سورة الفاتحة
*الاستعاذة*
*ما الاستعاذة وما معناها؟
الاستعاذة أُخِذت من قوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) الكلام كان موجهاً إلى الرسول وما وُجّه للرسول في مثل هذه الأمور فمن باب أولى أن يأخذ به أتباعه.
*عندنا (إذا) أداة شرط وعندنا (إن) أداة شرط. لماذا اختار (إذا)؟.
في لغة العرب إذا قالوا (إن) معناه احتمال وقوعه قليل، فإذا قالوا(إذا) معناه أن ما بعدها احتمال وقوعه قوي أو واسع أو كثير.
فعندما يستعمل القرآن كلمة (إذا) معناه أن الأصل أن تقرأ القرآن (فإذا قرأت القرآن) هذا حاصل، ثم عندما دخلت (إذا) على الفعل الماضي، وقلنا هي إذا استعملت في الزمان (إذا جاء نصر الله) قرّبته من المستقبل إلى واقع الحال يعني هو أمر قريب.
(فإذا قرأت القرآن) يعني قراءتك للقرآن مسألة قريبة قائمة.
بعض العلماء يقولون هنا (إذا قرأت القرآن فاستعذ): معناها أن الاستعاذة تكون في داخل القراءة، لكن الجمهور قال: هذا الفهم غير دقيق، فهو عندما يقول: إذا قرأت يعني: إذا أردت أن تقرأ، هكذا هي لغة العرب لأنه في القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ) يعني ، معناه إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة توضؤوا. إذا أكلت فقل بسم الله الرحمن الرحيم، يعني إذا جئت لتأكل، لا إذا أكلت، فما معنى أنه بعد أن يفعل الأكل يقول بسم الله؟ يعني حتى في العامية نستعملها نقول : إذا أكلت فقل بسم الله، معناه: قبل أن تباشر الأكل، معناه قبل أن تريد الفعل، قبل أن تريد استفتاح العمل.
فإذا قلت: (إذا قرأت) لا تعني أنه إذا وقعت منك القراءة عند ذلك استعذ؛ لأن بعضهم قال إذا انتهيت من القراءة فاستعذ، إذا خطبت فاخفض صوتك: معناه قبل أن تبدأ الخطابة خذ هذه النصيحة.
فإذا قرأت، أي حينما تريد القراءة، عندما تنوي أن تقرأ.
ولقد غيّر الإسلام معاني بعض الكلمات وفقاً لمفهومه هو، ومنها معنى الصلاة والزكاة، وهي معانٍ كانت مستعملة قديماً لكن ليس بالمفهوم الإسلامي.
(فإذا قرأت): قرأ في الأصل بمعنى: أمرّ بصره على شيء مكتوب، وهذا الذي فهمه الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قال له جبريل: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، يعني أنا لا أحسن أن أمرّر بصري على شيء مكتوب حتى أقرأه. ثم تغيّر المفهوم، فصارت القراءة في الإسلام ترداد ما حواه صدرك مما سمعته، أو مما أمررت بصرك عليه، يعني من محفوظاتك، ولذلك قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقرأ (صلى الله عليه وسلم): اقرأ باسم ربك الذي خلق؛ لأنها مرت على قلبه.
فهذه عامة، سواء كانت قراءة القرآن من المصحف أو من الحفظ ينبغي أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
(فإذا قرأت القرآن فاستعذ): الفاء واقعة في جواب (إذا). استعذ : أمر من الفعل استعاذ يستعيذ، وهذه صيغة استفعل فيها معنى الطلب والسعي، فقولك: فهِم غير استفهم: استفهم معناه: سعى طالباً الفهم يعني في الأمر جهد.
لم يقل القرآن (فإذا قرأت القرآن فقل أعوذ بالله) لأن ذلك تلقين، الآية تريدنا أن نبذل جهداً باستحضار معنى استعاذ (فاستعذ) لم يقل (أعوذ) أو (عُذ) لأن هذا أمر بالفعل. لكن استعمل صيغة استفعل، ففيها معنى الطلب، يعني يريد لك أن تستحضر، ويكون لديك جهد في الاستحضار والاستعاذة، أو العوذ بالله سبحانه وتعالى. الآية تريدنا أن نكون حاضري الذهن، أن نبذل جهداً في التفكر بالاستعاذة، يعني هناك طلب أن تطلب العوذ وأن تبذل جهداً، وفرق بينها وبين ما ذكرناه.
(فاستعذ بالله) كلمة (الله)، هذه اللفظة عندما تُذكر لا يخطر معها في الذهن وصف محدد من أوصاف الباري سبحانه وتعالى. حين نقول الله : يستحضر الذهن: هو الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى. كل ما خطر في بالك من صفات (الله).
لكن حين تقول (القادر) يخطر في بالك صفة القدرة، حين تقول (الرحمن) صفة الرحمة، حين تقول (القهار) صفة القهر، (الكريم) صفة الكرم.
الاسم الوحيد لذات الله سبحانه وتعالى الذي إذا ذكرته لا يكون معه وصف معين، فهو يحتمل كل الأوصاف، بكل العظمة، هو كلمة الله، وسنعود إليها عندما نتكلم عن بسم الله الرحمن الرحيم.
عندما تستعيذ تستعيذ بالله تعالى من كل ما يحضرك، وأنت بحاجة إلى صرفه عنك حين تقرأ؟ أن يصرف عنك الأفكار ، الخواطر ، الحزن، الأهواء، كل ما تريد؟ كلمة الله تستجيب لما يخطر في ذهنك؛ لأنها ليست منحصرة بوصف معين، فالاستعاذة بالله، واستعذ بمعنى الجأ. تقول فلان رمي بسهم فعاذ بشجرة، بمعنى استجار أو اختبأ أو اتّقى أو لاذ.
فهكذا ينبغي أن تتصور أنك تستعيذ، تستجير، تستنجد بالله، (فاستعذ بالله) أي تصور أنك تلجأ إلى الله تعالى ليخلصك من كيد الشيطان، عند ذلك تكون في مأمن.
لكن لاحظ أن القرآن الكريم استعمل كلمة الشيطان، ولم يقل إبليس لأمرين: أولاً: إبليس هو اسم أبي الشياطين الذي أبى أن يسجد لآدم، وأول من عصى ربه تعالى، وليس شرطاً أن يكون هو الذي يأتي ليوسوس لك بنفسه، لأن له ذرية (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) وكل إنسان وُكّل به شيطانه.
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
والواقع أنه تدنى به الحال، لا ارتقى.
كل إنسان موكل به هذا القرين الذي يحاول أن يضله، والشيطان أبوهم يحاسبهم، ولذلك في الأثر: أنه إذا مات العبد على طاعة الله سبحانه وتعالى (حتى نعرف الخطر الذي يحيط بنا من الشيطان) إذا مات العبد على الإيمان يصرخ الشيطان صرخة يجتمع لها أبناؤه، فيقول: أين كنتم عن هذا؟ كيف مات على الإيمان؟ فيقولون: لقد راودناه فكان مستعصماً. نسأل الله تعالى أن نكون جميعًا من المستعصمين.
هذا شيء، والشيء الثاني أن كلمة إبليس فيها معنى الانكسار والخذلان والحزن، بينما الآية تريد أن تحذّر.
(الشيطان الرجيم): كلمة الشيطان من الشطن الذي هو الحبل الممتد، يعني أن هذا الشيطان يمتد إليك، فكن حذراً منه، لكن حتى لا يغالي الإنسان في كثرة الخوف منه جاءت كلمة الرجيم، وكلمة الرجيم وصف هو أنسب الأوصاف للشيطان في هذا الموضع، يعني لم يقل الشيطان اللعين، الشيطان كذا، الشيطان كذا، وإنما الرجيم حتى تتخيل صورته وهو يُرجم بالحجارة، فكأنه منشغل بنفسه، فكلمة شيطان فيها معنى الحبل الممتد إليك حتى لا تتهاون في شأنه، وكلمة رجيم حتى لا يبلغ بك الخوف منه مبلغاً عظيماً، فهو رجيم مرجوم.
هل النون أصلية في شيطان وشياطين؟ في ذلك قولان: البعض يقول: هو من شاط أي ابتعد، والبعض يقول: هو من الشطن، وهذا الذي رجّحناه.
ثم يقول تعالى: (إنه ليس له سلطان) هذا تطمين للمسلم أنه عندما يتوكل على الله سبحانه وتعالى سيحييه الحياة الطيبة، وسينقذه من الشيطان حتى لا يبقى في قلق وخوف ووسوسة؛ لأن المسلم لا ينبغي أن يكون موسوساً، فهذا الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، هذه صفتهم: إيمان وتوكل.
*صيغة الاستعاذة:
(فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) جمهور المسلمين قالوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لم يقولوا أستعيذ بالله. فجواب الأمر الطبيعي لقوله: استعذ، هو: أستعيذ، أو: استعذت، وإنما أعوذ فعل مضارع يدل على الحال والاستقبال. أي حين تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يعني: أنا الآن في حالة عوذ: بينما قولك: أستعيذ يعني: سوف أطلب العوذ. أنت طُلِب منك العوذ في الآية، فأنت الآن تعوذ في الداخل فتقول: أعوذ، ولا تقول (استعذت)؛ لأنه سيكون شيء تاريخي ماض.
*ما حكم من يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؟
هذه الإضافات قديمة وليست جديدة، بحثها العلماء، وقالوا بجوازها، ولكننا نختار من بين الأشياء الجائزة ما هو أفضل. إذا قال المرء: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم له ذلك. لكن من باب الالتزام بالآية أن نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. والإضافة ليس فيها ضير، ولكن كما قلت الأمثل والأرجح والأفضل أن نختار ما اختاره جمهور السلف (الخير في الاتّباع وليس في الابتداع) دائماً الخير في الاتباع في أمور الشرع لأنه كما جاء في الحديث: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” فلما كان القدامى في الاستعاذة اختاروا (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فلا داعي للزيادة، ومن زاد شيئاً فلا شيء عليه حتى لا نحجّر واسعاً، لكن نقول: الأفضل هو عدم الزيادة.
* هل من فرق بين الرجيم والمرجوم؟
عندنا لغتان: فعيل ومفعول. فعيل نسميها صفة مشبهة كأن الرجم لازم له، أما حين نقول مرجوم على مفعول، وهي لغة تميم، فقد يكون مرجوماً الآن لكن لا يكون مرجوماً بعد ساعة، بينما رجيم تعني أنها صفته اللاصقة به، وإنما اختيرت الصفة المشبهة التي تدل في الغالب على الثبات لتدل على أن صفة الرجم ملازمة له .
*البسملة*
*بسم الله الرحمن الرحيم: ما هي وما معناها وما تفسيرها؟
الآن ننتقل إلى سورة الفاتحة. وسورة الفاتحة تبدأ بقوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) إلى آخر السورة، نحن هنا نريد أن ننبه إلى مسألة لعلها تتعلق بأصول الفكر الإسلامي والفهم الإسلامي كيف ينبغي أن يكون؟ وماذا ينبغي أن يكون عليه المسلم في علاقته بالآخرين؟.
البسملة فيها كلام، لكن الذي أخذ به المصحف المتداول الآن، مصحف المدينة النبوية، وما أُخِذ عنه، وهو مطبوع بالملايين بين أيدي المسلمين – هو أن تكون البسملة هي الآية الأولى من سورة الفاتحة. وإذا فتحنا المصحف سنجد بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة أمامها رقم 1 ، ومعنى ذلك أنها هي الآية الأولى، وهذا الذي أخذ به المصحف، هو ما كان عليه جمهور عظيم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد نبّه المشرفون على تدقيق المصحف في آخره إلى أنهم أخذوا في عدّ الآيات بما رواه عبد الرحمن السُلَمي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه.
وهناك آراء أخرى، وروايات أخرى، لكننا نقول إنه حينما تكون هناك أكثر من رواية في قضية معينة، ويقتنع المسلم بإحدى هذه الروايات بناء على ما يراه من دليل، فينبغي أن يعتقد أن ما أخذ به هو لصاحب الأجرين، وما أخذ به مُخالِفه هو لصاحب الأجر الواحد، هذا نصف الاعتقاد، والنصف الثاني أن يُقرّ في نفسه باحتمال أن يكون ما أخذ به هو للأجر الواحد، وما أخذ به مخالِفه هو لصاحب الأجرين حتى لا نبقى في شد وتعصب.
أنا مقتنع الآن تماماً بأن ما أخذ به هذا المصحف، من عدّه البسملة آية من الفاتحة نقلاً عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وجمهور من الصحابة إذن – أنا معتقد أن الآخذ بهذا آخذٌ برأي صاحب الأجرين من المجتهدين، وأن ما أخذ به غيري من عدم عدّها آية من الفاتحة هو صاحب الأجر الواحد، لكنني في الوقت نفسه معتقد أنني قد أكون صاحب الأجر الواحد وهو صاحب الأجرين، أؤكد على ذلك حتى نتخلص من فكرة المشاحّة والمجادلة وإضاعة الوقت فيما لا فائدة من ورائه، لأن هذا أخذ به جمع من الصحابة، وذلك أخذ به جمع آخر من الصحابة، ولسنا خيراً من القرون الأولى التي قال فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم): خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ومن هنا نحن سنقف عند قوله بسم الله الرحمن الرحيم بوصفها الآية الأولى من سورة الفاتحة.
يقولون أن البسملة وردت 114 مرة كعدد سور القرآن فهل في هذا إعجاز؟ هذه الآية وردت في سورة النمل في داخلها (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)) ولم توضع في براءة أو سورة التوبة، فجاءت على عدد سور القرآن الكريم 114 مرة.
بسم الله:
هذه اللفظة حينما نقول بسم الله في أول المصحف الشريف، يعلّمنا الله سبحانه وتعالى – وهذا من فضله جلّت قدرته – أن نُجري على ألسنتنا ما ينبغي أن نقوله، كما أن آدم (عليه السلام) لما عصى ربه لم يعرف كيف يتوب وكيف يستغفر، فأوحى إليه الله سبحانه وتعالى كلمات (فتلقى آدم من ربه كلمات) فرددها، فتاب عليه, هذه الفاء التي في (فتاب عليه) تسمى الفاء الفصيحة؛ لأنها تفصح عن كلام محذوف، يعني فرددها، فتاب الله عليه. فمن فضل الله تعالى على هذه الأمة أن علّمها كيف تقول، وكيف تدعو، وكيف تناجي ربها، فتبدأ بكلمة بسم الله.
والعلماء يقدّرون محذوفاً، يقولون: لأن الجار والمجرور في الكلام لا يقويان على الوقوف وحدهما، بل ينبغي أن يتعلقا، أي أن يرتبطا بفعل أو ما يقوم مقام الفعل من أسماء الفاعلين والمفعولين، فيقدّرون : بسم الله أبتدئ، أو بسم الله ابتدائي، بسم الله أبتدئ القراءة، بسم الله أبتدئ الأكل، بسم الله أبتدئ اللبس، بسم الله أبتدئ حياتي وأنا خارج من منزلي، بسم الله أبتدئ وأنا داخل على أهلي في منزلي، بحسب ما تفعله تقول: بسم الله.
وقدّروا هذا المحذوف من فعل أو غيره بعد كلمة بسم الله حتى لا يبتدئ الإنسان في ذهنه بغير اسم الله، يعني أن تكون كلمة بسم الله هي البداية، أنت تبدأ بها في كل شأن من شؤون حياتك وعند ذلك تكون مطمئناً أنك مع الرحمن الرحيم، مع اللطيف الخبير، مع الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين، مع الله سبحانه وتعالى، فتبدأ بسم الله.
كلمة (الله) هي في الحقيقة اسم للذات الذي هو كما يقولون في الفلسفة واجب الوجود، وهي لفظ يشير إلى خالق السموات والأرض الذي ليس كمثله شيء. ولفظة(الله) هي اسم لمسمى، يقول جمهور العلماء إنها تشير إلى الذات الإلهية. أنا حين أقول لك إني أحدّثك الآن باسم زيد، وليس بإسمي الشخصي، فكلمة زيد هذه الأصوات: الزاي والياء والدال مع المصوتات التي فيها تجعلك تستحضر في ذهنك ذلك الإنسان، وعندما نقول يوسف، نستحضر في ذهننا صورة الشخص يوسف. لكن كلمة (الله) عندما نقولها فإن كل ما يخطر في أذهاننا يكون الله عز وجل بخلافه؛ لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، لكن يُستحضر في أذهاننا هذا المسمّى كما وصف نفسه سبحانه وتعالى، فأنت عندما تقول باسم الله تعني باسم هذا المسمى الذي لفظه الله.
*لماذا لفظة الله؟ قد يقول قائل لماذا لم يقل القادر، القهار، أو أي اسم من أسماء الله الحسنى؟
كلمة الله حينما يقولها الإنسان فإنه يعني بها الذات، الذي وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء. وحتى في الجاهلية أطلقوا كلمة الله على خالق السموات الأرض وما بينهما المهيمن المسيطر على أمور الدنيا، العليم الخبير، خالق الكون، الموجِد للموجودات جميعاً، وذكروا لأصنامهم أسماءً أخرى، فإذا قالوا الإله أو الآلهة فإنهم يعنون بها الأصنام، لكنهم لم يطلقوا كلمة الله على صنم من الأصنام أو معبود من المعبودات، فلفظ الله في أذهان العرب مميز له خصوصية لا يشاركه فيه أحد، فهي ليست ككلمة رب مثلاً، فإنهم يستخدمونها مع الإضافة فيقولون: رب الإبل (أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه) .
من هنا جاء القول عند البعض بأن هذه اللفظة مرتجلة غير مشتقة، لكن الذي يرجحه جمهور العلماء أنها مشتقة، يعني مأخوذة في الأصل القديم من الفِعل ألِه يأله، أو ألَه يألَه بمعنيين متقاربين. ألِه يأله بمعنى عبَد أو أحب حباً عظيماً إلى درجة العبادة، وبعض العرب أبدل الهمزة واواً فقال ولِه يوله، ومنها الولهان العاشق المغرم، فهي في الأصل إذًا بمعنى المحبة العظيمة إلى درجة العبادة، أو العبادة المخلوطة بالحب الغامر. فأصل اللفظة إذن هي عبادة وحب أو عبادة بحُبّ.
ثم دخلت الألف واللام فصارت الإله وهي أصلها إلِه (إلِه يأله إلهاً) كوزن كتاب، فكتاب وزنها فعال، لكن معناها مفعول. تقول هذا كتابنا أي هذا مكتوبنا، هذا الشيء الذي كتبناه، فهي فعال بمعنى مفعول. إله بمعنى مألوه مثلها يعني معبود محبوب، ثم دخلت (أل) على إله فصارت الإله، ثم حذفت الهمزة التي تقابل فاء الكلمة (الإله) لكثرة الاستعمال، والعرب تحذف لكثرة الاستعمال: يقولون في: (لم تكن) :(لم تك) لكثرة الاستعمال – فصارت الله بفتح اللام ووزنها العال لأن الفاء حذفت.
