علي، هذا الذي أجمعت الأمة على صلاحه، ولكنك اتّبعت خطوة من خطوات الشيطان، كان عليك أن تسأل وأن تستفسر، أما أن تتمرد، وتقتل عمر، وتقتل عثمان، وتقتل علي، وتزعم أن آلاف الصحابة كلهم مشركون، وتعيث في الأمة فساداً، في كل الأجيال تقتل العلماء والصالحين والأولياء وأصحاب الرأي وأصحاب العلم، هل هؤلاء كلهم مشركون، وأنت فقط الصواب؟ لماذا؟؟ هذه خطوة من خطوات الشيطان، وحينئذٍ كل فرقة ضالة تجدها في النهاية قد خطت خطوة من خطوات الشيطان التي كل وحدة منها لم فعل؟ لم فعل؟ وأنتم كلكم تعرفون هذا النقاش الفلسفي حول مرتكب الكبيرة، وقضية خلق الأفعال، والذات الصفات التي سالت دماء المسلمين بسببها، كلام سخيف وتافه وغبي، لكن هناك من تبناه، وكل جماعة اتخذت لها شعارا،ً وهؤلاء جماعة الفلانيين بدون ذكر أسماء، كلكم تعرفونها، وكل واحد في النهاية قد اتخذ خطوة من خطوات الشيطان، اتخذها مرجعية يسير فيها بين الناس، وهذا الذي حصل في الأمة من إفساد وقتل ودماء، وهذا الذي نحن فيه من تمزق رهيب لم يحدث في التاريخ مثله أساسه من يعتقد بأنه من علماء المسلمين، وكل واحد منهم له مذهبه وطريقته ومرجعيته، وكل واحد يكفر الآخر ويزندقه، وكلٌ وضع سيفه في رقاب الآخرين، وهذه بالضبط هي خطوات الشيطان.
كما أن الشيطان بث أعوانه؛ لكي يقتل الناس بالذنوب والخطايا (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ﴿27﴾ الأعراف) هناك دائما في كل مكان في التاريخ الإسلامي، ترى أحد الشيوخ يلبس عمامة قذرة، أقذر من قلبه مختبئ في مكان لا يعرفه أحد، وينفث سمومه منها خلْق القرآن، ومرتكب الكبيرة، والأفعال، هل الفعل مخلوق للعبد أو لله؟ وكلام سقط تافه، ولكن هذا الكلام التافه يقوله واحد منزوٍ في مكان في جامع، وينفث هذه السموم من غبائه، أو متعمداً في بعض الأحيان حتى وصلت الأمة إلى ما هي عليه الآن.
الصف في الصلاة بعضهم يكفر البعض، وبعضهم يتمنى أن يقتل البعض، وتعرفون ما جرى في العراق، الذي جرى في العراق كله حرب طائفية دينية، وكلها جميعاً بلا استثناء من خطوات الشيطان.
إذا خطر بقلبك أن قتل هذا الذي يقول لا إله إلا الله هو الجهاد، فأنت واحدٌ من أتباع هذا الشيطان، وقد اتبعت خطواته كما قال تعالى (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، وهو قال (وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وهذه هي الأمة اليوم، في غواية ما بعدها غواية، رب العالمين قال (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ ﴿78﴾ الحج) هؤلاء هم الناجون الوحيدون، فإذا وضعت لنفسك عنواناً آخر فئوياً أو حزبياً أو طائفياً فأنت واحدٌ من الذين ينفذون خطوات الشيطان في هذه الأمة، وما أكثرهم اليوم!. فمن عوفي من ذلك فليحمد الله، من عوفي وقال: كل من يقول لا إله إلا الله هو أخي، وكلنا خطاؤون (ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ثم جاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله لهم) ورحمة الله تسع كل شيء، ما دمت توحد الله وتتبع الرسول.
ماذا يعني كل هذا؟ إياك أن تفلسف النص على حسب هواك (اتَّبَعَ هَوَاه)، إياك أن تتّبع هواك؛ لأن النصوص حمّالة أوجه، ورب العالمين جعل هذه النصوص بهذا الثراء تحتمل الوجوه، لكي يميز الخبيث من الطيب (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿2﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴿3﴾ العنكبوت).
وحينئذٍ ما من فتنة أعظم من الفتنة التي تأخذ طابع الدين، كما هو الآن في العراق وباكستان وأفغانستان وفي لبنان وفي كل العالم الإسلامي، الآن الفتنة دينية، إما طائفية أو فئوية أو حزبية، وأقولها بصراحة كلهم بلا استثناء الذين نسمعهم في الإعلام، كل واحد منهم على خطوة من خطوات الشيطان، والله قال (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).
إذاً هذا الفرق بين تبِع وبين اتّبع، ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يقل لا تتْبعوا- بتسكين التاء- خطوات الشيطان هذه ليست لنا، لو قال: لا تتْبعوا معناها أشركنا، أقول: أنا تركت الإسلام، وأنا وثني، هذا تبِع خطوات الشيطان، من حسن الحظ قال: لا تتَّبعوا- بتشديد التاء- كأن الله عز وجل يقول: لا أخاف على هذه الأمة أن تشرك، ولكني أخاف عليها أن تتّبع الشيطان، لا أن تتْبعه- بتسكين التاء- لن تترك دينها لدين آخر، وإنما سوف تترك أحكام دينها. هذا الفرق بين تبِع واتّبع، وعلينا أن نفهم جدياً أنه حيثما وجدت تبِع يعني: إما تبعت إبليس في الكفر، فأنت هالك وخالد في النار، أو تبعت محمداً أو أي الأنبياء الآخرين في التوحيد،فأنت ناجٍ ، وإذا كنت من جماعة اتّبع فأنت مذنب، وعليك أن تتوب، فإياك أن تهلك، وفرِّق بوضوح بين تبِع وبين اتّبع.
آية (39):
*ما دلالة الآيات فى قوله تعالى(وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) البقرة)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
الآيات جمع آية، وهي الشيء الذي يدل على أمر من شأنه أن يخفى؛ ولذلك قيل لأعلام الطريق آيات، لأنها وضعت لإرشاد الناس إلى الطرق الخفية في الرمال، وسميت جُمَل القرآن آيات؛ لأنها ترشد الضالّ في متاهة الحياة إلى طريق الخير والفلاح.
*(وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) البقرة) اختار تعالى لفظ العهد لليهود، ولم يقل أوفوا وعدكم، فهل لهذا من بُعدٍ آخر؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
هذا من لطائف القرآن، خاطبهم الله تعالى باسم التوراة المعروف عندهم، أليست التوراة تسمى عندهم العهد؟ لذلك فالكلمة مزدوجة الدلالة لأمرين: لأنها تأمرهم بالتزام أوامر الله، وتأمرهم بالتزام وصايا الله تعالى المبثوثة في طيّات العهد القديم، والتي فيها الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وسلم).
آية (40):
* أغلب السور يضرب المثل بقصة موسى فما دلالة هذا؟ وما اللمسة البيانية في تكرار قصة موسى؟(د.فاضل السامرائى)
ليست القصة الوحيدة التي تتكرر في القرآن، لكن قصة موسى فيها تفاصيل كثيرة، وأطيل فيها، وذُكرت أكثر من القصص الأخرى، أولاً: لأن تلك الأقوام بادت وهلكت، ولم يبق منها أحد، أما بنو إسرائيل فباقون في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ومستمرون إلى الآن، وكان لهم مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) حوادث ومواقف وعداء، وإلى الآن، ومستمرون إلى ما قبل يوم القيامة.
فإذًا التكرار له دلالته؛ لأنهم سيبقون معكم إلى ما شاء الله، وهم يحاربونكم، ويفعلون كذا، ويمكرون، فذكر أفعالهم مع موسى، كيف فعلوا مع موسى؟ لقد أوذي أكثر من هذا فصبر، وفي الحديث “رحم الله أخي موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر” ، وذكر كثير من أحوالهم، فلا نعجب أن يفعلوا مثل هذه الأشياء أو أكثر معنا حتى نتعظ ونعرف كيف كانوا يفعلون هم أنفسهم، فتكرارها؛ لأن كتابهم لا يزال موجوداً مع أنه محرَّف، والقوم لا يزالون وليس كبقية الأقوام الذين انقرضوا مثل قوم عاد وصالح ولوط، أما اليهود فبقوا وبقي كتابهم، وبقي لهم مواقف، وسيبقى لهم مواقف إلى الوقت الذي قرره الله (وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) الإسراء)؛ ولذلك كان ذكرهم واستمرارهم باستمرار بقائهم ووجودهم.
آية (41):
*(وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) البقرة)ما دلالة الباء؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
عندما تشتري أمراً ما من السوق تقول: اشتريت هذا بمائة درهم، فانظر إلى الباء في (بمائة) دخلت على ثمن السعر، وفي الآية (تشتروا بآياتي) دخلت الباء على آياتي؛ لتعلمنا أن اليهود جعلوا آيات الله تعالى كدراهم، واشتروا به عرضاً من أعراض الدنيا لا قيمة له؛ لذلك جاء وصفه بـ (قليلاً)، لأنهم بذلوا أنفس شيء، واشتروا به حظاً قليلاً.
* لماذا جاءت ثمناً قليلاً، مع أنها وردت في القرآن ثمناً وحدها ؟(د.حسام النعيمى)
الثمن كما قلنا هو العوض، والبخس دون قدر الشيء أي لا يناسب قدره.
الثمن القليل جاء حيثما ورد في الكلام عن حق الله سبحانه وتعالى، ومعنى ذلك أن العدوان على حق الله سبحانه وتعالى، مهما بلغ فهو ثمن قليل. فحين يكون الكلام عن الآيات (وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) البقرة)، فأي ثمن يناسب آيات الله عز وجل؟ لا شيء. فكل ثمن يقل في شأن آيات الله سبحانه وتعالى، أياً كان الثمن فهو قليل، فحيثما ورد الكلام عن آيات الله، وعن عهد الله سبحانه وتعالى كان كله ثمنا قليلا لا يقابل.
وليس معنى ذلك الثمن القليل أنهم يمكن أن يشتروا به ثمناً كثيراً،كلا، وإنما بيان أن هذا الثمن الذي أخذتموه لا يقابل آيات الله، فهو قليل في حق الله سبحانه وتعالى، وكل ثمن يؤخذ مقابل ذلك فهو قليل مهما عظُم؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) البقرة)، هذا الذي اشتريتموه هو قليل، وإن كان في نظركم كبيراً. حين يبيع الإنسان دينه بدنياه، بدنيا عظيمة يريد أن يبيعه، فيقول القرآن له: هذا الذي بعت به هو قليل. (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، لأنهم أكلوا ثمن شرائهم مقابل آيات الله سبحانه وتعالى، فسماه قليلاً مهما كان نوعه.
في تسع آيات وصف الثمن بأنه قليل تحقيراً لشأنه، وتهويناً من قدره، تسع آيات تتحدث عن الشراء بثمن قليل: إما أن ينهاهم عن ذلك، أو يثبته لهم، بأنهم فعلوا ذلك، وما قبضوه قليل.
أما في قضية الوصية والشهادة فى سورة المائدة فتركه مجملاً (ثمناً)، ليشمل كل الأشياء المادية والمعنوية وحتى لا يكون هناك نوع من التحايل.
ألا يمكن أن يتعاور الوصف بالبخس والقليل مع بعضهم البعض؟ يمكن، إذا أُريد بالبخس ما هو ليس من قدر الشيء الذي بيع، ولا يستقيم مع آيات الله، وليس هناك شيء بقدر الآيات، لذلك لا يستقيم إلا القلّة.
آية (45):
*ما الفرق بين الفاصلة فى الآيتين (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) البقرة) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) البقرة)؟
*د.فاضل السامرائى :
في الأولى تقدم ذكر الصلاة والمطالبة بها، قال: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)ثم (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) البقرة.
في الآية الثانية ختمها بالصبر؛ لأن السياق في الصبر، بعد أن قال (إن الله مع الصابرين)، قال (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) البقرة) كان السياق مع الصبر؛ ولذلك ختمها (إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، أما في الآية الأولى فالسياق في الصلاة، فقال (إلا على الخاشعين).
آية (45):
*د.أحمد الكبيسى:
قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴿45﴾ البقرة)، ومرة قال (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴿153﴾ البقرة) في الأولى كان يخاطب بني إسرائيل، ويقول: الصلاة عندكم كبيرة وشاقة عليكم، وتتهاونون فيها، ولا تصلون، وقلنا لكم قولوا حطة فقلتم حنطة، فعندما خاطب بني إسرائيل قال (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) والخاشعون من بني إسرائيل الرهبان، أصحاب العلم، الصالحون منهم يصلّون، ولكن الأكثرية الغالبة من اليهود لا يصلّون، وإذا صلّوا صلُّوا صلاة كلها غير صحيحة، وفيها بدع كثيرة، وأبعد ما تكون عن عبادة الله، وهم يتثاقلون منها كما قال تعالى (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ ﴿142﴾ النساء).
بينما حين خاطب المسلمين قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وفعلاً ليست هناك أمة في العالم تصلي في المساجد خمس مرات من الفجر إلى العشاء إلا هذه الأمة، والجوامع مليئة في الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبالبيوت الضحى والأوابين والتهجد، الصلاة عند هذه الأمة عماد الدين، وهم يتلذذون بها، والله قال (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، يا أيها المسلمون بينما اليهود ليسوا كذلك.
*د.أحمد الكبيسى:
الآية الأولى (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿47﴾ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴿48﴾ البقرة) الشفاعة أولاً، العدل: الفداء يعني الفدية، شخص يفتدي نفسه بمال الشفاعة لا بدون مال، لكنه بوجاهة أحد الناس يشفع له . إذاَ أول مرة قال (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) شفاعة أولاً، وعدلٌ ثانياً في آية123 ، وغيّر الترتيب فقال (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴿123﴾ البقرة) يقبل منها عدل أي فدية، ولا تنفعها شفاعة.
لماذا في الأولى قدم الشفاعة وأخّر الفدية، وفي الثانية أخر الشفاعة وقدم الفدية؟ باختصار شديد، الحديث لبني إسرائيل، ورب العالمين يخاطبهم في هاتين الآيتين يحذرهم من أن هذه النعم التي أنعم الله بها عليهم لم يؤدوا شكرها، فيحذرهم ويقول: اتقوا ذلك اليوم القادم، وهو يوم القيامة، ففي ذلك اليوم مرة قال (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) والثانية بالعكس.
الفرق أن بني إسرائيل ككل الأمم نوعان: نوعٌ حريصٌ جداً على المال أكثر من حرصه على حياته، وهذا موجود في كل الأمم، لكن في اليهود أكثر، والمعروف أن اليهود يحبون المال حباً أكثر من أنفسهم ألف مرة حتى إن الواحد منهم ليقدم نفسه فداء لحفظ ماله، ولا يقدم ماله فداء لحفظ نفسه، وهذا موجود في كل الدنيا لكن في بني إسرائيل ظاهرة؛ لذا خاطبهم فقال: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) قدّم العدل، وهو الفداء في الآية التي قدم فيها الفداء، يخاطب أولئك اليهود الذين يفدون مالهم بأنفسهم. وفي الآية الثانية أيضاً هناك فريق ثان، ولا ينكر كما في كل الأمم أن هناك من تكون نفسه عزيزة عليه، ولهذا يفديها بماله، يعطي المال ولا يعرّض نفسه للموت.
من أجل هذا خاطب رب العالمين في الآيتين الفريقين، والفريقان في بني إسرائيل ظاهران معروفان متميزان، قومٌ بلغ بهم البخل إلى حد أنه يفدي ماله بنفسه، وقسم بلغ بهم حب الحياة كما وصفهم رب العالمين سبحانه وتعالى في آية أخرى، بأنهم يحبون الحياة فيفدي أحدهم نفسه بالمال، وبالتالي ففي كل ترتيبٍ من هاتين الآيتين يخاطب رب العالمين شريحة من شرائح بني إسرائيل.
وهاتان الشريحتان ليستا في عصرٍ واحد، جاء عهد شاع في بني إسرائيل حب المال حباً عظيماً، وفي عهد شاع حب الحياة، وبالتالي هاتان الآيتان تخاطب جميع اليهود على اختلاف أدوارهم في التاريخ عموماً.
نلاحظ أيضاً أن كلمة شفاعة جاءت منكّرة، والشفاعة في القرآن تأتي عادة معرّفة (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ﴿109﴾ طه). فالشفاعة هناك معروفة وهي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما نكَّرها قال (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ) والشفاعة المنكّرة تعني أن هناك شفاعات وأنواع متعددة من الشفاعات، فالشفاعات في الإسلام كثيرة أهمها وأعظمها وأكرمها وأوفاها الشفاعة الكبرى شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم :(شفاعتي حق لأهل الكبائر من أمتي)، (قم يا محمد فاشفع تشفع)، هذه الشفاعة الكبرى، ولكن هناك شفاعات أخرى إلى جانب هذه الشفاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (للشهيد شفاعة، يشفع لسبعين من أهل بيته)، هناك المُسِنّ المؤمن، إذا بلغ المؤمن تسعين عاماً يعني مات بعد التسعين شفَّعه الله في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار، العالم العامل يشفع في عشرة من أهل بيته، الزهراوان البقرة وآل عمران يشفعان، رمضان يشفع، قيام الليل القرآن الكريم يشفع، وهكذا شفاعات كثيرة.
فرب العالمين أوردها في هذه الآية نكرة، فقال :(وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ)، يعني أيّ شفاعة كانت من الشفاعات لا تنفع من لا يتقي ذلك اليوم، ولا يحسب له حساباً، ولا يعمل له، وإنما يكون كل همِّه في الدنيا كهمِّ بني إسرائيل عموماً. الخطاب لبني إسرائيل، وبنو إسرائيل أبصر الناس بالحياة، ما من أحد بصير بالحياة كبني إسرائيل، وهذا شيء معروف، والتطبيق العملي أمام أعيننا جميعاً فهم الآن في العالم يحكمون العالم كله، ما من بقعة ولا دولة في العالم إلا ولليهود عليها دالة. هؤلاء قال الله فيهم (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴿24﴾ يونس) وأهل الدنيا هم اليهود حيث إن الله أخبرنا بأنهم سوف يعلون علواً كبيراً بحيث يكون سلطانهم على جميع سكان الأرض كما هو الحال اليوم، وهذا من علامات القيامة كما في الآية.
آية (47):
*ما دلالة تفضيل بني إسرائيل (وأني فضلتكم على العالمين)؟(د.حسام النعيمى)
(وأني فضلتكم على العالمين) هؤلاء أتباع موسى (عليه السلام) في زمانه قبل مجيء عيسى (عليه السلام) ، وأتباع كل نبي مفضّلون على العالمين في زمانهم، قبل أن يأتي النبي الآخر، وليس العالمين إلى قيام الساعة .
*قال تعالى فى سورة لقمان (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) وفي البقرة قال (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً (48) البقرة) فما الفرق بين الوالد والولد والنفس؟(د.فاضل السامرائى)
لا ننسى أنه في سورة لقمان ذكر الوالدين والوصية بهما (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)، والسورة تحمل اسم لقمان وهي مأخوذة من موقف وموعظة لقمان لابنه، وكيف أوصاه؟ ووصية ربنا بالوالدين، وذكر الوالد والولد، وهي داخل وصية لقمان لابنه، فهذا مناسب لاسم السورة، وما ورد فيها من الإحسان إلى الوالدين، والبر بهما، ومصاحبتهما في الدنيا معروفاً، وفي البقرة لم يذكر هذا.
ومع أنه قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فقد ذكّر أن هذا خاص بالدنيا.
في هذه الآية (لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذا في الآخرة ، والمصاحبة بالمعروف والإحسان إليهما، وما وصى به في السورة لا يمتد إلى الآخرة (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) الإحسان مرتبط بالدنيا فقط، فلا يتوقع الأب أن ولده سيجزي عنه في الآخرة، عليه أن لا يتوقع ذلك، فهذه المصاحبة ستنقطع في الدنيا، فهذه مناسبة لقطع أطماع الوالديْن المشركيْن إذا كان ولدهما مؤمناً، فلا ينفع عنهما ولا يدفع، ولا يجزي عنهما شيئاً في الآخرة، فكل هذا مناسب لما ورد في السورة من ذكر الوالدين، والأمر بالمصاحبة لهما، ونحوه.
*في قوله تعالى فى سورة لقمان(وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذه جملة صفة، والقياس كما نعلم أنه في جملة الصفة لا يجزي فيه والد عن ولده كما قال (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) البقرة) (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) النور) فما الفرق؟(د.فاضل السامرائى)
جملة الصفة يكون فيها عائد يعود على الموصوف، وهو ضمير قد يكون مذكوراً وقد يكون مقدّراً، وهو هنا مقدر، يعني النحاة يقدرون لا يجزي فيه، لأنه ذكرها في مواطن أخرى (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ) يبقى أن نسأل: لماذا اختار عدم الذكر؟ الأمران جائزان وقد ذكرا في مواطن.
وعادة الحذف يفيد الإطلاق عموماً، يعني فلان يسمعك، أو فلان يسمع، يسمع أعم، يقول الحق أو يقول، يقول أعم، يعطي المال أو يعطي، يعطي أعمّ، فعدم ذكر المتعلقات يفيد الإطلاق،. فهو لم يذكر (فيه) لأنه أراد الإطلاق. والسؤال لماذا لم يذكر هنا وذكر في مواطن أخرى؟
لو جزى والد عن ولده(بدون فيه) ، فهل يختص هذا الجزاء بهذا اليوم أو بما بعده؟ الجزاء سيكون في هذا اليوم ، وإنما أثر الجزاء سيمتد، وهو الجنة، ولذلك حيثما قال لا يجزي، لم يقل (فيه) في كل القرآن مثال: (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48) البقرة) لم يقل (فيه)، (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123) البقرة) بخلاف الآيات التي فيها (فيه) (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) البقرة) توفى في ذلك اليوم، فإما أن يذهب للجنة وإما إلى النار. (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) في ذلك اليوم، وبعده لا تتقلب؛ لأنهم يذهبون للجنة.
فذِكر (فيه) خصصه باليوم فقط حين قال (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) توفية الحساب في يوم هو يوم القيامة، وأثر التوفية إما أن يذهب إلى الجنة وإما إلى النار، وتقلّب القلوب والأبصار في يوم القيامة ثم يذهب الناس إلى الجنة، ولا يعود هناك تقلب قلوب ولا أبصار.
فلو جزى والدٌ عن ولده لكان أثر الجزاء غير خاص بذلك اليوم، وإنما يمتد إلى الخلود، إلى الأبد؛ ولذلك لم يذكر (فيه) وأخرجه مخرج الإطلاق، وحيثما قال لا تجزي لم يقل (فيه)، لنفي المتعلق، وما يترتب عليها فيما بعد.
*ما اللمسة البيانية في تذكير كلمة شفاعة مرة وتأنيثها مرة أخرى في سورة البقرة؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ {48}) وقال في نفس السورة (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ {123}).جاءت الآية الأولى بتذكير فعل (يقبل) مع الشفاعة بينما جاء الفعل (تنفعها) مؤنثاً مع كلمة الشفاعة نفسها.
الحقيقة أن الفعل (يقبل) لم يُذكّر مع الشفاعة إلا في الآية 123 من سورة البقرة، والمقصود هنا أنها جاءت لمن سيشفع، بمعنى أنه لن يُقبل ممن سيشفع أو من ذي الشفاعة.
أما في الآية الثانية، فالمقصود أن الشفاعة نفسها لن تنفع، وليس الكلام عن الشفيع.
وقد وردت كلمة الشفاعة مع الفعل المؤنث في القرآن الكريم في آيات أخرى منها في سورة يس (أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ {23})، وسورة النجم (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى {26}).
وفي لغة العرب يجوز تذكير وتأنيث الفعل مع المؤنث المجازي، وينظر في ذلك للمعنى، والأمثلة في القرآن كثيرة منها قوله تعالى في سورة الأنعام (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {11}) وسورة يونس (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ {73}) والمقصود بالعاقبة هنا محل العذاب فجاء الفعل مذكراً، أما في قوله تعالى في سورة الأنعام (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {135})، سوة القصص (وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {37}) فقد جاء الفعل مؤنثاً؛ لأن المقصود هو الجنّة نفسها.
آية (48):
*ما دلالة الاختلاف في الشفاعة والعدل بين آيتي سورة البقرة (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)) و (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123))؟
*د.حسام النعيمى :
العدل معناه ما يعادل الجُرم الذي هو الفدية، وإيصال هذا المال أو المبلغ لمستحقه في حال قيام الإنسان بجريمة أو ما شابه لأهل المرتكب عليه الجريمة، أو الشخص نفسه.
والإيصال له أسلوبان: الأول أن يرسل وفد صلح وشفاعة حتى يقبلوا ما يقدمه لهم، فيبدؤوا أولاً بإرسال الوفد ثم يذهب بالفدية أو المقابل، والصورة الأخرى أن يذهب ابتداء فيقدم ما عنده، فإذا رفض يذهب ويأتي بوسطاء يشفعون له.
الآيتان كل واحدة منهما نظرت إلى صورة، فنُفي الصورتان عن القبول فيما يتعلق بالأمم التي آمنت قبل اليهود بشكل خاص حتى يؤمنوا بالله تعالى ورسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) وبكتابه.
الآية الأولى (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)) هذه الصورة الأولى: الشفاعة لا تقبل، والفدية لا تؤخذ. الآية (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)) هذه الصورة الثانية. نجمع بين الآيتين على بعد ما بينهما، فهذه نظرت في صورة، وهذه نظرت في صورة، فانتفت كلتا الصورتين، يعني لا يمكن أن يقبل منكم إلا أن تتبعوا هذا النبي، لا تقدموا فداء، ولا تأتوا بالشفاعة، هذا كله لا يُقبل، والذي يقبل منكم هو الإيمان بما أنزلت مصدقاً لما معك.
(لا يقبل منها) استعمل المذكر (يقبل) مع الشفاعة، والشفاعة مؤنثة حتى تكون الشفاعة مطلقة.
وقد فصل بين الفعل والمؤنث المجازي التأنيث، ومع المؤنث الحقيقي إذا كان هناك فصل يجوز التذكير والتأنيث، تقول ذهب إلى الجامعة فاطمة، وذهبت إلى الجامعة فاطمة. لكن ذهبت فاطمة لا يجوز غير هذا.
أما المؤنث المجازي فتقول: طلعت الشمس، وطلع الشمس ابتداء، فهنا مؤنث مجازي.
ومع ذلك فصل في الآية حتى يكون الكلام عاماً عن الشفاعة أياً كانت ليس لتأنيثها، وإنما جعلها عامة يعني لا يقبل منها أي شيء من أشياء الشفاعة.
كأنه نوع من التيئيس؛ لأن الإنسان إذا إرتكب جرماً، إما أن يذهب بالعدل، أي المال المقابل للجرم إلى القبيلة، فإذا رُفِض يذهب ويأتي بالشفعاء، أو العكس: يأتي بالشفعاء أولاً حتى يقبلوا العدل منه، فالقرآن الكريم يأّس بني إسرائيل من الحالتين، لا يقبل منكم عدل ابتداء، وبعده شفاعة، ولا شفاعة ابتداء ثم يأتي العدل بعد ذلك، لا ينفعكم إلا أن تتبعوا محمداً (صلى الله عليه وسلم).
آية (49):
*(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ (49) البقرة)ما دلالة كلمة آل وليس أهل؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
الآل هم الأهل والأقارب والعشيرة، وكلمة آل لا تضاف إلا لما له شأن وشرف دنيوي ممن يعقل، فلا تستطيع مثلاً أن تقول: آل الجاني بل تقول أهل الجاني.
آية
(49):
* ما الفرق بين ( يذبّحون)فى الآية (49)من سورة البقرة و(ويذبّحون) فى الآية (6)من سورة إبراهيم ؟(د.فاضل السامرائى)
في سورة البقرة قال تعالى (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49))، وفي سورة إبراهيم قال تعالى (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)).
في البقرة جعل سوء العذاب هو تذبيح الأبناء (على سبيل البَدَل)، (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب)، ما سوء العذاب؟ (يذبحون أبناءكم) ، هذه الجملة بدل لما قبلها فسّرتها ووضحتها، البدل يكون في الأسماء والأفعال وفي الجُمَل.
في سورة إبراهيم قال (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ) هنا ذكر أمرين سوء العذاب بالتذبيح، وبغير التذبيح، سيدنا موسى (عليه السلام) يقول لبني إسرائيل: إن الله سبحانه تعالى أنجاهم من آل فرعون من أمرين: يسومونكم سوء العذاب هذا أمر، والتذبيح هذا أمر آخر، كان التعذيب لهم بالتذبيح، وغير التذبيح باتخاذهم عبيداً وعمالاً وخدماً، فيعذبونهم بأمرين وليس فقط بالتذبيح .
موسى (عليه السلام) يذكِّرهم بنعم الله عليهم ( اذكروا نعمة الله عليكم) فيذكر لهم أموراً، ربنا تعالى قال في سورة البقرة (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، وفي إبراهيم قال على لسان سيدنا موسى (إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، أنجاكم ولم يقل نجّاكم، وهناك فرق بين فعّل وأفعل، نجّى يفيد التمهل والتلبّث والبقاء مثل علّم ، علّم تحتاج إلى وقت، أما أعلم فهو إخبار، فعّل فيها تمهل وتلبّث، موسى(عليه السلام) يعدد النعم عليهم فقال (أنجاكم) فأنهى الموضوع بسرعة، كما قال (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (50) البقرة)؛ لأنهم لم يمكثوافي البحر طويلاً، فقال أنجيناكم. حتى في إبراهيم قال (فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ (24) العنكبوت)لم يقل نجّاه؛ لأنه لم يلبث كثيراً في النار.
سؤال:عندما عدّد الله تعالى النعم على بني إسرائيل (وإذ نجيناكم) معنى هذا أنه أمهلهم في العذاب فترة؟
هم بقوا فترة، وهذا واقع الأمر، أما سيدنا موسى (عليه السلام) حينما كان يعدد فقد قال (أنجاكم) يعني خلّصكم منها.
سؤال : ربما يقول قائل حينما تأتي الآية (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)) تقولون إنها بَدَل، وعندما تأتي الآية (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)) تقولون إن هذه غير تلك؟
الواو عاطفة، وأظن أن الذي في الدراسة الابتدائية يعلم أن الواو عاطفة، ربما يقول بعضهم إن السياق واحد، وإنما التعبير مختلف، وهذا ينبغي أن يوحي بملاحظة أو علامة استفهام أمام هذا التغير، حتى في واقع الحياة أنت تذكر لشخص أموراً ولا تذكر أموراً أخرى، لا تحب أن تشرحها كثيراً، وفي موقف آخر تقولها، الآيات تتكامل مع بعضها، وتضيف إطاراً آخر، حتى تكتمل ملامح الصورة ولا تتعارض.
* ما الفرق بين الأبناء والأولاد؟(د.فاضل السامرائى)
الأبناء أي الذكور جمع ابن بالتذكير، مثل قوله تعالى (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ (49) البقرة)، والأولاد جمع ولد وهي عامة للذكر والأنثى (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (11) النساء) الذكر والأنثى (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ (233) البقرة) والإرضاع للذكور والإناث.
آية (50):
*ما اللمسة البيانية في ورود لفظة اليم 8 مرات في قصة موسى، وورود لفظة البحر 8 مرات في القصة نفسها، وورود لفظة البحرين مرة واحدة؟(د.فاضل السامرائى)
القرآن الكريم يستعمل اليم والبحر في موقفين متشابهين، كما في قصة موسى (عليه السلام) ، مرة يستعمل اليم، ومرة يستعمل البحر في القصة نفسها.
اليمّ كما يقول أهل اللغة المحدثون عبرانية وسريانية وأكادية، وهي في العبرانية (يمّا) وفي الأكادية (يمو)، واليمّ وردت كلها في قصة موسى، ولم ترد في موطن آخر، ومن التناسب اللطيف أن ترد في قصة العبرانيين، وهي كلمة عبرانية الأصل، لكن من الملاحظ أن القرآن لم يستعمل اليم إلا في مقام الخوف والعقوبة، ولم يستعملها في مقام النجاة، أما البحر فكلمة عامة، قد يستعملها في مقام النجاة أو العقوبة.
قال تعالى (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (7) القصص) هذا خوف، (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (136) الأعراف) ، (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) طه) هذه عقوبة.
أما البحر فعامة، استعملها في النِعم لبني إسرائيل وغيرهم ،في نجاة بني إسرائيل استعمل البحر
آية (51):
* ما الفرق بين قوله تعالى (وواعدنا موسى أربعين ليلة) وقوله (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)؟
د.فاضل السامرائى:
قال تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ {51})، وقال في سورة الأعراف (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ {142}) .
آية فيها إجمال، وآية فيها تفصيل، لكن لماذا الإجمال في موضع، والتفصيل في موضع آخر؟ لو عدنا إلى سياق سورة البقرة نجد أنه ورد فيها هذه الآية فقط في هذا المجال، بينما المشهد نفسه في سورة الأعراف فيه تفصيل كبير من قوله تعالى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ {142})، إلى قوله (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ {145})، والكلام طويل، والقصة والأحداث في المواعدة مفصلة أكثر في الأعراف، ولم تذكر في البقرة؛ لأن المسألة في البقرة فيها إيجاز، فناسب التفصيل تفصيل سورة الأعراف، والإيجاز إيجاز سورة البقرة.
د.أحمد الكبيسى:
قال الله ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴿51﴾ البقرة) ، وفي آية أخرى قال (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴿142﴾ الأعراف) لماذا مرة أربعين ومرة ثلاثين زائد عشرة؟ ما الحكمة؟
فعلاً بحثنا عنها في كل مكان فلم نجدها. والذي حصل ما يلي: كلهم قالوا إن الله في الحقيقة قال لموسى: صم، فلا ينبغي ولا يليق بك أن تقابل الله عز وجل ، وأن تكلمه وأنت مليء بالطعام والغازات، فرب العالمين سبحانه وتعالى أراد أن يهيئ سيدنا موسى تهيئة كاملة بحيث يستطيع أن يصمد أمام تلك الحالة الوحيدة الفريدة له في التاريخ، وهو أن الله كلّمه.
في الآية الأساسية الأولى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً) قال الله يا موسى صم ثلاثين ليلة، وفعلاً شهر الصوم في كل الأديان شهر، ولما صام ثلاثين يوما جلس حوالي يوم كامل يفرك أسنانه وينظفها، وينظف رائحة فمه، إذ سيكلمه رب العالمين وجهاً لوجه، فهذا اختراع من سيدنا موسى هداه إليه عقله والتفكير البشري المنطقي. كلنا حين تقابل أنت وجيها، تقابل أميرا، تقابل شيخا تضع عطراً، وتنظف ملابسك حتى تليق بمقابلة الملوك، فما بالك بملك الملوك؟! سيدنا موسى فعلاً تعطر وتزين، وغير من شكله، مقابلة ملكية، يا الله !! مقابلة تاريخية لم يحظَ بها إلا موسى من جميع بني آدم إلى يوم القيامة.
ونظف موسى أسنانه بالتراب، فلما فجاء سيدنا موسى إلى رب العالمين كأنه عريس، قال الله له: ما الذي فعلته؟ – فيما معناه طبعاً، هذا كلامنا، نحن نشرح- قال أنا أتيت لأكلمك، فقال له: أنا أمرتك بالصيام لكي أشم رائحة فمك (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك)، كل عطور الدنيا لا تساوي عندي وأنا رب العالمين، نفحة من نفحات فمك التي ترونها غير لائقة، أنا أراها مسكا، أطيب عندي من رائحة المسك، لأنه ما من عبادة أحب إليَّ من عبادة الصيام (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) فأنا أحب أن أشم رائحته – بما يليق به سبحانه وتعالى- رائحة فم الصائم التي تضايقنا نحن هي عند الله خيرٌ من كل عطور الدنيا، فقال له اذهب فصم عشرة أيام أخرى، ولا تنظف فمك وتعال. واضح إذاً الفرق (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ)، ثم قال الله (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴿142﴾ الأعراف).
آية (53):
*(وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) البقرة) ما الفرق بين الكتاب والفرقان؟ في سورة القصص (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)) لم يذكر الفرقان وذكره في آية البقرة فلماذا؟(د.فاضل السامرائى)
الكتاب هو التوراة، والفرقان هي المعجزات التي أوتيها موسى كالعصى والمعجزات الأخرى، وهي تسع آيات، والفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل.
لكن السؤال: لماذا قال في الأولى: الكتاب والفرقان، وفي الثانية قال الكتاب فقط؟
قلنا: السياق هو الذي يحدد، الأولى جاءت في سياق الكلام عن بني إسرائيل (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ (40) البقرة)، أما الثانية فقال (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ)، فمن الذي شاهد الفرقان؟ شاهده بنو إسرائيل وفرعون الذين كانوا حاضرين، لكن الناس الآخرين لم يشاهدوا هذا الشيء، فلما قال: بصائر للناس لم يقل الفرقان؛ لأنهم لم يشاهدوا هذا الشيء، لكن لما خاطبهم قال (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، كان الخطاب لهم فهم الذين شاهدوا، فلما تكلم مع بني إسرائيل خصوصاً قال الكتاب والفرقان، ولما قال بصائر للناس قال الكتاب، الفرقان ذهب، وبقي الكتاب، والكتاب بصائر للناس، وكثير من الناس لم يشاهدوا هذه المعجزات، الذين شاهدها هم الحاضرون، والباقون لم يشاهدوها، فهو يريد أن يركز؛ لذلك يختار الكلمات بحيث يتضح المراد منها.
م يستعمل اليم. واستعمل البحر في النجاة والإغراق (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ (50) البقرة)، استعملها في الإغراق والإنجاء (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) أي أنجيناهم.
واليم يستعمل للماء الكثير، وإن كان نهراً كبيراً واسعاً، ويستعمل للبحر أيضاً.
واللغة تفرق بين البحر والنهر واليم: النهر أصغر من البحر، والقرآن أطلق اليم على الماء الكثير، ويشتق من اليم ما لم يشتق من البحر (ميموم)، والعرب لا تجمع كلمة يم فهي مفردة، وقالوا لم يسمع لها جمع، ولا يقاس لها جمع، وإنما جمعت كلمة بحر (أبحر وبحار)، واستعمال كلمة يم في الخوف والعقوبة من خصوصية الاستعمال في القرآن.
آية (57):
*(وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) البقرة) تقدّم المفعول به وهو (أنفسهم) على الفعل وهو (يظلمون)، أفكان التقديم لتناسب الفاصلة القرآنية وحسب، أم كان لنكتة بلاغية ولغوية؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
إن في تقديم المفعول به على فعله تأكيداً وتنويهاً: فيه تأكيد على أن حالهم كحال الجاهل بنفسه، فالجاهل يفعل بنفسه ما يفعله العدو بعدوّه، وفيه تنويه لك أيها المسلم أن الخروج من طاعة الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً فيه ظلم، ولكنه ظلمٌ لنفسك قبل ظلمك لغيرك.
* ما الفرق بين قوله تعالى فى سورة البقرة(وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)وفي آل عمران (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) آل عمران) بدون (كانوا) ؟(د.فاضل السامرائى)
في عموم القرآن إذا تكلم عن الحال وليس الماضي يطلق فيقول (أنفسهم يظلمون) ، وحين يتكلم عن الأقوام البائدة القديمة الماضية يقول (كانوا أنفسهم يظلمون).
آية (58):
*(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً (58) البقرة) وفي آية أخرى (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ (161) الأعراف) فما الفرق بينهما؟
*د.فاضل السامرائى:-
هنالك أكثر من مسألة في اختلاف التعبير بين هاتين الآيتين، إحدى الآيتين في البقرة، والثانية في الأعراف.
آية البقرة (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58))، وفي الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)).
لو أردنا أن نُجمِل الاختلاف بين الآيتين:
سورة البقرة سورة الأعراف
(وإذ قلنا) (وإذ قيل لهم) بالبناء للمجهول
(ادخلوا هذه القرية) (اسكنوا هذه القرية)
(فكلوا) (وكلوا)
(رغداً) لم يذكر رغداً لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم.
(وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطة) (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً) قدم القول على الدخول
(نغفر لكم خطاياكم) (نغفر لكم خطيئاتكم)
(وسنزيد المحسنين) (سنزيد المحسنين)
قلنا في أكثر من مناسبة إن الآية يجب أن توضع في سياقها لتتضح الأمور والمعنى والمقصود:
آية البقرة في مقام تكريم بني إسرائيل، بدأ الكلام معهم بقوله سبحانه (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) البقرة) والعالمون هنا أي قومهم في زمانهم، وليس على كل العالمين الآن، يعني فضلناكم على العالمين في وقتهم وليس كل العالمين.
إذًا السياق في البقرة في مقام التكريم يذكرهم بالنعم، وفي الأعراف في مقام التقريع والتأنيب، فهم خرجوا من البحر، ورأوا أصناماً، فقالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، وعبدوا العجل، وهذا لم يذكره في البقرة، وانتهكوا حرمة السبت، فالسياق ورد في غير سياق التكريم، وإنما في سياق التقريع والتأنيب، وذكر جملة من معاصيهم.
قال في البقرة (وإذ قلنا) بإسناد القول إلى نفسه سبحانه وتعالى، وهذا يكون في مقام التكريم، وبناه للمجهول في الأعراف للتقريع (وإذ قيل لهم)، مثل أوتوا الكتاب وآتيناهم الكتاب، فأوتوا الكتاب في مقام الذم.
قال (ادخلوا القرية فكلوا) في البقرة: فكلوا، الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، يعني الأكل مهيأ بمجرد الدخول ادخلوا فكلوا، أما في الأعراف (اسكنوا وكلوا) والدخول ليس سكناً، فقد تكون ماراً.
ولم يأت بالفاء بعد السكن، أما في البقرة فالفاء للتعقيب الأكل بعد الدخول.
(وكلوا) الواو تفيد مطلق الجمع متقدما أو متأخرا، ففي البقرة الأكل مهيأ بعد الدخول، أما في الأعراف فالأكل بعد السكن، ولا يدرى متى يكون؟ والأكرم أن يقول ادخلوا فكلوا.
وقال (رغداً) في البقرة، ولم يقلها في الأعراف؛ لأنها في مقام تقريع، ورغداً تستعمل للين العيش ورخائه، فرغداً تتناسب مع التكريم.
(وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ) يعني حُطّ عنا ذنوبنا، من حطّ يحط حطة، أي ارفع عنا، قدّم السجود على القول، فالسجود أفضل من القول؛ لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فقدّم ما هو أفضل (وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ)، إضافة إلى أن السياق في البقرة في الصلاة، قال (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) البقرة)، والسجود من أركان الصلاة، وقال بعدها أيضاً (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) البقرة) السياق في الصلاة، فتقديم السجود هو المناسب للسياق والمقام.
أما في الأعراف (وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا)، فقد جاء بالسجود بعد القول.
في البقرة قال نغفر لكم خطاياكم، وهو جمع كثرة، وفي الأعراف خطيئاتكم جمع قلة، وجمع المذكر السالم يفيد القلة إذا كان معه جمع كثرة، وإذا لم يكن معه جمع كثرة فإنه يستعمل للكثرة والقلة مثل سنبلات وسنابل.
خطايا جمع كثرة وخطيئات جمع قلة، كافرات وكوافر كافرات جمع قلة وكوافر جمع كثرة. فمادام هناك جمع كثرة الأصل في جمع السالم مذكرا أو مؤنثا أن يكون للقلة.
فإذًا خطايا جمع كثرة، وخطيئات جمع قلة، نغفر لكم خطاياكم وإن كثرت، خطيئاتكم قليلة، أيهما الأكرم؟ خطاياكم أكرم. فآية الأعراف لم تحدد أن خطاياهم قليلة، لكن ما غُفر منها قليل إذا ما قورن بآية البقرة.
في آية البقرة يغفر كل الخطايا، أما في الأعراف فيغفر قسماً منها.
وقال في البقرة (وسنزيد المحسنين) جاء بالواو الدالة على الاهتمام والتنويه، وقال في الأعراف (سنزيد المحسنين) بدون الواو.
وهنالك أمور أخرى في السياق لكننا نجيب على قدر السؤال.
الخطاب في الآيتين من الله تعالى إلى بني إسرائيل، والأمر بالدخول للقرية والأكل واحد، لكن التكريم والتقريع مختلف والسياق مختلف.
حتى نفهم آية واحدة في القرآن يجب أن نضعها في سياقها، لا ينبغي أن نفصلها، وإذا أردنا أن نفسرها تفسيراً بيانياً نضعها في سياقها، وقال القدامى السياق من أهم القرائن.
لا يكفي أن نقول: مرة قال: وكلوا، ومرة فكلوا؛ لأنه يبقى السؤال لماذا قال؟
هي في الحالين حرف عطف، لكن حرف العطف يختلف، أقبل محمد لا خالد، وأقبل محمد وخالد، ما أقبل محمد بل خالد، كلها عاطفة لكن كل واحدة لها معنىً.
,(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً (58) البقرة)
آية أخرى (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ (161) الأعراف) فما الفرق بينهما؟
سورة البقرة وسورة الأعراف
آيتان من آيات بني إسرائيل، يقول تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿58﴾ البقرة) نفس الآية بالضبط ، جاءت في سورة الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ﴿161﴾ الأعراف)
(وإذ قلنا) (وإذ قيل لهم)
(ادخلوا هذه القرية) (اسكنوا هذه القرية)
(فكلوا) بالفاء (وكلوا) بالواو
(نغفر لكم خطاياكم) (نغفر لكم خطيئاتكم)
(وسنزيد المحسنين) فيها واو (سنزيد المحسنين)
(ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة) (قولوا حطة وادخلوا الباب سجداً)
هذه مجمل الاختلافات بين الآيتين، وكلها تدور في حدثٍ واحد، في مقطعٍ واحد، في أرضٍ واحدة، ولكن تركيب الآية أو الصياغة اللفظية يختلف اختلافاً شديداً بين الآيتين، وهذا ليس عبثاً.
وكما نعلم أن هذا هو المتشابه، وكل اختلافٍ من هذه الاختلافات يعطيك جانباً من الصورة، إذا ألممت بها كثيراً، فإنك حينئذٍ تكون قد عرفت تفاصيل القصة.
o لنبدأ هنا في آية البقرة، الله تعالى يقول لبني إسرائيل (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا) وإذ قلنا، في الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ)، في البداية لما تاهوا وقالوا يا موسى نحن جُعنا (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ﴿61﴾ البقرة) وشكوا له – رب العالمين أمرهم، قال (وَإِذْ قُلْنَا) لهم نحن الله عز وجل، قلنا لهم (ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ)، وهي بيت المقدس كما تقول أصح الروايات لأن آية أخرى تقول (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ﴿21﴾ المائدة) فهي إذاً بيت المقدس. ولكنكم تعرفون أن بني إسرائيل ليسوا طيّعين ولا طائعين، بل هم أهل نقاش وجدل، فانظر فى قصة البقرة قالوا: ما لونها وما هي الخ، أهل لجاجة كما هم اليوم، فاليوم كل العالم يعلم أن أي مفاوضات مع اليهود لا تخرج منها بنتيجة لشدة ولعهم بالدوران والفر والكر والألفاظ المموهة، والألفاظ التي تحتمل معنيين ليسوا صريحين. وبدأ أنبياؤهم الواحد تلو الآخر يحثونهم (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) عن طرق أنبيائهم، في البقرة رب العالمين قال (قُلْنَا) حين كان سيدنا موسى موجوداً، ثم في الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ) على لسان سيدنا موسى، ثم على لسان الأنبياء، يا جماعة، ألم يقل رب العالمين ادخلوا؟ ادخلوا، وكما تعرفون القصة (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا ﴿22﴾ المائدة) . فالقرآن وضّح هذا من كثرة تكرار الأنبياء لهم بعد سيدنا موسى قال (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ). هذا هو الفرق بين الآيتين.
o اللقطة الثانية: في البقرة (ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ)، وفي الأعراف (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) والفرق واضح ادخلوا في البداية، رب العالمين أمركم أن تدخلوا هذه القرية. فهل الدخول مؤقت؟ يوم يومين؟ قال: بل تستقرون بها نهائياً، اسكنوا فيها. قال رب العالمين لسيدنا آدم (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴿35﴾ البقرة) فهذه القرية إذاً فيها سكنكم وطمأنينتكم ومستقبلكم، فهذا هو وطنكم .إذا في البداية أمر بالدخول، ثم ماذا بعد الدخول؟ نخرج؟ أحياناً كما تعلمون رب العالمين يأمر الأنبياء بالهجرة ،هنا قال: لا إذا دخلتم هذه القرية، فإنها آخر قرية – ونحن قلنا القرية في القرآن يعني المجتمع، كل مدينة كل قطر كل كتلة بشرية تسمى قرية – فلما قال رب العالمين (ادخلوا) في البداية ، قال بعدها (اسْكُنُوا) يعني بعد أن تدخلوا لا تفكروا بالخروج منها، وإنما اسكنوا بها بشكل نهائي، هذا الفرق بين (ادْخُلُوا) وبين (اسْكُنُوا).
o مرة قال (فَكُلُوا مِنْهَا)، ومرة قال (وَكُلُوا مِنْهَا) بالواو، انظر إلى دقة القرآن الكريم، لما شكوا له من الجوع، وقالوا: ابعث لنا شيئاً نأكله (مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا)، قال (ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا)؛ لأنهم جائعون، وحينئذٍ ادخلوا هذه القرية، وبسبب هذا الدخول سوف تأكلون (ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا)، هذا بعد أن دخلوا لأول مرة، فلما سكنوا كانوا كلما جاعوا يأكلون، قال (وَكُلُوا) إذاً فهو مستمر، ولاحظ أيضاً في البقرة قال: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا)، فلعل ذلك الدخول كان في موسم في غاية الثراء من حيث الموسم الزراعي، لكن في الأعراف لم يقل رغداً؛ لأنه يكون مرة رغداً، ومرة ليس رغداً، مرة هناك مطر، ومرة لا يوجد مطر، مرة يوجد نبات، ومرة لا يوجد نبات.
o ثم قال رب العالمين (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)، وفي الأعراف (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)، والباب باب المسجد، فلما قال (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) يعني ادخلوا الباب وقولوا: اللهم حُطَّ عنا خطايانا؛ لأن خطايا بني إسرائيل كثيرة جداً من زمن سيدنا موسى إلى اليوم، ما من أهل دين عصوا أنبياءهم وقتلوهم وشردوهم، واتهموهم باللواطة وبالزنا، كما فعل اليهود بأنبيائهم. قال الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى ﴿69﴾ الأحزاب)، فلم يتركوا نبيا إلا آذوه، ولهذا يقول الله (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) للخضوع والخشوع والتذلل، حتى نغفر لكم (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)، هكذا كأنكم راكعون أو ساجدون زحفاً، وقولوا: يا رب حط عنا، يا رب حط عنا الخطايا، وفي الحديث أن التوبة تقتضي تذللاً فما من تائب يقول يا رب اغفر لي بتذلل، يقول اللهم أنت ربي، أنت رب العالمين، خلقتني وأنا عبدك، بالتذلل والتضرع، التذلل باللسان (وَقُولُوا حِطَّةٌ) ربنا حط عنا خطايانا، وقال ( سُجَّدًا) يعني خاشعين، وهذه هي عناصر التوبة، فإذا أردت أن تتوب، فإن عليك أن تتذلل وتتضرع إلى الله بلسانك، ربي اغفر لي، يا أرحم الراحمين، إنك الغفور الرحيم، وقلبك في غاية الخشوع مع الله سبحانه وتعالى، وهذه من علامات قبول التوبة.
إذاً الآية تقول (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ) ادخل وقل يا ربي اغفر لي، لكن في الأعراف (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)، معنى ذلك أنت عليك أن تستغفر الله عز وجل قبل الدخول، وأثناءه، وبعده، وحتى عند المسلمين (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) كل حاجاتك إذا أردت أن يوفقك الله إليها من أقصر الطرق فعليك بكثرة الاستغفار (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ﴿10﴾ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ﴿11﴾ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴿12﴾ نوح) ومعنى هذا أن الاستغفار يأتي بالرزق، ويزيل الهم، ويفرج الكروب، ويأتي بالخصب، ويأتي بالبهجة والرغد.
فلما أراد رب العالمين أن يتوب عليهم، وقد ساءت أعمالهم، قال (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)، يعني: أنتم عندما تدخلون المسجد، ائتوه وأنتم تزحفون ساجدين، وقولوا رب اغفر رب اغفر، حطة، حط عنا يا رب العالمين، فإذا دخلتم المسجد استمروا بهذا.
إذاً (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ)، (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)، واختلاف التقديم والتأخير يقوم برسم مقطعين مختلفين في هذه القصة.
o في سورة البقرة (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)، في الأعراف (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ) ما الفرق؟ كل واحد منا ذنوبه لا تحصى من ساعة أن يبلغ الخامسة العشرة إلى أن يبلغ المائة، لا يمر يوم إلا وعنده خطيئة، لا يمكن أن يمر يوم إلا وعندك خطيئة، حتى لو أنك اغتبت أحداً بمزحة، أو أن عندك جارا جائعا ما أنصفته، ليس معقولا أنك لم تتكلم مع أبويك مرة بغلظة، ليس معقولا أنك لم تسئ إلى زوجتك أو أهلك مرة، لا بد أن يكون عندك ذنب، فذنوبنا كالرمل، كل واحد منا في حياته ذنوب يئن منها ليل نهار، وعندما يموت يتذكر أنه قتل فلانا، وفي يوم من الأيام كفَّر فلانا، وفي يوم من الأيام أكل مال فلان، وفي يوم من الأيام لم يصل، وفي يوم عق والديه، هذه الكبائر التي هي مفاصل ومعالم على طريق العمر.
o عندما نقرأ عن الخلفاء والملوك العرب، والملك خاصة إذا كان يخاف الله ويؤمن باليوم الآخر عندما يأوي إلى الفراش يئن من ذنب فعله، هكذا كل من له ذنوب كبيرة يذكرها ساعة الاحتضار إذا ما تاب عنها.
في الآية الأولى قال (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) كلها بدون تعداد، ربما يكون واحد منهم شك، فقال: لكن خطاياكم شيء، وأنا كوني قتلت فلانا شيء آخر؛ لأن بني إسرائيل عندهم جرائم رهيبة، ورب العالمين أحياناً سلط بعضهم على بعض (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿54﴾ البقرة) يعني عاقبهم عقاباً، فأرسل عليهم زوبعة هائلة، بحيث لا يرى الواحد الآخر، فقتل بعضهم بعضاً بالسيوف، قُتل حوالي سبعون ألفا، هذه ذنوب خطيرة، ذنوب تتعلق بسيدنا موسى حين ذهب لكي يقابل رب العالمين فعبدوا العجل! من ينسى هذه الجريمة؟ اتخذوا العجل (قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ ﴿138﴾ الأعراف)، جرائم خطيرة، عندهم حوالي سبع أو ثماني جرائم عددها القرآن الكريم من الموبقات.
هذه خطيئات معدودة، وجملة الذنوب سماها خطايا، والخطايا كل ذنوبنا التي هي معالم خطيرة في حياتك تئن منها عند الموت، لذلك قال: (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) كلها، ثم قال حتى تلك الخطايا الرهيبة وهي الخطيئات لأنها معدودة محددة معروفة لا ينساها العبد، ويتذكرها جيداً وهو على فراش الموت، وهي التي تهلكه وتوبقه يوم القيامة.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والسبع الموبقات) قال: الموبقات، ولم يقل الموبقة، وفعلاً الكبائر حوالي سبعين ثمانين، لكن هذه الموبقات المهلكات سبعة وهي قتل النفس، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم إلخ، أما الغيبة والحقد والكراهية والسباب، وأمور كثيرة جداً، فهذه لا يقال عنها موبقات، الموبقات معروفة محددة لا تتغير ولا تتبدل، وهذا هو الفرق بين (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ) و (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ).
o أخيراً قال في سورة البقرة (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)، بينما في الأعراف قال (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) لاحظ أن آية البقرة فيها قوة لماذا؟ رب العالمين يقول (وَإِذْ قُلْنَا) أي أنا رب العالمين الذي قلت، أنا قلت لكم، فلما كان المخاطِب رب العالمين كان عطاؤه أكثر، يعني فرق حين يخاطب الملك زيدا من الناس، وبين أن يبعث الملك واحدا برسالة: قل لفلان وفلان كذا، يعني عندما يخاطبك الملك مباشرة يكون عطاؤه أعظم، بينما عندما يرسل لك شخصا يبلغك يكون العطاء أقل، والله قال (وَإِذْ قُلْنَا) قال: (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) فالواو للتأكيد، وتدل على كمية العطاء الهائلة، بينما في سورة الأعراف أنبياء كانوا يتكلمون معهم، وليس رب العالمين بشكل مباشر، فقال (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)، هذا الفرق بين (سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) و (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) .
إذاً رب العالمين سبحانه وتعالى لما قال (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) هذا حكمٌ عام جاء في الكتب الثلاثة، ونحن نعرف أن هناك أحكاما مشتركة بين التوراة والإنجيل والقرآن، وشرعُ من قبلنا شرعٌ لنا، أحكام محددة وآيات محددة، حينئذٍ المسجد الذي هو مكان الصلاة سواء كان كنيسة أو بيعة أو مسجداً، هو في العبادة الصحيحة في زمن سيدنا موسى وزمن سيدنا عيسى وزمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أجرها واحد، وكلنا نعرف ما هو أجر المساجد، مجرد حبها (رجلٌ معلقٌ قلبه بالمساجد) (من دخل المسجد فهو ضامنٌ على الله) (ثلاث مجالس العبد فيها على الله ضامن ما كان في مسجد جماعة، وما كان في مجلس مريض، وما كان في مجلس إمام تعزّره وتوقره)، هذه المجالس العبد فيها على الله ضامن. فرب العالمين حين يقول لبني إسرائيل (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) قبل الدخول وبعد الدخول وأثناء الدخول، كما يدخل المسلم المسجد، كما قال صلى الله عليه وسلم (أحب البقاع إلى الله المساجد)، وقال (المساجد بيوتي وعُمّارها زوّاري، وحقٌ للمزور أن يُكرِم زائره)، والحديث في هذا الباب تعرفونه جيداً: ما فضل الصلاة في المسجد على الصلاة في البيت؟ ثم ما حكم من يعتاد المسجد عند الله؟ قال: نشهد له بالإيمان، وحينئذٍ فهذا الموضوع كله كان قد حُكي لبني إسرائيل عندما قال لهم سبحانه وتعالى (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ).
إذاً رب العالمين حين قال (ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) تماما كما قال مع اختلاف في الحيثيات (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ﴿3﴾ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴿4﴾ قريش) (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ) يعني الشكر على تلك النعمة، وقبلها قال: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ﴿1﴾ الفيل)، شكراً لهذه النعمة حين آمنكم من خوف، وحين أطعمكم من جوع.
*(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ (60) البقرة) لِمَ قال تعالى (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ) ولم يقل وإذ استسقى موسى ربّه؟ أليس موسى (عليه السلام) أحد أفراد القوم؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
في هذا السؤال دلالة على عناية الله تعالى بعباده الصالحين، فهذا الدعاء والاستسقاء يدلك على أن موسى (عليه السلام) لم يصبه العطش؛ لأن الله تعالى وقاه الجوع والظمأ، كما قال (صلى الله عليه وسلم) “إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني”.
وانظر كيف كان الاستسقاء لموسى (عليه السلام)وحده دون قومه، فلم يقل ربنا سبحانه وتعالى : وإذا استسقى موسى وقومه ربهم، وذلك ليظهر لنا ربنا كرامة موسىِ(عليه السلام) وحده، ولئلا يظن القوم أن الله تعالى أجاب دعاءهم.
آية (60):
*ما الفرق من الناحية البيانية بين (انفجرت) في سورة البقرة، و(انبجست) في سورة الأعراف في قصة موسى؟(د.فاضل السامرائى)
جاء في سورة البقرة (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60}) وجاء في سورة الأعراف ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {160}).
والسؤال: ماذا حدث فعلاً هل انفجرت أو انبجست؟ والجواب: كلاهما، وحسب ما يقوله المفسرون فإن العيون انفجرت أولاً بالماء الكثير، ثم قلّ الماء بمعاصيهم.
وفي سياق الآيات في سورة البقرة الذي حفل بالثناء والمدح والتفضّل على بني إسرائيل جاء بالكلمة التي تدل على الكثير، فجاءت كلمة (انفجرت).
أما في سورة الأعراف فالسياق في ذمّ بني إسرائيل، فذكر معها الانبجاس، وهو أقلّ من الانفجار، وهذا أمرٌ مشاهد، فالعيون والآبار لا تبقى على حالة واحدة، فقد تجفّ العيون والآبار، فذكر الانفجار في موطن، والانبجاس في موطن آخر، وكلا المشهدين حصل بالفعل.
إذا لاحظنا سياق الآيات في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ {59} وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60})
أما سياق الآيات في سورة الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {161}).
يمكن ملاحظة اختلافات كثيرة في اختيار ألفاظ معينة في كل من السورتين ونلخّص هذا فيما يأتي:
سورة البقرة سورة الأعراف
سياق الآيات والكلام هو تكريم بني إسرائيل، فذكر أموراً كثيرة في مقام التفضيل والتكرّم والتفضّل (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ {49} وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ {50}) و (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {47}). السياق في ذكر ذنوبهم ومعاصيهم، والمقام مقام تقريع وتأنيب لبني إسرائيل (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {138}) والفاء هنا تفيد المباشرة، أي بمجرد أن أنجاهم الله تعالى من الغرق أتوا على قوم يعبدون الأصنام، فسألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً مثل هؤلاء القوم.
قوم موسى استسقوه، فأوحى إليه ربه بضرب الحجر (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ)، وفيها تكريم لنبيّ الله موسى (عليه السلام) واستجابة الله لدعائه. والإيحاء أن الضرب المباشر كان من الله تعالى. فموسى هو الذي استسقى لقومه (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ).
(كلوا واشربوا) والشرب يحتاج إلى ماء أكثر، لذا انفجر الماء من الحجر في السياق الذي يتطلب الماء الكثير. (كلوا من طيبات ما رزقناكم) لم يذكر الشرب فجاء باللفظ الذي يدل على الماء الأقلّ (انبجست).
جعل الأكل عقب الدخول وهذا من مقام النعمة والتكريم (ادخلوا هذه القرية فكلوا) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. لم يرد ذكر الأكل بعد دخول القرية مباشرة، وإنما أمرهم بالسكن أولاً، ثم الأكل (اسكنوا هذه القرية وكلوا).
(رغداً) تذكير بالنعم، وهم يستحقون رغد العيش كما يدلّ سياق الآيات. لم يذكر رغداً؛ لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم.
(وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطة) بُديء به في مقام التكريم، وتقديم السجود أمر مناسب للأمر بالصلاة الذي جاء في سياق السورة (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ {43})، والسجود هو من أشرف العبادات. (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً) لم يبدأ بالسجود هنا؛ لأن السجود هو أقرب ما يكون العبد لربه، وهم في السياق هنا مبعدون عن ربهم لمعاصيهم.
(نغفر لكم خطاياكم) الخطايا جمع كثرة، وإذا غفرت الخطايا، فقد غفرت الخطيئات قطعاً، وهذا يتناسب مع مقام التكريم الذي جاء في السورة. (نغفر لكم خطيئاتكم)، وخطيئات جمع قلّة، وجاء هنا في مقام التأنيب، وهو يتناسب مع مقام التأنيب والذّم في السورة.
(وسنزيد المحسنين) إضافة الواو هنا تدل على الإهتمام والتنويع؛ ولذلك تأتي الواو في موطن التفضّل وذكر النعم. (سنزيد المحسنين) لم ترد الواو هنا؛ لأن المقام ليس فيه تكريم ونعم وتفضّل.
(فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم). (الذين ظلموا منهم) هم بعض ممن جاء ذكرهم في أول الآيات.
(فأنزلنا على الذين ظلموا). (فأرسلنا ) أرسلنا في العقوبة أشدّ من أنزلنا، وقد تردد الإرسال في السورة 30 مرة، أما في البقرة فتكرر 17 مرة.
(بما كانوا يفسقون). (بما كانوا يظلمون)، والظلم أشدّ لأنه يتعلّق بالضير.
(فانفجرت) جاءت هنا في مقام التكريم والتفضّل، وهي دلالة على أن العيون بدأت بالإنفجار بالماء الشديد فجاء بحالة الكثرة مع التنعيم. (فانبجست) في مقام التقريع قلّ الماء بمعاصيهم، فناسب ذكر حالة قلّة الماء مع تقريعهم.
*هل خروج الماء كان كثيراً أو قليلاً؟(د.فاضل السامرائى)
خروج الماء كان كثيراً في البداية، لكنه قلّ بسبب معاصيهم، وليس في هذا تعارض كما يظن البعض، لكنه ذكر الحالة بحسب الموقف الذي هم فيه حين كان فيهم صلاح، فقال: انفجرت، ولما كثرت معاصيهم قال انبجست.
نلاحظ أنه قال مرة (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ (60) البقرة) فموسى هو الذي استسقى، وقال مرة (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ (160) الأعراف) طلبوا منه السقيا، فأيها أجدر بالإجابة أكثر، أن يستقي النبي، أو يستسقي القوم ؟
حين قال استسقى موسى قال انفجرت، وحين قال استسقاه قومه قال انبجست، وهي كلها صحيحة، وتفيد خروج اثنتي عشرة عيناً.
قال تعالى (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ (60) البقرة) ولم يقلها حين قال انبجست، وإنما قال فقط كلوا (كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ (160) الأعراف) فاشربوا يحتاج إلى ماء كثير، والماء الكثير يأتي مع الأكل والشرب، فمع الأكل والشرب قال انفجرت، ولما لم يذكر الشرب قال انبجست.
*هذه قضية يستعصي على الكثير فهمها، فما الموقف الذي حصل بالضبط؟(د.فاضل السامرائى)
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) ومن ناحية اللغة، أُمر موسى بضرب الحجر، ولم تذكر الآية أن موسى ضرب، ففي الكلام حذف، وهو مفهوم.
كذلك قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) فلم يقل أيضا ضرب، ومعنى ذلك أن هنالك جُمَلا تُختزل بحسب الحالة مثل (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) الفرقان) وكذلك في النمل (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)) إذًا هناك اختزال.
أولا قال انفجرت، ثم عصوا ربهم فانبجست، وهذا الأمر في القرآن كثير.
*قال تعالى:( فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً (60) البقرة) وقال (فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا (160) الأعراف) ما الفرق بين انفجرت و انبجست؟(د.أحمد الكبيسى)
هذا في غاية الدقة، الانفجار ليس كالانبجاس كما يقول الكثيرون، انفجر غير انبجس.
