بدأت بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)) هذه أوائل السورة وقال في خاتمتها: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)) يستمر في المواريث. بدأت السورة بخلق الإنسان وبثّ ذريته في الأرض (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) إذن بدأت بخلق الإنسان وبثّ ذريته في الأرض وانتهت بهلاكه من دون عقِب (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) انتهت بنهاية الإنسان، ليس هذا فقط وإنما بدأت بإيتاء الأموال للنشء الجديد (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) واختتمت بتقسيم التركات، هذا تناسب. إذن هذا الترتيب توقيفي مع أن القرآن نزل منجّماً على مدى ثلاث وعشرين سنة.
قال تعالى في خاتمة آل عمران: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)) وفي بداية النساء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ (1)), إذن صار الخطاب عاماً للمؤمنين في خاتمة آل عمران (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ), وأنتم يا أيها الناس اتقوا ربكم إذن كلهم مأمورون بالتقوى. المؤمنون هم فئة من الناس والناس أعمّ، المؤمنون أمرهم بأكثر من التقوى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ), ثم التفت إلى الناس لأن ليس كلهم بهذه الاستطاعة فقال اتقوا ربكم الناس فيهم وفيهم (اتقوا ربكم) هذه مطالبين فيها, أما المرابطة فليس كلهم مطالبون فيها, فمنهم الضعيف والمريض. هنا علاقة الخاص بالعام المؤمنين والناس وبين التقوى وغير التقوى إذن صار ارتباط الأمر للمؤمنين ولعموم الناس.
تبدأ المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ (1)) وأخبر ربنا في النساء في أواخرها أن اليهود لما نقضوا المواثيق التي أخذها الله عليهم حرم عليهم طيبات أحلت لهم فقال (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا (160) النساء) إذن حرّم عليهم الطيبات لأنهم نقضوا المواثيق وقال في المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) لأن أولئك نقضوها أنتم أوفوا بالعقود لذلك في أوائل المائدة قال: (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ (4)) مقابل (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ (160) النساء). يخاطب المؤمنين في سورة المائدة لما قال أوفوا بالعقود قال أحل لكم الطيبات أما أولئك حرم عليهم الطيبات لنقضهم المواثيق أنتم أوفوا بالعقود أحل لكم الطيبات. هذا أمر، والأمر الآخر أنه في خواتيم النساء تقسيم الإرث (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ (176)) فإذن خاتمة النساء في تنظيم العلاقة المالية بين الأقرباء، في أول المائدة العلاقة مع الآخرين، تلك العلاقة المالية مع الأقرباء والمائدة مع الآخرين والطبيعي أن تبدأ بالأقرباء ثم تعمم، فذكر العلاقة بين الأقربين في النساء وتقسيم الإرث بينهم وأول المائدة ذكر العلاقة مع الآخرين وتبدأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) والعقود مع الآخرين (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى (2)) هذه مع الآخرين. إذن صار خاتمة النساء وأول المائدة تنظيم العلاقة بين أفراد المجتمع عموماً كلهم من الأقربين إلى عموم المجتمع، تنظيم العلاقة كلها بين الداخل والخارج. ثم خاتمة النساء في تقسيم الأموال وأول المائدة في صرف الأموال ابتداء من الأطعمة أول ما يحتاج إليه الإنسان الطعام فذكر ما يحل له (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)) وما يحرم عليه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ (3)). إذن خاتمة النساء في تقسيم الأموال والمائدة في أوجه صرف الأموال، إذن هي مترابطة. خاتمة النساء في هلاك الإنسان والاستفادة من ماله والاستفادة مما ترك وبداية المائدة في إهلاك الأنعام والاستفادة منها من صوف ولحم، تلك استفادة مما ترك وهذه استفادة مما تركت من صوف ولحم وأشعار، إذن الرابط الاستفادة مما ترك ومما تركت، تلك استفادة في الأموال والاستفادة من هذه بالأصواف والأشعار واللحم، إذن ترابط أكثر من موضوع في العقود وإحلال الطيبات وتنظيم العلاقة والاستفادة مما ترك ومما تركت.