العرب بجمهورهم فخّموا اللام فيقولون (اللَه) بالتفخيم، وليست هناك قبيلة عربية تنطق اسم الجلالة بالترقيق، وفي بعض لغات العرب يفخمون كلمات، ويرققون أخرى، فمنهم من ينطق (الصلاة) مثلا بترقيق اللام، ومنهم من ينطقها مفخّمة، لكن العرب جميعاً كما روى علماؤنا المشافهون لقبائل العرب قالوا: أجمعوا على تفخيم هذا الاسم، إلا إذا كان ما قبله كسرة أو ياء عند ذلك يرقق استثناءً، فنقول (بالله) أو (أفي الله شك). لكن بخلاف ذلك يكون مفخماً.
ولفظة الله تقع موصوفا، فيقال: الله الرحمن ، الله الرحيم، لكن لا تأتي وصفاً، فلا نقول الرب الله نصفه، ولذلك يقول بعضهم إن الله هو الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يوصف ولا يصف غيره، ولأنه يحمل كل سمات الأسماء الأخرى (ولله الأسماء الحسنى)، كل اسم من تلك الأسماء موجود تحت مظلة لفظة الله، أضف إلى ذلك هذه الخصوصية في التفخيم، وهذا المعنى الذي فيه من عبودية ومحبة يعني حب الله سبحانه وتعالى. وهو المعنى الذي أدركه المتصوفة القدامى الذين عرفوا الشريعة وكانوا على منهجها، كانوا مغرمين فعلاً بالله سبحانه وتعالى في إطار فهمهم للشريعة، وهم الذين قالوا الحقيقة والشريعة شيء واحد كالشيخ عبد القادر الجيلاني قدّس الله سرّه، ومعروف الكرخي وغيرهم .
الشيخ الجيلاني كان حنبلياً، ودرّس المذهب الحنبلي 30 سنة في مدرسته، كانوا علماء، وكانت فيهم رقة في قلوبهم، فاتّصلوا بالله سبحانه وتعالى بهذا النوع من الشفافية في الروح.
فلفظ الله مر بمراحل إلى أن وصل إلى صورته الأخيرة، فكيف نفسر هذا؟ نحن لا ندري المدة التي استغرقها هذا التحول في لغة العرب؟ هل تم ذلك في وقت قصير؟ أو أنه من الممكن أن يكون هذا اللفظ قد وضِع ابتداء هكذا (الله)؟ لكن هذا التأويل الصرفي مستساغ.
فهذه كلمة بسم الله، مع هذا التصور لتطور لفظ الله سبحانه وتعالى.
الرحمن الرحيم:
كلمة رحمن عندنا الفعل رحم، وعندنا رحمن ورحيم، كلتا الكلمتين مشتقة من ر-ح-م رحم، ومنها جاءت الرحمة، وفيها معنى الانعطاف والعطف، أو الضمّ والاحتضان، نقول: هذا فيه رحمة، أي: فيه عاطفة، وفي الحديث الصحيح: (شققت الرحم من اسمي الرحمن، فهي معلقة بالعرش، تقول: اللهم صِل من وصلني واقطع من قطعني).
والإسلام حريص على الروح الاجتماعية، وصلة الرحم بين الناس، ليس عندنا أب يعيش في معزل عن أبنائه، يطردونه أو يضعونه في ملجأ، أو أم لا تدري من أولادها وأين أولادها كما نرى في الغرب.
كما أن الإسلام دين تراحم، وتعاطف، وتوادّ، تبحث عن جارك وتسأل عنه. بعض الناس الآن لا يعرفون مَنْ جارهم؟ ماذا يشتغل؟ بات جوعان أو شبعان؟ ليس هذا ديننا.
وعند كلمة رحمن نلاحظ التدرج من العام إلى الخاص ، فنحن قلنا أن كلمة الله تضم تحت لوائها كل الأسماء الحسنى التي نستحضرها، وحين ننتقل إلى الرحمن نجد أن صيغتها صيغة فعلان مثل عطشان وظمآن، يسميها العلماء صيغة تكثير أو صيغة مبالغة، يعني فلان عطِش عطشا شديدا. فعطشان أي كثير العطش وعطشه شديد، ورحمن أي كثير الرحمة، ذو الرحمة العامة الشاملة، ولذلك يقولون: كلمة الرحمن معناها: هو رحمن في الدنيا والآخرة، هو رحمن بكل خلقه مؤمنهم وكافرهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحرم الكافر من رحمته، وفي الحديث: (لو كانت هذه الدنيا تعدل جناح بعوضة عند ربكم ما سقى كافراً فيها شربة ماء). لكنه يسقي الكافر، ويعطيه الصحة، ويعطيه النظر، ويعطيه السمع، ويعطيه الاستقامة، وهو يكفر بالرحمن ومع ذلك يرحمه الله في هذه الدنيا، وسيأتي الوقت الذي يحاسبه فيه على كفره، فهو رحمن في الدنيا والآخرة للجميع.
الرحيم:
أما الرحيم فهي مرتبة ثالثة: الله، الرحمن، ثم تأتي الرحيم، لاحظ أن لفظة الله لا يُسمّى بها مخلوق، كذلك كلمة الرحمن لا يسمى بها مخلوق ولا حتى بالإضافة، لذلك لما سمي مسيلمة نفسه رحمن اليمامة أخزاه الله سبحانه وتعالى.
يقول علماؤنا الرحيم بالمؤمنين، لذلك كلمة الرحيم يمكن أن يوصف بها البشر؛ لأنها رحمة قليلة بالقياس إلى الرحمن، ولا تقارن برحمة الله سبحانه وتعالى، ووصِف محمد بالرحيم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). من الممكن أن تقول هذا إنسان رحيم، لكن لا يمكن أن تقول هذا إنسان رحمن، وهذا التدرج يفيد الانتقال من الكلي إلى الجزئيات.
ونتوقف عند شيء آخر في (بسم الله الرحمن الرحيم) يتعلق بالرسم، فكلمة اسم ينبغي أن يكون فيها ألف، وكلمة الله ينبغي أن يكون فيها ألف، وكلمة الرحمن ينبغي أن يكون فيها ألف، هذه الألِفات غير موجودة هنا، نقول في هذا المجال إن خط المصحف توقيفي، وقولنا خط المصحف توقيفي هو نقل لما قاله القدماء، لكن ماذا يعنون بالتوقيف؟
فيه قولان: بعضهم يرى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال لهم: ارسموا هذه الكلمة هكذا، مع أنه كان أمياً، لكن كان هذا بإلهام من الله تعالى، فجاء رسم الكلمات هكذا. وفريق آخر من العلماء يقولون لا، ليس عندنا نص ثابت يقول إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال ارسموا كلمة رحمن هنا هكذا، وارسموها هنا هكذا، بل هذا رسم الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذه مرحلة من مراحل تطور الخط العربي.
وعقلاً كان يمكن أن يُغيّر رسم المصحف إلى الكتابة الحديثة، لكن المسلمين أبوا ذلك، وأول من أفتى بعدم جواز تغيير خط المصحف هو الإمام مالك رحمه الله، حين سُئل بعد أن انتشر التعليم، وتطور الخط العربي: أنكتب المصحف بإملاء اليوم؟ فرأى رحمه الله أن هذا قد يكون سبباً للتحريف، فقال: لا بل على الكتابة الأولى التي أقرّها صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جميعاً في عهد عثمان عندما بعث المصاحف إلى الآفاق. رأى – رحمه الله – أن الذي أجمع عليه صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يثبت كما هو، أما التعليم للصبيان، أو اقتطاع الآيات لغرض علمي تعليمي فلا بأس أن يكون على كتابة اليوم.
لهذا إذا أردت إلى اليوم أن تكتب مصحفاً، فإنك تضع نسخة من المصحف القديم، وتنقش عليه حرفاً حرفاً، فما رسمه القدماء ترسمه، وما تركوا رسمه لا ترسمه.
ولم تكن الحروف في رسم المصحف الأول كما هو معلوم منقوطة ولا مشكّلة، فلما انتشر الإسلام، وصار الناس لا يقرؤون عن الشيوخ، بل يقرؤون من الكتاب، من المرسوم، وبدؤوا يحفظونه من غير شيخ كما هو الحال الآن – وهذا خطأ فادح، فالذي يريد أن يحفظ سورة ينبغي أن يقرأها على مقرئ، حتى لا يحفظ كلمة خطأ وتعلق بذهنه – فصاروا يخطئون في المرفوع والمنصوب، إلى أن تنبّه زياد ابن أبيه، وحاول مع أبي الأسود الدؤلي التابعي حل هذه المشكلة، فقال له: ضع للناس شيئاً يعصم ألسنتهم من اللحن، أي من الخطأ في القرآن، فقال: كيف أضع شيئاً ما وضعه صحابة رسول الله؟ فقال: هو والله خير. فلم يقتنع إلى أن وضع زياد ابن أبيه على مدرجته (على الطريق) قارئاً ذا صوت جميل، وقال له: إذا جاء أبو الأسود الدؤلي فاقرأ قوله تعالى (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) واقرأها (ورسولِه) بالكسر، وهذا طبعاً يقلب المعنى. فلما سمعها أبو الأسود الدؤلي جاء إلى زياد فقال: ابغني كاتباً، وقال له: إذا ضممت فمي في الحرف فضع نقطة بين يديه (نقطه مطموسة) إلى آخره، فوضع علامات يميز بها بين المرفوع والمنصوب والمجرور، وهذا حديث قد يطول.
هكذا تُرسم (بسم الله الرحمن الرحيم) اسم رُسمت من غير ألف، ولفظة الرحمن حيثما وردت في القرآن هي من غير ألف، ولفظة الله حيثما وردت في القرآن هي من غير ألف، ولفظة اسم قد تأتي أحياناً بألف وأحياناً من غير ألف، وربما يكون في ذلك سر، وقد يكون هذا الذي كان عليه الكُتّاب.
لو نظرنا في الآيات التي بين أيدينا من سورة الفاتحة: الآية الأولى (بسم الله الرحمن الرحيم) نجد أن كلمة اسم أضيفت إلى لفظة الله ودخلت عليها الباء، وفي سورة النمل الآية 30-31 (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31))، نجد أيضا أن الباء اتصلت بكلمة اسم، وأضيفت إلى اسم الجلالة (الله)، وفي سورة هود الآية 41 (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)) أيضاً أضيفت إلى لفظ الجلالة الله وابتدأت بالباء، وإذا كانت الآيات بهذا الشكل: نستنتج أنه إذا اتصلت (اسم) بالباء، وأضيفت إلى اسم الجلالة (الله) فعند ذلك ينبغي أن تحذف الألف، فعندنا شرطان لحذف الألف مع اسم.
ونحن نسميها ألفا، وهي في الحقيقة رمز لهمزة الوصل، وهمزة الوصل كما هو معلوم تسقط في الدرج، وتثبت في البداية، يعني عندما نقول: ما اسمك؟ (تحذف الألف في اللفظ، ولكن هي ثابتة في الرسم) ولكن إذا قلنا: اسمي فلان، وبدأنا بالهمزة تثبت نطقا ورسما.
فإذًا بهذين الشرطين تحذف ألف اسم، وإذا اختل أحد هذين الشرطين أو كلاهما تثبت الألف، وعندنا نماذج: في سورة الواقعة (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74 و 96)) الباء اتصلت بلفظة اسم لكن أضيفت إلى لفظة رب، ولم تضف إلى لفظة الله، فنجدها في المصحف مرسومة بالألف، وفي الحاقة الآية 52 (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52))، وفي العلق الآية الأولى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)).
وفي سورة المائدة (واذكروا اسم الله) (المائدة4) أضيفت إلى لفظة الله، لكن لفظة اسم غير مسبوقة بالباء، فعند ذلك ذكرت الألف مع أنها مضافة في آية المائدة، وفي الأنعام، وفي الحج، وفي عدة مواطن.
وفي سورة الرحمن: (تبارك اسم ربك) (الرحمن 78) هنا لا الباء موجودة ولا أضيفت إلى اسم الله، فالألف أيضاً موجودة، وكذلك (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) (الحجرات 11) كلمة الاسم فيها الألف.
إذًا الخلاصة نقول: تحذف الألف بوجود هذين الشرطين: الإضافة إلى لفظ الجلالة والاتصال بالباء، وإذا اختل أحد الشرطين أو كلاهما فعند ذلك تثبت الألف، وعلي هذا رسم المصحف.
(الحمد لله رب العالمين)
نحن نحاول أن نقف بلمسات بيانية عند بعض الجزئيات التي ترد في كلام الله سبحانه وتعالى، والكلام على سورة الفاتحة جملة وتفصيلاً يحتاج إلى حلقات وإلى كلام طويل، بل أكثر من هذا أن الفخر الرازي رحمه الله تحدث مرة، وقال إن في سورة الفاتحة من الأسرار ما يزيد على عشرة آلاف فائدة، فعجِب الناس منها. وكذلك ذكر في بداية كتابه مفاتيح الغيب نفائس من سورة الفاتحة، بحيث أوصلها فعلاً إلى أكثر من عشرة آلاف فائدة.
نحن لا نملك هذا، لكن الذي نقوله إن الله سبحانه وتعالى لأمر ما جعلها أصلاً في الصلاة، بحيث إن المسلم يقرؤها في كل ركعة، وفي الحديث الشريف “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم الكتاب” ولهذا تحتاج إلى تأمل في مفرداتها في كلياتها وجزئياتها.
ففيها تعظيم لله سبحانه وتعالى، وتمجيد له بالحمد، وذكر ربوبيته للعالمين، وإدارته لشؤونهم، وفيها الحديث عن رحمته بهم، وفيها الكلام عن التوحيد، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وفيها حصر العبادة له، وحصر الاستعانة به، وفيها اللجوء إليه ليثبتنا ويثبت من يقرأ هذه السورة على الصراط المستقيم الذي اتجهنا إليه بدخولنا في الإسلام، والتشبث برحمته سبحانه وتعالى أن لا نذِلّ أو نضِلّ.
فهي فيها معان كثيرة، وسنقف إن شاء الله تعالى عند هذه الجزئيات في جميع السورة.
ونقف أولا عند قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) وقد اخترنا فيما سبق ما اختاره طابعو المصحف الشريف، وهو ما ذهب إليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وما رواه عبد الرحمن السلمي في أن قول الله عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم هو الآية الأولى من سورة الفاتحة، واختيارنا لا يعارض من اختار اختياراً آخر كما قلنا.
فالحمد لله رب العالمين هي الآية الثانية من سورة الفاتحة وفقاً لمصحف المدينة النبوية، ووفقاً لاختيار الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن معه من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنهم أجمعين.
الحمد لله:
سنعرض ما ورد في تفاسير كتاب الله عز وجل حول لفظة الحمد لله؟ حين ننظر في التفسير بشكل سريع نجد أنهم يقولون الحمد أي الشكر ، المديح لله، إلخ.. معناه أنهم يعرضون علينا ألفاظاً تكافئ أو تفسر كلمة الحمد فهي مدح وثناء وشكر، لكن حين نأتي إلى دقائق اللغة، وما اطّلع عليه علماؤنا من لغة العرب نجد أنهم يقولون هناك فرق بين الحمد والمدح، مع أن المدح والحمد مادتهما واحدة (ح-م-د)، لكن هناك اختلافا في التركيب (حمد، مدح)، ولعل هذا التجانس في الصوت هو الذي صنع اتفاقاً واسعاً بين الحمد والمدح، لكن تبقى هناك فوارق جزئية.
*هل يمكن أن نضع مكان الحمد لله المدح لله في سورة الفاتحة؟
الحمد والمدح:
حينما نقول الحمد – وهذا كلام علمائنا في كتبهم- يقتضي ذلك أن يحمد الحامد من هو مستحق للحمد، أما المدح فقد يمدح المادح من هو مستحق ومن هو غير مستحق طمعاً في جائزة أو طمعاً في شيء كما كان يصنع الشعراء، فيقولون هذا الشاعر مدح ولا يقولون حمد. فالحمد لا يكون إلا لمستحق الحمد، بينما الممدوح قد يستحق أن يُمدح، وقد لا يستحق، لكن الشاعر يمدح لغاية في نفسه، وبهذا لا تصلح كلمة المدح هنا؛ لأنها ستحتمل هذين المعنيين، ولأن الله سبحانه وتعالى مستحق للحمد بذاته وصفاته جلّت قدرته.
الأمر الثاني : الحمد لله كما لمسه العلماء في اللغة يتضمن نوعاً من الإجلال والتعظيم والمحبة، فأنت لا تحمد إلا من تُجلّه وتعظّمه وتحبه، أما المدح فليس فيه هذا الشيء. وهذا سبب ثان يرجح كلمة الحمد عن المدح.
الأمر الثالث: أن الحمد إنما يكون بعد النِعمة، أما المدح فيمكن أن يكون بعدها، ويمكن أن يكون قبلها. فإذا بدأنا بكلمة الحمد لله، فمعنى ذلك أننا علمنا نِعَم الله عز وجل علينا، ولذلك نحمده سبحانه، عندما نقول الحمد لله يعني أننا نعترف يا ربنا بما أنعمت علينا من نِعَم (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) هذا فرق آخر بين الحمد والمدح.
المدح لم يرد في القرآن الكريم لا بالمصدر ولا بالمشتقات، ليس في القرآن الكريم مدح، ولا أي صيغة من صيغ المدح لما في المدح من احتمال الصدق والكذب، واحتمال أن يكون المادح كارهاً عندما يمدح، وأنه إن يصدق أحياناً فإن ذلك ليس الغالب عليه.
هل يكون الحمد باللسان؟ الحمد باللسان وبالجنان، لكن لا بد أن تنطق بالحمد، ولا بد أن تترجم ما في الجنان على اللسان، وهذا لا يختلف فيه العلماء.
الحمد والشكر:
*هل يمكن أن نضع الشكر مكان الحمد؟
الحمد مع اشتقاقاتها وردت كثيراً في القرآن الكريم، أحصاها محمد فؤاد عبد الباقي (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) في 67 موضعاً. والشكر استعمل كثيراً في القرآن، فهل نقول الشكر لله بدل الحمد لله؟ قلنا الحمد يقتضي المحبة والتعظيم، والشكر ليس فيه ذلك، حينما تشكر إنساناً ليس شرطاً أن تعظّمه أو تحبه، يمكن أن تشكره لشيء فعله لك، فلو قلنا الشكر لله سنفتقد هذه الخاصية أو الميزة في كلمة الحمد. الأمر الآخر : أن الشكر إنما يكون على نعمة أُنعِم بها عليك فتشكر، (ولئن شكرتم لأزيدنكم)، وتشكر الإنسان الذي يقدم لك خدمة، أما الإنسان الذي يقدم خدمة لإنسان آخر غيرك فأنت لا تشكره. بينما الحمد يكون لما أصابك وما أصاب غيرك من نِعَم فالحمد أوسع من الشكر؛ ومن أجل ذلك كان اختيار الحمد أولى من الشكر.
مسألة المكروه، يقول الناس (الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه) ومعناها أنك لا تحمده سبحانه بسبب المكروه، ولكنك تحمد الله سبحانه وتعالى فيما تعتقد أنه مكروه، وهو في حقيقته خير لك؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يختار لعبده المؤمن إلا الخير، (وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا)، فإذا وقع لك شيء تراه مكروهاً في نفسك كُن مطمئناً وواثقاً أن الخير فيما اختاره الله عز وجل لك، وإن كان في ظاهر الأمر مكروها.