انفجر: أين ذهب الماء ساعة خروجه من الأرض الصلبة أو الحجر الصلب؟ حين انفجر الحجر سال الماء، وهذا السيل يسمى انبجاساً، فالانبجاس كانبجاس الجرح، وإذا انبجس جرحك ينفجر أولاً، ثم ينبجس بحيث يسيل الدم إلى مكان بعيد، ورب العالمين يذكر لنا الحالتين: حالة بني إسرائيل مع موسى ساعة الانفجار، عندما انفجر هذا الحجر وخرج منه ماء زلال عذب، وبقوة انفجاره انبجس أي سال في الأرض التي هي بعد الحجر، لكي يشرب منه اثناعشر لواء من ألوية بني إسرائيل، كيف تشرب اثنتاعشرة فرقة من حجر؟
سال هذا الماء فانبجس فشربوا ، إذًا هاتان الآيتان تتحدثان عن تسلسل الواقعة، وكل كلمة ترسم جزءاً من صورة وهكذا هو كل القصص القرآني.
*(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (61) البقرة) لِمَ لم يقل ربنا سبحانه وتعالى أصابتهم الذلة والمسكنة؟ أليست هذه الصيغة تؤدي معنى ضربت عليهم الذلة والمسكنة؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تخيل قوماً أقاموا في مكان ما، فضربت عليهم قُبّة، كيف تشاهد هذه الصورة؟ إنك تتخيل أفراداً ماكثين تحت قُبّة بحيث تحوطهم من كل جانب وتظلّهم، وكذلك هذه الآية، فقد شبّه الله تعالى الذلة والمسكنة بالقبة التي أحاطت أهلها فلازموها ولم يغادروها، فكانت الذلة والمسكنة بيتهم الذي لايغادرونه ولا يحولون عنه، والمسكنة هي الفقر، وأُخِذ هذا المعنى من السكون؛ لأن الفقر يقلل حركة صاحبه، ويجعله يؤثِر السكون.
آية (61):
*ما المقصود بمصر في الآية (اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ (61) البقرة) ؟(د.فاضل السامرائى)
مصراً منونة، يعني أي مدينة من المدن، وليست مصر المعروفة، لأن الثانية تكون ممنوعة من الصرف (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ (21) يوسف)، هذه مصر البلد. فإذا صرفت تكون أي مدينة، أي بلدة لأن ما طلبوه ليس في الصحراء وإنما في أي مدينة.
*كلمة ضرب تكررت في القرآن كثيراً بمعاني مختلفة فكم معنى لها في اللغة؟( د.فاضل السامرائى)
الضرب كثير في اللغة، وهو في اللغة: إيقاع شيء على شيء، والضرب يكون باليد والعصى.
وضرب الدراهم أي صكّها، وضرب في الأرض أي سار أو تاجر (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ (101) النساء) تجارة أو ابتغاء الرزق، (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ (61) البقرة) مثل الخيمة، وضرب على يد فلان إذا حجر عليه، وضرب على يده إذا تبايعا وتعاقدا على البيع، و(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) الكهف) أي منعناهم من السمع، وضرب المثل يعني بيّنه (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ (78) يس)، (أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ (5) الزخرف) يعني نهملكم، وضرب الوتد يعني دقّه، وضرب ابنه يعني ربّاه.
الضرب مختلف في اللغة، وهذا يسمى مشترِك لفظي، أي كلمة تتعدد معانيها بتعدد سياقها.
* ما الفرق من الناحية البيانية بين قوله (يقتلون النبيين بغير الحق) سورة البقرة، وقوله (ويقتلون الأنبياء بغير حق) سورة آل عمران؟ فما الاختلاف بين النبيين والأنبياء، وبغير حق وبغير الحق؟
* د.فاضل السامرائى :
قال تعالى في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {61}).
وقال في سورة آل عمران (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {21}) و(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {112}).
جمع المذكر السالم إذا كان معه جمع كثرة فإنه يفيد القَلّة، وإذا لم يكن معه جمع تكسير يستعمل للقلة والكثرة. فعندما يكون معه جمع تكسير يفيد القلة (النبيين)، أما (الأنبياء) فتفيد جمع الكثرة.
وهو تعالى عندما يذكر معاصي بني إسرائيل يذكر الأنبياء.
أما الاختلاف بين ذكر كلمة (بغير حق) و(بغير الحق) فتدل على أن استعمال كلمة (الحق) معرّفة تعني الحق الذي يدعو للقتل، فهناك أمور يُستحق بها القتل. أما استعمال (بغير حق) نكرة فهي تعني أنه ليس حقا يدعو إلى القتل ولا إلى غيره، فإذا أراد تعالى أن يبيّن لنا العدوان يذكر (بغير حق).
إجابة سريعة للدكتور فاضل: من حيث اللغة الأنبياء أكثر من النبيين عددا، فالأنبياء جمع تكسير من جموع الكثرة والنبيين جمع مذكر سالم وهو من جموع القلة.
بغير حق وبغير الحق، الحق معرفة وحق نكرة، بغير الحق أي بغير الحق الذي يدعو إلى القتل، وهو معلوم (النفس بالنفس)، بغير حق يعني أصلاً بغير حق لا يدعو إلى قتل ولا إلى غير قتل.
وعندما يقول يقتلون الأنبياء بغير حق فهذا أعظم وأكبر جرماً من قوله يقتلون النبيين بغير الحق؛ لأن الأنبياء أعم وأشمل، وحق من دون أي داعٍ هذا أكبر جرماً وأعظم من يقتلون النبيين بغير الحق، والنبيين أقل، والحق هو الحق الذي يدعو إلى القتل فذاك أعظم، هذا من حيث اللغة، ثم ننظر في السياق لاحقاً حين نلاحظ مقام الذم والكلام على بني إسرائيل في قوله يقتلون الأنبياء بغير حق، أكثر وأعظم من يقتلون النبيين بغير الحق.
* ما الفرق من الناحية البيانية بين قوله (يقتلون النبيين بغير الحق) سورة البقرة، وقوله (ويقتلون الأنبياء بغير حق) سورة آل عمران؟ فما الاختلاف بين النبيين والأنبياء، وبغير حق وبغير الحق؟
*د.أحمد الكبيسى :
قال تعالى(اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿61﴾ البقرة) النبيين جمع مذكر سالم، نبي نبيّون (َ وَيَقْتُلُون النَّبِيِّينَ) يَقْتُلُون فعل مضارع مرفوع بالواو، والنبيين مفعول به منصوب بالياء، هذا في البقرة, في آل عمران يقول (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴿112﴾ آل عمران) (الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) هناك (النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) بالألف واللام، وهنا(الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) الأنبياء جمع تكسير وبغير حق نكرة، ما الفرق؟
انظر الفرق بين كل جمع تكسير وجمع مذكر سالم أن جمع المذكر السالم أشرف وأكرم وأعلى من جمع التكسير. يعني فرق بين طلاب وطالبون، طلاب كلهم خلط زين على شين مثل خضرة آخر الليل، لكن الطالبون: أي النبهاء، والله قال (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴿51﴾ الأنبياء) (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ﴿43﴾ العنكبوت) فأتى بصيغة جمع المذكر السالم، وقال (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴿28﴾ فاطر) (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آَيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴿197﴾ الشعراء) فأتى بصيغة جمع التكسير، علماء وعالمون، والعلماء يعني صغارهم وكبارهم وطلاب العلم، كل من يشتغل بالعلم – كما تعرفون الآن في واقعنا الحالي – ليس العلماء على نسقٍ واحد، هناك الصغير والمبتدئ والجديد، هناك عاقل، هناك حفاظ، هناك من لا يفكر وهناك من يفكر، خليط. أما حين تقول عالمون لا، هؤلاء قمم مجتهدون، أصحاب نظريات (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) .
إذًا كلما جئت في لغتنا وفي القرآن الكريم بجمع التكسير فإنه يشمل الزين والشين، وبعضه يفضل بعضه، لكن جمع المذكر السالم يعني القمم، عندما تجمع أبا حنيفة والشافعي ومالك وأحمد وجعفر الصادق والباقر وابن حزم الخ وتسميهم علماء! لا، هؤلاء عالمون، هناك عموم الشيء وهناك خصوصه.
إذاً ناس من اليهود يقتلون الأنبياء الصغار، حزقيل وغيره من مجموعة أنبياء كانوا موجودين، ذكرت قسماً من الذين ذبحوهم، لكنهم ليسوا من كبار الأنبياء، والله قال (وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ﴿55﴾ الإسراء) وقال الله تعالى (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴿35﴾ الأحقاف) لكن أولي العزم خمسة فقط من مجموع حوالي خمسة وعشرين، وكذلك (فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) فلما قال الله (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ) عامي شامي – كما يقول المثل الدارج – قتلوا صغار الأنبياء، قتلوا يحيى وزكريا وأشعيا وحزقيل وفلان وفلان الخ وبغير حق.
وادعوا أنهم قتلوا عيسى (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ (157) النساء) وقال الله (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴿157﴾ النساء) لكنه محسوب عليهم.
هذا الخطاب لليهود الذين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهم ما قتلوا، لكنهم يؤمنون بصواب وصحة ما فعله أجدادهم عندما قتلوا الأنبياء والنبيين.
هذا هو الفرق بين الأنبياء والنبيين، فهم قتلوا الصنفين، ادعوا أنهم قتلوا سيدنا عيسى، بينما قتلوا أيضاً أنبياء صغار.
ثانياً يقول (بِغَيْرِ الْحَقِّ) و (بِغَيْرِ حَقٍّ) بغير الحق، أي بغير الحكم الثابت الحق المطلق، والفرق بين الحق وحق، أن الحق هو الثابت، الحكم الشرعي الثابت، وهذا واحدٌ من أسماء الحق. ما من كلمة واسعة وغامضة ومتشابكةٍ ككلمة الحق في القرآن، وكلمة الحق تعني الشيء الثابت الذي لا يتغير (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ﴿27﴾ إبراهيم) يعني القول الحق، فكل حقٌ هو ثابت، الموت حق، والجنة حق، والنار حق، والإسلام حق، الخ. هذا تفسير. إذاً كلمة الحق هنا هي الحكم الشرعي الثابت الذي لا تأويل له كقوله (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴿43﴾ البقرة) ما فيها مشكلة ما فيها تأويل.
أما بغير حق، فتعني بغير حقٍ شرعي من حقوق الناس، والله أعلم .
لكن المهم أننا فرقنا بين الأنبياء والنبيين، فالنبيين خاصة والأنبياء عامة، ولهذا رب العالمين سبحانه وتعالى يفرق بين هذا وذاك، كما قال تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) من يصل إلى فلسفة المثل القرآني عنده علم، بل هو من أئمة العلماء (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴿51﴾ الأنبياء).
د.حسام النعيمى: لما قال (اهبطوا مصراً) نوّنها، فهي تعني أيّ بلد. والمِصر هو البلد الممصّر، أي الذي فيه أيّ بناء، أي ادخلوا أي قرية تجدون فيها عدسا وبصلا وثوما – ومن الملاحظ أن كل الأشياء التي طلبوها مما ينفخ المعدة – والبقل من البقوليات، والقثاء هو الخيار الذي يسمونه الآن خيار قثّة، وفومها قسم قال هي الحنطة، وقسم قال الثوم؛ لأن العرب تبدل الثاء والفاء في الثوم، وهي لهجة من لهجات العرب.
آية (62):
*(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) البقرة): لِمَ عبّر تعالى هنا بالذين هادوا ولم يقل اليهود؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
في هذا التعبير إشارة إلى أنهم ليسوا اليهود، وإنما هم الذين انتسبوا إلى اليهود، ولم يكونوا من سبط يهوذا. والنصارى اسم جمع نصرى نسبة إلى الناصرة ،وهي قرية نشأت فيها مريم عليها السلام أم المسيح، وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة البيت المقدس فولدت المسيح (عليه السلام) في بيت لحم ولذا سمي عيسى يسوع الناصري ومن ثَم أُطلق على أتباعه اسم النصارى.
*ما وجه الإختلاف من الناحية البيانية بين آية 62 في سورة البقرة وآية 69 في سورة المائدة؟
د.فاضل السامرائى :
في المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69)) وفي البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)). النصب ليس فيه إشكال وإنما الرفع هو الذي كثيراً ما يُسأل عنه. فالنصب منصوب معطوف على منصوب. أما الرفع في آية سورة المائدة من حيث الناحية الإعرابية فليس فيه إشكال عند النحاة ؛ لأنهم يقولون على غير إرادة (إنّ)، أوعلى محل اسم إنّ.
في الأصل اسم إنّ قبل أن تدخل عليه مرفوع، فهذا مرفوع على المحل، أو يجعلوه جملة: والصابئون كذلك.
لكن لماذا فعل ذلك حتى لو خرّجناها نحوياً؟ هي ليست مسألة إعراب فقط، فالاعراب يخرّج لأنه يمكن أن نجعلها جملة معترضة وينتهي الإشكال، لكن لماذا رفع؟
(إنّ) تفيد التوكيد، ومعنى ذلك أن بعض الكلام مؤكد، وبعضه غير مؤكد، (الصابئون) غير مؤكد، والباقي مؤكد، لماذا؟ لأنهم دونهم في المنزلة، فهم أبعد المذكورين ضلالاً، يقول المفسرون أن هؤلاء يعبدون النجوم. صبأ في اللغة أي خرج عن المِلّة، عن الدين، فالصابئون خرجوا عن الديانات المشهورة، وهم قسمان: قسم قالوا إنهم يعبدون النجوم، وقسم متبعون ليحيى (عليه السلام) ، فهؤلاء أبعد المذكورين عن الدين، والباقون أصحاب كتاب، الذين هادوا أصحاب كتاب عندهم التوراة، والنصارى عندهم الإنجيل، والذين آمنوا عندهم القرآن، أما الصابئون فليس عندهم كتاب، وإن كان قسم من الصابئين يزعمون أن عندهم كتابا، لكنهم بالنسبة لنا هم أبعد المذكورين ضلالاً وهم دونهم في الديانة والاعتقاد، ولذلك لم يجعلهم بمنزلة واحدة فرفع فكانوا أقل توكيداً.
*لماذا لم يأت بها مرفوعة ووضعها في نهاية الترتيب؟ هنا ندخل في مسألة التقديم والتأخير، وليس في مسألة المعنى، وهذه ليست الآية الوحيدة التي فيها تغيّر إعرابي، ففي آية التوبة (وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (3) التوبة)، لم يقل ورسولَه مع أنه يمكن العطف على لفظ الجلالة الله، وإنما عطف على المحل أي: (ورسوله بريء)؛ لأن براءة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليست ندّاً لبراءة الله تعالى، ولكنها تبع لها وليست مثلها، براءة الله تعالى هي الأولى، ولو قال ورسولَه تكون مؤكدة كالأولى، فإشارة إلى أن براءته ليست بمنزلة براءة الله سبحانه وتعالى، وإنما هي دونها – رفع على غير إرادة (إنّ).، وهذا موجود في الشعر العربي:
إن النبوةَ والخلافةَ فيهم والمكرماتُ وسادةٌ أطهارُ
قال المكرماتُ ولم يقل المكرماتِ؛ لأن هؤلاء السادة لا يرتقون لا إلى النبوة ولا إلى الخليفة. فهذه الدلالة موجودة في الشعر ففهمها العرب.
يبقى السؤال حول التقديم والتأخير في الترتيب: آية المائدة قال (والصابئون والنصارى)، وآية البقرة (والنصارى والصابئين). في المائدة قدّم ورفع الصابئين، لأنه ذمّ النصارى في المائدة ذماً فظيعاً على معتقداتهم، تكلم عن عقيدة التثليث، وجعلهم كأنهم لم يؤمنوا بالله، وكأنهم صنف من المشركين (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (72)) (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74)).
فلما كان الكلام عن ذم عقيدة النصارى أخّر النصارى حتى تكون منزلتهم أقل، وقدّم الصابئين مع أنهم لا يستحقون.
*ما اللمسة البيانية في الترتيب؟
قدم الصابئين؛ لأنه قيل إن الصابئين هم التابعون للنبي يحيى (عليه السلام) ، فهو معاصر للمسيح، والمسيح ليس بينه وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) نبي، فهم زمنياً بعد الذين هادوا، وقبل المسيح مع أنهم في عصر واحد؛ لأن يحيى أسبق من المسيح. والنصارى معطوفة على المنصوب لأنه هو الأصل (ولا تظهر عليها علامة الإعراب لأنها اسم مقصور) وهذا هو الأرجح، وليس هناك إشكال في أن تكون الصابئون مرفوعة، فليس بالضرورة أن يكون العطف على الأقرب. وأخّر النصارى في المائدة؛ لأنه ذمّ عقيدتهم، وقدمهم في البقرة لأنه لم يذم عقيدتهم، ووضع الصابئين فيها في آخر المِلل.
قال تعالى في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62}) وقال في سورة المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {69}) الآيتان فيهما تشابه واختلاف وزيادة في إحداها عن الأخرى.
أولاً: في سورة البقرة قدّم النصارى على الصابئين (النصب جاء مع العطف لتوكيد العطف)، وفي آية سورة المائدة قدّم الصابئون على النصارى ورفعها بدل النصب. فمن حيث التقديم والتأخير ننظر في سياق السورتين الذي يعين على فهم التشابه والإختلاف، ففي آية سوة المائدة جاءت الآيات بعدها تتناول عقائد النصارى والتثليث وعقيدتهم في المسيح، وكأن النصارى لم يؤمنوا بالتوحيد، تقول الآيات في السورة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {72} لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73}) ثم جاء التهديد (وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73}) (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {75}) واقتضى هذا تقديم الصابئين وتأخيرالنصارى في آية سورة المائدة.
أما من حيث رفع الصابئون في آية سورة المائدة ونصبها في آية سورة البقرة، فالنحاة يجيزون في الإعراب العطف على محل اسم إن (محل اسم إن في الأصل الرفع) أو أن يجعل منه جملة اسمية، أو جملة إعتراضية. ونسأل لماذا رفع الصابئون؟ بغض النظر عن الناحية الإعرابية، (إنّ) تفيد التوكيد فإذا عطفنا عليها بالرفع، يعني أننا عطفنا على غير إرادة إنّ، فالرفع جاء في آية سورة المائدة على غير إرادة إنّ، لأن المعطوف غير مؤكد (الصابئون جاءت مبتدأ وليست عطفا على ما سبق، وهي على غير إرادة إنّ) لكن لماذا؟ معنى ذلك أن الصابئون أقل توكيداً، لأن الصابئين أبعد المذكورين عن الحق، فهم ليسوا من أهل الكتاب، ولذلك لم يلحقوا بهم في العطف. أما في سورة البقرة فقد قدّم النصارى وأكدهم، وأخّر الصابئين، لكنه جعلهم ملحقين بالنصارى.
ثانياً: هناك فرق بين الآيتين (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) في آية سورة البقرة، أما في سورة المائدة (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) مع أن المذكورين في الآيتين هم أنفسهم (الذين آمنوا، الذين هادوا، النصارى، الصابئين) فلماذا جاء في سورة البقرة (فلهم أجرهم عند ربهم، ولم تأت في سورة المائدة؟
في سورة المائدة السياق كما قلنا في ذمّ عقائد اليهود والنصارى ذمّاً كثيراً مسهبا، أما في البقرة فالكلام عن اليهود فقط لا النصارى. وفي سورة المائدة جاء الكلام عن اليهود أشدّ مما جاء في البقرة حتى إنه يذكر العقوبات في المائدة(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ {60}) أكثر من البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ {65}).
وسياق الغضب في المائدة على معتقدات النصارى واليهود أشدّ، وذكر معاصيهم أكثر، ولم تُجمع القردة والخنازير إلا في سورة المائدة، فاقتضى السياق أن يكون ذكر الخير والرحمة في المكان الذي يكون الغضب فيه أقل (في سورة البقرة)؛ ولذلك كان جو الرحمة ومفردات الرحمة في سورة البقرة أكثر مما جاء في سورة المائدة.
فقد وردت الرحمة ومشتقاتها في سورة البقرة 19 مرة، بينما وردت في المائدة 5 مرات؛ لذا اقتضى التفضيل بزيادة الرحمة في البقرة، والأجر يكون على قدر العمل.
أنواع العمل الصالح في السورتين: في سورة المائدة ورد ذكر عشرة أنواع من العمل الصالح (الوفاء بالعقود، الوضوء، الزكاة، الأمر بإطاعة الله ورسوله، والإحسان، التعاون على البر والتقوى، إقام الصلاة، الجهاد في سبيل الله، والأمر باستباق الخيرات).
وفي سورة البقرة ورد ذكر أكثر من ثلاثين نوعا من أعمال الخير، وتشمل كل ما جاء في سورة المائدة ما عدا الوضوء، وفيها بالإضافة إلى ذلك الحج، والعمرة، والصيام، والإنفاق، والعكوف في المساجد، وبر الوالدين، والهجرة في سبيل الله، وإيفاء الديْن، والقتال في سبيل الله، والإصلاح بين الناس، وغيرها كثير، لذا اقتضى كل هذا العمل الصالح في البقرة أن يكون الأجر أكبر (فلهم أجرهم عند ربهم).
من ناحية أخرى، (فلهم أجرهم عند ربهم) تتردد مفرداتها في كل سورة كما يلي:
1. الفاء وردت في البقرة 260 مرة، ووردت في المائدة 180 مرة
2. لهم وردت في البقرة 29 مرة، وفي المائدة 15 مرة
3. أجرهم وردت في البقرة 5 مرات، وفي المائدة مرة واحدة فقط
4. عند وردت في البقرة 19 مرة، وفي المائدة مرة واحدة
5. ربهم وردت في البقرة 10 مرات، ومرتين في المائدة.
وهذه العبارة (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لم ترد إلا في سورة البقرة بهذا الشكل، وقد وردت في البقرة 5 مرات.
وتردد الكلمت في القرآن يأتي حسب سياق الآيات، وفي الآيات المتشابهة يجب أن نرى الكلمات المختلفة فيها وعلى سبيل المثال:
(فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (الأنعام) الإيمان ومشتقاته ورد 24 مرة، والتقوى وردت 7 مرات. بينما في سورة الأعراف (فمن اتقى أصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ورد الإيمان ومشتقاته21 مرة والتقوى 11 مرة.
(فأصابهم سيئات ما عملوا) في سورة النحل تكرر العمل 10 مرات، والكسب لم يرد أبداً. أما في سورة الزمر (فأصابهم سيئات ما كسبوا) تكرر الكسب 5 مرات والعمل 6 مرات.
(فلما أتاها نودي يا موسى) (طه) تكرر لفظ الإتيان أكثر من 15 مرة، والمجيء 4 مرات، بينما في سورة النمل (فلما جاءها نودي يا موسى) تكررت ألفاظ المجيء 8 مرات، وألفاظ الإتيان 13 مرة.
(إن الله غفور رحيم) (البقرة) تكرر لفظ الجلالة الله 282 مرة، والرب 47 مرة، ولم ترد إن الله غفور رحيم أبداً في سورة الأنعام، بينما في سورة الأنعام (إن ربك غفور رحيم) تكررت كلمة الرب 53 مرة، ولفظ الجلالة الله 87 مرة، ولم تردفي سورة البقرة أبداً إن ربك غفور رحيم
(فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الفاء في موضعها، وهي ليست حرف عطف، ولكنها واقعة في جواب الشرط، ولا يُجاب عليه بغير الفاء، ولا حرف غيرها ينوب مكانها.
(لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) تعبير في غاية العجب والدقة من الناحية التعبيرية، ولا تعبير آخر يؤدي مؤدّاه. نفى الخوف بالصورة الاسمية، ونفى الحزن بالصورة الفعلية، كما خصص الحزن بـ(ولا هم)، ولم يقل لا عليهم خوف:
1. قال لا خوف عليهم ولم يقل لا يخافون، كما قال لا يحزنون؛ لأنهم يخافون، ولا يصح أن يقال لا يخافون؛ لأنهم يخافون قبل ذلك اليوم (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) (إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا)، وهذا مدح لهم قبل يوم القيامة، أما يوم القيامة فيخافون إلا مَن أمّنه الله تعالى. كل الخلق خائفون (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت)؛ لذا لا يصح أن يقال لا يخافون فالخوف شيء طبيعي موجود في الإنسان.
2. لا خوف عليهم معناها لا يُخشى عليهم خطر. ليس عليهم خطر، فقد يكونون خائفين أو غير خائفين كما يخاف الأهل على الطفل، مع أنه هو لا يشعر بالخوف، ولا يُقدّر الخوف، فالطفل لا يخاف من الحيّة، ولكنا نخاف عليه منها؛ لأنه لا يُقدّر الخوف. فالخوف موجود، ولكن الأمان من الله تعالى أمّنهم بأنه لا خوف عليهم، فليس المهم أن يكون الإنسان خائفاً أو غير خائف، إنما المهم هل يكون عليه خطر أو لا (لا خوف عليهم) وقد يخاف الإنسان من شيء لا يخيف، كالطفل يخاف من لعبة لا تشكل عليه خطراً.
3. ولا هم يحزنون: جعل الحزن بالفعل، فأسنده إليهم لماذا لم يقل (ولا حزن)؟ لأنه لا يصح المعنى فلو قالها لصار المعنى أنه لا يحزن عليهم أحد، بينما المراد أن الإنسان منهم لا يكون حزيناً.
4. ولا هم يحزنون: بتقديم (هم) تعني أن الذين يحزنون غيرهم وليسوا هم. أراد نفي الفعل عن النفس، وإثبات الفعل لشخص آخر، كأن أقول (ما أنا ضربته) نفيته عن نفسي، وأثبتّ وجود شخص آخر ضربه، (ويُسمّى هذا التقديم للقصر)، أما عندما أقول (ما ضربته) يعني لا أنا ولا غيري. ففي الآية نفى الحزن عنهم، وأثبت أن غيرهم يحزن (أهل الضلال في حزن دائم). ولم يقل لا خوف عليهم ولاحزن لهم؛ لأنها لا تفيد التخصيص، (ولأنه يكون قد نفى عنهم الحزن ولم يثبته لغيرهم)، ولو قال ولا لهم حزن لانتفى التخصيص على الجنس أصلاً، ولم ينف التجدد، وقوله تعالى (لا خوف ٌ عليهم ولا هم يحزنون) لا يمكن أن يؤدي إلى حزن، بل نفى الخوف المتجدد والثابت،(لا خوف)، ونفى الحزن المتجدد: (لا هم يحزنون) ولا يمكن لعبارة أخرى أن تؤدي هذا المعنى المطلوب.
5. لماذا إذن لم يقل (لا عليهم خوف) ولماذا لم يقدم هنا؟ لأنه لا يصح المعنى، ولو قالها لكان معناها أنه نفى الخوف عنهم، وأثبت أن الخوف على غيرهم، يعني يخاف على الكفار، لكن من الذي يخاف على الكفار؟ لذا لا يصح أن يقال لا عليهم خوف، كما قال ولا هم يحزنون.
6. لماذا قال لا خوفٌ ولم يقل لا خوفَ عليهم (مبنية على الفتح)؟ لا خوفَ: لا النافية للجنس تفيد التنصيص في نفي الجنس (لا رجلَ هنا معناها نفينا الجنس كله) أما (لا خوفٌ) عندما تأتي بالرفع فيحتمل نفي الجنس ونفي الواحد. والسياق عيّن أنه لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون من باب المدح على سبيل الاستغراق وفي مقام المدح. وفي قراءة أخرى خوفَ (قراءة يعقوب). فالرفع أفاد معنيين لا يمكن أن يفيدها البناء على الفتح، لا خوفٌ عليهم تفيد دلالتين، أولاً إما أن يكون حرف الجر متعلق بالخوف خوفٌ عليهم والخبر محذوف بمعنى لا خوف عليهم من أي خطر، من باب الحذف الشائع، ويحتمل أن يكون الجار والمجرور هو الخبر (عليهم) ، مثاله قولنا: الجلوس في الصف: قد تحتاج إلى خبر، فنقول الجلوس في الصف نافع وجيّد، وقد تحتمل معنى أن الجلوس (مبتدأ)، و(في الصف) خبر، بمعنى الجلوس كائن في الصفّ. ففي الرفع تدل (لا خوفٌ عليهم) على معنيين: لا خوف عليهم من أي شيء، وتحتمل لا خوف عليهم، أن يكون الجار والمجرور متعلقا بالخوف، أومتعلقا بالخبر المحذوف (من أي خطر).
أما في النصب (لا خوفَ عليهم) فلا يمكن أن يكون هذا الأمر، ولا بد أن يكون الجار والمجرور هو الخبر (لا خوف عليهم) ولا يحتمل أن يكون متعلقاً، وهذا يؤدي إلى معنى واحد وليس معنيين، فلماذا لا يصح؟ لأنه إذا تعلق بكلمة خوف يجب أن نقول لا خوفاً عليهم (لآنه يصبح شبيها بالمضاف) ولا يعد مبنياً على الفتح، وإنما منصوب.
* ما الفرق بين(عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) و (وَعَمِلَ صَالِحًا)؟( د.فاضل السامرائى)
في عموم القرآن إذا كان السياق في العمل يقول (عملاً صالحاً)، كما في آخر سورة الكهف (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110))؛ لأنه تكلم عن الأشخاص الذين يعملون أعمالاً سيئة، ويكون السياق في الأعمال (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104))، والسورة أصلاً بدأت بالعمل (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)).
فمع العمل يقول عملاً. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) البقرة) ليست في سياق الأعمال فقال: (عملا صالحاً).
*ما وجه الإختلاف من الناحية البيانية بين آية 62 في سورة البقرة وآية 69 في سورة المائدة؟
*د.أحمد الكبيسى :
الفرق بين قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿62﴾ البقرة) في آية أخرى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ﴿69﴾ المائدة) كلكم تعرفون أن (إن) تنصب الأول وترفع الثاني (إِنَّ الَّذِينَ) الذين في محل نصب، (وَالصَّابِئِينَ) الواو حرف عطف، الصابئين منصوبة بالياء لأنه جمع مذكر سالم معطوف على إسم إنّ، هذا على النحو. (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) كيف؟ كأن أقول إن الطلاب والمعلمون! لا يصح! ولكن صحتها إن الطلاب والمعلمين، هكذا هي في القرآن الكريم، ثلاث آيات آية في آية البقرة (وَالصَّابِئِينَ) وفي آية المائدة (وَالصَّابِئُونَ) وفي آية الحج (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴿17﴾ الحج) أضاف المجوس، ومعها والذين أشركوا ، فهمنا أن الذين آمنوا من اليهود والنصارى والمسلمين أصحاب كتاب، لا ينكر أنهم أصحاب كتب سماوية، ولم ينحرفوا إلى الوثنية، بينما هناك فِرَق انحرفت .
في هذه الآيات لماذا قال الصابئين والمجوس ومرة قال صابئون ومرة قال مجوس؟
هذه الآيات الثلاث تتكلم عن حسن الخاتمة، وحسن الخاتمة نظام رباني (ومنكم من يعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة)، ولو قبل الموت بساعة، بدقائق، قبل أن يغرغر، يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله فينجو (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) هذه قاعدة ربانية لا تختلف، كل مسيء إذا أحسن قبل الموت فقد نجا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (الأعمال بخواتيمها)، وكما قال (إنما يبعث المرء على ما ختم عليه) .
إذاً رب العالمين في هذه الآيات الثلاث يعطينا عدة أصناف، هناك مسميات كالذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، ثلاثة أصناف يتبعون أنبياء معروفين مشهورين، وهؤلاء كلٌ آمن بنبيه على اختلافٍ بينهم في بعض القضايا، ولكنهم يُبعثون على أنهم من أتباع رسولٍ محددٍ معين، ولا يُبعثون مع الذين تركوا نبيهم إلى تحريفٍ أو تخريفٍ آخر كامل، وهناك ناس كانوا من أمم الرسل، ثم تركوا جزءاً أو كلاً حتى انزلقوا إلى الوثنية، لكنهم في البداية كانوا يتبعون رسولاً صحيحاً نبياً حقيقياً كالصابئة، هم من أتباع الأنبياء، ولكن صار عندهم شيء من الخلل، وأصبحوا بين اليهود والنصارى، لا هم يهود ولا هم نصارى، يعني صار تحريفهم كبيراً، لكنهم محسوبون مع الذين يؤمنون بأنبياء حقيقيين ولو أنهم ابتعدوا عنهم.
وهناك ناس يؤمنون بنبي، ولكنه ليس نبياً حقيقياً، إنما هو نبيٌ متنبئ يدعي النبوة، وهم المجوس، هذا صنف ثالث.
الصنف الرابع: المشركون والوثنيون.
رب العالمين عز وجل شمل هؤلاء جميعاً برحمته، فكل واحد منهم يتوب قبل الموت، فإنه ناجٍ (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) إذا آمن وعمل صالحاً. جمع الله الذين آمنوا يعني المسلمون واليهود والنصارى والصابئين، ولو أن الصابئين تغيروا قليلاً إلى حدٍ ما أكثر من الجميع، فلماذا رفعها رب العالمين ؟ يقول الشيخ طاهر بن عاشور أحد المفسرين الكبارعن الصابئين: لما نزل قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ) قال البعض: كيف تجعلون الصابئين مع الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، وهؤلاء ثلاثة من الأديان الرئيسية لهم رسل حقيقيون ؟ والصابئة تغيروا وراحوا واندثروا، قال الله: والصابئون كذلك، فالصابئون مبتدأ وخبرها محذوف تقديره كذلك.
إذاً رفع الصابئين لكي يلفت نظر من أنكر أن يكون الصابئون مع الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى، قال لك رب العالمين: لا هم معهم كذلك، فلا ينبغي أن تعجب، (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِونَ) كذلك، هذا جوابٌ لمن عنده اعتراض على الصابئين، هؤلاء في يوم من الأيام كانوا أتباع نبي، وهم موحدون، لكن عندهم خرافات ووثنيات، والصابئون ليسوا نوعاً واحداً، بل هم عدة أنواع، وأفضلهم الصابئة المندائيون، هؤلاء يصلون ويصومون، وعندهم نبي، ولكنهم انحرفوا إلى بعض الأشياء كالتعميد في الماء وما شابه، يعني ابتعدوا عن سمت الديانات السماوية، أما الحرانيون فهم وثنيون تماماً .
المندائيون كانوا في العراق على شواطئ الفرات، ولا يزال منهم الآن حوالي مائة ألف – كما يقول بعض المحققين – هاجر بعضهم بعد هذه الأحداث الأخيرة في العراق والحروب وهذا الاحتلال، منهم من ذهب إلى الكويت، ومنهم من ذهب إلى سوريا، وقسم منهم إلى استراليا، وفتحوا لهم مراكز، وهم غامضون يوحدون الله سبحانه وتعالى، يغتسلون من الجنابة، يتوضؤون ويصومون ويصلون على طريقتهم الخاصة، عندهم الصلوات سبع مرات، لكنهم محسوبون على نبيٍ حقيقي.
هؤلاء أصحاب الأديان في جانب واحد، ثم قال الله (وَالْمَجُوسَ) ولو أن نبيهم غير صحيح، فهو متنبئ كذاب، إلا أنهم يؤمنون بالله، وأن هناك أنبياء، وكونهم يؤمنون بأن هناك نبيا، وأن الله يرسل الأنبياء فهذا يقربهم من دوحة الإيمان.
فواحد ادّعى النبوة كما ادّعى مسيلمة، ولو شاء الله سبحانه وتعالى أن ينجح ، لكان عندنا الآن فرقة كبيرة اسمهم المسيلميون، يدّعون أن مسيلمة هو النبي.
إذاً هؤلاء المندائيون يؤمنون بأن هناك نبوة، ورب العالمين يقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: (أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) هم يعلمون أن الله موجود، وهم موحدون يعلمون بأن الله واحدٌ لا إله إلا هو، فهم أقرب الناس إلى أصحاب الأديان، هم ليسوا يهودا ولا نصارى، ولكنهم يصلون ويؤدون الزكاة، ويتصدقون، ويؤمنون بالطهر، ولهذا يستحمون في الماء إلى حد أن بعضهم عبد الماء.
وكلمة صابئة مأخوذة من لغتهم المندائية، وتعني الانغماس في الماء أو التعميد أو الاغتسال أو التطهير، وكلها ممكن استعمالها، فهم يعمدون بالماء كالنصارى ، لهذا قال سيدنا علي كرم الله وجهه عن المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب).
كان للشيخ الشعراوي رحمة الله عليه التفاتة حلوة، قال: (العرب أصحاب أذن حساسة في اللغة) يعني كثيراً ما كان بعض الصحابة يقرأ القرآن في وجود واحد من من الأعراب، فيقول البدوي: الله ما أجمل هذا الكلام؟ فالإذن حساسة في اللغة، كالشعراء يعرف الواحد منهم متى يكون الزحاف ؟ فإذا سمع بيتا به زحاف يقول لك هذا غير موزون.
كان أعرابي جالساً يستمع إلى المنصور وهو يخطب فأخطأ في اللغة، فقال له: أنت أخطأت، فأعاد الكلام، وبعد قليل أخطأ ثانية، فقال له: ما هذا؟ ثم عاد فأخطأ، فقام هذا الإعرابي، وقال: (والله أعلم أنك وليت هذه الأمة بالقضاء والقدر).
فرب العالمين أنزل القرآن العربي ليعجز العرب الفصحاء بنظمه، فحين قال (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ) سكتوا، ولكن لما قال (وَالصَّابِئُونَ) كلهم انتبهوا. فكأنه أراد أن يقول: أيها العرب المسلمون، انتبهوا إلى هذه الكلمة، الصابئون، هي مقصودة لنفسها ولذاتها، عليكم أن تدرسوها دراسة مستقلة، فالصابئون إذاً مرفوعة للفت الأنظار، كما يدق واحد جرسا، أو يدق طاولة حتى ينتبه الناس، فالقرآن دق الحروف، فلما قال (وَالصَّابِئُونَ) كأنه دعاهم إلى الانتباه، وقال لهم : أعربوها كما تشاءون، ولكن انتبهوا إلى أن الصابئين لهم وضعٌ خاص.
سؤال: لكن سيدي الفاضل إذا كانت القضية قضية حسٌ لغوي، وهذا الحس اللغوي منذ القرون العباسية بدأ يخفت، فلم ننتبه إلى سر هذا الرفع في هذه الكلمة في قرونٍ متأخرة، ولم نعاملهم معاملة أهل الكتاب في بعض الأحيان؟
نحن الآن في عصر العجمة، فاللغة العربية لغة لا يعرفها إلا القلة من الناس البارعين فيها.
سؤال: لذلك كثيراً ما نتغافل عما ورد في هذه الآية، والتي تشير إلى أن يعاملوا معاملة أهل الكتاب فيخيرون بين الإسلام والجزية، في حالة مقاتلتهم إيانا؟
في الأثر عن المجوس (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) والإسلام يريد أن يدفع القتل، سواء كان حدودا: قصاصا أو قطع يد أو رجما أو جلدا – بكل الوسائل، فمن ضمنها كما تفضلت “سنوا بهؤلاء المجوس سنة أهل الكتاب” لماذا؟ هم يقولون: عندنا نبي، يعني يعرفون أن هناك ربا وأنبياء ورسلا، فالفكرة العامة حسن الخاتمة حتى في الدنيا، هذا مبدأ في التطور، فما الفرق بين أمة متخلفة وأمة متقدمة؟ الشيخ محمد بن راشد له كلمة جميلة في كتابه القيم “رؤيتي”، أعتقد في الفصل الثالث، في الجزء الثاني يقول: (ليس المطلوب أن نتمرد على الماضي- يعني ليس المفروض أن نخرج من الماضي إلى المستقبل – إنما المطلوب أن لا نبقى نعيش في الماضي)، يعني أنت قد تعيش في عقلية الماضي، في عقلية التفكير الماضي، بأساليبه، بحكمه، بعمرانه، صحيح أنك في القرن الواحد والعشرين، لكنك تعيش القرن الأول، أنت تحررت من الماضي، لكنك ما زلت ساكنا فيه.
كهذه الآية (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا) أنت سواء كنت يهودياً مجوسياً صابئياً، أي شيء حتى لو كنت مشركا وثنيا، ثم تركت هذا وآمنت، فأنت تركت الماضي، وصرت في المستقبل، فإياك أن تبقى في الماضي وأنت في المستقبل.
يعني على واقعنا الحالي هناك إنسان ترك الخمر، ولكنه كلما رأى الخمر يتذكر ويتمنى وبشكل رومانسي، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم الإسلام الخمر منع أحدا أن يستعمل أواني الخمر؛ لأنه يحن لها كما قال الشيخ محمد مازال يعيش في الماضي، ولو أنه تركه، لماذا حرّم الإسلام التماثيل؟ لأن الناس مازالوا يعرفون الأصنام، كانوا يعبدونها فربما يحنون.
حينئذٍ هذه قاعدة عامة في الحياة، في القيادة، في الشغل، في العمل، في التطور، في البناء، في الاختراع، في الأفكار، إياك أن تترك الماضي للمستقبل، ، ثم تظل تحيا فيه، حرِّر نفسك من البقاء في الماضي، وليس من الماضي وحده، كل الناس تتحرر من الماضي، وكل الناس تدعي التقدم، تحررنا من الماضي، ولكننا مازلنا نعيش فيه، حرر قلبك من أن تعيش في الماضي، لا من الماضي وحده.
على كل حال هذا موجز الفرق بين الصابئين والصابئون، فالصابئون جاءت لأمرٍ مقصود متعمد، هو لفت أنظار الناس، وقطع اليأس، لا تيأس، فحتى الصابئون كذلك كلهم يغفر لهم إذا تابوا، فالتوبة باب الله الواسعة.
*ما وجه الإختلاف من الناحية البيانية بين آية 62 في سورة البقرة وآية 69 في سورة المائدة؟
د.حسام النعيمى :
الآية الكريمة في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) ذكر الذين هادوا ثم قال النصارى ثم قال الصابئين. في الحج (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)) وفي المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)). في آية البقرة سنجد أن الكلام هنا عن مصائب بني إسرائيل والجرائم التي ارتكبوها: فعلتم كذا، وكذا، وتقتلون النبيين بغير الحق بحيث إن القارئ أو الذي يسمع يدخل في روعه أن هؤلاء لا يمكن أن يرحمهم الله تعالى، فجاءت هذه الآية خلال الكلام عن مصائبهم ومشاكلهم لتبين أن باب التوبة وباب اللجوء إلى الإسلام مفتوح أمامهم، ولذلك قال (فلهم أجرهم) هنا ذكر الأجر، فلما كان الكلام عن أجر الأمم ذكر المؤمنين أولاً وذكر الذين هادوا ثم ذكر النصارى الذين يلونهم، ثم الصابئون الذين يلونهم؛ لأن في الصابئين قولان: فمنهم من يقول هم فريق من النصارى صبأوا، ومنهم من يقول هو قوم جاءوا بعد المسيح، فدرّجها تدريجاً تاريخياً.
أما في سورة الحج، فكان المقصود إظهار التأكيد على أن الذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا يفصل بينهم الله يوم القيامة. وكلمة الذين هادوا لا يظهر إعرابها لأن (الذين) مبنية، والنصارى لا يظهر عليها الإعراب، والآية تريد أن تبين التوكيد فجعلت الصابئين بين الذين هادوا والنصارى؛ لأن الإعراب ظاهر فيها حتى يُعلم أن التوكيد هنا مراد، والتوكيد ظاهر في استعمال (إنّ) في ثلاثة مواضع (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)) من أين عرفناها؟ عرفناها من قوله (الصابئين) لأنها جاءت منصوبة، والنصارى أيضاً، حتى نفهم أن هذا الموضع موضع توكيد بإنّ. وضع الصابئين بين اسمين لا يظهر الإعراب فيهما، والعمل نفسه كُرّر في حالة الرفع (والصابئون) ليُعلم أن الذين هادوا والنصارى في موضع رفع، وسبق أن تكلمنا عنها (الصابئون والصابئين): والآية تقسم الناس إلى قسمين (الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) و (الذين هادوا والنصارى والصابئين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) بشرط الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وفق دين الإسلام بعد أن نزل الإسلام.
في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62))
الاسم ورد في ثلاثة مواضع: الصابئون والصابئين: في موضعين جاء منصوباً وفي موضع جاء مرفوعاً.
إعراب (إن الذين آمنوا): إن: حرف مشبه بالفعل، الذي اسمها في موضع نصب، آمنوا: صلة الموصول. الواو هنا استئنافية أو عاطفة لجملة، وخبر إن محذوف سيدل عليه ما سيأتي تقديره في الكلام: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ابتدأ كلاماً آخر معطوفا على الكلام السابق (والذين هادوا والصابئين والنصارى) الذين: مبتدأ في محل رفع خبره (من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، جملتا الشرط والجواب يعني: الذين هادوا هذا حكمهم (من آمن بالله واليوم الآخر) هذه جملة خبر المبتدأ، فماذا عندي؟ عندي مبتدأ حُذِف خبره لدلالة ما بعده عليه (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وجاءت الواو لتعطف الجملة الجديدة المكونة من مبتدأ ومعطوفات على المبتدأ وجملة خبرية. الذين وحدها مبتدأ، و (هادوا) في موضع رفع، وهذه معطوفة على المرفوعات، وهذا شبيه تماماً بقول بِشر (إننا وأنتم بغاة) إذ أخبر عن أنتم بقوله بغاة ولو كانت الواو عاطفة على مفرد لما استطاع أن يقول أنتم.
الآية في سورة المائدة:الكلام عن اليهود والنصارى، مرة يذكر اليهود ومرة يذكر النصارى ثم يتكلم عن دعوتهم أن يدخلوا في الاسلام، ثم يقول (إن الذين آمنوا والذين هادوا). نأتي الى التطبيق: (إن الذين آمنوا) الذي: اسم موصول مبني في محل نصب، ولم تظهر علامة النصب على الكلميتن، آمنوا: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، الواو في كلمة(والذين هادوا) الواو عاطفة لجملة على جملة. أوضح الأمر أكثر: الذين آمنوا لا يحتاجون إلى أن يقال لهم (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا) هذا القيد ليس لمن آمن بمحمد (صلى الله عليه وسلم) لأن الأمر أمر دعوة. حين يقول (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)) هذا تبليغ ثم يقول (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)) المفسرون يقولون: ما أنزل إليكم هو الاسلام الذي أنزل إليكم، وينبغي أن تتبعوه. الذين آمنوا يعني المسلمين، والمسلمون لا يحتاج إلى أن يقيدهم ويقول (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا).
تقدير الكلام في غير القرآن: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هذا فريق، والذين هادوا والصابئون والنصارى بقيد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ما هو القيد؟ أن يكونوا مؤمنين (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا). أن يكونوا مؤمنين حتى يكونوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لذا نقول: ينبغي أن يرتبط الكلام بكلام العربي، إن هناك حذفا يدل عليه المذكور. الذين آمنوا شيء، وهؤلاء شيء آخر، الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون إذا التزموا بهذا القيد الذي هو (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا).
(والذين هادوا): الواو عاطفة للجملة. الذين: مبتدأ، هادوا: صلة الموصول لا محل لها من الاعراب، الصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: جملتا الشرط والجواب خبر للذين هادوا والجملة كلها معطوفة على الجملة الأولى، فنحن عندنا جملتان تماماً، كقول الشاعر (إنا وأنتم بغاة) والتقدير: إنا بغاة وأنتم بغاة، لكن حذف من الأولى للدلالة في الثانية كقول القائل: خليليَّ هل طبٌ فإني (تقديره: إني دنف) وأنتما دنفان. وبهذا فـ(الذين هادوا): الذين صارت في محل رفع، ودليل كونها مرفوعة، أن الصابئون جاءت مرفوعة، وهنا عطف مفردات (الذين هادوا والصابئون والنصارى) فالذين هادوا مبتدأ بدليل رفع الصابئون.
حتى هذا الذي يتحدث ويقول القرآن فيه غلط في الإعراب هو يجهل العربية أو يتجاهلها، والله تعالى يقول (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) لو لم يكن قلبه مقفلاً لتفهمها.
في العصر العباسي لما شاعت الفلسفة، اعترض أحدهم على جزئية، فقال له أحد العلماء: يا هذا هب أن محمداً ليس نبياً أفتنكر أنه كان عربياً؟ يعني افرض أنه لم يكن نبياً، فهوعربي، أفتعترض على لغة العربي؟
الآن أحدث النظريات اللسانية (النظرية التوليدية التوحيدية) تقول أن ابن اللغة لديه الكفاية اللغوية في أن يدرك ما يوافق لغته وما لا يوافقها، يستطيع أن يقول هذه جملة لاحنة، وهذه جملة صواب من غير دراسة. وإنما أعني بابن اللغة الذي لم يدرسها. أنت الآن إذا قلت لبائع مصري أعطني كيلوين خيارا، يزن لك كيلو واحدا، لأنه تعود أن يقول في لغته 2 كيلو. لم يؤثر – مع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كل الآسئلة التي سُئلها، وكل الحركات التي تحركها، وكل الأقوال التي قالها، في فراش نومه، إلى ساحة المعركة، وما بينهما سُجّلت – ولم يسجّل أن أحداً اعترض لم رُفِعت هنا، ولم نصبت؛ هنا لأنهم كانوا يدركون ذلك.
في سورة الحج: المجال في سورة المائدة مجال دعوة، وفي مجال الدعوة: الذين آمنوا صنف، وهؤلاء المدعون صنف آخر. في الحج الكلام عن الفصل يوم القيامة، فإذا كان عندك مجموعات تريد أن تفصل بينهم – ولله المثل الأعلى – ستجعلهم كتلة واحدة، وتجمعهم جمعاً واحداً، ثم تفصل بينهم .
لاحظ الآيات في سورة الحج: لم تتكلم عن اليهود والنصارى، وإنما تحدثت عن مطلق الايمان والكفر والحساب يوم القيامة، لذلك ذكرهم أولاً بالتأكيد، ثم جمعهم جميعاً حتى يأتي جملة يفصل بينهم. لاحظ الآية: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)) إذن هنا لا مجال ولا معنى لفصل المؤمنين؛ لأن الفصل سيكون يوم القيامة، كيف يفصل بينهم؟ أنت كيف تفصل بين المتلازمات؟ لا بد أن تكون متلازمة، تجمعها أولا ثم تفصل بينها. فلما جاء الى ذكر الفصل جمعهم، وجعل العطف عطفاً طبيعياً (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) حتى يظهر أن الكلام في محل نصب.
في المائدة: إن الذين آمنوا لهم حكم، وهؤلاء لهم حكم مقيّد إذا فعلوه سينحازون الى الإيمان والإسلام، لكن هنا ليس هناك كلام عن الإيمان أو غيره، وإنما الكلام عن الفصل، كيف يفصل؟ لا بد أن يجمعهم أولاً ثم يفصل.
آية البقرة: ممكن أن تُحمل على الوجهين. أولاً: آية المائدة تكلمت عن اليهود والنصارى، وفي الحج لم يذكر يهودا ولا نصارى أو أي شيء، أما هنا في البقرة فذكر اليهود فقط، وتكلم فيهم كلاماً يوحي لمن يقرؤه أن هؤلاء ليس لهم شفاعة ولا يمكن أن يكونوا على خير مطلقاً.
وحين نأتي الى الآيات نجد في هذه المواطن تجميعا لمصائبهم وما صنعوا (وإذ فرقنا بكم البحر، وإذ واعدنا موسى، ثم اتخذتم العجل، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، لن نصبر على طعام واحد، فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) تكاد تقول: هل لهؤلاء من منجاة؟ هل لهؤلاء من مخلص؟ لما كان هذا حالهم جاءت الآية في وسط الكلام عليهم كأنما تريد أن تبين أن هناك بابا مفتوحا لهم ولغيرهم للولوج فيه، والدخول في هذا الدين. خلال الكلام في الآيات التي قبلها (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) ثم يعود إليهم مباشرة (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)) الكلام هل هؤلاء لهم مخرج؟ عند ذلك ذكر (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) هناك لم يذكر الأجر، وهنا تحدث عن الأجر؛ لأن الكلام عن اليهود وحدهم، حتى يعلم الانسان أن هؤلاء وغيرهم لهم منجاة ،ولهم منفذ، والمنفذ هو الايمان بالله واليوم الآخر، عند ذلك يكون لهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الفارق (إن الذين آمنوا) يحسن فيها أن نحملها على وجهين: إما أن تقول كما قلنا في المرة الأولى (إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ثم جاء المعطوف منصوباً؛ لأن المعطوف على اسم إنّ يمكن أن يأتي مرفوعاً ويمكن أن يأتي منصوباً. المرفوع يكون جملة ابتدائية عند ذلك، مثل (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (التوبة)) أي ورسوله كذلك بريء، تمّ الكلام هنا، لكن الحديث هنا قبل تمام الخبر كأن تقول: إن زيداً وخالداً في المكتبة، ولك أن تقول: إن زيداً وخالدٌ في المكتبة، وهذا رأي جمهور الكوفيين في الحقيقة. أنت تستطيع أن تقول هناك جملة اعتراضية : إن زيداً في المكتبة وخالد في المكتبة. صار العطف قبلهم، لكن أنا أميل الى قراءة (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) قُريء – والقراءة منسوبة إلى ابن عباس وإلى ابي عمر (وملائكتُه) ومعناه أن الله يصلي على النبي وملائكته يصلون، وعند ذلك نكون فصلنا صلاة الله تعالى عن صلاة عباده من الملائكة وغيرهم، هذا المعنى ممكن أن نفهمه حتى مع النصب، وهو الذي نميل إليه حقيقة (إن الله وملائكتَه) إن الله يصلي، وإن ملائكته يصلون، هنا التأكيد مراد، الواو عاطفة، وملائكته معطوفة على اسم إنّ، وتكون منصوبة مباشرة، والخبر يكون الخبر للثاني.
وهذا ليس تشتتاً، وإنما هذا كلام العرب، كيف تتحصل على هذا المعنى، لو كان الكلام كله منصوباً في غير القرآن، لو قال الصابئين بالنصب سيختلط الذين آمنوا بالذين هادوا والصابئين، بينما نحن نريد لهم أن يكونوا كياناً مستقلاً له صفته. وتغيّر الوجه الإعرابي دلالة على تغيّر المعنى، يقول إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون بشرط الإيمان، وهذا الشرط لم يذكره مع الذين آمنوا لأنهم آمنوا فعلا.
حكمة التقديم والتأخير:
الصابئون وردت في ثلاثة أمكنة: في البقرة والمائدة والحج، ففي المائدة والحج قدم الصابئين لغرضين: الأول لبيان الإعراب، وحملها على الكلمة التي قبلها في موضع نصب أو موضع رفع، ووضعها بين النصارى والذين هادوا لأن كليهما لا يظهر عليه علامة الإعراب، فوضعها في النصف فتبيّن الأول.
والشيء الثاني يرتبط بالمعنى حتى لا يُفهم أن اليهود والنصارى واحد.
أما في البقرة فحشرهم على الجانب التاريخي؛ لأنه لم يذكر النصارى إنما ذكر اليهود وحدهم، فذكر اليهود ومن وراءهم بالترتيب التاريخي؛ لأن النصارى لم يرد لهم ذكر هنا، والذين آمنوا (المؤمنون) مقدّمون على الجميع .
آية (63):
*ما اللمسة البيانية في تقديم كلمة( الجبل) فى سورة الأعراف ، وتأخير (الطور) فى سورة البقرة؟( د.فاضل السامرائى)
قاعدة نحوية: يقول سيبويه في التقديم والتأخير: يقدمون الذي هو أهمّ لهم، وهم أعنى به.
والتقديم والتأخير في القرآن الكريم يقرره سياق الآيات، فقد يتقدم المفضول، وقد يتقدم الفاضل، والكلام في سورة الأعراف عن بني إسرائيل، والطور (وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {171}) قدّم الجبل على بني إسرائيل، أما في آية أخرى في سورة البقرة فقال (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {63}) فأخّر الطور؛ لأن سياق الآيات في السورة في الكلام عن بني إسرائيل، وليس في الطور نفسه.
والجبل هو إسم لما طال وعظُم من أوتاد الأرض، والجبل أكبر وأهم من الطور من حيث التكوين، أما النتق فهو أشد وأقوى من الرفع الذي هو ضد الوضع، ومن الرفع أيضاً الجذب والاقتلاع وحمل الشيء والتهديد بالرمي به، وفيه إخافة وتهديد كبيرين، ولذلك ذكر الجبل في آية سورة الأعراف؛ لأن الجبل أعظم، ويحتاج للزعزعة والاقتلاع، وعادة ما تُذكر الجبال في القرآن في موقع التهويل والتعظيم؛ ولذا جاء في قوله تعالى (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ {143})، ولم يقل الطور، إذ النتق والجبل أشد تهديداً وتهويلاً.
*ما الفرق بين(فوقهم)فى قوله تعالى:(وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّور (63) البقرة)، و(من فوقهم)فى قوله(لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ (16) الزمر) ؟ (د.فاضل السامرائى)
(من) يسموها ابتداء الغاية، لو حذف (من) يقول يسلك بين يديه، ما الفرق بينهما؟ بين يديه يعني أمامه، قد يكون الرصد قريباً أو بعيداً، والخلف قد يكون بعيداً أو قريباً، خلفك يمتد إلى ما لا نهاية، بينما (من) ابتداء الغاية ملاصق لا يسمح لأحد بأن يدخل، مثلاً (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا (10) فصلت) من فوقها، الرواسي ملاصقة للأرض، فلو قال فوقها تحتمل: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ (6) ق) (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّور (63) البقرة) ليس ملاصقاً لهم وإنما فوق رؤوسهم، (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ (19) الملك)، (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ (75) الزمر)، ليس هنالك فراغ بين العرش والملائكة (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ (16) الزمر)، مباشرة عليهم، فلو قال فوقهم تحتمل بُعد المسافة (يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) الحج) مباشرة على رؤوسهم.
سؤال: هل هنالك معان للحروف في اللغة العربية؟
هناك كتب كثيرة مؤلفة في معاني الحروف مثل مغني اللبيب وغيره.
آية (69):
*(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) البقرة)ما دلالة (فاقع لونها)؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
لو قال تعالى بقرة صفراء لعلِم بنو إسرائيل أنه لون الصُفرة، لاسيما أن هذا اللون نادر في البقر، فلم قيّد الصفرة بصفة فاقع؟في هذا التعبير مزيد من التعجيز والتقييد، وتحديد لبقرة بعينها دون سواها، وهنا تضييق على بني إسرائيل، فعندما شدّدوا شدّد الله تعالى عليهم.
آية (70):
*(إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا (70) البقرة) لم قالوا هذه الجملة في هذه الآية مع أنهم لم يقولوها في المرات السابقة؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
طلب بنو إسرائيل صفات البقرة على ثلاث مراحل طلبوا تحديد ماهيتها (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ (68) البقرة)، ومرة طلبوا تحديد لونها (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا (69) البقرة)، ولم يعللوا سبب طلبهم، فلما لجأوا للتعليل في المرة الثالثة قالوا (قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) البقرة)، لأن فعل الشيء ثلاث مرات يكون له وقع من الضجر في النفس، فلا بد من إضافة تعليل في المرة الثالثة.
* ما الفرق في استعمالات الفعل كاد في (فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) البقرة) و (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا (40) النور) و (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ (51) القلم)؟(د.حسام النعيمى)
(كاد) في دراسات النحو يقولون هي من أفعال المقاربة، حين تقول: “كاد زيد يفعل كذا” يعني قارب الفعل، نقول “كاد المتسابق يفوز” يعني هو لم يفز، لكن قارب الفوز.
واستعمال (كاد) يأتي بعدها الفعل المضارع الغالب من غير (أن) إلا النادر (كدت أن أصلي العصر) الأصل أن تأتي من غير (أن): كاد يفوز.
و(ما كاد) أو (لم يكد) معناها أصلاً لم يقارب، يعني لا قاربه ولا فعله من باب أولى. “كاد يفوز” يعني قارب الفوز، لكن “ما كاد يفوز” أو “لم يكد يفوز” نفي المقاربة. لكن قلنا أكثر من مرة أن العربي يتصرف في الألفاظ وصار يستعملها بمعنى فعلت بعد جهدٍ وإبطاء، في العامية نحن نستعملها أحياناً فنقول: بالكاد فعلت هذا الأمر، يعني ما كدت أفعله، فعلته بعد إبطاء. وحين يقول أحياناً في بعض النصوص: “وصلتُ إليك وما كدت أصِل”، يعني ابتداء وصلت إليك، ما كدت أصل يعني وصلت إليك، ولكن بعد جهد وبعد تعب.
نرجع الى السياق، ونأتي إلى النص (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ (71) البقرة)، في البداية قال (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) البقرة)، وجاءت (بقرة) بالتنكير لأن المطلوب أن يمسكوا أي بقرة فيذبحوها، فشددوا، فشدد الله سبحانه وتعالى عليهم، فلما انسدت كل المنافذ قالوا الآن جئت بالحق، فذبحوها، فهي إذًا ذُبِحت، قال (وما كادوا يفعلون)، ونفهم من خلال النص أنهم فعلوا ذلك بعد إبطاء وجهد، ويقوّيها لفظة (فذبحوها) كما تقول وصلت إليك وما كدت أصل، لا يعني بقوله وما كدت أصل ما قاربت الوصول ، وفي سياق آخر يقال (ما كاد فلان يفوز) يسأله أفاز فلان في السباق؟ فيقول له: ما كاد يفوز أي أصلاً ما قارب الفوز.
خلاصة الأمر أن السياق هو الذي يعين المعنى المراد، أو المعنى الذي تحول إليه العربي بتحول الدلالة، يعني صار يعطيه دلالة جديدة، لكن وفق السياق الذي يبين مراده منها.
*ما الفرق بين يعملون ويفعلون وبين الفعل والعمل؟(د.حسام النعيمى)
يقولون: العمل ما كان فيه امتداد زمن، والعمل أخصّ من الفعل فكل عمل فعل ولا ينعكس، والعمل فيه إمتداد زمن (يعملون له ما يشاء من محاريب) هذا للجانّ، وهذا العمل يقتضي منهم وقتاً، لكن حين تحدث تعالى عن الملائكة قال (ويفعلون ما يؤمرون) لأن فعل الملائكة برمش العين، عندنا آيات وكلام علماؤنا دقيق في هذا الباب.قال تعالى (مما عملت أيدينا) ولم يقل: فعلت، وقال (وما عملته أيديهم)؛ لأن خلق الأنعام والثمار يحتاج لوقت، الله تعالى حين يخلق التفاحة لا يخلقها فجأة، فقال: عملت أيدينا، يعني هذا النظام معمول بهذا الشكل لأن فيه امتداد زمن. لكنه تعالى قال (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) في لحظة أرسل عليهم حجارة، (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) خسف بهم، وقال تعالى (وتبين لكم كيف فعلنا بهم) العقوبات، فغضب الله سبحانه وتعالى حين ينزل على الضالين والظالمين أنفسهم ينزل فوراً، ولا يحتاج لامتداد زمن.
خواتيم الآيات في سورة البقرة (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)) كادوا لا يفعلون، والذبح سريع، فهو فعل، لكنه قال (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)) أيّ في حياتهم، لأن مدة العمل طويلة. في ضوء هذا نستطيع أن ننظرإلى معاني الآيات، فما فيه زمن يقول: يعملون، وما ليس فيه امتداد زمن، وهو مفاجئ، يقول: يفعلون، والله أعلم.
آية (76):
*ما الفرق بين فتح الله لك وفتح الله عليك؟( د.فاضل السامرائى)
يقال: فتح لك، وفتح عليك، لكن فتح عليك تكون من فوق، وقد تكون في الخير والشر (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) الحجر) (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) المؤمنون) (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ (96) الأعراف) (قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) البقرة). إذًا فتح الله عليك تأتي في الخير والشر، وتأتي من فوق.
آية (77):
*(أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) البقرة): هل هذا الاستفهام في الآية حقيقي؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
هل ينتظر المستفهِم جواباً لسؤاله؟ إنك قد تقول لولدك أو عاملك ألم تعلم أني أكره هذا الأمر؟ فسؤالك لا تنتظر له جواباً، وإنما غايتك لوم الفاعل، هذا لا يُنتظر منه جواب، وإنما الغاية لوم الفاعل، وفي قوله تعالى (أولا يعلمون) استفهام غايته التوبيخ ولوم القوم.
آية (78):
*(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) البقرة): الأمي هو من لا يعرف القراءة ولا الكتابة لكن من أين أتى هذا اللفظ؟ ومن أين اكتسب معناه؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
إن كلمة أميّ اسم منسوب، والنسبة هي كل اسم انتهى بياء مشددة، فإذا أردنا أن ننسب رجلاً إلى اليمن نقول هو يمنيّ، فما الكلمة التي نُسِب إليها الأميّ؟ إن هذا الإسم منسوب إلى الأم أي الوالدة، لأنه بقي على الحال التي بقي عليها مدة حضانة أمه له، فلم يكتسب علماً جديداً؛ لذلك قيل عنه أميّ.
آية (79):
*(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ (79) البقرة) لو قال تعالى فويل لهم مما كتبوا لعُرِف بداهة أنهم كتبوا بأيديهم فلِمَ ذكر كلمة (أيديهم) إذًا؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
ذكر كلمة (أيديهم) مع أن الكتابة تتم باليدّ لتأكيد وقوع الكتابة من قِبَلهم، وتبيان أنهم عامدون في ذلك، كما تقول نظر بعينه مع أن النظر لا يكون ولا يتم إلا بالعين، وتقول تكلّم بفمك، فالغاية من هذا كله تأكيد العمل.
آية (80):
*ما الفرق بين دلالة الجمع في معدودة ومعدودات؟( د.فاضل السامرائى)
القاعدة: أن جمع غير العاقل إن كان بالإفراد يكون أكثر من حيث العدد من الجمع السالم، كأنهار جارية وأنهار جاريات، فالجارية أكثر من حيث العدد من الجاريات، وأشجار مثمرة أكثر من مثمرات، وجبال شاهقة أكثر من حيث العدد من شاهقات، فالعدد في الأولى أكثر، وجمع السالم قلة، فهذه من المواضع التي يكون فيها المفرد أكثر من الجمع.
معدودات جمع قلّة، وهي تفيد القلّة (أقل من 11)، أما معدودة فهي تدل على أكثر من 11، وقد قال تعالى في سورة يوسف عليه السلام (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)) أي أكثر من 11 درهما، ولو قال معدودات لكانت أقل.
مثال: قال تعالى في سورة آل عمران (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ {24})، اختيار كلمة (معدودات) في هذه الآية؛ لأن الذنوب التي ذُكرت في هذه الآية أقلّ.