وهذا مجرب، فقد وجدت في كثير من الأحيان عدة حالات في حياتي الشخصية تمر بي فأقول: الحمد لله هذا فيه خير، لكن في داخل نفسي أقول بالحسابات: ليس فيه خير، أين الخير؟ هكذا تحدثني نفسي، لا أرى فيه خيراً، لكن ثقتي بالله تجعلني أقول: فيه خير، ثم تمضي الأيام، ويثبت لي بعد ذلك أن الخير فعلاً في ذلك الذي وقع، وليس الذي كنت أتمناه أو أريده، لذلك في قولنا: (الذي لا يحمد على مكروه سواه) لا تعتقد كراهة ما قدره الله، وإنما تقول: هو سبحانه اختار لي ما هو خير لي في ديني وفي دنياي.
الحمد والثناء:
يأتي في موازاة الحمد كما قلنا : المدح والشكر والثناء، وحين ننظر في كلمة الثناء نجد أننا نستعملها كأننا نسينا مادتها، من أين هي؟
الثناء لا يأتي إلا مع (على)، أنت تقول حمده، وحمد له (تعدي الفعل مباشرة إلى المفعول أو باللام) والتعدي باللام تقرّبه (حمد له فعله)، لكن أثنى لا تأتي إلا مع (على)، والثناء فيه نوع من الاستعلاء، لا ينسجم مطلقاً مع بداية الفاتحة، وحتى في الاستعمالات القديمة، لا نجد أثنى على الله ابتداء، إنما يقال: حمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، فيجعلها ملحقة، لا تأتي منفردة، لمكان (على) هذه؛ لأن فيها نوعا من الاستعلاء.
إذا أتينا إلى الفعل أثنى نجد أن الثلاثي منه ثنى، والثني هو العطف، ففيه معنى الانعطاف، كأنه لم يكن منصرفاً إليه ثم انصرف إليه، بينما الحمد لله تريدنا أن نتجه ابتداء إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يرد الثناء بكل تصريفاته في كتاب الله عز وجل، لا المدح ولا الثناء، لعله لمكان هذا المعنى، لأن فيه انعطافا وتحوّلا، والله أعلم.
(الحمد لله)
كلمة الحمد إذًا مميزة عن غيرها من الألفاظ، ولا يصلح غيرها هنا. وهذه الألف واللام في الحمد هي أل الجنسية ، لبيان الجنس، تريد الآية أن تقول جنس الحمد، يعني أنها لا تدع من الحمد شيئاً، بل كلّه بكل جنسيته.
الحمد لله: اللام في كلمة (لله) هي للتخصيص أو الملك، فكأن الحمد خاص بالله سبحانه وتعالى، العلماء يضربون لنا مثالاً، ولله المثل الأعلى، كما تقول: السرج للفرس، والسرج لا يكون إلا للفرس، وكما نقول الآن الطاقية للرأس، فالطاقية لا تكون إلا للرأس، فالحمد لله معناها: الحمد مختص لله سبحانه وتعالى.
لكن الله سبحانه وتعالى من رحمته وتلطفه وفضله أنه جعل إمكان حمد الآخرين، من أين علمنا إمكان حمد الآخرين؟ من أنه سبحانه لم يقل: لله الحمد، فيحصر الحمد له جل وعلا، مثلما جاء في قوله تعالى كما سيأتي (إياك نعبد)، فعندما يقدم المفعول أو المتعلق في الحصر لا تستطيع أن تعطف، بينما إذا لم يكن حصر يمكنك أن تعطف.
فضلاً عن أنه عندما يقال لله الحمد، فهذا التقديم يعني أن هناك نوعا من الشك في الحمد، والموضع ليس موضع شك، وإنما موضع تلقين وتعليم، يعلّمنا الله تعالى كيف نتجه إليه بالدعاء؛ لأن الجملة إنشائية المعنى ، وإن كانت جملة خبرية (الحمد لله: مبتدأ وخبر) فأنت عندما تقول: الحمد لله لا تريد أن تخبر إنساناً أن الحمد خاص بالله، وإنما أنت تدعو وتمجد الله سبحانه وتعالى، تعظّمه فتقول الحمد لله.
عندما يقرأ الإنسان الفاتحة (الحمد لله)، أو عندما يصيبه شيء فيقول الحمد لله، فإنه لا يريد أن يخبر أحداً أن الحمد لله، وإنما يريد أن يتوجه إلى الله تعالى بالثناء عليه وتعظيمه وتمجيده. وهي إن كانت جملة خبرية غير أن معناها معنى إنشائي؛ لأن معناها معنى دعاء، وهو سبحانه يريد أن يعلمنا هذا الكلام؛ لذلك لا يصلح فيها هنا تقديم الجار والمجرور (لله الحمد).
الحمد لله أو إن الحمد لله؟
هل يمكن أن نقول : إن الحمد لله في هذا الموضع؟ الجواب هو نفس ما سبق، فالموضع ليس موضع شك، أنت تقول: زيد ناجح لمن هو خالي الذهن، لكن إذا كان هناك إنسان يشك في نجاح زيد، فيأتي ويقول لك زيد لا ينجح، فتقول له: إن زيداً ناجح، وبقدر زيادة الشك تزيد التوكيدات، فإذا كان شكه عظيماً نقول له: إن زيداً لناجح، تدخل اللام، وقد تلجأ إلى القسم (والله إن زيداً لناجح)، والموضع ليس موضع شك هنا، وإنما موضع يقين لذلك لم يقتض التأكيد، إذًا الحمد لله هي أولى من الألفاظ الأخرى، وهي أولى من التقديم والتأخير، وسنأتي إلى مواطن خمسة جاءت فيها (لله الحمد)، ونبين لماذا قدمت كلمة لله على كلمة الحمد.
والحمد لله أولى من (حمداً لله) فعندما يقول الإنسان حمداً لله : تكون (حمداً) مصدرا مؤكدا أيضاً، ونقول الموضع ليس موضع تأكيد، هذا أولا. وحمداً: مصدر منصوب، إذًا هناك ناصب له، والناصب الأصل فيه أن يكون فعلاً فمعنى ذلك أن الجملة فعلية تقدّر، والجملة الفعلية دالّة على الحدوث، بينما الجملة الاسمية ثابتة دالة على الثبات، فالحمد لله بجملتها الاسمية أثبت من حمداً لله.
هل نقول نحمد الله، أو أحمد الله، أو احمدوا الله: ونحمد كلام مجموع فإن هذه اللفظة، في موضعها هاهنا لا يصلح مكانها غيرها.
هذا كلام الله سبحانه وتعالى بهذا التفصيل الذي فصّله العلماء كما قلت، من الرازي وغيره، إلى أستاذنا الدكتور فاضل السامرائي الذي تحدث في ستين صفحة عن هذه المسألة، وبيّنوا جميعا أن هذه الكلمة لا تصح كلمة أخرى في موضعها.
الحمد لله: لم يقل الحمد للقادر، الحمد للرحمن، الحمد للعظيم، أو أي اسم من أسماء الله الحسنى، وهذا تكلمنا عنه لما قلنا (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) و(بسم الله الرحمن الرحيم). هذه اللفظة (الله) تضم تحت لوائها جميع الأسماء الأخرى بكل ما فيها، ولذلك توصف ولا تصف: نقول الله الرحمن، الله الرحيم لكن لا نقول: الرحمن الله.
أين وردت: الحمد لله رب العالمين في القرآن؟
هذا فيما يتعلق بلفظة (الحمد لله) وقبل أن ننتقل إلى كلمة رب العالمين، لنا وقفة لننظر أين وردت الحمد لله رب العالمين كاملة؟
الحمد لله رب العالمين في بداية الفاتحة بعد البسملة معناها بداية عمل.
في نهاية سورة الصافات بعد الحديث عن الكون وما يضم إلى قيام الساعة وانتهاء الحياة (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)).
كذلك في نهاية سورة الزمر(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)).
وفي الأنعام (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)) .
ففي بداية الفاتحة جاءت، وفي نهاية الحياة جاءت، فنهايات السور تشير جميعا إلى نهاية الحياة.
والحمد لله رب العالمين فيها كلام عن الناس، لاحظ الآية الأولى(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) يونس) هذا يوم القيامة في الجنة، وفي سورة غافر (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) هناك في آخر الدعاء، وهنا يحتمل أوله وآخره (فادعوه مخلصين له الدين) كأنما الحمد في الأولى والآخرة.
هنا الفائدة التي نقولها أن كلمة الحمد لله رب العالمين جاءت في أول الفاتحة تحميداً وتمجيداً لله سبحانه وتعالى، وبها يختم العمل والدعاء، وتأتي في سور أخرى في الآخرة أي الحمد لله رب العالمين في البدء وفي الختام, ومما ذكرنا يتضح أن لفظة الحمد في هذا الموضع هي الأمثل حتى من بين جميع الألفاظ في حقها الدلالي. وصورة الحمد بالألف واللام والرفع أمثل من سائر الصور، وعندنا في الحديث “كل أمر ذي بال لا يبدأ بحمد الله فهو أقطع” وفي رواية “فهو أجزم”.
مداخلة: كلمة الحمد ظلمت كثيراً في كتب التفسير، والإمام ابن كثير وغيره يعممون الحمد، ويخصصون الشكر، وفي تصوري أن ذلك خطأ من حيث الطريقة لا من حيث المضمون، فالحمد لله في الفاتحة حمد مطلق، حمد على كل ما يعلمه الإنسان وما لم يعلمه، وعلى ما حمده الله تعالى بذاته لذاته، بينما الحمد في قوله تعالى في سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) حمد تخصيص.
الحمد ليس معناه الشكر، وابن القيم قال: الحمد ينقسم إلى حمد شكر وحمد مدح. وأنا أقول أن الحمد مقام إلهي ومقام تعبدي، والله تعالى ألهمه كل المخلوقات (وإن من شيء إلا يسبح بحمده). فالحمد عام يخصص بحمد الكهف أو بمحامد القرآن.
ويرد الدكتور حسام على مداخلة المشاهد فيقول: الحمد يراد به جنس الحمد على الإطلاق، وأنا لست ميّالاً للتعرض لما قاله بعض علمائنا السابقين فيما لا نوافقهم عليه، ولكننا سنتكلم عن كلمة الحمد.
وقد وقفنا عند قول الله سبحانه وتعالى (الحمد لله رب العالمين)، وعلمنا ما لكلمة الحمد من أسرار تجعلها مميزة على الكلمات الأخرى التي هي من حقلها الدلالي (المدح، الشكر، الثناء) وكيف أنها هنا أفضل، وبيّنا أن الألف واللام لاستغراق الجنس في كلمة الحمد، وأن (لله) هي للملك، وقلنا هذا نوع من التخصيص كما قالت العرب: السرج للفرس والطاقية للرأس. والحمد لله خاص بالله تعالى، ولكن الله عز وجل أذِن للناس في الدنيا أن يحمد بعضهم بعضاً في هذا الأمر أو ذاك. وكلمة رب العالمين جاءت متعلقة هنا (الحمد لله رب العالمين)، وقلنا أننا سوف نعود إلى كلمة رب العالمين، ولماذا جاءت بهذا الاتصال.
ولكن قبل ذلك نقول إن جملة الحمد لله وحدها وردت في بداية أربع سور ، ثم تكررت في داخل عدد من السور في سبع عشرة مرة نحاول أن نقف عندها بصورة موجزة وسريعة: في بداية الأنعام، والكهف، وسبأ وفاطر: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الأنعام) لاحظ كأنما هذه البدايات تحاول أن تبيّن نماذج من الحمد، قلنا الحمد لله في الفاتحة تعني جنس الحمد، وهنا نماذج يُحمَد الله عز وجل فيها لآلآئه، هنا من رحمته، وهنا من فضله، وهنا من علمه، وهنا من إعطائه العلم للآخرين وهنا من رحمته بهم، وهنا من خلقه السموات والأرض، السور الأربع كأن بدياتها متكاملة:
الأولى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الأنعام) الكلام عن الخلق، ومعناه التقدير والتصوير، وقد يكون بمعنى البدء، لكنه غالباً بمعنى التقدير والتصوير؛ لأنهم يقولون هذا الصانع خلق القماش يعني قدّره قبل أن يقصه، والخلق غير التكوين والإنشاء، والتصوير معناه أنه يصور الشيء، الكلام خاص عن خلق السموات والأرض، ومن رحمة الله سبحانه تعالى أنه جعل الظلمات والنور، أي أن نظّم السموات والأرض بما فيها من ظلمات ونور مبنية على الحركة، وعلى وجود الإشعاع من داخل بعضها، وخلو بعضها من الإشعاع.
ثم (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فاطر) هذه المنشئ لاحظ التخليق والإنشاء، ثم (جاعل الملائكة رسلاً) تكلم عن جعل الملائكة.
ثم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) سبأ) هذا الذي في السموات والأرض ملك لله سبحانه وتعالى.
ثم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) الكهف) الملائكة والرسل وإنزال الكتاب، نماذج من آلآء الله سبحانه وتعالى ونعمه التي يُحمد عليها.
فالحمد لله في سورة الفاتحة نظام كليٌّ، وهذه جزئيات في بدايات أربع سور بينها نوع من التلازم والتشابك.
وحين ننتقل إلى عموم سور القرآن الكريم نجد في كل موضع كلمة (الحمد لله) لها معناها ولها مدلولها، لكن يجمعها جميعاً أنه ليس فيها معنى الحصر، وقصر الحمد على الله سبحانه وتعالى، وليس فيها دعوة إلى أن لا يحمد سواه، لكن سنجد في آيات أخرى هناك قصر (له الحمد)، وهو ما سنقف عنده بتفصيل، لماذا قال هنا (له الحمد)؟ وفي الأماكن الأخرى قال الحمد لله بحيث يفسح المجال لأن يحمد الإنسان غير الله سبحانه وتعالى لأمر يقوم به، يمكن أن يحمد على خُلُقه، على علمه، على كرمه، وفي مواضع أخرى حصر الحمد بالله سبحانه وتعالى (لله الحمد) أو (له الحمد).
سنمر مروراً سريعاً على الأماكن التي قيل فيها (الحمد لله) وسنجد أنه ليس فيها مجال لحصر الحمد لله سبحانه وتعالى، وإنما هي صور ونماذج من تفضّل الله سبحانه وتعالى على عباده. أحياناً ينقل لنا كلام عباده، يعلّمنا فيقول (قل، قالوا، قال) تكررت كلمة القول مع الحمد في عشرة مواضع (قل، قالوا، قال) في موضعين مع ضرب الأمثال، وفي موضع دعاء، وهناك أربع مواضع في بداية السور.
نأتي الآن إلى سورة إبراهيم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)) هذا دعاء إبراهيم يحمد الله عز وجل به، فيذكره الله تعالى لنا حتى نتعلم أن نقول الحمد لله الذي أعطانا هذا، الحمد لله على الهبة، وهذا جزء من الحمد الكلي.
ثم عندنا (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) النحل) رب العالمين يعلمنا بالأمثال، يضرب لنا مثلاً حتى نتعلم، فعندما نقول الحمد لله، معناه الحمد لله الذي علّمنا بضرب المثل الذي يعلّمنا، (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) نحن نقول الحمد لله الذي علّمنا، بل أكثر هؤلاء الذين لا يؤمنون لا يعلمون بما علّمنا الله عز وجل من ضربه للمثل.
وهنا وقفة قصيرة: عبّر عن عبد مملوك، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، عبد ومرزوق، وقال (لا يستوون) (من) لفظها لفظ مفرد، ومعناها معنى جمع، فكأن الآية تريد أن تقول هذا العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، هل يستوي مع هذا الذين ينفق، وهذا الذي ينفق، وهذا الذي ينفق، وهؤلاء الجمع من المنفقين؟ هل يستوي هذا معهم؟ فاستفادت الآية من كلمة (من)، فمرة عبّرت بالمفرد، ثم رجعت مرة أخرى لتعبّر بالجمع.
الآية الأخرى أيضاً تعليم بالمثل (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) الزمر). لم يقل (من) هنا، بل قال: رجل ورجل فلا بد أن يستعمل التثنية، الحمد لله الذي علّمنا بضرب المثل وأكثرهم لا يعلمون.
فحمد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لا يستدعي أن لا يحمد سواه، فإذا علّمنا أحد شيئاً أو أكرمنا بشيء يمكن أن نقول: نحمد فلانا، يعني لم يدعنا نقصر الحمد عليه، لكن أورد نماذج من الحمد لله رب العالمين الذي هو حمد الجنس، وهذه كأنها تفريعات.
الآية في سورة الأعراف، ومن هنا بدأ يسبقها القول: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)) يعلمنا أن هؤلاء الذين وُجهوا إلى الجنة صاروا يقولون الحمد لله فهو نوع من تفضله سبحانه وتعالى عليهم وعلينا عندما يعلمنا أن نقول كما قالوا.
عندنا في الإسراء الآية 111 (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)) هذا تلقين وتعليم أن نحمد الله عز وجل الذي علمنا التوحيد، وعلمنا بعض صفاته سبحانه وتعالى، ونقول الحمد لله.
ومع نوح (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) المؤمنون) أيضاً تعليم بالأمر (قُل) نوع من التعليم.
وفي الحكاية عن قولهم (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) النمل) إذا وجد الإنسان في نفسه شيئاً قد أكرمه الله تعالى به يقول الحمد لله، وهي أيضاً جزئية من كلّية جنس الحمد المخصص لله سبحانه وتعالى.
وفي النمل (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) النمل) تعليم أيضاً، تعليم أن نقول الحمد لله أنه سبحانه وتعالى اصطفى عباداً وجعلهم مؤمنين وألقى عليهم السكينة والاستقرار. وفيها (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) النمل) احمد الله عندما تظهر هذه الآيات، أو عندما يعلمك كيف تحاور، وكيف تناقش، فتقول الحمد لله.
وفي لقمان (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لقمان) لو سألت الكفار من أنزل الماء من السماء يقولون الله؛ لأنهم كانوا يعرفون الله، لكن كانوا يعبدون الأصنام، يقولون تقربنا إلى الله زلفى.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) العنكبوت) لو استعملوا عقولهم ما عبدوا هذه الأصنام (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لقمان) ليس عندهم علم في هذه الأمور، في هذا الشرع، في هذا الدين، يعني لم يستعملوا عقولهم ولم يستعملوا علماً عندهم.
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) فاطر) تعليم وتدريب بقول غيرهم أن هؤلاء الذين دخلوا الجنة قالوا هذا الكلام فتعلموا وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى.
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) الزمر) تعليم وتدريب لنا أن نقول كما قالوا في دخولهم الجنة (هذا في المستقبل ولكنه ماض في علم الله سبحانه وتعالى) .
وكل هذ المواضع ليس فيها موضع يريد الله تعالى أن يقصر الحمد فيه عليه جلّت قدرته، لكن لما ننتقل إلى مواضع أخرى نجد أن سياق الآيات يريد أن يبين لنا أن الحمد في هذا الجو مقصور على الله سبحانه وتعالى، لا يستقيم هنا أن تحمد غير الله عز وجل مع أن الله سبحانه وتعالى رخّص لك أن تحمد سواه لنفع أو فضل يقدمه لك.
ننظر في سياق الآيات: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) القصص) نلاحظ السياق هنا سياق حصر، والكلام عن الآخرة، وسنجد أنه حينما يكون الشيء منحصراً، يعني سياق الآية فيه قصر أشياء على ذات الله سبحانه وتعالى لا تصلح لغيره تأتي (له الحمد) بتقدم الجار والمجرور، يقول له الحمد، لا يقول الحمد لله، الحمد يرفض لغيره في هذه المواضع، في مثل هذا السياق، فهو حين قال (وهو الله لا إله إلا هو) حصر بالنفي وبـ (إلاّ)، فالموضع موضع حصر، لذلك قال (له الحمد) ولم يقل الحمد لله؛ لأنه لا يستقيم مع الحصر، ثم إن فيه ذكر الآخرة، وفي الآخرة لا يُحمد سوى الله تعالى. من تحمد في الآخرة؟ في يوم القيامة؟ لا يوجد مخلوق يُحمد يوم القيامة، ولا يحمد إلا الله تعالى، إذا ذُكِرت الآخرة انحصر الحمد بالله سبحانه وتعالى، له الحمد، وله الحكم أيضاً (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) القصص) فالجو العام في الآية هو حصر؛ لذا لا يصح هنا أن يقال في غير القرآن: (لا إله إلا هو الحمد له وله الحكم) لا يستقيم، التقديم فيه معنى الحصر، له الحمد وليس لغيره لأنه عندما يقدم الضمير أو المفعول لا تستطيع أن تعطف، لكن حينما يقدم غير الضمير يعني الجار والمجرور مثلا إذا قدّم فإن ما كان مرتبطاً بالله تعالى يصح أن يعطف، وما عداه لا يجوز أن يعطف. نلاحظ في قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا (10) فاطر) فحصرها فيه وحده، وفي موضع آخر أجاز العطف عليها لارتباطها به سبحانه (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) المنافقون) فعطف مع وجود الضمير العائد على الله تعالى، يعني أخذ العزة من عزة الله تعالى، ثم قال وللمؤمنين فلم يذكر الضمير، أراد: وللمؤمنين بالله ورسوله، ولو قال في غير القرآن (للمؤمنين بهما) لضعف الكلام، ثم يكون جمع الرسول مع الله تعالى وهذا لا يكون بالضميرين.
فعندما يقول (له الحكم، إليه ترجعون، لا إله إلا هو) لا يستقيم إلا (له الحمد).
الآية بعدها في سورة الروم (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18))، كلمة سبحان الله سُئل عنها الإمام علي كرم الله وجهه فقال: كلمة رضيها الله عز وجل لنفسه، فنحن نقولها، لا يمكن أن نقول سبحان فلان، التسبيح والتنزيه والتقديس لا يكون إلا لله عز وجل، فهذه كلمة حاصرة حصرت (سبحان الله)، التسبيح منحصر، ثم الزمن منحصر، والمكان منحصر. ذكر الزمان والمكان بحصر (حين تمسون) المساء والصباح والعشي والظهر، وجعلت (وله الحمد في السموات والأرض) للمكان، فكأنه صار هناك نوع من الاختلاط والاتصال بين التسبيح والحمد في هذه الأوقات، والتسبيح والحمد لله سبحانه وتعالى في السموات والأرض، ففيها إطلاق، وفيها حصر، وفيها حصر للزمان، وحصر للمكان، فإذًا لا يناسبه إلا حصر الحمد بالله سبحانه وتعالى.
*(الحمد لله ) التي يتلفظ بها المسلم في بداية يومه ، ما الفرق الكبير الواضح الذي ينبغي أن نعرفه بين الحمد لله ولله الحمد؟
عندما يقول الحمد لله يوجّه الحمد لذات الله سبحانه وتعالى، وحينما يقولها مجردة (الحمد لله) معناها أنه يحمد الله سبحانه وتعالى بمطلق الحمد، لكن إذا قال لله الحمد معناها أنه يحصر الحمد لله سبحانه وتعالى، يقول لله الحمد حصراً. والذي عُلّمنا إياه أن نقول: (الحمد لله)، فإذا قال الإنسان: لله الحمد، فهو كلام صحيح ليس فيه شيء، لكننا نقول كلمة الحمد لله في القرآن الكريم إنما جاءت في هذه المواضع التي أوردناها، ونحن نحرص أن نتأسى بأسلوب القرآن الكريم في كلامنا.
هذه الآية الأخرى في سورة سبأ التي بدأت بالحمد لله، انظر ما قاله سبحانه (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)) ففي قوله (له ما في السموات والأرض) تقديم وتأخير، كأني أقول في غير القرآن: الذي ما في السموات والأرض له؛ لأن (ما) مبتدأ، و(له) خبر، فلما قدّم لغرض حصر الملكية ( له ما في السموات وما في الأرض) لا يشاركه أحد في ملكه حسن العطف (وله الحمد)؛ لأنه سبق بهذا التقديم مع ذكر الآخرة.
وفي سورة الجاثية (ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرض رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)): (فاليوم) يوم القيامة، (فلله الحمد) ما دام الكلام في الآخرة (فلله الحمد رب السموات) نلاحظ هنا كيف كرر (ورب الأرض) لم يقل رب السموات والأرض لغرض التأكيد، ثم قال (رب العالمين) الذين في السموات والأرض، جمع رب السموات ورب الأرض جمعهما بحرف عطف ثم قال رب العالمين من غير عاطف حتى يشمل كل من فيهما.
وفي سورة التغابن (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) هنا عندنا التسبيح أيضاً الذي هو حصر لله تعالى (له الملك) قدّم الجار والمجرور، ففيه حصر وعطف، ولذلك قال: (وله الحمد)، ولا يصلح هنا له الملك، والحمد له لا تصلح لغوياً حتى لا يكون هناك ضعف، لأنك تعطف غير محصور على محصور.
وعموماً فقد تأخر لفظ الحمد المبتدأ في خمس آيات، والمعنى في جميعها للحصر.
(رب العالمين):
الآن ننتقل إلى قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين)، لاحظ أننا لما بدأنا بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في ذكر اسم الجلالة سبحانه وتعالى الحاوي لكل ما تحته من صفات وأسماء، وبدأنا بعد البسملة بمطلق الحمد، وجنس الحمد ناسب ذلك أن يقال( رب العالمين)، لأن من أسباب حمده، ومن جزئيات حمده أنه رب للعالمين.
والعالمون يقول العلماء أنه ما دام جمع مذكر سالم يكون للعقلاء، فصار رب العقلاء الذين هم عالم الإنس، عالم الجن، عالم الملائكة. وبعض العلماء يقولون إن جمع المذكر السالم يطلق إذا كان هناك اختلاط بين العقلاء وغيرهم؛ فرب العالمين معناه رب العوالم، هم يقولون إذا قال العالمون معناه جمع عالم للعاقل وغير العاقل. والبعض يقول سواء هذا أو هذا هو سبحانه وتعالى رب كل شيء.
لكن نأخذ كلمة رب حين نأتي إلى تصريفها نجد أنها من ربّ يَرُبُّ فهو ربٌ، فهو مصدر، لكنه مصدر بمعنى اسم الفاعل، كما قالوا هو عدلٌ: العدل مصدر، لكن قيل هو عدل بمعنى عادل، فثمة فرق بين هو عادل وهو عدلٌ: هو عادل يعني تتحقق فيه صفة العدل، لكن هو عدل أي كأن العدل كله تمثل في شخصه فهناك فرق.
فمن هنا كانت كلمة رب، الرب تأتي بمعنى التنمية (أن ينمي الإنسان الشيء فيرُبَّه) يرُبّه يعني ينميه، يُتِمه، ينتهي منه، وهذا المربي أُخِذت منه كلمة الرب المالك، الذي يملك؛ لأنه يتعهد الشيء بالتربية والنماء شيئاً فشيئاً، ومنه الحديث الذي يرويه الإمام مسلم، وهذا ينفعنا في حياتنا العملية في العلاقات.
الآن ضعفت علاقات الناس على خلاف ما يحبه دين الله سبحانه وتعالى، ديننا يريد منا أن تكون علاقاتنا لوجه الله تعالى وليس لمصلحة ما. مثل هذا الرجل الذي كان يذهب لزيارة أخ له، فأرسل الله تعالى على مدرجته ملكاً قال: أين تريد؟ قال: أريد القرية الفلانية فيها أخ لي أحبه في الله، قال: ألك نعمة عليه ترُبُّها؟ (أي ألك إحسان عليه تريد أن تنميه بزيارة)، قال: لا، ولكني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله سبحانه وتعالى أحبك كما أحببته فيه.
الآن عندما يتصل بك أحد ليزورك لمدة 10 دقائق، ويأتي ليجلس قليلاً تتساءل ما الذي جاء به؟ لعله يحبك في الله وجاء ليزورك، ولكنا نقول لهؤلاء المتحابين في الله أن لا يطيلوا الزيارة، وأن يقدروا ظروف الناس (زُر غبّاً تزدد حباً).
فهذه كلمة رب، وهذه كلمة العالمين، (الحمد لله رب العالمين).
قال تعالى (الْحَمْدُ للّهِ (2) الفاتحة) هل سألنا أنفسنا ما معنى الحمد لله؟ إن الحمد هو الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد أن تذكر محاسن الغير، ولا يكون الحمد إلا للحيّ العاقل أما المدح فلا يختص بشيء معين فقد تمدح حيواناً مثلاً كأن تمدح الديك ولكنك لا تحمده. وفرق آخر: أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده، أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان؛ لذلك لا نحمد إلا من يستحق الحمد بفعل جميل أو صفة حسنة، أما المدح فقد أمدح إنساناً ولم يفعل شيئاً من المحاسن، ولذا نهينا عن المدح، وأُمرنا بالحمد فقد قال (صلى الله عليه وسلم): “احثوا التراب في وجوه المدّاحين” في حين قال ” من لم يحمد الناس لم يحمد الله” فكان الحمد أولى من المدح.
لو تقصينا الفرق بين المدح والشكر نجد أن الشكر لا يكون إلا عقب نعمة أو إحسان أُسدي إليك دون غيرك، ولا يكون في الصفات، فأنت لا تشكر الشخص على عِلمه، أما الحمد فإنه لا يختص بذلك، فأنت تحمد الله على إنعامه لك ولغيرك، وتحمد الله على قدرته وعلمه وفضله فكان اختيار الحمد أولى من الشكر أيضاً.
رب العالمين:
الرب هو المالك والسيد والمربي والمنعم والقيِّم، فإذًا رب العالمين هو ربهم ومالكهم وسيدهم ومربيهم والمنعم عليهم وقيِّمهم؛ لذا فهو أولى بالحمد من غيره، وذكر (رب العالمين) أنسب ما يمكن وضعه بعد (الحمد لله)
رب العالمين يقتضي كل صفات الله تعالى، ويشمل كل أسماء الله الحسنى. العالمين: جمع عالم، والعالم هو كل موجود سوى الله تعالى، والعالم يجمع على العوالم، وعلى العالمين، لكن اختيار العالمين على العوالم أمر بلاغي، يعني ذلك أن العالمين خاص بالمكلفين وأولي العقل (لا تشمل غير العقلاء) بدليل قوله تعالى (تبارك الذي نزل على عبده الفرقان ليكون للعالمين نذيرا) (الفرقان آية 1) ومن المؤكد أنه ليس نذيرا للبهائم والجماد. وبهذا استدلوا على أن المقصود بالعالمين أولو العقل وأولو العلم، أو المكلفون.
والعالمين جمع العالم بكل أصنافه، لكن يغلب العقلاء على غيرهم، فيقال لهم: العالمين، لا يقال لعالم الحشرات أو الجماد أو البهائم العالمين، وعليه فلا تستعمل كلمة العالمين إلا إذا اجتمع العقلاء مع غيرهم وغلبوا عليهم.
أما العوالم فقد يطلق على أصناف من الموجودات ليس منهم البشر أو العقلاء أو المكلفون (تقال للحيوانات والحشرات والجمادات).
فاختيار كلمة العالمين له سببه في سورة الفاتحة، فالعالمين تشمل جيلا واحدا، وقد تشمل كل المكلفين، أو قسمًا من جيل (قالوا أولم ننهك عن العالمين) (الحجر آية 70) في قصة سيدنا لوط، فجاءت هنا بمعنى قسم من الرجال.
واختيار العالمين أيضا لأن السورة كلها في المكلفين، وفيها طلب الهداية وإظهار العبودية لله، وتقسيم الخلق كله خاص بأولي العقل والعلم؛ لذا كان من المناسب اختيار العالمين على غيرها من المفردات أو الكلمات. وقد ورد في آخر الفاتحة ذكر المغضوب عليهم وهم اليهود، والعالمين رد على اليهود الذين ادعوا أن الله تعالى هو رب اليهود، فقط فجاءت رب العالمين لتشمل كل العالمين لا بعضهم.
أما اختيار كلمة رب فلأنها تناسب ما بعدها (اهدنا الصراط المستقيم) لأن من معاني الرب المربي، وهي أشهر معانيه، وأولى مهام الرب الهداية؛ لذا اقترنت الهداية كثيرا بلفظ الرب، كما اقترنت العبادة بلفظ الله تعالى (قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) (طه آية 49-50) (فاجتباه ربه فتاب عليه وهدى) (طه آية 122) (سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) (الأعلى آية 1-3) (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) (الأنعام آية 161) (وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) (الكهف آية 24) (قال كلا إن معي ربي سيهدين) (الشعراء آية 62) (وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين) (الصافات آية 99) (ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) (القصص آية 22) لذا ناسب لفظ رب مع اهدنا الصراط المستقيم، وفيها طلب الهداية.
(الرحمن الرحيم)
الرحمن الرحيم وقفنا عندها من قبل، وبيّنا أن كلمة الرحمن عامة، والرحيم خاصة فضلاً عن أن الرحمن صفة متجددة، والرحيم صفة ثابتة، فجمع بين التجدد والثبات.
* هناك من يقول أن رب العالمين تحتوي على معنى الخلق والملك والتدبير؟
قلنا: إن كلمة الله تعني كل هذه الأمور: الخالق المالك المدبر، أما رب العالمين فأصل اللفظة هي للتربية وللملك، فهو مربيهم ومالكهم، هو يربي المؤمن والكافر، وهذا من تفضّله سبحانه وتعالى، هو يربي كل شيء، يخلقه وينميه ويربيه، ولذلك نقول: العالمين هنا معناها مطلق خلق الله، لاختلاط العاقل بغير العاقل فتستعمل جمع مذكر سالما.
الرحمن الرحيم:
الرحمن على وزن فعلان، والرحيم على وزن فعيل، ومن المقرر في علم التصريف في اللغة العربية أن الصفة فعلان تمثل الحدوث والتجدد والامتلاء، والاتصاف بالوصف إلى حده الأقصى، فيقال: غضبان، بمعنى: امتلأ غضبا (فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا) لكن الغضب زال (فلما سكت عن موسى الغضب) ومثل ذلك عطشان، ريان، جوعان، يكون عطشان، فيشرب فيذهب العطش.
أما صيغة فعيل، فهي تدل على الثبوت في الصفات مثل طويل، جميل، قبيح، فلا يقال خطيب لمن ألقى خطبة واحدة، وإنما تقال لمن يمارس الخطابة، وكذلك الفقيه.
هذا الإحساس اللغوي بصفات فعلان وفعيل لا يزال في لغتنا الدارجة إلى الآن، فنقول بدا عليه الطول (طولان)، فيرد : هو طويل (صفة ثابتة)، فلان ضعفان (حدث فيه شيء جديد لم يكن)، فيرد: هو ضعيف (هذه صفته الثابتة فهو أصلا ضعيف)
ولذا جاء سبحانه وتعالى بصفتين تدلان على التجدد والثبوت معا، فلو قال: الرحمن فقط، لتوهم السامع أن هذه الصفة طارئة قد تزول كما يزول الجوع من الجوعان والغضب من الغضبان وغيره، ولو قال رحيم وحدها، لفهم منها أن صفة رحيم مع أنها ثابتة لكنها ليست بالضرورة على الدوام ظاهرة إنما قد تنفك.
مثلا عندما يقال فلان كريم فهذا لا يعني أنه لا ينفك عن الكرم لحظة واحدة، إنما الصفة الغالبة عليه هي الكرم.
فجاء سبحانه بالصفتين مجتمعتين ليدل على أن صفاته الثابتة والمتجددة هي الرحمة، ويدل على أن رحمته لا تنقطع، وهذا يأتي من باب الاحتياط للمعنى، وجاء بالصفتين الثابتة والمتجددة لا تنفك إحداهما عن الأخرى، لأن هذه الصفات مستمرة ثابتة لا تنفك البتة غير منقطعة.
فلماذا إذًا قدم سبحانه الرحمن على الرحيم؟
قدم صيغة الرحمن، والتي هي الصفة المتجددة، وفيها الامتلاء بالرحمة لأبعد حدودها؛ لأن الإنسان في طبيعته عجول، وكثيرا ما يؤثر الإنسان الشيء الآتي السريع، وإن قل على الشيء الذي سيأتي لاحقا وإن كثر (بل تحبون العاجلة) ؛ لذا جاء سبحانه بالصفة المتجددة، فرحمته قريبة ومتجددة وحادثة ولا تنفك.
ووقوع كلمة الرحيم بعد كلمة الرب يدلنا على أن الرحمة هي من صفات الله تعالى العليا، وفيها إشارة إلى أن المربي يجب أن يتحلى بالرحمة لا القسوة ، وتكون من أبرز صفاته، والرب بكل معانيه ينبغي أن يتصف بالرحمة سواء كان مربيا أو سيدا أو قيِّما، وقد وصف الله تعالى رسوله بالرحمة.
(مالك يوم الدين)
فيها وقفة، فيها قراءتان مشهورتان، وهناك من قرأ مَلَك وملاّك لكن المشهور في السبعة أن بعضهم قرأ مالك يوم الدين، وبعضهم قرأ ملك يوم الدين، .
(مالك يوم الدين)
فيها وقفة، فيها قراءتان مشهورتان، وهناك من قرأ مَلَك وملاّك لكن المشهور في السبعة أن بعضهم قرأ مالك يوم الدين، وبعضهم قرأ ملك يوم الدين، ولي في هذا كلام قد يطول نرجئه للحلقة القادم
مالك يوم الدين:
نحن ما زلنا في سورة الفاتحة ووقفتنا هذا اليوم عند قوله تعالى (مالك يوم الدين). كلمة مالك هي في قراءة سبعية، وملك في قراءة سبعية. المشرق العربي والإسلامي وباكستان وتركيا وهذه البلاد تقرأ مالك يوم الدين، وفي شمال إفريقيا والمغرب العربي يقرؤون ملك يوم الدين بقراءة نافع برواية قالون، وهذا يستدعي أن نبين بشيء موجز مسألة القراءات وكيف جاز أن يقرأ بعضهم مالك وبعضهم يقرأ ملك.
أولاً: هي رسمها في المصحف من غير ألف، وهذا الرسوم سوّغ للعربي من القديم أن يقرأها بالألف لماذا؟ نحن عندنا الحركات لا تُرسم حتى بعد أن وُضعت لها رموز، لا نرسم الحركات، نقول كتب لا نضع فتحة على الكاف، لا نفعل هذا، وكذلك الضمة والكسرة لا نضعهما، والألف فتحة طويلة عندما تمد الصوت بالفتحة في (كتب) مع الكاف تصبح ألفاً (كاتب)، علماؤنا يقولون لو مددت الصوت بالفتحة نشأ من بعدها ألف، لكن الدرس الصوتي يقول تصبح ألفاً، وهذا ليس من شأننا.