وقال تعالى في سورة البقرة (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {80}) اختيار كلمة (معدودة)في هذه الآية لأن الذنوب التي ذُكرت في هذه الآية أكثر.
* اليهود قالوا (وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً (80) البقرة) وآية أخرى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ (24) آل عمران) ما الفرق؟(من برنامج أخر متشابهات للدكتور أحمد الكبيسى)
للأسف المفسرون قالوا أنهما نفس المعنى، وهذا غير صحيح. المعدودات يعني أنا عندي أيام محددة تتكرر كل سنة فلا تختلف مثل أيام العيد، مثل رمضان وفي الحج (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ (203) البقرة) في كل سنة لا تتغير، هذه المعدودات. أما في أيام معدودة فنقول مثلا: سنسافر أياما معدودة لأمر ما، هذه معدودة لأنها ليست محددة .
إذن هما مذهبان كما قلنا، هناك أفكار للعلماء تختلف، وهذا في غاية الصحة العلمية، وتلك طبيعة العقل البشري، فالذي لا يختلف هو الحيوان (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء (171) البقرة) مليون نعجة تقودها بصوت واحد. فقسم من بني إسرائيل قالوا: سيعذبنا الله خمسة أيام من أيام كل شهر، وآخرون قالوا: خمسة أيام ليست معلومة، والله تعالى لما نقل آراءهم وأفكارهم بهاتين الكلمتين لخص لنا أن بني إسرائيل منقسمون حول هذه الأيام.
آية (81):
*(بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) البقرة) كيف تحيط الخطايا والإثم بالإنسان؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من آثام جرائم، تأمل السِوار الذي يحيط بالمعصم فلا يبقي منفذاً من اليد خالياً دون إحاطة، وهذه صورة الخطايا والآثام عندما تكثر فهي تلتف حول الجسم والروح، ولا تدع للإنسان مجالاً للهروب من الخطأ، كذلك الفاسق لو أبصر أيمن منه وأيسر منه، ولو أبصر فوقه أو أسفل منه لما رأى إلا المنكر الذي ألِفَه واعتاده.
* (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ (81) البقرة) ما إعراب أحاطت به وما شرحها؟( د.فاضل السامرائى)
أحاط فعل ماضي مبني على الفتح، والتاء تاء التأنيث الساكنة.
آية (83):
*ما الفرق بين (ذي القربى(83)البقرة) و(بذي القربى(36)النساء؟(د.أحمد الكبيسى)
يقول تعالى (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى ﴿83﴾ البقرة) (وذي) واو ذاء ياء، لا يوجد باء، الآية الأخرى للمسلمين (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى﴿36﴾النساء).
عندنا آيتان: آية اليهود (وَذِي الْقُرْبَى) وآية المسلمين (وَبِذِي الْقُرْبَى)، هل هذه الباء زائدة يعني ليس لها معنى؟ في الحقيقة لا، فرب العالمين بهذه الباء يرسم مستقبل القربى عند اليهود ومستقبل القربى عند المسلمين، أي الترابط الأسري، والتناسب الخَلقي لمدى مسؤولية كل واحد في الأسرة، فعندنا نحن فروع ابنك وبنتك وأبناؤهم، وعندنا أصول أبوك جدك وآباؤهم، وعندنا أطراف إخوة وأخوات وأولادهم، وأعمام وعمات، وهكذا، هذا التناسب أين سيكون كاملاً مائة بالمائة ؟ أين ستكون العناية به كاملة كما أمر الله؟ رب العالمين يعلم مقدماً أنه ما من أمة على وجه الأرض سوف تصل إلى ما وصل إليه المسلمون من هذا الرحم، وهؤلاء القربى، والكل يشهد بذلك.
نحن لا يوجد لدينا من يترك أمه وأباه في الملجأ، ولا يوجد من لا يعرف عمه أو خاله، أو من لا يعرف أباه أو جده هذا مستحيل. في حين الأمم كلها لا تُعنى بهذا اليوم، فرب العالمين عز وجل عندما ترك الباء بهذه الآية الموجهة للمسلمين إشارة إلى أن هذه الأمة وحدها هي التي سوف تُعنى بالأرحام والأقارب والوالدين والتماسك الأسري أعماما وأخوالا وأجدادا وجدات، كما لا يمكن أن تفعل أمة أخرى، هذا هو أثر الباء، ووجودها في آية المسلمين، وحذفها من آية أخرى لغير المسلمين.
آية (84):
*(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (84) البقرة) هذه الآية تخاطب بني إسرائيل الذين مضوا، ومع ذلك جاءت بصيغة المخاطب ، فما السبب في مخاطبة من مضى؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
إن المخاطبة جاءت للخَلَف من بني إسرائيل؛ لتبين للمؤمنين أن الخلف من بني إسرائيل هم بمنزلة أسلافهم، فأفعالهم واحدة، وتصرفاتهم موروثة.
آية (86):
*ما الفرق بين استخدام كلمة (يُنصرون) في سورة البقرة وكلمة (يُنظرون) في سورة البقرة وآل عمران؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ {86}) وقال في سورة البقرة أيضاً (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ {162}) وفي سورة آل عمران (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ {88}).
لو نظرنا في سياق الآيات في سورة البقرة التي سبقت آية 86 لوجدنا الآية (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ {84} ثُمَّ أَنتُمْ هَـؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ {85}) فالآيات تتكلم عن القتال والحرب، والمحارب يريد النصر، لذا ناسب أن تختم الآية 86 بكلمة (ينصرون)، أما في الآية الثانية في سورة البقرة وآية سورة آل عمران، ففي الآيتين وردت لفظة اللعنة، واللعنة معناها الطرد من رحمة الله والإبعاد، والمطرود كيف تنظر إليه؟ كلمة يُنظرون تحتمل معنيين لا يُمهلون في الوقت، ولا يُنظر إليهم نظر رحمة، فإذا أُبعد الإنسان عن ربه وطُرد من رحمة الله، فكيف يُنظر إليه؟ فهو خارج النظر، فلذلك استوجب ذكر (يُنظرون) في الآيتين في سورة البقرة وسورة آل عمران .
آية (87):
*(وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (87) البقرة)هل لمعنى أيدناه علاقة باليد؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
معنى أيّدناه أي قوّيناه، وشددنا أزره وعضده، والفعل أيدناه مأخوذ من اليد فما صلة اليد بقويّناه؟ اليد تطلق عادة على القدرة والمنعة؛ لأنها آلة القوة والدفاع عن النفس، ومنع الآخرين من الاعتداء.
آية (87):
*لماذا اختلاف صيغة الفعل في قوله تعالى (ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) البقرة آية 87؟( د.فاضل السامرائى)
كذبتم فعل ماضي، وتقتلون فعل مضارع، وزمن الأفعال يعبّر أحياناً عن الأحداث المستقبلية بأفعال ماضية (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} الزمر)، والأحداث الماضية بأفعال مضارعة حكاية للحال، كأنما نريد أن نستحضر الحدث أمامنا مثل قوله تعالى في سورة الأعراف (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {57}).
آية (89):
*(وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (89) البقرة) (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (91) البقرة) (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (101) البقرة) متى ُترفع كلمة مصدق ولماذا، ومتى تُنصب ولماذا؟(د.حسام النعيمى)
الجُمل بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال. حين نقول رأيت رجلاً يركض، جملة يركض صفة لرجل لأن (رجل) نكرة، ولكن لو قال رأيت الرجل يركض ستكون لبيان حاله، فالنكرة تحتاج إلى وصف حتى تتبين، أما المعرفة فيبيّن حالها. فلما قال الله عز وجل (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (89)، (كتاب) نكرة قال بعدها (مصدقٌ لما معهم)، فجاء بها وصفاً لكتاب، وكتاب مرفوع فتكون الصفة (مصدقٌ) مرفوعة،
الآية الأخرى في السورة نفسها (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ (91) البقرة)، (وهو الحق) الحق معرفة فقال: مصدقاً، ولو قيل في غير القرآن: وهو حقٌ، لقال: مصدقٌ؛ لأن النكرة كما قلنا تحتاج إلى وصف .
وقوله: هو الحق، أي أن الحق مجسم بهذا القرآن الكريم فجاء بالحال، يعني في حال تصديقٍ لما معكم، هذا القرآن يصدق ما معكم، وقال: الذي معهم، كأنهم متلبسون به، والذي معهم هو التوراة، وما حوته التوراة من أوصاف للرسول (صلى الله عليه وسلم) والمكان الذي سيظهر فيه، وبعض صفاته، هذا القرآن يصدق أوصاف هذا الرسول، أو مصدق لما معكم من التشريعات التي لم تُنسخ، أو التي لم تُحرّف فهو في بيان حال.
والآية الأخرى في البقرة (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ (101) البقرة) كأنما هم لم يعلموا أن هذا تصديقٌ لما عندهم ، وتكلفوا أن يظهروا بهذا المظهر، فجاءت (رسول) نكرة، فقال (مصدق).
آية (91):
*من برنامج ورتل القرآن ترتيلاً:
جاء الفعل (تقتلون) بصيغة المضارع، مع أن هذا الأمر قد مضى في عهود سابقة، ولكن الله تعالى عبّر عنه بالمضارع؛ لتبقى مستحضراً لهذا الفعل الشنيع الذي ارتكبه اليهود من قتلهم لأنبياء الله.
آية (91):
* ما دلالة صيغة الفعل المضارع فى (تقتلون) ؟( د.فاضل السامرائى)
هذا يُسمّى حكاية الحال بمعنى أنه إذا كان الحدث ماضياً، وكان مهماً، فإن العرب تأتي بصيغة المضارع حتى تجعل الحدث وكأنه شاخص ومُشاهد أمامك، والمضارع يدل على الحال والاستقبال، والإنسان يتفاعل عادة مع الحدث الذي يشاهده أكثر من الحدث الذي لم يره، أو الذي وقع منذ زمن بعيد، فالعرب تحول صيغة الأحداث إلى صيغة المضارع وإن كانت ماضية.
وهذا الأمر ورد في القرآن كثيراً كما في قوله تعالى في سورة البقرة (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91))، وقتل الأنبياء حالة مستغربة، وفي القرآن يأتي بصيغة المضارع مع الأشياء المهمة التي تدل على الحركة والحيوية. وقد جاء في قوله تعالى في سورة فاطر (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)) جاء فعل أرسل بصيغة الماضي ثم فعل (فتثير) بصيغة المضارع ثم فعل (فسقناه) بصيغة الماضي، مع أن السّوق يأتي بعد الإثارة، والأحداث كلها ماضية، لكن الإثارة مشهد حركة، فجعلها بصيغة المضارع ليدل على الحضور.
وهذا الأمر نجده أيضاً في السيرة ففيما روي عن الصحابي الذي قتل أبا رافع اليهودي الذي آذى الرسول (صلى الله عليه وسلم) :
“فناديت: أبا رافع، فقال: من هذا؟ فأهويت عليه بالسيف، فأضربه وأنا دهش”.
فجعل صيغة المضارع للمشهد الأبرز، وهو الضرب، فكأن السامع يرى الحادثة أمامه، ويرى الصحابي وهو يضربه.
آية (91):
* ما المقصود ب(بما وراءه) في قوله تعالى(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) البقرة) ؟(د.حسام النعيمى)
الدين الذي كان سائداً قبل الإسلام في جزيرة العرب هو اليهودية وليس النصرانية، واليهود كانوا قبائل في جزيرة العرب. ولو سألت الآن أي يهودي ما قولك بعيسى (عليه السلام)؟ لا يقول هو نبي أُنزل عليه كتاب، بل هو لا يؤمن بعيسى (عليه السلام) ولا بكتابه، كما أنه لا يؤمن بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ولا بكتابه. هذه عقيدة اليهودي ولذلك بقي يهودياً، وإلا كان سيصبح نصرانياً أو مسلماً، والذي يعرف دين موسى فقط إذا كان يهودياً لا يعترف بعيسى لأنهم حاولوا قتله، ولوإعترفوا به نبيّاً ما صلبوا هذا المشبّه وقتلوه على أنه عيسى (عليه السلام) ، وقتلوا من وراءه (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) البقرة) .وحتى يكتمل إيمان المسلم ينبغي أن يؤمن بما ورد في كتاب الله عز وجل، وفي كتاب الله إثبات نبوة عيسى (عليه السلام).
آية (93):
*قال تعالى:(وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ (93) البقرة)ما معنى الآية؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
الإشراب هو أن تسقي غيرك، وتجعله يشرب، فكيف أُشربوا العجل؟. إن الشرب هو جريان الماء في عروق الإنسان، وقد عبّر الله تعالى عن شدة شغف اليهود بالعجل بشرب الماء؛ لأن الماء أسرى في الأجسام من غيره، ولذلك يقال الماء مطية الأدوية ومركبها الذي تسافر به في أقطار البدن فجعل شدة حبهم للعجل، وعدم قدرتهم على إخراج هذا الحب الذي خالطهم أشبه ما يكون بالماء الذي لا غنى لأحد عنه، وهو يسري في عروق الإنسان فيصبح جزءاً من جسم الإنسان، وكذلك حُب بني إسرائيل للعجل خالط لحومهم ودماءهم حتى غدا جزءاً منهم.
آية (95):
*(وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ (95) البقرة)لم خص الله اليد؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
انظر كيف عبّر الله تعالى عن الذنوب والمعاصي التي ارتكبها بنو إسرائيل بقوله (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ)، فلِمَ خصّ اليد بالذنب دون غيرها، مع أنهم أساءوا لعيسى (عليه السلام) بلسانهم وكذبهم عليه؟ وإذا رجعت إلى فظائعهم وجدت أفظعها باليد، فأكثر ما صنعوه هو تحريف التوراة ووسيلته اليد، وأفظع ما اقترفوه قتل الأنبياء وآلته اليد.
تُعدّ هذه الآية بما فيها من تحدٍّ سافر لليهود إحدى معجزات القرآن وإحدى دلائل النبوة، ألا ترى أنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فكان تمني الموت منهم فيه تكذيب لهذه الآية، ومن ثم تكذيب للنبي (صلى الله عليه وسلم) ، ومع ذلك لم يُنقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت.
آية (96):
*ما دلالة استخدام كلمة (حياة) نكرة في قوله تعالى (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة)؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ {96}) وجاءت كلمة حياة نكرة، وهي تعني أي حياة، سواء كانت حياة حيوانات أو حشرات، وهذه إشارة إلى أنهم يريدون أي حياة كانت، وإن كانت ذليلة أو مُهينة أو تافهة ودنيَّة، وليست الحياة الكريمة، وإنما أي حياة مهما كانت دنيئة، لذا هم حرصوا على حياة تافهة ولا يتمنون الموت كما تحدّاهم به القرآن،
لحديث عن اليهود.
*ما معنى اسم جبريل؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
(جبريل) اسم عبراني للملك المرسَل من الله تعالى بالوحي لرسله، وهو مركّب من كلمتين: كلمة (جِبر) وكلمة (إيل)، فأما كلمة جِبر فمعناها عبد أو قوة، وكلمة إيل تعني اسماً من أسماء الله في العبرانية.
وقد ورد إسم جبريل في القرآن في عدة صور منها: جِبْرِيل وبها قرأ الجمهور، ومنها جَبريل وبها قرأ ابن كثير ومنها جبرائيل وبها قرأ حمزة والكسائي، وجَبرائل وبها قرأ أبو بكر عن عاصم.
* ما الفرق بين (نزله على) فى قوله تعالى: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )97)) وأنزلنا اليك في سورة البقرة (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99))؟(د.حسام النعيمى)
لو تأمل الإنسان في الآيات تتضح له الإجابة: آية البقرة (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) اليهود صاروا يشتمون جبريل، وأعلنوا عداءهم له، فكأن الآية تقول لهم: جبريل لم يصنع شيئاً من عند نفسه، وإنما نزّل هذا القرآن على قلب محمد (صلى الله عليه وسلم) بإذن من الله سبحانه وتعالى (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ) وتكلمنا في المرة الماضية عن فكرة على وإلى (على فيها معنى الاستعلاء، وإلى فيها معنى الإيصال).
نزّله هنا على وزن فعّل تأتي للتكثير والتدريج، عندما تقول علّمه معناها: درّجه في العلم فتعلّم، ففيه نوع من التدريج. فنزّله على قلبك، هو هذا التدرج الذي نزل به.
في الآية الأخرى (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)) ذكر جبريل هنا، لكنها في حال نزول القرآن لم تشر إلى جبريل، وإنما أشارت إلى المصدر الأول وهو الله سبحانه وتعالى (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) لما ذكر السياق الله سبحانه وتعالى: (فإن الله عدو للكافرين)، قال: (ولقد أنزلنا إليك) الباري عز وجل يتحدث عن نفسه (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ)، فهذا الإنزال بمعنى الإيصال، إننا أوصلنا إليك هذه الآيات لتبلّغها للناس.
* ما دلالة ذكر الملائكة ثم ذكر جبريل وميكال في الآية (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) البقرة)؟( د.فاضل السامرائى)
هذا يسمى من باب عطف الخاص على العام لأهمية المذكور، الآية (مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ (98) جبريل وميكال من الملائكة، وهما من رؤوساء الملائكة، فذكرهم لأهميتهم، وهذا كثير في القرآن (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى (238) والصلاة الوسطى من الصلوات، فهذا من باب عطف الخاص على العام. قال تعالى في الجنة (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) الرحمن) وهذا لأهمية وخصوصية هذا الأمر. فجبريل وميكال ليسا كعموم الملائكة لكنهم منهم، فيسمونه عطف الخاص على العام كما أن عندنا عطف العام على الخاص (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة) وابراهيم واسماعيل من النبيين.
هناك عطف الشيء على مرادفه، وعطف الخاص على العام، وعطف العام على الخاص، وهذا له قيمة بلاغية دلالية ليُظهر أهميته، فحين يذكر الصلاة الوسطى والمحافظة عليها فذلك لأهميتها الخاصة، وحين يذكر جبريل وميكال فهما ليسا كعموم الملائكة، فجبريل مختص بالوحي، وذكر هؤلاء دلالة على أن للمذكور مزية خاصة ليست كالعموم.
*ما دلالة ختام الآية في قوله تعالى (مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ {98})؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى(مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ {98}) هي إجابة عامة وليست للشرط فقط، والمقصود بها إرادة العموم، فلا يكون الجواب منحصراً بالشخص المذكور، ولم يقل عدو لهم، فأفاد أن هؤلاء كافرون، والآية تشمل كل الكافرين، فدخل هؤلاء في زمرة الكافرين، وعداوة الله تعالى لا تختص بهؤلاء، وإنما لعموم الكافرين، فأفاد أمرين: أن هؤلاء كافرون، وأن عداوة الله لا تنحصر بهم، ولكن بكل كافر. وهي أشمل كما جاء في قوله تعالى في سورة الأعراف (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ {170}) جاءت للعموم، فلم يقل تعالى (لا نضيع أجرهم) ليفيد أن المذكورين دخلوا في المصلحين..
آية (100):
*قال تعالى(أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم) لِمَ عبّر الله تعالى عن نقض اليهود للعهد والميثاق بالنبذ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
أنت تعلم أن النبذ هو الطرح والإلقاء، فما علاقة الطرح بنقض الميثاق؟ لقد شبه الله تعالى العهد والميثاق الذي أقرّ به اليهود بكتاب أحكموا قبضته بيدهم عليه حتى لا يقع، ولكنهم سرعان ما تخلوا عن عهدهم، وألقوا هذا الكتاب وطرحوه أرضاً، إشارة إلى نقضهم للميثاق.
آية (101):
*ما الفرق بين (أوتوا الكتاب) و(آتيناهم الكتاب)؟( د.فاضل السامرائى)
القرآن الكريم يستعمل أوتوا الكتاب في مقام الذم، ويستعمل آتيناهم الكتاب في مقام المدح.
قال تعالى (وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) البقرة) فهذا ذم، (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) البينة) هذا ذم، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ (44) النساء) ذم أيضا.
بينما آتيناهم الكتاب تأتي مع المدح (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ (121) البقرة) مدح، (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ (36) الرعد) مدح.
هذا خط عام في القرآن على كثرة ما ورد من أوتوا الكتاب، وآتيناهم الكتاب حيثما قال أوتوا الكتاب فهي في مقام ذم، وحيثما قال آتيناهم الكتاب ففي مقام ثناء ومدح. والقرآن الكريم له خصوصية خاصة في استخدام المفردات، وإن لم تجر على سنن العربية، فأوتوا في العربية لا تأتي في مقام الذم، وإنما هذا خاص بالقرآن الكريم، ورب العالمين يسند التفضل والخير لنفسه (آتيناهم الكتاب) فلما كان فيه ثناء وخير نسب الإيتاء إلى نفسه، أما أوتوا ففيها ذم، فنسبه للمجهول (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا (5) الجمعة) (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) الشورى)، أما قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (32) فاطر) فهذا مدح.
آية (102):
*(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ (102) البقرة)لم نسب الله تعالى تعليم السحر لليهود؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
نسب الله تعالى تعليم السحر لليهود؛ لأنهم اشتُهروا في هذا المجال، وعُرِفوا به، وعُرف بهم، حتى غدا سمة من سماتهم، وقد اعتقد المسلمون في المدينة أن اليهود سحروا المسلمين، فلا يولد لهم، فلذلك استبشروا لما وُلِد عبد الله بن الزبير، وهو أول ولد للمهاجرين في المدينة.
آية (102):
* ما دلالة استخدام صيغة الفعل المضارع في قوله تعالى (وما يعلمان من أحد)؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) البقرة) وهما علّما الناس وانتهى الأمر، فالفعل المضارع قد يستخدم ليعبّر به عن الماضي فيما نسميه حكاية الحال، كما يُعبّر عن الماضي بالمستقبل، كما في قوله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) البقرة)، وقوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91))، قال: تقتلون، وقال معها: من قبل. وحكاية الحال هو أن يُعبّر عن الحال الماضية بالفعل المضارع للشيء المهم ليجعله حاضراً أمام السامع، واستحضار الصورة في القرآن وفي غير القرآن كثير.
* (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102) البقرة) ما إعراب ما؟( د.فاضل السامرائى)
(واتبعوا ما تتلوا الشياطين): هذه مفعول به (إسم موصول)، (وما كفر سليمان) هذه نافية، (يعلمون الناس السحر وما أنزل) معطوفة على السحر، (وما يعلمان من أحد حتى يقولا) هذه نافية، (فيتعلمون منهما ما يفرقون به) هذه مفعول به بمعنى الذي، (وما هم بضارين به من أحد) هذه نافية، (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) هذه نافية بمعنى ليس، وما دام تقدم الجار والمجرور فلا تعمل، وقد تكون حجازية لكن لا نعرفها لوجود (من) الزائدة، ولأن الخبر جار ومجرور، (لبئس ما شروا به أنفسهم) يمكن أن تكون فاعلاً أو تمييز (ما بعد بئس وبعد نعم) كلاهما يجوز، إما نعم شيئاً أو نعم الشيء.
آية (104):
*(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا)ما مناسبة نزول هذه الآية عقب آيات السحر؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
نُهيَ المؤمنون عن التلفظ بكلمة راعنا، وهذه كلمة تشبه كلمة في العبرانية تعني المسبّة، فقال المنافقون واليهود: كنا نسبّ الرسول (صلى الله عليه وسلم) سرّاً فأعلنوا بها الآن، فأنزل الله تعالى النهي عن هذه الكلمة، وكشف عمل اليهود والمنافقين. لكن ما مناسبة نزول هذه الآية عقب آيات السحر؟ لو رجعنا إلى أصل السحر لرأينا أنه يرجع إلى التمويه، وأن من ضروب السحر ما هو تمويه للألفاظ، فأذى الشخص بقول أو فعل لا يُعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى، ومقصود المتكلم به أذى، كما فعل المنافقون بقولهم (راعنا)، فهم يظهرون معنى، ويبطنون غيره.
*قال تعالى (مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ) لِمَ عطف الله تعالى قوله (ولا المشركين) على (الذين كفروا من أهل الكتاب)، مع أن المشركين كافرون؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لقد عطف الله تعالى قوله (ولا المشركين) على (الذين كفروا من أهل الكتاب)؛ لئلا يقع في الظن أن الحسد يقع من أهل الكتاب وحدهم دون غيرهم، فالكفر سبب البُغض والحسد أينما كان، وفي أي زمن كان.
آية (105):
*ما دلالة وصف الفضل بالعظيم؟(د.حسام النعيمى)
وُصِف الفوز في القرآن الكريم، وكذلك الفضل بأنه عظيم وكبير ومبين.
الفضل وُصِف بالعظيم في ثماني آيات في القرآن كله، ووصف بالكبير في ثلاث آيات، ووصف بالمبين في آية واحدة، والخلاصة التي نقدمها في هذا الموضوع ابتداء قبل استعراض الآيات هي أن الوصف إذا كان بلفظ العظيم يكون متصل الاسناد مباشرة باسم الجلالة (الله)، ويكون الوصف متعدداً، وعندما تكون الاشارة الى فضل من الله تعالى بغير اسناد مباشر للفظ الجلالة (الله) يوصف الفضل بالكبير، وعندما يكون الأمر دنيوياً ويكون شيئاً مباشراً ظاهراً ملموساً يستعمل كلمة مبين في وصف الفضل.
وسنقف عند التعريف والتنكير لكلمة الفضل، فقد جاءت كلمة الفضل في القرآن معرّفة وجاءت نكرة ايضاً، فإذا كان ما قبلها معرّفاً جاءت معرّفة، وإذا كان ما قبلها نكرة جاءت نكرة. ونستعرض الآيات التي جاء فيها لفظ (الفضل العظيم):
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) البقرة (74) آل عمران (29) الانفال (21) الحديد (29) الحديد (4) الجمعة (174) آل عمران (113) النساء
في آية سورة البقرة اسم الجلالة (الله) مبتدأ و(ذو الفضل) انتسب الفضل الى الله تعالى فالله هو صاحب الفضل (ذو) هو خبر ، (الله) أضيف الى الفضل، وبما أن (ذو الفضل) مضاف ومضاف اليه وهما كالكلمة الواحدة، فكأن الفضل أُخبِر به عن الله تعالى، ذو الفضل خبر للمبتدأ الذي هو اسم الجلالة (الله) وجاءت كلمة العظيم وصفاً للفضل لأنها مسندة بشكل مباشر لله تعالى، فلما كان الفضل متصلاً بخبر اسم الجلالة كان استعمال كلمة العظيم للفضل. هذا من حيث الإسناد لأن الفضل أسند لله تعالى، و(ذو الفضل) خبر للفظ الجلالة، والعظيم صفة للفضل حصراً، وهي تُقرأ الفضلِ العظيمِ في القراءات العشر المتواترة، هذا من حيث التركيب، أما من حيث المعنى فلو نظرنا الى الآيات في قوله تعالى (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) نجده ذكر اختصاص الرحمة التي هي شيء واسع (ورحمتي وسعت كل شيء)، فحين يكون الشيء واسعاً تستعمل كلمة العظيم، وعندما يكون الشيء منحصراً تستعمل كلمة الكبير.
آية (106):
*(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (106) البقرة) هناك قراءتان لكلمة (ننسها) ما الفرق بينهما؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو جعفر وخَلَف (نُنسها) وقرأه ابن كثير وأبو عمرو (ننسأها) فأما قراءة نُنسها فهي من النسيان، أي نُنسي الناس إياها، وذلك بأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بترك قراءتها حتى ينساها المسلمون، وقراءة (ننسأها) بمعنى نؤخرها، أي نؤخر تلاوتها، أو نؤخر العمل بها مما يؤدي إلى إبطال العمل بقراءتها أو بحكمها.
*ولكن لِمَ قال تعالى (نأت بخير منها) ولم يبين بأي شيء هي أفضل وخير من الآية المنسوخة؟؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
(نأت بخير منها) أُجمِلت جهة الخيرية، ولم يُذكر وجه الخير؛ لتذهب نفسك كل مذهب ممكن، فقد ترى أن الخيرية في الاشتمال على ما يناسب مصلحة الناس، ويرى غيرك ما فيه رفق بالمكلفين ورحمة بهم في مواضع الشدة وهكذا.
آية (107):
* ما الفرق بين الملك والملكوت؟(د.حسام النعيمى)
كلمتا الملك والملكوت كلمتان مشتقتان من ملك، وزيادة المبنى تؤدي إلى زيادة المعنى. فبصورة أولية كلمة الملكوت هي أوسع من كلمة الملك، وبهذا المعنى استعملت في القرآن الكريم، فعندما نأتي إلى قوله تعالى (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ 185 الأعراف) عطف الخاص على العام (وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) كله داخل في ملكوته، فالعطف هنا هو من عطف الخاص على العام، فكل ما خلق هو داخل ضمن عموم كلمة الملكوت، والملك والملكوت كله لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك في الآية الكريمة (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿107﴾ البقرة) وقدم (له ) لحصر ملك السموات والأرض لله سبحانه وتعالى، والفارق أنه يمكن أن يعطي من ملكه جلت قدرته لعبيده يتصرفون فيه من سلطان أو مال، فكل ما في الكون هو ملك لله سبحانه وتعالى، فهو يعطي لهؤلاء العبيد، ولا يخرج من ملكية الله سبحانه وتعالى، بل هو باقٍ ويستعمله عبيده على سبيل العارية المردودة والمسترجعة، فله ملك السموات والأرض. وعندما ننظر لاستعمال الملك والملكوت في القرآن الكريم نجد أن الملك يمكن أن يوجه إلى عبيد الله سبحانه وتعالى أي إلى البشر، لكن الملكوت لم يرد في القرآن الكريم أنه أعطي للبشر (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ )﴿26﴾ آل عمران)، فالملك ملك الله سبحانه وتعالى، ممكن أن يُعار بعضه ، أو يملك على سبيل الإعارة (وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُم ْ(33) النور) فهو مال الله.
أما الملكوت فهوالعز والسلطان، وملكوت الله سلطانه، والملكوت ملك الله خاصة” أي لا يعطي منه لأحد. والملك داخل في الملكوت والملكوت عام، فالله عز وجل لم يقل يؤتي الملكوت من يشاء، بل يؤتي الملك، وملك الله عز وجل هو كل ما في السموات وما في الأرض. وملكوت الله عز وجل واسع، والملكوت هو هذا الملك الواسع بكل ما يمكن أن يتخيله الإنسان، وفي قوله (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (75) الأنعام) أي هذا الشيء الخاص بالله سبحانه وتعالى، ليس كل الملكوت ولكن بعضه، فقد أراه ما في السموات الدنيا، ولكن لأن الموطن موطن تعجب وموطن عظمة فقال نريه ملكوت السماوات والأرض.
وذكر الملكوت في موضعين آخرين في المؤمنون ويس، فبذلك تكون كلمة ملكوت وردت أربع مرات، وليس فيها إشارة إلى إعطائه لأحد، وملكوت كلمة عربية، وهذه الزيادة فعلوت مثل رهبوت، والرهبوت تعني الرهبة العظيمة.
آية (109):
*(وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم (109) البقرة) لم قال تعالى (من عند أنفسهم) ولم يقل منهم؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
في قوله تعالى:(من عند أنفسهم) تأكيد على تأصيل هذا الحسد فيهم، وصدوره من أنفسهم أكثر من قوله منهم.
(فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ) العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح هو جانب صفحة الوجه، والصفح هو ترك اللوم والتثريب، وهو أبلغ من العفو؛ لأنك قد تعفو عن ذنب امرئ، لكنك تبقى له لائماً، وأما الصفح فهو ترك اللوم، ولذلك هو أبلغ من العفو؛ لذا قال تعالى (فاعفوا واصفحوا).
آية (110):
*يقول تعالى (بما تعملون بصير) وفي آية أخرى يقول (بصير بما تعملون) فهل للتقديم والتأخير لمسة بيانية؟( د.فاضل السامرائى)
التقديم والتأخير يأتي لسبب، والسياق قد يكون الحاكم والموضح للأمور.
إذا كان سياق الكلام أو الآية في العمل يقدّم العمل، وإذا لم يكن السياق في العمل، أو إذا كان الكلام عن الله سبحانه وتعالى وصفاته تقدّم صفته.
ومن باب تقديم العمل على البصر: (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) البقرة) بهذا العمل بصير، فالسياق عن العمل، ولذا قدم العمل على البصر.
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) البقرة) هذا إنفاق.
(وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) البقرة).
(وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) البقرة).
(وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) هود).
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) هود) الكلام عن العمل فقدم العمل.
(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) سبأ) قدم العمل.
(اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فصلت) هكذا في القرآن كله.
فإذا كان الكلام ليس عن العمل، أو كان الكلام عن الله تعالى تقدم الصفة، ويؤخر العمل: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) البقرة) ليس فيها عمل.
(وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) المائدة) لا يوجد عمل.
(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) الحجرات) يتكلم عن الله تعالى، فيقدم صفة من صفات الله تعالى.
آية (112):
*في سورة البقرة قال تعالى (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ورد الفعل أسلم بالماضي وفي لقمان بالمضارع فما الفرق بينهما؟( د.فاضل السامرائى)
في لقمان (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) وآية البقرة (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)).
هناك أكثر من اختلاف بين الآيتين: الماضي والمضارع، واللام وإلى، ثم تأتي أمور أخرى (فقد استمسك بالعروة الوثقى) في لقمان، ولم يقلها في البقرة، واختلف الجواب (فله أجره عند ربه) في البقرة، ولم يقلها في لقمان. بالنسبة للمضارع والماضي سياق الآيتين يوضح الاستعمال، قلنا (أسلم إلى) بمعنى الاتباع وتفويض الأمر، فإذا كانت بمعنى الاتباع فأمور الاتباع كثيرة، ومعناها التفويض فما يقع للإنسان من حوادث ونوازل كثيرة، وهذا يقتضي إذن التعدد، وقلنا سابقاً إنه إذا وقع فعل الشرط مضارعاً بعد أداة الشرط فهذا يفيد التكرار غالباً، وإذا وقع بالماضي يفيد وقوع الحدث مرة في الغالب.
آية لقمان تتعلق بالاتباع (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا)، وأمور الاتباع كثيرة في الحياة منها ما يتعلق بالحلال والحرام، ومعناها التفويض إلى الله في حال النوازل والشدائد، وهذه كثيرة، وتقتضي تكرر المسألة، ولذا جاءت بالمضارع.
أما آية البقرة فجاءت في الرد على اليهود والنصارى (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى (111)) قال ربنا تعالى (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) يدخل الجنة المسلم في مقابل اليهود والنصارى الذين قالوا (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) رد القرآن عليهم (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) يعني بلى يدخلها كل مسلم، وكم مرة يدخل الإنسان الإسلام ؟ مرة واحدة، من قال أشهد أن لا إله الله مرة واحدة فهو مسلم، ولذا جاءت بالماضي.
فإذا تعلق الأمر بالتفويض والاتباع يقول (يسلم) بالمضارع، لأنها تتكرر، وحين يذكر الدخول في الإسلام، وهو مرة واحدة يستعمل الماضي (أسلم). والحاكم في السياق هو المسرح الذي تتم فيه الأحداث.
في آية البقرة لم يقل (فقد استمسك بالعروة الوثقى) كما ذكر في آية لقمان، وإنما ذكر الأجر؛ لأنه ليس في الآية تفويض أمر، ذكر الأجر فقال (من يسلم وجهه لله فقد استمسك بالعروة الوثقى) وقال (ومن أسلم وجهه لله فله أجره عند ربه) أيهما أعلى العاقبتين؟ العاقبة في البقرة أعلى، جعل الأجر مع الإسلام والإخلاص لله، (فله أجره عند ربه) ناسب بين علو الأجر وبين معنى دلالة الإسلام لما جعل نفسه خالصاً له؛ لأننا قلنا أسلم لله، أي جعل نفسه خالصاً لله، ليس لأحد آخر فيه نصيب، فهذا عاقبته (فله أجره عند ربه)، ذلك بمعنى التفويض، قال (فقد استمسك بالعروة الوثقى).
بالمناسبة أذكر مسألة عرضت لي في السابق، كثيراً ما كنت أدعو الله: إني أسألك الفردوس الأعلى، جاءني زمن كنت دائماً أقول هذا الدعاء، فرأيت في المنام كأني في يدي كتاب من كتب الله، ليس هو القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل، (وقد قرأتها جميعاً عندما ألّفت كتاب نبوة محمد من الشك إلى اليقين)، كأني أقرأ كتابا من كتب الله مكتوبا فيه ” إن الذي يسأل الفردوس الأعلى عليه أن لا يدع حظاً لنفسه” بمعنى أن تجعل كل شيء لله خالصاً، أن يجعل نفسه خالصة لله، وأن لا يدع حظاً لنفسه، هذا ما قرأت.
في كلا الآيتين من أسلم لله، ويسلم إلى الله كلاهما محسن، لذلك قال القدامى: أسلم لله أعلى من أسلم إلى الله كما قال الرازي، واختلف الأجر، وكل أجر مناسب لكل واحد، ذاك فوض أمره إلى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى، وذاك جعل نفسه خالصاً لله فله أجره عند ربه .
آية (113):
* كلمة يختلفون وتختلفون وردت في القرآن في مواضع كثيرة منها(فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) البقرة) (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) يونس) ما كُنه الاختلاف؟( د.فاضل السامرائى)
حين يقول (كانوا)أو(كنتم) يكون الكلام عن يوم القيامة، والاختلاف كان في الدنيا (فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) البقرة). (وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) يونس) الآن، وليس في يوم القيامة (فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي في الدنيا.
هل (كان) هنا فعل ناقص؟ نعم فعل ناقص، وأحياناً يأتي تاما، وله استخدامات كثيرة.
*ما دلالة كلمة (ملتهم) في آية سورة البقرة (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) ولماذا لم ترد ملتيهما؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ {120})، ولو قال تعالى: ملتيهم، لكان المعنى: لن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتيهما، ولن ترضى عنك النصارى حتى تتبع ملتيهما، وهذا لا يصح؛ لأن اليهود يريدون أن يتّبع ملتهم فقط، وليس ملتيهما، وكذلك النصارى.
وهناك سؤال آخر: لماذا جاء بـ (لا) في قوله (اليهود ولا النصارى)؟ لأنه لو لم يأت بها لدلّ المعنى على أنه لن يرضى عنك الجميع حتى تتّبع ملّتيهما، وهذا لا يصح.
آية (114):
*(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا (114) البقرة)ما دلالة الاستفهام فى الآية؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
هاهنا في هذه الآية استفهام بـ (من)، وليس الغرض منه الاستفهام وإنتظار الجواب، وإنما هو استفهام إنكاري خرج إلى النفي، أي لا أحد أظلمُ ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه.
*ما هي المساجد المقصودة بقوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) حتى جُمِعت؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
نزلت الآية في أهل مكة لأنهم منعوا المسلمين دخول المسجد الحرام، ومع ذلك نرى أن الآية قد جُمِع فيها المسجد (مساجد) للتعظيم من شأن المسجد، وهذا واضح كما يقول الفرد في معرض الفخر والتعظيم لنفسه (نحن نقول)، وكذلك كلمة المساجد أتت جمعاً؛ ليكون الوعيد شاملاً لكل مخرِّب لمسجد أو مانع للعبادة فيه.
* ما الفرق بين استعمال كلمتي عقاب وعذاب كما وردتا في القرآن الكريم؟(د.حسام النعيمى)
هذه الكلمات هي من لهجات مختلفة، فليس بينها فروق، ويستدلون بكلمة السكين والمُدية.
جمعنا كل الآيات التي فيها كلمة عقب ومشتقاتها، عقاب وعاقبة وعوقب ومعاقبة بكل اشتقاقاتها، وكذلك كلمة عذّب عذاب يعذب معذب تعذيباً يعذبون.
والذي وجدناه في هذا أن العقاب وما اشتق منه ورد في 64 موضعاً في القرآن الكريم، والعذاب وما اشتق منه ورد في 370 موضعاً، فلما نظرنا في الآيات وجدنا أن هناك تناسباً بين الصوت والمعنى: فالعذاب عقاب والعقاب عذاب، وأنت عندما تعاقب إنساناً تعذّبه بمعاقبته، والعذاب نوع من العقوبة، لكن لاحظ حين نأخذ الفعل (عقب) كيف ننطق القاف؟ القاف يسمونه حرفا شديداً، يعني يُولد بانطباق يعقبه انفصال مفاجيء، مثل الباء، بينما الذال المشددة فيها رخاوة وفيها طول.
من هنا وجدنا أن كلمة العقاب تكون للشيء السريع، والسريع يكون في الدنيا، لأن القاف أسرع، والذال فيها امتداد، وهذا الامتداد يكون في الدنيا والآخرة، فالعذاب يأتي في الدنيا ويأتي في الآخرة.
عندما نأتي إلى الآيات نجدها عندما تتحدث عن عقوبة للمشركين في الدنيا تسميه عذاباً، وفي الآخرة تسميه عذاباً، ولا تسميه عقاباً في الآخرة بل العقاب في الدنيا فقط.
هذا من خلال النظر في جميع الآيات، لكن هناك أمرا يحتاج لتنبيه: أنه حينما يأتي الوصف لله عز وجل لا يكون مؤقتاً لا بدنيا ولا بآخرة، فحين يقول: (والله شديد العقاب) هذه صفة ثابتة عامة لله سبحانه، لكن حين يستعمل كلمة العقاب مع البشر يستعملها في الدنيا، ولا يستعملها في الآخرة، بينما العذاب استعملها للعذاب في الدنيا وفي الآخرة، واستعملها في سرعة العقاب، لأن العقاب فيه سرعة وردت في القرآن (إن ربك سريع العقاب)، وليس في القرآن سريع العذاب، وهذه بعض الآيات التي تؤكد هذا الذي بيّناه:
العقاب: (إن ربك سريع العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) الأنعام) وصف لله سبحانه وتعالى، لكن لم يصف نفسه جلّت قدرته بأنه سريع العذاب.
العذاب: الفعل عذّب والعذاب في الدنيا (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ)، وفي الآخرة (ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114) البقرة)، وجاء بها بمعنى العقاب (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)،هذه عقوبة سمّاه عذاباً مما يدل على أن العذاب أوسع من العقاب؛ لأنه يستعمل دنيا وآخرة، ويستعمل بمكان العقاب.
آية (115):
*(وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ (115) البقرة) لِمَ خصّ الله تعالى ملكه بالمشرق والمغرب؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لم تذكر الآية جهة الشمال والجنوب، وإنما ذكرت فقط المشرق والمغرب؛ لأن الأرض تنقسم بالنسبة لمسير الشمس إلى قسمين: قسم يبتدئ من حيث تطلع الشمس، وقسم ينتهي من حيث تغرب الشمس.
آية (116):
*ما دلالة ختام الآية بالوصف بالقنوت فى قوله تعالى (بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116))؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
القنوت هو الخضوع والانقياد مع الخوف، وهذا الأمر لا يقوم به إلا كل عاقل مبصر، فلذلك جمع الله تعالى في هذه الآية كلمة قانت جمع مذكر سالم (قانتون)، وهو مختص بجمع الذكور العقلاء؛ ليبيّن لنا سمة أهل الخشوع والقنوت في أنهم أصحاب العقول الراجحة التي تخشى الله عن إرادة وبصيرة.
* متى تستعمل (مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120) البقرة) ومتى (وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) الشورى)؟( د.فاضل السامرائى)
من دون الله يعني من غير الله، أما من الله أي ليس لكم ولي من الله ينصركم، لم يُهيء أحد ينصركم، ليس هنالك نصير من الله ينصركم، من الملائكة أو من غير الملائكة، لكن يهيئه الله تعالى من جهته، أما من دون الله فتعني من غير الله، إذًا المعنى مختلف تماماً.
* ما الفرق بين (من بعد ما جاءك) و(بعد الذي جاءك) في الآيتين (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145) البقرة) وفي الآية (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120))؟( د.فاضل السامرائى)
هنالك أمران: أولاً مجيء (من) في إحداهما وعدم مجيء (من) في الأخرى، إحداهما فيها (من) قبل (بعد) والأخرى (بعد الذي جاءك)، والآخر اختيار الذي وما.
سبق أن ذكرنا أكثر من مرة أن (الذي) اسم موصول مختص، و(ما) مشترك. والمختص أعرف من المشترك عموماً، فمعناها أن (الذي) أعرف من (ما)، لأن (ما) تكون للمفرد والمذكر والمؤنث والمثنى والجمع أما الذي فهي خاصة بالمفرد المذكر، إذًا (الذي) أعرف باعتباره مختص، و (ما) عام. هذا حكم نحوي.
لكن كيف استعمل (بعد الذي) وكيف استعمل (ما) في الآيتين؟ نقرأ الآيتين (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ(121).
يتلون الكتاب تعني أنه صار محدداً، ويتلونه أي العلم الذي جاء به، تحدد الذي بالسياق في القرآن.
وفي الآية الأخرى (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (145)هنا الكلام مطلق لم يحدد بشيء، فالذي أخص؛ لأن الكلام كان عن القرآن، فاستعمل (ما) في المطلق، واستعمل (الذي) في المقيَّد.
(من بعد) (من) هي لابتداء الغاية، ابتداء المكان، بداية الشيء من كذا إلى كذا، وهي حرف جر، ولذلك هناك فرق بين فوقهم ومن فوقهم، قوله (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا (10) فصلت) مباشرة، ليس هنالك فاصل، أما (فوقها) فتحتمل القريب والبعيد (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ (6) ق) (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ (154) النساء)، فحرف الجر في اللغة يؤدي إلى تغيير الدلالة.
* هل هذه الدلالة لـ (مِنْ) تنطبق على الأمور الحسية الملموسة أو الأمور المعنوية أيضاً؟
(من) ليس لها دلالة واحدة، وإنما فيها معان كثيرة، فهي تأتي لمعان، ولكن أبرزها ابتداء الغاية.
(من بعد ما جاءك) السياق في الكلام في تحويل القبلة، متى يؤمر المسلم بتحويل القبلة ؟ عندما تنزل الآية مباشرة، ينبغي أن يتحول إلى القبلة، من سمع بها نفّذها، فالذي كان في الصلاة، وسمع هذه الآية اتجه مباشرة، والذي سمع فيما بعد لا ينتظر، وإنما ينفّذ الآية مباشرة، إذًا ابتداء الغاية لا يحتمل أي تغيير، تحويل القبلة متى سمعتها نفّذتها. والآية الأولى ليس فيها هذا الشيء. إذًا (من) إبتداء الغاية.
آية (123):
*ما دلالة اختلاف ترتيب العدل والشفاعة، بين آية (123)و(48)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)؟
(وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ (123) البقرة) إذا استحضرنا الآية المماثلة لهذه الآية وجدنا اختلافاً في العدل والشفاعة، فهناك قدّم (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ (48)) وأخّر (وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ)، وهنا قدّم (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ) لنُكتة أدبية وبلاغية، وذاك أن أحوال الأقوام في طلب الفِكاك عن الجُناة تختلف، فمرة تراهم يٌقدّمون الفِداء، فإذا لم يُقبل منهم يُقدِّمون الشفعاء، وتارة يُقدِّمون أولاً الشفعاء، فإذا لم تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء، فعرضت الآيتان أحوال نفوس الناس في فِكاك الجُناة.
آية (123):
*ما خصوصية استعمال القرآن لكلمتي العدل والقسط؟( د.فاضل السامرائى)
أصل القسط الحظ والنصيب، ولم يستعمل القرآن الكريم مع الوزن إلا القسط (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ (9) الرحمن). والعدل معناه المساواة في الأحكام. (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (35) الإسراء).
والقسطاس هو ميزان العدل، فسموا الميزان قسطاسا لأنه عدل.
عندنا عَدل وعِدل، العِدل فيما يُبصر من الأشياء، هذا عِدل، مثل حملين متساويين يقال هذا عِدل وهذا عِدل.
أما العَدل فهو أحكام ومساواة في الحكم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ (95) المائدة) أي: ذوا قسط (أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا (95) المائدة) الصيام لا يُبصر (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا (70) الأنعام) لم يقل كل قسط، (وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ (123) البقرة). إذًا القسط هو الحظ والنصيب، والقرآن لم يستعمله إلا مع الموازين، وهذا من خصوصية الاستعمال القرآني، والقسط يستعمل مع غير الميزان، لكن القرآن يستعمله مع الميزان، ولا يستعمل العدل مع الميزان، والقسط قد يكون في القسمة، وفيه ارتباط بالآلة (قسطاس).
آية (124):
*ما دلالة تأخير لفظ الجلالة فى قوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ (124) البقرة)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
الابتلاء هو الاختبار، فإن كلّفت شخصاً بشيء لا يكون تكليفك له متضمناً انتظار فعله، أو تركه، وابتلاء الله لإبراهيم تكليف له؛ لأن الله كلفه بأوامر ونواهٍ.
وفي هذه الآية تقديم ما حقه التأخير فـ (إبراهيم) مفعول به، وقد تقدّم على الفاعل (ربه) فما الهدف من هذا التقديم؟ المقصود من هذا تشريف سيدنا إبراهيم (عليه السلام) بإضافة اسم ربه إلى اسمه، وهو الهاء في قوله (ربه) أي رب إبراهيم.
*لم سمى الله عز وجل إبراهيم إماماً فى الآية؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
سمّى الله تعالى إبراهيم في هذه الآية إماماً، وقصد بإمامته أنه رسول، فلِمَ عدل عن تسميته رسولاً إلى تسميته إماماً؟
ليكون ذلك دالاً على أن رسالته تنفع الأمة المرسَل إليها بالتبليغ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الامتداد، لا سيما وأن إبراهيم (عليه السلام) قد طوّف بالآفاق.
*(قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي (124) البقرة) لِمَ خصّ إبراهيم (عليه السلام) بالدعاء بعض ذريته ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
قال: (ومن ذريتي) ولم يقل ذريتي؛ لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي ألا يكون جميع أبناء الرجل ممن يصلحون لأن يُقتدى بهم، ولذلك لم يسأل الله تعالى ما هو مستحيل عادة؛ لأن ذلك ليس من آداب الدعاء، ولم يجعل الدعاء عاماً شاملاً لكل الذرية، بحيث يقول: وذريتي.
*لماذا نصبت كلمة الظالمين في الآية (قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) البقرة)؟( د.فاضل السامرائى)
(الظالمين) مفعول به، والعهد فاعل، الظالمين مفعول به منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم.
*وردت كلمة (ابراهيم) في القرآن كله بالياء إلا في سورة البقرة جاءت بدون الياء (ابراهم) فما دلالة ذلك؟( د.فاضل السامرائى)
إبراهيم في القرآن الكريم وردت منقوطة بالياء في كل القرآن إلا في سورة البقرة
قاعدة: خط المصحف لا يقاس عليه، وعلينا أن نعلم أنه حصل تطور في تاريخ الكتابة منذ زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فبدأت الكتابة العربية تستقر، وتأخذ أشكالاً أخرى، ولذلك نرى أكثر من رسم للكلمة مثال: كلمة: لكيلا – لكي لا، كذلك كلمة إذن – (إذاً) وكلمة مئة ومائة وغيرها، وكلا الكتابتين جائز عند العرب. والمصحف كتبه عدد كبير من الكتبة، والرسم الذي كتبوا به هو كتابتهم في أزمانهم، فمرّة يرسم حرف العلة، ومرة لا يرسم، وأحياناً يكون الرسم لاختلاف القراءات، فيوضع الرسم الذي يجمع القرآءات المتواترة، وشروط القرآءة الصحيحة أن تكون موافقة لرسم المصحف.
وكلمة ابراهم في سورة البقرة ورد فيها قراءتان متواترتان، إحداهما ابراهم بدون ياء، والثانية ابراهيم بالياء، فكتبت بالشكل الذي يحتمل القرآءتين.
د.حسام النعيمى: كلمة إبراهيم كلمة أعجمية وليست عربية، وكل كلمة غير عربية في لسان العربي يتصرف فيها يعني يلفظونها بطرائق مختلفة، إبراهيم بعض العرب كان ينطقها إبراهيم، وبعضهم ينطقها إبراهام، و كلمة إبراهيم وردت في 69 موضعاً في القرآن الكريم.
آية (125):
* لماذا لا يُذكر سيدنا إسماعيل مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في القرآن؟( د.فاضل السامرائى)
أولاً هذا السؤال ليس دقيقاً؛ لأنه توجد في القرآن مواطن ذُكر فيها إبراهيم وإسماعيل، ولم يُذكر اسحق، وهناك ستة مواطن ذُكر فيها إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهي:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) البقرة
قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) البقرة.
قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) آل عمران
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) ابراهيم
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) النساء
وكل موطن ذُكر فيه اسحق ذُكر فيه اسماعيل بعده بقليل أو معه، مثل قوله تعالى (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) و(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)) مريم) إلا في موطن واحد في سورة العنكبوت (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)).
وفي قصة يوسف (عليه السلام) لا يصح أن يُذكر فيها اسماعيل؛ لأن يوسف من ذرية اسحق، وليس من ذرية اسماعيل،
وقد ذُكر اسماعيل مرتين في القرآن بدون أن يُذكر اسحق، في سورة البقرة (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127))) لأن إسحق ليس له علاقة بهذه القصة، وهي رفع القواعد من البيت أصلاً.
*بعض العلماء يقول أن إسماعيل هو الذبيح والبعض يعترض ويقول (إسحق) فما المختار بين الرأيين؟(د.حسام النعيمى)
ليس هناك أثر صريح صحيح، حين ننظر في الآيات: الآية في سورة هود (وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ (71) هود) هذه المرأة التي كانت عاقراً، وكانت كبيرة في السن، هي امرأته الأولى وبُشِّرت بإسحق. المرأة الثانية زوجة إبراهيم هي التي ولدت له هذا الذي أخذها وإياه، وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند بيته المحرم. حين ننظر في الوقائع في الآيات نجد نوعاً من ترجيح أن إسماعيل الذي ذهب إلى ديار العرب، وتزوج منهم، وعاش هناك؛ لأن الكلام الأول كان عن إسحق.
حين نأتي إلى الآيات في سورة الصافات ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)) ويمضي في القصة بعد أن ينتهي من قصة الذبيح، فيقول تعالى (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (112)) إذًا جاءت البشارة بإسحق بعد البشارة بالذبيح، وإسحق ذكر إسمه في القرآن، وإسماعيل ذكر إسمه في القرآن، فالمرجح أن الذبيح هو إسماعيل وليس إسحق، ولكنا نقول: الذبيح من الصابرين، وحين ننظر إلى الآيات ( وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ (85) الأنبياء) (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) من الذي وُصِف بوصف الصبر؟ إسماعيل، أما إسحق فلم يوصف بهذا، وإنما قال (فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب)، والمسألة لا يترتب عليها أمر من أمور الدين، فالخوض فيها غير مثمر، والعبرة أنه أحد ابني إبراهيم، وعندنا قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة) إبراهيم كان موجوداً هنا، وأقام هنا واتخذنا من مقامه مصلى، وابنه الذي كان معه إسماعيل، وإسماعيل نبي، وإبراهيم عنده ولدان إسماعيل وإسحق، ومن ذرية إسحق أنبياء، ورسل إسرائيل كثيرون، ومن أولاد إسماعيل نبيٌ واحد هوخاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وسلم). وأبناء إسحق هم أبناء عمومتهم” سأبعث من أبناء عمومتهم في فاران” (فاران هو المكان الذي ترك فيه إبراهيم ولده إسماعيل، وهم يزعمون أن فاران في مكان آخر في فلسطين)، ولوصح الحديث “أنا ابن الذبيحين” لانتهى الحوار، لكنه لم يصح عن الرسول (صلى الله عليه وسلم).
آية (126):
*ما الفرق بين قوله تعالى (رب اجعل هذا بلداً آمناً) سورة البقرة، وقوله تعالى (رب اجعل هذا البلد آمناً) ؟
د.فاضل السامرائى:
الآية الأولى هي دعاء سيدنا ابراهيم قبل أن تكون مكة بلدا،ً فجاء بصيغة التنكير (بلداً)، أما الآية الثانية فهي دعاء سيدنا ابراهيم بعد أن أصبحت مكة بلداً معروفا،ً فجاء بصيغة التعريف في قوله (البلد).
*في البقرة قال (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)) بضمير المفرد، وفي لقمان بالجمع (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) فما الفرق بينهما؟( د.فاضل السامرائى)
حتى نفهم المسألة نقرأ سياق آية البقرة؛ لأن السياق هو الذي يوضح (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)) فآية البقرة في مكة (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا)، وقبل أن توجد مكة، ولما قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا (35) إبراهيم) كان هذا بعد البناء، بعد أن صارت بلداً.
فآية البقرة في مكة، وآية لقمان عامة (نمتعهم قليلاً) كلام عام، وليس في بلد معين ولا أناس معينين. أيها الأكثر؟ آية لقمان، فجاء بضمير الكثرة، وتسمى الكثرة النسبية (نمتعهم قليلاً) يعني يُعبَّر عن الأكثر بالضمير الذي يدل على الكثرة والجمع، ويعبر عن الأقل بالمفرد. و(من) تحتمل ذلك (ومن كفر فأمتعه قليلاً)، وهؤلاء أقل من الذين قال فيهم (نمتعهم قليلاً).
في القرآن يراعي هذا الشيء (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) يونس) الذين يستمعون أكثر من الذين ينظرون، فقال يستمعون، هذه تسمى مناسبة، وهذا ما جعل المفعول في لقمان بالجمع، وفي البقرة بالمفرد.
*لم قال (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) في آية البقرة ، وقال ونمتعهم بالجمع في آية لقمان؟( د.فاضل السامرائى)
هذا يدخل فيه أكثر من مسألة، مسألة التعظيم في البقرة، ذكر الإفراد أولاً ثم الجمع. (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة) هذه جمع سيأتي بعدها مفرد، ضمير التعظيم (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ).
والأمر الآخر قال (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ) البيت نسبه تعالى إلى نفسه، وربنا صاحب البيت يتولى الأمر، فقال (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) وهو الذي قال طهرا بيتي للطائفين، هو صاحب البيت، ويتولى من يسيء، فهي أنسب من كل ناحية، وقال بيتي، فهي مناسبة أكثر للإفراد.
* في لقمان قال (إلينا مرجعهم) (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) ولم يقلها في البقرة (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)) ما الفرق؟( د.فاضل السامرائى)
إبراهيم سأل ربه (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) فلما قال فأمتعه قليلاً كان ذلك نتيجة لدعاء إبراهيم حين قال (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) والرزق فيه تمتيع، فهذه المسألة ليست متعلقة بالتبليغ، وإنما هو طلب الرزق (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) الجواب (فأمتعه قليلاً)؛ لأنه طلب الرزق، وهذه ليست في التبليغ، أما آية لقمان ففي التبليغ (ومن كفر) والسياق مختلف تماماً، فلما كانت آية لقمان في التبليغ قال (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا)، أما آية البقرة فليست في التبليغ لذلك قال (فأمتعه قليلاً).
في لقمان قال (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ولم يقلها في البقرة أيضاً، هؤلاء الكفار في آية لقمان موجودون، أما هؤلاء الذين قال فيهم الآية في سورة البقرة فلم يخلقوا بعد، هذا باعتبار ما سيكون، هم ليسوا مخلوقين أصلاً، قال (اجعل هذا بلداً آمناً) فكيف يقول: فلا يحزنك كفره، هم غير موجودين وسوف يأتون بعده بقرون، أما في آية لقمان فهو معاصر لهم يبلغهم.
*ما الفرق بين العاقبة في لقمان قال تعالى (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)) وفي البقرة قال (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126))؟( د.فاضل السامرائى)
أيهما الأشد، أن تقول إلى عذاب غليظ أو إلى عذاب النار وبئس المصير؟ عذاب النار أشد، فعندما يقول عذاب غليظ فليس معناه أنه ستحرقه؟ كلا لأنه لم يصرح أنه في النار، أما عذاب النار ففيه حرق، فأيهما الأشد؟ لم يذكر نارا في لقمان، وفي البقرة ذكر ناراً وبئس المصير، إذًا هذا العذاب أشد، فالعذاب الغليظ لا يشترط أن يكون بالنار قد يكون بعصا غليظة.
قال (عذاب النار) في أهل مكة، وإبراهيم يطلب البلد الآمن والرزق، والسيئة في مكة تتضاعف أكثر بكثير من مكان آخر، فمن أساء في مكة في بلد الله الحرام ليس كمن أساء في غيرها، نفس السيئة إذا فعلها شخص في مكة ليست عقوبتها كمن أساء في غير مكة، وكذلك الحسنة تتضاعف في مكة، فإذا كانت السيئة تتضاعف فالعذاب يتضاعف ويشتد، لذا قال عذاب النار وبئس المصير؛ لأن ذكر السيئة والكفر في مكة ليس كالكفر في غير مكة والمعصية في مكة ليست كالمعصية في غير مكة، ولذلك شدّد العذاب فقال (عذاب النار وبئس المصير).
آية (126):
*ما الفرق بين قوله تعالى (رب اجعل هذا بلداً آمناً) سورة البقرة، وقوله تعالى (رب اجعل هذا البلد آمناً) ؟
د.أحمد الكبيسى:
ماذا قال الله جل وعلا؟ قال (هذا بلداً) مرة، وقال (هذا البلد) مرة، قال (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا) قبل أن يُبنى، حين أخبرالله تعالى إبراهيم بمكان هذا البيت (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ (127) البقرة) لم يكونوا قد بنوه بعد، هنا قال (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا)، أي هذا الذي سوف نبنيه، اجعله بلداً آمناً، فلما بُني البلد واكتمل، وطافا به، وأصبح بلداً، قال (رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا) أي الذي بنيناه، اجعله آمناً.
ومعنى هذا أن سيدنا إبراهيم (عليه السلام) دعا لهذا البلد مرتين، مرة قبل بنائه عندما كان مجرد بلد نكرة، لا نعرف كيف سيكون، وعندما انتهى منه أيضاً، دعا له وقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا).
آية (126):
*ما الفرق بين قوله تعالى (رب اجعل هذا بلداً آمناً) سورة البقرة، وقوله تعالى (رب اجعل هذا البلد آمناً) ؟
د.حسام النعيمى:
في الآية الأولى )وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا) لو نظرنا في الإعراب: اسم الإشارة (هذا) صارت المفعول الأول للفعل (اجعل)، و(بلداً) المفعول الثاني، و(آمنا) صفته، أي صيّره بلداً فهو إذًا لم يكن بلداً، وقد أشار إلى موضع المكان أو الوادي الذي وصفه في آية أخرى (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) فاجعل هذا بلداً، ثم وصف البلد بأنه آمن، فكلمة (آمنا) صفة للبلد، كان هذا في أول السُكنى، وكان إسماعيل (عليه السلام) قد شبّ حديثاً عن الطوق، وبدأ الناس يجتمعون حوله وأمه والماء الذي ظهر، فلم يكن بلداً فكأنه قال: اجعل هذا الموضع بلداً.
في الآية الثانية صار المكان بلداً، وصار فيه ناس، بل أكثر من ذلك جاء إليه من يعبد الأصنام، وسكن مع هاجر، ولذلك انظر إلى الآية الثانية (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا)، البلد صارت بدلاً من (هذا) المفعول الأول، و(آمناً) صارت المفعول الثاني، يعني جعلتُ البلد آمناً، صارت (آمنًا) المفعول الثاني بعد أن كانت صفة في الآية الأولى.
(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) معناه أن هناك في البلد من القبائل أو من الأعراب الذين سكنوا مع هاجر من يعبد الأصنام، فلا يريد أن تتأثر ذريته بهؤلاء، فانصب الطلب على الأمن ودفع عبادة الأصنام.
ليس هذا فقط، ولكن انظر إلى رحمة الله سبحانه وتعالى في الآية الأولى، أنه جل وعلا رب العالمين مؤمنهم وكافرهم يرُبّهم ويرعاهم، ويُثيب المحسن يوم القيامة، ويعاقب المسيء.
أراد إبراهيم (عليه السلام) الرزق للمؤمنين (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ)، فبِمَ أُجيب؟ (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِير).
آية (127):
*ما فائدة الضمير فى قوله تعالى(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) البقرة)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
جاء الخبر (السميع العليم) معرفة، ووقع بين (إن) والخبر (السميع) ضمير الفصل (أنت) بقصد المبالغة في كمال الوصفين السميع والعليم له سبحانه وتعالى، ولينزَل سمع وعلم غيره منزلة العدم، ألا ترى أنك لو قلت لرجل أنت سامع فقد أردت أنه أحد السامعين، أما إذا عرّفت فقلت أنت السامع، فهذا يعني أنه السامع لا غيره.
آية (127):
*هل يُضمر القول في القرآن الكريم؟( د.فاضل السامرائى)
أحوال القول والمقول يمكن أن نجمل أهم أحكامها في عبارات صغيرة.
الأصل والأكثر أن يذكرالقول والمقول (وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاغُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة)، القول هو الفعل، و(سمعنا وأطعنا) هو المقول.
ويمكن أن يحذف فعل القول، ويذكر المقول، لا يصرح بـ قال أو يقول، لكنه مفهوم، وهذا كثير أيضاً مثال:(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) البقرة) هذا مقول القول، ولم يقل: قالا أو يقولان ، حذف الفعل وأبقى المقول.
أحياناً يذكر فعل القول لكنه يحذف المقول، ويكون المقول ظاهرا في السياق عكس الحالة السابقة مثل (قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَـذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) يونس) ما القول؟ هم لم يقولوا أسحر هذا ولا يفلح الساحرون؟ وإنما قالوا: هذا سحر، قول (أسحر هذا) هو قول موسى، وأضمر مقولهم هم، وهو مفهوم من السياق.
وهنالك حالة أخرى أن يذكر مقولين لقائلين مختلفين، ويحذف فعل القول منهما الاثنين، ويتصلان كأنهما مقولان لقول واحد، لكن المعنى واضح من السياق مثل (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) النحل) هم قالوا (ما كنا نعمل من سوء)، والرد (بلى إن الله عليم بما كنتم تعلمون)، هذا ليس قائلاً واحداً، وإنما هذا قائل آخر، وحذف فعل القول، لم يقل قالوا ما كنا نعمل من سوء، ولم يقل قال بلى، والأمرمفهوم من السياق، فحذف فعل القول من الاثنين، وأدمج المقولين.
وهنالك حالة أخرى أن يذكر فعل القول ومقوله، ويدرج معه قول لقائل آخر، فيبدو كأنهما مقولان لشخص واحد لكن الحقيقة غير ذلك، مثل (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) يوسف)، قال يوسف (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)) هذا كلام يوسف، هي رمته بالخيانة (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25))، وسيدنا يوسف يتحدث عن العزيز (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)) أنه لم يخن العزيز بالغيب، (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)) هذا كلام يوسف أيضاً، (ذلك) أي الكلام الذي قالته امرأة العزيز، كلامها هي (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) يوسف) وانتهى كلامها، ويوسف قال (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)).