نحن إذن لا نضع الحركات، هذه الفتحة في (كَتَب) كما أننا لا نكتبها، ولكننا نقرأها كَتب، وفرق بينها وبين كُتب وكتاب، وكلها غير مرسومة.
يبدو أن الكاتب العربي قديماً كان ينظر إلى صوت المدّ في الألف كما ينظر إلى الفتحة، فكما أنه لا يكتب الفتحة أو يكون له صوت للفتحة، كان لا يكتب الألف في كثير من المواضع، وأحياناً كان يكتبها متقصداً حتى لا يكون هناك إغفال لصورة الألف.
أما الواو والياء فكانوا في الغالب يرسمونهما لأن لهما صورتين: الواو التي تشبه الألف في كونها حرف مدّ مثل الواو في (نقول)، علماؤنا يقولون الواو الساكنة المضموم ما قبلها، والياء في (نبيع) الياء الساكنة المكسور ما قبلها، والواو التي قبلها حركة، أو بعدها حركة ليست من جنسها تختلف. واو (وجد) وواو (لون) غير واو (نقول) من حيث الصوت، حين ترسم المقاطع على شكل الرسم الطيفي مثل تصوير القلب، واو (وجد) تظهر قاعدة للمقطع نقطة في الأسفل، بينما واو نقول تظهر قمة في المقطع، فهذه غير هذه، لكن رُسمت بشكل واحد، فالواو والياء لها صورة قيمتها قيمة حرف اعتيادي مثل وجد ولون ويبس وليت، والواو والياء هما حركتان طويلتان مثل نقول ونسير؛ فلأن لهما صورتين رسمتا في الغالب، أما الألف فليس لها إلا صورة واحدة وهي المدّ، هي فتحة طويلة، ولذلك الغالب أنهم لا يرسمونها، حين ننظر إلى المنحوتات القديمة تأتينا مثلاً كلمة (الحارث) أحد الملوك الذين حكموا الشام من الأنباط قديماً نجد أنه مكتوب الحرث من غير ألف، وكلمات كثيرة جداً.
فكلمة (ملك يوم الدين) رسمت بالميم واللام والكاف، فلما رُسمت هكذا احتملت قراءتين: احتملت أن تُقرأ مالك، واحتملت أن تُقرأ ملك، لكن هل هذه القراءة كانت بتشهٍّ من القارئ؟ الجواب لا، هذا الرسم الذي بين أيدينا يشير إشارة موجزة إلى فكرة الأحرف والقراءات، ونفهم منها مسألة عامة، وهي هذا النوع من التسامح بين المسلمين واحتمال الرأي الآخر في كتاب الله.
تروي لنا كتب الصحاح والسنن أن اثنين من الصحابة هما عمر بن الخطاب وصحابي آخر، سمعه عمر رضي الله عنهما يقرأ بطريقة غير الطريقة التي يقرأ هو بها، فلبّبه (أي أخذه من تلابيبه)، وجاء به إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال (صلى الله عليه وسلم) : (ما قرأت به صحيح، وما قرأت به صحيح، اقرؤوا كما عُلّمتم، فقد أُنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف)، هذا متى كان؟ يقول (صلى الله عليه وسلم) : (سألت ربي أن يزيد في الأحرف إلى أن وصلت بها إلى سبعة أحرف) هذه السبعة، هل هي الرقم الذي بين الستة والثمانية؟ أو هي إشارة إلى انفتاح الأمر أي تيسيره وفقاً لما أقرأهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، لم تكن بالرقم سبعة التي بين الستة والثمانية؛ لأن العرب كانت تستعمل بعض الأرقام للإشارة إلى الكثرة تستعمل: سبعة وسبعين وسبعمائة وألف، كما نستعمل نحن الآن كلمة مائة في العامية حين يقول أحدهم: قلت له مائة مرة أن لا يفعل هذا، ومائة ليست العدد الذي بين تسعة وتسعين ومائة وواحد، ولكنها إشارة إلى الكثرة، هذه عادة المجتمع وهكذا كان.
على أية حال سواء كانت الحروف أو الأحرف السبعة هي الرقم سبعة أو غيره – نجد أن ابن جنّي يذكر في كتابه المحتسب في وجوه القراءات الشاذة يفسر معنى شذوذ القراءات، ثم يذكر رواية عن عمر، وهو خليفة يأمر فيُطاع أن رجلاً قرأ بين يديه أو أمامه (فتربصوا به حتى حين) قرأها (عتى حين)، فسأله عمر: من أين الرجل؟ قال: من العراق، وعمر يعلم أن الهذليين لم يذهبوا إلى العراق، ما كان في العراق هُذلي، قال من أقرأك هذا ؟ أنت لست هذلياً، قال: ابن مسعود، وهو هُذلي، وكان يُقرئ الناس، فأرسل له عمر رسالة فيها: (إن الله قد أنزل القرآن، وجعله عربياً، وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تُقرئهم بلغة هذيل). مع أن هذه القراءة أجازها الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ربه، لكن عمر بثاقب بصره وجد أن السبب الذي من أجله رُخص بهذه الأحرف، زال وهو كون العرب كانوا أمة أمية، أما الآن فالعرب جميعاً يقرؤون ويكتبون في زمانهم، من زمن أسرى بدر بدأت القراءة والكتابة تنتشر، وكان عمر في خلافته يمتحن الأعراب القادمين، حتى انه امتحن رجلاً مرة قال: تقرأ القرآن؟ قال نعم يا أمير المؤمنين، قال: فاقرأ لي أم القرآن، لو قال له اقرأ لي الفاتحة لعرف، فقال الرجل أنا لا أعرف البنات فمن أين أعرف الأمهات، فأخذه وأسلمه إلى المُقرئ، فلبث فترة، ثم انهزم، وترك قصيدة يقول فيها:
أتيت مهاجرين فعلّموني ثلاثة أحرف متتابعاتِ
وحطوا لي أباجاد وقالوا تعلّم سعفصاً وقريّشات
وما أنا والقراءة والتهجّي وما حظ البنين من البنات
صارت الأمة قارئة حافظة، فوجد عمر عند ذلك بثاقب بصره أنه ينبغي أن يجتمعوا على حرف قريش، لأن القرآن نزل بلغة قريش، وعلى حرف قريش، والأحرف الأخرى كانت رُخصاً من الله سبحانه وتعالى.
وهذا نستفيد منه الآن، نحن قلنا إن معنى الترخيص في كتاب الله أنني يمكن أن أقرأ مالك يوم الدين، وتقرأ أنت ملك يوم الدين، ويكون ما قرأت أنا صحيحاً، ويكون ما قرأته أنت صحيحاً، من غير تشنج ومخاصمة، لكن الحاكم الذي يريد أن يوحّد الأمة كان له رأي آخر.
ويبقى هذا الحكم، إذا قرأت مما هو ثابت على السبعة أو العشرة فقراءتك صحيحة عند الجمهور، والأغلبية يقولون في السبعة فقط.
وكذلك صنع عثمان الصنيع الذي قال عنه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لو كنت أنا لفعلت مثلما فعل عثمان. والذي فعله عثمان هو أنه جمع الناس على حرف قريش، أراد للناس أن تجتمع على حرف واحد، الصحابة كانوا قد انتشروا في الآفاق (وهذا كلام موجز لفكرة الحروف والقراءات حتى يفهمها الناس من غير أهل الاختصاص، ولماذا جاءت ملك ومالك، ورُخّص في كليهما).
كان الصحابة قد انتشروا في الآفاق، وكلٌ أقرأ بما أُقرأ وفقاً لقبيلته، وما أجازه (صلى الله عليه وسلم) عن ربه، وليس من عنده (صلى الله عليه وسلم). لكن نسخ المصاحف التي كتبت في زمن عثمان جاءت بإجماع الصحابة. مكي بن أبي طالب القيسي يقول في كتابه الإبانة عن القراءات: أجمع ما يزيد على اثني عشر ألف صحابي على صحة ما فعل عثمان. أجمع الصحابة على حرف، لكن لأن الكتابة لم تكن منقوطة ولا مشكولة، فلما وصل المصحف الإمام إلى الشام كان الناس يقرأون بقراءة معينة أو حرف معين أو أكثر من حرف، فصاروا يعرضون ما قرؤا على رسم المصحف، فما وافق الرسم ظنوا أن عثمان أراده، وما خالف الرسم تركوه، ولو كان حرفاً من الأحرف السبعة من أجل وحدة الأمة، فكلمة بهذه الصورة يمكن أن تُقرأ مالك؛ لأنهم ما كانوا يرسمون الألف، ويمكن أن تقرأ ملك، فلما ذهب المصحف إلى الناس الذين كانوا يقرؤون مالك قالوا إذًا عثمان أراد مالك، ولما ذهب إلى الناس الذين يقرأون ملك، قالوا إذًا عثمان أراد ملك، فمن هنا جاءت القراءات. فالقراءات إذن السبع أو العشر، وعلى رأي الأربع عشرة هي بقايا الأحرف السبعة، يعني حرف قريش مع بقايا الأحرف السبعة، فكلها مقروء بها، وما كان يقرأ بها أفراد كما يُتصور، هذه قراءة نافع، وهذه قراءة عاصم، لا ، بل هؤلاء كانوا يمثلون المدن أو القبائل؛ لأننا نجد في كتاب سيبويه وهو أقدم كتاب وصل إلينا من كتب النحو أنه لا يقول قرأ فلان من مكة، ولكنه يقول: وبلغنا أن أهل مكة يقرؤون كذا، وبلغنا أن أهل الكوفة يقرؤون كذا (لأنه كان في البصرة)، وبلغنا أن أهل الشام يقرؤون كذا، يعني يُحيل على البلدان.
في مكة كان أهل مكة يقرأون هكذا، ظهر منهم ابن كثير، ويبدو أن صوته كان جميلاً فشُهِر، وفي المدينة كان نافع، وفي الشام ابن عامر، وفي البصرة أبو عمرو بن العلاء، وفي الكوفة ثلاثة من القراء عاصم والكسائي وحمزة شيخ الكسائي. إذًا من هنا جاءت ملك ومالك وبقية القراءات.
نستفيد من هذا كله شيئا، وهو مقترح نود أن نعرضه، أنه لما كان عثمان وعمر رضي الله عنهما، والصحابة الكرام (اثنا عشر ألف صحابي) أرادوا أن يجمعوا الناس على حرف، فما الذي لا يجعلنا نتمنى أن يجتمع الناس اليوم على قراءة واحدة، نتمنى إذا كانت هناك طباعة جديدة للمصحف يتفق الناس جميعا، ويطبعونه بصورة واحدة، ويقرؤونه بحرف واحد.
لكننا نقول في الوقت الحاضر أنك إذا كنت في الرباط أو في مراكش فاقرأ ملك يوم الدين، إذا قُدّمت إماماً حتى لا يستغرب الناس ، وإذا كنت في بغداد فاقرأ مالك يوم الدين، وإذا كنت في الموصل فلا باس أن تقرأ (فأوردهم النير)، لأنهم في الموصل يقرؤون النار: النير، لكنك في بغداد حين تقول النير يستغرب الناس منك.
نحن لا ننفي القراءات، هي على العين والرأس، ونقول أنتم تعلمتم هذا، وهذا علم الخاصة، أما إذا كنت تريد أن تقول إن الله تعالى يريد أن يقول لنا إن فرعون أورد قومه النار، فلماذا نقول النير؟ فنقول لك: هذه القراءة لمن كانوا يميلون، ورُخّص لهم في هذا، وقريش ما كانت تميل، وما كانت عندها هذه الإمالة. فنتمنى، ولا نقول: إن هذا ممنوع، فلو كان عندنا رجل مثل عمر الذي نهى ابن مسعود وهو الصحابي، أو مثل عثمان أو مثل علي – لكان قد حمل الناس على حرف واحد. هذه هي الغاية، أن نقرأ بصورة واحدة. وإذا أخذت بحرف واحد فهذا ما يأخذ به جمهور علمائنا، إذ لا يرتضون أن تقرأ بأكثر من قراءة في آن واحد، والعلماء يقولون إن أمسكت المصحف فاقرأ به قراءة واحدة إلى النهاية، أو على الأقل في نفس الجلسة.
لم تُكتب الألف في ملك، لكنها تُقرأ، ورسم المصاحف توقيفي على ما رسمه الصحابة على القولين: سواء قلنا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أشار عليهم بطريقة الرسم هذه، أو أن الخط العربي تطور في زمانهم، فرسموا هكذا. وفتوى علمائنا أن رسم المصحف يُكرر كما رسم على زمن الصحابة، فإذا أردت أن ترسم مصحفاً فضع أمامك نسخة قديمة لترسم عليها، فمالك ترسم ؛ لأنك إذا رسمتها مالك كما فعل بعض الخطاط في زمن الدولة العثمانية حين أرادوا أن يجمعوا الناس على حرف واحد، فكتبوها مالك – فسوف تمنع من أراد قراءة ملك، ولا يتقن إلا إياها، فيقول لك أنت حرمتني من القراءة، لكن اكتبها وقل له أتمنى أن تقرأها مالك أو ملك، فلنتفق على شيء، لتقرأ الأمة جميعاً ملك يوم الدين.
كتابة المصحف توقيفية في كل زمان تكتب كما هي إلا للمتعلمين، فإنها تكتب بخط ذلك الزمان.
الآية أمامنا () ملك ومالك، وبعض العلماء حاول أن يبين أيهما أميز؟ مالك أو ملك؟ لكن المحققين من العلماء يقولون: لا يجوز المفاضلة بين قراءتين سبعيتين، لكنك تقول عند قراءة كذا ستكون الفائدة كذا وكذا وكذا، وعند قراءه هذه تكون الفائدة كذا وكذا وكذا.
فإذا أتينا إلى فوائد كلمة ملك، وفوائد كلمة مالك نقول أن الجمع بين القراءتين يجمع الفائدتين مع مراعاة شيء، وهو أنه حين نقرأ كلمة ملك ينبغي أن نستحضر في أذهاننا ما كان يستحضره العربي في ذلك الزمان من كلمة ملك.
هناك الآن ملكيات (الملك فلان والملكة فلانة) يوجد ملوك، ولكن عددهم قليل.
والملك الآن اسمه الملك، لكنه لا يكون مالكاً للبلد، ، إنما هو رمز لوحدة تلك الدولة، لوحدة الأمة، لكن غيره هو الذي يتصرف في الشؤون، البرلمان أو الوزارة، الآن هو ملك، لكنه ليس مالكاً قطعاً.
لكن الملك قديماً كان يملك الأرض وكل شيء، حتى جزيئات المملوكات التي يملكها الناس، كأنما هو يملكها لهم، ولذلك لما مزّق كسرى رسالة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، بنفس المفهوم قال (صلى الله عليه وسلم)( مزّق الله ملكه).
والدولة أو المملكة هي ملك للحاكم، فنفهم عندئذ حين نقرأ مالك يوم الدين- نفهم أن الله سبحانه وتعالى هو المالك المتصرف في شؤون ذلك اليوم، يملكه اليوم، ويملك ما فيه.
عندنا الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه ملك (هو الملك القدوس) ولم تُقرأ المالك هنا؛ لأن القراءة في الحقيقة ليست على الرسم، هم كانوا يحفظونها هكذا، فلما جاء الرسم موافقا قراءتهم قرأوها على الحفظ قبل أن يكون على الرسم، ملك لم يقرؤوها مالك؛ لأنه ما من أحد قرأها مالك، وفي مكان آخر قال تعالى (قل اللهم مالك الملك).
فحين نقرأ ملك يكون لنا سند، والسند هو الرواية المتواترة عن الأمة، لا عن فرد، والأمر الآخر موافقة رسم المصحف، وموافقة العربية، وإن كان القرآن كما نقول دائماً حاكم على العربية وليست العربية حاكمة على القرآن.
كلتا القراءتين لها وجهها، والملك أو المالك يمكن أن نجمع بين القراءتين في هذا المجال.
وهذه خلاصة الفكرة: رسم المصحف والقراءة بحسب الأحرف، والعلاقة بين القراءات والأحرف تعني أن القراءات الحالية هي ليست الأحرف، وإنما بقايا الأحرف السبعة، وآثار منها. فالقرآن كُتب على حرف قريش، لكن احتمل فظهرت فيه هذه القراءات، يجب أن نفهم اللفظة كما كانت في ذلك الزمان على ما استعملت.
كان هناك سؤال أرسلته أخت لنا تقول: إن الله تعالى يقول لأيوب (عليه السلام) (اركض برجلك) فتسأل: بم يركض الإنسان ؟ برجله، فلماذا استعمل كلمة اركض برجلك؟
كيف كان الاستعمال القديم لكلمة ركض ويركض ؟ حين ننظر في الاستعمال القديم، وننظر في المعجم نجد أن ركض تأتي بمعنيين: المعنى الأساسي هو تحرك الرجل أو الضرب بالرِجل، يقال ركض الفارس فرسه أي ضربها بقدميه، ثم استعملت بعد ذلك بمعنى آخر وهو العدو (عدا يعدو).
اركض برجلك: هو مريض، والمعنى: ارفس الأرض برجلك ينبثق ماء، هذا مغتسل بارد وشراب، فتغتسل وتشرب، وليس معناها اعدُ، هو مريض يحتاج إلى علاج، فلا يقول له اركض، هو يريد : ارفس برجلك، فافهم العبارة القديمة، كيف كانت تستعمل؟ حين تقرأ (وجاءت سيارة) لا تظن أنها سيارة كما نفهمها اليوم، فلم يكن هناك سيارات. وكلمة قطار، يقال: جاعت القافلة، فذبحوا آخر القطار، كيف؟ القطار هو الصف من الإبل.
فكلمة ملك ينبغي أن نفهمها في إطارها في ذلك الزمان، الملك في ذلك الزمان كان متصرفاً في شؤون رعيته، ولذلك جاء على لسان بلقيس (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) كانوا يتصرفون كطغاة على الجميع، ولم تكن تلك سمة الملوك فحسب، بل كل الرؤوساء حتى شيوخ العشيرة
لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
يعني حين تغزو القبيلة وتأخذ الغنائم: فللشيخ أولاً ربع الغنيمة من غير تقسيم، وما يصطفيه لنفسه، وما هو غير قابل للقسمة، وما يختاره له أو لغيره، هكذا كان التصرف.
فهذا المُلك هو التصرف العام الذي ينبغي أن نفهمه من قوله تعالى (مالك يوم الدين) أو (ملك يوم الدين) أي أن الله تعالى هو المتصرف في كل شيء تصرفاً مباشراً، وليس لأحد أن يتصرف في هذا الملك، فضلاً عما يحتاج هذا من تفصيل، ولا نريد أن نطيل في هذه المسألة.
الدين من الألفاظ المشتركة في القرآن الكريم، فهي تأتي بمعنى الطاعة والإسلام والحساب والجزاء فما اللمسة البيانية في اختيار الدين؟
اختيار كلمة (الدين) لم يقل القيامة أو الجزاء، وهذه اللفظة لها معان كثيرة كلها مرادة، لو قال مالك يوم القيامة، يكون التصور هو قيام الناس من قبورهم ولا يكون فيه معنى المحاسبة، معنى الجزاء، معنى إدخال الجنة، معنى إدخال النار، ولا يكون فيه معنى الطاعة والالتزام، ولا يكون فيه معنى الاعتقاد السليم. هذا يومكم، هذا يوم الدين الذي يبرز فيه الدين، ويتعالى فيه الدين، كل هذه المعاني مرادة، ولو ذكر أي لفظ منها تغيب معاني الألفاظ الأخرى.