وفي قوله تعالى (يوسف أعرض عن هذا ()) يكلم شخصين، لكن القائل واحد.
هنالك حالة أخرى أن يذكر فعل القول، لكن لا يذكر المقول، وإنما يذكر فحواه (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ (31) إبراهيم) قل، هذا فعل القول، ولم يذكر المقول، وإنما ذكر الفحوى: يقيموا الصلاة، هذا فحوى قوله تعالى، وليس القول، لم يقل أقيموا الصلاة، (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (53) الإسراء) هذا ليس نص القول، وإنما فحواه.
فهذه أبرز أحوال القول في القرآن الكريم، ولكل حالة من هذه الحالات دلالتها وسياقها الذي تروى فيه.
*من برنامج ورتل القرآن ترتيلاً:
هذا الترتيب في الآية، لأن آيات القرآن تعلمنا التفكير والمنطق ودقة اللفظ وترتيب الأفكار، والله سبحانه وتعالى رتب هذه الصفات على حسب ترتيب وجودها؛ لأن أول تبليغ الرسالة القرآن، ثم يكون تعليم معانيه كما في قوله في موضع آخر (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه)، فإذا ما حصلت على علم القرآن انتقلت إلى المرحلة الأخيرة، وهي التزكية.
آية (129):
*ما دلالة الفرق في الترتيب بين آية سورة البقرة (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)) وآية سورة الجمعة (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2))؟(د. عمر عبد الكافى من برنامج هذا ديننا)
وردت مثل هذه الآيات في القرآن الكريم أربع مرات، ثلاث منها عن الله تعالى، ومرة على لسان ابراهيم (عليه السلام) وهي الآيات التالية:
1. سورة البقرة (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151))
2. آل عمران (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164))
3. سورة الجمعة ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)))
وعلى لسان ابراهيم (عليه السلام):
1. سورة البقرة ((رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)))
وهذا يعود إلى ترتيب الأولويات والأهمية في الخطابين، فعندما دعا ابراهيم (عليه السلام) ربه أن يرسل رسولاً أخّر جانب تزكية الأخلاق إلى آخر مرحلة بعد تلاوة الآيات، وتعليمهم الكتاب والحكمة.
أما في آيتي سورة الجمعة وسورة البقرة (151) وسورة آل عمران، فالخطاب من الله تعالى أنه بعث في الأميين رسولاً يتلو عليهم آياته ويزكيهم، قبل مرحلة يعلمهم الكتاب والحكمة؛ لأن الجانب الخُلُقي يأتي قبل الجانب التعليمي، ولأن الإنسان إذا كان غير مزكّى في خلقه لن يتلقى الكتاب والحكمة على مُراد الله تعالى، والرسول (صلى الله عليه وسلم) من أهم صفاته أنه على خلق عظيم كما شهد له رب العزة بذلك في قوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) القلم).
والتزكية هي ربع المهمّة المحمدية (تلاوة الآيات، تعليم الكتاب، تعليم الحكمة، التزكية).
(من برنامج هذا ديننا للدكتور عمر عبد الكافي على قناة الشارقة).
آية (131):
*ما الفرق بين أسلم إلى وأسلم لـ؟ (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) النمل) (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) البقرة) (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) غافر) ما الفرق بينهما في الدلالة؟ (د.فاضل السامرائى)
أسلم بمعنى: انقاد وخضع، ومنها الإسلام الانقياد، وأسلم الشيء إليه أي دفعه إليه، أعطاه إليه بانقياد، أو فوض أمره إليه، وهذا أشهر معنى لأسلم إليه.
أسلم لله معناه: انقاد له، وجعل نفسه سالماً له، أي خالصاً له، وجعل نفسه لله خالصاً أخلص إليه، حين قالت ملكة سبأ (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) النمل) أي: انقدت له وخضعت، وجعلت نفسي سالمة له، خالصة ليس لأحد فيه شيء.
وإبراهيم (عليه السلام) قال (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أسلم له، أي انقاد له، وجعل نفسه خالصة له، أما أسلم إليه فمعناها: دفعه إليه؛ وإذا دفعه إليه قد لا يصل؛ لذا يقولون: أسلم لله أعلى من أسلم إليه؛ لأنه لم يجعل معه لأحد شيء.
ومن يسلم وجهه إلى الله، اختلفت الدلالة، أسلم إليه أي: فوّض أمره إليه، يعني في الشدائد (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ (44) غافر).
أما أسلم لله، فتعني: جعل نفسه خالصاً له ليس لأحد فيه شيء؛ لذلك قال القدامى أسلم له أعلى من أسلم إليه.
آية (132):
*ما الفرق بين وصى وأوصى؟( د.فاضل السامرائى)
الله تعالى يقول (وصّى) بالتشديد إذا كان أمر الوصية شديدا ومهماً، لذلك يستعمل وصّى في أمور الدين، وفي الأمور المعنوية: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132″ البقرة) (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ(131) النساء).
أما (أوصى) فيستعملها الله تعالى في الأمور المادية :(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) النساء.
ولم ترد في القرآن أوصى في أمور الدين إلا في مكان واحد، وهو قول السيد المسيح : “وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً 31” مريم، هذا هو الموضع الوحيد، قالها السيد المسيح في المهد وهو غير مكلف أصلا، وجاء بعدها ذكر الزكاة، وفي غير هذه الآية لم ترد أوصى في أمور الدين.
آية (133):
*ما الفرق من الناحية البيانية بين فعل حضر وجاء في القرآن الكريم؟( د.فاضل السامرائى)
الفعل حضر: الحضور في اللغة أولاً يعني الوجود، وليس معناه بالضرورة المجيء إلى الشيء (يقال كنت حاضراً إذ كلّمه فلان، بمعنى: شاهد وموجود، وهو نقيض الغياب)، ويقال: كنت حاضراً مجلسهم، وكنت حاضراً في السوق أي كنت موجوداً فيها.
أما المجيء فهو الانتقال من مكان إلى مكان، فالحضور غير المجيء ولهذا نقول الله حاضر في كل مكان.
وفي القرآن يقول تعالى (فإذا جاء وعد ربي جعله دكّاء) سورة الكهف، بمعنى لم يكن موجوداً، وإنما جاء، وكذلك قوله تعالى: (فإذا جاء أمرنا وفار التنور ) المؤمنون27) .
إذًا الحضور معناه الشهود ، والمجيء معناه الانتقال من مكان إلى مكان.
أما من الناحية البيانية، ففى قوله تعالى في سورة البقرة (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـهاًوَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {133}) وفي المؤمنون(حَتَّى إِذَاجَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ {99})
القرآن الكريم له خصوصيات في التعبير، وكلمة حضر وجاء لكل منها خصوصية أيضاً، حضور الموت يُستعمل في القرآن الكريم في الأحكام والوصايا كما في آية سورة البقرة، وكأن الموت هو من جملة الشهود، فالقرآن هنا لا يتحدث عن الموت نفسه، أو أحوال الناس في الموت، فالكلام هو في الأحكام والوصايا (إن ترك خيراً الوصية) (وكذلك وصية يعقوب لأبنائه بعبادة الله الواحد).
أما مجيء الموت في القرآن، فيستعمل في الكلام عن الموت نفسه، أو أحوال الناس في الموت، كما في آية سورة المؤمنون، يريد أن هذا الذي جاءه الموت يود أن يرجع ليعمل صالحاً في الدنيا، فالكلام إذًا يتعلق بالموت نفسه، وأحوال الشخص الذي يموت، ويستعمل الفعل (جاء) مع غير كلمة الموت أيضاً كالأجل (فإذا جاء أجلهم)، وسكرة الموت (وجاءت سكرة الموت)، ولا يستعمل هنا حضر الموت؛ لأن حضر الموت – كما أسلفنا – تستعمل للكلام عن أحكام ووصايا بوجود الموت حاضراً مع الشهود، أما جاء فيستعمل مع فعل الموت إذا كان المراد الكلام عن الموت، وأحوال الشخص في الموت.
*ما دلالة تقديم المفعول به مع ذكر الموت (حَتَّى إِذَا حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ)؟ وما الفرق بين حضر وجاء وأدرك وأصاب؟(د.حسام النعيمى)
جاء لفظ الموت فاعلاً في أحد عشر موضعاً في القرآن كله، يكون المفعول به متقدماً فيها دائماً ً كأنه إبعاد للفظ الموت وتقديم للمفعول به، وذلك التقديم للعناية والاهتمام والتلهف على معرفة الفاعل.
هذه الأفعال التي هي: جاء وحضر وأتى ويدرك ويتوفى كلها تجتمع في معنى واحد، وهو الاقتراب، هناك إشارة إلى القرب، لكن ألفاظها اختلفت، ولما اختلفت ألفاظها كان لا بد من اختلاف في الصورة، عندما تقول “حضر فلان” تقول حضر فلان وهو معك، الصورة في حضوره، وحين تقول جاء فلان كأنما تتصور فكرة المجيء ، وأتى مثل جاء، لكنها تكون أقل؛ لأن الصوت يختلف (جاء وأتى) الإتيان أخف من المجيء، كأنه بشكل أهون ليس بشدة المجيء.
أدرك كأنه كان يلاحق شيئاً، وأدركه فحين يقول (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ) كأنه يركض وراءهم، (حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) كأنه أخذهن وافيات غير منقوصات، وكان سبباً؛ لأن الموت لا يتوفى، إنما تتوفى الملائكة، وبأمر الله سبحانه وتعالى.
إذا نظرنا في الآية (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي (133) البقرة)، كأن الموت حاضر مع من هو جالس بجوار يعقوب (عليه السلام)، لكن هذا الحضور ليس فيه موت كامل، حضر الموت لكن لم تُقبض روحه، يعني اقترب منه الموت، فما الدليل على أنه كان في الحضرة ولم تقبض الروح؟ الدليل أن يعقوب (عليه السلام) كان يوصي أبناءه (إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي) فهو لم يكن قد مات، لكن الموت جالس عنده، وشاهد على الوصية، فكأن الموت اقترب منه ، لكن لم ينفذ.
آية (135):
*(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا (135) البقرة)ما معنى حنيفاً وما دلالتها؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
الحنف هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنف: الميل في المشي عن الطريق المعتاد، وسمي دين إبراهيم حنيفاً على سبيل المدح للمِلّة؛ لأن الناس يوم ظهور ملّة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء، فجاء دين إبراهيم مائلاً عنهم، فلُقّب بالحنيف كلقب مدح.
* ما الفرق بين أنزل وأوتي في الآية (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة)؟( د.فاضل السامرائى)
هذه الآية فيها إنزال وإيتاء، الإنزال يأتي من السماء، ويستعمل للكتب. أما الإيتاء فهو يستعمل للكتب وغير الكتب مثل المعجزات، نسأل سؤالاً: مَنْ من الأنبياء المذكورين ذُكرت له معجزة تحدّى بها المدعوين؟ موسى وعيسى عليهما السلام، ولم يذكرمعجزات للمذكورين الباقين، هل هذه المعجزة العصى وغيرها إنزال أو إيتاء؟ هي إيتاء وليست إنزالاً، ولذلك فرّق بين من أوتي المعجزة التي كان بها البرهان على إقامة نبوّته بالإيتاء وبين الإنزال، هذا أمر. كما أن كلمة (أوتي) عامة تشمل الإنزال والإيتاء، الكُتب إيتاء، أنزل يعني أنزل من السماء، وآتى أعطاه، قد يكون الإعطاء من فوق أو من أمامه بيده، وحين يُنزل ربنا تبارك وتعالى الكتب من السماء فهو إيتاء، فالإيتاء أعمّ من الإنزال؛ لأن الإنزال كما قلنا يشمل الكتب فقط.
لذلك لما ذكر عيسى وموسى عليهما السلام ذكر الإيتاء ولم يذكر الإنزال، ثم قال (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ) دخل فيها كل النبييبن، لأن ما أوتوا من وحي هو إيتاء.
(وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) قد يكون إنزالاً وقد يكون إيتاء، لكن ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام في هذه الآية هو إيتاء وليس إنزالاً، لأنه يتحدث عن معجزة، ولأنهما الوحيدان بين المذكورين اللذين أوتيا معجزة، ونجد أن حجج موسى (عليه السلام) لم تكن في الكتاب، وإنما جاءه الكتاب بعدما أوتي المعجزات، فالآخرون إنزال، وعندما يتعلق الأمر بالمعجزة تأتي إيتاء، وللعلم فإنه لم يرد في القرآن كله كلمة (أنزل) مطلقاً لموسى، وإنما استعملت كلمة (أوتي) لموسى، أما بالنسبة للرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد جاء في القرآن (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم)، وجاء أيضاً (وما أُنزل إليك).
آية (136):
*ما الفرق بين أنزلنا إليك (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) البقرة) وأنزلنا عليك (قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )84) آل عمران)؟(د.حسام النعيمى)
أحياناً حروف الجرّ يستعمل بعضها مكان بعض، لكن نلفت النظر لِمَ استعمل هذا هنا وهذا هنا؟
تأتي (إلى) بمعنى الغاية، الوصول، وتأتي (على) بمعنى الإستعلاء، لاحظ عندما تقول: دخل زيد إلى القوم، يعني مشى ودخل إليهم كأنهم في مستوى واحد، لكن حين تقول دخل عليهم فكأنه مرتفع عنهم، وفي ذلك نوع من التعالي. كذلك (خرج على قومه في زينته) فيها نوع من العلو.
حين تأتي: أُرسل إليه أو أُرسل إلينا، كأنه قريب منا وباشرنا نحن ومسّنا، أماعلينا: ففيها نوع من التلقّي من علوّ. لكن لمَ قال مرة إلينا ومرة علينا؟
ننظر في آية البقرة (وما أنزل إلينا) وفي آل عمران (وما أنزل علينا) نلاحظ أن آية البقرة في بدايتها نوع من الدعوة، أو مباشرة الدعوة لغير المسلمين من المسلمين، يأملون أن يكونوا معهم، فهو حديث يسري بين البشر، عندئذ قالوا: نحن وصل إلينا أو ورد إلينا ما هو خير مما عندكم. ففيها معنى الوصول لاحظ الآيات (آمنا بما أنزل إلينا) هذا شيء وصل إلينا، يعني تسلّمناه لا نحتاج إلى ما عندكم، فلما قال (أنزل إلينا) العطف عادة يكون مثل المعطوف عليه (قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)).
بينما في آية آل عمران الكلام عن ميثاق أُخِذ على الأنبياء أن يوصوا أتباعهم باتّباع النبي الجديد الذي سيأتي. ميثاق من الله عز وجل ففيه علو، وفيه ذكر للسماء أو للسموات، فناسب أن يقول (أُنزل علينا).
هناك شيء آخر يلفت النظر في الآيات: أنه في آية البقرة قال (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) أعاد كلمة (أُوتي)، وفي آل عمران قال (وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) حذف أوتي. لماذا؟ لأن إيتاء النبيين ورد في آل عمران قبل قليل (لَمَا آَتَيْتُكُمْ)، فلم يكررها بينما هناك لم يذكرها فكررها.
يقول تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ (134) البقرة) جعلها كالأموال وككسب الإنسان.
آية (137):
*(فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ (137) البقرة)لم استخدمت أداة الشرط إن وليس إذا؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
(إن) حرف شرط جازم، ولكنه يفيد الشك خلافاً لـ (إذا)، وقد جاء الشرط هنا في الآية بـ (إن) إيذاناً بأن إيمانهم غير مرجو وميؤوس منه.
آية (137):
*ما إعراب الضمائر في (فسيكفيكهم الله)؟( د.فاضل السامرائى)
فسيكفيكهم الله: الكاف مفعول أول، لأن كفى تأخذ مفعولين، (هم) مفعول ثان، (الله) لفظ الجلالة فاعل. فسيكفيك الله إياهم،. كقولك: (سلنيه) وصِلأ أو فصلا لهاء سلنيه، سلنيه: اسأل فعل أمر، الياء مفعول أول، والهاء مفعول ثان، والنون للوقاية، وإن شئت قلت سلنيه، أو قلت سلني إياه.
آية (139):
*(قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ (139) البقرة)ما دلالة الاستفهام؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
في قوله تعالى (أتحاجوننا) استفهام، ولكنه خرج عن دلالته الأصلية، وهو الاستفهام عن شيء مجهول إلى التعجب والتوبيخ.
*(وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ (139) البقرة): لِمَ قال تعالى لنا أعمالنا ولم يقل أعمالنا لنا لا سيما أن (لنا) متعلق بخبر محذوف للمبتدأ (أعمالنا)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
قدّم تعالى الجار والمجرور (لنا) على قوله (أعمالنا) للاختصاص، أي لنا أعمالنا الخاصة بنا، ولا قِبَل للآخرين بها، فلا تحاجونا في أنكم أفضل منا
آية (142):
*(سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا (142) البقرة) ما فائدة وصفهم بأنهم من الناس مادام ذلك معلوما؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
السفهاء جمع سفيه، وهو صفة مشبّهة تدل على أن السفه غدا سجيّة من سجايا الموصوف، وهذه الصفة لا تُطلق إلا على الإنسان، فلِمَ قال تعالى (سيقول السفهاء من الناس) ولم يكتف بـ سيقول السفهاء؟ وما فائدة وصفهم بأنهم من الناس مادام ذلك معلوما؟
إن فائدة وصفهم بالسفهاء من الناس مع كون ذلك معلوماً هو التنبيه على بلوغهم الحد الأقصى من السفاهة، بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء، وإذا قُسِّم الناس أقساماً يكون هؤلاء قسم السفهاء، وفي هذا إيماء إلى أنه لا سفيه غيرهم، للمبالغة في وسمهم بهذه السمة.
آية (143):
*لم جاء اسم الإشارة فى صدر الآية فى قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لو قال ربنا “وجعلناكم أمة وسطاً لتكونوا” لما حدث خلل في سياق الآية ظاهراً، فلِمَ صدّر الآية باسم الإشارة (وكذلك)؟ صُدِّرت الآية باسم الإشارة كذلك الذي يدل على البُعد؛ للتنويه بتعظيم المقصودين، وهم المسلمون.
ومن هذا الباب قول إبي تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذر.
*ما المقصود بالإيمان فى الآية (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) البقرة)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
عن ابن عباس رضي الله قال: لما وُجّه النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الكعبة، قالوا: يا رسول الله، كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلّون لبيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ). فالإيمان في الآية أُريد به الصلاة، فلم عدل ربنا عن ذكر الصلاة، آثر أن يطلق الإيمان على الصلاة للتنويه بعظم الصلاة وعظم قيمتها، فهي من أعظم أركان الإيمان.
آية (143):
* (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (143) ما المقصود بالأمة الوسط؟( د.فاضل السامرائى)
وسطاً معناها خياراً أو عدولاً، الوسط بين الإفراط والتفريط يكون خيار وعدول، حين تقول هو من أوسطهم أي من خيارهم، هذا ما ذكره أبو سفيان عندما سُئل عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال هو من أوسطنا، أي من خيارنا وأحسننا. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي خياراً وعدولاً، وبين الإفراط والتفريط، هذا المقصود من معنى الوسطية.
*ما دلالة التوكيد بـ (إنّ) واللام في هذه الآية (وَإِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) فى سورة البقرة وعدم التوكيد فى سورة النور(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) ؟( د.فاضل السامرائى)
التوكيد بحسب ما يحتاجه المقام، مثلاً، لما ذكر الله تعالى النعم التي أنزلها علينا يؤكد، وإذا لم يحتج إلى توكيد لا يؤكد، ولو احتاج لتوكيد واحد يؤكد بواحد، وإذا احتاج إلى توكيدين يؤكد بهما. (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) البقرة) هنا أكّد. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) النور) لم يؤكّد. في الآية الأولى كانوا في طاعة (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، ويقال: إن هذه الآية نزلت لما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فتساءل الصحابة عن الذين ماتوا هل ضاعت صلاتهم؟ وهل ضاعت صلاتنا السابقة؟ سألوا عن طاعة كانوا يعملون بها، فأكدّ الله تعالى (إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).
أما في الآية الثانية فهم في معصية (يحبون أن تشيع الفاحشة)، فلا يحتاج إلى توكيد، وفي تعداد النعم ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) هم في طاعة، ولذلك يؤكد، وفي المعصية لا يؤكد، ولم يقل في القرآن (والله رؤوف رحيم) أبداً، إما أن تأتي مؤكدة باللام و(إنّ)، أو (رؤوف بالعباد).
*(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا (144)) عبّر تعالى عن رغبة النبي ومحبته للكعبة بكلمة (ترضاها) دون كلمة تحبها أو تهواها لماذا؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
للدلالة على أن ميله (صلى الله عليه وسلم) إلى الكعبة ميل لقصد الخير، بناء على أن الكعبة أجدر بيوت الله بأن يدل على التوحيد، ولما كان الرضا مشعراً بالمحبة الناتجة عن التعقل اختار كلمة (ترضاها) دون تهواها أو تحبها، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) منزهٌ أن يتعلق ميله بما ليس فيه مصلحة راجحة للدين والأمة.
آية ( 144):
* ما دلالة إستخدام (قد) في قوله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا (144) البقرة) علماً أنها تفيد التقليل؟( د.فاضل السامرائى)
(قد) إذا دخلت على الماضي تفيد التحقيق، وإذا دخلت على المضارع لها أكثر من معنى، منها التقليل (قد يصدق الكذوب) ، وقد تأتي للتكثير والتحقيق، لكن المشهور عند الطلبة أنها إذا دخلت على المضارع تكون للتقليل، وهذا جانب من جوانب معانيها، فإنها قد تكون للتقليل وقد تكون للتحقيق، (قد يعلم ما أنتم عليه) تحقيق، وفي قوله تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) تكثير، أي كثيراً ما تنظر إلى السماء.
آية (146):
*(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ (146) البقرة) عبر الله تعالى بلفظ المعرفة وقال (يعرفونه) ولم يقل يعلمونه لماذا؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
ذلك أن المعرفة غالباً ما تتعلق بالذوات والأمور المحسوسة، فأنت تقول عن شيء ما إنك تعرفه، حينما يكون علمك به أصبح كالمشاهد له، وكذلك كانت معرفة أهل الكتاب بصفات النبي (صلى الله عليه وسلم) ، فهي لم تكن مجرد علم مستند إلى غيب، بل إنهم يعرفونه ويعرفون صفاته كأنهم يشاهدونه أمامهم قبل بعثته؛ لذلك عبّر بالمعرفة ولم يعبّر بالعلم.
آية (147):
*ما الفرق بين (فلا تكونن من الممترين)و(فلا تكن من الممترين)؟(د.أحمد الكبيسى)
فى قوله تعالى (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴿146﴾ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿147﴾ البقرة) تكوننَّ، بنون التوكيد المشددة، في آل عمران (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿59﴾ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿60﴾ آل عمران) لماذا هناك (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) وهنا (فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)؟
هي نفس القضية، لماذا أكد هناك بالنون ولم يؤكدها هنا؟ الأولى عقيدة إما مسلم وإما كافر، فإياك أن تكون، كما قال تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴿94﴾ يونس) لماذا؟ هذه قضية قرآن هل هو حق أو لا، (فَلَا تَكُونَنَّ).
لكن كيف خلق آدم ؟ قد لا يدرك عقلك كيف خلقه الله من طين، وقال نفخت فيه، لا يفهمها إلا أولو العلم، كيف خلق سيدنا عيسى كما خلق آدم، ثق أن 99 % من المسلمين الآن لا يعرفون كيف خلق آدم بالتفصيل الدقيق، يعرفونها إجمالاً، ولا يعرفون كيف خلق سيدنا عيسى عليه السلام، لكن هناك من يتوصل إلى هذا بعلمه، فإذا امتريت فذلك أقل خوفاً أو ضرراً مما لو امتريت في العقيدة.
إذاً الفرق بين (لا تكونن) أن الأمر إذا كان في العقيدة (فَلَا تَكُونَنَّ) إياك أن يكون في قلبك شك، ولا واحد بالمليار، إياك، لأن هذا الشك ينهي كل شيء. محمد رسول الله يقيناً، عيسى رسول الله يقيناً، موسى رسول الله يقيناً ، إياك أن تشك بلحظة (فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).
لكن كيف أحيا سيدنا إبراهيم الطيور؟ وكيف أحيا عزير ذلك الحمار؟ وكيف خلق رب العالمين عيسى؟ هذه أمور إن عرفتها فبها ونعمت، ما عرفتها فليس عليك شيء، لكن لا تَرْتَبْ، ما دام جاء بها نص صحيح، أنت كن على يقين، هذا هو الفرق.
*(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (149) البقرة) عطف هذه الآية حكماً على حكم قبله حيث بدأت الآيتان بقوله تعالى (ومن حيث خرجت فول وجهك) أوليست الآية الثانية تغني عن الآية الأولى؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
في هذا تنبيه إلى كل مؤمن أن استقبال الكعبة في الصلاة لا تهاون فيه، ولو في حالة العذر كالسفر؛ لأن السفرفيه مظنّة المشقة للاهتداء لجهة الكعبة، فربما توهّم شخص ما أن الاستقبال يسقط عنه.
آية (149):
* ما دلالة تكرار لفظة في سورة البقرة (فولّ وجهك) في الآيات- 149-150144 ؟(د.حسام النعيمى)
ابتداء كان توجّه المسلمين إلى غير الكعبة امتحاناً لإيمانهم، لأنهم كانوا قد ألِفوا التوجه إلى الكعبة قبل الإسلام، وألِفوا إحترامها وإجلالها، وأنها هي متوجههم، وإذا بالرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول لهم توجهوا نحو بيت المقدس، هذا لم يكن سهلاً عليهم فتوجهوا، حتى الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن الأمر سهلاً عليه أيضاً، فكان هذا امتحاناً للمسلمين، فنجحوا في الاختبار، لكن بقيت نفوسهم حائرة.
ورد هذا الأمر في ثلاث آيات: الأولى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)) والثانية (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)) والثالثة (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)).
لماذا هذا الذي يبدو تكرارا؟ هي في كل مرة جاءت لغاية: في المرة الأولى جاءت إستجابة لتقليب الرسول (صلى الله عليه وسلم) وجهه في السماء كأنه يدعو الله تعالى بلسان الحال لا بلسان المقال، كأنه يدعو ربه عز وجل (قد نرى) قد قلنا إنها للتحقيق، وإن دخلت على الفعل المضارع والفاعل قادر على إنجاز الفعل، فهذا كان في بيان الاستجابة لدعاء الرسول (صلى الله عليه وسلم) بلسان الحال لا بلسان المقال.
الآية الثانية بيّنت أن تولي الوجه هذا هو الحق من الله تعالى، هو حقٌ فلبيان كونه حقاً، وحتى لا يبقى شك في نفوس المسلمين من هذا التولي قال (وإنه للحق من ربك)، ولاحظ التأكيدات (إن واللام) حتى يطمئن المسلمون إلى هذا الحقّ.
الآية الثالثة جاءت للتهوين من شأن ثرثرة الآخرين من غير المسلمين، إنه سيثرثر الآخرون، ويقولون (ما ولاهم عن قبلتهم) (لئلا يكون للناس عليكم حجة) هؤلاء الذين سيثرثرون في الاحتجاج عليكم ظالمون، فلا تلقوا لهم بالاً، ومن هنا تأكيد التوجه إلى البيت الحرام بهذه الآيات الثلاث، وكل واحدة لها معنى.
آية (150):
*(وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ (150) البقرة) لِمَ قال (لئلا يكون للناس) ولم يقل لئلا يكون للمشركين؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
ذكر تعالى الناس معرّفة بـ (أل)، وذلك حتى تستغرق هذه الكلمة الناس جميعاً، مهما اختلفت مللهم، ولم يقتصر على ذكر المشركين الذين اعترضوا في ذلك الوقت على تحوّل القِبلة، وشككوا في النبي (صلى الله عليه وسلم) بسبب ذلك، وكأن هذه الكلمة (للناس) قد دلّت على أن استقبال القبلة سيدحض أي دعوة يزعمها إنسان في عصر من العصور أن هذا الدين مقتبس من اي دين قد سبقه، فالتوجه إلى الكعبة المشرفة مبطلٌ لمزاعم الناس المشككين كلهم في كل زمان وكل مكان.
آية (150):
* متى تثبت الياء ومتى تحذف كما في قوله (واخشوني، واخشون)؟( د.فاضل السامرائى)
هذا التعبير له نظائر في القرآن (اتّبعني، اتبعنِ، كيدوني، كيدونِ، أخّرتني، أخرتنِ). أما اخشوني واخشونِ فوردت الأولى في سورة البقرة، والثانية وردت في المائدة.
عندما تحذّر أحدهم فإن التحذير يكون بحسب الفِعلة، قد تكون فِعلة هينة، وقد تكون شديدة. فمثلاً لو إن أحدهم اغتاب آخر تقول له اتقِ ربك، وقد يريد أن يقتل شخصاً فتقول له اتق الله، فالتحذير يختلف بحسب الفعل إذا كان الفعل كبيراً يكون التحذير أشد. فعندما يُظهِر الياء يكون التحذير أشد، ويكون الأمر أكبر في جميع القرآن.
عندنا (اخشوني) إذًا التحذير أكبر. ننظر في سياق الآية التي فيها الياء (واخشوني) (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) البقرة) هذه في تبديل القِبلة، فجاءت اخشوني بالياء، لأنه صار كلام كثير ولغط وإرجاف بين اليهود والمنافقين حتى ارتد بعض المسلمين (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) البقرة) هو أمر كبير؛ لذا قال (واخشوني).
الآية الأخرى في سورة المائدة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.(3)) هذا يأس وذاك إرجاف، هذا الموقف ليس مثل ذاك، هؤلاء يائسون فصار التحذير أقل. وفي الآية الثانية (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)) ليس فيها محاربة ولا مقابلة فقال (واخشونِ) بدون ياء. إذًا المواطن التي فيها شدة وتحذير شديد أظهر الياء.
والحذف في قواعد النحو يجوز، والعرب تتخفف من الياء، لكن الله سبحانه وتعالى قرنها بأشياء فنية.
آية (153):
*لماذا يأتي الخطاب في الحديث عن الصلاة والزكاة في القرآن للمؤمنين أما في الحج فيكون الخطاب للناس؟ (د.فاضل السامرائى)
الصلاة والزكاة كان مأمورا بهما من تقدّم من أهل الديانات، كما جاء في قوله تعالى عن اسماعيل (عليه السلام) (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) مريم)، وفي قوله تعالى عن عيسى (عليه السلام) (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) مريم) وفي الحديث عن بني إسرائيل (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) البقرة). أما الحج، فهو عبادة خاصة بالمسلمين، وعندما يكون الخطاب دعوة للناس إلى الحج، فكأنها دعوة لدخول الناس في الإسلام، بينما دعوة الناس للصلاة والزكاة ليست غريبة، فهم أصلاً يفعلونها في عباداتهم.
آية (155):
*(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ (155) البقرة)ما دلالة كلمة شىء؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لاحظ كيف جاء الله تعالى بكلمة (بشيء) فقال (بشيء من الخوف والجوع)، ولم يقل لنبلونكم بالخوف والجوع، وفي ذلك لفتتان جميلتان: الأولى أنه ذكر كلمة شيء قبل الخوف، وفيه تخفيف من وقع هذا الخبر المؤلم للنفس، فلا أحد يرغب أن يكون خائفاً أو جائعاً، فخفف الله تبارك وتعالى عنا هذا الخبر، معلنا أن الابتلاء سوف يكون بشيء من الخوف والجوع، وليس بالخوف كله أو بالجوع كله.
والثانية إشارة إلى الفرق بين الابتلاء الواقع على هذه الأمة المرحومة، وبين ما وقع من ابتلاء على الأمم السابقة، فقد سلّط الله تعالى الخوف والجوع على أمم قبلنا، كما أخبرنا في قوله تعالى (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) النحل)؛ ولذا جاء هنا بكلمة (بشيء)، وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أنه استعار لها اللباس اللازم مما يدل على تمكن هذا الابتلاء فيها، وعِظَم وقعه عليها، وقد خُفِّف عنا والحمد لله.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) البقرة) انظر في لطائف القرآن كيف أسند البلوى لله سبحانه وتعالى دون واسطة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فقال (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) وأسند البشارة بالخير الآتي من قِبَل الله تعالى إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) تكريماً لشأنه، وزيادة في تعلّق المؤمنين به (صلى الله عليه وسلم) بحيث تحصل خيراتهم بواسطته، دون أن يصيبهم أي مكروه بسببه (صلى الله عليه وسلم).
آية (155):
* قال تعالى في سورة البقرة (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)) هل لهذا الترتيب وجه بلاغي؟(د.حسام النعيمى)
في سورة البقرة قدّم (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)) السبب في هذا أن الآية تتكلم عن قتل وقتال فالخوف قدم على الجوع، هناك معركة، وكلما كان الكلام عن قتال وقتل فلا يفكر الإنسان بالجوع، وإنما يفكر في ذهاب النفس، فقدّم الخوف.
ولما تكلم عن الرزق وعن التجارة – والتجارة رزق أيضاً – قدّم الجوع، والباقي مناسب (ونقص من الأموال والثمرات) أيضاً قدّم الأموال، قال: (نقص من الأموال) بمعنى تقلّصها، ولو يقل( نقص في الأموال)لأن نقص فيها تعني في داخلها أصابها شيء، أما نقص من الأموال فيعني أنها ذهب منها شيء. ولاحظ أيضاً تقديم الأموال في الآية، لأن الأموال تتقدم دائماً، إلا عندما تتعامل مع الله تعالى فيقدّم الأسمى (الأنفس).
آية (156):
* ما أصل كلمة مصيبة؟وكيف تكون المصيبة خيراً (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ (79) النساء)؟(د.حسام النعيمى)
قال تعالى(الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ (156) البقرة، المصيبة مشتقة من جذر (ص و ب) ومنه صارت أصاب (أفعل) يصيب، وهذه النازلة مصيبة. و لها معان متعددة كلها تدور حول معنى الإنزال، ومنه الصيّب الذي هو المطر وفيه معنى النزول. والشيء الذي ينزل على الإنسان قد يكون خيراً أو شراً، مثل المطر قد يكون نافعاً أوضاراً.
لكن كلمة مصيبة صار لها خصوصية، والعربي صار لا يستعملها إلا في السوء.
مصيبة (مُفعِلة) من أصاب مثل كلمة نازلة، ما يصيبه من مصيبة في ظاهر الأمر يراه سوءاً له وفي الحديث ” عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير” وفي حديث البخاري “من يُرد الله به خيراً يُصِب منه” أي يمتحنه فيصبّره فيصبر، فترتفع درجته. ففي كل الأحوال له خير، فإذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، نحن لله سبحانه وتعالى.
المصيبة هنا بمعنى ما تراه ضرراً، والقرآن الكريم جاء على أساليب العرب، أو إذا عكسنا الأمر إن أساليب العرب ارتقت شيئاً فشيئاً إلى أن جاءت إلى لغة القرآن الكريم.
*هل هناك لمسة بيانية في طريقة إستعمال القرآن نفس الفعل مع الحسنة والسيئة (تصبك) لكن في كلمة مصيبة حدد الدلالة الخاصة بها مع الشيء السيء ؟(د.حسام النعيمى)
القرآن على لغة العرب، والعرب كانوا يستعملون المصيبة، وأصل الاستعمال في المصيبة هي الرمية الصائبة للسهم، الرجل إذا اجتهد فأصاب فهو مصيب، والمرأة يقال أصابت، حتى نتجنب القول بأنها مصيبة، وإن كان هذا يجوز من حيث اللغة، إذًا الإصابة يمكن أن تستعمل للحسنة، ما أصابك أي ما نالك ونزل بك، هذا في لغة العرب.
*كيف ننسب الحسنة إلى الله والمصيبة إلى نفسك؟(د.حسام النعيمى)
مردّ الأمور جميعاً هي إلى الله سبحانه وتعالى، وأنت تقدم أسباب الوصول إلى الحسنة، ويقدم الإنسان أسباب الوصول إلى السيئة، ولا يكون وصوله إلى الحسنة أو السيئة إلا بأمر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى (وهديناه النجدين)، والله لا يُسأل عما يفعل في ملكه، إذ الكون كله ملك الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) فهو قادر على أن يهدي الجميع، وقادر على أن يضل الجميع.
حينما يجعلك تختار طريقك، هو شاء لك أن تختار، وأنت صارت لك مشيئة من ذاتك؟ الله يشاء (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) لكن لك مشيئة، وإلا كنت كالملائكة أو الشياطين، الشياطين لا مجال للهداية فيهم، والملائكة لا مجال للضلالة لهم، وشاء الله عز وجل لهذا الإنسان أن ينظر في الطريقين وفق ما يبيّنه الله سبحانه وتعالى من لطفه وكرمه، وإلا فالمفروض أن يوصله العقل ، مع ذلك أرسل الرسل، ومعهم الكتب، وبيّن طريق الهداية وطريق الضلال. فإذًا الإنسان فيما يسلك من طريق هو في الأصل في خانة مشيئة الله سبحانه وتعالى، التي جعلت له المشيئة أن يختار.
(ما أصابك من حسنة فمن الله) لأنك أنت سعيت وقدّمت، لكن أنت ما كنت تستطيع أن تصل للحسنة حتى يرضاها الله تعالى، فذكر تعالى الأصل لأنه مرتبط بالحسنة. أنت سعيت نحو الحسنة وشاء الله سبحانه وتعالى أن تفعلها قدّمت وشاء لك ففعلت، فالحسنة تُنسب إلى الله تعالى.
والسيئة أيضاً سعيت، وشاء الله تعالى لك أن تصل، ولو أراد الله ما وصلت، لكن يبقى منحصراً بك، لأنك سعيت، وكما قالت الجن (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا)، الخير معقود لله تعالى دائماً، على أننا نؤمن بالقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى، فنسبت الحسنة إلى الله تعالى، وحصرت السيئة بنفسك، مع أن نفسك سعت في الحسنة، وسعت في السيئة، وفي الحالين كانت بالمشيئة.
وهو تعليم للمسلم كيف يتأدب مع الله سبحانه وتعالى، وأن ينسب الخير لله، وأن ينسب السوء لنفسه، ولذلك نجد علماءنا يقولون عندما يكتبون: هذا ما وصل إليه اجتهادي، فإن كان خيراً فمن الله تعالى، وإن كان شراً فمن نفسي ومن الشيطان، وهذا من الأدب مع الله سبحانه وتعالى.
آية (158):
* لم عبّر السياق بكلمة (يطوّف) بالتشديد ولم يقل يطوف؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
في ذلك دليل على مزيد اعتناء بهذه الشعيرة من شعائر الحج، وحثٌ على الازدياد من السعي بين الصفا والمروة، والازدياد من هذا الخير، كلٌ بقدر طاقته واستطاعته.
آية (158):
*ما الفرق بين لا جناح عليكم وليس علكم جناح؟(د.فاضل السامرائى)
(لا جناح عليكم) جملة اسمية، (لا) النافية للجنس، وجناح اسمها، واسمها وخبرها جار ومجرور، (عليكم).
ليس عليكم جناح جملة فعلية (ليس فعل ماضي ناقص من أخوات كان) والقاعدة العامة أن الجملة الإسمية أقوى من الفعلية لأنها دالة على الثبوت، الاسم يدل على الثبوت، والفعل يدل على الحدوث والتجدد، والوصف بالإسم أقوى وأدوم من الوصف بالفعل. إذًا لا جناح عليكم أقوى، بالإضافة إلى أن لا جناح عليكم مؤكدة. (لا) أقوى في النفي من (ليس)، والنفي درجات. واللغة العربية سهلة، ولكنها واسعة تعبر عن أمور كثيرة لا يمكن للغات أخرى أن تعبر عنها (كيف تفرق بالانجليزية بين لن يذهب ولم يذهب ولما يذهب وليس يذهب، وبين لا رجل حاضراً، ليس رجل حاضراً، ما رجل حاضراً) أدوات النفي لها دلالاتها.
لا جناح عليه:
تستعمل فيما يتعلق بالعبادات، وتنظيم الأسرة وشؤونها، والحقوق والواجبات الزوجية، والأمور المهمة:
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا (158) هذه عبادة، ( فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ (229)، (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ (230)، (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ (233) ، (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (234) ، (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ (235) ، (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً (236) (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ (240)) هذه الآيات كلها في الحقوق، وفي شؤون الأسرة.
ليس عليكم جناح:
تستعمل فيما دون ذلك من أمور المعيشة اليومية كالبيع والشراء والتجارة وغيرها مما هو دون العبادات في الأهمية. (لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ ) هذه في التجارة وليست فى العبادة. حتى لو كانت الدلالة واحدة وهي النفي فلا بد أن يغاير بين الأدوات الموجودة، لأن العربي كان يفهم هذا الكلام وأكثر من هذا، وكانوا يتكلمون بها، لكنهم لا يضعونها في مكانها في كلامهم، يأتون بجمل لكن لا يمكن أن يرتبوا كلاماً بمستوى القرآن، لذلك قالوا: أي كلام بمقدار أقصر سورة في القرآن (الكوثر) هو مُعجِز؛ فكيف يجمع كل هذه الأمور، وهذا الحشد البياني الهائل في هذا الكلام القصير؟!
ذكرنا سابقاً أن أستاذاً في الأدب العربي في جامعة بغداد سأل: لماذا القرآن كلام معجز مع أن العرب فهموه، وهو كلامهم؟ أستاذ آخر يُدرِّس اللغة قال: ألا يفهم أستاذ الأدب كلام المتنبي ويشرح مفرداته للطلاب؟ فلماذا لم يفعل مثله؟
* ما الفرق بين الفاء والواو في بعض آيات القرآن العاطفة (البقرة: 262، 274، 152،184)؟( د.فاضل السامرائى)
الفاء كما هو معلوم للتعقيب مع السبب، سببية: درس فنجح، التعقيب أي يأتي بعدها مباشرة، في عقب الشيء. أما الواو فهي لمطلق الجمع ولا تدل على ترتيب أو تعقيب، وليس فيها سبب.
قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة) (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) البقرة) لماذا قال في الأولى: ومن تطوع خيراً، وفي الثانية فمن تطوع؟ الأولى في الحج والعمرة، ومن تطوع خيراً أي من جاء بعبادة أخرى بطواف، بحج ، بعمرة.
الآية الثانية في الصيام قال (فمن تطوع) كيف يتطوع؟ يزيد في الفدية في نفس المسألة، وفي نفس الطاعة، ليست طاعة مستحدثة؛ لأن هذه فدية، كيف يتطوع أكثر؟ مسكينان مثلا بدلا من مسكين.
الأولى عبادة أخرى مستحدثة، لذا جاءت بالواو، أما هذه فنفس العبادة؛ ولذا جاءت بالفاء.
الآية الأخرى (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) البقرة) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274) البقرة) لماذا جاء بالفاء في الثانية دون الأولى؟
الفاء واقعة في جواب اسم الموصول، وهنا الاسم الموصول مشبّه بالشرط، وإسم الموصول أحياناً يشبّه بالشرط بضوابط، فتقترن الفاء بجوابه كما تقترن بجواب الشرط ،وكل واحدة لها معنى. مثال: الذي يدخل الدار له مكافأة والذي يدخل الدار فله مكافأة، الأولى فيها احتمالان: إما أنه له مكافأة بسبب دخوله الدار، كأن الدار مقفلة وهو يفتحها أي أن المكافأة مترتبة على دخول الدار، وإما أن يكون الشخص الذي يدخل الدار له مكافأة بسبب آخر. فعندما لا تذكر الفاء فيها احتمالان. وإذا ذكرت الفاء فلا بد أن المكافأة مترتبة على الدخول قطعاً، وليس لأي سبب آخر، وهذا تشبيه بالشرط، أي أن المكافأة شرط الدخول في الدار.
أيضاً هناك ملاحظة أنه في تشبيه الموصول بالشرط أحياناً يكون الغرض من ذكر الفاء هو التوكيد أي أن ما يُذكر فيه الفاء آكد مما لم يذكر، كقوله تعالى (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) بدون فاء، والثانية (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) زاد بالليل والنهار، وسراً وعلانية، فأيها آكد؟ التي فيها الفاء، الآية الأولى قال فقط (ينفقون أموالهم في سبيل الله)، أما الثانية فقال (بالليل والنهار سراً وعلانية) فحدد أكثر. في جواب اسم الموصول إذًا احتمالان، تشبيه جواب الموصول بالشرط، إما أن يكون السبب معنى أداة الشرط، وإما لزيادة التوكيد.
(158)) (د.حسام النعيمى* ما هو تفسير قوله تعالى في سورة البقرة (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم
هنا ننظر في قوله تعالى (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) البقرة) الصفا والمروة من شعائر الله، فهل معنى الآية أنهم يمكن أن يفعلوها ويمكن أن لا يفعلوها؟ كلا، بل كانوا يريدون أن يتركوها؛ لأنهم كانوا يحسون أنها من أعمال الجاهلية.
ٌ
آية (159):
*ما الفرق بين قوله تعالى في سورة البقرة (أولئك يلعنهم الله) و (أولئك عليهم لعنة الله)؟( د.فاضل السامرائى)
يلعن فعل، والفعل يدل على الحدوث والتجدد، أما اللعنة فهي اسم والاسم يدل على الثبوت. في الآية الأولى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159}) اللعنة تستمر ما داموا يكتمون ما أنزل الله، وهو ما زالوا أحياء، وهؤلاء المذكورون في الآية يكونون ملعونين ما داموا لم يتوبوا، وكتموا ما أنزل الله، أما إذا تابوا عما فعلوا فيغفر الله لهم؛ ولهذا جاء بالصيغة الفعلية (يلعنهم الله).
أما الآية الثانية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ {161}) فالمذكورون في الآية هم الذين كفروا وماتوا، أي هم أموات، وقد حلّت عليهم اللعنة فعلاً وانتهى الأمر، ولا مجال لأن يتوبوا بعدما ماتوا؛ ولهذا جاء بالصيغة الاسمية في (عليهم لعنة)، فهي ثابتة ولن تتغير؛ لأنهم ماتوا على الكفر.
*(إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) البقرة) قال تعالى (وأنا التواب الرحيم)، ولم يقل والله تواب رحيم، فما الدلالة التي تضفيها لفظة (وأنا)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
(أنا) من معطيات الأمل والرجاء لمن يلفتهم الله تبارك وتعالى إليه، ويتجلى عليهم بذاته، ففي هذه الكلمة ما لا نجده في تعبير آخر في هذا المقام، وكما نجد في الواو العاطفة في قوله: (وأنا) من قوى الجذب لهؤلاء الضالين الظالمين، وكذلك وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالتواب، ولم يقل الغفور في هذه الآية لما في كلمة التواب من المبالغة في الرحمة، والتوبة مما يُرغِم الناس بالمبادرة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى مهما عظمت ذنوبهم، وكثرت خطاياهم، وفي هذه الكلمة ما يجذب الناس جذباً إلى التوبة والإنابة، طمعاً في توبة الله تبارك وتعالى عليهم، ورحمته بضعفهم وزللهم.
آية (160):
*ما دلالة استخدام الفعل الماضي والمضارع في الآية ؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ {159} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {160} والفعل المضارع يدل على الحال والتجدد والاستقبال، والماضي على المضي، هذا هو الأصل، وقد يحتمل معنى المضي والاستقبال فى الأفعال الماضية في الآية (تابوا وأصلحوا وبيّنوا)، وتدل على احتمال الاستقبال، لأنها جاءت بعد الكتمان (إن الذين يكتمون). وزمن الفعل الماضي بعد الاسم الموصول يحتمل المضي ويحتمل الاستقبال، وهنالك أمور قطعية، وأمور تبقى مشتركة.
أما (كان) فلها أزمنة خاصة بها، فهي تفيد الاستمرارية (كان ولا يزال)، وتأتي أصلاً للاستقبال كما في وصف الآيات للآخرة (وفتحت السماء فكانت أبوابا)، وفي الحديث عن الله تعالى (وكان الله غفوراً رحيما)، فهي تدل على كونه غفورا رحيما، فهو كان ولا يزال.
آية (161):
*ما دلالة إستخدام أداة الشرط (إن) هنا (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) البقرة)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تأمل كيف جاء أسلوب الشرط مستخدماً (إن) التي تفيد التشكيك والتقليل، ولم يستخدم (إذا) التي تفيد الجزم والتحقيق، وفي ذلك إشارة إلى أن علمك أيها المؤمن بفوائد الصيام في الدنيا والآخرة عِلمٌ غير محقق؛ لأن فوائده خفية، وأسراره قد لا تتوصل إلى معرفتها، ولذلك يرغّبك في هذه العبادة، حتى لو لم تدرك فوائدها إدراكاً كاملاً.
آية (162):
*انظر آية (86).↑↑↑
* خالدين فيها وخالدين فيها أبداً، هل (خالدين فيها) فيها أمل الغفران أو الانتقال من مرحلة إلى أخرى؟( د.فاضل السامرائى)
هناك قاعدة في القرآن الكريم سواء في أهل الجنة أو في أهل النار، إذا كان المقام مقام تفصيل الجزاء، أو في مقام الإحسان في الثواب، أو الشدة في العقاب – يذكر (أبدا)، وإذا كان في مقام الإيجاز لا يذكرها.
آيات كثيرة فيها خالدين وحدها، وليس في العقيدة أنهم يغفر لهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162) البقرة) مسألة وجود أوعدم وجود (أبداً) ليس لها علاقة بالخلود الدائم. (أبداً) ظرف زمان خاص بالمستقبل فقط، وليس له دلالة زمنية معينة، نستعمل (قطّ) للماضي، و(أبداً) للمستقبل، وخطأ أن نقول: ما رأيته أبداً، وهذا خطأ لغوي شائع، إنما نقول: لا أكلمه أبداً، وما رأيته قطّ.
(أبداً) للمستقبل الذي ليس له نهاية، يذكر (أبداً) إذا كان هناك تفصيل، هناك أمران: إذا كان هناك تفصيل في الجزاء يقول (أبداً) وتكون مناسبة لتفصيل الجزاء سواء في العقاب أو الثواب، (خالدين فيها أبداً) أطول من (خالدين فيها) فيذكرها مع التفصيل، أو كون العمل المذكور يستوجب الشدة فيستخدم (أبداً).
و(أبداً) لا تحمل معنى التأبيد الدائم أو عدم الخروج، لأن الخلود وحده يحمل هذا المعنى، والقرآن يستعمل خالدين لأهل الجنة وأهل النار، والخلود لغوياً يعني البقاء، وهم يقولون الزمن الطويل أحياناً، وقد وردت خالدين فيها أبداً في القرآن الكريم في أهل الجنة 8 مرات، ووردت في أهل النار 3 مرات، وهذا من رحمته سبحانه وتعالى؛ لأن رحمته سبقت غضبه، والخلود عند العرب يعني المكث الطويل، وليس بالضرورة المكث الأبدي.
آية (164):
*قال تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)ما دلالة (تصريف الرياح)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تأمل كيف قال ربنا سبحانه وتعالى (وتصريف الرياح)، فاستخدم كلمة تصريف للدلالة على أحوال الرياح، ولم يستخدم كلمة أخرى كالهبوب مثلاً؛ ذلك لأن هذه الكلمة لا يمكن أن تؤدي معناها أي كلمة أخرى، فقد جمعت أحوال الرياح التي يحتاج إليها الإنسان، وفي كل حالة من أحوالها آية من آيات وجود الخالق وعظيم قدرته سبحانه.
فهبوب الريح مثلاً يحتاج إليه أهل موضع لتخفيف الحرّ عنهم، وقد يحتاج أهل موضع آخر إلى اختلاف هبوبها لتجيء رياح رطبة بعد رياح يابسة، أو تهب من جهة الساحل مسيّرةً السفن إلى البحر، أو تهب إلى جهة الساحل ليرجع أهل السفن من أسفارهم أو صيدهم. فكل تلك الأحوال التي أنعم الله تعالى بها على الناس، وغيرها كثير اجتمعت في قوله تعالى (وتصريف الرياح).
آية (164):
* ما الفرق بين كلمة ريح ورياح في القرآن الكريم؟( د.فاضل السامرائى)
كلمة ريح في القرآن الكريم تستعمل للشّر كما في قوله تعالى في سورة فصّلت (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ {16})، وفي سورة القمر (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ {19}.
أما كلمة الرياح فهي تستعمل في القرآن الكريم للخير كالرياح المبشّرات كما في قوله تعالى في سورة البقرة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {164}) وفي سورة الأعراف (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ…( وسورة الحجر (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ {22})
وفي سورة سبأ (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ {12}) فاستعملت كلمة ريح مع سليمان لكنها لم تُخصص لشيء، فجاءت عامة، قد تكون للخير أو للشر؛ لأن الله سخّرها لسليمان يتصرف بها كيف يشاء.
*ما الفرق بين (من بعدها( و(بعدها)؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة العنكبوت (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ {63}) وفي القرآن كله وردت (بعدها) بدون (من) كما في سورة البقرة (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ {164 })، واستعمال (بعدها) فقط يحتمل البعدية القريبة والبعيدة، وآية سورة العنكبوت هي الموطن الوحيد الذي وردت فيه (من بعدها) فهي تدلّ على أنها بعد الموت مباشرة أي تحتمل البعدية القريبة فقط دون البعيدة. وإذا استعرضنا الآيات في سورة العنكبوت قبل الآية نجد أن الإحياء كان مباشرة بعد موتها وبدون مهلة، ومجرّد العقل كان سيهديهم إلى أن الله تعالى هو القادر على إحياء الأرض من بعد موتها.
*ماتفسير الآية الكريمة وما دلالة وصف السحاب في الآية ؟(د.حسام النعيمى)
في سورة البقرة وفي سياق تعداد نِعم الله سبحانه وتعالى، مجرد تعداد وذكر لهذه النعم، وهناك نوع من التناسق في هذه الآيات (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)) آية تذكر جملة أمور مؤكدة بـ (إنّ) ثم بعد ذلك تذكر الخبر (لآيات).
عندنا إيمان بأن الله تعالى خلق السموات والأرض لأجل الإنسان، (اختلاف الليل والنهار) ليل ونهار يختلفان، ليس نهاراً سرمداً ولا ليلاً سرمداً، تعاقب الليل والنهار، وسريان الماء؛ لأن الماء إذا سكن في مكانه يفسد، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أن جعل للإنسان أجساماً يسكن فيها، وتطفو على الماء، وليس هذا أمراً سهلاً، لكننا ألِفناه، والوصول إليه هداية من الله تعالى، فهي من نعم الله تعالى على الإنسان، وما أنزل الله من السماء من ماء: كل ما يتناوله الإنسان والنبات والحيوان من ماء مصدره السحاب، فهذا الماء في الأرض ماء مالح يرتفع إلى السماء فينزل طاهراً، حتى الجبال التي فيها ثلج هي في أصلها من هذا السحاب المرتفع، وهو ليس ثلجاً ابتداءً لكنه من هذا الذي يتبخر.
وقلنا أن السماء هو العلوّ وكل ما علاك فهو سماء، أنزل الله الماء منها، فأحيا به الأرض بعد موتها: الأرض من غير ماء ميتة، وبث فيها من كل دابة: هذه الدواب التي على الأرض تحيا بسبب الماء أيضاً.
وتصريف الرياح: السفن تتحرك بالرياح، والسحاب يتحرك بالرياح، ولذلك أكّده (والسحاب المسخر) يعني هو مهيأ ومُعدّ لكم، السحاب مجرد مسخّر، وانظر في وصفه بأنه متراكم ثقيل، وإنما الله تعالى سخّره بين السماء والأرض. كل هذا (لآيات لقوم يعقلون) .
كلمة سحاب هي إسم جنس جمعي، لفظ مفرد، ولكن معناه معنى جمع، وليس له واحد من لفظه، يمكن واحدها قطرة، لكن موجود سحابة، والسحابة هي القطعة من السحاب، لكن ليست واحدة من السحاب، هي قطعة والقطعة مجزّأة تماماً مثل كلمة ماءة.
الماء إسم جنس جمعي ليس له واحد من لفظه، اسم جنس يعني لحالة معينة خاصة به، السحابة للسحاب، والماءة للماء، أي لهذا الجنس، مثل كلمة رجل جنس لهذا المخلوق. ومن اسم الجنس ما يفرّق بينه وبين واحده بالتاء، مثل شجر واحده شجرة، تزيد على هذا اللفظ تاء يصبح مفرداً، هذا إسم جنس إفرادي يعني له مفردات، الشجر مفرده الشجرة الواحدة فيختلف. فكلمة ماءة يعني الواحد من الماء عادة يطلقونها على الماء المتبقي، مثل الغدران ولا سيما إذا خصت إحدى القبائل نفسها بها، أن هذه البئر لنا أو الركيّة مثلاً، فيقولون هذه ماءة لبني فلان.
هذه مناسبة للكلام على أن كلمة ماءة تكتب منفردة الهمزة وتاء مربوطة، وليس في الأعداد لفظ مئة، وإنما مائة لأن ماءة تعني ماء لبني فلان، أما أنها كتبت بالألف من غير أن تُقرأ مثل واو عمرو، مائة وتكسر الميم، ضع في ذهنك دائماً أن ميم هذا الرقم 100 ميمه مكسورة، فانظر كيف تقرؤه؟ لا نستطيع أن نقرأها ماءة فالميم مكسورة، فإذًا الماءة واحدة الماء الذي هو غدير أو ركيّة أو عين ماء أو بئر أو ما أشبه ذلك، فالسحابة واحدة السحاب، والسحاب لفظه لفظ مفرد، وهذا سنستفيد منه لاحقاً في الكلام عن ورود كلمة السحاب.
السحاب يُذكّر ويؤنّث، فالعرب تقول هذا السحاب وتقول هذه السحاب، ظهر السحاب وظهرت السحاب. لكن الإحالة عليه بالضمير بالمفرد المذكّر يعني تقول السحاب رأيته ولا تقول السحاب رأيتها. فإذا جمعته على سُحُب تؤنّث فتقول السحب رأيتها، ولا تقول رأيته للجمع، كما تقول الشجر سقيته، هذا أيضاً اسم جمع إفرادي، والأشجار سقيتها.
آية (165):
(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (165) البقرة)أين جواب الشرط فى الآية؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تأمل في قوله تعالى (ولو يرى) فإنك لا تجد جواب (لو) فالأصل في هذه الأداة (لو) أن تأخذ فعل شرط وجوابه فتقول مثلاً: لو رزقني الله مالاً لتصدقت بنصفه. فلِمَ حذف جواب (لو) في الآية؟
حذف جواب (لو) في الآية؛ لأن حذفه يوقع أثراً في نفس من وُجِّه إليهم الكلام أكثر مما لو ذكر جواب (لو)، كأنه يقال “لرأوا أمراً عظيماً” أو غيره، فقد ترك القرآن الكريم للخيال أن يذهب كل مذهب في تصور شدة الموقف وفظاعته، وأنت عندما تهدد إنساناً بقولك: “لئن لم تفعل” ثم تسكت فكلامك يُحدِث أثراً في نفس السامع أكثر مما يُحدِث قولك: “لئن لم تفعل لأضربنّك”.
آية (167):
* ما الفرق بين الحسرة والندامة ؟( د.فاضل السامرائى)
الحسرة هي أشد الندم حتى يتوقف الإنسان عن أن يفعل شيئاً، والحسير هو المنقطع في القرآن الكريم، ويقولون تبلغ به درجة الندم أن لا ينتفع بأي شيء حتى ينقطع. والندم قد يندم على أمر، وإن كان فواته ليس بذلك، لكن الحسرة هي أشد الندم والتلهف على ما فات، وحتى قالوا ينقطع تماماً. يقولون هو كالحسير من الدواب الذي لا منفعة فيه (أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه). والندم له درجات أيضاً، ولكن الحسرة أشد الندم، هي من الندم لكنها أقوى من الندم، أي حين يبلغ الندم مبلغاً. (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ (167) البقرة) منقطعة، ولا فائدة من الرجوع إليها مرة ثانية.
*ليتنا نأتي على كل الآيات فنقوم بعمل دراسة في القرآن الكريم عمن يذهب – والعياذ بالله أعاذنا منها – إلى النار ونبحث مدة البقاء فيها، هنالك من يجلس في النار، وهنالك من (خالدين فيها أبداً) (خالداً فيها) (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) البقرة)، وهناك البعض يقضي ما عليه من السيئات ثم يخرج منها.
د.فاضل السامرائى: إذا كان المرء مسلماً يقضي ما عليه من السيئات ثم يخرج بعدها، أما غير المسلم (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) آل عمران) (وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ (40) الأعراف) وهذا الباب الدخول فيه والكلام فيه يحتاج لحذر شديد، وربنا تعالى ذكر أن من يقتل نفساً بغير نفس سيكون في النار خالداً فيها، لكن كثيرا من الناس قال: هذا تغليظ لعقوبة القتل.
سؤال: هل هناك دليل في القرآن على هذا؟
هم بالنسبة للمسلم يستندون للأحاديث ” من قال لا إله إلا الله دخل الجنة”.
آية (170):
*ما الفرق بين وجدنا وألفينا (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة)؟(د.فاضل السامرائى)
نقرأ الآية التي فيها ألفينا والتي فيها وجدنا (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة) وفي الأخرى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) المائدة). آية ألفينا وآيتان وجدنا.
في القرآن الكريم لم يرد الفعل ألفى إلا فيما هو مشاهد محسوس، ولذلك قال بعض النحاة أنه ليس من أفعال القلوب، وقسم يدخلونه في أفعال القلوب، وقسم يقولون لا ليس من أفعال القلوب، وإنما من الأفعال المحسوسة المشاهدة. وأفعال القلوب قلبية يستشعر بها.
وألفى فعلاً في القرآن لم ترد إلا مشاهدة، في هذه الآيات في القرآن (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) الصافات) (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ (25) يوسف) (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا (170) البقرة). أما (وجدنا) ففي القرآن وفي غير القرآن وردت قلبية وغير قلبية، ومشاهدة وغير مشاهدة مثلاً (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً (37) آل عمران) (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا (86) الكهف) (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ (39) النور) (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ (102) الأعراف) يعني وجدهم يخلفون الميعاد، (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) الأحزاب) (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110) النساء) .
فوجد أشمل وتستعمل للأمور القلبية، وألفى للأمور المحسوسة هذا في القرآن أما في غير القرآن ففيها كلام.
من حيث اللغة قسم من النحاة يقول هي ليست من أفعال القلوب أصلاً، والنحاة في (وجد) هذه لا يختلفون فيها ويقولون هي من أفعال القلوب لا الأفعال المحسوسة، أما (ألفى) فهم مختلفون فيها.
في القرآن لم ترد في أفعال القلوب، وإنما هي محسوسة، ماذا ينبني على هذا؟ كيف اختلف التعبير بالنسبة لهذا الأمر؟ الذي لا يؤمن إلا بما هو مشاهد ومحسوس هو أقل علماً ومعرفة وإطلاعاً ممن هو أوسع إدراكاً، ولذلك عندما يستعمل (ما ألفينا عليها آباءنا) يستعملها في الذم أكثر من (وجدنا)، يعني يستعمل (ألفى) إذا أراد أن يذم آباءهم ذما شديدا، والذم مختلف،إذ قد تكون فيه حالة أشد من حالة، في الحالة الشديدة يستعمل ألفينا، يستعملها في الذم الشديد. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة) نفى عنهم العقل، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) المائدة) نفى عنهم العلم.
أيّهما الأشد أن تنفي العقل أو تنفي العلم؟ نفي العقل أشد، فاستعمل ألفى في نفي العقل، وفي الثانية نفى العلم، والعاقل يمكن أن يعلم لكن غير العاقل لا يعلم.
وحتى في الآية الأخرى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) الشيطان يدعو العاقل أو غير العاقل” يدعو العاقل؛ لأن غير العاقل غير مكلف، يدعوهم معناه أنهم أصحاب عقل، فهو يستعمل ألفى إذا أراد أن يذم أشد بنفي العقل، ويستعمل وجد لما هو أقل.
سؤال: الجاهليون كانوا يعلمون هذا الكلام ألفى ووجد والفروق الدلالية؟
هم قطعاً يستعملون ألفى في الأمور المادية المحسوسة أكثر، ولذلك قال قسم من النحاة إنها ليست من أفعال القلوب.
سؤال: إذن كل كلمة في القرآن تحتاج إلى دراسة وإلى علم غزير، وليس إلى وجهة نظر أو انطباع القارئ أو الباحث في القرآن الكريم، وهناك علاقات ترابطية ودلالية لا بد أن تحتاج إلى علم وأي علم.
الإجتهاد مبني على علم، وأصحاب علوم القرآن يذكرون شروطا للذي يتصدى لهذا العلم، لا يأتي أحد ويقول أنا أفسر القرآن الكريم.
آية (171):
*(ورتل القرآن ترتيلاً):
قال تعالى:(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (171) البقرة) انظر في بديع التطبيق القرآني، وعظيم بلاغة القرآن، وكيف أن آياته تصلح ألفاظها لمعانٍ كثيرة، فهذه الآية تحمل صورتين في وصف حال المشركين: صورة المشركين والنبي (صلى الله عليه وسلم) يدعوهم للإيمان بالله تعالى فحالتهم كحالة الأغنام التي لا تفقه دليلاً من صوت من يناديها، ولا تدرك من كلامه معنى، إلا أنها تسمع أصواتاً لا مدلول لها عندها، فالكلام عندها أصوات مجرّدة عن المعاني، والصورة الثانية صورة المشركين وهم يدعون آلهتهم، كمن يدعو أغناماً لا تفقه شيئاً ولا تُجيب داعياً.
آية (172):
*قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)لِمَ قال ربنا سبحانه وتعالى (واشكروا لله) ولم يقل واشكروني أو واشكروا لي باستخدام الضمير؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
ذكر اسم الله تعالى ظاهراً؛ لأن في الاسم الظاهر إشعارا بالألوهية التي قد لا يؤديها الضمير، فكأنما يوميء أن الإله الحق هو المستحق للعبادة دون غيره من أوثان ومعبودات باطلة؛ لأنه هو الذي يخلق ويُنعِم فهو وحده سبحانه الذي يستحق الشكر على نعمائه.
آية (173):
*(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ (3) المائدة) وفي آية أخرى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ (173) البقرة) ما دلالة التقديم والتأخير لـ (به)؟(د.فاضل السامرائى)
في البقرة (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ (173) البقرة) وفي المائدة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ (3) المائدة).
لو لاحظنا السياق في المائدة الكلام عن التحليل والتحريم ومن بيده ذلك، ففيه رفض لأي جهة تحلل وتحرم غير الله قال تعالى (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) المائدة) ليس لكم أن تُحِلّوا والذي يُحِلّ هو الله تعالى، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ (2) المائدة) الذي يُحِلّ هو ربنا سبحانه وتعالى، (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ (4) المائدة).
إذًا هو سبحانه يجعل التحليل والتحريم بيده حصراً، ليس هنالك أي جهة تقوم بذلك، ولذلك قدم (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ (3) المائدة) أُهِلّ يعني رُفِع الصوت بذبحه، أُهِلّ يعني هذا باسم الله والله أكبر، هذا لفلان، هذا لفلان.
هنا قدم (لغير الله) لأن ربنا هو الجهة الأولى والأخيرة التي بيدها التحليل والتحريم.
أما في البقرة فالمقام هو فيما رزق الله تعالى عباده من الطيبات، وليس فيها تحليل وتحريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً (168)) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)) (كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) هذا طعام، (كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً) هذا طعام، (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ) هذه الذبيحة، (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ) يعني ما رُفِع الصوت بذبحه فقدم (به) لأن هذا طعام متناسب مع الطعام، ومتناسب مع طيبات ما رزقهم.
إذًا في التحريم قال (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ) قدّم (لغير الله) )) لأنه لا يسمح أن يكون غير الله هو الذي يحلل ويحرم، هذا في آية المائدة لأن الكلام في التحليل والتحريم، هو سبحانه هو الذي يحلل ويحرم، ولما كان السياق في الأطعمة قدّم الطعام (ما أهل به) يعني الذبيحة، هذا الكلام في البقرة في الطعام فقال (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ) (به) يعني البهيمة، بذبحه، لكن مسألة الذبح هنا أو هنا متعلقة بالله تعالى، أما التقديم والتأخير فجاء في سياق التحليل والتحريم، أو في سياق الطعام.
*ورد في القرآن الكريم سبعين مرة غفور رحيم مثل قوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173) البقرة) وورد مرة واحدة في سورة سبأ الآية 2 الرحيم الغفور فما دلالة التقديم والتأخير؟(د.فاضل السامرائى)
تكرارها سبعين مرة أو غيرها لا تعنينا، وإنما هي في آية واحدة وردت الرحيم مقدمة على الغفور، وفي بقية الآيات تقدم الغفور على الرحيم، ولو لاحظنا آية سبأ التي تقدم فيها الرحيم على الغفور.
نجد أولاً أن المغفرة تكون للمكلّفين، والرحمة عامة، حتى الحيوانات تشملها الرحمة، لكن المغفرة للمكلفين.
سورة سبأ لم يتقدم في الآية ما يتعلق بالمكلَّفين، وإنما تقدّمها أمر عام قال (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)) ليس فيها ذكر للمكلفين، ذِكر المكلفين جاء بعدها (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (3)) فلمَّا تأخر ذكر المكلفين تأخر ما يتعلق بهم (الغفور).
الأولى عامة (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) تقدمت العامة، ولهذا قدّم الرحمة، ولما ذكر المكلفين فيما بعد قدم الغفور. ولذلك في جميع المواطن في القرآن بلا استثناء إذا قال غفور رحيم يتقدم ذكر المكلفين (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173) البقرة) (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199) البقرة) هؤلاء مكلّفون، (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74) المائدة) (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر).
*ما الفرق بين (أُهِلّ لغير الله به)سورة المائدة و(أهل به لغير الله)سورة البقرة ؟(د.أحمد الكبيسى)
عندنا آيات، غاية في الإعجاز، فما من آيتين إلا وفيهما سر، انظر (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴿173﴾ البقرة) (به) مقدمة، والآية الأخرى (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ﴿3﴾ المائدة) هل سأل أحد عن الفرق، هناك حيوانات، ذبائح سواء كانت إبلا أو غنما، أو ما شاكل ذلك، وهناك قسم أهلَّ به لغير الله، ومنها ما أهل لغير الله به، ليس هذا عبثاً.
فرق بين أني أنا رجل مسلم، ولكني ذبحت ذبائح، وما أحسنت الذبح، يعني ما سميت باسم الله، ولا ذبحت على القبلة، ولا أهديتها لمن ينبغي أن تُهدى له بالطريقة الشرعية، ولا قلت هذا لوجه الله، والثواب لفلان، هذا (وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ).
وهناك من هو أصلاً لا يؤمن، ذبحها على قبر، ذبحها على إمام، هذا لوجه الإمام، لوجه القبر الفلاني، لوجه الحسين، لوجه الكاظم، لوجه عبد القادر الجيلاني، لوجه السيد البدوي، كل هذا غير مأكول، ولكن الفرق أن الذبيحة كلها من أساسها دخلت في الشرك أو لا ، هي صحيحة لكن أنت عندما أردت أن تذبح لم تحسن، وأخطأت خطأً، إذاً فهما قضيتان وليست قضية واحدة ولهذا الله قال (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ﴿103﴾ المائدة) هذه أهلَّ بها لغير الله، هي أصلاً لغير الله يعني شرك.
آية (176):
*ما دلالة الوصف بالبعيد فى قوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) البقرة)؟ ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تأمل كيف وصف الله تعالى الشقاق بأنه بعيد، ولم يصفه بكبير أو عظيم أو ما شابه ذلك من أوصاف، وفي ذلك مجاز عقلي يعطينا عمقاً آخر وتصوراً لبُعد صاحبه عن الوفاق، وبياناً للهوّة الواسعة التي يسقط فيها أولئك المختلفون في الكتاب. فالشقاق في القيم المنهجية السماوية هو هوّة كبيرة، وإذا ما وقع فيه البشر فلن يستطيعوا أن يُصلحوا فيما بينهم ومن هنا كانت شقة الخلاف واسعة لا يقدر على حلها إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا ما عبّرت عنه الآية بوصف الشقاق بأنه بعيد.
آية (177):
*انظر آية (41).↑↑↑
*لم قال سبحانه (على حبه) ولم يقل وهو يحبه فى قوله تعالى (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تأمل كيف قال سبحانه (على حبه)، ولم يقل: وهو يحبه؛ لأن (على) أفادت التمكن من حب المال وشدة التعلق به، فنبّه بها على أبعد أحوال التعلق بالمال، فإذا كنت في حالة شدة حبك للمال تنفقه في سبيل الله، وأنت مرتاح النفس، فكيف بك في أحوالك الأخرى؟
آية
(177):
*(لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (177) البقرة) هل هناك قراءة لكلمة البرّ بالرفع؟ وما دلالة الرفع ودلالة النصب؟ وآية أخرى (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى (189) البقرة) فما الفرق؟( د.فاضل السامرائى)
التعبير أصلاً مختلف (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ (177):البر خبر (ليس) مقدّم ؛ لأن خبر (ليس) يجوز تقديمه (وخبر كان وأخواتها كلها أيضاً يجوز تقديمه)، و(أن تولوا وجوهكم) مصدر مؤول خبر ليس، معناها ليس أن تولوا وجوهكم البر.
الثانية (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى (189) لا يصح في الآية الثانية أن يقول ليس البرَ ؛ لأن الباء تدخل على الخبر، ولا تدخل على الاسم، مثل: (وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (182) آل عمران) (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) التين).
الآية الأولى يمكن أن يقال فيها ليس البرُ، أو ليس البرَ؛ لأنه يمكن أن يكون هناك تقديم وتأخير، لكن الآية الثانية لا يمكن؛ لأنه ما دام عندنا (الباء) والباء تدخل على الخبر، ولا تزاد في الاسم، وهذا قياس ، فإذن لا يمكن أن ننصب البرّ، لأن الباء دخلت، فاقتضى أن تكون داخلة على خبر (ليس)، ولا يمكن غير ذلك.
*ما دلالة نصب (الصابرين) في قوله تعالى (والصابرين فى البأساء و الضراء و حين البأس ) ؟( د.فاضل السامرائى)
هذا يُسمّى القطع، والقطع يكون في الصفات، أو العطف إذا كان من باب الصفات. القطع يكون للأمر المهم. فالقطع موجود في اللغة، في الصفات يكون القطع مع المرفوع للمنصوب، ومع المنصوب للمرفوع، ومع المجرور للمرفوع، ويقطع من الصفات، لأهمية المقطوع، والمقطوع يكون مفعولاً به بمعنى أخُصُّ أو أمدح، ويسمى مقطوعا على المدح أو الذم.
وفي الآية (الصابرين) مقطوعة وهي تعني أخص أو أمدح الصابرين، وكأننا نسلّط الضوء على المقطوع، فالكلمة التي نريد أن نركّز عليها أو نسلّط عليها الضوء نقطعها.
ومن باب الصفات ما دلّ على المدح أو الذم أو الترحّم، ويكون الاضمار وجوباً.
قال تعالى (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة) الصابرين منصوبة، ركّز عليها وقطع، ولم يقل الصابرون، معطوفة على الموفون، والعطف على خبر لكنّ، لأن الصابرين يكونون في الحرب والسلم، وفي البأساء وهي عموم الشدة والاصابة في الأموال، والضرّاء في البدن، والدين كله صبر، فقطع الصابرين لأهميتها.
* ما الفرق بين البأساء والضراء في الآية (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) البقرة) ؟السامرائى
البأساء: معناها البؤس والشدة، والحرب والمشقة، البؤس وما فيه من الفقر والمشقة والشدة. والضراء: المرض والأوجاع في الأبدان، وما يصيب الأموال أيضاً.
*ما تفسير قوله تعالى (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى ) و لمَ لم يقل: لكن البر أن تؤمنوا باعتبار أن البر هو الإيمان لا المؤمن وليناسب الجزء الأول من الآية الذي أتى بالخبر مصدرا؟(د.حسام النعيمى)
قال تعالى: “لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ” (البقرة:177)
“يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (البقرة:189)
جاء في الآية بالمصدر المؤول (أن تولوا أي: التولية )، فافترض بعضهم أن يستعمل المصدر في الجزء الثاني من الآية أيضا ليتناسب مع المصدر في بدايتها، فيقول: ولكن البر أن تؤمنوا، وكذلك في الآية الثانية.
الجواب: في لغة العرب يمكن أن يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى: “واسأل القرية”، ففيها مضاف محذوف (واسأل أهل القرية)، فحذف كلمة (أهل) وجعل كلمة (قرية) مكانها، وأخذت موقعها الإعرابي.
فعندما يقول: “ولكنّ البِرّ مَن اتّقى” كأن هذا المتقي صار هو البر بعينه، فالبِر الحقيقي هو هذا الذي وصفناه بهذه الكلمة، البر هو هذا الذي اتقى، أو هذا الذي توافرت فيه هذه الصفات.
ولو عدنا إلى الآية لتوقفنا فيها أكثر من وقفة
ـ هدف الآية
ـ الإفراد في الصفات ثم الجمع
ـ نصب الصابرين
ـ الرق والإسلام
ـ توجيه رباني من الآية الثانية
أصل الكلام في الآيتين هو قضية: أي قبلة أولى بالاتجاه نحوها؟ في أي اتجاه يكون البر ؟
والقرآن يريد أن يبين لمن يسمعه سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم ما البر الحقيقي؟ فقال: “لَيسَ البرّ أنْ تولوا وُجوهَكم”
نلحظ أنه استعمل الفعل المضارع بمعنى التحول والتحرك أي تولية الوجه، ووصف البر بأنه ما تتمثل فيه هذه الصفات، وهي من الآيات الجامعة التي تبين لنا أن البر يكون ممثلا كاملا في هذا الإنسان المتصف بهذه الصفات.
وتمضي الآية تعدد صفاته:
ـ الإيمان بالله بكل ما يقتضيه من تطبيق ومن اعتقاد.
ـ ثم انتقل إلى الغيبيات من الإيمان باليوم الآخر والملائكة.
ـ والكتاب: ونلحظ استعمال الجنس (الكتاب) أي جنس الكتاب.
ـ والنبيين: استعمل النبيين دون المرسلين، لأن النبوة أوسع من الرسالة، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا.
ـ ثم انتقل إلى المعاملات : “وآتى المال على حبه”.
ـ ثم بين نوع الإيتاء، فهو ليس من الفرض.
ـ وبيَّن الفئات التي يصلها العطاء وتستحقه، فبدأ بذوي القربى من باب حرصه على الأرحام، وثنى باليتامى، ثم بالمساكين الذين يحتاج المرء إلى البحث عنهم ليعرفهم، وهذا من التوجيهات الاجتماعية القرآنية في الرعاية المالية، ثم ذكر ابن السبيل ليطمئن المسلم على نفسه أنى كان، فإذا انقطع به المال فى سفر، فإن له حقا في هذا المال، وذكر السائلين (من سأل بالله فأعطوه) فلا يبحث المرء أمحتاج هذا السائل أم لا؟ ما دام يسأل فعليَّ أن أعطي إن كنت قادرا، والسائلون ليسوا هم المساكين، ثم ختم بالرقاب، وهذه الكلمة يثيرها بعض من لم يطلعوا على حقيقة الإسلام شبهةً ضده فيقولون: إن الإسلام يقر الرق ويدعو إلى العبودية.
والحقيقة هي أن الإسلام أبقى منفذا واحدا للرق، وهو (رقيق الحرب)، ثم فتح أبوابا لإخراج العبد من حالة عبوديته بالصدقات والكفارات والترغيب في العتق، وبابا آخر وهو(المكاتبة) فيحق لكل فرد من الرقيق أن يذهب إلى القاضي، ويطلب مكاتبة سيده، فيرغمه القاضي على المكاتبة إلى أن يتخلص العبد من الرق، وهو من مصارف الإنفاق الطوعي (وفي الرقاب).
ـ “وأقام الصلاة” فانتقل بعد ذلك إلى تهذيب النفس وصلتها بالله.
ـ “وآتى الزكاة” وهذا تأكيد على أن الإنفاق المالي المتقدم ليس من الفرض والزكاة، فالزكاة مال تجمعه الدولة وتتولى إنفاقه في مصارفه، أما المذكور سابقا فإنفاق شخصي يختلف عن هذا. وفي أيامنا تركت دول كثيرة جمع الزكاة إلى الناس أنفسهم، وهذا امتحان لهم.
ثم نلحظ انتقال الحديث إلى الجمع، فالكلام المتقدم إلى الآن فردي، وقد تقدمت (مَن) وهي تحتمل الجمع والإفراد، فبدأ بالإفراد (الإيمان ـ الإنفاق الفردي من رعاية ذوي القربى واليتامى، والإنفاق على المساكين، والصلاة والزكاة).
ثم انتقل إلى العمل الجماعي لأن (من) تجمع الاثنين الإفراد والجمع.
ففي العمل الجماعي ذكر الوفاء بالعهد، ويجوز أن نقول (نحترم من يفي بعهده ـ ومن يفون بعهدهم) لأنها تصدق على الواحد والكثرة.
وقد جعل الوفاء بالعهد عاما ليشمل وفاء المجتمع بالعهد، والفرد جزء من المجتمع ، فأي فرد من المسلمين يمكن أن يعاهد عن بقية المسلمين، وهم جميعا ملزمون بالوفاء بعهده (يسعى بذمتهم أدناهم).
والوفاء بالعهد ليس سهلا على المرء في مواطن كثيرة، إذ يصعب على النفس، وقد تشعر أن فيه هضما لحقها، ونتذكر جميعا كيف كان المسلمون يأتون من مكة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فيردهم وفاء لعهده مع المشركين في صلح الحديبية.
ـ والصابرين: وهنا قد يقال إن العطف يقتضي الرفع، وهذا قد يجوز في غير القرآن، ولكن الصبر هنا له منزلة عالية في البأساء والضراء، فنصبها إشارة إلى تخصيص الصابرين وتمييزهم بين المذكورين، وتقديرا لفعل محذوف (أخص الصابرين).
(أولئك الذين صدقوا) جاء باسم الإشارة (أولئك)للبعيد ليقول إن على المسلم أن يسعى ليكون مثلهم ويصل إليهم وإلى هذه الصفات.
(وأولئك هم المتقون)والسؤال هنا لم جاء بالضمير (هم)؟
(هم) ضمير فصل يؤتى به ليميز بين الخبر والصفة، وفيه أيضا معنى التوكيد، ونفي الوصفية التي قد تفهم إنْ حذف الضمير، فأثبت لهم الخبرية توكيدا وتخصيصا.
جاء بعد كل الصفات المتقدمة بوصف المتقين، وهذه الصفة هي نفسها في الآية الثانية “يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ” فبدأ بكلمة التقوى للإيجاز.
والقرآن الكريم قد يجاري السائل أحيانا على طريقته في السؤال، فهؤلاء قد سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الأهلة، : ما هي؟ ما فوائدها؟ فجاء الجواب مختصرا “هيَ مَواقيتُ للنّاسِ وَالحَج”.
وقد كان بعض الأنصار إذا رجع من الحج فلا يدخل من باب الدار، وإنما يأتي من ظهرها ويدخل، فتقول له الآية إن البر ليس بهذا العمل، وقد يكون الأمر من باب توجيه المجتمع المسلم بأن لا يعكس الأمور فيسأل عن المسائل الصغيرة ويترك القضايا الجوهرية، فبدل السؤال عن الأهلة، فليتبصروا في خلق الله عز وجل في هذا الهلال كيف يكون؟ وكيف يصير؟
آية (178):
*(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (178) البقرة) ما الحكمةمن بناء الفعل (كُتِبَ) هنا للمجهول؟( د.فاضل السامرائى)
الأمور المستكرهة يبنيها ربنا للمجهول (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (183) البقرة) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (178) البقرة) (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ (216) البقرة) في الأشياء الصعبة المستكرهة والشاقة يبني الفعل للمجهول مع أنه كله بقدر الله عز وجل، لكن لا ينسبه لنفسه وهذا خط عام في القرآن.
آية (178):
* ما هو تفسير الآية 178 في سورة البقرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ )؟ وما الوجه البلاغي في هذا التقسيم؟(د.حسام النعيمى)
هل تعني الآية أنه إذا قتل حرٌ عبداً لا يؤخذ به، وإنما يقال أعطونا ثمنه؟ نقول: ينبغي الرجوع في كثير من الآيات إلى سبب النزول. نحن عندنا قاعدة عامة (ولكم في القصاص حياة) هذه القاعدة العامة. كان هناك ثأر بين حييّن من أحياء العرب أسلموا قبل أن تُفضّ المشكلة، وأحدهما كان قوياً متجبراً، فقبل أن يدخلوا في الإسلام كانوا يقولون العبد منّا بالحرّ منهم، والمرأة منّا بالرجل منهم، حتى نصطلح وإلا الحرب مستمرة، فلما دخلوا في الإسلام بقوا على حالهم وعلى قولهم، فنزلت الآية: نعم في القصاص حياة، لكن الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. انظروا كم من أحراركم قُتِل وأحرارهم قُتِل؟ هذا بهذا، والفارق تدفع عنهم الديّة، وكذلك للعبيد وللنساء، حتى تحل المشكلة، وهي مشكلة مؤقتة، لكن تبقى القاعدة عامة (ولكم في القصاص حياة) القصاص عامة .
آية (179)
*لم جاءت كلمة (حياة) نكرة ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لاحظ كيف بيّنت هذه الآية على وجازتها حكمة القصاص بأسلوب لا يُمارى وعبارة لا تُحاكى. ألا ترى كيف جعل الله تعالى القصاص، وهو القتل حياة (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)؟ ولذلك نُكِّرت كلمة (حياة)، قلم يقل الحياة إشعاراً بأن في هذا القصاص نوعا من الحياة عظيماً لا يبلغه وصف. ولكن كيف يكون القصاص حياة وهو قتلٌ للقاتل؟ الجواب أنه إذا علِم القاتل أنه سيُقتل فلا شك أنه سيمتنع عن القتل، وهذا يصون النفس من القتل، ويحمي القاتل فكان القصاص حياة للنفسين، وهذا يؤدي إلى إحياء البشرية بأسرها.
آية (179):
* ما القيمة الفنية لقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة)؟(د.حسام النعيمى)
هذه فيها مقالات طويلة، كتب مصطفى صادق الرافعي “كلمة مؤمنة في الرد على كلمة كافرة” بعضهم قال العرب تقول: القتل أنفى للقتل، فكتب في الفرق العظيم بين قولهم: القتل أنفى للقتل التي فيها دماء، وبين قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) التي فيها حياة. والسيوطي ذكر عشرين فرقاً في كتابه المزهر في اللغة، والرافعي زاد عليه.
الآية بتمامها (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) البقرة). كلمة القِصاص مأخوذة من فعل قصّ يقصّ. وفي الأصل القص هو القطع، أوالقص تتبّع الأثر تحديداً، الأثر الذي قد يكون خطاً، ومنه قصّ الثوب، لأن الثياب لم تكن تُقصّ إلا بعد أن يوضع عليها خط أين يقص، فالذي يقص بالمقص يتتبع أثراً، القِصاص من قصّ يقص قِصاصاً ومقاصّة.
القِصاص لكم فيه حياة، أي حياة للمجتمع. وكلمة (حياة) جاءت نكِرة فأخّرها على سُنّة العرب في كلامها. (لكم في القصاص حياة) الإسلام يريد مجتمعاً هانئاً، آمناً فذكر القِصاص.
أما مقولة (القتل أنفى للقتل) فهذه مقولة عربية يوازنونها أحياناً بـ (ولكم في القصاص حياة)، ويبينون معايب هذه الكلمة التي تبدو لأول وهلة جميلة (القتل أنفى للقتل)، كلمة جاهلية، تحمل رائحة الدم، وليس فيها رائحة بناء المجتمع، ولكن عندما ندقق في الآية نجد سمو التعبير (ولكم في القصاص حياة)،كلمة موجزة، القصاص فيه حياة للمجتمع، القصاص لم يحدد القتل، وإنما هو عدالة. حين تقول قصاص، أي أنت تتتبّع الذي فعله المخالِف، تقصّ فعله حتى تعاقبه بمثل فعله، اختصرت بكلمة قصاص، مهما كان الشخص الذي قتل حاكماً أو سيداً في قومه فيقتل وحده، بعد ذلك رُخِّص للمسلمين بقبول المقابل أو العدل، فالدية مقابل القتل.
بينما القتل أنفى للقتل هذه مقولة تتكلم فقط عن القتل، ولم تذكر بقية الأحوال التي تصير في المجتمع، أما القصاص فشامل لأنه ذكر كل هذه الأشياء، فضلاً عن أن كلمة القتل أنفى للقتل كما يقول علماؤنا خطأ؛ لأنه ليس دائماً القتل ينفي القتل، ففي بعض الأحيان القتل يجلب قتلاً (قتل الظلم، قتل التعدّي) كما يقولون (ومن يظلم الناس يُظلَم)، وليس هكذا مفهوم الإسلام.
ثم كلمة (حياة) نكرة، والنكرة لها في كل موضع معنى، في هذه الآية (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) حياة نبيلة، عظيمة، قيمة، حين نسمع السياق نجدها تعطي معنى الحياة السعيدة الهانئة، حياة صِفوها بما شئتم من أوصاف الخير.
آية (180):* ما دلالة استعمال (إذا) فى الآية؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) . نعرف الفرق بين (إذا) و(إن). إذا تستعمل فيما هو كثير، وفيما هو واجب، و(إن) لما هو أقلّ، وعموم الشرط أنه قد يكون آكد، وقد يكون مستحيلا، وقد يكون قليلا.
*ما إعراب كلمة (الوصية) في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ {180}) سورة البقرة؟(د.فاضل السامرائى)
الوصيةُ: نائب فاعل
*ما دلالة حضر فى قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) وتقديم (أحدكم)؟(د.حسام النعيمى)
حضر يمكن أن تلمس فيها ما هو شديد القرب، وشدة القرب ظاهرة في قوله تعالى:(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) البقرة) اهتمام بالمتقدم، وإبعاد لشبح الموت الحقيقي. والآية في الوصية والموصي يكون في وعيه، لم يفقد تركيزه بعد.
آية (183):
*(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)) الفعل كُتب مبني للمجهول وجاء مع (عليكم) تحديداً مع أنه ورد في القرآن (إلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ (120) التوبة)؟( د.فاضل السامرائى)
نلاحظ أن ربنا تعالى قال: يا ايها الذين آمنوا، ناداهم بنفسه ولم يقل (قل يا أيها الذين آمنوا)، لم يخاطب الرسول، وإنما ناداهم مباشرة لأهمية ما ناداهم إليه؛ لأن الصيام عبادة عظيمة قديمة كتبها تعالى على من سبقنا فنادانا مباشرة ولم ينادينا بالواسطة. واستعمال (كتب) فيه شدة ومشقة، وما يستكره من الأمور، وحين يقول كُتب عليكم يكون أمرا فيه شدة ومشقة وإلزام، في أمور مستثقلة، ومن معاني كتب: ألزم ووجب وفرض، مثلاً (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (178))، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ (216))، فيه شدة.
أما (كُتب له) فهو في الخير(وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ (187))، إذن كُتِب عليكم فيه شدة ومشقة وإلزام، والصوم مشقة يترك الطعام والشراب والمفطرات من الفجر إلى الليل، لذا لم يقل لكم.
بناء الفعل للمجهول (كُتِب) لأن فيها مشقة وشدة؛ لأن الله تعالى يظهر نفسه في الأمور التي فيها خير، مثل (حبب إليكم الإيمان وزينه في لقوبكم) ، أما في الأمور المستكرهة، وفي مقام الذم أحياناً فيبني للمجهول، (زّين للناس حب الشهوات) فالأمور التي فيها شر لا ينسبها لنفسه، ومثلها آتيناهم الكتاب وأوتوا الكتاب: ففي مقام الذم يقول أوتوا الكتاب مطلقاً، وفي مقام الخير يقول آتيناهم الكتاب. فلما كان هناك مشقة على عباده قال كُتب، ولم يقل كتبنا. بينما في الأمور التي فيها خير ظاهر يظهر نفسه (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (12) الأنعام) (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الأعراف) هذا خير. أما قوله تعالى (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ (45) المائدة) فهذه فيها إلزام لهم، كتب على بني إسرائيل الأمور التي شددها عليهم، شدد عليهم؛ لأنهم شددوا على أنفسهم، وحرف الجر يغير الدلالة، وأحياناً تصير نقيضها، مثل رغب فيه يعني أحبّه، ورغب عنه يعني كرهه، وضعه عليه يعني حمّله، ووضعه عنه أي أنزله.
*ما دلالة استخدام الصيام لا الصوم؟( د.فاضل السامرائى)
هذا من خصائص التعبير القرآني، لم يستعمل الصوم في العبادة، وإنما استعملها في الصمت فقط (إني نذرت للرحمن صوماً). والصوم هو الإمساك، والفعل صام يصوم صوماً وصياماً كلاهما مصدر، وربنا استعمل الصوم للصمت، وهما متقاربان في اللفظ والوزن (الصوم والصمت)، واستعمل الصيام للعبادة: لأن المدة أطول (صيام)، والمتعلقات أكثر من طعام وشراب ومفطرات، فهو أطول فقال صيام. (فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ).
لم يستعمل الصوم في العبادة، وهذا من خواص الاستعمال القرآني أنه يفرد بعض الكلمات أحياناً بدلالة معينة، كما ذكرنا في الرياح والريح، في الغيث والمطر، في وصى وأوصى، ومن جملتها الصوم والصيام.
في الحديث الشريف يستعمل الصوم والصيام للعبادة “الصوم لي وأنا أجزي به”، ” الصوم نصف الصبر” لكن من خواص الاستعمال القرآني أنه يستعمل الصيام للعبادة فحسب.
*ختمت الآية (لعلكم تتقون) فما اللمسة البيانية فيها؟( د.فاضل السامرائى)
قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هذا يدل على علو هذه العبادة وعظمتها، وربنا سبحانه وتعالى كتب هذه العبادة على الأمم التي سبقتنا، ولا نعلم كيفيتها، لكن كان الصيام موجوداً. ثم تدل على الترغيب في هذه العبادة؛ ولأهميتها بدأ بها تعالى في الأمم السابقة، ثم إن الأمور إذا عمّت هانت، الصيام ليس بِدعاً لكم، وإنما هو موجود في السابق، فهذا الأمر يدل على أهميته، ويدل على تهوينه، إنه ليس لكم وحدكم، وإنما هي مسألة قديمة، كما كتبت عليكم كتبت على الذين من قبلكم.
كلمة (تتقون) أطلقها، ولم يقل تتقون كذا، كما جاء اتقوا النار أو اتقوا ربكم، يحتمل أن أشياء مرادة، يحتمل: تتقون المحرمات، وتحذرون من المعاصي؛ لأن الصوم يكسر الشهوة ويهذبها ويحُدّها (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يتسطع فعليه بالصوم فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج). تتقون المفطرات والإخلال بأشياء تؤدي إلى ذهاب الصوم، لعلكم تتقون، تحتمل: تصلون إلى منزلة التقوى، وتكونوا من المتقين.
فيها احتمالات عديدة، وهي كلها مُرادة. إذا كانت تتقون المعاصي فهي تحتمل؛ لأن الصوم يكسر الشهوة، وإذا كانت تتقون المفطرات تحتمل، وإذا كانت تصل إلى منزلة التقوى أيضاً تحتمل.
وفي هذا السياق تكرر ذكر التقوى والمتقين قال (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)) (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)) (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)) (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)) (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)) تكررت التقوى في السياق، وهي مناسبة لأن الله تعالى في أول السورة قال (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)). ففي عموم السورة إطلاق التقوى، وسورة البقرة ترددت فيها التقوى ومشتقاتها 36 مرة، والتقوى فِعلها وقى، وقى نفسه، أي حفظ نفسه وحذر، والمتقون الذين حفظوا نفسهم من الأشياء التي ينبغي أن يبتعدوا عنها، والبعض يقول إن التقوى هي أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك، يعني الابتعاد عن المحرمات، والانهماك في الطاعات، هذه هي التقوى.
آية (184):
*(أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) لماذا معدودات وليس معدودة؟( د.فاضل السامرائى)
فيها أمران من حيث اللغة، قد تكون معدودات تقليلاً لها؛ لأن معدودة أكثر، الجمع في غير العاقل معدودات تدل على القلة، ومعدودة تدل على الكثرة ،هذا قياس في اللغة.
في غير العاقل: المفرد يدل على الكثرة، والجمع يدل على القلة، ويستشهدون بقولهم: الجذوع انكسرت (الجذوع كثرة فاستعمل انكسرت بالمفرد)، والأجذاع انكسرن (الأجذاع قِلّة فاستعمل انكسرن بالجمع).
وفي الآية (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (36) التوبة).
جمع القلة يكون من واحد إلى عشرة، قالوا (أياماً معدودات) تقليلاً لهن تهويناً للصائم.
وقسم يقول إنها في أول فرض العبادة كانت ثلاثة أيام في كل شهر، ولم يبدأ بالشهر كاملاً، ثم نُسِخ، وجاء شهر رمضان فصارت معدودات، ثم قال شهر رمضان بعد هذه الأيام.
المعدودات تدل على القلة (حتى العشرة)، ومعدودة أكثر من عشرة، وإذا رجعنا إلى كتب التاريخ نجد أن العرب تؤرخ بالليالي (لثلاث خلون، لأربع خلون، يأتي بها بالجمع) (لإحدى عشرة ليلة خلت يأتي بها بالمفرد، لتدل على الكثرة) ونلاحظ في العدد نقول: ثلاثة رجال، عشرة رجال، أحد عشر رجلاً، مائة رجل، مليون رجل.
*أياماً ما هو اليوم؟
المشهور: الأيام بمقابل الليالي (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا (7) الحاقة).
*قال تعالى:(فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) لماذا على سفر؟( د.فاضل السامرائى)
يقال لأنه أباح للمتهيئ للسفر أن يفطر إذا اشتغل بالسفر قبل الفجر،على سفر، أي لم يسافر، وإنما هو متهيئ للسفر مثل (وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ (283)) أي تتهيؤون. وقالوا: لو كان يعني المسافر، فالمتهيئ للسفر لا يحق له الإفطار. لذا قال أو على سفر، ومعناها أنه أباح للمتهيئ للسفر أن يفطر.
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) كلمة يطيقونه فيها كلام، قسم قال: المقصود أنهم في بدء الإسلام عند بداية الفريضة لم يكونوا متعودين على الصوم، فمن شاء يصوم، ومن شاء يفدي.
في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما نزلت هذه الآية كأنهم فهموا أنهم مخيّرون بين الصوم والافطار، ما المقصود بـ (يطيق)؟ قسم قالوا: هذه الآية نسخت؛ لأنه فعلاً في أول الاسلام كانوا مخيرين، من شاء يفطر ويفدي، ومن شاء يصوم. وقسم قال: أطاق أي تكلفه بمشقة وصعوبة، وتكون الهمزة للسلب يعني سلبت طاقته وجهده.
الفعل الثلاثي: طاق، أي تحمل، وأطاق فيها خلاف، ما هذه الهمزة؟ هل أطاقه بمعنى قدر عليه؟ أو أنها همزة السلب أي سلب طاقته؟ يعني الذي لا يستطيع، الصوم يسلب طاقته، بحيث لا يتمكن من أن يصوم فيفدي (طعام مسكين)، وإذا كانت بمعنى التحمّل يصوم (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ) الصيام أفضل.
الفدية مرهونة بعدم الصيام، فرب العالمين رخص بالفدية للشيخ الكبير الهِرم، والمريض الذي لا يرجى شفاؤه.
* (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ) ما اللمسات البيانية في هذه الآية؟( د.فاضل السامرائى)
ذكرنا ما المقصود بـ(على سفر) و(الذين يطيقونه) و(فمن تطوع خيراً فهو خير له) بأن زاد على القدر المذكور، أو فعل أكثر من المطلوب يُطعم مسكينين أو أكثر، أو يجمع بين الصيام والفدية وبين الإطعام والصيام، وقال (وأن تصوموا خير لكم) يعني: أيها الأصحاء أن تصوموا خير لكم، ملتفتاً من ضمير الغائب (على الذين يطيقونه) إلى المخاطب (وأن تصوموا). كان يمكن أن يقال في غير القرآن، وأن يصوموا، لكنه تحوّل من الغيبة إلى الخطاب؛ لئلا يخص المرضى والمسافرين، لأنه لو قال: يصوموا خير لهم، لكان هذا يخص المرضى والمسافرين، ولتداخل مع قوله (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ)، لكن هذه أعم كل من هو مرخص له بالإفطار، من صام خير له، وليس هؤلاء فقط .
وإذا صح الكلام أنه في أول الصيام كان مخيراً بين الفدية والإطعام، قبل أن يفرض شهر رمضان، فلما قال أن تصوموا خير لكم دخل الجميع فيه، وشمل المرخّص لهم وغيرهم، ولم يعد خاصاً بالمرضى والمسافرين، فهذا الالتفات كان للجمع، وهذا اسمه التفات في الخطاب.
*هل البَدَل يفيد التوكيد؟( د.فاضل السامرائى)
للبدل عدة أغراض منها:
أن يكون للإيضاح والتبيين، كما في قوله تعالى (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) البقرة) طعام مسكين، إيضاح للفدية.
*ما دلالة ذكر (منكم) وحذفها في آيتي سورة البقرة 184-185 (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)؟(د.حسام النعيمى)
في الآية الأولى قال (منكم) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ). هنا ذكر قوماً آخرين (كما كتب على الذين من قبلكم) فلما ذكر الآخرين قال (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الخطاب عن المسلمين.
الآية الأخرى بدأها بقوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) الكلام معهم، وذكر (منكم) (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ) واضح أنه يقصد (منكم) لأنهم مخاطبون، فلو قال في غير القرآن : فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان منكم مريضاً، لكان تكراراً، بينما في المرة الأولى لم تذكر (منكم) وإنما ذكرت (من قبلكم) فقال: (منكم)، والخطاب والكلام مع المسلمين.
*(يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) البقرة) لماذا ذكر الشكر بعد ذكر أحكام الصيام (ولعلكم تشكرون) ولم يقل تفلحون؟)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
ذلك أن الصيام قد يُظن لأول وهلة أنه عبادة شاقة على الصائم، فإذا ما انتهى منها أدرك لطف الله سبحانه وتعالى به، وهذا ما نجده بعد الانتهاء من صيام يوم أو صيام شهر، فنشعر بفضل الله تعالى علينا، وكيف أعاننا على القيام بهذه الفريضة، فندرك عظمتها، ونستشعر آثارها في أرواحنا، فنتوجه إلى الله تعالى بالشكر على هذه العبادة العظيمة، وعلى عونه لنا على أدائها.
*(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) البقرة) لِمَ عبّر بقوله (إذا) في أول الآية ولم يقل (إن سألك)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لأن (إن) تفيد التشكيك والتقليل، بخلاف (إذا) التي تفيد الجزم؛ لأنه عندما تذوق حلاوة ما أعطاك الله تعالى من إشراقات في الصيام، فإنك تتجه إلى شكره وسؤاله أن يزيدك من فضله العظيم. وانظر كيف جاء جواب السؤال في قوله (فإني قريب)، ولم يقل (قل) لأن (قل) هنا تحتاج إلى مدة، وإن كانت قصيرة، فهي لا تتناسب مع القرب في الإجابة، فأراد ربنا سبحانه وتعالى أن يجعل القرب في الإجابة عن السؤال دون وساطة، فجعل الجواب منه لعباده مباشرة، وجاءت الفاء في الجواب (فإني) لتفيد السرعة والمباشرة الفورية التي تتناسب مع هذا العطاء الرباني العظيم، فقال تعالى (فإني قريب).
آية (186):
* (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)) هذه الآية جاءت بين آيات الصيام فلماذا؟ (د.فاضل السامرائى)
بعدها قال (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ (187)) هذا يدل على أن الصيام من دواعي الإجابة، وقوع هذا الدعاء بين آيات الصيام إرشاد للعباد إلى أن يلحوا بالدعاء، ويكثروا منه؛ لأن الصائم مجاب الدعوة في صومه، وعند فطره.
*ما دلالة استخدام (وإذا) بدل (وإن)؟( د.فاضل السامرائى)
قبل هذه لم يقل: فقل لهم إني قريب، وإنما تكفل تعالى بالإجابة مباشرة، كما خاطبهم مباشرة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)، لم يقل: قل لهم كتب عليهم الصيام، كذلك في الدعاء لم يقل: قل لهم، وإنما قال: (فإني قريب) مع أنه في آيات أخرى عندما يكون هناك سؤال يقول: قل، مثلاً (يسألونك عن المحيض قل هو أذى)، فنلاحظ أن معظم سألك في القرآن يأتي بعدها (قل)، أما في هذه الآية، فقد تكفل الله تعالى بالإجابة مباشرة، هو يُدعى سبحانه وتعالى بلا واسطة، وهو يجيب مباشرة. ثم إنه قال (أجيب دعوة الداع)، ولم يقل إن شئت، أو إن شاء ربك كأنه أجاب، بينما نلاحظ في آية أخرى ( بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) الأنعام) لم يقطع، بينما في آية الصيام الإجابة لا بد أن تكون إما يعجل له، أو يُدّخر له، أو يرد عنه بمقدارها من الأذى كما في الحديث، أجيب دعوة الداع، لم يعلقها بشيء.
أما استخدام (إذا) فلأنه أراد سبحانه وتعالى أن يكثر الناس من الدعاء؛ لأن (إذا) تفيد الكثير والمقطوع، ولم يقل (إن)، فالمطلوب أن يكثروا من الدعاء، ويلحوا في الدعاء، و(إن) تستعمل للشك المحتمل الوقوع والنادر والمستحيل الوقوع، أما (إذا ) فهي لمقطوع الوقوع أو كثير الوقوع، (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ (180) هذا مقطوع الوقوع ، وقال (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) هذه قليلة.
قال (إذا سألك)، وقال (إذا دعان) وهذه إشارة إلى أن المطلوب من العبد الإكثار من الدعاء، وعليه أن يكثر من الدعاء، وفيها أن الدعاء شرط في الإجابة (أجيب دعوة الداع إذا دعان)، جعل الله تعالى الدعاء شرط الإجابة، ومن باب التوكيد قدّم الإجابة على الدعاء، مثلاً: إذا جئت إليّ أُكرمك، أنت بنيت كلامك على الإجابة، حتى النحاة يقولون: حين تقول: أكرمك إن جئتني، بنى على الإخبار بالإكرام، وهنا ربنا بنى على الإجابة، الإجابة بفضل الله متحققة، والله تعالى يريد من العباد أن يدعوا، والدعاء شرط الإجابة. وقال تعالى (أجيب دعوة الداع)، وليس أجيب الداعي؛ لأن الدعوة هي المطلوبة بالذات، أي يجيب الدعوة، وربنا يغضب إذا لم يدعوه العبد، ويحب الملحاح في الدعاء، وغضب ربنا على أقوام لأنهم لم يدعوه (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ (43) الأنعام) (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) المؤمنون) (قل أعوذ برب الفلق) أي ادعُ وقلها لا في نفسك فقط، عندما يقول أعوذ، يعني أنه يحتاج لمن يعينه، فينبغي أن يقولها.
*ما اللمسة البيانية في قوله تعالى في سورة البقرة (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان)؟( د.فاضل السامرائى)
في هذه الآية تقدّم جواب الشرط على فعل الشرط، ومعناه أن الله تعالى يجيب دعاء العبد حتى قبل أن يبدأ بالدعاء. وفي الآية لفتة أخرى أنه في سياق القرآن كله عندما تأتي الآية فيها: وإذا سألك، أو يسألونك يأتي الردّ من الله تعالى لرسوله (قل)، إلا في هذه الآية، فقد جاء الردّ مباشرة من الله تعالى لعباده في خطاب مباشر ليس بين الله تعالى وعباده أي وسيط، حتى لو كان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم). فما على العبد إلا الدعاء، والله تعالى يجيب دعاء عباده، فسبحانه وتعالى.
* ما الفرق بين ذكر الياء وعدم ذكرها في (عِبَادِي) (عِبَادِ)؟( د.فاضل السامرائى)
هذه ظاهرة في القرآن، عبادي وعبادِ، أيهما الأكثر حروفاً؟ عبادي، فعندما يقول عبادي تكون أكثر من عبادِ مناسبة لسعة الكلمة وطولها وسعة المجموعة (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (186) البقرة) كل العباد تسأل، هذا لا يخص عبداً دون عبد، إذًا هي كثيرة. (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (53) الإسراء) كل العباد مكلفون أن يقولوا التي هي أحسن.
(فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) لم يقل: يستمعون الحسن، وإنما أحسنه، وهؤلاء قليل.
آية (187):
*ما دلالة كلمة اللباس فى الآية (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ (187) البقرة)؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
تأمل هذا التشبيه القرآني، وقد جاءت هذه الآية لتعبر عما تحمله نلك العلاقة المقدسة بين الرجل والمرأة، وما يمثله كل واحد منهما لصاحبه، وذلك بتشبيه كل واحد منهما باللباس للآخر. اللباس الذي يستر العورات، ويدفيء صاحبه، ويمنع عنه الأذى والضرر، إلى غير ذلك من المنافع الكثيرة.
فلو أردت أخي المؤمن وضع كلمة مكان (لباس) لما أدّت إلى المعنى المراد، ولما وسعت ذلك الشمول الذي احتوى عليه التشبيه الرائع.
*ما الفرق بين (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا)و( فلا تعتدوها)؟
* ورتل القرآن ترتيلاً :
قال تعالى:(وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا (187) البقرة) الحدّ: هو الحاجز ونهاية الشيء الذي إن تجاوزه المرء دخل في شيء آخر، وشُبِّهت الأحكام بالحد؛ لأن تجاوزها يُخرج من حِلٍ إلى منع، فلِمَ نهى الله تعالى المؤمن عن قربان الحد، مع أنه في غير آية نهى عن تجاوزه، كما في قوله تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا (229) البقرة)؟
نهى الله تعالى عن المقاربة؛ لأن بين الصيام والإفطار قيد خيط أو شعرة، وإن استمر المرء على الأكل أفطر، وإن أكل قبل هذا الخيط أفطر أيضاً، ولذلك نهى عن قربان هذا الحد؛ لأنه دقيق سرعان ما يخرج المرء منه وهو غير شاعر بما فعل. روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال: عندما نزلت (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا أستبين الأبيض من الأسود، فغدوت إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فذكرت له ذلك، فقال (صلى الله عليه وسلم): إنك لعريض القفا (كناية عن ضعف إدراكه لهذه المسألة)، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار.
* ما الفرق بين (يبين الله لكم آياته) و(يبين الله لكم الآيات)؟ (كذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) البقرة) (كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)) (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221))؟( د.فاضل السامرائى)
آياته مضافة إلى لفظ الجلالة لتشريفها وتعظيمها، وكلمة الآيات عامة من حيث اللغة، أما (آياته) فخاصة . والإضافة إلى ضمير الله سبحانه وتعالى فيها تشريف وتعظيم، بينما الآيات عامة، ومن هذا يبدو لنا أنه في المواطن التي تضاف فيها إلى ضميره يكون المعنى أهمّ وآكد لتشريفها.
في الأحكام المختصة بالحلال والحرام يقول آياته، والتي أقل منها يقول الآيات. (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) هذه أحكام، حلال وحرام فقال آياته.
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) البقرة) قال: الآيات لأن هذه ليس فيها حلال وحرام. (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) هذه في المندوبات وليست في الفروض، وحتى في (يسألونك عن الخمر والميسر) لم يكن فيها تحريم بعد. (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) هذه أحكام ومحرمات فقال (آياته)، فمع الأحكام والحدود يقول آياته بإضافتها للفظ الجلالة، وحسب الأهمية.
*ما الفرق بين (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا)و( فلا تعتدوها)؟
.*د.أحمد الكبيسى :
رب العالمين يقول (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا (187) البقرة)، ومرة يقول (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا (229) البقرة) في قضايا معينة، الأولى قال (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا (187) البقرة) وفي آية أخرى يتكلم عن الخلع إذا كرهت المرأة زوجها من غير سببٍ منه عليها أن تفتدي (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) البقرة) ما الفرق بين (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا) وبين (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا)؟
الحدّ نوعان حدٌ بين الحلال والحرام، هذا حلال وهذا حرام، يعني حدّ صلاة الظهر الساعة الثانية عشرة وثلثا مثلاً إلى الساعة الثالثة والنصف، ليس لك الحق قبل هذا أن تفعل، وليس لك بعد هذا أن تفعل، فهذا حدٌ بين الحلال والحرام، الصلاة بعد الرابعة والنصف مثلاً حرام، والصلاة قبل الثانية عشرة والربع حرام، إذاً هذا حدٌ بين الحلال والحرام، فهنا يقول لا تعتدوها، لا تتعدى هذا الحد الذي حدّه الله لك في مسألة أوقات الصلاة.
وإذا كان هناك ذنب خطير قال لا تقربوها (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا) فإذا سمعت الله سبحانه وتعالى يقول فلا تقربوها، فاعلم أنك أمام جريمة خطيرة، لاحظ (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى (43) النساء) (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (152) الأنعام) (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ (151) الأنعام) وهكذا كلها جرائم خطيرة. لذلك قال (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا) .
أنت زوجتك معتكفة في رمضان، أو في غير رمضان، في المسجد فكيف تواقعها في هذه الحالة؟ كيف استطعت أن تفعل هذا وهي في المسجد معتكفة؟ والمعتكف في المسجد يعني لا يخرج منه، إذاً رب العالمين قال (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) ففي أيام المسلمين الأوائل وحتى الآن في رمضان هناك أماكن لاعتكاف النساء، وهناك أماكن لاعتكاف الرجال، فربما تتاح خلوة لزوجين فإياك أن تفعل شيئاً، لأنك في بيت الله عز وجل، ولأنكما معتكفان. فمن الخطورة أن تفعل هذا قال :(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا).
وحينئذٍ عليك أن تتأمل كلما جاءك في الكتاب العزيز (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا) أن تتوقف تماماً بقوة وخشوع. هذا هو الفرق بين (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا)، وبين (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا)، هذا حدٌ بين الحلال والحرام، وهذا حدٌ دون جريمة عظيمة يعاقب الله عليها عقاباً عظيماً.
* ما الفرق بين يتقون (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187))، تتفكرون (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266))، يتذكرون (وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221))، تعقلون (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)) في خواتيم الآيات في سورة البقرة؟ وكيف نميز بينها في الحفظ؟(د.حسام النعيمى)
حفظ كلام الله تعالى إنما يتأتّى بالتكرار؛ لأن الآيات كما وُصفت كأنها الإبل الشوارد، إذا لم تقيّدها بالمراجعة تشرد منك، فالآيات تحتاج إلى مراجعة، ولذلك كانوا يقومون الليل بآيات طويلة، ويراجعون وهم في الطريق، والمراجعة هي الأصل، لكن الإنسان يحاول أن يجد رابطة ما بين خاتمة الآية والآية الأخرى، حتى لا تلتبس عليه، وهذه الآيات لا نقول متشابهة، وإنما هي متقاربة متماثلة، وذكرنا سابقاً أن المتشابه هو الذي معناه مفهوم، ولكن فيه مساحة للغيب.
لو نظرنا في سورة البقرة وردت: لعلكم تتقون، لعلكم تعقلون، لعلكم تهتدون، لعلكم تفلحون، لعلكم تتفكرون.
حين ننظر إلى الآيات نجد فيها ارتباطاً وثيقاً، عندما يقول (لعلكم تتقون) في أربع آيات في سورة البقرة، ولعلّ بمعنى (كي) يكون، لعلّكم كذا؛ لأن لعل في القرآن من الله إذا كانت في وعد من الله سبحانه وتعالى، فمعناها أنها واقعة.وحين ننظر إلى الآيات نجد أنها تأتي بعد طلب، يعني فعل أمر(افعلوا)، أو فعل مضارع مبدوء بـ لا الناهية (لا تفعلوا) أو بـ (كتب) بمعنى فرض، هذا في سورة البقرة، ويمكن أن ننظر في القرآن بجملته حتى نجدها قاعدة عامة .
الذي وجدناه في سورة البقرة أن كلمة (تتقون) وردت أربع مرات في السورة كلها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)) (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)) (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)) (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)). وحين ننظر إلى هذه الآيات نقول: التقوى هي تجنّب الوقوع فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، سُئل أحد الصحابة: ما التقوى؟ قال: أمررت بأرض مشوكة (فيها شوك)؟ قال: نعم، قال: ماذا تصنع؟ قال: أشمّر يعني أرفع ثيابي حتى لا تتمزق بالشوك، قال: هذه التقوى.
الآيات الكريمة تتحدث في هذا المثال (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) هو موضوع معيّن تتكلم فيه، وهو الصيام، ثم تأتى الآية، فيقول تعالى (فَلَا تَقْرَبُوهَا)، هنا نهي (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) هذا الكلام عام ، هذه حدود شرع الله سبحانه وتعالى فلا تقربوها، يبيّن آياته حتى تتقوا مخالفتها، هناك مناسبة بين صدر الآية وخاتمتها.
والذي يتبيّن لنا طبعاً أن الآيات تكون أحياناً للخطاب (لعلكم تتقون)، وأحياناً للغيبة (لعلهم يتقون)، وأحياناً القرآن يخاطب، وفجأة ينتقل للغيبة، فعندما يكون الكلام عاماً مطلقاً يتحول من المخاطب إلى الغائب، ليكون لجميع الغائبين، وليس لهؤلاء الذين خوطبوا لجزئية معينة.
أما (لعلكم تتفكرون) فنجد أنها وردت مرتين في سورة البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)) (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)).
الكلام عن قضية تستدعي التفكير، وطلب التفكر إما أن يكون بضرب مَثَل حتى يتأمل الإنسان هذا المثل، وإما أن يكون جواباً عن سؤال حتى يتفكر في الإجابة عن السؤال، والآيتان تتعلقان بالمال، وكلها عن الإنفاق، فلما كان الكلام عن الإنفاق، عن المال والعطاء – ضرب الله عز وجل للمخاطبين هذا المثل، انظر الصورة، من يودّ هذا؟ شيخ كبير عنده ذرية ضعفاء، تزوّج على كِبَر، أو تزوج فتاة صغيرة وهو كبير، وصار عنده ذرية ضعفاء يفكر فيهم، وفيها ثمر، فتأتي نار تحرقه، لا أحد يودّ ذلك، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) تفكّر، شغّل عقلك، هذا المال الذي عندك قد يحرقه الله تعالى في أية لحظة، فأنفق منه.
(لعلهم يتذكرون): التذكّر للاتّعاظ، أي أن تكون له عظة في ذلك. فوجدنا أنه في سياق بيان مخالف لعُرفِهِم، يعني الأعراف عندهم بنظام معيّن، ثم يأتي الحكم مخالفاً للعُرف الاجتماعي، فعند ذلك يُطلب إليهم أن يكون لهم في هذا الكلام عظة وعبرة، أي يتّعظون به فلا يخالفوه.
في سورة البقرة (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)) .
الآية تريد أن تعالج عُرفاً اجتماعياً، وتبين أن الإيمان هو المقدّم، وليس النسب وليس أي شيء آخر، العُرف الاجتماعي عند العرب أن المرء إذا أراد أن يتزوج لا يختار أَمَة، ولكن يختار حُرّة، ولا يزوّج ابنته لعبد، وإنما يزوجها لحُرّ أياً كان. (أولئك أي المشركين)، لعلهم يتذكرون أي لعلهم يتعظون، تكون لهم بعذا الكلام عظة وعبرة: خُذ العبد لابنتك، وخُذ الأمَة لابنك إذا كانا مؤمنين، فهذه موعظة لأنها مخالفة لعُرفٍ إجتماعي، والرجوع إلى سائر الآيات يُظهر هذا.
*قال تعالى (وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى (189) البقرة) البِر مصدر ومن اتقى شخص، كيف البر هو الذي اتقى؟( د.فاضل السامرائى)
البارّ هو الذي يتقي وليس البِرّ، البارّ من اتقى وليس البر، البِرّ عمل وهو فعل الخير، لو تحول البر إلى شخص لكان شخصاً متقياً، وبوابة الدخول لفهم القرآن معرفة اللغة العربية، والقدامى اشترطوا فيمن من ينظر في القرآن ليفسِّره شروطا منها التبحر في علم اللغة والبلاغة والتصريف والاشتقاق ولم يقولوا مجرد معرفة اللغة.
* وردت في القرآن ( يسألونك) و (ويسألونك) فما دلالة إضافة الواو وحذفها؟(د.حسام النعيمى)
الواو تكون عاطفة، لكن نجد الآيات (يسألونك) في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)) هنا الكلام إنتهى عند (غفور رحيم) فحين يبدأ موضوعاً جديداً لا يبدأ بالواو وإنما يبدأ بـ (يسألونك) لأنه لا يريد أن يستكمل كلاماً سابقاً، فقال (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ)، وهذه الآية نفسها فيها يسألونك وويسألونك، لما بدأ بها بعد كلمة (والله غفور رحيم) بدأ بها غير معطوفة على ما قبلها فقال (يسألونك)، ثم في الآية نفسها قال (ويسألونك) معطوفة على يسألونك الأولى التي هي غير معطوفة على شيء.
أحصيت المرات التي وردت فيها (يسألونك) من غير واو في تسعة مواضع هي في جميعها تكون في بداية كلام جديد: (يسألونك عن الخمر والميسر (219) البقرة)، (يسألونك عن الأهِلّة (189) البقرة)، (يسألونك ماذا ينفقون (215) البقرة)، (يسألونك عن الشهر الحرام (217) البقرة)، (يسألونك ماذا أُحل لهم (4) المائدة)، (يسألونك عن الساعة (187) الأعراف) (يسألونك كأنك حفي عنها (187) الأعراف)، (يسألونك عن الأنفال (1) الأنفال)، (يسألونك عن الساعة (42) النازعات)
ووردت (ويسألونك) في ستة مواضع كلها فيها عطف منها (ويسألونك ماذا ينفقون (219) البقرة)، (ويسألونك عن اليتامى (220) البقرة)، (ويسألونك عن المحيض (222) البقرة)، (ويسألونك عن الروح (85) الإسراء)، (ويسألونك عن ذي القرنين (83) الكهف)، و(ويسألونك عن الجبال (105) طه).
آية (191):
*ما الفرق بين كلمة ثقفتموهم وكلمة وجدتموهم في القرآن؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {191})
ثقف: ظفر به وأخذه، ولا تستعمل ثقفتموهم إلا في القتال والخصومة، ومعناها أشمل من الإيجاد. وعندما لا يكون السياق في مقام الحرب يستعمل (وجدتموهم).
*ما الفرق بين(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴿191﴾ البقرة)و(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴿217﴾ البقرة)؟(د.أحمد الكبيسى)
قال تعالى:(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴿191﴾ البقرة) وفي آية أخرى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴿217﴾ البقرة). كلنا نعرف أن القتل من الجرائم العظيمة والأحاديث في ذلك مخيفة جداً (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة الدماء).
تصور لو أن رجلاً كما وقع في التاريخ المعاصر قتل مدينة كاملة فيها ملايين، كما هو في هيروشيما وناكازاكي والخ والبقية تأتي. كيف يمكن أن تتخيل عقابه يوم القيامة؟ لا بد أن يكون عقابه كبيراً من حيث الكمّ وشديداً من حيث الكيف، هذا الفرق بين (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴿217﴾ البقرة) حجماً (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴿191﴾ البقرة) كيفاً أنت قد تعذب واحد بالضرب مليون سنة هذا كبير، ولكنه ليس شديداً، وقد تعذبه مليون سنة بالخوازيق والنار والأفاعي والعقارب وأنواع الحريق الخ هذا شديد. إذاً بقدر ما أن القتل سواء كان لفردٍ واحد (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) بحيث لو اجتمعت مدينة كاملة على قتل رجلٌ واحد لكان ينبغي أن يقتل رجال هذه المدينة بالكامل، كل من اشترك في قتله. تأمل هذا، تأمل هذه الأحاديث الواردة في هذا الباب أنه لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل بغير حق لأكبهم الله في النار، من أجل قتل واحد، هذا القتل يهون إلى جانب الفتنة.
عندنا بلاء وعندنا فتنة، وهذان أسلوبان من أساليب تمحيص الإيمان (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ﴿31﴾ محمد) (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿2﴾ العنكبوت) فامتحان الإيمان إما ببلاء تكرهه نفسك، وإما بفتنة تحبها نفسك.
قد يمحص إيمانك بما تكرهه مرض، سرطان، ظلم، عمى، فقر شديد، يعني أنواع الأشياء المكروهة كل هذا ابتلاء لكي الله رب العالمين يعلمك أن تشكر وتصبر أو تكفر، وهذا دأبنا جميعاً، كلنا نصاب ببلاء تكرهه أنفسنا من فقر أو مرضٍ أو سجنٍ أو ما شاكل ذلك، فمنا من يصبر صبراً مطلقاً، ومنا من يصبر صبرا نسبياً، ومنا من لا يصبر ويجزع، هذا عن البلاء فيما تكرهه نفسك.
أما الفتنة فيما تحبه نفسك من النِعم فقد كنت فقيراً فصرت غنياً جداً، هل ستستعمل هذه النعمة في شكر الله في الصالحات وتعين الناس؟ أو سوف يدعوك هذا إلى التكبر والطغيان والجبروت؟
صرت ملكاً أو أميراً أو شيخاً أو رئيس جمهورية أو ما شاكل ذلك بعد أن كنت مغموراً، هل هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك ستستعملها في طاعته بالعدل والرحمة والشفقة وإحقاق الحق أو بالقتل والظلم والتعذيب في السجون وما إلى ذلك؟
العلم، الأولاد (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴿14﴾ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿15﴾ القلم) .
هكذا الفرق بين الفتنة والبلاء أن البلاء فيما تكرهه نفسك، والفتنة فيما تحبه نفسك، وفي كلتا الحالتين أنت ممتحن. بل أن النعم أحياناً أقسى من النقم، أحياناً تصبر على البلاء، سجنت وعذبت وضربت وافتقرت فصبرت، ولكن عندما أصابتك النعمة لم تصبر، طغيت، صار عندك مال ونفوذ وحكم.
نشهد طبقات من الناس تكافح حاكماً ظالماً، أحزابا وجماعات يسجنون، تقطع أوصالهم بالتعذيب الذي فاحت روائحه، فيصبرون يخرجون من السجن أبطالاً، وقد صبروا على أنواع التعذيب اللامحدود، ثم قفزوا إلى الحكم وإذا بهم أسوأ من ذلك الظالم ألف مليون مرة، يعني لما أصابهم البلاء صبروا، ولما أصابتهم النعمة لم يصبروا، أشبعوا الناس ظلماً وقهراً وسرقات وفسادا كما يحدث في بعض دول العالم الآن.
هذا هو الفرق إذاً بين الفتنة وبين البلاء، كيف تكون الفتنة أكبر من القتل؟ الفتنة أكبر من من القتل بكثير؛ لأنها تمتد قروناً من العداوة والبغضاء، مثل الأوس والخزرج دامت الحرب بينهما مائة وعشرين عاماً، فلما جاء الإسلام وحّد بينهم (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿63﴾ الأنفال) إذاً قد يصطلح المحاربون بعد حرب دامت قرناً. وحينئذٍ فالفتنة أكثر لأنها تدوم قروناً طويلة، فالقتل يزول، والفتنة لا تزول.
آية (194):
*لم سُميّ جزاء العدوان عدواناً ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
هذا من قبيل المشاكلة اللفظية، وهي الاتفاق في اللفظ مع الاختلاف في المعنى، ومثله قوله تعالى (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا (40) الشورى)، وكأن في ذلك إشارة لك أخي المؤمن، إلى أنه الأَولى لك هو الصفح والعفو، لا الانتقام ومجازاة المعتدي، فإذا كان المعتدي عليك مسلماً مثلك، فسمي حقك في الرد على عدوان غيرك لك عدواناً، ترغيباً لك في العفو والصفح.
آية (194):
* ما المقصود ببقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (194) البقرة)؟(د.حسام النعيمى)
لا يجهلن أحد علينا فنعاقبه بمثل ما فعله أو بما يزيد، وسمى العقاب جهلاً على طريقة المشاكلة، وهذا يسميه العرب وأهل البلاغة المشاكلة، وهي أن يستعمل اللفظة نفسها، بغير المفهوم الأصلي. المفهوم عقاب، لكن يأخذ اللفظة نفسها فيستعملها على سبيل المشاكلة، وليس على سبيل المفهوم الثابت نفسه، نفس الدلالة التي دل عليها . من ذلك قوله عز وجل (فاعتدى) لأن ردّ العدوان ليس عدواناً. في قوله (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) صحيح أن اللفظة في دلالتها الأساسية عدوان، لكنها في الحقيقة ردٌ لعدوان، وإنما استعملت للمشاكلة. وكذلك أيضاً (ويمكرون ويمكر الله) هم يمكرون ويمكر الله، هم يدبرون السوء، والمشاكلة في المكر وهو نوع من عقاب الله تعالى، يعاقبهم على مكرهم، فعقوبة الله تعالى لهم سميت مكراً من قبيل المشاكلة، (ويمكر الله) هذا المكر من الله ليس تدبيراً سيئاً في ذاته، وإنما هو سوء لهم أوسوء عليهم، والأصل في غير القرآن : ويدبر الله لهم العقاب.
آية (196):
*(وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) البقرة) لِمَ أظهر هنا لفظ الجلالة ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
في قوله (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أظهر لفظ الجلالة لتربية الهيبة في النفوس من عظمة الله تبارك وتعالى حتى تكون أكثر خشية، وهذا ما يفعله التعبير بالاسم الظاهر أكثر مما يفعله الضمير في هذا الموضع.
*لم عبّر ربنا سبحانه وتعالى بالنفي في قوله (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ) ولم يعبّر بالنهي فلم يقل : ولا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
ذلك لأن النفي أبلغ من النهي الصريح، فالنهي قد يعني أنه يمكن أن يحصل هذا الفعل، لكنكم منهيوّن عنه.
أما النفي فيعني أن هذا الفعل ينبغي أن لا يقع أصلاً، وأن لا يكون له وجود أبداً، فضلاً عن أن يفعله أحدٌ منكم أيها المسلمون، ومن ثمّ أدخل النفي على الاسم؛ لينفي جنس الفعل وأصله.
(وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197) البقرة) تأمل أخي المؤمن، كيف ذكر الأمر بالتقوى عاماً للناس كلهم، ثم أمر أولي الألباب خاصة بالتقوى، هذا يسمى الإطناب وفائدة الإطناب هنا أن الأمر بالتقوى ليس خاصاً بأولي الألباب وحدهم، ولا يتوجه الكلام إليهم دون غيرهم؛ لأن كل إنسان مأمور بالتقوى، لكنه ذكر هنا الخاص بعد العام للتنبيه على فضل الخاص، وهم أولوا الألباب، ورجحانه على العام، وهم عوام الناس؛ لأن الناس يتفاضلون بالألباب، وبها يتمايزون.
آية (197):
* ما الفرق بين الفسق والكفر والظلم؟( د.فاضل السامرائى)
سئل هذا السؤال أكثر من مرة، والفسق الخروج عن الطاعة من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، ويمتد من أيسر الخروج إلى الكفر، كله يسمى فاسقاً. فالذي يخرج عن الطاعة وإن كان قليلاً يسمى فاسقا، والكافر يسمى فاسقاً أيضاً، قال ربنا عن إبليس (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ (50) الكهف) (وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) النور) والكفر سماه فسوقا، والنفاق سماه فسوقا (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ (18) السجدة) فالفسق ممتد، وهو الخروج عن الطاعة.
في غير هذا قال (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ (197) البقرة) وليس كفراً إذ كيف يكون كفراً في الحج؟ الفاسق ليس بالضرورة كافر، فقد يصل إلى الكفر، وقد لا يصل (وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ (282) البقرة) هذا ليس كفراً، فالفسوق يمتد. فسقت التمرة أي خرجت من قشرها، أي خرج عن أمر ربه، وهذا يمتد من أيسر الخروج إلى الكفر، ولهذا وُصف إبليس بالفسق (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)، وليس كل فاسق كافراً، لكن كل كافر فاسق قطعاً (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) التوبة).
كذلك الظلم، الظلم هو مجاوزة الحد عموماً، وقد يصل إلى الكفر (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) البقرة)، وقد لا يصل. أما الكفر فهو الخروج عن المِلّة، الكفر أصله اللغوي الستر، وتستعار الدل
آية (201):
* قال تعالى (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً) ما حسنة الدنيا وحسنة الآخرة؟لم كانت هذه الآية من أحب الدعاء لقلب النبي ؟(د.حسام النعيمى)
لا شك هي من الآيات الجامعة، ونحن نقرؤها قبل السلام في الصلاة. والواقع أن الإجابة سريعة بالنسبة للأخت السائلة وهي أن نقول: كلمة حسنة جاءت نكرة في الموضعين، وهي في الحقيقة وصف لموصوف محذوف، هذا الموصوف المحذوف على إطلاقه: لنقل مثلاً آتنا في الدنيا عطايا حسنة، والعطايا بتفاصيلها، وفي الآخرة عطايا حسنة أيضاً بتفاصيلها، فحذف الموصوف وأبقى الصفة.