________________________________________
مالك يوم الدين:
نحن قلنا في الحلقة الماضية أن لفظة مالك يوم الدين هي قراءة لعدد من القراء الذين يمثلون مدناً، وذكرنا ما قاله سيبويه في هذا المجال بأنه كان يشير إلى البلدان، إلى المدن: قرأ أهل الشام وقرأ أهل المدينة، ولم تكتب الألف؛ لأن الكتبة فيما يبدو كانوا ينظرون إلى الألف كما ننظر الآن نحن إلى الفتحة، فكما أننا لا نكتب الفتحة، كانوا لا يكتبون الألف، ولكن يلفظونها، ومن هنا بقيت من آثار الأحرف ملك ومالك.
ودعونا إلى أن يبقى الناس في المكان الذي اشتهر فيه لفظ مالك يقرأون مالك، حتى لو عُلم أن هناك قراءة أخرى، والمكان الذي اشتهر فيه قراءة ملك يُقرأ فيه ملك، ثم تمنينا على أمتنا أن تتوحد على حرف واحد أو على رواية واحدة تأسياً بما فعله عثمان رضي الله عنه، وأقره عليه اثنا عشر ألفاً من الصحابة، وأحرقوا سائر الأحرف، فلا يتشبث الإنسان، ويقول ماذا أصنع؟ كل حرف يغني، أي تستطيع أن تستغني به، هذا الكلام الذي قلناه، فإذا قرأ بأي قراءة مما قرأ به القراء السبعة بالإجماع أو العشرة أو القراء الأربعة عشر، وهناك من قال أكثر، لكن على الأقل القراء السبعة، من يقرأ بقراءتهم لا يعترض عليه إلا من قبيل أن تجعل الناس يتساءلون ما هذا؟ وما الفائدة منه؟ ما الفائدة أن تقرأ (فأدخلهم النير)؟ أنت تعرف أدخلهم النار، فهل تقرؤها حتى يعلموا أن هناك قراءة؟ ماذا يستفيدون؟ وهذا على خلاف ما أراده عثمان رضي الله عنه، واثنا عشر ألفاً من الصحابة، حين أحرقوا الأحرف وليس بقايا الأحرف، وإجماع الصحابة حُجّة.
كلمة الدين: قد يقول قائل لماذا لم يقل مالك يوم القيامة؟ أو يوم الحساب أو يوم الحشر؟ قلنا إن كلمة الدين تضم كل هذه المعاني، فالدين الحساب، والدين الجزاء، والدين المُلك، ومنه سُميت المدينة، أي المملوكة، لأن عموم الأرض عادة غير مملوكة، فحين تملك هذه الأرض، وتبني، ويصير فيها ملك تسمى مدينة أي القطعة المملوكة التي يملكها الناس، ومن الدين الاعتقاد أو العقيدة، فلو وضعت أي كلمة أخرى لا تسد مسد كلمة الدين؛ لأن كلمة الدين شاملة لكل هذه الأمور، فهو يوم الحساب، وهو يوم الجزاء، وهو يوم الدين نفسه يوم العقيدة، يوم بروز وظهور وانتصار الاعتقاد، وهو العادة والشأن (يقولون دينه وديدنه)، وكل هذه المعاني، لذلك نقول ليس هناك شيء يسد مسد لفظة الدين، كل هذه المعاني تجمع في هذا اليوم.
تبقى كلمة يوم: في التطور الدلالي الآن صار عندنا اليوم يمثل 24 ساعة، وهذا ليس من كلام العرب. الأصل في كلام العرب أن اليوم هو النهار، فإذا قالوا ثلاثة أيام، يعني ثلاثة نهارات، ومنه قوله تعالى (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما)، هذا معناه أن الحساب سيكون في ظرف ليس كظرف حياتنا الآن، لأننا إلفنا الآن دوران الأرض، فيكون ليل ونهار، وينظر في ذلك إلى قوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات) فالحساب في يوم، يعني قياسهما، وكم يطول هذا النهار؟ في الآية الكريمة في سورة المعارج يقول تعالى (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، فذلك اليوم اختلف في طوله المفسرون، وقيل إن طوله على الكافرين يكون شديدا، وقيل بل يكون طويلا طولا عاماً للناس جميعاً؛ لأن الانتظار يطول حتى إن بعض الواقفين في هذا الموقف يقولون: ربنا أنقذنا من هذا ولو إلى النار لشدة الكرب.
وفي هذا الوقت يكون هناك أصناف من الناس في ظل ظليل، كما حدّث الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يشهدون هذا العنت: ” سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق، فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه” رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله رب العالمين، يذكرنا هذا بقصة يوسف (عليه السلام) الذي رأى برهان ربه، يعني معرفته بالشريعة. فهؤلاء السبعة يكونون منعمين في ظل ظليل.
فاليوم إذًا نهار ، كيف يكون هذا النهار؟ ما طوله؟ لا يكون هناك ليل يسكنون فيه، ليس هناك سكون، هذا موجز.
خصّ تعالى يوم الدين بالذكر مع كونه مالكاً للأيام كلها، فلماذا لم يقل مالك يوم الدين والدنيا؟ الذي يملك هذا اليوم، يوم الجزاء، يوم المحشر، يملك كل شيء، ويملك كل ما في ذلك اليوم.
وحين يقول ملك اليوم، يعني ملك اليوم وما فيه، الزمن هذا بذاته لا فائدة من مِلكه، أن نملك زمناً، وكيف نملك الزمن؟ لكن هذا أمر الله تعالى يملك الزمان والمكان، وما في الزمان وما في المكان، فملكه سبحانه وتعالى عام، لا حاجة لذكر الدنيا لأنه من باب أولى إذا ملك يوم الدين وملك الحساب فهو يملك كل شيء. هذا فيما يتعلق بمالك يوم الدين، وكما قلت الإمام الرازي قال: في الفاتحة وحدها ما يربو على عشرة آلاف مسألة، ونحن نقتنص منه ومن غيره مما وقفوا عنده.
مالك يوم الدين:
هناك قراءة متواترة (ملك يوم الدين)، بعض المفسرين يحاولون تحديد أي القراءتين أولى، وتحديد صفة كل منهما، لكن في الحقيقة ليست هناك قراءة أولى من قراءة، فكلتا القراءتين متواترة، نزل بهما الروح الأمين؛ ليجمع بين معنى المالك والملك.
المالك من التملك، والملك بكسر اللام من الملك بضم الميم والحكم (بمعنى الذي يملك الملك)، (أليس لي ملك مصر) الملك هنا بمعنى الحكم، والحاكم الأعلى هو الله تعالى.
المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون، والملك قد يكون مالكا وقد لا يكون. المالك يتصرف في ملكه كما لا يتصرف الملك (بكسر اللام)، والمالك عليه أن يتولى أمر مملوكه من الكسوة والطعام، والملك ينظر في الحكم والعدل والإنصاف. المالك أوسع لشموله العقلاء وغيرهم، والملك هو المتصرف الأكبر، وله الأمر والإدارة العامة في المصلحة العامة، فنزلت القراءتين لتجمع بين معنى المالك والملك، وتدل على أنه سبحانه هو المالك، وهو الملك (قل اللهم مالك الملك) الملك ملكه سبحانه وتعالى، فجمع بين معنى الملكية والملك.
مالك يوم الدين، لم لم يذكر الدنيا؟
سواء كان مالكا أو ملكا، فلماذا لم يقل مالك يوم الدين والدنيا؟
أولا: قال الحمد لله رب العالمين فهو مالكهم وملكهم في الدنيا، ثم قال: مالك يوم الدين، فهو مالك يوم الجزاء، يعني ملك ما قبله من أيام العمل، والعمل يكون في الدنيا، فقد جمع في التعبير يومي الدين والدنيا، وبقوله يوم الدين شمل الدنيا أيضا.
لم قال يوم الدين ولم يقل يوم القيامة؟
الدين بمعنى الجزاء، وهو يشمل جميع أنواع القيامة من أولها إلى آخرها، ويشمل الجزاء والحساب والطاعة والقهر، وكلها من معاني الدين، وكلمة الدين أنسب للفظ رب العالمين، وأنسب للمكلفين (الدين يكون لهؤلاء المكلفين)، فهو أنسب من يوم القيامة؛ لأن القيامة فيها أشياء لا تتعلق بالجزاء، أما الدين فمعناه الجزاء، وكل معانيه تتعلق بالمكلفين، لأن الكلام من أوله لآخره عن المكلفين؛ لذا ناسب اختيار كلمة الدين عن القيامة.
لماذا قال مالك يوم؟
واليوم لا يُملك، إنما ما فيه يملك، والسبب قصد العموم، ومالك اليوم هو ملك لكل ما فيه، وكل من فيه، فهو أوسع، وهو ملكية كل ما يجري وما يحدث في اليوم، وكل ما فيه ومن فيه، فهي إضافة عامة شاملة جمع فيها ما في ذلك اليوم ومن فيه، وأحداثه وكل ما فيه من باب الملكية (بكسر الميم) والملكية (بضم الميم).
اقتران الحمد بهذه الصفات أحسن وأجمل اقتران، الحمد لله، فالله محمود بذاته وصفاته على العموم، والله هو الاسم العلم، ثم محمود بكل معاني الربوبية (رب العالمين) لأن من الأرباب من لا تحمد عبوديته، وهو محمود في كونه رحمن رحيما، محمود في رحمته؛ لأن الرحمة لو وضعت في غير موضعها تكون غير محمودة، فالرحمة إذا لم توضع في موضعها لا تكون مدحا لصاحبها، محمود في رحمته يضعها حيث يجب أن توضع، وهو محمود يوم الدين، محمود في تملكه وفي مالكيته (مالك يوم الدين)، محمود في ملكه ذلك اليوم (في قراءة ملك يوم الدين)، استغرق الحمد كل الأزمنة، لم يترك سبحانه زمنا لم يدخل فيه الحمد أبدا من الأزل إلى الأبد، فهو حمده قبل الخلق (الحمد لله) حين كان تعالى ولم يكن معه شيء قبل حمد الحامدين وقبل وجود الخلق والكائنات، استغرق الحمد هنا الزمن الأول، وعند خلق العالم (رب العالمين)، واستغرق الحمد وقت كانت الرحمة تنزل ولا تنقطع (الرحمن الرحيم)، واستغرق الحمد يوم الجزاء كله، ويوم الجزاء لا ينتهي لأن الجزاء لا ينتهي، فأهل النار خالدين فيها، وأهل الجنة خالدين فيها لا ينقضي جزاؤهم، فاستغرق الحمد كل الأزمنة من الأزل إلى الأبد، كقوله تعالى( له الحمد في الأولى والآخرة) هذه الآيات جمعت أعجب الوصف.
*من برنامج (ورتل القرآن ترتيلاً):
في قوله تعالى (الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ (3) الفاتحة) إضفاء الأمل على قلبك أيها العبد الفقير إلى رحمة ربك، فصيغة فعلان أي (الرحمن) تفيد الدلالة على التجدد، كقولنا عطشان فهي لا تدل على الثبوت بل على التجدد والامتلاء بهذا الوصف، وصيغة فعيل أي الرحيم تدل على الثبوت في الصفة، كقولنا طويل أو جميل، فجاء السياق القرآني بهاتين الصيغتين للدلالة على أن رحمته سبحانه وتعالى ثابتة ومتجددة، فالعطشان يذهب ظمؤه إن شرِب، ولكن الكريم لا تزول عنه هذه الصفة وإن افتقر، فكان الترادف بين الصيغتين فعلان وفعيل أي الرحمن الرحيم يبث في الحنايا الرحمة الدائمة التي تباشر العباد.
(إياك نعبد وإياك نستعين)
هذه فيها جملة مسائل: أولاً هذه القسمة (إياك نعبد) تتصل بما قبلها من تمجيد الله تعالى (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)، ثم تأتي (إياك نستعين) هي بداية ما للإنسان، ذاك كان لله تعالى ثم صار الكلام للإنسان، الآيات السابقة حين نأتي من بداية الحمد لله رب العالمين نجد تمجيداً من حيث بنية اللغة للغائب، الله سبحانه وتعالى، غائب عن أعيننا، حاضر في قلوبنا، لكن من حيث البنية اللغوية، نقول الحديث عن الغائب : الحمد لله (هو) لم يقل الحمد لك ، رب العالمين (هو)، الرحمن الرحيم (هو)، مالك يوم الدين (هو)، لكن هذا التمجيد والتعظيم لله سبحانه وتعالى زاد من حضور الله سبحانه وتعالى في القلب، فبعد أن انتهى من التعظيم والتمجيد انتقل إلى الخطاب، وهذا يسمونه في العربية الالتفات، وهذا ليس غريباً. إذا نظرنا فيما نقل على لسان إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)) يخاطب المشركين (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)) بدأ يتكلم عن الغائب ثم قال (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)) لاحظ الانتقال، وهذا وارد كثيراً، يتكلم عن الغائب إلى أن يجعله حاضراً في نفسه فيخاطبه، كأنما استحضرت عظمة الله عز وجل في القلب، وعند ذلك يبدأ الإنسان بالخطاب. هو حتى حين يقول الحمد لله رب العالمين يستحضر عظمة الباري عز وجل، لكن الخطاب صار الآن مباشراً (إياك نعبد).
*ألا يمكن أن يكون هناك نداء محذوف تقديره: يا مالك يوم الدين؟
لا؛ لأن الفائدة العامة في اللغة أنه لا يلجأ إلى التأويل ما أمكن عدم التأويل، حين يمكنك أن تفهم العبادة من غير تأويل لا تؤول.
(إياك نعبد): انتقل من المناجاة، كما بدأ إبراهيم يناجي ربه، الذي يصلي، أو الذي يقرأ الفاتحة، يقرؤها وحده في غير الجماعة فيقرأ (إياك نعبد)، شخص في غير القرآن يقول: إياك أعبد، فلماذا استعمل نون الجماعة، وليس الموضع موضع تعظيم، على العكس نحن في موضع ذلة لله سبحانه وتعالى، وكلما كثرت ذلة الإنسان لربه ازداد خضوعاً لله تعالى، وازداد رفعة أمام الآخرين، وازداد بعداً عن عبودية الآخرين؛ لأن العبودية هي منتهى الخضوع لله عز وجل، يكون في منتهى القرب من الله عز وجل، ازداد تحرراً من الآخرين، لا يكون عبداً للآخرين، أعلى الدرجات العبودية لله عز وجل، لذلك كان أعلى تكريم للرسول (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً)، أعلى درجات التكريم أن جعله عبداً.
*إياك نعبد: لِمَ استعمل الجمع هنا؟
يرى العلماء أن الأمة المسلمة أمة موحدة واحدة، ولذلك يقولون دائماً وحدة الأمة مقدمة على أشياء كثيرة، أنت تنظر هذا الأمر هل فيه وحدة للأمة أو تفرقة؟ إذا كان فيه تفريق الأمة فلا خير فيه، الوحدة مقدمة. بعض علمائنا القدماء مثلاً عند الأحناف أتباع الإمام أبي حنيفة الذي يسمونه الإمام الأعظم، ومنه مدينة الأعظمية قرب ضريحه – يرون أن خروج الدم يفسد الوضوء، الإمام الشافعي مع من تبعه عندهم أحاديث وردت، واطمأنوا إليها أن الدم لا يفسد الوضوء، يسأل أحد الحنفية شيخه يقول له: يا شيخي خروج الدم يفسد الوضوء؟ قال: نعم، قال: فلان يقول لا يفسد الوضوء، قال: له رأيه، لاحظ المرونة عند المسلمين، وليس الانغلاق الذي نراه الآن للأسف الشديد، هذا ليس من ديننا، قال التلميذ: كيف نصلي خلفه، وهو يمكن أن يخرج منه دم وهو لا يراه مفسداً للوضوء، فهو في مذهبي يصلي من غير وضوء؟ فكيف أصلي خلفه؟ قال: يا سبحان الله أنا أقول لكم لا تصلوا خلف فلان؟ صلوا خلفه.
لماذا أفتى الشيخ هذه الفتوى؟ لأن فيها وحدة الأمة، هو يصلي إماماً على فقه مذهبه ، فأنت تتابعه حتى تتوحد الأمة، ولذلك لا صلاة لمنفرد خلف الصف، حين يكون في الصف مجال لأن تقف فلا تصلي خلف الصف؛ لأن هذا نوع من تفرقة الأمة، ووحدة الأمة مقدمة على كل شيء.
ديننا دين أمة، دين جمع، وليس دين أفراد (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) حين يحدثنا القرآن الكريم عن أشياء فهو يريد منا أن نتعلم. لما رأى هارون قومه قد عبدوا العجل – وهو نبي- لم يمنعهم، نصحهم، وحاول معهم، لكن لما وجدهم مصرين على انتظار موسى، قال: ننتظر موسى حفاظاً على وحدة الأمة، فلما جاء موسى (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) طه). فديننا دين أمة وليس دين تشعبات وتبعثرات يرى كل فيها نفسه أبا حنيفة ولكن من غير فقه، وإياك نعبد للجماعة، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو سبع وعشرين درجة.
من هنا جاءت كلمة نعبد ولم يكن في مكانها أعبد، وليس المجال مجال تعظيم، كلا، فالمسلم يعبد مع إخوانه (إياك نعبد).
*ما معنى نعبد؟
العبادة في الإسلام التي هي توجه إلى الله تعالى، وتنفيذ لأوامره، لكن لها مفهوما أوسع وأشمل بيّنه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه عدي بن حاتم الطائي لما دخل على الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وفي عنقه صليب من ذهب، وفي رواية صليب من فضة، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقرأ (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أولياء) قال: إنهم لم يعبدوهم، فبيّن الرسول (صلى الله عليه وسلم) معنى العبادة الذي ينبغي أن نفقهه ونتعلمه، قال: بلى، أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم، إذن التحول عن منهج الله سبحانه وتعالى مما ورد في كتاب الله وسنة رسوله، (صلى الله عليه وسلم) وما أجمعت عليه الأمة، وما استنبطه العلماء من الكتاب والسنة، العلماء لا التلامذة الذين يقرؤون كلمتين مثلاً، ويريدون أن يصبحوا فقهاء، بل ما استنبطه العلماء الذين يدرسون العلم الديني من نشأتهم من صغرهم إلى أن يصبح عالماً باللغة وبالبلاغة وبالنحو وبالفقه وبالتفسير وبالأصول، ما استنبطه هؤلاء من الكتاب والسنة، وأجمع عليه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
والانحراف عن هذا انحراف عن اتباعه ، واتباع لهوى النفس (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) كيف يتخذ الإنسان هوى نفسه إلهاً؟ هولا يقبل أن يصلي لنفسه، ولكنه يتبع هوى نفسه فيما خالف شرع الله، ولذلك الضابط هو شرع الله عز وجل، لا أسأل ما الحكمة في أي جزئية ؟ لكني أقول ما قول شرع الله تعالى في هذه المسألة؟ وهذا الذي درج عليه المسلمون دائماً، ليس في حياة الناس شيء نستطيع أن نقول إن الإسلام لا رأي له فيه، بدليل أن الناس كانت تسأل عن كل شيء، والعلماء يبينون (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فهذا معنى العبادة.