وكونها منكرة حتى تشير الى العموم الغالب يعني: شيء عام, والآيات من سورة البقرة كلام عن الحج ، ونحن في موسم الحج، والله سبحانه وتعالى من رحمته بهذا الانسان أن يرشده دائماً إلى الخير.. موسم الحج فرصة للتوجه إلى الله عز وجل بالدعاء ، فرصة للمسلم حقيقة، فرصة للحاج أن يدعو، فالآيات تقول (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) توجيه (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) لأن العرب كانوا بعد موسم الحج يأتون الى الأسواق الأدبية، ويتفاخرون، ويذكرون آباءهم، حتى صاروا يتفاخرون بالقتلى، (أو أشد ذكرا) دائماً المسلم ينبغي أن يكون ذاكراً لله سبحانه وتعالى، وذكر الله يستتبع ذكر الآخرة، وما فيها من نعيم ومن شقاء، ولما بدأ يتحدث عن الذكر في موسم الحج ويدعو (ربنا آتنا في الدنيا) إما لتهوين شأنه أو لأنه عظيم عندهم، يريدون كل شيء، يريدون في الدنيا، وانظر حتى في دعائهم ما وصفوا هذا المأتي به بأنه حسن، يريدون أي شيء في الدنيا، وهذه سِمة لا يحبها الله عز وجل لعباده فكيف أدّبهم؟ ماذا قال لهم؟ (وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) والخلاق هو النصيب، لكن لِمَ لم يقل نصيب؟ نحن إلى الآن نستعمل الخَلَق والخلقات أي الشيء البالي يعني حتى هذا النصيب البالي ليس لهم في الآخرة، هم لا يفكرون في الآخرة، فالله عز وجل لا يريد لعباده الصالحين أن يكونوا كهؤلاء ويريد منهم أن يذكروه، وأن يفكروا في الآخرة؛ لأن هذه الحياة حقيقة مهما طالت هي كحلم راءٍ، كما في الأثر: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
لاحظ أن الانسان في لحظة موته، كأنه استيقظ من منام، وكان يرى حلماً كل هذه السنوات.
وهذا واقع بالنسبة لنا جميعاً عندما ننظر في سنوات عمرنا التي مرّت نراها كشريط نائم، فالله تعالى يريد لعباده أن يذكروه ويتذكروا الآخرة، دائماً أنت مصيرك الى الآخرة.
ومن الناس من يقول (ربنا آتنا في الدنيا حسنة)، يعني كونوا كهؤلاء، هي نفس العبارة السابقة، لكنه هنا ذكرالوصف للموصوف المحذوف، يعني هم يريدون في الدنيا، لكن بالوصف الحسن، وليس كأولئك، وإنما قالوا (وفي الآخرة حسنة)، أيضاً بكل ما يتصور من العطايا الموصوفة بأنها حسنة في الآخرة، ثم زاد عليهم في دعائهم، وهذا تدريب على الدعاء: أن ادعوا هكذا (وقنا عذاب النار)، الانسان لا ينبغي أن ينسى أن هناك ناراً، وعمر رضي الله عنه كان يقول لبعض جلسائه: (يا فلان عِظنا، قال: يا أمير المؤمنين تزفر النار زفرة يوم القيامة، (هذا الزفير، النفخ) فلا يبقى ملك ولا شهيد ولا نبي ولا صالح إلا ويجثو على ركبتيه، ولو كان لك عمل سبعين نبياً ما ظننتَ أنك ناج منها). يعني هذه الزفرة مخيفة ، وحتى عندما ينجي الله الذين اتقوا يحسّون بهذه اللذة لذة النجاة من هذه النار.
هل هناك علاقة بين الأحرف في الكلمتين الحُسن والحسنة؟
من غير شك الثلاثي واحد، فلا بد أن يكون هناك ترابط، فالحُسن والحَسَن والمحاسن، وكل ما يُشتق منها لا بد أن يكون هناك الجذر أو الأصل ملموحاً فيها، فأنت حين تقول: هذا شيء حَسَن، يعني فيه حُسن، هذا إنسان محسِن يعني فيه من الحسن أيضاً ، هذا شخص محسَن إليه. دائماً هذه مسألة من بديهيات اللغة في الحقيقة، لكن أحياناً لما نأتي الى فعل مثل أتى (أتي) والفعل عطى (عطو) نجد أن العين والطاء والواو أقوى من الهمزة والتاء والياء، فمعناه أن العطاء أو الإعطاء فيه نوع من القوة، وليس فيه هذا اللين والرقة، والإتيان فيه لين ورقّة، والمعنى واحد. أتى وأعطى معنى متقارب معجمياً لكن ليس مترادفاً ، سِمة اللين والرقة في أتى، وسِمة القوة في أعطى، لذلك كثيرون من أهل اللغة قالوا: إن الإعطاء فيه تمليك، والإيتاء ليس شرطاً أن يكون فيه تمليك
آية (203):
*لم خص الله تعالى الذكر فى هذه الأيام(وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ (203)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لاحظ أخي أمر الله عباده بالذِكر مع أنهم في الحج، والموسم موسم عبادة، وخَصّ بالذكر في الأيام المعدودات، وهي أيام رمي الجِمار؛ وذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلون هذه الأيام بالتغامز، ومغازلة النساء، فأراد الله تعالى صرفهم عن هذا الإثم إلى الخير، دون ذِكر ما يفعلون.
*ما الفرق بين استعمال (وإليه ترجعون) و(إليه تحشرون) وما دلالة كل كلمة في القرآن؟(د.حسام النعيمى)
الآية الأولى تتكلم عن الجانب المالي (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) البقرة)، والآية الأخرى (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) الملك). ولما كان الكلام عن المال، عن القرض، والمال يذهب ويجيء، الله سبحانه وتعالى يقبضه ويبسطه، فيناسب الكلام عن البسط والقبض، الذهاب والإياب، يناسبه كلمة الرجوع، أنتم وأموالكم ترجعون إلى الله؛ لأن فيها قبضا وبسطا ففيها رجوع.
أماالحشر فاستعمله مع ذرأ، لأن ذرأ بمعنى نشر، يذرؤكم في الأرض، أي يبثّكم وينشركم في الأرض. هذا الذرء والبثّ يحتاج إلى جمع، والحشر فيه معنى الجمع، فإليه ترجعون، كأنما هذا هو الرجوع، لكن ليس فيه صورة جمع هذا المذروء المنثور، فالذي يناسب الشيء المنثور الموزع في الأرض كلمة الحشر، وليس الرجوع، صحيح أن الرجوع كله إلى الله سبحانه وتعالى. لكن اللفظة المناسبة لـ (ذرأكم في الأرض) أي بثّكم هي كلمة تحشرون.
آية (204):
*كيف اضيفت كلمة ألدّ إلى كلمة بمعناها وهي الخِصام؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
قال تعالى (وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) البقرة) إضافة كلمة (ألدّ) إلى الخصام مع أن معنى ألدّ شديد الخصومة، هذا من باب مبالغة القرآن الكريم، ليصف لنا ربنا مدى الخصومة التي تسكن قلب المخاصِم، فهو ليس مخاصِماً وحسب، ولكنه مخاصِم وخصامه غريب فظيع، ألا ترى كيف تقول لفلان وقد غضب” جُنّ فلان، ولكنه إذا كان كثير الغضب تقول جُنّ جنونه، ونقول خصامه شديد الخِصام.
*ما الفرق بين ختام الآيتين فى سورة لقمان(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6))وفى سورة البقرة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)؟(د.فاضل السامرائى)
بدأت آية لقمان بالمفرد (من يشتري)، وانتهت بالجمع (أولئك) فهل هنالك رابط؟
لما قال ليضل عن سبيل الله كان هذا تهديداً له ولمن يضلهم، فالتهديد ليس له فقط، بل جمعهم في زمرته هو ومن يتبعه، المُضِل والضال إذًا ليسا واحداً، وإنما هم جماعة (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). في آية البقرة قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) البقرة) قال (فحسبه جهنم)؛ لأنه لم يذكر أحداً معه، بدأ بالمفرد وانتهى بالمفرد؛ لأنه لم يتعلق بالآخر، فقال فحسبه، وحين تعلق بالآخرين قال أولئك لهم عذاب مهين.
آية (205):
*كيف تكون جهنم دار مِهاد ونوم (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (205) ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
وصف الله تبارك وتعالى الأرض بأنها مِهاد لنا في حياتنا؛ لأنها مهيئة للسعي والنوم، وفي قوله تعالى (وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) هذا أقصى أنواع التهكم بهؤلاء الكافرين، فالإنسان يتخذ المكان الوثير مهاداً ليهنأ بنومه، أما الكافر فلِسُخف عقله أخذ النار والعذاب مكان نومه، فتأمل!.
آية (207):
*ما الفرق بين الرضوان والمرضاة؟( د.فاضل السامرائى)
الرضوان هو الرضا (الرضوان مصدر)، ولم يستعمل في القرآن كلمة الرضوان إلا رضا من الله تعالى، أما المرضاة فتأتي من الله ومن غيره، والرضوان هو أعظم الرضا وأكبره، فخصّه بالله سبحانه وتعالى، أما المرضاة، فليست مختصة بالله تعالى، وإنما تأتي لله تعالى ولغيره (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ (207) البقرة) (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ (1) التحريم)، أما الرضوان فهو خاص بالله تعالى. والرضوان أعلى من الجنة، وفي الأثر: أنكم لتحتاجون إلى علمائكم في الجنة كما تحتاجون إليهم في الدنيا، فقالوا كيف يا رسول الله؟ قال يطُلّ الله تعالى على عباده أصحاب الجنة فيقول سلوني، فيحارون ماذا يسألونه وكل شيء موجود، فينظر بعضهم إلى بعض، فيذهبون إلى علمائهم، يقولون ما نسأل ربنا؟ فيقول العلماء سلوه الرضا.
*هل أفردت الرأفة عن الرحمة في القرآن؟( د.فاضل السامرائى)
قال الله في القرآن كله (والله رؤوف بالعباد) في موطنين فقط: في سورة البقرة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) البقرة) وفي سورة آل عمران (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30)).
لم يقل تعالى رؤوف رحيم. لماذا ؟ لو لاحظنا السياق الذي وردت فيه الآيتان يتضح الأمر. في سورة البقرة قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) البقرة) السياق لا يحتمل رحمة، فحين يقول (فحسبه جهنم) كيف يناسبه الرحمة؟
الة اللغوية للدلالة الشرعية
آية (208):
*لِمَ قال تعالى ادخلوا في السِلم ولم يقل سالموا بعضكم مثلاً؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (208) البقرة) الدخول يدل على العمق، ومن دخل المنزل صار داخله وفي عمقه ومحاطاً ببنائه، ولذلك من دخل السِلم صار في أقصى غاية المسالمة، وليس مسالماً فقط.
آية (209):
*ما الفرق من الناحية البيانية بين (جاءهم البيّنات) و(جاءتهم البيّنات) في القرآن الكريم؟( د.فاضل السامرائى)
هناك حكم نحوي مفاده أنه يجوز أن يأتي الفعل مذكراً والفاعل مؤنثاً، وكلمة البيّنات ليست مؤنثا حقيقيا لذا يجوز تذكيرها وتأنيثها. والسؤال ليس عن جواز تذكير وتأنيث البيّنات؛ لأن هذا جائز كما قلنا، لكن السؤال لماذا؟ لماذا استعمل الفعل المذكر (جاءهم البيّنات)، مع العلم أنها استعملت في غير مكان بالمؤنث (جاءتهم البيّنات)؟
جاءتهم البيّنات بالتأنيث: يؤنّث الفعل مع البيّنات إذا كانت الآيات تدلّ على النبوءات، فأينما وقعت بهذا المعنى يأتي الفعل مؤنثاً، كما في قوله تعالى في سورة البقرة (فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {209}) والآية (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {213}) و (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ {253})،
أما جاءهم البيّنات بالتذكير: فالبيّنات هنا تأتي بمعنى الأمر والنهي، وحيثما وردت كلمة البيّنات بهذا المعنى من الأمر والنهي يُذكّر الفعل، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران (كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {86})، و (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105})، وفي سورة غافر (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {66}).
آية (211):
*ما الفرق بين فعل الأمراسأل وسل؟( د.فاضل السامرائى)
سل إذا بدأنا بالفعل، فالعرب تخفف وتحذف (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ (211) البقرة)، وإذا تقدمها أي شيء يؤتى بالهمزة (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ (101) الإسراء)، هذه قاعدة عند أكثرية العرب، إذا سبقها شيء يبدأ بالهمزة، وإذا بدأنا بها يحذف الهمزة (سل).
*لِمَ اختار الله تعالى صيغة الماضي للتزيين (زُيّن) وصيغة المضارع للسخرية (ويسخرون) ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ (212) البقرة) أتى فعل التزيين ماضياً؛ ليدلنا على أن التزيين أمر مستقر في الكافرين، فهم أبد الدهر يعشقون الدنيا ويكرهون الموت. وأتى بفعل السخرية مضارعاً (يسخرون) ليبيّن لنا ربنا سبحانه وتعالى أن الكافرين يسخرون من الإيمان وأهله، بشكل متجدد متكرر. وفي ترتيب الفعلين دلالة منطقية، لأن السخرية مبعثها حب الدنيا والشهوات، والتزيين سابق للسخرية فعبّر عنه بالماضي، والسخرية ناشئة من تعلق القلب بالدنيا فعبّر عنها بالمضارع.
آية (212):
* (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا (212) البقرة) ما دلالة التذكير (زين) ولم يقل زينت مع أن الدنيا مؤنث؟( د.فاضل السامرائى)
من حيث الحكم النحوي يجوز، وليس فيه إشكال؛ لأن الحياة مؤنث مجازي، والمؤنث المجازي هو الذي ليس له مذكر من جنسه، فمثلاً البقرة مؤنث حقيقي؛ لأن الثور ذكر من جنسها، النعجة لها كبش من جنسها، إذا كان هنالك مذكر من جنسه فهذا مؤنث حقيقي.
كلمة سماء ليست مؤنثا حقيقيا، وكذلك الشمس مؤنث مجازي، والقمر مذكر مجازي.
إذن كون (الحياة) مؤنث مجازي يجوز تذكيره وتأنيثه، هذا لغوياً؟
ثم هنالك فاصل بين الفعل والفاعل (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، ووجود الفاصل حتى في المؤنث الحقيقي يجيز تذكيرالفعل، هذه هي القاعدة (أقبل اليوم فاطمة) طالما فصلنا بين العامل والمعمول يجوز تذكيره وتأنيثه. إذًا من حيث النحو ليس فيه إشكال، لكونه مجازيا، وكون هنالك فاصل.
لكن لماذا اختار التذكير؟ هنالك قراءة أخرى وهي (زَيّن للذين كفروا الحياةَ) بالبناء للمعلوم، والفاعل الشيطان (الحياة مفعول به)، وهذه القراءة لا يمكن أن يقول فيها زَيّنت، لأن التذكير صار واجباً. إذن في الآية قراءتان: قراءة زَين بالبناء للمعلوم، وهو يلزم التذكير، فصار فيها معنيين، وما دامت هنالك قراءة أخرى، فإن (زينت) لا تنسجم مع القراءة الثانية.
*لم أفرد الله عز وجل الكتاب وجمع النبيين؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
بعث الله تعالى الأنبياء فعبّر عنهم بصيغة الجمع (النبيين)، ولكنه قال (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ)، ولم يقل الكتب مع أنهم جمع متتابع، ولم يكن للكل كتاب واحد، فلِمَ أفرده تعالى؟ أفرده ليعلّمنا أن الحق الذي نزل به الأنبياء واحد، ولكنه نزل على فترات، وكل واحد منهم متمم لما قبله.
آية (213):
*(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ (213) البقرة) ما معنى (كان الناس أمة واحدة)؟ وبما أن الناس أمة واحدة فما الغرض من بعث النبيين مبشرين ومنذرين؟( د.فاضل السامرائى)
السائل الكريم يشير إلى قوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) أمة واحدة أي متفقين على التوحيد مقرّين بالعبودية، ولكن السؤال إذا كانوا كذلك فلم أرسل الرسل؟ أظن لو أكمل السائل الآية لاتضح الأمر، نقرأ الآية (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ (213) إذن كانوا أمة واحدة فاختلفوا، كما في آية أخرى (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ (19) يونس) فهو حين قال: ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه أشار إلى أنهم اختلفوا، وهذا اقتضى إرسال النبيين والمرسلين.
*ما معنى كلمة أمّة في القرآن الكريم ؟(من برنامج فى ظلال آية للشيخ خالد الجندي)
كلمة أمة جاءت في القرآن الكريم بأربعة معانٍ هي:
1. الأمّة بمعنى المِلّة: أي العقيدة كما في قوله تعالى (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) يونس)، و(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) الانبياء).
2. الأمّة بمعنى الجماعة كما في قوله تعالى (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)، و(وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)) الأعراف)
3. الأمّة بمعنى الزمن كما في قوله تعالى (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) هود)، و(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يوسف)
4. الأمة بمعنى الإمام كما في قوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) النحل) أي قُدوة.
وقوله تعالى (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) البقرة) في سورة البقرة، الأمة هنا بمعنى العقيدة الواحدة والمِلّة الواحدة. وهذه الآية لخّصت تاريخ البشرية من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة، ومعناها أن الناس كانوا على عقيدة واحدة من عهد آدم إلى زمن ما قبل نوح حيث بدّلوا عقيدتهم، فالدين واحد والعقيدة هي الإيمان بالله تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)) (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)) آل عمران). وكأن في الآية جملة مقدّرة (كان الناس أمة واحدة فضلّوا وتفرقوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين).
*ما دلالة الفعل زلزلوا فى قوله تعالى (وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ) ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
انظر أخي المؤمن كيف عبّر الله عن شدة المصاب بقوله (وزلزلوا)، وهذا الفعل يدلك على شدة اضطراب نظام معيشتهم؛ لأن الزلزلة تدل على تحرك الجسم في مكانه بشدة، والتضعيف في الفعل زلزلوا يدل على تكرر هذا الحدث.
آية (214):
* قال تعالى:(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (214) وفي رواية ورش (يقولُ) بالضم فما دلالة الضم؟( د.فاضل السامرائى)
أولاً ما الفرق اللغوي في المعنى في النصب والرفع بعد (حتى)؟ (حتى) قد يأتي بعدها الفعل مرفوعاً، وقد يأتي منصوباً. (حتى) لا تنصب إلا إذا كان الفعل بعدها مستقبل الوقوع، هذه قاعدة مثل: سأدرس حتى أنجحَ، النجاح مستقبلاً، (قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) طه)، وليس هذا فقط، وإنما عندهم كل النواصب (الأفعال وليس الأحرف) أدوات استقبال وينصون عليها نصّاً، فالنصب إذًا يفيد الاستقبال، ولذلك هم قالوا إذا قلت: جئت حتى أدخلَ المدينة، يعني أنت لم تدخلها بعد، وإن كان دخلها يقول: جئت حتى أدخلُ المدينة، لا تقولها بالرفع إلا وأنت في سِكَكِها، لو سمعناها بالنصب (حتى أدخلَ) نفهم أنه ما دخلها.
مثال: أنت تقول ما الذي جاء بك؟ يقول جئت حتى أزورَ فلاناً، يعني لم يزره بعد، أما إذا قال جئت حتى أزورُ فلانا فيعني أنه زاره. إذا كانت بالرفع تدل على فعل حدث، وإذا كانت بالنصب تعني أن الفعل لم يحدث بعد. هذه القاعدة في المعنى.
فى الآية يتكلم عن جماعة مضوا (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) بالنصب إذًا هذا بعد إصابة البأساء والضراء والزلزال يعني حدثت البأساء والضراء والزلزال ثم قال الرسول، فهو استقبال لما بعد الإصابة، إذًا هذه منصوبة؛ لأن القول يكون بعد البأساء والضراء. (حتى يقولُ) هذا ماضٍ بالنسبة للإخبار عنهم؛ لأن الإخبار كله وقع، فأنت الآن تخبر عن أمر ماضٍ وقع، البأساء حدثت والرسول (صلى الله عليه وسلم) قال هذا الكلام، أنت تتكلم عن تاريخ، فلما قال (حتى يقولُ) هذا إخبار عن حادثة ماضية كلها وقعت فيقوله بالرفع.
فهناك أمران إذا كان الاستقبال لما بعد الإصابة يقول (حتى يقولَ) بالنصب، وإذا كان إخبارا عن كل الحوادث يقولها بالرفع (حتى يقولُ).
أليس هذا يتعارض مع بعضه؟ القرآن ماذا يريد أن يقول؟ هل قالها الرسول قبل البأساء أو بعد؟
هذه فيها جانبان، جانب أنه ذكر حالة الرسول (صلى الله عليه وسلم) قبل القول فنصب، وذكر حال الإخبار عنها بعد القول فرفع، ولا يوجد تعارض بين القراءتين، وإنما ذكر حالتين حالة قبل القول، وحالة إخبار بعد القول.
آية (215):
*ما الفرق بين عالم وعلام وعليم؟( د.فاضل السامرائى)
كلمة عالِم في القرآن لم ترد إلا في عالم الغيب مفرداً، أو الغيب والشهادة، وردت في القرآن كله في أربعة عشر موضعاً بهذا المعنى، إما مقترنة بالغيب (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) الجن)، أو بالغيب والشهادة (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) الأنعام)، و(عالِم) اسم فاعل لا يدل على الكثير عادة، فاستعملها بالمفرد الذي لا يدل على التكثير.
(علام) خصصها للغيوب (وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) التوبة) لا تجد كلمة علام في القرآن في غير علام الغيوب، جمع الغيب ، والعلاّم كثرة، والغيوب كثرة مثل سمّاع وسميع في القرآن: سمّاع استعملها في الذمّ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ (41) المائدة) (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (47) التوبة)، وسميع استعملها تعالى لنفسه (وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، واستعملها في الثناء على الإنسان (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) الإنسان).
عليم مطلقة ويستعملها في كل المعلومات (بكل شيء عليم)، يستعملها إما للإطلاق على الكثير، أو يطلقها بدون تقييد (واسع عليم)، أو يستعملها مع الجمع أو فعل الجمع. مثلاً حين يقول (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) يونس) هذه مطلقة (كل) تدل على العموم، (بكل شيء عليم) هذا إطلاق،. يستعملها إذا مطلقة (إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)، أو عامة (بكل شيء عليم) أو مع الجمع، أو مع فعل الجمع.
مع الجمع كقوله (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) ، (فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) ، (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ، (إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ). أو مع فعل الجمع كقوله (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) البقرة) (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) يوسف) (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) النور).
إذًا كلمة عليم لم تحدد بشيء معين، إما للعموم، أو للإطلاق، أو مع الجمع، أو مع فعل الجمع، لم تأت مع متعلق مفرد مطلقاً في القرآن، لا تجد عليم بفلان أو بفعل فلان. إذا أراد أحدهم أن يدرس هذه الاستعمالات تدرس في باب تخصيص الألفاظ القرآنية، وهذه ظاهرة في القرآن.
آية (216):
*ما الفرق بين كلمة الكَره بفتح الكاف والكُره بضمها؟( د.فاضل السامرائى)
الكَره بفتح الكاف هو ما يأتي من الخارج، يقابله الطوع كما في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11))
أما الكُره بضم الكاف فهو ما ينبعث من الداخل، ففي قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) البقرة) جاءت كلمة الكُره، لأن الإنسان بطبيعته يكره القتال، وكذلك في قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا((15) الأحقاف) الحمل والوضع ثقيل شاق على نفس الأم، وأي إنسان لا يريد المشقة لنفسه أصلاً.
*ما معنى عسى في القرآن؟( د.فاضل السامرائى)
عسى طمع وترجي (قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) القصص ،وفى سورة البقرة (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ (216)، ينبغي أن تتوقع أن ما تحب قد يكون فيه شر، قد يتوقع أنه مما يكره وقد يكون فيه خير. وقد تأتي عسى للتوقع (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) محمد). الفيصل في تحديد المعنى هو السياق، والمعجم يعطي معنى الكلمة مفردة، ولا يصح الإستناد إلى المعجم وحده للفهم، حتى في كل اللغات لا يمكن ترجمة النص من المعجم وحده، وإنما السياق.
آية (217):
*ما دلالة قوله تعالى (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ (217))؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
أثير انتباهك أخي المؤمن إلى هذه اللفتة الإلهية، فالله تعالى أخبرنا بأن الكافرين مستمرون على زعزعة إيماننا، وإخراجنا من دوحة الإسلام ما قُدِّر لهم ذلك، لاحظ قوله تعالى (إن استطاعوا) فقد قيّد قدرتهم على إخراجك من الدين بقوله (إن استطاعوا)، وهذا إحتراس لئلا يظن السامع أن المؤمن سهلٌ إخراجه عن إيمانه، فاستعمل تعالى حرف الشرط (إن) وهو يدل على الشك لا اليقين؛ ليُطَمْئِنَ أن استطاعتهم ذلك – ولو على آحاد المسلمين – أمر بعيد المنال لهم؛ لقوة الإيمان التي تتغلغل في القلب فلا تفارقه.
*(وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ (217) البقرة) لِمَ استعمل الفاء بدل (ثم)؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
استعمل حرف العطف الفاء في قوله (فيمت) وهو حرف يفيد الترتيب والتعقيب، ولم يستعمل (ثم) التي تفيد التراخي والمهلة في الزمن، أي قال (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ) ولم يقل ثم يمت وهو كافر؟ نحن نعلم أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد، بل قد يعمّر المرتد طويلاً، والفاء تفيد الترتيب والتعقيب، أن يقع الأمران متعاقبين متتاليين، فما وجه استعمال الفاء إذن؟ في هذا ارتباط بديع في أن المرتد يُعاقب بالموت عقوبة شرعية فإن ارتدّ يُقتل حدّاً.
*لماذا جاءت (يرتدد) بفك الادغام؟( د.فاضل السامرائى)
فكّ الادغام يكون مع الجزم، وقوله تعالى (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)، وهذا يسري على جميع المضعّفات في حالة الجزم إذا أُسند إلى ضمير مستتر أو اسم ظاهر.
*هل البَدَل يفيد التوكيد؟( د.فاضل السامرائى)
للبدل أنواع، منها الاشتمال والتخصيص والمدح أو الذمّ و التوكيد و التفخيم و الايضاح و غيره .
و فى قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) قتال هي بدل اشتمال.
* هل كل ما جاء عطف بيان يُعرب بدلاً؟( د.فاضل السامرائى)
عطف البيان هو قريب من البدل نقول مثلاً: أقبل أخوك محمد، محمد يمكن أن تُعرب بدل أو عطف بيان. لكن هنالك مواطن ينفرد فيها عطف البيان عن البدل. وقسم من النحاة يذكرون الفروق بين عطف البيان والبدل ثم يقول أشهر النحاة بعد ذكر هذه الفروق:” لم يتبين لي فرق بين عطف البيان والبدل”.
عطف البيان على أي حال قريب من البدل، ويصح أن يُعرب بدلا إلا في مواطن:
• عطف البيان لا يمكن أن يكون فعلا، بينما البدل قد يكون فعلاً.
• عطف البيان لا يمكن أن يكون مضمراً أو تابعاً لمضمر (ضميراً أو تابع لضمير) بينما البدل يصح أن يكون كذلك.
• عطف البيان لا يمكن أن يكون جملة ولا تابعا لجملة، بينما البدل يمكن أن يكون كذلك.
وهناك مسألتان أساسيتان يركزون عليهما:
1. البدل على نيّة إحلاله محل الأول.
2. البدل على نية تكرار العامل أو على نية جملة ثانية.
على سبيل المثال وحتى لا ندخل في النحو كثيراً نقول: يا غلام محمداً هذه جملة صحيحة، الغلام اسمه محمد، هذا لا يمكن أن يكون بدلاً؛ لأنه لا يصح أن يحل محل الأول؛ لأننا قلنا سابقاً أن البدل على نية إحلاله محل الأول، ومحمد علم مفرد يكون مبنيا على الضمّ مثل (يا نوحُ) (يوسفُ أعرض عن هذا) ولا نقول يا محمداً.
وكذلك إذا قلنا: يا أيها الرجل غلام زيد. لا يمكن أن يكون بدلا، فلو حذفنا الرجل تصير الجملة يا أيها غلام زيد، ولا تصحّ.
مثال آخر: زيد أفضل الناس الرجال والنساء . إذا حذفنا الناس لا تصح الجملة، ولا يمكن أن تكون الناس بدلا لأنه لا يصح قول: زيد أفضل الرجال والنساء، وإنما تُعرب عطف بيان.
وهناك مواطن أخرى عند غير الفرّاء مثال: أنا الضارب الرجل زيد. لا يمكن أن يكون الرجل بدلا، فلا يصح أن يقال أنا الضارب زيدٍ؛ لأنه إذا عرّف الأول فيجب أن يعرّف الثاني.
فليس دائماً يمكن أن يُعرب عطف البيان والبدل أحدهما مكان الآخر وإنما هناك مواطن يذكرها النحاة لكننا نقول أن عطف البيان موجود في اللغة.
وفي قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) قتال تُعرب بدل اشتمال ولا يجوزإعرابهاعطف بيان لأنهما اختلفا تنكيراً وتعريفا وفُقِد الشرط.
ومع ذكر كل الفروق بين عطف البيان والبدل كما ذكرنا سابقاً يأتي أشهر النحاة، فيقول أنه لم يتبين له الفرق بينهما، وأنا في الحقيقة من هذا الرأي أيضاً.
آية (218):
*(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218) البقرة) قال عن المهاجرين هاجروا ولم يقل هجروا مثلاً فهل من فرق بين اللفظين؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
استعمل القرآن كلمة هاجروا دون هجروا؛ لأن هاجر نشأ عن عداوة بين الجانبين، فكلٌ من المنتقِل وهم أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) والمنتقَل عنهم وهم المشركون في مكة، كلٌ قد هجر الآخر وقلاه وطلب بُعده.
*(ورتل القرآن ترتيلاً):
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ (219) البقرة) الخمر فعله خَمَر. نقول: خمره الشيء أي ستره، ولذلك سمي الخمر خمراً؛ لأنه يستر العقل، ويحجبه عن التصرف، ويحجبه عن عمله.
آية (220):
*لم قال تعالى (إصلاح لهم) ولم يقل إصلاحهم (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ (220) البقرة)؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
انظر إلى عظيم عناية الله تعالى ولطفه بعباده الضعفاء. يتجلّى هذا اللطف في قوله تعالى (إصلاح لهم)، حيث قال (لهم) ولم يقل إصلاحهم؛ لئلا يظن الإنسان أنه ملزم بإصلاح جسده ورعاية جسمه والعناية به وحسب، ثم يهمل ما عداه، لا. فأنت أيها الكافل اليتيم مأمور بإصلاح ذاته وروحه وعقيدته وخلقه، وكل ما يتعلق به.
آية (222):
*ما الوجه البلاغى لكلمة أذى(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى (222) البقرة)؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
انظر إلى هذه الدقة والاعجاز العلمي، فقد أطلق الله سبحانه وتعالى الأذى ولم يقيّده، فقال هو أذى، ولم يقل هو أذى لكم أو لهنّ، فهل لهذا التعبير من سبب؟ نعم لأن جماع المرأة أثناء حيضها أذى للرجل يسببه الدم الفاسد، وفيه أذى للمرأة ومرض، وفيه أذى للطفل، فالأطباء يقولون أن الجنين إذا تموّن بجماع خلال الحيض يصاب بمرض الجذام.
آية (222):
* ما دلالة المتطهّرين في قوله تعالى (الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) في سورة البقرة؟( د.فاضل السامرائى)
الذي يبدو والله أعلم أن (المطهّرون) هم الملائكة؛ لأنه لم ترد في القرآن كلمة المطهرين لغير الملائكة، والمُطهّر اسم مفعول وهي تعني مُطهّر من قِبَل الله تعالى. بالنسبة للمسلمين يقال لهم متطهرين أو مطّهّرين كما في قوله تعالى (اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) البقرة) ومتطهرين هي بفعل أنفسهم أي هم يطهرون أنفسهم.
*بعض الكلمات مدغمة وبعضها غير مدغم مثلاً (إنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) البقرة) بالتاء وآية أخرى (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) التوبة) بالشدة ،ما الفرق؟(د.أحمد الكبيسى)
هناك أناس من المسلمين – وهذه سنة عظيمة – من ساعة أن يستيقظ إلى ساعة أن ينام يكون متوضأً، وكلما انتقض وضوؤه يتوضأ، فهو دائم الطهور، هذا المطهر، أما الذي يصلي وينتقض وضوؤه، ويجدد وضوءه قبل الصلاة فهذا متطهر، فرب العالمين يرسم بهذه التاء المدغمة أيهما مطّهر وأيهما متطهر، وكلا الحالتين عظيمة، كقوله تعالى (فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ (222) البقرة) لم تكن طاهرة بمجرد أن انقطع عنها الدم.
آية (223):
* ما اللمسة البيانية في الآية (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ (223)؟( د.فاضل السامرائى)
فيما يتعلق باللغة: الذي يظهر من التعبير اللغوي (نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ) أن الحرث هو وضع النبت والزرع والنسل، هذا هو الحرث في اللغة (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ (295) البقرة). فأتوا حرثكم، أي مكان الإنبات والنسل.
آية (225):
*كلمة حليم في القرآن: (د. عمر عبد الكافى)
وردت كلمة حليم في القرآن خمس عشرة مرة منها إحدى عشرة مرة كاسم من أسماء الله عز وجل الحسنى
1. (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) البقرة)
2. (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) البقرة)
3. (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) البقرة)
4. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) آل عمران)
5. (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) النساء)
6. ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) المائدة)
7. (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) الإسراء)
8. (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) الحج)
9. (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) الأحزاب)
10. (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) فاطر)
11. (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) التغابن)
ووردت مرتين في ابراهيم (عليه السلام):
1. (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) التوبة)
2. (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) هود)
ووردت مرة في اسماعيل (عليه السلام) عند البشارة به في قوله تعالى (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) الصافات).
ووردت مرة على لسان قول شعيب الذي كانوا يستهزئون به في قوله تعالى (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)).
والحليم لا يأتي إلا بخير وهو السمت في الخُلُق العربي، فالتزكية ربع المهمة المحمدية لأن الأمر كله يقوم عليه. والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق” فكأن هذه المهمة هي المهمة الرئيسية للرسول (صلى الله عليه وسلم). وكما أن الأشياء توزن، والأطوال تُقاس، فإن وحدة قياس الأخلاق هي خُلُق رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ لأنه هو المثال البشري المتفوق، هيّأه تفوقه أن يعيش واحداً فوق الجميع، فعاش واحداً بين الجميع.
ونلاحظ في القرآن الكريم أنه عند البشارة باسماعيل (عليه السلام) جاءت بقوله تعالى (غلام حليم)، فاسماعيل جدّ العرب حليم، فكأن الحلم يتصف به جدُّ العرب، والحِلم كله خير، ولا يأتي إلا بخير “كاد الحليم أن يكون نبياً”.
وفي البشارة باسحق جدّ اليهود كانت البشارة (غلام عليم) فكأن العلم يتّصف به جدّ اليهود.
(من برنامج هذا ديننا للدكتور عمر عبد الكافي)
آية (226):
*(لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ (226) البقرة) الإيلاء أريد به الحلف فلِمَ قال تعالى (يؤلون) ولم يقل يحلفون أو يقسمون؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لأن الإيلاء هو حلف ويمين، ولكنه يقتضي التقصير في حق المحلوف عليه، وهو مشتق من الألو وهو التقصير. والإيلاء فيه إجحاف وتقصير في حق المرأة التي حلف زوجها أن لا يقربها.
*لِمَ عدّى الفعل (يؤلون) بـ (من) فقال (من نسائهم) مع أنه حقه أن يعدّى بـ (على) لم يقل يؤلون على نسائهم؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يضعك في صورة مشهد هذا اليمين، فالرجل حلف أن يبتعد عن زوجه، ولذلك عدّى الفعل يؤلون بحرف جرٍّ يناسب البُعد وهو (من)، وتفهم معنى الابتعاد، فكأنه قال للذين يؤلون متباعدين عن نسائهم.
آية (229):
*(وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا (229) البقرة) لم قال آتيتموهن شيئاً ولم يقل مالاً؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
وردت كلمة شيء نكرة، وهو لفظ عميق دلالة على النكرة، فدلّ استعمال كلمة (شيئاً) على تحذير الأزواج من أخذ أقل القليل، بخلاف لفظ المال فإنه يحذره من أخذ المال، ويسمح له بأخذ ما سواه.
(تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا (229) البقرة) انظر كيف شبه الله سبحانه وتعالى أوامره بالحدود؛ لأن الحد هو الفاصل بين أملاك الناس، وكذلك أحكام الله تعالى هي الفاصلة بين الحلال والحرام، والحق والباطل.
آية (231):
*ما هو الفرق بين استهزأ بـ وسخر من؟( د.فاضل السامرائى)
هنالك أمران في اللغة يذكران في الاستعمال القرآني: أولاً الاستهزاء عام، سواء تستهزئ بالأشخاص وبغير الأشخاص (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا (58) المائدة)، الصلاة ليست شخصاً، وإنما أقاويل وأفاعيل (وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا (231) البقرة)، (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ (65) التوبة) فالاستهزاء عام في الأشخاص وفي غير الأشخاص، أما السخرية ففي الأشخاص تحديداً، لم ترد في القرآن إلا في الأشخاص (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) هود). ومعنى الاستهزاء هو السخرية، هم يقولون المزح في خفية، وهو جانب من السخرية. فالاستهزاء إذًا أعم من السخرية، والسخرية خاصة بالأشخاص، ولم ترد في القرآن إلا للأشخاص، أما الاستهزاء فعامّ ورد في الأشخاص وغير الأشخاص.
آية (232):
*(فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ (232) البقرة) استعمل العضل بمعنى المنع والحبس وهو لفظ أغرب بالدلالة من المنع فما سبب اختيار هذه الكلمة؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
إن المنع قد يحتمل أمرين: منعٌ بحق ومنعٌ بغير حق، أما العضل فهو منع، ولكنه دون حق أو إصلاح، فنهى الوليّ عن منع المرأة من العودة إلى زوجها دون وجه إصلاح، لذا كان اختيار كلمة تعضلوهن دون تمنعوهن.
آية (232):
*(وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) لِمَ لم يقل على الوالد رزقهنّ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
في هذا إيحاء للأب، وتذكير له بأن هذا الولد لك، وهذه المنافع التي تقدمها لزوجك المطلقة منجرّة إليه، وهذا الطفل مآله إليك، فأنت الأجدر بإعاشته، ولتهيئ أسباب الحياة الكريمة له ولأمه.
آية (232):
*ما الفرق بين (ذلكم أزكى لكم)و(ذلك يوعظ به)؟
* د.فاضل السامرائى:
الكاف في (ذلك) حرف خطاب، وحرف الخطاب في ذلك وتلك وأولئك قد يطابق المخاطب: ذلك، ذلكما، ذلكنّ حسب المخاطب المشار إليه. ذلكَ المشار إليه واحد، والمخاطَب واحد مفرد مذكر، وذلكِ المشار إليه واحد والمخاطبة امرأة، وذلكما المشار إليه واحد والمخاطب اثنين، وذلكم المشار إليه واحد والمخاطب جماعة ذكور، وذلكنّ المشار إليه واحد والمخاطب جماعة إناث، فهو لا يدل على جمع المشار إليه وإنما أولئك، ذانك، تِلْكُمَا هي شجرة واحدة والمخاطب اثنان، والكاف حرف خطاب ليس ضمير خطاب.
حرف الخطاب في اسم الإشارة فيه لغتان: لغة تجعله مطابقاً للمخاطب مفردا أو مفردة أو مثنى أو جمع ذكور أو إناث ، ولغة تجعله بلفظ واحد وهو الإفراد والتذكير أياً كان المخاطَب، مثل ذلك إذا كانوا أربعة أو خمسة، تلك شجرة، ذلكم كتاب، لك أن تقول ذلكم كتاب هذا ممكن، وذلك كتاب، هذا من حيث اللغة.
لكن يبقى كيف استعملها القرآن؟ مرة يستعملها مفردا، ومرة يستعملها جمعا. في اللغة لا يسأل عنها؛ لأنه الكل جائز من حيث الحكم النحوي، لكن نسأل من الناحية البيانية أحياناً يطابق وأحياناً يُفرِد، لماذا؟ هذا سؤال آخر. هناك فرق بين الحكم النحوي اللغوي، والاستخدام البياني، لماذا استخدم هذا بيانياً؟
هنالك أسباب عدّة لهذا الأمر من جملتها أن يكون في مقام التوسع والإطالة في التعبير، والمقام مقام توسع وتفصيل وإطالة فيأتي بالحرف مناسباً؛ لأن (ذلكم) أكثر من (ذلك) من حيث الحروف، إذا كان المقام كله مقام إطالة يأتي بكل ما يفيد الإطالة لغة، وإذا كان في مقام الإيجاز يأتي بكل ما يفي بالإيجاز لغة.
مثال (وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) الأنعام) فيها تفصيل فقال (إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) النحل) لأن المقام مقام إيجاز.
وقد يكون في مقام التوكيد، وما هو أقل توكيداً: في مقام التوكيد يأتي بما هو أكثر توكيداً فيجمع، وإذا كان أقل توكيداً يُفرِد، مثال: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (232) البقرة) هذا حُكم في الطلاق قال (ذلكم)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) المجادلة) قال (ذلك) الأولى قال ذلكم، وهذه قال ذلك، أيُّ الحُكمين آكد وأدوم؟ الطلاق آكد وأدوم؛ لأنه حكم عام إلى قيام الساعة، يشمل جميع المسلمين، أما الآية الثانية فهي للأغنياء، ثم ما لبث أياما قليلة ونسخ الحكم (فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ())، فالآية الأولى آكد والحكم فيها عام مستمر، أما الثانية فالحكم متعلق بجماعة من المسلمين، ثم ألغي فالآية الأولى آكد فقال (ذلكم)، ومع الأقل قال (ذلك).
آية (232):
*ما الفرق بين (ذلكم أزكى لكم)و(ذلك يوعظ به)؟
*د.أحمد الكبيسى :
اسم الإشارة ذلك، مرة يأتي (ذلك)، ومرة يأتي (ذلكم) بالميم مثلاً (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ (232) البقرة) ومرة قال (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿232﴾ البقرة) ما الفرق ؟
إذا كانت الإشارة إلى موضوع واحد يقول: ذلك، فهنا يتكلم عن العضل، شخص لديه بنت لا يريد أن يزوجها، أو شخص عنده أخت منعها من الزواج، العضل هو المنع. فرب العالمين ينهى عن هذا يقول: ذلك، إياك أن تفعل هذا (ذَلِكَ) لأن الموضوع نهي عن شيء واحد.
إذا كان النهي عن مجموعة أشياء يقال: ذلكم للتفخيم، ولبيان الأهمية، (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) في الطلاق، عن العدة، قال اتركوا العدة كاملة، قال (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) حين يقول (ذَلِكُمْ) إشارة إلى عدة مواضيع يعني هذه الآية التي هي في البقرة (232) ذلكم جاءت بعدما فرغ القرآن الكريم من تعداد سبع مسائل من مسائل الطلاق، المسائل الخطيرة: المسألة الأولى: حكم وجوب العدة (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ (228) البقرة) الحكم الثاني: عن حقوق الزوجة (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ (228) البقرة)، المسألة الثالثة: الطلاق الذي ثبت بالرجعة (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ (229) البقرة)، رابعاً: حكم العوض في الخلع، خامساً: الطلاق البائن بينونة كبرى، سادساً: الإمساك للضرر والاعتداء، سابعاً: حكم العضل، أخيراً: قال (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) سبع أبواب من أبواب الفقه قال (ذَلِكُمْ).
فحيثما وجدت كلمة (ذلك) كانت في موضوع واحد، وحيثما وجدت كلمة (ذلكم) كانت الإشارة إلى عدة مواضيع هذا هو الفرق بين ذلك وذلكم.
آية (233):
* ما اللمسة البيانية في استعمال (الوالدات) بالجمع و(المولود له) بالإفراد في آية سورة البقرة؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233))
هنالك أكثر من سؤال في هذه الآية: لماذا قال الوالدات، ولم يقل على الوالد، وإنما قال المولود له، ولماذا فرّق ؟
حُكماً المولود للآباء مولود له فالولد يُنسب للأب فهو له، وليس للأم فهو مولود له، وليس للوالدة (هي وَلَدت) لكن المولود للأب، وهو المسؤول عنه، والذي يتكفله ويرعاه، فهو ليس مولوداً للأم، وإنما مولود للأب، فالأم والدة، والأب مولود له.
الأمر الآخر، محتمل أن يكون للمولود له أكثر من زوجة، فقال تعالى (والوالدات) بالجمع لتشمل كل الزوجات، وقال (وعلى المولود له) خاصة من واحدة من الزوجات.
ثم نلاحظ أنه تعالى قال (والوالدات يُرضعن أولادهن) ولم يقل على الوالدات؛ لأنهن لسن مكلفات بإرضاع الولد، فيمكن لهن أن لا يُرضعن أولادهن، أو أن يأتين بمرضعة، فالوالدات لسن مكلفات شرعاً بإرضاع الولد. لكنه قال تعالى (وعلى المولود له رزقهن)؛ لأن هذا واجب الأب، فجمع سبحانه البيان والشرع والحكم.
آية (234):
*(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ (234) البقرة) ما دلالة إضافة الأجل إلى النساء؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
انظر أخي المؤمن كيف أضاف ربنا تعالى (الأجل) إلى النساء المعتدّات، فقال (فإذا بلغن أجلهن)، ولم يقل إذا بلغن الأجل إيحاء بأن مشقة هذا الأجل واقعة على المعتدّات، فهن الصابرات والمتعبدات بترك الزينة والتزام بيت الزوجية، وفي هذا مشقة، ولذلك أضاف الأجل إليهن لإزالة ما عسى أن يكون قد بقي في نفوس الناس من استفظاع تسرّع النساء إلى التزوج بعد عدّة الوفاة؛ لأن أهل الزوج المتوفى قد يتحرجون من ذاك، فنفى الله تعالى هذا الحرج.
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ (234) البقرة) إن الفعل يتوفون من الأفعال التي التزمت العرب فيها البناء للمجهول، فنقول تُوفيّ فلان ولا نقول تَوفّى فلان. وقد حدث ذات يوم أن علياً رضي الله عنه كان يشيع جنازة فقال له قائل: من المتوفّي؟ بلفظ اسم الفاعل سائلاً عن المتوفى، فأجاب عليٌّ بقوله (الله)، ولم يجبه بما يقصد من أنه مات فلان؛ لينبهه على خطئه.
آية (234):
*افتتحت الآيتان (234)و(240) فى سورة البقرة بنفس العبارة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ) فما الفرق بين ختام الآيتين مع أنهماتتحدثان عن المتوفى عنها زوجها؟( د.فاضل السامرائى)
منطوق الآيتين يوضح: الآية الأولى التي أشار إليها (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) يعني خبير بما شرع، ويعلم وجه الحكمة في اختيار التوقيت، والحمل يتبين بعد أربعة أشهر كما في الحديث ” يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه ملك، فينفخ فيه الروح” ربنا يعلم سبب اختيار التوقيت، لماذا اختار الخبير هذا التوقيت؟ أربعة أشهر وعشراً، هذا يحتاج إلى خبرة ومعرفة حتى يعطي الحكم، لماذا أربعة أشهر وعشراً؟ هذا خبرة.
ثم تترك المرأة هكذا أو تخرج من بيتها؟ هذا يحتاج إلى خبرة في المجتمع، يعني هل يصح للمرأة أن تبقى هكذا؟ عند ذلك إذا أرادت أن تخرج فلا بأس، لأن بقاءها قد يكون فيه فتنة، أو فيه أمر نفسي، أو فيه شيء.
الآية الثانية: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) ربنا وصّى الأزواج أنهم لا يخرجوهن من بيوتهم، وصية لمن يتولى الأمر لأن الأزواج ماتوا، تبقى المرأة في البيت، وقد يقولون لها اخرجي من البيت، زوجك خرج، فينبغي أن تخرجي، فالقرآن يقول: لا إياكم أن لا تراعوا الوصية، هن يخرجن من أنفسهن، لكن أنتم لا تُخرجوهن، أهل المتوفى قد يريدون أن ينتفعوا من البيت.
في الآية الأولى الوصية للمرأة أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرة أيام، هذه عدة المتوفى عنها زوجها.
والآية الثانية الوصية لأهل المتوفى بأن لا تُخرج المرأة من مسكنها، وإنما تخرج بنفسها (لا تخرجوهن) أي لا تجبر على الخروج، ولا تُخرج من البيت قسراً، ولها أن تبقى إلى الحول.
كلمة (وصية) في الآية مفعول مطلق بمعنى يوصي وصية. وربنا عزيز ينتقم ممن خالف هذا الأمر.
المسألة في الآية الأولى متعلقة بالمرأة، والثانية متعلقة بمن يُخرج المرأة. فلما كان الحكم المتعلق بحمل المرأة واستبراء الرحم يحتاج إلى خبرة قال خبير، والآية الثانية عزيز حكيم ينتقم ممن خالف الوصية ، كأنه تهديد لمن يخرج المرأة، وفي ذلك حكمة، وليس فقط عزيزا، وإنما حكيم فيها حكمة وفيها حكم، إياكم أن تحكموها؛ لأنه الله هو حكيم، حكيم تشمل الحُكم والحِكمة، وهي بمثابة ردع وتحذير لمن يحاول أن يُخرج المرأة، إذا كنت تحكم هذه المرأة، فالله عزيز حكيم، وإن تشابهت الآيتان فإن السياق مختلف.
*ما الفرق بين قوله تعالى في سورة البقرة (فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) و (من معروف)؟
* د.فاضل السامرائى :
أولاً: يجب أن نلاحظ دلالة التعريف والتنكير، فالمعرفة في اللغة هي ما دلّ على شيء معين، والنكرة ما دلّ على شيء غير معيّن. وفي الآية الأولى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ {234}) المعروف يقصد به الزواج بالذات؛ لأن الآية بعدها (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ {235}). أما الآية الثانية (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {240}) فهي عامة ويقصد بـ (معروف) هنا كل ما يُباح لها. ولمّا جاء بالزواج جاء بالباء، وهي الدالّة على المصاحبة والإلصاق، وهذا هو مفهوم الزواج المصاحبة والإلصاق.
*ختمت الآية (وَ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فما دلالة تقديم العمل على الخبرة الإلهية؟( د.فاضل السامرائى)
هنالك قاعدة استنبطت مما ورد في القرآن الكريم: إذا كان السياق في عمل الإنسان قدم عمله (والله بما تعملون خبير) لو كان السياق في غير العمل، أو كان في الأمور القلبية، أو كان الكلام عن الله سبحانه وتعالى، قدّم صفة الله خبير (خبير بما تعملون). مثال: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) البقرة) هذا عمل، فلما ذكر عمل الإنسان، قدّم عمله (بما تعملون خبير)، (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد) هذا عمل، قتال وإنفاق، فختمها (والله بما تعملون خبير)، لما ذكر عمل الإنسان قدّم عمله. (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) البقرة)، هذا عمل فقدّم (والله بما تعملون خبير). (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) التغابن) هذا عمل أيضاً.
فإذا لم يكن الأمر من عمل الإنسان، أو كان الأمر قلبيا، قدمت الخبرة على العمل، كقوله (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) النمل) هذا ليس عمل الإنسان فقدّم الخبرة على العمل، وقال خبير بما تفعلون. وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) الحشر) كان الأمر قلبياً غير ظاهر.
وهكذا، فإذا كان الأمر في عمل الإنسان قدم العمل، وإذا كان في غير عمل الإنسان أو في الأمور القلبية أو عن الكلام عن الله سبحانه وتعالى يقدم خبير.
العرب كان تعي هذه المعاني والقواعد من حيث البلاغة، والبليغ هو الذي يراعي، على سبيل المثال عندما تضيف إلى ياء المتكلم (هذا كتابي، أستاذي، قلمي) بدون نون، بالنسبة للفعل تقول أعطاني، أضاف نون الوقاية، نأتي بنون الوقاية مع الفعل مثل ضربني وظلمني، أما مع الاسم فلا تأتي، هذه قاعدة، وعموم الناس يتكلمون بها دون أن يفطنوا إلى أن هذا اسم وهذا فعل، الناس يقولونها، وهي قواعد أخذوها على السليقة.
والناس يتفاوتون في البلاغة، العرب كلهم كانوا يتكلمون كلاماً فصيحاً من حيث صحة الكلام، ولذلك يؤخذ من كلام المجانين عندهم؛ لأن المجانين يتكلمون بلغة قومهم، ويستشهدون بأشعار المجانين، لأن كلامهم يجري على نسق اللغة، أما البلاغة فمتفاوتة، يقول (صلى الله عليه وسلم): أنا أفصح من نطق بالضاد. كل واحد يتكلم على لغة قومه، أما من ناحية البلاغة فهناك تفاوت. الله تعالى تحداهم في البلاغة، وفي طريقة النظم والتعبير، وتحداهم بأن يأتوا بسورة، والسورة تشمل قصار السور مثل العصر والكوثر والإخلاص، وهناك إعجاز كثير في القرآن في الإخبار عن المغيبات والمستقبل، وعندما تحداهم الله تعالى تحداهم بسورة ليس فيها تشريع، وليس فيها إخبار عن الغائب أو عن الماضي، هذا في العلم والبصر، وليس في العِلم والخبرة والعمل فقط، وهذا خط عام في القرآن.
*ما الفرق بين قوله تعالى في سورة البقرة (فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) و (من معروف)؟
*د.أحمد الكبيسى:
آيتان تقول الأولى (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴿234﴾ البقرة) معرّف بالمعروف، فوصية الأرامل أنه إذا انتهت الأربعة أشهر وعشرة أيام، تستطيع المرأة أن تفعل ما تريد بنفسها، من أن تتزين للخُطّاب، على شرط أن يكون هذا بالمعروف المتفق عليه، لا أن تخرج سافرة، أو تظهر شعرها، بل بما هو جائزٌ في مجتمع الإسلام لا يسبب عاراً، ولا يسبب عيباً، هذا بالمعروف. هذا الحكم واجب على كل امرأة يموت زوجها عنها أن تتربص أربعة أشهر وعشرة أيام كعدة، لا تتزوج، لا تخرج من البيت إلا لحاجة.
وهذا الكلام على خلاف ما في العالم العربي، إذ يعتبرون الأرملة كأنها معتقلة، لا تخرج من الغرفة، لا ترى شمساً ولا تلفزيوناً ولا مرآة، هذا كله كلام فارغ.
إذاً بالمعروف، هذا فيما يتعلق بالأرملة التي مات زوجها، بعد أربعة أشهر وعشرة أيام (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) هذه الأرملة – وهذا فرض واجب من السُنّة- تبقى في بيت الرجل سنة، ويجب أيضاً سُنّة أن يكون الرجل، أو أهل الرجل هم من ينفقون عليها، فيعطونها ويكرمونها سنة كاملة إلى أن تخرج من البيت. لكن في الآية الأخرى قال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿240﴾ البقرة) في الآية الأولى (فَإِذَا بَلَغْنَ) وفي الثانية (إِنْ خَرَجْنَ) (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) نفس السياق في الأولى (فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) وفي الثانية (فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) هي نفس الحكم، ونفس الأرملة، ونفس الموضوع، ونفس السورة، الآية الأولى 234 والثانية 240، الفرق ست آيات، لماذا هناك (بِالْمَعْرُوفِ) وهنا (مِنْ مَعْرُوفٍ)؟ يعني ليس هناك شيء عبثي أو شيء غير مقصود، هذا كلام رب العالمين.
هذا خاص بالأرملة، بالعدة الواجبة عليها فرضاً وهي أربعة أشهر وعشرة أيام، تبقى في البيت، لا تخرج نهائياً إلا لحاجة، ولا تتزين الخ إلى أن تنتهي العدة (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، حين تنتهي العدة تتطهر، وتتزين حتى تتزوج. أما الآية الأخرى فليست عن العدة، بل هي إبقاء وإكرام، فإذا قال رجل: يا جماعة أنا سأموت، زوجتي لا تخرجوها من البيت، وأنا أوصي لها بمبلغ مائة ألف درهم، تبقى سنة كاملة عندكم، فالله قال (فَإِنْ خَرَجْنَ) لم يقل: فإذا (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) والفرق واضح فالبقاء واجب، وانتهاء العدة من المؤكد أنه سيحصل بعد أربعة أشهر وعشرة أيام ، كل تصرفات المرأة في العدة كلها متفق عليها، وحينئذٍ المعروف، كل الناس تعرف ما واجبات المرأة الأرملة بالمعروف، الذي تعرفونه أنتم هذه الألف واللام. وهناك الزوج وصى أن تبقى زوجه في البيت تخرج أو لا تخرج هي حرة، تتزين أو لا تتزين هي حرة، يعني القضية كلها اختيارية وعائلية، تبقى أو لا تبقى، تعطونها أو لا تعطونها، ليست قضية كبيرة.
فحينئذٍ الفرق بين (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) الذي هو متفق عليه وهو ضروري وأكيد وسيحصل بالدقيقة والساعة واليوم، فهذا بالمعروف قضية متفق عليها، الألف واللام للعهد الذهني، نعرف هذا جميعاً بدليل أنه لا يوجد الآن واحد بالمليون يتركون الأرملة في بيت المرحوم زوجها على مدى سنة، ولأنه ليس أكيداً ولا واجباً، بل من باب الإيصاء بإكرامها، فقد لا يكون عند هذه الأرملة أحد، أو أن أولادها صغار يريدهم الزوج أن يعيشوا مع أهله، يعني أنتم أهل الزوج عطوفون على أولاد المرحوم، وهذا نوع من أنواع الندب.
رب العالمين سبحانه وتعالى يهيب بنا أن نكرم الأرملة وأولاد المرحوم في بيته، وهي اختيارية، وكونها اختيارية فما الذي تفعله المرأة بنفسها؟ لا نعرف بالضبط؟ فإذا أحبت أن تخرج فهو من معروف، لا تخرج من معروف تتزين من معروف، لا تتزين من معروف، يعني كل تصرفاتها غير منضبطة وغير معروفة سلفاً، وغير متفق عليها، وإنما تخضع للإرادة والظروف الطارئة، فهي من معروف (مِنْ مَعْرُوفٍ)، ليست أكيدة، ولا منضبطة، ولا محددة، وكلكم تعلمون بأن الأحكام تناط بما ينضبط، لا بما لا ينضبط.
فتحركات الأرملة أربعة أشهر منضبطة هذا (بِالْمَعْرُوفِ)، أما تحركاتها بعد الأربعة أشهر لمدة سنة فليست منضبطة، هي حرة تروح وتأتي هذا (مِنْ مَعْرُوفٍ)، فهذه الألف واللام تعطيك أن هذه الأحكام التي على المرأة المعتدة من وفاة أحكام شرعية واجبة، عليها أن تنضبط بها، هي تعرف هذا وأولاده يعرفون، وأهل الزوج يعرفون، لكن هناك القضية ليست عامة، ضيافة، فقال (مِنْ مَعْرُوفٍ) ليس هناك شيء محدد.
آية (235):
* لم قال ربنا سبحانه وتعالى (ولا تعزموا عقدة النكاح) ولم يقل ولا تعقدوا النكاح حتى يكون اللفظ صريحاً في النهي عن العقد؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
آثر ربنا سبحانه وتعالى أن يبين حرمة نكاح المعتدة أثناء عدتها بقوله (وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ (235) البقرة)، في هذه الآية نهي عن العقد، ولا تعزموا؛ لأن العزم يدل على التصميم، وإذا ما نُهي المؤمن عن التصميم والإرادة، كان هذا النهي أبلغ من نهي العمل وهو (ولا تعقدوا)، والمرء إذا صمم على أمر ما نفّذه، ولذلك كان النهي عن العزم أبلغ في النهي عن المعزوم عليه. ومن هذا الباب قوله تعالى (تلك حدود الله فلا تقربوها) فقد نُهي عن القرب؛ لأنه أبلغ من النهي في الوقوع في المحظور.
*ما دلالة استعمال كلمة حليم بعد غفور في الآية ؟(الشيخ خالد الجندي)
قال تعالى في سورة البقرة (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)).
لم نعتد في القرآن الكريم على أن يأتي لفظ غفور حليم، وإنما الوارد في القرآن غفور رحيم (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) الزمر).
وردت صيغة غفورحليم في القرآن في ستة مواضع بينماوردت صيغ غفوررحيم 64 مرة في القرآن.أما الآيات التي جاءت فيها صيغة غفور حليم فهي:
1. (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) البقرة)
2. (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) البقرة)
3. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) آل عمران)
4. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) المائدة)
5. (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) الإسراء)
6. (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) فاطر)
الحليم : الحلم لغويا : الأناة والتعقل ، والحليم هو الذى لا يسارع بالعقوبة ، بل يتجاوز الزلات، ويعفو عن السيئات ، والحليم من أسماء الله الحسنى، بمعنى تأخيره العقوبة عن بعض المستحقين ثم يعذبهم ، وقد يتجاوز عنهم ، وقد يعجل العقوبة لبعض منهم، وقال تعالى ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ) . وقال تعالى عن سيدنا إبراهيم ( إن ابراهيم لحليم آواه منيب ) ، وعن إسماعيل ( فبشرناه بغلام حليم ) . وروى أن إبراهيم عليه السلام رأى رجلا مشتغلا بمعصية فقال ( اللهم أهلكه ) فهلك ، ثم رأى ثانيا وثالثا فدعا فهلكوا ، فرأى رابعا فهم بالدعاء عليه فأوحى الله اليه : قف يا إبراهيم فلو أهلكنا كل عبد عصا ما بقى إلا القليل ، ولكن إذا عصى أمهلناه ، فإن تاب قبلناه ، وإن أصر أخرنا العقاب عنه ، لعلمنا أنه لا يخرج عن ملكنا.
وإذا أخذنا الآية 235 من سورة البقرة، ورجعنا إلى سياق الآيات نجد أن الله تعالى يُحذّر من بعض التجاوزات التي تحصل في الحياة الزوجية، وقد ينتهي الأمر إلى الطلاق، وقد يكون هناك أولاد.
ولو عجّل الله تعالى العقوبة لأصحاب الذنوب (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) فاطر) ما بقي من الناس أحد فالله تعالى يؤخّر العقوبة من باب الحِلم، وهو صفة من صفاته سبحانه وتعالى، ومن أسمائه تعالى: الحليم: لأنه يُعطي الفرصة لإصلاح الأوضاع، وقد يكون قد حصل بعض التقصير أو بعض الذنوب بين الناس، فتسوء أخلاقهم، وتضعف ضمائرهم، والله تعالى سبحانه يعطي الناس فرصة للعودة عما حصل منهم.
وبعض القلوب فيها غِلٌ وحسد، ولو آخذنا الله تعالى بما في قلوبنا لن يبقى أحد على قيد الحياة. ومن رحمة الله تعالى بالناس أن يُمهِل الناس حتى يُصلحوا أنفسهم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ)؛ لأن الله تعالى أعلم بما في النفوس، وعلينا نحن أن نعلم حقيقة أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته؛ لأنه ما نفع صفة إذا لم يعرف معناها الناس؟ وهذا هو المقصود بإحصاء أسماء الله الحسنى، أي معرفة معاني الصفات، حتى نطلبها من الله تعالى، فصفة القوي هي أن نتحاشى غضب الله تعالى، وصفة الرحيم أننا لا نيأس من رحمته تعالى، وكل من تطاول على الناس يكون قد غابت عنه صفة من صفات الله تعالى.
فالفائدة من معرفة الأسماء والصفات هي معرفة كيفيتها وكيفية التخلّق بها في الحياة “إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك”. فعلينا معرفة الصفات وترجمتها إلى سلوك، فنأخذ الرحمة من الرحيم، والصبر من الصبور، والحِلم من الحليم، وهكذا.
ونحن مطالبون بمعرفة الصفات، ولقد لاحظ العلماء أن المولى تبارك وتعالى يأتي بنهايات الآيات بما يتناسب مع الآية، فلا يستخدم مثلاً صفة الرحمة في آية العقاب، وعلى سبيل المثال في قصة الأعرابي الذي كان واحد من التابعين يعلّمه القرآن، وتلا عليه قوله تعالى في سورة النور( والسارق والسارقة) ثم ختم الآية والله غفور رحيم، فقال له الأعرابي: أنت تكذب، ثم جاء رجل تابعي آخر، فسأل عن الأمر، فأخبروه، فقال للتابعي الأول: أعِد علي ما قلت فأعاد، فقال له: صدق الأعرابي، فالآية تنتهي بقوله تعالى: والله عزيز حكيم، فسأل التابعي الأول الأعرابي لكن كيف عرفت؟ فقال له، عزّ فحكَم فقطع، ولو غفر ورحم لِمَ يقطع؟
نعود لآية سورة البقرة فنقول أنه جاء فيها قوله: غفور حليم، بمعنى أنه لا يغرنّك أيها الزوج حِلم الله تعالى عليك فتتمادى في البطش بزوجتك، ربما يحلم الله تعالى عليك، لكنه لا ينسى عملك، كما قال تعالى (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) ابراهيم). ولمّا قال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) فكلمة حليم هنا جاءت كتهديد بالعذاب، فالذي لا يرتدع، فالله تعالى حليم، وعنده بطش بالجبابرة الذين يتجاوزون حدود الله تعالى، ولا يؤخذ من كلمة حليم هنا التبشير بالرحمة، لأنها لو كانت كذلك لجاءت بصيغة غفور رحيم.
ونلاحظ أن المولى تعالى في الآية 235 من سورة البقرة التي ختمت بقوله تعالى غفور حليم جاءت الأفعال فيها بالمضارع، وهذا ليدل على أن هذه الأمور متجددة الحصول، ونحن نقع فيها، والبعض عليها الآن (تذكرونهن، تواعدوهن، تقولوا، تعزموا، يبلغ، يعلم، فاحذروه).
ولو تأملنا في كل الآيات التي خُتمت بقوله تعالى غفور حليم، نجد أن السياق فيها كان تحذيراً للذي لا يرتدع عن تجاوز حدود الله تعالى ولا يخاف بطشه سبحانه وتعالى.
آية (236):
*ما الفرق بين (حقاً على المحسنين) و(حقاً على المتقين)؟(الشيخ خالد الجندي)
الفرق بين قوله تعالى (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236))، وقوله تعالى (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)) في سورة البقرة.
الآية الأولى هي في حالة المرأة المعقود عليها، وطُلّقت قبل أن يتم الدخول بها، أو لم تُفرض لها فريضة، أي لم يحدد مهرها، أما الآية الثانية فهي في حالة المرأة التي عُقد عليه، ثم طُلّقت وقد تم الدخول بها.
ففي الحالة الأولى الرجل طلّق المرأة، لكنه لم يدخل بها، ولم يستفد منها، أو يتمتّع بها، ولم يحصل بينهما مسيس، فهو حين يدفع النفقة يكون هذا من باب الإحسان، والقرآن الكريم لم يحدد القدر، بل تركه مفتوحاً كلُ حسب سعته، لذا خُتمت الآية بقوله تعالى (حقاً على المحسنين)، بينما لو دخل عليها، واختلى بهاوحدث المسيس، وخدمته وأسعدته، ثم طلّقها فيدفع لها،ولولم يدفع لها سيدخل النار؛لذا ختمت الآية بـ(حقاً على المتقين) الذين يتّقون العذاب يوم القيامة، وهذا يدل على أن البناء القرآني متماسك في اللفظ.
وكلمة حقاّ تعني أنه حق حدده القرآن للمرأة، وليس لأحد أن يتجاوزه، ولا تقول المرأة لا أريده، إنما تأخذه وتتصدق به إن شاءت.
آية (237):
*(حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ (238) البقرة) اعترضت آيات أحكام الطلاق فما غاية هذا الاعتراض؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
لو نظرت إلى الآية قبلها لرأيت أنها ختمت بقوله تعالى (وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ (237)) وهذه دعوة من الله سبحانه وتعالى إلى خُلُق حميد، وهو العفو عن الحقوق، وبما أن النفس جُبِلت على ضرائب اللؤم، وجُبِلت على طبع الشُحّ – دلّنا الله تعالى على خُلُق ناجع، ووصف لنا دوائين: الأول دنيوي فقال (ولا تنسوا الفضل بينكم)، فأرشدنا إلى أن العفو يقرّب منك البعيد، ويصيّر عدوك صديقاً، والثاني دواء روحاني وهو الصلاة فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر.
آية (237):
*مامعنى (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح)؟(الشيخ خالد الجندي)
معنى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237))؟
هذه الآية في حالة طلاق الرجل للمرأة المعقود عليها، لكن لم يتم المسيس بها، وحُدد مهرها، فلها نصف المهر المسمّى، وهناك استثناء، وهو أن تعفو المرأة (إلا أن يعفون)، أما قوله تعالى (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) فاختلف فيه المفسرون، فقال بعضهم أن الذي بيده عقدة النكاح هو وليّ المرأة، أما البعض الآخر فقال أن الذي بيده عقدة النكاح هو الرجل المطلِّق، وهذا يوازن المعنى في الآية أكثر؛ لأن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح (وبدون إيجاب وقبول لا يكون هناك عقدة نكاح)، ومعنى أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح أو الزوج كما قلنا هو أن يعفو الزوج المطلِّق عن النصف الثاني من المهر المسمّى، ويعطي المرأة المطلَّقة كامل المهر، فيكون شهماً كريماً معها، والله تعالى سيكافئه على ذلك إن شاء الله.
والله تعالى يقول (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) فالقرآن انتصر لصالح الزوجة، فلو عفى الزوج يكون أفضل، فالخطاب في قوله (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) هو للمطلِّقين وليس للمطلقات، والأنسب أن يعفو الزوج إذا أراد أن يكون من الأتقياء يوم القيامة؛ لأن الزوج يعمل، وسيحصل على مال غيره، أما الزوجة فهي التي تحتاج لمن يعوّضها ويؤنسها، ويجبر خاطرها.
وكلمة العفو هي من الألفاظ المستحبة في الشريعة، وهي تعني ما زاد على الشيء، كما في قوله تعالى (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ)، أي أنفقوا من المال الزائد عن حاجتكم.
ولا تنسوا الفضل بينكم: الفضل: هو الزيادة أي لا تكونوا دقيقين في الحساب.
آية (238):
*قال تعالى (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) الآية تحث على الصلاة وقد توسطت آيات الطلاق والوفاة فما دلالة هذا؟( د.فاضل السامرائى)
أقول والله أعلم: أن المشكلات بين الزوجين، وأحداث الطلاق، أو الوفاة، قد تؤدي إلى أن يحيف أحد الزوجين على الآخر، وقد يؤدي هذا إلى ظلم الآخر، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأمر الله تعالى بالصلاة حتى لا يحيف أحدهما، أو يظلم الآخر، ويذكّره بالعبادة.
وقد ينتصر أحد الزوجين لنفسه فأمره الله تعالى بالصلاة حتى لا يقع في ذلك، ونذكر أن الله تعالى أمر بالصلاة في أحداث أكبر من ذلك، عند فقد الأمن، وفي حالة الخوف أمر تعالى بالصلاة أيضاً (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) النساء)، وكذلك الأمر بالصلاة بين آيات الطلاق له سببان، أولاً: حتى لا ينشغل الزوجان بالمشكلات العائلية عن الصلاة، فيتركوها، والثاني: لئلا يحيف أحدهما على الآخر.
*لماذا وردت آية الحفاظ على الصلاة بين آيات الطلاق؟(الشيخ خالد الجندي)
قال تعالى في سورة البقرة (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238))
العلماء وقفوا متعجبين، لماذا ذكرت الصلاة والحفاظ عليها بين آيات الأحوال الشخصية؟ والأقوال اختلفت بين:
أن الذي لا يحافظ على صلاته لن يحفظ زوجته، وهذه اشارة لكل أبٍ يتقدم لابنته خاطب أن يتحرى أنه لا يضيع الصلاة، أو رب العالمين من قلبه؛ لأنه بهذا يطمئن أن هذا الرجل لن يضيّع ابنته.
قال عمر بن الخطاب: إذا كان المرء للصلاة مضيّعاً فهو لغيرها أضيع. فمن ليس فيه خير لربّه فكيف يكون فيه خير لغيره؟
وبعض العلماء يقولون إنها جملة اعتراضية.
ولقد وردت آية الحثّ على الصلاة في سورة البقرة ثلاث مرات:
1. (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)) بين آيات خطاب بني اسرائيل.
2. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)) بين آيات تحويل القبلة.
3. (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)) بين آيات الأحوال الشخصية .
فلماذا يصرّ القرآن على وضع الصلاة بين هذه الآيات؟ هذا له معنى واحد، وهو أنه لن تقوم للإنسان علاقة بالله تعالى إلا عن طريق الصلاة، لأن الصلاة:
1. الصلاة تعلّم الانسان الانضباط، والله تعالى يريد أن يتعلم الناس الانضباط في حياتهم الزوجية، فلا قيام لهذا الانضباط إلا بالانضباط في الصلاة.
2. أُمِر الانسان بالمحافظة عليها، فالذي يحافظ عليها سيحافظ على زوجته.
3. الصلاة بركة تملأ المكان والعقل والجسد، والله تعالى يريد للجسدين المتقاربين أي الزوج والزوجة أن تعمّهما بركة الصلاة.
4. الصلاة صِلة بين العبد وربّه، وعقدة الزواج علاقة بين ثلاثة أطراف : الله تعالى والزوج والزوجة.
5. الصلاة فيها خشوع، والله تعالى يريد أن لا يتجبّر الزوج على زوجته.
6. الصلاة فيها خضوع، والله تعالى يريد من الزوجة أن تخضع لزوجها.
7. الصلاة فيها استغفار، والله تعالى يريد لكل من الزوجين أن يغفر للآخر.
فالصلاة إذًا فيها كل شيء، وحياة زوجية بلا صلاة لا خير فيها، ويجب أن تكون العلاقة بين الزوجين مبنية على الدين، والصلاة هي أساس الدين، وعلاقة بدون صلاة يعني علاقة بدون طهارة، وعلاقة فيها بُعد عن الله تعالى. وفي الحديث الشريف: ” رحِم الله امرأة قامت إلى زوجها، فأيقظته فتأبّى عليها، فنضحت وجهه بالماء، فباتا الليلة وقد غفر الله لهما”.
فيجب العودة إلى الله تعالى حتى تعود البركة على حياة الناس، والله تعالى في آية المحافظة على الصلاة يلفت نظرنا، ويرشد الأُسر إلى أنه من أراد أن يبارك الله تعالى في حياته فعليه بالمحافظة على الصلاة، وهل الذي يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أم الذي يمشي سوياً على صراط مستقيم؟ (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) الملك)
ولقد شُبّهت الصلاة بعمود الخيمة ” الصلاة عماد الدين” ، وفي رواية أخرى ” الصلاة عمود الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين” ، “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر” .
والعلماء انقسموا في حُكم تارك الصلاة، فمنهم من قال: من تركها متعمّداً منكراً لها فقد كفر، أما من تركها متكاسلاً فهو فاسق، وسواء كان فاسقاً أو كافراً فكلاهما في خطر، وعلى الانسان أن لا يسوّف ويبادر إلى الصلاة؛ لأننا بغيرها نكون بلا قيمة فهي التي تحفظنا.
جمع الصلوات (حافظوا على الصلوات) وأفردها (والصلاة الوسطى)، الصلاة أهم ركن ولها ثلاثة أحوال، وعلى هذه الأحوال يترتب العقاب:
شخص غير معترف بالصلاة حُكمه كافر، خارج عن المِلّة عقابه جهنم (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآَبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كِذَّابًا (28) النبأ).
شخص معترف بالصلاة، لكنه متكاسل عنها حُكمه فاسق أو عاصٍ، وعقابه في الآخرة سقر، وهو واد في جهنم (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) المدثر).
شخص يصلي ويسهو، ويصلي فرضاً ويترك آخر، أو يجمع كل الصلوات في وقت واحد، أو يؤديها متقطعة، عقابه في الآخرة ويل، وهو واد في جهنم (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الماعون).
فترك الصلاة عاقبته وخيمة، وأمره خطير جداً، والرسول لن يشفع يوم القيامة لتارك الصلاة، وإنما سيشفع لمن استحق الشفاعة، ولن تنفع تارك الصلاة شفاعة الشهداء والصديقين والصالحين (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)المدثر).
فعلى كل تارك للصلاة أن يبادر ويسارع بالتوبة، ويبتعد عن التسويف؛ لأن الأمر في منتهى الخطورة “اغتنموا خمساً قبل خمس: صحتك قبل مرضك، حياتك قبل موتك، فراغك قبل شغلك، شبابك قبل هرمك، دنياك قبل آخرتك” والناس يوم القيامة ستندم على ساعة مرت عليهم لم يذكروا الله تعالى، أو يقوموا بعبادة لله، أو يتنافسوا في طاعة الله، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)” ما من أحد مات إلا ندم، قالوا وما ندامته يا رسول الله؟ قال يندم المسيء على إساءته، ويندم المحسن على أنه لم يستزد من إحسانه”. ويقول تعالى في الحديث القدسي : ” يا ابن آدم خلقتك بيدي، وربّيتك بنعمتي، وأنت تهجرني وتعصيني، فإن هجرتني وعصيتني حلمت عليك حتى تتوب، وإن تبت إلي قبلتك، فإن قبلتك غفرت لك، فإن غفرت لك أدخلتك الجنة، وأنجيتك من النار، فمن أين تجد لك رباً مثلي، وأنا الغفور الرحيم”.
الذي لا يصلي لا يؤتمن على زوجته وعائلته وأولاده.
*ما دلالة قوله تعالى ( الصلاة الوسطى)؟(الشيخ خالد الجندي)
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) سورة البقرة آية 238،بلغ عدد تفسيرات العلماء لمعنى الصلاة الوسطى حوالي اثنين وثلاثين تفسيراً : منهم من قال: إنها صلاة العصر، ومنهم من قال الجمعة، ومنهم من قال أنها صلاة كانت مفروضة سابقاً، وهناك مدرستان في التفسير مدرسة أهل الفقهاء، ومدرسة أهل الحديث، فالفقهاء قالوا أنها صلاة الفجر مستندين إلى حديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها، وأهل الحديث يقولون إنها صلاة العصر مستندين إلى قول النبي (صلى الله عليه وسلم) في غزوة بني قريظة “شغلونا عن صلاتنا الوسطى” .
إنما يوجد رأي آخر يقول إن الصحابة لم يسألوا عن هذه الآية، فاعتبروا أن كل صلاة هي صلاة وسطى، فهؤلاء سمعوا وفهموا وطبّقوا بدون اعتراض ولا جدل، وبعض العلماء يقولون أنه بما أن عدد الصلوات في اليوم خمسة والله تعالى يقلّب الليل والنهار، أي أنه لا توجد نقطة ابتداء أو انتهاء كالدائرة، فتكون صلاة الفجر هي الوسطى بين العشاء والظهر (أي الليل والنهار)، والظهر وسطى بين طرفي النهار (الصبح والعصر)، والعصر وسطى بين وقتي الليل، والمغرب وسطى بين طرفي الليل، والعشاء وسطى.
هذا من حيث الترتيب، وبعض الناس قالوا وسطى من حيث الوصف، فهي تفيد الأفضلية والخيرية، والفضيلة هي وسط بيم رذيلتين، فالشجاعة فضيلة بين التهور والجُبن، والكرم فضيلة بين الإسراف، والبخل والتدين وسط بين الافراط والتفريط؛ ولهذا قال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، فالوسطية تركيز للفضيلة، فالصلاة الوسطى هي الصلاة الفاضلة.
وفريق آخر من العلماء قال: أنها صلاة أخفاها الله تعالى لفضيلة خاصة تتحرك بين الصلوات، حرص الله تعالى على إخفائها حتى يتحرك الناس ويحافظوا على الصلوات كلها، كما أخفى تعالى اسمه الأعظم حتى لا يترك الناس باقي أسمائه الحسنى، وكما أخفى ليلة القدر حتى يجتهد الناس في كل ليالي رمضان، وكما أخفى ساعة الاستجابة في يوم الجمعة، حتى يتحرك الناس بالعبادة والدعاء طوال اليوم، فأخفى الله تعالى هذه الصلاة لأنها تنتقل وتتعدد بين الأوقات، فقد تكون الصبح اليوم، والعصر في الغد، وهكذا حتى ينتظم الانسان في صلاته كلها فيكون من السعداء والعتقاء من النار يوم القيامة.
فريق آخر قال: إن الآية فيها جمع وإفراد، فهي تدل على الفروض (الصلاة) والنوافل (الصلوات) .
آية (239):
*ما الفرق بين إستعمال إذا وإن فى قوله تعالى (فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (239) البقرة)؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تأمل هذا اللفظ الإلهي، وانظر كيف يسوق لك الأمان والاطمئنان، ألم تر كيف جاء ربنا بالأمن بـ (إذا) فقال (فإذا أمنتم) وجاء بالخوف بـ (إن) (فإن خفتم)؟ فهذه بشارة لنا نحن المسلمين بأن النصر والأمن سيكون لنا، مهما طال أمر الفزع والخوف، ولكن من أين نفهم هذا المعنى؟ نفهمه من استعمال (إن) و(إذا) في الآية. فـ (إن) تستعمل في الشك والتقليل، فأدخلها ربنا تعالى على الخوف، وتستعمل (إذا) لليقين والقطع، فاستعملها ربنا مع الأمن.
آية (243):
* قال تعالى (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) فهل هناك قرض سيئ؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
انظر كيف وصف الله سبحانه وتعالى القرض بالحسن؛ لأن الله تعالى مطّلع على القلوب، ولا يقبل الله تعالى إلا المال الحلال الصرف، ولا يرضى بالمال إلا إذا كان نقياً خالصاً من شوائب الرياء والمنّ.
*في بعض الآيات الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بصيغة (ألم تر) والرسول لم يرها فما دلالة هذا الخطاب؟( د.فاضل السامرائى)
(ألم تر) في اللغة العربية تأتي بمعنيين. الأول: السؤال عن الرؤية البصرية والرؤية القلبية، ألم تر خالداً اليوم؟ ألم تر الأمر كما أراه؟ هذا معنى، والمعنى الآخر ألم تعلم؟ ألم ينته علمك؟ للتعجيب. هذه الصيغة تأتي للتعجيب سواء رآه أو لم يسبق له رؤيته، إذن هي للتعجيب مثل (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ (19) الملك) ألم تعجب من هذا؟ ألم تعجب مما يفعله الرحمن؟ هم يرون. (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) الشعراء) هذه رؤيا مشاهدة لكن فيها تعجيب (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ (243) البقرة) ألم ينته علمك؟ ألم تسمع منهم؟ ألا تتعجب من أولئك؟ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ (258)البقرة) اقرأ الحوار بينهم، ألا تعجب من هذا المتكبر؟ وكيف كان يحاوره إبراهيم؟. هذا التركيب في العربية له دلالتان (ألم تر إلى) إما الرؤية البصرية أو القلبية، وإما ألم ينته علمك؟ ألم تعجب؟ يعجّبه من الحالة التي يذكرها (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى (246) البقرة) هي للتعجيب، والقصد منها التعجيب، يلفت نظر السامع الذي يحدثه والمخاطب إلى أمر يدعو إلى التأمل والعجب من الحالة، أو من قدرة الله، أو ما إلى ذلك.
* ما الفرق بين آلاف وألوف (وهم ألوف) في القرآن؟( د.فاضل السامرائى)
آلاف من أوزان القِلّة، جمع قلة، (أفعال) من أوزان القِلّة: أفعُل، أفعال، أفعِلة، فِعلة. من أوزان القِلّة وألوف من الكثرة؛ لذلك قال ربنا سبحانه وتعالى (أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) آل عمران) لأن القلة من الثلاثة إلى العشرة، فإن تجاوزها دخل في الكثرة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ (243) البقرة) قال بعضهم قطعاً أكثر من عشرة آلاف، وقسم أوصلهم إلى أربعين ألفاً. آلاف إلى حد العشرة جمع قلة، ألوف ما تجاوز العشرة، وهي جمع كثرة.
آية (243):
*ما الفرق بين (ولكن أكثر الناس لا يشكرون)و(ولكن أكثرهم لا يشكرون)؟ (د.أحمد الكبيسى)
رب العالمين دائماً يتكلم عن نعمه وأفضاله على الناس (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243) البقرة)، ومرة يقول (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ﴿60﴾ يونس) ، في حياتنا اليومية عندما يكون هنالك شخص من أقاربك المحترمين أبيك عمك خالك، تحترمه أو تحبه، أوهو ذو فضلٍ عليك، فتقول هذا عمي فلان، أو جاء عمي فلان، وراح عمي فلان، فأكثر من مرة تذكر اسمه.
وإذا كنت تعرف شخصا مهينا، أو تحتقره، أو أنه ممن لا شأن لهم، تقول: والله هذا راح، وهذا جاء، فتشير له بعدم اكتراث. فرب العالمين أحياناً حين يتكلم عن عباده الصالحين يقول (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ) صحيح أنهم لا يشكرون، ولكنهم عباده، مؤمنون بالله وموحدون، طيبون كرماء، لكن عندهم أخطاء، وطبيعة شكرهم لله ليست واضحة، عبادة الشكر من أعظم العبادات، وقليلٌ منا من يحسنها، الشكر هذا باب هائل، الله قال (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴿13﴾ سبأ) وقليلٌ، فأنت لست من القليل.
رب العالمين يقول (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ﴿243﴾ البقرة) هؤلاء ناس مسلمون مؤمنون موحدون. حينئذٍ قال (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ)، وهؤلاء ناس، وكلمة ناس عند العرب أي وجهاء الناس؛ ولهذا لما صارت معركة بدر وقتل المسلمون وجهاء قريش، فواحد من المسلمين فرح بهذا الانتصار العظيم، قال: لقد ذبحنا خرافاً، فالنبي قال له: يا بني إنهم الناس، فهؤلاء وجهاء القوم.
فرب العالمين لما تكلم عن عباده الضالين، ذكر لهم أخطاء، لكنهم عباده، فهم مؤمنون موحدون لله عز وجل كحالنا جميعاً، لكن الله إذا تكلم عن ناس كفرة قال (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ)، ومنهم هؤلاء المشركون.
يعرض الله لكلام فرعون عن موسى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ﴿52﴾ الزخرف) موسى من أولي العزم، يقول فرعون عنه (أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) وحتى إبليس قال (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ﴿62﴾ الإسراء) عن آدم، فكلمة هذا وهم تستخدم للشخص الذي لا يعجبك، يعني تستهين به.
فحين كان الحديث عمن يحبهم الله قال (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) هؤلاء لا يشكرون، ولكن الله يحبهم، لأنهم موحدون، أما إذا قال (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) فهؤلاء الناس لا يريد أن يذكرهم، وهذا شأن العباد جميعاً في مثل هذه القضية
آية (245):
*في سورة البقرة قال تعالى (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)) وفى الحديد قال (فيضاعفه له وله أجر كريم) واختلفت خاتمة الآيات فما الفرق بين الآيتين؟( د.فاضل السامرائى)
أولاً في سورة البقرة قال تعالى (فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)، وفي الحديد ذكر المضاعفة مع الأجر (فيضاعفه له وله أجر كريم)، زاد هنا بالأجر الكريم، وهو الحسن البالغ الجودة.
في البقرة لم يقل هكذا، وقال فقط (أضعافاً كثيرة)، هنا مكان الأضعاف الكثيرة، قال (فيضاعفه له وله أجر كريم) هذه زيادة، الفرق في البقرة أنه ذكر الكمّ، ولم يذكر الكيف (أضعافاً كثيرة)، وفي الحديد ذكر الكمّ (فيضاعفه له)، وذكر الكيف (وله أجر كريم) ذكر أمرين.
وذكرنا بأن سورة الحديد مطبوعة بطابع الإيمان والإنفاق، هذا أمر، والأمر الآخر أنه قال في سورة البقرة (وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) يقبض معناه يضيّق الرزق ويمسك، هذا في الدنيا، محتمل إذًا أن ينال الشخص قبض أو بسط، صاحب المال محتمل أن يصيبه قبض، فهذا الذي يصيبه القبض والتضييق في الرزق يحتاج إلى المال، ولذلك حين قال تعالى يقبض ويبسط فهذا محتاج إلى المال، فقال (فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)، فأنت أنفِق حتى لا يصيبك القبض وحتى يأتيك البسط، هذا من باب تبصيره بالأمر يقول له: أنفِق حتى لا يصيبك القبض وحتى يُبسط لك، فقال (فيضاعفه له أضعافاً كثيرة) لأنه يحتاج إلى المال.
أما في سورة الحديد فليس فيها تهديد بالقبض، فقال تعالى (فيضاعفه له وله أجر كريم). وفي سورة البقرة قال تعالى في آية أخرى (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) البقرة) وهذا مقام تكثير، فناسب التكثير التكثير في السورة.
*ما فائدة حسناً بعد قرضاً؟( د.فاضل السامرائى)
ذكرنا سابقاً القرض الحسن، وللعِلم إنه لم يذكر القرض إلا وصفه بالحسن في جميع القرآن، ذكرنا في حينها ما المقصود بالقرض الحسن: في الشخص: أن يكون من دون منٍّ، عن طيب نفس وبشاشة وجه، وفي المال: ينبغي أن يكون في المال الحلال الطيب الكريم، وأن لا يبتغي الخبيث (وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ (267) البقرة)، ثم في الجهة أن يتحرى أفضل الجهات، هذا القرض الحسن.
القرض الحسن يكون له صفات في المقرِض، وصفات في المال، وصفات في الجهة.
هذا هو القرض الحسن يكون من كريم المال وحلاله، ويكون من دون منّ، ويكون في أفضل الجهات التي فيها نفع للمسلمين، ولذلك لا تجده في القرآن إلا وصفه بالحسن، أيضاً لا تجد القرض إلا لله، الصدقة أطلقها، لكن القرض لم يأت إلا قرضاً حسناً، ومع الله تعالى (أقرضوا الله قرضاً حسناً) حتى يفرق بين القرض الذي هو في المعاملات، والقرض الذي هو عبادة مع الله.
والإقراض قد يكون بين الناس في المعاملات، وهنا المقصود العبادات، ولذلك دائماً يقول وأقرضوا الله، لو قال أقرضوا لم تختص بالعبادة، وإنما بالمعاملة بين الناس، ولذلك الصدقة دائماً عبادة، أما الإقراض فليس دائماً عبادة. ولذلك في القرآن هنالك أمران: أنه وصف القرض بالحسن، والآخر أنه لله تعالى. هذان الأمران في جميع القرآن، لم يرد الإقراض إلا بهذين، أنه حسن، وأنه لله تعالى فقط، ولهذا ثوابه من الله عز وجل يضاعف له.
* ما اللمسة البيانية في قوله تعالى (قرضاً حسناً) ؟(د.فاضل السامرائى)
قسم ذهب إلى أن الصدقة غير القرض، قسم قال: القرض هو التطوع، والصدقة في الواجب.
ربنا تعالى سمّى الزكاة صدقة، لكنها هي ليست مقصورة على الزكاة، وإنما هي عبادة عامة (المال)، ومنها الزكاة. لكن قسما من الصدقة هو فروض كصدقة الفطر، وبعض الصدقات كالكفارات، هذه فروض، والزكاة فرض. فقسم قال: الإقراض المذكور هو من باب التطوع، ولا يدخل في باب الفروض.
وقسم قال: القرض أعمّ من الصدقة يدخل في الفروض وغير الفروض، فإذا كان الأمر كذلك، فهو من باب عطف العام على الخاص.
وقسم يقول ليس المراد تطوع الصدقة بل هو في الفروض، والقرض هو في التطوع.
والذي يبدو لي – والله أعلم- أن القرض في التطوع، ويختلف عن الصدقة بدليل أن القرآن الكريم يذكر القرض الحسن بعد الزكاة في مواطن، وقد يأمر به بعد الأمر بالزكاة كما في قوله (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا (12) المائدة) ذكر الزكاة ثم ذكر القرض الحسن، فالزكاة فرض، فقال بعدها (وأقرضتم الله).
وفي آية أخرى قال تعالى (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا (20) المزمل) هذا أمر.
يبدو لي أنه لما عطفها على الزكاة، والزكاة فرض، صار القرض من باب التطوع، من باب المندوبات، وليس كل المندوبات فروضا، لكننا علمنا أن الزكاة فرض، وعطفها على الزكاة، فلا تأخذ نفس الحكم؛ لأنه ليس بالضرورة أن يأخذ المعطوف نفس الحكم خاصة في المندوبات، فقد يكون عطف مندوبا على فرض، والمُقرِض ليس ملزماً بالإقراض.
ثم تسميته (قرضا): القرض في اللغة إعطاء مال تحديداً، ويتوقع استرداده، أما الزكاة فلا تُردّ.
لما قال المصدقين والمصدقات الصدقة لا تُردّ، بينما المقرِض عندما يُقرِض شخصاً المفروض أن يرد عليه قرضه، لذلك لما قال تعالى (من ذا الذي يقرض الله) رب العالمين سيرده عليه بأضعاف كثيرة (فيضاعفه له).
وإذا أردت الاقتراض من أحد فهو ليس ملزماً بإقراضك، قال ربنا (قرض) ومعناه أنه ليس ملزماً، معناه أنه من باب التطوع، وبخلاف التصدق، لأن منه ما يلزم.
وقال تعالى في أكثر من موضع (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) كأنه من باب الترغيب. فتسميته قرضا توحي والله أعلم بأنه ليس من باب الفروض، وحتى طبيعة قوله تعالى (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) من باب الترغيب، وليس من باب الإلزام.
وبالنسبة لإعراب (قرضاً) أحد أمرين: إذا كان المقصود مالا تحديداً يكون مفعولاً به: (أقرضتك مالاً) ، وإذا كان مصدراً فيكون مفعولاً مطلقاً: أقرضتك إقراضاً حسناً. المصدر أقرض إقراضاً وليس قرضاً، والمسألة أن قرضا مصدر قَرَض وأقرض كلاهما بمعنى واحد ثلاثي ورباعي، وأحياناً نأتي بالفعل ونأتي بمصدر فعل آخر كما في قوله تعالى (وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) نوح)، لم يقل إنباتاً وقال في مريم عليها السلام (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا (37) آل عمران) المفروض أن يقال إنباتاً، لكن هذا يكون لغرض. فإذا كان الفعلان بمعنى واحد قرض وأقرض أو حتى لم يكونا بمعنى واحد، يكون لغرض آخر مثل قوله تعالى (وتبتل إليه تبتيلا) المفروض تبتّلاً. تبتيل مصدر بتّل وبتل غير تبتّل تماماً، والمعنى مختلف، فلكي يجمع المعنيين يأتي بالفعل للدلالة، ويأتي بالمصدر من فعل آخر من دلالة أخرى، فيجمع بينهما حتى يجمع المعنيين، فبدل أن يقول: وتبتل إليه تبتلاً، وبتّل نفسك إليه تبتيلاً، يقول (وتبتل إليه تبتيلاً) فيجمع المعنيين، وهذا من أعجب الإيجاز. وفي مريم قال (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا (37) آل عمران) لم يقل إنباتاً لأنه لو قال إنباتاً، فالله تعالى أنبتها، فالمنبِت هو الله تعالى لم يجعل لها فضلاً، لكن أنبتها فنبتت نباتاً حسناً جعل لها من معدنها الكريم قبول هذا النبات، وأنبتها فنبتت نباتاً حسناً، أي طاوعت هذا الإنبات، فجعل لها قبولا، وجعل لها فضلا في معدنها الكريم.
*ما الفرق بين خواتيم الآيتين (وإليه ترجعون) (وله أجر كريم)؟( د.فاضل السامرائى)
في سورة البقرة قال تعالى (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)) وهنا قال (وله أجر كريم). أصلاً سورة البقرة واقعة في سياق القتال والموت (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (243))، بعدها قال (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)) الإقراض معلّق على نية تجهيز الجيوش (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ (246))، فالآيات في الموت والقتال، والموت والقتال مظنّة الرجوع إلى الله تعالى، فقال (وإليه ترجعون) فهي مناسبة للموت والقتال.
أما في سورة الحديد فالكلام في الإنفاق، ولذا قال (وله أجر كريم).
آية (246):
*(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ (246) البقرة) لِمَ قال ربنا الملأ عن بني إسرائيل ولم يقل إلى قوم بني إسرائيل أو الجمع من بني إسرائيل؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
هذا من بديع القرآن واستعمالاته المعجزة، ولو عدنا إلى معنى الملأ، ومعنى القوم أو الجمع، لعلمنا سبب اختيار هذا اللفظ دون غيره، فنحن نعلم أن بني إسرائيل كانوا خارجين على حدود الله، ولم يشذ أحد منهم عن ذلك، فناسب هذا الاجتماع المطلق على الرأي استعمال كلمة الملأ التي تعني الجماعة الذين أمرهم واحد، ألسنا نقول تمالأ القوم عندما نقصد جماعة اتفقت على شيء؟ وهذا المعنى لا تفيده إلا كلمة الملأ.
آية (248):
*(إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿248﴾ البقرة) ما معنى الآية؟(د.أحمد الكبيسى)
رب العالمين سبحانه وتعالى جعل كل سعد وخير بني إسرائيل في تابوت، صندوق كبير مستطيل فيه آثار موسى وهارون، عمامة هذا، ونعال ذاك، والعصا والشعر والأظافر، وكثير من الأمور في تابوت، أي في صندوق كبير، وكان بنو إسرائيل يتبرّكون بهذا التابوت، وكلما حاربوا أعداءهم من الوثنيين والملحدين قدموا التابوت بين أيدي الجيش فينتصر الجيش. ثم استطاعت العماليق، وهم أعداؤهم أن يسرقوا هذا التابوت خمسمائة سنة، وظل العماليق يُشبِعون بني إسرائيل ضرباً وانتصاراً وخسارة وهزيمة؛ لأن التابوت ذهب، حتى أرسل الله لهم نبياً وقال (إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿248﴾ البقرة) فبهذا جاءهم هذا النبي، وتلك كانت معجزته، فبنو إسرائيل لا يصدقون بسهولة (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ﴿247﴾ البقرة) قالوا ما هذا؟ نحن لا نقبل به، قال لا بأس معجزته أن الله سوف يأتي بالتابوت بين يديه، قالوا مستحيل، وفعلاً جاءت الملائكة تحمله، وما كانوا يرون الملائكة، طالوت هو الذي كان يراهم، فكانت الملائكة تحمل التابوت، حتى وضعوه بين يدي طالوت، فآمن به بنو إسرائيل، وبقي بنو إسرائيل ينتصرون على العماليق وغيرهم ببركة هذه الآثار، آثار موسى كما هو الأمر في سورة البقرة.
ولأهمية الآثار أقول لك إن كل من ذهب إلى الحج فيما مضى، ورأى آثار النبي صلى الله عليه وسلم، أو آثار المواقع، أو ذهب إلى بدر، أو إلى أحد – والله يتضاعف إيمانه أضعافاً مضاعفة إلى حد أنه يبكي، بينما الآن عندما تذهب إلى أي مكان من هذه الآثار تجدها مُسِخت بزعم الخوف على الناس من الشرك، ورب العالمين يقول (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ) انظر خيراً وشراً، يقول (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا)، وحينئذٍ هذه الآثار للخير وللشر، للشر لكي تحمد الله على العافية، وللخير لكي تحمد الله على الإيمان، من أجل هذا كانت زيارة الآثار عبادة عظيمة.
آية (248):
*لماذاوردت كلمة بقيت في سورة البقرة مكتوبة بالتاء (وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فهل جاء لها رسم بالهاء؟(د.حسام النعيمى)
كلمة (بقية) وردت في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم: في سورة البقرة (وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) هذه رسمت بالتاء المربوطة كما يقال، في سورة هود (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116)) رسمت بالتاء المربوطة، وفي السورة نفسها (بَقِيَّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86)) وردت بالتاء المفتوحة. ومثلها كلمة (رحمت) بالتاء الطويلة، وكتبت (رحمة) بالتاء المربوطة. هذا راجع إلى مسألة رسم المصحف.
خط المصحف توقيفى، نحن لو تأملنا في هذا المرسوم، وفي اختلافاته ليس من السهل أن نجد ضابطاً لذلك، ولهذا نقول الراجح أنه كان بسبب عدم استقرار الخط. فيكتبونها مرة بالتاء ومرة يكتبونها بالهاء. وهناك من يقول هناك أسرار ونحن لا نعرف هذه الأسرار.
آية (249):
*ما دلالة الظنّ في قوله تعالى (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ )؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ {249}) الظن عند أهل اللغة درجات، ويترفع إلى درجة اليقين، والظن علم ما لم يُعاين (أي علم ما لا تبصره) لا يمكن أن نقول مثلاً: ظننت أن الحائط… فما كان متيقناً لا يظن، فالظنّ هنا أبلغ من اليقين، هنا يوقن باليوم الآخر، لكن هل يمكن أن يوقن بأن يلقى ربه على ما هو عليه من إيمان. بالطبع لا يمكن.
* ما اللمسة البيانية في قوله تعالى في سورة البقرة (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ولماذا جاءت صيغة الطعام مع النهر الذي فيه شراب؟( د.فاضل السامرائى)
أولاً ما معنى طعِم؟ لها في اللغة دلالتان، فتأتي بمعنى أكل أو ذاق، نقول عديم الطعم أي المذاق.
ليس بالضرورة أن تكون طعِم بمعنى أكل؛ لأنها كما قلنا تأتي بمعنى ذاق، وقوله تعالى (فمن لم يطعمه) لا تعني بالضرورة أنه أكل، لكن لماذا اختار: ومن لم يطعمه، ولم يقل ومن لم يشربه؟
قال تعالى (فمن شرب منه فإنه مني) لأن الماء قد يُطعم إذا كان مع شيء يُمضغ: شيء تمضغه فتشرب ماءً، فأصبح يُطعم الآن، فهذا ممنوع؛ لأنه لو قال لم يشربه جاز أن يطعمه مع شيء آخر يعني يأكلون شيئاً، ويمضغون فيشربون الماء، وبهذا يكون انتفى الشرب، لكن حصل الطعم، فأراد تعالى أن ينفي هذه المسألة.
(فمن شرب منه فليس مني): شراب فقط بدون طعام كما نشرب الماء.
(لم يطعمه): لو قال لم يشربه جاز له أن يطعمه، فأراد أن ينفي القليل، وبالتالي ينفي الكثير.
إلا من اغترف غرفة بيده: هذه استثناها (غرفة بيده)، ولو قال يطعمه لم تستثن هذه فيكون له ما يشاء. لكن ألا تدخل هذه في نطاق الطعام؟ إنه يطعم الماء ليتذوقه، الآن تذوقه بهذا القدر، فليس له الزيادة التي أباحها الله فيه، ولو قال لم يطعمه اتّسع القدر ليأكل مع الطعام.
* ما دلالة استخدام (نَهَر) في الآية (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ (249) البقرة) ولم يقل نهْر؟( د.فاضل السامرائى)
هما لغتان نهَر ونهْر، والقرآن استعمل نَهَر، ولم يستعمل نَهْر أبداً. والنَهَر جمع أنهار، ويستعمل أحياناً الجنس الواحد على الكثير، النَهَر واحد الأنهار، والنهْر واحد الأنهار أيضاً.
* ما الفرق بين الطاقة والقِبَل (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ (249) البقرة) و (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا (37) النمل)؟( د.فاضل السامرائى)
الطاقة القدرة، والقِبَل القدرة على المقابلة والمجازاة على شيء، تقول أنا لا قِبَل لي بكذا، ولذلك (لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا) أي لا قدرة لهم عليها، لا قدرة لهم على المقابلة، بينما هم أصحاب قوة. (لا قبل لهم بها) هذا كلام سليمان، جماعة بلقيس قالوا (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ (33)) أي عندهم قوة، وعندهم بأس في الحرب يستطيعون المقابلة، (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا) أي لا يستطيعون أن يقابلونا من البداية.
أما في الثانية (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ) أي ليس عندنا قوة ولا قدرة أصلاً، الأولون قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده؛ لأنهم اصلاً ليس عندهم قوة.
*ما الفرق بين الظن واليقين؟وما دلالة (يظنون) فى الآية؟ (د.فاضل السامرائى)
اليقين يرتقي إلى درجة العلم، نذكر مثلاً في القرآن الكريم (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) الحاقة) هل كان شاكّاً؟ لا. (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ (249) البقرة) يظنون: يعني موقنون بلقاء الله تعالى. فالظنّ درجات، هو هكذا يفتري من دون أي دليل: يظن، ثم يقوى بحسب الأدلة إلى أن يصل إلى اليقين، لكن أهل اللغة يقولون إن الظن هو علم ما لم يُبصر، فلا يقول ظننت الحائط مبنياً، الأشياء التي تُرى وتُبصر لا يقال ظنّ، الظن علم ما لم يُبصر، أنت توقن لكن ليست الأشياء المبصَرة ، تقول أظن أن وراء الحائط فلانا، هذا أمر آخر يجوز فيه الظن لكن الشيء تبصره وتقول أظنه، هذا لا يصح؛ ولذلك قالوا: الظن درجات حتى يصل إلى اليقين.
آية (250):
*قال تعالى (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) البقرة) تقول أفرغت الماء في الإناء إذا صببته فلِمَ عبّر ربنا سبحانه وتعالى عن الصبر بالإفراغ فقال (أفرغ علينا صبراً) ولم يقل صبِّرنا أو اجعلنا صابرين؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
إن التعبير عن طلب الصبر بقوله (أفرغ علينا صبراً) فيه إبداع وجمال ساحر؛ لأن إفراغ الصبر يدل على المبالغة في حمل الداعي لصفة الصبر؛ وذلك أن الإفراغ معناه الصبّ، وإذا صببت الشيء أو أفرغته فقد ملأت المفرَغ فيه، وإذا أُفرِغ الصبر في قلوب المؤمنين الداعين، فهذا يعني أن القلوب قد ملئت صبراً حتى غدت وعاءً له.
آية (254):
*ما دلالة الضمير فى قوله تعالى (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) البقرة)؟ (ورتل القرآن ترتيلاً)
انظر إلى هذا الأسلوب القرآني، فقد قصر ربنا تعالى صفة الظلم على الكافر، فالكفر والظلم متلازمان، ألم تر كيف فصل بين المبتدأ والخبر بالضمير (هم) مع أن حذف هذا الضمير لا يخل بالمعنى، فلو قال والكافرون ظالمون لكان المعنى تاماً، لكن ذكر الضمير (هم) أفاد حصر الظلم على الكافرين، أي الكافرون هم الظالمون حصراً
* لمسات بيانية في آية الكرسي 🙁
*من برنامج ورتل القرآن ترتيلاً:
(مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (255) البقرة) تأمل هذا الأسلوب في الاستفهام (من ذا) إنه استفهام لكنه خرج إلى معنى الإنكار والنفي، وكأن الله تعالى يريد أن يخبرنا عن شرف ومكانة الشافع عند الله تعالى وهو محمد (صلى الله عليه وسلم) فقال (إلا بإذنه) فلا أحد يشفع عند الله بحق الله، ولكن يشفع من خصّه الله تعالى بهذا الإذن، كرامة ما بعدها كرامة.
(وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء (255) البقرة) قال تعالى (ولا يحيطون بشيء من علمه) ولم يقل ولا يعلمون شيئاً من علمه؛ لأن الإحاطة تقتضي الاحتواء على جميع أطراف الشيء بحيث لا يشذّ منه جزء من أوله ولا آخره، فأراد ربنا أن يصور لنا قصر علمنا وضعف مداركنا، فنحن قد نعلم شيئاً كان مجهولاً بالأمس، ولكننا لا نستطيع أن نحيط بكل ما يلزم عنه، ولا نقدر على إدراك كل ما له به صلة، ولذلك فإن علومنا قابلة للتبديل والتعديل. وانظر أيضاً إلى قوله تعالى (بشيء من علمه)، ولم يقل ولا يحيطون بعلمه، وهذا مزيد من الدقة في تصغير معارفنا وعلومنا.
* لمسات بيانية في آية الكرسي :(د.فاضل السامرائى)
“اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ”
آية الكرسي هي سيّدة آي القرآن الكريم. بدأت الآية بالتوحيد ونفي الشرك، وهو المطلب الأول للعقيدة عن طريق الإخبار عن الله، بدأ الإخبار عن الذات الإلهية، ونلاحظ أن كل جملة في هذه الآية يصح أن تكون خبراً للمبتدأ، (الله)؛ لآن كل جملة فيها ضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى: الله لا تأخذه سنة ولا نوم، الله له ما في السموات وما في الأرض، الله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه، الله يعلم مابين أيديهم وما خلفهم، الله لا يحيطون بعلمه إلا بما شاء، الله وسع كرسيّه السموات والأرض، الله لا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم.
“اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ”الحيّ معرّفة والقيّوم معرّفة، والحيّ هو الكامل الاتصاف بالحياة، ولم لم يقل حيّ؟ لأنها تفيد أنه من جملة الأحياء، فالتعريف بـ(ال) هو دلالة على الكمال والقصر؛ لأن ما سواه يصيبه الموت، والتعريف قد يأتي بالكمال والقصر، فالله له الكمال في الحياة، وقصراً فكل من عداه يجوز عليه الموت، وكل ما عداه يجوز عليه الموت، وهو الذي يفيض على الخلق بالحياة، فالله هو الحيّ لا حيّ سواه على الحقيقة؛ لآن من سواه يجوز عليه الموت.
القيّوم: من صيغ المبالغة (على وزن فيعول وهي ليست من الأوزان المشهورة) وهي صيغة المبالغة من القيام، ومن معانيها القائم في تدبير أمر خلقه، في إنشائهم وتدبيرهم، ومن معانيها القائم على كل شيء ، ومن معانيها الذي لا ينعس ولا ينام؛ لأنه إذا نعس أو نام لا يكون قيّوماً، ومن معانيها القائم بذاته، وهو القيّوم جاء بصيغة التعريف؛ لأنه لا قيّوم سواه على الأرض حصراً.
“لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ”سنة هي النعاس الذي يتقدم النوم، ولهذا جاءت في ترتيب الآية قبل النوم، وهذا ما يعرف بتقديم السبق، فهو سبحانه لا يأخذه نعاس، أو ما يتقدم النوم من الفتور او النوم، والمتعارف عليه أن يأتي النعاس ثم ينام الإنسان. ولم يقل سبحانه لا (تأخذه سنة ونوم) أو (سنة أو نوم) ففي قوله سنة ولا نوم ينفيهما سواءً اجتمعا أو افترقا، لكن لو قال سبحانه سنة ونوم، فإنه ينفي الجمع، ولا ينفي الإفراد، فقد تأخذه سنة دون النوم، أو يأخذه النوم دون السنة.
“لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ”دلالة (ما): ما تفيد ذوات غير العاقل وصفات العقلاء، إذًا لمّا قال (له ما) جمع العقلاء وغيرهم، ولو قال (من) لخصّ العقلاء. فـ(ما) أشمل وعلى سبيل الإحاطة. قال (ما في السموات وما في الأرض) أولاً بقصد الإحاطة والشمول، وثانياً قدّم الجار والمجرور على المبتدأ (له ما في السموات) لإفادة القصر،أي أن ذلك له حصراً لا شريك له في الملك (ما في السموات والأرض ملكه حصراُ قصراً فنفى الشرك). وجاء ترتيب (له ما في السموات وما في الأرض) بعد (الحيّ القيّوم) لدلالة خاصة: فهي تدلّ على أنه قيوم على ملكه الذي لا يشاركه فيه أحد غيره، وهناك فرق بين من يقوم على ملكه، ومن يقوم على ملك غيره، فهذا الأخير قد يغفل عن ملك غيره، أما الذي يقوم على ملكه فلا يغفل ولا ينام، ولا تأخذه سنة ولا نوم، سبحانه. فله كمال القيومية، وفي قوله (له ما في السموات وما في الأرض) إفادة التخصيص، فهو لا يترك شيئاً في السموات والأرض إلا هو قائم عليه سبحانه.
* ما دلالة استعمال صيغة المثنى للسموات والأرض في آية الكرسي؟
الكلام عن السموات والأرض بالمثنى؛ لأنه جعل السموات كتلة واحدة، والأرض كتلة واحدة، فيتحدث عنهما بالمثنى. لأنهما مجموعتان.
“مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ”دلالة واضحة على تمام ملكوت الله وكبريائه، وأن أحداً لا يملك أن يتكلم إلا بإذنه، ولا يتقدم إلا بإذنه مصداقاً، لقوله تعالى: (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) هذا الجزء من الآية والجزء الذي قبلها (له ما في السموات وما في الأرض) يدل على ملكه وحكمه في الدنيا والآخرة؛ لأنه لمّا قال (له ما في السموات وما في الأرض) شمل ما في الدنيا، وفي قوله (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) هذا في الآخرة، فدلّ هذا على ملكوته في الدنيا والآخرة، وأخرجه مخرج الإستفهام الإنكاري؛ لأنه أقوى من النفي.
فدلّ هذا على أنه حيّ قيّوم، كيف؟ لأن الذي يَستشفع عنده حيّ، والذي لا يستطيع أحد أن يتقدم إلا بإذنه يجعله قائما بأمر خلقه، وكلها تؤكد معنى أنه الحيّ القيّوم.
من ذا: فيها احتمالان كما يذكر أهل النحو: فقد تكون كلمة واحدة بمعنى (من) استفهامية لكن (من ذا) أقوى من (من) لزيادة مبناها (يقال في النحو: زيادة المبنى زيادة في المعنى)، فقد نقول من حضر ، ومن ذا حضر؟
(من ذا) وقد تكون كلمتان (من) مع اسم الإشارة ذا (من هذا) يقال : من ذا الواقف؟ من الواقف؟ ومن هذا الواقف؟ فـ (من ذا الذي) تأتي بالمعنيين (من الذي) و(من هذا الذي) باعتبار ذا اسم إشارة، فجمع المعنيين معاً.
في سورة الملك قوله: (أمّن هذا الذي هو جند لكم) هذا مكونة من (هـا) للتنبيه والتوكيد و(ذا) اسم الإشارة وكذلك (هؤلاء) هي عبارة عن (هـا) و(أولاء) . فالهاء تفيد التنبيه والتوكيد، فإذا كان الأمر لا يدعو إليها لا يأتي بها. فلنستعرض سياق الآيات في سورة الملك مقابل آية الكرسي: آيات سورة الملك في مقام تحدٍّ فهو أشد وأقوى من سياق آية الكرسي؛ لأن آية سورة الملك هي في خطاب الكافرين، أما آية الكرسي فهي في سياق المؤمنين ومقامها في الشفاعة، والشفيع هو طالب حاجة يرجو قضاءها، ويعلم أن الأمر ليس بيده، وإنما بيد من هو أعلى منه، أما آية سورة الملك فهي في مقام الندّ، وليس مقام شفاعة؛ ولذلك جاء بـ(ها) التنبيه للاستخفاف بالشخص الذي ينصر من دون الرحمن (من هو الذي ينصر من دون الرحمن) وهذا ليس مقام آية الكرسي. والأمر الآخر أن التعبير في آية الكرسي اكتسب معنيين: قوة الاستفهام والإشارة، بينما آية الملك دلت على الإشارة فقط، ولو قال من الذي لفاتت قوة الإشارة، ولا يوجد تعبير آخر أقوى من (من ذا) لكسب المعنيين، قوة الإستفهام والإشارة معاً، بمعنى (من الذي يشفع، ومن هذا الذي يشفع).
“يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ”يعلم ما أمامهم مستقبلاً وما وراءهم، والمقصود إحاطة علمه بأمورهم الماضية والمستقبلية، ويعلم أحوال الشافع الذي يشفع ودافعه، ولماذا طلب الشفاعة، ويعلم المشفوع له، وهل يستحق استجابة الطلب؟ هذا عام، فهذه الدلالة الأولية.
في سورة مريم قال تعالى: (له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك) فما الحكمة أنها لم ترد على هذا الأسلوب في آية الكرسي؟ في سورة مريم سياق الآيات عن الملك (ولهم رزقهم فيها، تلك الجنة التي نورث من عبادنا، رب السموات والآرض..) الذي يرزق هو الذي يورّث، فهو مالك، وقوله رب السموات، فهو مالكهم) أما في آية الكرسي، فالسياق عن العلم (يعلم ما بين أيدينا)، وبعد هذه الجملة يأتي قوله (ولا يحيطون بعلمه إلا بما شاء) أي ان السياق في العلم؛ لذا كان أنسب أن تأتي (يعلم ما بين أيدينا وما خلفنا) وهذه الجملة هي كما سبق توطئة لما سيأتي بعدها.
“وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء”ما فائدة (ما)؟ هي تحتمل معنيين في اللغة، هنا تحتمل أن تكون مصدرية بمعنى (لا يحيطون بشيء من علمه إلا بمشيئته)، وتحتمل أن تكون اسماً موصولاً بمعنى (إلا بالذي شاء) وهنا جمع المعنيين أي لا يحيطون بعلمه إلا بمشيئته، وبالذي يشاؤه، أي بالعلم الذي يريد، وبالمقدار الذي يريد، المقدار الذي يشاؤه نوعاً وقدراً.
فمن سواه لا يعلم شيئاً إلا ما أراده الله بمشيئته، وبما أراده، وبالقدر الذي يشاؤه، والبشر لا يعلمون البديهيات، ولا علّموا أنفسهم، فهو الذي شاء أن يعلّم الناس أنفسهم ووجودهم والبديهيات التي هي أساس كل علم. ومِن سواه ما كان ليعلم شيئاً لولا أن أراد الله، تماماً كما في قوله في سورة طه: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) أي بذاته في المعنى.
إذًا لماذا ذكر نفي الإحاطة بالذات في سورة طه، ونفى الإحاطة بالعلم في آية الكرسي؟ في سورة طه جاءت الآية تعقيباً على عبادة بني اسرائيل للعجل، وقد صنعوه بأيديهم، وأحاطوا به علماً، والله لا يحاط به، لقد عبدوا إلهاً وأحاطوا به علما، فناسب أن لا يقول العلم، وإنما قال (ولا يحيطون به علما)، أما في آية الكرسي فالسياق جاء في العلم لذا قال تعالى (لا يحيطون بشيء من علمه).
“وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ”دلّ أولاً على أنه من ملكه (السموات والأرض من ملكه)، وقبل هذه الجملة قال تعالى (له ما في السموات وما في الأرض)، فدلّ على أن الذي فيهما هو ملكه أيضاً؛ لأن المالك قد يملك الشيء، لكن لا يملك ما فيه، وقد يكون العكس.
فبدأ أولاً ( له ما في السموات وما في الأرض) أي أن ما فيهما ملكه، لم يذكر أن السموات والأرض ملكه، وهنا ذكر أن السموات والآرض وما فيهما هو ملكه، وإن الكرسي وسع السموات والأرض كما ورد في الحديث القدسي (السموات والأرض كحلقة في فلاة في العرش، والكرسي كحلقة في فلاة في العرش)
فما الحكمة من استخدام صيغة الماضي في الفعل (وسع)؟ الحكمة أن صيغة الماضي تدلّ على أنه وسعهما فعلاً، فلو قال يسع لكان فقط إخبارا عن مقدار السعة، فعندما نقول تسع داري ألف شخص، فليس بالضرورة أن يكون فيها ألف شخص، ولكن عندما نقول وسعت داري ألف شخص، فهذا حصل فعلاً .
* ما معنى كرسيه في الآية ولماذا جاء السموات مع أن السماء أعم؟
الكرسي محل جلوس الملك، وفي التفاسير يقولون عن الكرسي والعرش كلاماً كثيراً، والسموات هي محل الملائكة ومنازلهم، والأرض محل الثقلين الجن والإنس. والملك ينبغي أن يكون على رعية، والرعية تكون في السموات والأرض وليس السماء، السماء عامة، والسموات يقصد بها السموات السبع.
وكما قالوا السموات السبع والأرض بالنسبة للكرسي كحلقة في فلاة كما في الحديث، والكرسي في العرش كحلقة في فلاة.
العرش أكبر، وقالوا: الكرسي محل القدمين، والعرش لا يُقدر قَدْرُه، هكذا في الآثار، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة.
العرش عندنا مكان الجلوس، والكرسي أقل، مع الملك نستخدم (عرش)، وفي البيت نقول (كرسي). فإذا وسع كرسيه السموات والأرض، فما بالك بالعرش؟!
ذكر الملك فقال السموات، ولم يقل السماء، وقالوا في اللغة: من معاني الكرسي المُلْك والتدبير والقُدرة؛ ولذلك قال المفسرون: هذا من المتشابه؛ لأن اللغة تحتمل معاني عديدة، (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) أي قدرته وملكه، ذهب من ذهب إلى هذا المذهب، قال: وسع ملكه السموات والأرض.
وحتى استعمال الكرسي، نقول الملك يجلس عليه، فللملك مُلك، وذكر هنا السياق في المُلك أيضاً.
(لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) يشفع: يتقدم بالشفاعة إلى من يكون صاحب الأمر، ويناسب هذا أن يحتاج إلى ساكن، والساكن هو في السموات والأرض الملائكة والثقلان، فإذًا كلمة كرسي هي الأنسب. (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ) وسع كرسيه السموات والأرض فما بالك بعرشه؟
*ما هي اللمسات البيانية في الآية (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ (255) البقرة)؟
مسألة الكرسي لها عدة تفسيرات، وفي الحديث أنه جسم محيط بالسماء والأرض، والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة، وما في السموات والأرض كحلقة في فلاة بالنسبة للكرسي.
ما مسألة العرش والكرسي؟ الكلام عن العرش والكرسي، نحن نتكلم في اللغة، أما في الآية فالله أعلم.
العرش هو عرش الملك، العرش: ما يجلس عليه الملك له عظمة وهيبة يعظَّم بهيبة الجالس عليه، والقرآن استخدم العرش (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء (7) هود)، وقال (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) قالوا: الكرسي محيط بالسموات والأرض، والسموات والأرض وما فيهما كحلقة في فلاة بالنسبة للكرسي، والكرسي وما فيه كحلقة في فلاة بالنسبة للعرش. وقسم من المفسرين حاولوا أن يعطوا معاني أخرى، وقالوا الكرسي هو القدرة والتدبير والملك، وقسم قالوا هو العلم حتى يخرجوا من التجسيم والتشبيه، وأعطوه معاني أخرى. وفي اللغة يستعملون الكرسي مجازاً ويقصدون به الملك والتدبير.
“وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ”أي لا يثقله ولا يجهده، وجاء بـ (لا) للدلالة على الإطلاق، ولا تدل على الزمن المطلق، وإن كان كثير من النحاة يجعلونها للمستقبل، لكن الأرجح أنها تفيد الإطلاق (لا يمكن أن يحصل) .
والعليّ من العلو والقهر والتسلط والغلبة والملك والسلطان، والعلو عن النظير والمثيل. والعظيم من العظمة، وقد عرّفهما (أل التعريف)، لأنه لا عليّ ولا عظيم على الحقيقة سواه، فهو العليّ العظيم حصراً.
وهذين الوصفان وردا مرتين في ملك السموات والأرض في آية الكرسي في سورة البقرة، وفي سورة الشورى (له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم) والأمران في ملك السموات والأرض بما يدلّ على العلو والعظمة حصراً له سبحانه.
والملاحظ في آية الكرسي أنها ذكرت في بدايتها صفتين من صفات الله تعالى (الحيّ القيّوم)، وانتهت بصفتين (العليّ العظيم)، وكل جملة في الآية تدل على أنه الحيّ القيّوم والعليّ العظيم، سبحانه تقدست صفاته. فالذي لا إله إلا هو هو الحي القيوم، والذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو حيّ وقيّوم، والذي له ما في السموات وما في الأرض أي المالك والذي يدبر أمر ملكه هو الحيّ القيوم، والذي لا يشفع عنده إلا باذنه هو الحي القيوم، والذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحاط بشيء من علمه هو الحيّ القيّوم، القيّم على الآخرين، والذي وسع كرسيه السموات والأرض هو الحيّ القيّوم، والذي لا يؤوده حفظهما هو الحيّ القيّوم؛ لأن الذي يحفظ هو الحي القيوم، وهو العلي العظيم.
والحي القيوم هو العلي العظيم، والذي لا تأخذه سنة ولا نوم، والذي له ما في السموات والأرض، والذي لا يشفع عنده إلا باذنه، والذي يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، والذي لا يحاط بعلمه إلا بما شاء هو العليّ العظيم، فكل جملة في آية الكرسي المباركة تدلّ على أنه الحيّ القيّوم والعلي العظيم.
…ومن الأمثلة على العطف في القرآن قوله تعالى في آية الكرسي (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَؤودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)) ولا نوم معطوفة على سِنة، وما في الأرض معطوفة على السموات، خلفهم معطوفة على ما بين أيديهم، الأرض معطوفة على السموات، أما ولا يؤوده حفظهما فمعطوفة على لا تأخذه سِنة ولا نوم في أول السورة. فبرغم وجود أنواع متعاطفات كثيرة ومختلفة نعطف لا يؤوده حفظهما على لا تأخذه سِنة ولا نوم.
الخطوط التعبيرية في الآية: الملاحظ في الآية أنها تذكر من كل الأشياء اثنين اثنين، بدأها بصفتين من صفات الله تعالى (الحي القيوم)، وذكر اثنين من النوم(سنة ونوم)، وكرّر (لا) مرتين (لا تأخذه سنة ولا نوم)، وذكر اثنين في الملكية(السموات والأرض)، وكرر (ما) مرتين، وذكر اثنين من علمه في (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)، وذكر اثنين مما وسعه الكرسي (وسع كرسيه السموات والأرض)، وختم الآية باثنين من صفاته (العليّ العظيم).
وقد ورد اسمان من أسماء الله الحسنى مرتين في القرآن: في سورة البقرة (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) ومرة في سورة (آل عمران) في الأية الثانية (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) (لاحظ الرقم 2). والعلي العظيم وردت في القرآن مرتين في القرآن أيضاً، مرة في سورة البقرة (له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم) ومرة في سورة الشورى في الآية الرابعة (له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم).
آية (256):
*في آية البقرة يقول تعالى (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) ولم يقل في لقمان لا انفصام لها ، ما الفرق؟
*د.فاضل السامرائى :
السياق هو الذي يحدد، قال تعالى في سورة البقرة (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)) قال (فمن يكفر بالطاغوت) والطاغوت، رأس كل طغيان من ظالم أو غيره، هذا معنى الطاغوت من كان رأساً في الطغيان مثل فرعون والشيطان، وجمعها طواغيت. فمن يكفر بالطاغوت، أحياناً الكفر بالطاغوت يؤدي إلى أذى شديد، أو مظلمة كبيرة أو إلى عذاب أو إلى هلكة ؛ ولذلك تحتاج إلى (لا انفصام لها) يعني لا يحصل فيها أي خدش أو انفصال أو شيء، وكأنها تحفيز للإستعصام والاستمساك بالله سبحانه وتعالى. أما في لقمان فهي اتباع (ومن يسلم وجهه إلى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى) فلا تحتاج.
* ما دلالة (فقد) في قوله تعالى (فقد استمسك بالعروة الوثقى)؟( د.فاضل السامرائى )
(قد) حرف تحقيق مع الماضي، وإذا دخلت على المضارع تفيد التحقيق والتكثير، ومن معانيها الشك. تفيد التوكيد والتكثير (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء (144) البقرة)، (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا (18) الأحزاب). أحياناً يسألون أليست (قد) للتقليل إذا دخلت على المضارع؟ هذا من أحد معانيها، وليس معناها الكامل كما يذكر النحاة. (قد نرى تقلب وجهك) هذا يقين، تفيد التحقيق إذا عرفنا أن الفعل متحقق، وإذا دخلت (قد) على الماضي فهي للتحقيق، وأحياناً قد تغير معنى الفعل من دعاء إلى خبر، مثلاً تقول رزقك الله، محتمل أنك تدعو له بالرزق، ومحتمل أنك تخبر أن الله رزقه وأعطاه، لكن لو قلت (قد رزقك الله) لا يمكن أن تكون دعاء وإنما إخبار؛ لذا لا يصح أن تقول: قد غفر الله لك: أنت مخبر ولست داعياً، وإنما تقول غفر الله لك. إذًا (فقد استمسك بالعروة الوثقى) تعني تحقق استمساكه.
أيها الراكب الميمم أرضي أقري من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضٍ وفؤادي وساكنيه بأرضِ
قد قضى الله بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي
إن بيتاً أنت ساكنه غير محتاج إلى السُرُج
ومريضاً أنت عائده قد أتاه الله بالفرج
إذًا (فقد استمسك) تحقق استمساكه، هذا تحقق؛ لأن الفعل الماضي في الغالب بعد جواب الشرط في الغالب استقبال (درست نجحت) فإذا قلت: فقد نجحت، أي تحقق الأمر، تقول في الدعاء: غفر الله له يعني تدعو له، قد غفر الله له تحقق. (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) المؤمنون) هذا إخبار وتحقق.
* ما معنى كلمة الطاغوت؟ وهل هي موجودة في لغة العرب؟( د.فاضل السامرائى)
الطاغوت: الطاغوت يذكرون له معاني، هو من الطغيان، اشتقاقه العربي من الطغيان، فِعلها طغى (وعندنا فعلوت، أصلها طغووت، ثم صار بها إبدال، هذه مسائل صرفية لا نريد أن ندخل فيها)، عندنا مصادر على فعلوت مثل الملكوت والجبروت ورهبوت وهي عندنا في العربية، وهي مصادر تدل على المبالغة كما في الحديث ” جللت الأرض والسماء بالعزّة والملكوت”.
طاغوت من هذه الأوزان، لكن صار فيها تدخل صرفي، وإبدال (أصلها طغووت على وزن فعلوت). كل رأس في الضلال يسمى طاغوت (ما عُبِد من دون الله)، حتى الساحر والكاهن والصنم يسمى طاغوت، وفي العربية المارد من الجن يسمى طاغوت، وهي عامة، وكلمة طاغوت تستعمل للمذكر والمؤنث والمفرد والجمع. عندنا جمع (طواغيت)، وعندنا طاغوت، مثل طفل يُجمع على طفل وأطفال، وضيف يجمع على ضيف وضيوف، وخصم قد تكون مفردا وقد تكون جمعاً، حتى كلمة عدو وأعداء، عدو مفرد وجمع، عندنا كلمات تعبر الكلمة عن المفرد والجمع بحسب السياق الذي وردت فيه، ومنها طاغوت.
الطاغوت تستعمل للمفرد والجمع والمذكر والمؤنث فنقول هذا طاغوت وهذه طاغوت. حتى في القرآن الكريم استعملها عدة استعمالات، إستعملها مفردا واستعملها جمعا: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ (256) البقرة) هذا جنس عام، (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ (257) البقرة) هنا الطاغوت جمع؛ لأن للمؤمنين وليّا واحدا، وهو الله سبحانه وتعالى (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ)، أما الكافرون أولياؤهم فمتعددون، الشياطين وغيرهم؛ لذا قال تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) للمؤمنين ولي واحد، وهو الله تعالى، صحيح أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، لكن الولي الواحد هو الله تعالى، والكفرة أولياؤهم متعددون؛ لذا لم يقل وليهم الطاغوت.
*ما الفرق بين الرُشد والرَشََد والرشاد؟( د.فاضل السامرائى)
الرُشد يقال في الأمور الدنيوية والأُخروية، أما الرَشَد ففي الأمور الأخروية فقط، هكذا قرر علماء اللغة. (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا (6) النساء) في الدنيا، (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (256) البقرة)، (وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) الكهف) الرُشد في الأمور الدنيوية والأخروية، أما الرَشد ففي الأمور الأخروية لا غير، فالرُشد أعمّ. الرشاد هو سبيل القصد والصلاح (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر) أي سبيل الصلاح عموماً، الرشاد مصدر. المادة اللغوية واحدة لهذه الكلمات، وهي كلها الرُشد والرَشد والرشاد كلها مصادر: رشِد ورَشَد.