وإن ادّعى بعض الناس أن منهجه يوازي منهج الله عز وجل، وهذا يذكرنا بما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما نزل قوله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، يقولون إن المدارس الآن تعمل بوسائل الإيضاح، والرسول (صلى الله عليه وسلم) علّم بوسائل الإيضاح قبل الجميع، فحين نزلت الآية السابقة خطّ خطاً في الأرض، وقال: (هذا صراط الله المستقيم)، وخط خطوطاً على جانبيه وقال: (هذه السبل، وعلى رأس كل سبيل شيطان يدعو إليه). فيجب على الإنسان أن يحذر حين يقول: عندي منهج في الحياة، هو ليس منهج الإسلام، لكنه لا يتعارض مع الإسلام، فإذا كان لا يتعارض فهل يوازي؟ وإذا كان يوازي، فلن يلتقي مع منهج الإسلام؛ لأن الخطان المتوازيان لا يلتقيان، فتعال إلى منهج الإسلام.
*يبقى شيء، أما كان يمكن في غير القرآن أن يقال: نعبدك؟ لِمَ قال: إياك نعبد؟
في غير القرآن يمكن أن يقال: يا رب نعبدك، فما معنى هذا التفسير؟ كلمة نعبدك: الكاف مفعول به والمفعول به في لغة العرب، لأنها لغة مُعربة يُتصرف فيه بالتقديم والتأخير، كما يقول سيبويه: جواز الوجهين، يعني على معنيين مختلفين، حين نقول: كتب زيدٌ رسالةً، أو كتب رسالةً زيدٌ، يجوز الوجهان، لكن هذا المعنى يختلف عن هذا المعنى، صحيح أن المعنى الكلي واحد، وهو أن إنساناً، اسمه زيد كتب شيئاً هو رسالة. لكن حين قيل: كتب رسالةً زيدٌ، أو أكرم خالداً محمدٌ، نعلم أن خالداً آخِذ؛ لأنه منصوب، لأن العربية في إعرابها فيها مجال للتقديم والتأخير، فالمعنى يختلف، ولا بد أن يختلف المعنى الجزئي. صحيح أن خالدًا آخذ، حين نقول: أكرم خالداً زيدٌ، أو أكرم زيدٌ خالداً، أو خالداً أكرم زيدٌ، معلوم أن خالدًا آخذ، وزيد مُعطٍ، لكن هناك فوارق في المعنى.
فحين نقول نعبدك، نأخذ الكاف، نريد أن نضعها في الأول لغرض بلاغي سنذكره، الكاف لا تنفرد وحدها كما في خالداً أكرم زيدٌ، خالداً يمكن أن ينفرد وحده، أما الكاف فلا تنفرد، وتحتاج لما تعتمد عليه، العرب جعلوها تعتمد على لفظة (إيا): إياك، إياكم، إياكما، إياكنّ. وصار للعلماء فيها كلام. العربي قال: إياك أكرمت، والعلماء ناقشوا هل الضمير هو الكاف وحده؟ هل الضمير إيا والكاف للبيان؟ أو هو مجموع إياك؟ هذا لا يعنينا صراحة، المهم أن إياك مختلفة فلماذا؟ إذا نظرنا إلى لغة العرب واستعمالاتها نجد أنه إذا قدم العامل على الفعل والفاعل فإن ذلك يعني الحصر، ومعنى ذلك أنني حين أقول: خالداً أكرمت، أريد أن أقول أني أكرمت خالداً، ولم أكرم أحداً سواه، إياك أعين، يعني: أعينك، ولا أعين أحداً سواك، بحيث لا يصح أن تعطف، فلا يجوز أن تقول خالداً أكرمت، وأكرمت زيداً، يقول لك: آخر الكلام يضرب أوله، أنت تقول لي خالداً أكرمت، معناه أكرمت خالداً، ولم أكرم أحداً سواه، ولاحظ الإيجاز: خالداً أكرمت، بدلا من (خالداً أكرمت، ولم أكرم أحداً سواه)، العربية تقول: خالداً أكرمت، والعربي يفهم هذا، هذه لغة العرب، وهذه لغة القرآن التي يريدون الآن أن يحولوها إلى لغات، لا ندري ماذا نقول عنها.
فالمسلم أو العربي عموماً حين يقرأ: (إياك نعبد) نفهم منها أننا نعبدك، ولا نعبد أحداً سواك، اختزلت بكلمتي (إياك نعبد)، وهي ترتبط بالجزء الأول من قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين)، إياك نعبد تتصل بكلمة الله، وإياك نستعين تتصل بكلمة ربّ، لذلك يقولون الأولى فيها توحيد الألوهية، والثانية فيها توحيد الربوبية، فجمعت الفاتحة التوحيدين: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، إياك نعبد تعني نعبدك، ولا نعبد أحداً سواك بكل ما في العبادة من معنى، فانحصرت العبادة في الله سبحانه وتعالى.
إياك نستعين:
وما قلناه في إياك نعبد من حيث استعمال نون الجمع نقوله هنا في نستعين، المسلم يرى نفسه في الجماعة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار كما في الحديث، هذا دين جماعة، وفي إياك نستعين التقديم أيضاً، لم يقل: نستعين بك أو نستعينك، بل قال: إياك نستعين، فحصر الاستعانة بالله سبحانه وتعالى، وأيما استعانة بغير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى هو إخلال بتوحيد الربوبية، والله سبحانه وتعالى يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، فينبغي على المسلم أن يحذر. لقد بلغ الأمر بالمسلمين فيما مضى بشأن تجنب الاستعانة بالآخرين حتى فيما يقدر عليه الآخرون أن أحدهم: إذا سقط السوط منه وهو على الفرس لا يقول لأحد ناولني السوط، وإنما ينزل هو ويأخذ سوطه.
ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى أمور كثيرة كالرزق، والشفاء، لا يقدر عليها الإنسان، فعندما تدعو إنساناً أن يشفيك، أو يرزقك، أو يمنحك شيئاً هو لا يملكه لنفسه (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً)، هو لا يملك لنفسه، فمن أين يعينك؟ نعم يمكنه أن يعينك في حمل طاولة، تستعين به فتقول له احمل معي هذه، وهو يقدر على ذلك، أما فيما لا يستطيع أن يعينك عليه إلا الله عز وجل فالأحياء لا يملكون أن يعينوك عليه، ومن باب أولى الأموات.
الشيخ عبد القادر الجيلاني يقول في كتابه الغُنية: وإذا زرت قبراً (لأن زيارة القبور وفق الدين سُنة، يعني أن تزور القبور للاتعاظ، وللدعوة للمقبور) فلا تضع يدك عليه، ولا تقبله فإن ذلك من أعمال اليهود.
تذهب الآن إلى مرقده هو نفسه، فتجد من يمسك بالشباك ويقبله، وهو الذي يقول في كتابه: (ولا تقبله، فإن ذلك من أعمال اليهود). ويقف بعضهم عند فلان وفلان سواء كان من الصالحين أو آل بيت النبوة، ويقول يا فلان أريد منك كذا وكذا، وهذا يتعارض مع صحيح الكتاب والسنة، ونحن مسؤولون أمام الله تعالى ما دام هذه الآية قد وردت أن ننبّه على هذا.
لا يُسأل في هذه الأمور إلا الله تعالى لقوله :(إياك نستعين)، ينبغي أن نفهم لغة العرب، لأن الاستعانة لا تجوز بغير الله سبحانه وتعالى، الاستعانة تكون بالبشر فيما يقدرون عليه وهو أحياء، وهناك أمور وهو أحياء لا يقدرون عليها، فكيف وهم أموات؟
إذن إياك نستعين هنا حصر للاستعانة بالله سبحانه وتعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل : رد غائب، رزق، شفاء مريض، أي شيء من الأشياء التي لا يملكها إلا الله تعالى، والله تعالى يملك جميع الأشياء، لكن هناك أشياء ممكنة كأن تقول لولدك ناولني هذا القميص، فتستعين به في هذه الأشياء التي يقدر عليها، لكن ما لا يقدر عليه (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً)، ومن باب أولى الأموات.
*لماذا تكررت إياك؟
لو قيل في غير القرآن (إياك نعبد ونستعين) لفهم منه الحصر باجتماع الفعلين، يعني إذا جمعنا العبادة والاستعانة لا تكون إلا بك، وإذا فرّقناهما يمكن أن تكون لغيرك، وهذا لا يريده القرآن. فأنت حين نقول لشخص مثلاً: إياك أحترم وأُكرِم، يمكن أن يفهم أنك تحصر الاحترام والإكرام فيه باجتماعهما، وممكن أن تحترم زيداً وتُكرِم خالداً، لكن الاحترام والإكرام مجتمعيْن محصوريْن في المخاطب، ويمكن أن أحترم خالداً لكن لا أكرمه، ويمكن أن أكرم زيداً لكن لا أحترمه؛ اتقاء شرّه كما كان يحدث مع الشعراء (كفوا عني لسانه، اقطعوا عني لسانه) لكن حين نقول: إياك أحترم وإياك أكرم، يعني لا أحترم سواك، ولا أُكرِم سواك. فلما قال تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) كان المعنى: لا نعبد سواك، ولا نستعين بأحد سواك .
ولو قال في غير القرآن: إياك نعبد ونستعين لعنى أن جمع العبادة والاستعانة محصورة بك، لكن يمكن أن نعبد واحداً ولا نستعين به، ويمكن أن نستعين بغيرك ولا نعبده، ممكن هذا وممكن هذا، وحتى ينتفي هذا الفهم، وحتى يكون المقصود أن تنصرف هِمّة الإنسان واعتقاداته وعقيدته لله وحده سبحانه وتعالى قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) وكان لا بد من التكرار؛ لأنه لو لم يكرر لالتبس الأمر، والقرآن الكريم بعيد عن اللبس.
________________________________________
تكلمنا في الحلقة السابقة عن قول الله سبحانه وتعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) وتكلمنا عن اختيار تقديم (إياك) على نعبد، وتقديم (إياك) على نستعين، وفائدة ذلك، ولماذا لم يقل في القرآن نعبدك ونستعينك، وبيّنا أيضاً لماذا جاءت كلمة نعبد بصيغة الجمع، ولم تأت بصيغة الإفراد، وكذلك نستعين، لمَ لم يقل إياك أعبد مثلاً؟. وقد وردت بعض الاستفسارات في قضايا تتعلق بهذه الآية نحب أن نقف عندها أيضاً.
من ذلك في قوله تعالى (وإياك نستعين):
*هل بالإمكان أن يقال في غير القرآن (وبك نستعين)؟
إياك نعبد وإياك نستعين: الفعل يتعدّى بنفسه (استعانه) أو يتعدى بحرف الجر (استعان به)، وهو متعدٍ في الحالتين: استعنته أو استعنت به، وإذا تقدّمت (بك نستعين) سيكون معنى الحصر أيضاً في إياك وفي بك. لكن لماذا فُضّلت إياك على بك؟ ما الفائدة؟ نلاحظ أن في الآيات السابقة نوعا من التربية والتوجيه، وليس فيها موضع شك، والتأكيد يكون في مواضع الشك.
أنت تقول نجح زيد إذا كان السامع خالي الذهن، لكن إذا كنت تعلم أن لديه بعض الشك في نجاح زيد، فتقول له: لقد نجح زيد، فتستعمل مؤكدات، إن زيداً ناجح، أو إن زيداً لناجح، بحسب ما تعتقده من شك في نفسه، فلما كان الفعل يتعدى بنفسه، فإن هذه الباء لا تزيده معنى، يعني هي ليست مثلاً للمصاحبة أو الوسيلة، كما تقول كتبت بالقلم فلما لم تأت لزيادة معنى فهي للتأكيد، تقول: ليس زيدٌ مسافراً، نفيت السفر عن زيد، فإذا أردت التأكيد تقول: ليس زيد بمسافر، وكما في قوله تعالى (أليس الله بكاف عبده) فهنا نحتاج التأكيد. أما موضع الآية فليس موضع تأكيد، يعني ليس هناك شك في أن الله سبحانه وتعالى يعلّم المؤمنين أن يقصروا الاستعانة عليه سبحانه، فما ليس فيها شك لا تستعمل فيه الباء (بك نستعين)، فجاءت (إياك نستعين)؛ لأنه لو جاءت إياك نعبد وبك نستعين، فكأنه يريد أن يزيل شكاً بهذا التأكيد، ولو استعملها لأراد أن هناك شكا في الاستعانة بالله، والشك هنا غير وارد، ففي قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) كان هناك شك، وإلا قال: أليس الله كافياً عبده، فلما أكد المعنى أراد أن يزيل شكاً في نفوس المتلقين، وهذه لغة العرب. هذا شيء، والشيء الثاني أنه لو قال: إياك نعبد وبك نستعين، لفوت هذه المناسبة والملاءمة بين(إياك نعبد وإياك نستعين) إياك وإياك، وتلك مسألة ثانوية، لكن المسألة الأساسية ترتبط بالمعنى (وإياك نستعين).
*يسأل المقدم: هل من الممكن أن يقال: إياك نعبد ونستعين؟
تكلمنا عن هذا في المرة الماضية، لو قال إياك نعبد ونستعين، لكان معناه نخصّك باجتماع هذين الأمرين، ولا نشرك أحداً سواك باجتماعهما (نعبد ونستعين)، فبمفهوم المخالفة عند ذلك أنه يمكن أن نعبد غيرك، لكن لا نستعين به، أو يمكن أن نستعين به لكن لا نعبده، لو جمعهما (إياك نعبد ونستعين) لحصرت معنى العبادة والاستعانة معا، يعني: هذان الأمران مجتمعان ينحصران بك، لكنهما منفردان يمكن أن يكونا لغيرك، واللغة العربية تقول: إن قوله: إياك نعبد ونستعين يعني: أعبده وأستعينه، لكن يمكن أن أعبد غيره من غير استعانة، وأكون غير مخالف، أو أعبده وأستعين بغيره وأكون غير مخالف. فإذًا حتى ينتفي اللبس تكررت إياك (إياك نعبد وإياك نستعين) ليكون هناك حصر.
*هل يمكن القول: الله نعبد والله نستعين؟
هناك شيء آخر : أكان يمكن أن يقال في غير القرآن (وهذه الاحتمالات تقال في غير القرآن؛ لأن القرآن لا مجال فيه للاقتراحات) الله نعبد والله نستعين؟
من حيث اللغة يتحصل الحصر؛ لأن العبادة تنحصر بالله سبحانه وتعالى، ولا يكون معه معبود سواه، فنحن نستفيد الحصر من قول: الله نعبد: أي نعبد الله ولا نعبد أحداً سواه، الله نستعين: أي نستعين الله، ولا نستعين بأحد سواه، لكن لو نظرنا إلى الآيات سنجد أن الله سبحانه وتعالى يعلمنا منذ بداية الفاتحة أن نتوجه إليه سبحانه بالتعظيم والتمجيد (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين)، بالتوجه إلى العلي العظيم الغائب الحاضر، من حيث اللغة خطاب غائب، أو متكلم على غائب (الحمد لله): هو، (رب العالمين): هو، (الرحمن الرحيم): هو، (مالك يوم الدين): هو، فهو غائب في الخطاب، لكنه حاضر في القلب، فلما جاء إلى (إياك) انتقل؛ لأن العبد سيتوجه إلى الله تعالى بالدعاء، وأنت لا تدعو غائباً، وإنما تدعو حاضراً، فبدأ الانتقال من الغيبة إلى الحضور بهذه الآية (إياك نعبد).
وقلنا هذا ليس غريباً في الاستعمال القرآني: انظر في محاورة إبراهيم (عليه السلام) في سورة الشعراء، وسيكون لنا موقف معها إن شاء الله لاحقاً: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)) لاحظ الانتقالة (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)) وهو ما يسمى الالتفات من ضمير الغائب إلى المخاطب، بدأ ينتقل من ذكر الله تعالى وهو الغائب الحاضر، إلى أن وصل إلى مخاطبة الله عز وجل، كما في قصة إبراهيم، وفي مواضع متعددة.
نحن نناجي ربنا: (الحمد لله رب العالمين) بغيبة، إلى أن يصل قرّبنا إلى الدعاء، فيعلمنا الله سبحانه وتعالى الدعاء: (إياك نعبد وإياك نستعين)، ثم ندعو (اهدنا الصراط المستقيم)، لأننا ندعو حاضراً مخاطباً، ولم يقل يهدينا هو، ولو قال: (الله نعبد) لبقيت غيبة، لكنه يريد أن ينقلنا إلى مرحلة المخاطبة، حتى ننتقل إلى الدعاء.
*لماذا قدّم العبادة على الاستعانة؟
لم يقل إياك نستعين وإياك نعبد، بل قدّم العبادة، وهذا التقديم هو المناسب في سورة الفاتحة؛ لأن العبادة حق الله، والاستعانة طلب العبد، وحق الله مقدّم على طلب العبد، وشيء آخر أنه يتناسب مع قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) الله المعبود، ورب العالمين المستعان؛ لأن في الآية توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية: فإياك نعبد لتوحيد الألوهية، وإياك نستعين لتوحيد الربوبية.
لعل هذه أهم الأمور، وقد تكون هناك أمور أخرى تغيب عنا في (إياك نعبد وإياك نستعين).
إياك نعبد وإياك نستعين:
قدم المفعولين لنعبد ونستعين، وهذا التقديم للاختصاص؛ لأنه سبحانه وتعالى وحده له العبادة، لذا لم يقل نعبدك ونستعينك؛ لأنها لا تدل على تخصيص العبادة لله تعالى، أما قوله إياك نعبد، فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده، وكذلك في الاستعانة (إياك نستعين) تكون لله حصرا (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير) (الممتحنة آية 4) كلها مخصوصة لله وحده حصرا، فالتوكل والإنابة والمرجع كله إليه سبحانه (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)(إبراهيم 12)
(قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) (الملك آية 29) وتقديم الإيمان على الجار والمجرور هنا لأن الإيمان ليس محصورا في الله وحده فقط ، بل علينا الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر؛ لذا لم تأت به آمنا، أما في التوكل فجاءت وعليه توكلنا، لا توكلنا عليه؛ لأن التوكل محصور بالله تعالى.
الآن لماذا كررت إياك مع فعل الاستعانة ولم يقل إياك نعبد ونستعين؟
التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به، فلو اقتصر على ضمير واحد (إياك نعبد ونستعين) لم يعنِ المستعان، إنما عنى المعبود فقط، ولو اقتصر على ضمير واحد لفهم من ذلك أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بين العبادة والاستعانة، بمعنى أنه لا يعبد بدون استعانة، ولا يستعان به بدون عبادة، فيفهم من جمع الاستعانة مع العبادة ارتباط الاستعانة بالعبادة، وهذا غير وارد، وإنما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال، ونستعين به على وجه الاستقلال، وقد يجتمعان، لذا وجب التكرار في الضمير إياك نعبد وإياك نستعين. والتكرار توكيد في اللغة، وفي التكرار من القوة والتوكيد ما ليس في الحذف.
إياك نعبد وإياك نستعين: أطلق سبحانه فعل الاستعانة، ولم يحدد نستعين على شيء، أو نستعين على طاعة أو غيره، إنما أطلقها لتشمل كل شيء، وليست محددة بأمر واحد من أمور الدنيا، وتشمل كل شيء يريد الإنسان أن يستعين فيه بربه؛ لأن الاستعانة غير مقيدة بأمر محدد.