*د.أحمد الكبيسى:
قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿256﴾ البقرة)، وفي لقمان يقول عز وجل (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿22﴾ لقمان)، ليس فيها: لا انفصام لها. مرة (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) ومرة (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) فقط بدون لا انفصام لها، لماذا؟
العروة الوثقى لكل شيء هي ما تحمله منه، ولكل شيء آلة تتمسك بها من الوقوع أو الهلاك، يعني مثلاً ركاب في سفينة، وجاءتها عاصفة في يومٍ عاصف، ولكي لا يتطاير الناس في البحر كل واحد تمسك في مكان، إما في حبل، أو في زردة، أو في حلقة من الحلقات الحديدية، هذه هي العروة الوثقى. فرب العالمين عز وجل يشبه هذا الدين ببناء كبير، ولا بد أن تتمسك فيه بعروة لماذا؟ لأن العواصف حولك لا حدود لها، إبليس هذا شغله، أنه يراكم هو وقبيله، هذا الشيطان، كل همه أن يرخي يديك من التمسك بهذه العروة، بفسقٍ أو فجورٍ أو بدعة أو طائفية أو كفر أو زندقة، والتاريخ مليء.
كل الأديان السماوية تسجل تاريخ الذين تمسكوا بعروة ثم أفلتوها، وانحرفوا إلى فكر آخر، وطائفية أخرى، وأضلوا الناس. والقرآن يحدثنا عن بني إسرائيل وانحرافاتهم، ونحن نعاني من هؤلاء معاناة على امتداد التاريخ.
ما خلا جيل من طائفة تحاول أن ترخي يديك عن هذه العروة الوثقى التي أنت متمسك بها، ومتى ما ارتخت يداك هلكت، وتخطفتك الطير (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴿31﴾ الحج).
هذه العروة الوثقى مرة قال (لا انفصام لها)، ومرة بدون لا انفصام لها.
ومعنى تنفصم: تنقسم وتنفصل، يعني أنت يدك هي التي انفصمت عن العروة، التيار قوي السحب، فيدك لم تتحمل هذا الضغط، فانفتحت يدك فانفصمت عنها. والتاريخ ملئ بهذا ، كل دعاة الشر، هؤلاء الشياطين يحاولون أن يجعلوك تنفصم عن هذه العروة الوثقى وهي الإسلام كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم.
إذًا هذه العروة الوثقى نوعان: نوع هو عقيدة لا اله إلا الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد و غيره عن شخص رأى رؤيا فقال له النبي: هذه العروة هي الإسلام، فتمسك بها ماحييت إلى أن يدركك الموت وأنت عليها، وهي لا اله إلا الله.
هذه لا انفصام لها، رب العالمين يشهد أن من تمسك بالعروة الوثقى – وهو يقول قبلها لا إكراه في الدين – فهي قضية إيمان وكفر، إذا رأيت شخصا يعبد الأوثان، لماذا تكرهه؟ قل له فقط اترك الأصنام، واعبد الله.
إذا جاء واحد وقال لا اله إلا الله، بهذه القولة سوف يبقى عليها إلى يوم القيامة، ولن ينفصم عنها، هذا من تمسك بالعروة الوثقى التي هي لا اله إلا الله.
الإسلام نفسه عندما نزل، قال رب العالمين إن المشرك إذا صار مسلما لن يرجع عنه أبدا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (لا أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها فتهلككم) .
الآية الثانية في سورة لقمان، الخطاب فيها للمسلمين، بينما في الأولى الخطاب لغير المسلمين، قال (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، الذي يريد أن يسلم مرحبا به، لكن لا تكره هؤلاء المشركين.
في الثانية يخاطب المسلمين (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)، وهو محسن: أي رجل تقي صالح مصل، محسن في صلاته، في صيامه، في زكاته، فهو ليس عابدا، بل عابد بإحسان، بشكل جيد، هذا استمسك بالعروة الوثقى فقط، ولم يقل: لا انفصام لها، قد تنفصم، كلنا ليس أحد في هذه الدنيا إلا وفي يوم من الأيام ارتكب ذنباً مع كونه من المحسنين.
إذاً العروة الوثقى الأولى: هي الإيمان بالله الواحد الأحد لا إله إلا الله، هذه الآية تقول إن هذه العروة لا انفصام لها. العروة الوثقى الثانية: العمل، وليس التوحيد، العبادات، والحلال والحرام، لم يقل: لا انفصام لها، قد تنفصم، كل ابن آدم خطاء، ما فينا واحد تقي وصالح إلا وفي يوم ترك الصلاة سنة من السنين، ترك الصيام مرة أومرتين، شرب خمر، يعني كل ابن آدم خطاء (المؤمن كالسنبلة يميل تارة ويستقيم أخرى) (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم جاء بقومٍ يذنبون) (المسلم كالفرس في أخيّته)، هذه الحلقة التي يربطون فيها الفرس (يجول ويدور ويعود إلى أخيته)، يروح ويبتعد قليلاً عن الإسلام، لكن يرجع، إذاً تنفصم عروة العمل، وعروة الإيمان والتوحيد لا تنفصم أبداً ببركة النبي عليه الصلاة والسلام، الذي هو كما قال تعالى (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴿2﴾ الجمعة).
إذاً هذه التزكية التي زكى الله بها هذه الأمة، أنها لا تشرك بالله أبداً، ولكن في العمل كما قال صلى الله عليه وسلم (ولكن ساعة وساعة).
كل واحد منا له عروة، عروة الحاكم العدل، إذا تمسك بها ولم تنفصم جاء يوم القيامة متجلياً، غفر الله كل ذنوبه. عروة العالم الصدق، إذا كان صادقاً ولا يخاف في الله لومة لائم جاء يوم القيامة وكل ذنوبه مغفورة.
عروة التاجر الإخلاص والنصيحة وهكذا.
حديث عجيب عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث عن البراء بن عازب، قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم النبي (أي عرى الإسلام أوثق؟) قالوا (الصلاة يا رسول الله قال: حسنة وما هي بها، ثم قالوا: الزكاة يا رسول الله، قال: حسنة وما هي بها، قالوا: الصوم صوم رمضان قال: حسنٌ وما هو به، قالوا: الجهاد قال: حسنٌ وما هو به) تصور الصلاة الصوم الزكاة الحج الجهاد كله، قال رسول الله ما هو، إذاً ما هي أوثق عروة؟ قال (أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله).
تأمل فيها، أنت قد تصلي، ولكن قد تنافق، قد تصلي وأنت غضوب، وتحقد على الناس وتحسدهم، قد تصلي وأنت بك بخل على أمك وأبيك ووالديك وأهلك الخ.
أما إذا بلغ إيمانك أن جعلك تحب في الله، وتبغض في الله، لا تحب لصداقة، ولا لمن أعطاك معروفاً، إنما لأن هذا إنسان طيب فتحبه، معنى هذا أن قلبك ليس فيه حسد ولا غيرة ولا غل، قلب كهذا لا يمكن إلا أن يكون صالحاً فهو قلب سليم (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿89﴾ الشعراء)، بالضبط هذا هو القلب السليم قطعاً، صلاته عظيمة، وحجه عظيم، وصومه عظيم، الخ.
وحينئذٍ ليس كل مصلٍ صالحا، ولكن كل من يحب في الله ويبغض في الله صالح، إذاً علامة القلب السليم أن يحب في الله ويبغض في الله. هذه أوثق عروة.
الكلام في العروة الوثقى كلام طويل، ولكل نوع من أنواع العبادة عروة، ونحن قلنا مرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴿35﴾ المائدة) كل واحد من هذه الأمة سيأتي يوم القيامة مشهوراً بعمل (إن لكل عبدٍ في السماء صيتاً كصيته في الدنيا)، هذا العالم، هذا المنفق، هذا الصابر، هذا المجاهد، هذا الكريم، هذا البار بوالديه، كل واحد له صيت، كل واحد له عروته، العروة الأساسية لا إله إلا الله، وهذه ما دمت دخلت بها مصدقاً بها قلبك، أو أنك ولدت عليها اطمئن فلن ترتد أبداً، ويبقى العمل، الأولى لا انفصام لها (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) وهذه شهادة من رب العالمين. الثانية: قال: من يعمل صالحاً ويسلم وجهه يكون استمسك بالعروة الوثقى (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) لكنه لم يقل لا انفصام لها؛ لأنك قد تنفصم، كثير من الناس راحوا ورجعوا، ويختم له إن شاء الله على خير وبخير. هكذا الفرق بين الآيتين.
آية (257):
*ما معنى كلمة الولي؟( د.فاضل السامرائى)
تستعمل للتابع والمتبوع والناصر، الوليّ التابع المحب الذي يتولى أمره، والولي الناصر، يعني الله ولينا، ونحن أولياء الله (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ (257) البقرة)، يتولى أمرهم، (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) يونس) فالولي تستعمل للفاعل والمفعول، وتسمى من الأضداد. يقال مولى رسول الله، والله مولانا، كلمات كثيرة في اللغة العربية تستعمل في هذا، وهي واضحة في اللغة، وفي الاستعمال القرآني.
آية (258):
*ما الفرق بين (مِتم) بكسر الميم و(مُتم) بضم الميم؟(د.حسام النعيمى)
(قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ (258) البقرة) استعمل المضارع، فلم يرد لا في القرآن ولا في الشعر العربي غير هذا الموضع في استعمال المضارع. جاءت على لسان من يحاجج ابراهيم فى ربه، وليس الله عز وجل
أمات من الرباعي ويميت من الرباعي، وحين يقول (مِتُّ) أصلها (أُمِتُّ) والتاء نائب فاعل، أي أماته الله، ثم بناه لصيغة المفعول. وحين يقول (مُتُّ) ينسب الموت لنفسه، فتُعرب التاء في مُتُّ ضمير مبني في محل رفع فاعل، وفي (مِتُّ) التاء ضمير مبني في محل رفع نائب فاعل، مثل أكرمت وأُكرمت.
وفي الحالين الأمر مردّه إلى الله سبحانه وتعالى، إذا قال (مِتّ) على سبيل المجاز لأن الله سبحانه وتعالى هو المميت سبحانه والإنسان لا يميت نفسه. وهذه القراءات (مِت) قراءة سبعية و(مُتّ) قراءة سبعية، لكن الفهم، إذا كسر يفهم كأنه بُني للمجهول (مُت)، وإذا ضم الميم يكون نسب الفعل إلى نفسه، وفي الحالين الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.
آية (259):
*هناك قراءتان لكلمة ننشزها فما الفرق بينهما؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
قال تعالى:(وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا (259) البقرة) في كلمة (ننشزها) قراءتان: قِرئت (ننشرها) من أنشر، إذا بعث فـ (ننشرها) هنا أي نحييها. وقرئت (ننشزها) من أنشز إذا رُفع الشيء، والآية تعني رفعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها، فالقراءتان تدلان على معنى واحد.
*ما الفرق بين ذكر التنوين وحذفه فى الآيتين(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) الكهف)و(بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ (259) البقرة) ؟(د.فاضل السامرائى)
يقولون سنين شمسية وقمرية، سنين: بدل، لو أضفنا نقول مائة سنة، لكن فى الكهف ليست مضافة، ثلاث مائة لم تضفها حتى تقول ثلاث مائة سنة، هذا بدل وليس تمييز عدد.
(سنين) بدل لأن تمييز العدد له أحكام بعد المائة والألف يكون مفردا مضافا إليه (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا (14) العنكبوت) (بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ (259) البقرة) (ثَلَاثَ مِائَةٍ) نوّن؛ لأن هذا أمر عجيب فنوّن، هذا تنوين التمكين، لكن الغرض منه، توضيح أن الأمر يدعو إلى العجب والتعجيب (ثَلَاثَ مِائَةٍ) أبهمت، ويسمى الإيضاح بعد الإبهام. إذا قلنا (ثَلَاثَ مِائَةٍ) السامع لا يتوقع أو لا ينتظر منك شيئاً آخر؛ لأنه لو أردت أن تضيف لأضفت بعد المائة، إذًا انتهى السائل، فإذا جئت بالبدل تكون أتيت بشيء جديد ما كان يتوقعه، قالوا الإيضاح بعد الإبهام.
*قال تعالى :(وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ) ما دلالة استخدام الواو ؟( د.فاضل السامرائى)
عندنا العطف على مقدر، وهو موجود في القرآن كثيراً.
مثال قوله تعالى:(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ (259) البقرة) (ولنجعلك) على ماذا مععطوفة؟ عندما أحيا الله تعالى العزير هل أحياه فقط ليجعله آية للناس؟ هنالك أمور أخرى ذكر الآن منها (ولنجعلك آية للناس)، حين نجد العطف مقدرا على محذوف نفهم أن هناك أموراً أخرى لم يذكرها الشرع.
آية (259):
* ما دلالة ( فأماته) فى قوله تعالى: (فأماته الله مئة عام ثم بعثه (259) سورة البقرة)و إستخدام الضرب على السمع للتعبير عن الموت في الآية (فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) الكهف)وما دلالة استخدام ( بعثه )وليس أحياه؟(د.حسام النعيمى)
أولاً: أهل الكهف لم يموتوا، وإنما ناموا؛ لأنه تعالى قال: (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) الكهف) والراقد ليس ميتاً، ولذلك لا يصلح أن يقول: أماتهم.
أما قوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) البقرة)
الأصل في تعاملنا مع القرآن أن ما سكت عنه ربنا سبحانه وتعالى نسكت عنه؛ لأنه لا ثمرة فيه، إلا إذا ورد فيه خبر صحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يكون موضحاً لجزئية معينة.
(أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) نلاحظ أنه استعمل كلمة يحيي، وكلمة الموت، فلما استعمل الإحياء والموت ناسب ذلك أن يقول (فأماته الله)؛ لأنه تكلم عن موت وحياة.
لكن قد يقول قائل: حين تكلم عن موت وحياة قال (أماته) فلم لم يقل (وأحياه)؟ قال (فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)، فأماته مناسب للموت، يُفترض في غير القرآن أن يقال: فأماته الله مائة عام ثم أحياه.
لو قال ثم أحياه أي جعل فيه الروح، جعله حياً، أما بعثه، فالبعث فيه معنى الإنهاض، بعثه يعني الحياة جزء منه، حين يقول بعثه، أي جعله ينهض. الفعل بعث له معنيان متقاربان: المعنى الأول: أرسله، والإرسال كأنه بعد تقييده أرسله، لذلك يقولون أرسل السهم. والمعنى الثاني: معنى النهوض: يقول بعث الناقة حين تكون باركة بعثها أي أقامها وأنهضها بأن حلّ رباطها. هذان المعنيان متقاربان: بعثه أي أنهضه كاملاً مبصراً عاقلاً لأن بعث بمعنى استوى قائماً، كما تستوي الناقة واقفة إذا بعثتها.. فإذا نهض هذا النائم الميت، أي نهض بوعيه بعقله حتى يحاور، حتى يقال له: كم لبثت؟ ويجيب. ثم ختامها (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، لما عُرِّف قدرة الله سبحانه وتعالى: (فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا) بدأ الحمار شيئاً فشيئاً يتكوّن، فعند ذلك قال (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مسألة كان يعلمها، لكنها الآن أصبحت يقيناً، كأنه متعجب أنها قرية ميتة كيف يبعثها الله تعالى؟ فجعلها الله تعالى آية لمن بعده، ونحن من هؤلاء الذين يرون فيها آية من آيات الله أنه يحيي الموتى، ويكسو العظام لحماً.
*(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ (260) البقرة) ما دلالة (من) في قوله (من الطير)؟ ( ورتل القرآن ترتيلاً)
وهل تفيد معنى زائداً فيما لو قال: فخذ أربعة طيور؟
جيء بـ (من) في الآية لتدل على التبعيض، وهذا ما يضيف معنى آخر، وهو التعدد والاختلاف خلافاً لقولنا أربعة طيور، فهذه العبارة لا تدل على تعدد أنواعها، فقد تكون الطيور من صنف واحد، وقد دخلت (من) على هذه الآية لتدلنا على التعدد والاختلاف، حتى لا يتوهم مشكك بأن بعض الأنواع أهون في الإحياء والبعث من بعض.
*(ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا (260) البقرة) السعي هو نوع من أنواع المشي لا من أنواع الطيران فلِمَ خصّ ربنا تعالى إجابة الطيور بالسعي لا بالطيران مع أن هذا مخالف لطبيعة الطير؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
جعل الله سبحانه وتعالى هذا السعي دليلاً وآية على عودة الحياة بعد موت، والحياة التي رُدّت إليهن مخالفة لحياتهن السابقة، ولذلك عجزن عن الطيران، لأنه غير معهود بهذه الحياة الجديدة.
آية (260):
* (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) البقرة) ما دلالة ختام الآية (عزيز حكيم) بدل الله على كل شيء قدير؟(د. فاضل السامرائى)
أولاً سياق الآية قد يحسم الأمر لدى المتكلم، عن أي شيء يريد أن يتكلم؟ حين يذكر ربنا إحياء الأرض بعد موتها التعقيب في ختام الآية ليست واحدة، وإنما ماذا يريد (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) يس) إحياء الأرض الميتة ذكر أمراً آخر، وفي آية أخرى قال (وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) الروم) يستدل بها على أمر آخر غير الأكل، ماذا يريد المتكلم أن يعقب عن الأمر الواحد أي أمر؟ في حياتنا اليومية تقول سافرت إلى مدينة من المدن، فتقول سافرت إلى مدينة من أجمل المدن، أو تعقب على أهلها فتقول وجدت فيها أناسا طيبين، أو تعقب على المدة التي قضيتها فيها.
فبالنسبة لهذه الآية أولاً الآية التي قبلها مباشرة (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)).
والأمر الآخر قبلها كان الكلام أيضاً عن إبراهيم (عليه السلام) والنمرود (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258))
حين قال ربي الذي يحيي ويميت، ألا يعلم أن الله على كل شيء قدير؟ بلى يعلم. (وأعلم أن الله على كل شيء قدير)، هو يعلم أن الله على كل شيء قدير، واستدل بذلك على ما سبق من الآيات (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) إذًا هو يعلم، وهو الآن يريد أمراً آخر غير الأمر الذي ذكره واستدل عليه (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فهو يؤمن، وإنما الآن يريد شيئاً آخر غير هذا الأمر.
نلاحظ أولاً أن الآيات جاءت في سياق الحديث عن النمرود، وهو معتد معتز بحكمه، لما قال (قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ) جاء بشخصين قتل واحدا وأطلق الآخر، هو معتز بحكمه عزيز وحاكم؛ لذا قال (وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ربنا هو العزيز الحكيم، والخطاب في الآية موجه إلى إبراهيم (عليه السلام).
قبل هذه الآية (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)) والطاغوت كل رأسٍ ظالم يعتز بحكمه، ويخرج الناس بالبطش والتنكيل والطغيان من النور إلى الظلمات، ، فالسياق يقتضي أن الله عزيز حكيم، لا الطاغوت المتجبر ولا الظالم، إنما الله. ثم هنالك أمر يقوله المفسرون: إن الله تعالى إذا خرق الناموس والأسباب فبعزته ولحكمة يريدها هو، الذي يفعل هكذا بالنواميس هو الحاكم والقادر والعزيز، فالله تعالى لم يرد أن يبين قدرته لأن إبراهيم يعلم قدرته، لكنه أراد أن يبين عزته وحكمته تبعاً للسياق الذي وردت فيه الآية.
الآية تحتمل عدة أمور، وختام الآية يناسب الآية، ويناسب ما يريده المتكلم من هذه المناسبة؟ وهذا لا يتتاقض مع السياق، وإنما هو على ماذا يريد أن يركز؟ ختام الآية هنا (واعلم أن الله عزيز حكيم)، وقبلها قال (إن الله على كل شيء قدير) إذًا هي متماشية مع السياق.
*(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) البقرة) تكررت (ثم) مرتين فهل هي تفيد التراخي في هذه الآية؟( د.فاضل السامرائى)
(فصرهن إليك) أي أملهُنّ إليك، السؤال لم لم يقل فاجعل أو فادعهن؟ (ثم) تفيد الترتيب والتراخي، والفاء تدل على التعقيب. (ثم اجعل عل كل جبل) معناه هناك أكثر من جبل، هناك صعود جبال أربعة أولاً، حتى يجعل لإبراهيم سعة في أن يلتقط الطير، لو جاء بالفاء لم يجعل له سعة، وإنما (ثم) يجعل له متسعاً في الحركة. والأمر الآخر: أن هذا يدل على قدرة الله؛ لأنه بمرور الزمن اللحم قد يفسد، وكلما كان أقرب للذبح، يكون أسرع في الحياة، والعجينة واحدة، لكن حتى يبين أنه لو تأخر الوقت وفسد اللحم، سيحصل الأمر، لو قال (ثم) لم يفد هذا المعنى، ليجعل لإبراهيم سعة في الحركة، وينتقل من جبل إلى جبل، هذا يحتاج وقتاً، فجاء بـ (ثم) ليجعل له متسعا في الحركة، فلو جاء بالفاء لا يجعل له متسعاً في الحركة، ثم يدل على قدرة الله؛ لأنه حتى لو تأخر الوقت سيحصل الأمر، الطيور ستأتيك مسرعة حتى لو تأخر الوقت، وهذا أدل على قدرة الله، بينما لو جاء بالفاء لم يفد هذين المعنيين.
*(ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا (260) البقرة) السعي هو نوع من أنواع المشي لا من أنواع الطيران فلِمَ خصّ ربنا تعالى إجابة الطيور بالسعي لا بالطيران مع أن هذا مخالف لطبيعة الطير؟
*ما اللمسة البلاغية فى قوله تعالى (سعياً)؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا (260) البقرة) أبلغ من ساعيات، لأنها أخبرت عن الذات بالحدث المجرد كأنه ليس شيئا يثقله من الذات، أصبح حدثاً مجرداً. مثل قوله تعالى (ولا تمش فى الأرض مرحاً) حال جاء بها على وزن المصدر (مرحا) هذا يفيد المبالغة، إذا أتيت بالحال مصدراً
*ما اللمسة البيانية في كلمة (لكن ليطمئن قلبي) على لسان إبراهيم في آية 260 من سورة البقرة؟و قصة عزير؟(د.حسام النعيمى)
الكلام على لسان إبراهيم (عليه السلام) (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) البقرة) ينبغي أن نتذكر أولاً أن إبراهيم (عليه السلام) في هذا الطلب كان يخاطب الله سبحانه وتعالى، وكان الله تعالى يخاطبه، وليس وراء مخاطبة الله عز وجل إيمان. يعني حين يكلّم الله عز وجل ويسمعه، ويسمع كلام الله تعالى، هل يحتاج إلى إيمان فوق هذا؟ هل يحتاج إلى دليل؟ هو يناجي ربه وربه يخاطبه، إذًا المسألة ليست مسألة إيمان أو ضعف إيمان، أو محاولة تثبيت إيمان لأن مخاطبة الله عز وجل هي أعلى ما يمكن أن يكون من أسباب الإيمان.
وهو أي إبراهيم (عليه السلام) الأوّاه الحليم، كليم الله عز وجل، فالقضية ليست قضية إيمان بمعنى أنه كان يمكن في غير القرآن أن يقال (أرني كيف تحيي الموتى ليطمئن قلبي) لماذا دخلت (أولم تؤمن قال بلى)؟ الله سبحانه وتعالى يعلم أنه مؤمن، لأنه يكلّمه فكيف لا يكون مؤمنا. والتساؤل هو لتقرير أمر كما قال الله عز وجل في سورة المنافقون (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)) كان يمكن في غير القرآن أن يقول (قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يشهد أن المنافقون لكاذبون)، وإنما وضع بين هذه وهذه (والله يعلم إنك لرسوله) لدفع ما قد يتوهمه إنسان من تكذيب الله عز وجل لهم في الرسالة، فجاءت في مكانها، وهي جملة إيضاح وتثبيت معنى.
هنا قال (أولم تؤمن قال بلى) هذا للسامعين؛ لأن السامع إذا سمع إبراهيم (عليه السلام) يقول: أرني كيف تحيي الموتى سيسأل : ألم يكن إبراهيم كامل الإيمان؟ فحكى لنا قال (أولم تؤمن قال بلى) إذًا أثبت الإيمان لإبراهيم (عليه السلام) حتى لا يخطر في قلوبنا أن إبراهيم (عليه السلام) طلب هذا الأمر ليثبت إيمانه، ما موضع الاطمئنان هنا؟ علماؤنا يقولون إن إبراهيم (عليه السلام) كليم الله عز وجل الأوّاه الحليم كان في قلبه شيء يريد أن يراه، أن يلمسه، أن يرى سر الصنعة الإلهية، أن يرى هذه الصناعة كيف تكون؟.
(أرني) تعني: أريد أن أرى رؤية العين؛ لأن إحياء الموتى لا يُرى، فهو كان يتطلع إلى أن يرى هذا الشيء، والله تعالى لم يجبه: لِماذا تريد أن ترى؟. هؤلاء الأنبياء مقرّبون إلى الله سبحانه وتعالى، هو يختارهم فلا يفجأهم بردٍ يفحمهم. كما قلنا (أولم تؤمن) إعلام للآخرين حتى يثبت إيمان إبراهيم (عليه السلام) ، وأنه كان يريد أن يرى كيف تعمل يد الله تعالى في إحياء الموتى، ولذلك قيل له: خذ أربعة من الطير.
الأربعة يبدو أن الجبال التي حوله كانت أربعة، والجبل هو كل مرتفع صخري عن الأرض وإن كان قليلاً. (فصرهن إليك) أي احملهن إليك، حتى تتعرف إليهن وترى أشكالهن، وهي أيضاً تشم رائحتك، وتتعرف من أنت. ما قال القرآن قطّعهن؛ لأن هذا معلوم من كلمة (واجعل على كل جبل منهن جزءاً).
إذًا أربعة طيور قسمهن أربعة أقسام، ومن كل طير وضع قسماً على جبل، فاجتمعت جميعاً بمجرد أن ناداها، وجاءت إليه مسرعات (يأتينك سعيا).
هذا ليس مجرد إخراج ميت إلى الحياة، وإنما بهذا التقسيم إبراهيم (عليه السلام) كان يريد أن يرى هذا الشيء، ليس شكّاً، فرأى يد الله عز وجل كيف تعمل؟ شيء أحبّ أن يراه، ولا علاقة له بقوة الإيمان؛ لأن إيمانه لا شك فيه، وأثبته لنا القرآن الكريم بعبارة (أولم تؤمن قال بلى)، وكان يمكن في غير القرآن أن تحذف هذه العبارة.
في موقف شبيه بقصة العزير (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) البقرة) أراه مثالاً في نفسه هو، مسألة إحياء الموتى، كانت تداعب أذهان وفكر الكثيرين من باب الاطلاع على الشيء، ولمعرفته وليس للشك؛ لأنه كان هناك يقين بأن الله تعالى يحيي الموتى، وهذا هو الإيمان.
آية (261):
* (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (261) البقرة) ما وجه الخصوصية في الحبّة التي اختارها الله تعالى للدلالة على مضاعفة الأجر والثواب؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
جعل الله سبحانه وتعالى الحبة مثلاً لمضاعفة الأجر والثواب؛ لأن تضعيفها ذاتيّ فهي تزداد وتنمو وتخلف بنفسها، لا شيء يزاد عليها، وكذلك الحسنة يضاعفها الله تعالى بذاتها لا بعمل آخر يضاف إليها.
*متى يستعمل جمع القلة وجمع الكثرة في القرآن الكريم مثل كلمتي (سنبلات) و(سنابل) ؟ (د.فاضل السامرائى)
القاعدة النحوية أن يكون جمع القلة للقلة، وجمع الكثرة للكثرة. مثل (دراهم معدودة) جمع قلة و(دراهم معدودات) جمع كثرة، و(أربعة أشهر) جمع قلة و(عدة الشهور) جمع كثرة، (سبعة أبحر) جمع قلة، و(وإذا البحار سُجّرت) جمع كثرة، (ثلاثة آلآف) جمع قلة و(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) أكثر من عشرة جمع كثرة.
جمع المذكر السالم والمؤنث السالم من جموع القِلّة، خاصة إذا كان معه جمع آخر يدل على الكثرة، فإذا لم يكن معه جمع آخر يستخدم للقليل والكثير. مثلاً جمع ساجد: ساجدون وسُجّد وسجود . عندنا أكثر من جمع فتكون ساجدون للقلة؛ لأنه يوجد جموع للكثرة، والجموع في العربية سبعة وأربعون منها أربعة للقلّة (أفعُل، أفعال، فِعلة، أفعِل) والباقي للكثرة.
ويجوز أن يستعمل القلة للكثرة، والكثرة للقلة حسب المقام، أما في القرآن فقد يُعطى وزن القلة للكثرة والعكس لأمر بليغ.
سنبلات قِلّة وسنابل للكثرة، العدد واحد، سبع وسبع في الآيتين، فلماذا استُعمل القِلة مرة وللكثرة مرة؟ وقد جاء في سورة البقرة (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ {261}) سبع جمع قلة استعملت مع جمع كثرة؛ لأنها في مقام مضاعفة الأجور والتكثير.
وفي سورة يوسف (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ {43}) سبع استعملت مع جمع القلة (سنبلات) لأن الآية تتحدث عن رؤيا، ولا مجال للتكثير فيه، إنما هو مجرد حلم؛ لذا استعملت بمعنى القلة، ونقلها كما هي (سنبلات)، فالسياق في مقام ذكر حادثة كما هي.
وتستعمل للمقارنة بين معنيين مثل: قيام جمع كثرة، وقائمون جمع قلة، وكذلك أعين للبصر، وعيون للماء، والأبرار جمع قلة، وهي تستعمل للمؤمنين فقط (إن الأبرار لفي عليين) والبررة جمع كثرة، وهي تستعمل للملائكة فقط؛ لأنهم أكثر (كرام بررة).
وقوله تعالى (دراهم معدودة) مناسبة مع كلمة (بخس) في قوله (وشروه بثمن بخس) في سورة يوسف (رغم أنه أكثر من عشرة فهي كثرة) لكن حتى لو دفعوا أكثر من عشرة دراهم يبقى ثمناً بخساً.
وقوله (أياماً معدودات) في آية الصيام في سورة البقرة قللّها، فهي أيام معدودات ليست كثيرة، وهنا تنزيل الكثير على القليل، وقد قلل أيام الصيام لكن أجرها كبير.
فهو للمبالغة قطعاً، عندما تقول جاءك ركضاً أبلغ من جاءك راكضاً مبالغة في المشي.
*ما الفرق بين سنابل وسنبلات ؟(د.أحمد الكبيسى)
كما في قوله تعالى (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (261) البقرة) و(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ (43) يوسف) رأى الملك رؤيا: سبع سنبلات وحدها في الصحراء في حديقة وحدها، يعني هي واحدة اثنتان ثلاث أربع خمس ست سبع في حديقة في صحراء رآها وحدها، أما في قوله تعالى (سنابل) سبع سنابل فهناك حقل من السنبل، سبع سنابل محددة معينة لها ميزة في حقل كبير من السنبل، وهي ليست منفردة أو منقطعة، وهذا الفرق بين واحد لا يعمل عملاً صالحاً إطلاقاً في حياته كلها، وواحد من الصالحين يصوم ويصلي وهو ملتزم؛ لذلك حسناته لا حصر لها لكن فيها سبعة في غاية الروعة، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول : ” سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله” معناها هؤلاء جزء من كل.
في هذا الكتاب العزيزعجائب، وفيه إعجاز، لا يمكن لك أن تتصورها إلا أن نبدأ بها واحدة واحدة.
آية(262):
*ما الفرق من الناحية البيانية بين ذكر الفاء (فلَّهُمْ أَجْرُهُمْ) وحذفها (لَّهُمْ أَجْرُهُمْ) في آيتي سورة البقرة؟
* د.فاضل السامرائى :
(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {262}) و(الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {274}).
ذكر الفاء في الآية الثانية جاء حسب ما يقتضيه السياق، والذكر هنا يسمّى تشبيها من أغراضه التوكيد، وقوله تعالى (بالليل والنهار سراً وعلانية) فيها توكيد وتفصيل في الإنفاق، ودلالة على الإخلاص، فاقتضى السياق زيادة التوكيد؛ لذا جاء بالفاء في مقام التوكيد والتفصيل.
أما الآية الأولى، فذكر فيها الإنفاق في سبيل الله، ولم يفصل (بالليل والنهار أو سراً وعلانية) فاقتضى الحذف.
الفاء كما هو معلوم للتعقيب مع السبب، التعقيب أي يأتي بعدها مباشرة، في عقب الشيء. أما الواو فهي لمطلق الجمع ولا تدل على ترتيب أو تعقيب .
لماذا جاء بالفاء في الثانية دون الأولى؟ الفاء واقعة في جواب اسم الموصول، وهنا الاسم الموصول مشبّه بالشرط، واسم الموصول أحياناً يشبّه بالشرط بضوابط، فتقترن الفاء بجوابه كما تقترن بجواب الشرط، وكل واحدة لها معنى. مثال: الذي يدخل الدار له مكافأة والذي يدخل الدار فله مكافأة. الأولى فيها احتمالان، إما أنه له مكافأة بسبب دخوله الدار، كأن الدار مقفلة وهو يفتحها، أي أن المكافأة مترتبة على دخول الدار وإما أن يكون للشخص الذي يدخل الدار مكافأة لسبب آخر، إذًا فيها احتمالان عندما لا تذكر الفاء. إذا ذكرت الفاء فلا بد أن المكافأة مترتبة على الدخول قطعاً وليس لأي سبب آخر، وهذا تشبيه بالشرط أي أن المكافأة شرط للدخول في الدار.
أيضاً هناك ملاحظة: أنه في تشبيه الموصول بالشرط أحياناً يكون الغرض من ذكر الفاء هو التوكيد، أي أن ما يُذكر فيه الفاء آكد مما لم يذكر، كقوله تعالى (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) بدون فاء، والثانية (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، زاد بالليل والنهار وسراً وعلانية أيها آكد؟ التي فيها الفاء، الآية الأولى قال فقط (ينفقون أموالهم في سبيل الله)، أما الثانية فقال (بالليل والنهار سراً وعلانية) حدد أكثر.
في جواب اسم الموصول احتمالان تشبيه جواب الموصول بالشرط، إما أن يكون السبب بمعنى أداة الشرط، وإما لزيادة التوكيد.
آية(262):
*ما الفرق من الناحية البيانية بين ذكر الفاء (فلَّهُمْ أَجْرُهُمْ) وحذفها (لَّهُمْ أَجْرُهُمْ) في آيتي سورة البقرة؟
*د.أحمد الكبيسى:
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴿262﴾ البقرة) (لهم أجرهم) ، نفس الآية في سورة البقرة (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴿274﴾ البقرة) (فلهم أجرهم) بالفاء، في هذا الكتاب العزيز الحرف يغير المعنى تماماً كما شاهدنا في كل حلقة، ولهذا الحرف في كتاب الله حسنة (من قرأ حرفاً في القرآن فله عشر حسنات لا أقول آلم حرف ولكن ألفٌ حرف ولامٌ حرف وميمٌ حرف)، فمن قرأ آلم له ثلاثين درجة، فهي ليست كلمة واحدة حينئذٍ لماذا؟ لأن لكل حرفٍ معنى يغير نسق الآية وسياقها واتجاهها .
لفترض أن شخصا دخل على ملك، وسلم على الملك، وقال له استرح، كيف حالك؟ أنت إنسان طيب، أنت كريم وانتهى الأمر.
وجاء شخص ثان ليسلم على الملك، وقام الملك في وجهه، نهض استقبالاً، وقال: أشهدكم أن هذا الرجل من الكرام، هذا من الطيبين، يعني بدأ يمدح فيه علناً، هو أراد أن يقول عن كلا الرجلين أنهما كريمان، لكن قالها للرجل الثاني بشكل آخر، بشكل فيه عناية، وفيه قوة، وفيه إصرار، مما يدل على أن هديته وهبته وهبة الملك ستكون بلا حساب.
رب العالمين لو قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: أنت على خلقٍ عظيم، عبارة جميلة عربية فصيحة، جملة مفيدة، مبتدأ وخبر، أنت يا محمد على خلقٌ عظيم، لكنه قال (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿4﴾ القلم) زاد الحرف واو، والحرف إن، والحرف لام، الواو قسم كأنه: قال له وعزتي وجلالي إنك لعلى خلق عظيم، إن للتأكيد كما تعرفون، هذه إن وأخواتها للتأكيد، هذه قضية مؤكدة لا تقبل النقاش، ولا أغير رأيي فيك إطلاقاً.
(لعلى) اللام للتأكيد وللتصديق. إذاً كل حرف يعطيك معنى جديداً ينتقل بالآية، بالكلمة، إلى معانٍ وآفاق أخرى، لا يمكن أن تأتيك إلا بهذا الحرف، من هنا هذا المتشابه في القرآن الكريم علم، والعلم بالقرآن شيء، وقراءة القرآن شيء آخر.
لذا (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ) أو (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) لهم أجرهم أجر عام كمن أعطى تمرة، النبي قال (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، والآية نزلت في الذي أحضر تمرتين ليس لديه غيرهما، والمنافقون يضحكون عليه، هما تمرتان، لكنهما عند الله عظيمتان.
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿133﴾ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ﴿134﴾ آل عمران) سواء كان لديه، أو لم يكن لديه شيء، وهذه الآية تقول (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لم يقل ينفقون من أموالهم، بل ينفقون أموالهم، كل الذي عنده يشارك جيرانه وأهله والفقراء بكل الذي عنده، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، قال في هؤلاء (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) مثل الوعد الهائل من ملكٍ قادر فلهم أجرهم، أي سأعطيهم عطاء، أي أن هؤلاء أصحاب إنفاق متميز كل الذي عنده في سرائه وضرائه، جائع أو عطشان أو مريض يعطي، فقير أو غني يعطي، لا يمن، ففيه صفات وقيود تجعل هذا الإنفاق من النوع الراقي جداً.
ولهذا أنت لاحظ الثلاثيات والرباعيات في القرآن، ما من مجموعة عبادة إلا وفيها في النهاية (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿3﴾ البقرة)، الشورى، الجهاد، الكفاح، العلم، يأتي وراءها (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) معناها أن هذا الإنفاق لب العبادات هكذا.
إذاً (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) و (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) طريقة إنفاقك من كل ما تملك لا يعني هذا أن تعطيهم كل ما تملك، لكن أنت ممتلكاتك قليلة فتؤثر غيرك، ولو كان بك خصاصة، وبحرية وبطيبة نفس، ولا تمن ولا تؤذي، هذا يوم القيامة أجره عجيب؛ لأن الإنفاق (كل امرئٍ يوم القيامة في ظل صدقته) يعني أعظم أنواع الشفاعات والوسائل المنجية هي الصدقات؛ ولهذا قال (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) والثانية قال (لَهُمْ أَجْرُهُمْ).
آية (264):
* لم ختمت الآية بقوله تعالى:( وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) لماذا لم يقل الظالمين؟( د.فاضل السامرائى)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)، قال (وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) هذا كافر، ولو قال ظالم، فالظالم ليس بالضرورة كافرا، فقد يكون ظالماً غير كافر، إنما هذا كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وحتى لما قال (لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ) وصف أعمال الذين كفروا (كسراب بقيعة)، و(كرماد اشتدت به الريح).
آية (265):
*ما معنى طلّ في الآية (فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ)؟( د.فاضل السامرائى)
الطلّ هو الندى
* ما الفرق بين خبير وبصير في الآيتين (إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) النساء) (وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) البقرة)؟( د.فاضل السامرائى)
البصير، البصر يأتي بمعنيين في اللغة، إما البصر الحاسة التي يُنظر بها، الباصرة، والإبصار بالقلب ويسميه ربنا بصيرة ،البصيرة في القلب، والبصر لا يعني العين، وإنما الرؤية، وهذا هو الفرق بين النظر والبصر. إذًا كلمة بصير فيها أمران: بصير ضد الأعمى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (16) الرعد) من ناحية الرؤية، وبصير لمن كان قلبه بصيراً عنده معرفة في قلبه. والخبير: العليم ببواطن الأمور فربنا حين يقول (إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) فاطر) يعني محيط ببواطن الأمور وظواهرها، بواطن الأمور من خبير، وظواهرها من بصير. الأصل الأول هو الإبصار، البصير من الإبصار، ومن قوة القلب، والخبير: العالم ببواطن الأمور خبير بصير يعني عليم ببواطن الأمور وظواهرها، ولعلمه ببواطن الأمور، فمن باب أولى أنه عليم بظواهر الأمور.
* هل يحتمل معنى قوله تعالى (جنات تجري من تحتها الأنهار) أن الجنات تجري؟( د.فاضل السامرائى)
لا أعلم إذا كانت الجنات تجري، لكن بلا شك أن الأنهار تجري، فالجريان يكون للأنهار في الدنيا كما في قوله تعالى في سورة البقرة (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266))، وقال تعالى في سورة طه (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)) وفي سورة يونس (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)) لكن هل هناك أمر آخر؟ هل الجنات تجري؟ الله أعلم لكن الأمرالواضح فيها أن الأنهار قطعاً تجري، ويمكن أن تجري الجنات في الآخرة بقدرة الله تعالى، ولكن هذا ليس ظاهراً مما نعرفه.
آية (266):
* ما معنى الضعف في القرآن في قوله تعالى (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) البقرة) وقوله تعالى (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28) النساء)؟(د.حسام النعيمى)
كلمة الضعف ضد القوة، إما القوة المادية أو القوة المعنوية، في الآية الأولى (266) البقرة، مثال لمن يحوّل عمله الصالح إلى سيئ. سؤال بصورة: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) هذه جنة الدنيا، حديقة واسعة فيها من كل الثمرات، والأنهار تجري من تحتها ، ماذا يريد الإنسان بعد هذا من حيث الجانب المادي؟ وأصابه الكبر لا يستطيع أن يزرع (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء)، هذا الرجل الكبير عنده أطفال صغار السن (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت)، مصيبة عظمى، وهذه الصورة التي يرسمها القرآن صورة جنة أثمار وأعناب ونخيل، والعربي يحب النخلة، ولا يترك شيئاً منها بدون استفادة منه، الثمرة يستفيد منها والنواة والسعف، والجذع بعد أن يموت يجعله سقفاً لبيته، هناك علاقة لصيقة بالنخلة، لذا يذكره القرآن بها.
الذرية ضعفاء ما عندهم قوة لإعادة الزراعة، واحترقت الجنة، وهذه مصيبة عظمى، هكذا شأن الذي يتحول من الإيمان إلى الضلال والمعصية والكفر.
الضعف فيه لغتان: بفتح الضاد (الضَعف) وبالضم (الضُعف). هما لهجتان عربيتان فصيحتان نزل بهما جبريل (عليه السلام) على صدر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى لا يعترض أحدٌ على أحد.
أما الضِعف بالكسر فيعني المكرر، ضِعف كذا: يعني مرة بقدر شيء آخر ضِعفه، وليس مرتين كما هو الشائع. تقول هذا ضِعف هذا أي بقدره فإذا أردت بقدر مرتين تقول ضِعفين.
آية (267):
* ما دلالة الاختلاف في نهايات الآيات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) ،(قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) ، وفي الآية (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) البقرة)؟( د.فاضل السامرائى)
نأخذ كل آية في سياقها (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) لما ذكر الأذى ناسب ذكر الحلم؛ لأن الحليم لا يعجل بالعقوبة، ولا يغضب سريعاً إذا أُوذي، فلما ذكر الأذى ناسب ذكر الحِلم.
الآية الأخرى ليس فيها ذكر أذى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) هذه ليس فيها أذى وإنما إنفاق خِلاف الأَوْلى، أنت أنفقت من الخبيث، والله غني عن هذا. الله تعالى قال (وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ) والناس يجب أن تنفق الطيب، وليس الخبيث الرديء، أنت تنفق الخبيث في سبيل الله، والله غني عن هذا. الآية الأولى فيها أذى، فناسب ذكر الحليم، وهذه فيها خلاف الأولى في الإنفاق، فالله غني وحميد فذكر فيها (حميد) لأنه يجب أن تفعل حتى تُحمد على ما تُنفق. (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) واسع بالرحمة والفضل، هو واسع المغفرة والفضل، عليم بما تنفقون، فيجازيكم على ما تنفقون، فهو واسع العطاء، واسع الخير، واسع الرحمة، وعليم بما تفعل فيجازيك، فلماذا تخشى الفقر؟ الشيطان يعدكم الفقر، والله تعالى واسع العطاء، وواسع المغفرة، وواسع الرحمة، فلماذا تخشى الفقر، فواصل الآية نفهمها من السياق.
آية (268):
*(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء (268) البقرة) فلِمَ قدّم ربنا سبحانه وتعالى الفاعل على فعله؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
الفاعل هو الشيطان، والفعل يعدكم، قال تعالى (الشيطان يعدكم) ولم يقل: يعدكم الشيطان، بل قدم الفاعل على فعله؟ إن في تقديم اسم الشيطان، وابتداء الآية به إيذاناً لك أيها المؤمن بذمّ الحُكم الذي سيأتي بعده لتحذر الوقوع به. ألا ترى أنك تحذر السامع فتقول له: السفاح في دار صديقك، وذلك بخلاف قولك: في دار صديقك السفّاح.
آية (269):
*قال تعالى: (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) الآيات السابقة واللاحقة للآية تتحدث عن الإنفاق فهل من أوتي الحكمة فهو ينفق أو من ينفق يؤتى الحكمة؟( د.فاضل السامرائى)
الآية الكريمة (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) طلب المغفرة والفضل من الله هو من الحكمة، يعني لقد أوتي صاحبها من الحكمة ومن الخير أكبر وأوسع مما في المال، من أوتي خيرا كثيرا أكثر من هذا المال الذي يظنه السائل. (وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً) ثم قال (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء) الذي يطلب المغفرة والفضل خيره لا شك هو أكبر من مجرد المال، مهما كان هذا المال، أوسع من المال، إذًا داخل في الخير، وداخل في الفضل، وداخل في المال، وداخل في كل شيء، ففيها ارتباط، والكلام عام.
*ما المقصود بالحكمة فى قوله تعالى (“ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” البقرة 269)؟ولمِ َلم تنسب لله عز وجل؟( د.فاضل السامرائى)
الحكمة هي وضع الشيء في محله قولا وعملا، أو هي توفيق العلم بالعمل، فلا بد من الأمرين معا: القول والعمل، فمن أحسن القول ولم يحسن العمل فليس بحكيم، ومن أحسن العمل ولم يحسن القول فليس بحكيم.
فالحكمة لها جانبان: جانب يتعلق بالقول، وجانب يتعلق بالعمل، والحكمة خير كثير كما قال الله تعالى(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا(269) البقرة، فالله تعالى مؤتي الحكمة، ولذلك نلاحظ أنه تعالى قال: ” وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ”.
قال (آتينا) بإسناد الفعل إلى نفسه، ولم يقل: لقد أوتي لقمان الحكمة، بل نسب الإتيان لنفسه، والله تعالى في القرآن الكريم يسند الأمور إلى ذاته العلية في الأمور المهمة وأمور الخير، ولا ينسب الشر والسوء إلى نفسه البتة. قال تعالى: “وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً10” الجـن.
أما فى قوله تعالى:(ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا(269) فقد قال عز وجل قبلها: (يؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) فنسب إتيان الحكمة إلى نفسه، ثم أعادها عامة بالفعل المبني للمجهول
آية (273):
*(لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ (273) البقرة) ماذا أراد ربنا بقوله (لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ) وهل ضرب الأرض فِعل الأغنياء ؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
هذا وجه بديع من أوجه اللغة العربية، وهو باب الكناية، والكناية أن تقول كلاماً وتريد ما يلزم عنه. فتقول هذا رجل سيفه طويل، وتريد ما يلزم عنه وهو طول الرجل، فلا يحمل السيف الطويل إلا الرجل الطويل. (لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ) كناية عن عجزهم وفقرهم، فهم عاجزون عن التجارة لقلة ذات اليد، والضرب في الأرض كناية عن المتاجرة؛ لأن شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع، فهو يضرب الأرض برجليه أو بدابته.
آية (275):
*(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا (275) البقرة) لِمَ قال (يأكلون الربا) ولم يقل يأخذون الربا مع أن الأكل يختص بالطعام لا بالمال؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
نعم الأكل في حقيقته هو ابتلاع الطعام ولكن ربنا عبّر عن أخذ الربا بالأكل؛ ليبين لنا حرص المرابي على أخذ المال بشَرَه.
آية (276):
* (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) البقرة) لِمَ خصّ ربنا الكافر بعدم المحبة دون المرابي؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
تأمل هذا السر البديع في خاتمة الآية، فقد ختمها بقوله (وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) مع أن بداية الآية توحي أن ختامها : والله لا يحب كل مرابٍ أثيم، فلِمَ خصّ ربنا الكافر بعدم المحبة دون المرابي؟ إن الإخبار بأن الله تعالى لا يحب جميع الكافرين يؤذن ويشعر بأن الربا شعار أهل الكفر، وهو سمة من سماتهم، فهم الذين استباحوه. وفي هذا تعريض بأن المرابي متّسمٌ بخلال أهل الكفر والشرك، وإن كان مؤمناً.
آية (278):
*(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) البقرة) لِمَ قدّم ربنا تعالى الأمر بالتقوى على الأمر بترك الربا مع أن الآيات تعالج قضية الربا؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
أُمِر الناس بتقوى الله تعالى قبل الأمر بترك الربا؛ لأن تقوى الله هي أصل الامتثال والاجتناب، وترك الربا من جملتها، وخصلة من خصال التقوى.
آية (280):
*ما دلالة كلمة ميسرة ؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {280}).
اليسار هو الغنى المؤقت، كالفقير إذا جاءه مال فعليه أن يؤدي دينه، وهذا يفسّر أن يُنظر المعسر حتى يزول عذره. وقد يكون الفقير موسراً بين ساعة وساعة، ولا يصبح غنياً بين ساعة وساعة، وقولنا ذو سعة بمعنى موسّع عليه.(وإن كان ذو عسرة) بمعنى إن وُجِد.
* (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) لم لم يقل ولا والد بولده بدل ولا مولود له بولده؟( د.فاضل السامرائى)
الرجل المولود له يُنسب إليه الولد (مولود له)، هو ابنه استحقاقاً يُدعى باسم أبيه، وينسب له، أما الوالد فمثل الوالدة، لكن يختلف الحكم الشرعى، هذا ولد له، هذه لام الاستحقاق. لو قال لا تضار والدة بولدها، ولا والد بولده يكون الحكم واحدا، هذا ولِد له (وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ ) ، ولِد له حكماً وشرعاً وعرفاً، ينتسب لأبيه ويلتحق بأبيه (ولِد له)، ولو قال: ولا والد بولده لصار الحكم واحداً، فلما تغير الحكم تغيرت الصيغة (وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ) هذه لام الاستحقاق.
آية (281):
*ما الفرق بين (ماعملت) و (ماكسبت)؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (111)النحل) و قال (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ (281) البقرة). في آية النحل قال ماعملت، في سياق الأموال يقول (ما كسبت)، وفي سياق العمل يقول (ما عملت).
في البقرة في سياق الأموال، وقبلها أمور مادية من ترك الربا (278) الربا كسب حرام، آية المعسِر (280)، آية الدين (282) البقرة، في سياق الأموال فناسب ذكر الكسب.
أما آية النحل فليس لها علاقة بالكسب، وقال قبلها (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110) النحل) ليس فيها كسب، فالجهاد والفتنة والصبر ليست كسباً. ففي سياق الأموال قال كسب، وفي سياق الأعمال قال عمل.
في الاية قبلها قلنا: أن الكسب منوط بالمال في الغالب؛ ولهذا يقول تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ (134) البقرة) جعلها كالأموال وككسب الإنسان.
*قال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) لقمان) وقال تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281) البقرة) الآيتان جملتان وصفيتان فلماذا الحذف (فيه) في إحداها والذكر في الأخرى؟( د.فاضل السامرائى)
السبب أن التقدير حاصل (يجزي فيه)، لكن لماذا الحذف؟ الحذف يفيد الإطلاق، ولا يختص بذلك اليوم. فالجزاء ليس منحصراً في ذلك اليوم، وإنما سيمتد أثره إلى ما بعد ذلك اليوم، وكلما يذكر الجزاء يحذف (فيه) (لا تجزي) و(لا يجزي).
أما في الآية الثانية فذكر (فيه) لأنه منحصر فقط في يوم الحساب، وليس عموماً. وكذلك في قوله تعالى (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) اليوم منحصر في يوم القيامة والحساب، لذا ذكر (فيه). وحذف (فيه) عندما لم يكن اليوم محصوراً بيوم معين.
*(فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا (282) البقرة) البخس هو النقص فهل اختيار البخس في قوله تعالى (ولا يبخس منه شيئاً) لغاية وسبب؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
نعم، فالبخس وإن كان بمعنى النقص إلا أنه يدل على الإنقاص بخفاء وغفلة عن صاحب الحق؛ لذلك كان اختيار هذا اللفظ دون غيره.
*(وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ (282) البقرة) ما الفرق بين قولنا (وأشهدوا شهيدين) وقوله تعالى (واستشهدوا شهيدين)؟ ( ورتل القرآن ترتيلاً)
انظر إلى هذا التصوير البديع الذي ترسمه زيادة السين والتاء في قوله تعالى (واستشهدوا)، هذه الكلمة تدل على طلب شهادة الشاهدين، وتكليف بالسعي للإشهاد، وهذا ما لا يفيده لفظ (وأشهدوا) الذي يدل على مجرد الشهادة.
*(أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى (282) البقرة) في قوله تعالى (فتذكر إحداهما الأخرى) أظهر ربنا سبحانه وتعالى إحداهما مع أن حقها الإضمار فمقتضى الظاهر أن تكون الآية: أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى، فما فائدة تكرار إحداهما أي كما قال تعالى (أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى)؟ ( ورتل القرآن ترتيلاً)
تكررت كلمة إحداهما؛ لأن كل واحدة من المرأتين يحوز عليها ما يجوز على صاحبتها من الضلال والتذكير، وتكرار كلمة (إحداهما) مع الضلال ومع التذكير؛ لئلا يُتوهم أن إحدى المرأتين لا تكون إلا مذكِّرة للأخرى.
آية (282):
* ما اللمسة البيانية في الآية (وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ (282) البقرة) ؟ ولماذ ذكر الله ورب في نفس الآية؟( د.فاضل السامرائى)
الله غير الرب، فالرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم والقيّم؛ ولذلك يصح أن تقول عن إنسان هو رب الدار، رب الشيء. لفظ الجلالة الله هو اسم العلم من العبادة هو الإله المعبود، (وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ).
سبب الاختيار؟ هذه الآية جزء من آية الدين (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا (282) يتكلم عن الدائن والمدين، الدائن أحسن إلى المدين، وأجره أعلى من أجر المتصدق؛ لأن المتصدق أجره عشرة أضعاف، والدائن ثمانية عشر كما في الحديث، لأنه أخرج المحتاج من حاجته، إذًا الدائن أحسن إلى المدين فعلى المدين أن لا يبخس حق من أحسن إليه، والرب أحسن إلى العبد في تعليمه وتوجيهه، وأحسن إلى الدائن فمكنّ له. وقال في ختام الآية (وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، والمعلم مربٍ، فناسب رب من ناحية الإحسان ومن ناحية التعليم. ولو قال (وليتق الله) فقط لما تحقق معنى الإحسان والإفادة، وأن هذا أحسن إليك، كما أحسن الله إليه، وآتاه المال، وجعل يده أعلى، ولو قال ليتق ربه فإن كلمة رب لا تعني الله بالضرورة؛ لأن الرب قد يكون رب الدَيْن. أراد أن يجرّدها لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال (وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ).
*ما دلالة (أن) فى الآية (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى (282) البقرة)؟(د.فاضل السامرائى)
كراهة أن تضل إحداهما، أو لئلا تضل. كقوله : (أن تميد بكم) يقولون كراهة أن تميد بكم، أو لئلا تميد بكم (إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) هود) يعني لئلا تكون من الجاهلين.
* ما الفرق بين استشهدوا وأشهدوا في آية البقرة (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ (282) وفي نفس الآية (وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ (282) ؟( د.فاضل السامرائى)
استشهد (استفعل) يعني الاحتمال الأول أن يكون للطلب، أي اطلبوا شهيدين، أو قد يكون للمبالغة أي اطلبوا ممن تكررت منه الشهادة، وممن تعلمون قدرته وعلمه على أدائها. الهمزة والسين والتاء للطلب، يعني اطلبوا شهيدين، والثاني: أن تكون للمبالغة فالهمزة والسين والتاء تأتي لأمور منها هذه، أما أشهدوا فليس فيها هذا الأمر معنى ذلك أن استشهدوا معناها أقوى، ولو لاحظنا كيف قال استشهدوا، والموضع الذي قال أشهدوا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا (282) تقييدات في حفظ الحقوق، (فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الذي لا يستطيع أن يحفظ حقه، قال (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ) في هذا الموقف نطلب من يستطيع أن يتحمل الشهادة، أمينا قادرا على أن يتحمل أداءها، قال (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى).
أما في الثانية فقال (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوْاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ) في البيع، ليس فيها أحد قاصر لا يستطيع أن يمل ماعليه من الحق وما إلى ذلك، وإنما حالة أكبر فقال (أشهدوا) لأن البيع لا يحتاج. إذن الحالة التي تستدعي دعوة الأمين والقوي والمقتدر والعالم بالشهادة ذكرها في موطنها، والتي لا تحتاج لم يقل اكتبوها (إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا) فيما هو أهم جاء بالفعل الذي يدل على أهمية الطلب والمبالغة، والأمر الاعتيادي الذي يحصل في الأسواق قال أشهدوا، فوضع كل فعل في الموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه.
*هل اللام هنا نافية أم ناهية(وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ (282) البقرة)؟( د.فاضل السامرائى)
فى قوله تعالى (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ (282) البقرة) و(لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) البقرة) هذا حكم شرعي. (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) (لا) ناهية وليست نافية، بدليل أن الراء في (يضارَّ) مفتوحة. هل هي لا يضارَر؟ أي لا يضره أحد، أو لا يضارِر، هو لا يضر أحداً، محتمل أن الكاتب والشهيد يضغط عليه ويضر عليه ويهدد، فيغير من شهادته، يحتمل هذا المعنى، أو أن الشهيد لا يريد أن يشهد لأسباب في نفسه، يغير في الشهادة. لا يضارَر أو لا يضارِر؟ لو أراد أن يقيّد لقال ولا يضارَر، فيكون قطعاً هو المقصود (نائب فاعل) لو أراد أن الكاتب هو الذي يُضرِ يقول لا يضارِر. مع أن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن (ومن يرتدد) في مكان وقال (ومن يرتد) في مكان آخر، وقال (من يشاقق) و (من يشاق) وبدل أن يقول ولا يضارِر أو ولا يضارَر جاء بتعبير يجمعهما معاً فيريد كلاهما. إذًا لو فك الادغام لعطف، لكنه أوجز تعبيراً وجمعا المعاني، ويسمى التوسع في المعنى.
(لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) البقرة) لا يوقع عليها ضرر، بحيث الأب يضرها إذا كانت مطلقة؟ أو هي لا تضر زوجها بحيث تمنع ابنها؟ ما المقصود؟ المعنيان مرادان وكلاهما منهي عنه. عندنا باب اسمه التوسع في المعنى في علم المعنى، عندنا دلالة قطعية، وعندنا دلالة احتمالية، وهذه الاحتمالية تحتمل معاني قد تراد كلها أو بعضها، فإذا أريد بعضها أو كلها يسمونه التوسع في المعنى.
آية (283):
*(وَإِن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ (283) البقرة) لِمَ أطلق على الرهان اسم الأمانة؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
كل من يقرأ هذه الآية يعلم أن الأمانة في قوله تعالى (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) يُراد بها الرهان الذي سبق ذكره (فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ)، سمّى ربنا سبحانه وتعالى الدَيْن في الذمة أو الرهن أمانة؛ لتعظيم الحق عند المدين، فاسم الأمانة له مهابة في نفس الإنسان لا تضفيه كلمة الرهان، وفيها تهويل من عدم الوفاء بالاتفاق لئلا يُسمى ناكث العهد خائناً.
*(وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ (283) البقرة) أليس من الممكن حذف لفظ الجلالة (الله) من الجملة (وليتق الله ربه)؟ فلِمَ ذكر رنا تعالى كلمة (الله) وكلمة (ربه) وهمااسمان لمسمّى واحد؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
ذكر اسم الجلالة (الله) في الآية مع أنه يمكن الاكتفاء بقولنا: وليتق ربه؛ لإدخال الروع في ضمير السامع، ولغرس المهابة في قلبه، ليكون حذراً من الإخلاف، فاسم الجلالة (الله) له وقع في نفس السامع يشعرك بالمهابة والتعظيم.
آية (284):
*(وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ (284) البقرة) ما دلالة (يحاسبكم)؟( ورتل القرآن ترتيلاً)
المحاسبة مشتقة من الحسبان، وهو العدّ، ويحاسبكم أي يعدّه عليكم، ثم أطلق هذا اللفظ على ما ينجم عن العدّ والإحصاء، وهو المؤاخذة والمجازاة، فحساب الله تعالى هو إحصاء لأعمالك وأفعالك ثم مجازاتك على ذلك.
آية (284):
*ما دلالة تقديم وتأخير كلمة تخفوا في آية سورة البقرة وسورة آل عمران؟( د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة (لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {284})، وقال في آل عمران (قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {29}). المحاسبة في سورة البقرة هي على ما يُبدي الإنسان، وليس ما يُخفي، ففي سياق المحاسبة قدّم الإبداء، أما في سورة آل عمران فالآية في سياق العلم لذا قدّم الإخفاء؛ لأنه سبحانه يعلم السر وأخفى.
*ما دلالة تقديم وتأخير (يغفر) في قوله تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) البقرة)وقوله تعالى (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) المائدة) ؟(د.حسام النعيمى)
لو نظرنا في الآيات سنجد أن المغفرة تقدمت في ثلاث آيات في البقرة، وفي آل عمران، وتقديم المغفرة على العذاب هو الأصل؛ لأنه (كتب ربكم على نفسه الرحمة)، وفي الحديث في صحيح البخاري “رحمتي سبقت غضبي” لكن يرد السؤال: لماذا تقدمت يعذّب على يغفر في الآية 40 من سورة المائدة؟ هذا الأمر يتعلق بقطع اليد، لاحظ الآية (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)) فلا بد أن يقدّم العذاب؛ لأن الكلام في البداية كان عن عذاب ثم عن مغفرة، ولو عسكت لما استقام الكلام .
آية (285):
*في قوله تعالى (لا نفرّقُ بين أحد من رسله)(لا) هي النافية، لا تجزم ولا تؤثر على الفعل، إنما تنفي فقط الفعل الذي يليها.
*قال تعالى (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة) فما الفرق بين المغفرة والغفران فى القرآن الكريم؟(د.فاضل السامرائى)
كلمة غفران لم ترد إلا في موطن واحد في قوله تعالى (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة) في طلب المغفرة من الله تعالى، إذًا كلمة غفران مخصصة بطلب المغفرة من الله تعالى، هذه دعاء، أي نسألك المغفرة (غفرانك ربنا). فهي تستعمل في طلب المغفرة من الله تعالى تحديداً. أما كلمة المغفرة فلم تأت في طلب المغفرة أبداً، وإنما جاءت في الإخبار وفي غير الطلب (وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً (268) البقرة) (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ (6) الرعد). فقط في طلب المغفرة يستعمل كلمة غفران، ومن جهة واحدة وهي المغفرة من الله عز وجل. وقد تأتي المغفرة من غير الله سبحانه وتعالى كما في قوله (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) البقرة) فقد تأتي من العباد، إذن المغفرة ليست خاصة بالله سبحانه وتعالى ولها أكثر من جهة، ولم يستعملها القرآن في طلب المغفرة، والغفران مختصة بطلب المغفرة، ومن الله تعالى تحديداً.
آية (286):
*ما الفرق بين كسبت واكتسبت؟(د.فاضل السامرائى)
اكتسب على وزن (افتعل)، وفيها تمهّل مثل اصبر واصطبر، وجهد واجتهد. واصطبر معناها الصبر الطويل الشديد، صيغة افتعل فيها تمهّل ومدّة واجتهاد وإبطاء. قال تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286) البقرة) الاكتساب فيه تعمّل واجتهاد، اكتسب ليست عامة في الشر. الكسب يكون في الخير والشر لأن الكسب أسرع، والاكتساب فيه تعمّل واجتهاد، وكسب حتى يكتسب، والسيئات تحتاج إلى مشقة أما الخير فقد يأتيك وأنت لا تعلم، يغتابك أحد وتكسب أنت خيراً، وهو يكتسب شراً.
آية (286):
*ما الفرق بين (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا) الطلاق، وبين (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) البقرة؟(د.حسام النعيمى)
لو نظرنا في الآيتين سنجد السبب واضحاً. الآية الأولى كانت تتكلم على التكاليف عموماً (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)) فهي في التكاليف وفي أمور الحياة وفي العمل، إذا عمل خيراً يكون له، وإذا عمل سوءاً يكون عليه، وهذا في عموم التكاليف، فقال الله عز وجل (لها ما اكتسبت وعليها ما اكتسبت) فهو كسبٌ واكتساب.
لكن الآية الثانية (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)) الإيتاء هو الإعطاء، وحين ننظر في سياق الآية نجد الكلام عن المال، أي ما آتاها من مال، فالكلام عن الإنفاق، وحين يكون الكلام عن الإنفاق فالإنسان ينفق. والكلام عن المطلقات أي ما أعطاها من الرزق، فلا يكلف الفقير أن ينفق ما ليس في وسعه، بل لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها من حيث المال، عندما يكون هناك إنفاق، فبقدر ما عندك تُنفِق، أي بمقدار ما آتاه الله (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها).
والتي في التكاليف للعلماء فيها وقفة: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، جمهور العلماء قالوا كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم” أي بقدر طاقتكم .
وقول آخر: إن معناها أن جميع التكاليف هي في وسع البشر؛ لأنه سبحانه و تعالى لم يكلّف البشر شيئاً لا يطيقونه، هذا يحتاج إلى استنباط أنه لم يكلفهم ما لا يطيقونه، فإذا كانوا لا يطيقون يخفف عنهم. بهذا الشكل حنى نجمع بين الأمرين.
(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) دلالة التنكير للنفس هي للعموم والشمول، أي جنس النفس، أيُّ نفس لا يكلفها الله تعالى إلا وسعها، إلا ما تطيقه. وحين يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) “إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن أمرفانتهوا” في مسألة النهي نقطع، فلما نُهينا عن الربا انتهى الأمر، لا نقول هذا ربا، وهذا رُبيّ أي ربا خفيف، هذا لا يجوز، وإذا أمرنا بأمر نأتي منه بقدر طاقاتنا. فإذا أمرنا مثلا بالصيام فإن الإنسان حين يكون مريضاً يخفف عنه.
الدلالة: القرآن هو تعبير فني مقصود، كل حرف، وكل لفظة، وكل عبارة وردت فيه لعظة مقصودة قصداً.