وقد عبر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع (نعبد ونستعين) وليس بالمفرد أعبد وأستعين، وفي هذا إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام؛ لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة، وتلزم أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة، وفيها دليل على أهمية الجماعة عامة في الإسلام مثل الحج، وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد، الأعياد والصيام. إضافة إلى أن المؤمنين إخوة، فلو قال إياك أعبد، لأغفل عبادة إخوته المؤمنين، وإنما عندما نقول إياك نعبد نذكر كل المؤمنين، ويدخل القائل في زمرة المؤمنين أيضاً.
لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟
أولاً ليدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله له وتوفيقه، فهو إذًا إشعار وإعلان بأن الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلا بعون الله، وهو إقرار بعجز الإنسان عن القيام بالعبادات، وعن حمل الأمانة الثقيلة اذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، فالاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه عن الاستعانة بالله، واعتراف الإنسان بضعفه.
لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟
العبادة هي علة خلق الإنس والجن (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(الذاريات 56) والاستعانة إنما هي وسيلة للعبادة، فالعبادة أولى بالتقديم؛ لأن العبادة هي حق الله، والاستعانة هي مطلب من مطالبه، وحق الله أولى من مطالبه.
تبدأ السورة بالحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وهذه كلها من أساليب الغيبة، أي كلها للغائب، ثم انتقل إلى الخطاب المباشر بقوله: إياك نعبد وإياك نستعين. فلو قسنا على سياق الآيات الأولى لكان أولى أن يقال: إياه نعبد وإياه نستعين. فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟
في البلاغة يسمى هذا الانتقال من الغائب للمخاطب أو المتكلم أو العكس : الالتفات.
وللالتفات فائدة عامة، وفائدة في المقام، أما الفائدة العامة، فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للإصغاء والانتباه. وأما الفائدة التي يقتضيها المقام فهي أنه إذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة، مثال: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) (يونس آية 22) لم يقل: وجرين بكم، فيها التفات لأنهم عندما ركبوا في البحر، وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين، وليسوا مخاطبين.
وعندما قال سبحانه: الحمد لله رب العالمين فهو حاضر دائما، فنودي بنداء الحاضر المخاطب.
على أن الكلام من أول الفاتحة إلى مالك يوم الدين كله ثناء على الله تعالى، والثناء يكون في الحضور والغيبة، والثناء في الغيبة أصدق وأولى، أما إياك نعبد وإياك نستعين، فهو دعاء، والدعاء في الحضور أولى وأجدى، إذًا الثناء في الغيبة أولى، والدعاء في الحضور أولى، والعبادة تؤدى في الحاضر وهي أولى.
(اهدنا الصراط المستقيم)
الفعل هدى يمكن أن يتعدى إلى مفعولين، ويمكن أن نحذف المفعول الثاني فيه، ويكتفى بالمفعول الأول: فبعض أهل اللغة يقول: هدى يتعدى لمفعولين، وقسم يقول: الثاني منصوب بنزع الخافض (أي حذف حرف الجر). فيمكن أن تقول: اللهم اهدني وارحمني، وتقول لشخص: هداك الله يا فلان (مفعول واحد)، ويمكن أن تقول: هداك الله للخير، وتستعمل اللام، ويمكن أن تقول: هداك الله إلى الخير، تستعمل إلى، ويمكن أن تقول هداك الله الخير. ففيها ثلاث صور. والصور الثلاث وردت في القرآن الكريم مع الفعل هدى (مع اللام ومع إلى وغيرهما)، والعلماء نظروا في هذا: متى يُقال هكذا؟ ومتى يقال هكذا؟ ومتى يقال هكذا؟ لا يمكن في القرآن الكريم أن نضع عبارة مكان عبارة ، فمتى يقال: اهدنا الصراط، ومتى يقال: اهدنا للصراط، ومتى يقال: اهدنا إلى الصراط؟
ومن خلال تأمل لغة العرب، ولغة العرب يستدل بها على كتاب الله، وإن كنا نؤكد أن القرآن حاكم على لغة العرب، ولغة العرب ليست حاكمة على القرآن، ولكن يُستأنس بها. قال العلماء هنا بالنظر إلى الاستعمالات : إذا قيل: اهدنا السبيل أو الصراط أو الخير، فمعنى ذلك أن الإنسان يكون في الخير، ويريد أن يعرف معالمه حتى لا يتيه، هو في الطريق لكنه يريد من يوضح له معالم الطريق، ماذا فيه؟ هل فيه محطات وقود؟ هل فيه استراحات؟ أنا في داخل الطريق لكني أحتاج إلى معرفة معالمه، هذه اهدنا الطريق.
لكن إذا قيل: اهدنا للطريق، فذلك يعني أنه يكون خارجاً عن الطريق، لكنه يكون قريباً، فاللام للقريب، هي للغاية وللقريب أيضاً.
فإن قيل: اهدنا إلى الطريق، فإنه يكون بعيداً، فيأتي به إلى الطريق.
الذي تبيّن لنا من النظر في الآيات أنه عندما يقول (اهدنا الصراط) من غير اللام وإلى، فكأنه يريد أن يقول إنك أوصلتني إلى الصراط، فوضّحه لي، إنه كان في الخارج فأوصله إلى الداخل. اهدنا الصراط: هم في داخل الصراط، ويريدون معرفة ما فيه، لكن علماءنا يقولون: إذا حذف الحرفان (اللام وإلى) يحتمل أن يكون داخل الصراط أو خارج الصراط، والذي تبين لي من خلال الآيات أنه حيثما وردت الصراط من غير حرف جر، فمعنى ذلك أنهم في داخل الصراط، وإن كانوا أُوصلوا من بعيد، أو وُعِدوا بأن يوصلوا من بعيد إلى الداخل، لكنهم سوف لا يتركون. الأمثلة :
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) الشورى).
هذا الاستعمال بـ (إلى) معناه: هم بعيدون عن الصراط، فأنت تستطيع بإذن الله تعالى أن تأتي بهم إلى هذا الصراط المستقيم.
المثال الآخر: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) يونس).
الخطاب مع الشركاء (يهدي للحق) يأتي بهم قريباً، يقرّبهم ويدخلهم في الصراط (أفمن يهدي إلى الحق) وحتى يوازن استعمل إلى واستعمل اللام.
و(يَهِدِّي) تقرأ هكذا عند حفص، وللفائدة فإن أصلها يَهْتَدي: الهاء ساكنة والتاء مفتوحة، فسكنت التاء ثم أدغمت التاء في الدال، ولا يجتمع ساكنان، فكُسِرت (لا يهِدّي، أي لا يهتدي).
والعرب كانت تفهم هذا الكلام؛ لأنها لو لم تفهم ، لسألت الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، ولاحتج عليه العرب، وقالوا أنت تتكلم لغة غير لغتنا.
الصورة الأخرى في الكلام عن موسى وهارون (فآتيناهما الكتاب المستبين)، عندهما كتاب واضح (وهديناهما الصراط المستقيم)، هما داخل الصراط، يستفيدان من الكتاب المستبين في معرفة ما يرضي الله سبحانه وتعالى وما لا يرضيه، (وهديناهما الصراط المستقيم).
وهذا يعني أن المسلم عندما يصلي أو يقرأ الفاتحة، هو ليس خارج الصراط، وإنما هو في داخل الصراط، لكنه يريد أن يتبيّن له الصالح، وأن يأخذ الله عز وجل بيديه ليريه هذه المعالم، ما يرضيه وما لا يرضيه سبحانه وتعالى، قد يكون هو في الصراط وينحرف، فهو عندما يقول: (اهدنا الصراط المستقيم) يعني: بيّن لنا هذه الأمور التي ترضيك؛ لأننا في شرع الله، الصراط هو دين الله، وفي دين الله عز وجل بيان لما يرضي الله تعالى، وما لا يرضيه سبحانه وتعالى.
*دلالة الفعل هدى، لماذا لم يستخدم أرشد أو دلّ وكلمة الصراط ولم يستخدم السبيل مثلاً:
(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) مريم) و (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) البلد) هاتان الآيتان قال بسببهما بعض العلماء: إن كلمة هداه الشيء تحتمل معنيان أنه هو في داخل الشيء أو خارج الشيء.
كلام إبراهيم (عليه السلام) مع أبيه (أهدك صراطاً سويا) كلنا نعلم أن أبا إبراهيم (عليه السلام) كان خارج الصراط، فيقول له : أنا آتي بك إلى الصراط ، إذًا (هداه الصراط) أي هو في الخارج.
في سورة البلد (وهديناه النجدين) هو في الخارج، وبُين له سبيل الحق وسبيل الباطل، النجد في الأصل هو المرتفع، والمراد بهما هنا طريق الهداية وطريق الغواية، إن الله سبحانه وتعالى بين للبشر ماذا يسعدهم وماذا يشقيهم؟ بيّن لهم الخير، وبيّن لهم الشر: (وهديناه النجدين) أوضحنا له هذا الطريق وهذا الطريق، فهو في الخارج، مع أن معناه يحتمل أن يكون في الداخل أو في الخارج، وهذا رأي بعض العلماء، وأنا أميل إليه، وكتاب الله عز وجل لا تنقضي عجائبه.
كأنما يريد إبراهيم (عليه السلام) أن يقول لأبيه: إنني لن أتركك، إنني سآخذ بيدك إلى الصراط، وأكون معك، فأدلّك فيه (فاتّبعني أهدك صراطا سوياً) فلم يستخدم حرف الجر حتى يُفهم العربي أن إبراهيم لم يكن يريد فقط أن يوصل أباه إلى الصراط، ولكنه يريد أن يقول له: سأمضي معك داخل الصراط حتى أهديك أيضاً، فهو وإن كان في الخارج، لكن يحتمل أن يكون معه في الداخل.
(فاتّبعني أهدك صراطاً) يعني: آمن يالله، وآمن بي نبياً ستكون معي على الصراط، وأوجهك، يعني: سوف لا أتركك، كأن هذا نوع من التطمين، بخلاف ما لو قال: أهدك إلى صراط سوي، فليس فيه ذلك التطمين، ويمكن في غير القرآن أن يقول: أهدك إلى صراط سوي، لكن العربي إذا قرأها لا يحس بهذا التطمين، بينما أهدك صراطاً سويا يحس أنه سيوصله، ويمضي معه في هذا الصراط.
(وهديناه النجدين) الإنسان لا يكون في النجدين في آن واحد وإنما يكون في نجد من النجدين، العبد حينما بيّن الله عز وجل له هذين النجدين سيكون في واحد منهما على وجه اليقين، إما أن يكون في هذا، وإما أن يكون في هذا، فلو قال إلى النجدين لأراد أنه سيوصله إليهما، أي إلى المكانين معا، لكن هديناه النجدين تعني أنه سيختار أحدهما فسيكون فيه، وهذا الكلام لا يعني أننا نلغي الاحتمال الثاني، أي احتمال أن يكون هو داخل الشيء أو خارجه، لكن عند ذلك تفوت هذه اللمسة البيانية، ولا يحس بها الإنسان، وهذا الذي جعلنا نختار هذا الشيء.
تختلف دلالة الفعل إذًا باختلاف الحرف المصاحب له، وهدى وأخواتها من الأفعال الأخرى: بيّن ودلّ وأرشد كلها تعطي معنى واحد هو الإيضاح والتبيين.
أيضاً عندنا شيء في (اهدنا الصراط المستقيم): فعل الهداية ليس المراد به مجرد الإرشاد، وإنما الهداية فيها شيء يتعلق بالقلب أيضاً، صحيح هو هداه إلى كذا كأنه أرشده، لكن في استعمالات العرب، كأنه يمس شيئاً داخلياً فيه، ومنه الهدية حين تقدمها لإنسان، الهدية غير العطاء، حين تقول أعطاني فلان كذا ، تعني أعطاني شيئا ماديا، أما أهداني شيئاً فتعني أنه مادي، لكن في داخله نوعا من المحبة والحميمية والود، وفي الحديث الشريف “تهادوا تحابوا” فرق بين أعطيته وأهديته، وكأن هذا المعنى جعل القرآن يختار اهدنا الصراط المستقيم؛ لأنها ليس فيها فقط مجرد إرشاد أو إيضاح، وإنما فيها هذه اللمسة التي رأيناها في قوله (صلى الله عليه وسلم): “تهادوا تحابوا”.
الصراط:
لم يقل السبيل، مع أن القرآن استخدمها، واستعمل الجمع (سبل). والصراط جمعها صُرُط مثل كتاب كُتُب. وهي على صيغة فعال، ومن معانيها الملحوظة أن فيها معنى الاشتمال، فالصراط كأنه من السعة بحيث يشتمل على كل السائرين فيه، لا يضيق بهم، بينما الطريق هو المكان المطروق الذي طرقته القدم بحيث يظهر أن الناس سارت من هنا، وهذا لا يعني أنه يسع الجميع، بل يمكن أن يكون الطريق على قدر إنسان واحد، في المناطق المشوكة (التي فيها شوك) الناس تطرق مكاناً واحداً (طريق: فعيل بمعنى: مفعول يعني مطروق، مديس، داسته الأقدام).
والسبيل بمعنى الإسبال أي الامتداد، وهذا الامتداد أيضاً لا يحمل معنى السعة.
والصراط أصلها سرط بمعنى ابتلع (يقال سرط اللقمة ابتلعها)، لكن لمكان الطاء جعلت السين صاداً، لأن الصراط حين يمشي فيه الناس كأنه يسرطهم، أي يبتلعهم، يغيبون فيه شيئاً فشيئاً.
مداخلة : هل يحتمل معنى إياك نعبد وإياك نستعين أنه إضافة إلى ما ذكرتم يكون القصد من الجمع في العبادات أن كل فرد يتوجه إلى الله تعالى على أنه مجموعة من الأعضاء والجوارح، وكل منها يتوجه مع صاحبها إلى الله تعالى طائعا له (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم)، وإياك نستعين على كل عبادة كُلّفت بها هذه الأعضاء والجوارح بدليل (إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)؟
يجيب الدكتور حسام : هذا توجيه جيد، وتفكير سليم.
________________________________________
إهدنا الصراط المستقيم:
*الصراط هل قراءة (سراط) بالسين هي خلاف الرسم؟
القراءة المشهورة بالصاد، وأصل الفعل بالسين (سرط) ، لكن بسبب الطاء، النطق العربي حوّل السين إلى صاد، فصاروا يقولون: الصراط. وقرئت: السراط، وإن كان الذين قرؤوا السراط أقل ممن قرأ الصراط ، ولكنها قراءة سبعية أجازها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه.
ومن شروط القراءة الصحيحة موافقة رسم المصحف، فحين يرى الإنسان الصاد يمكن أن يقول أن هذه خلاف الرسم، لكن بعض الأصوات تختلف في السمع، وحتى في الرسم أحياناً، وهي في حقيقتها صوت واحد. ونوضح الكلام قليلاً: حاولت أن أصطنع جملة إنجليزية سهلة ميسورة، الحرف الذي بين t و r في ألف باء الإنجليزية. S ماذا يقابله في أصوات العربية؟ حرف السين، لكن اسمع نطق هذه الجملة: as you know this is for us نجد هنا الرسم s قد لُفِظ: (as) لا هو زاي ولا هو سين ولا هو صاد، لكن رسمه بهذه الصورة المعقوفة s لكن الإنجليزي ينطقه (آز) مثل كلمة ظلم وظالم التي يعبّر عنه علماؤنا بأنها الزاي المطبقة، أو الصاد المجهورة، يهتز معها الوتران. و(this) هذه السين ورسمها هو هو لم يتغير. (is) خرجت زاياً والرسم هو هو، (us) صاد.
فأصوات الصفير يمكن أن ترسم بصورة، وتنطق بصورة أخرى متفقة مع ما جرى عليه العرف في النطق ولا يكون هذا مخالفة للرسم، بمعنى أنه عندما قرأ عبد الباسط: (لست عليهم بمسيطر) (لست عليهم بمصيطر) بالسين والصاد، وقرأها بالزاي المطبقة التي هي كالضاد العامية في مصر، وهي برسم واحد لكنه نطقه بأكثر من صورة، تماماً كما أن رسم s الإنجليزية واحد، لكن أهل لغتهم ينطقون به بأكثر من صورة فهذا لا يدخل في اختلاف الرسم.
كذلك مثلاً اللام يمكن أن تأتي مفخمة، ويمكن أن تأتي مرققة، فحين يقرأ ورش (الصلاة) مفخمة لا يقال هذا مغاير للرسم، لأن هذا الرسم ينطق بطريقتين، فلا نقول قراءة السين مخالفة للرسم لأنها رسمت هكذا، لكنها تتحمل هذا النطق، كما أن رسم s واحد وتنطق بأكثر صورة.
فالصوت يُنطق بأكثر من طريقة، والمعنى لا يتغير (مسيطر أو مصيطر) فإذا تغيّر المعنى نقول تغير الرسم؛ لأنه عند ذلك تكون كلمة أخرى مغايرة، مثل سعد وصعد، والسعادة غير الصعود تغيرت الدلالة, وتغير الدلالة يشير إلى أن هذا الصوت كما يعبر عنه الآن (فوني)، لكن حين لا تتغير الدلالة يقال له (ألافون)، والدلالة في الصراط لم تتغير، وإنما هو تنويع مثل تنويع النون: إظهار، إخفاء وغيرها.
يجوز قول السراط لأنه وردت فيه قراءة سبعية، فإذا لم ترد فيه قراءة سبعية، فالتغيرات الصوتية عند ذلك ينبغي أن نحافظ فيها على النطق السليم، وأحياناً وجود صوت الدال المجهورة وقبلها الصاد يؤدي إلى تحول الصاد إلى الضاد العامية (ظ)، فلو جئت لشخص، وقلت له اقرأ:( حتى يصدر الرعاء) يقرؤها يظدر بسبب الدال، وهذا إذا وردت به قراءة سبعية نقول به، وإذا لم ترد فيه قراءة سبعية متواترة يُمنع.
فإذا كنت أنت تقرأ برواية حفص ينبغي أن تظهر الصاد خالصة، ما دمت التزمت قراءة حفص عن عاصم. هذا فيما يتعلق بالفرق بين السراط والصراط، والقراءة المتداولة هي بالصاد (الصراط)، لكن إذا سمعنا أحداً يقرأ برواية أخرة بالسين لا نثور عليه، وإنما هي قراءة سبعية أقرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه، وليس من عند نفسه (صلى الله عليه وسلم).
المستقيم:
في الهندسة يقولون إن الخط المستقيم هو أقصر بُعد بين نقطتين، فكأن المسلم يدعو الله سبحانه وتعالى أن يجعله في أقرب الطرق (الصراط المستقيم) الذي هو أقرب الطرق، والمستقيم لا يكون متعباً معوجاً لأنه يكون طويلاً إذا لم يكن مستقيماً، وهذه الاستقامة التي يروى في الأثر عنها – ولا أعلم صحة الحديث – أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: (شيبتني هود) لأن فيها (فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك)، وهذه الاستقامة تعني أن يكون الإنسان على الطريق.
وحين قال (اهدنا الصراط المستقيم) يُفترض أن ينتهي عند هذا القول، لكن كأن الصراط المستقيم كلام عام، وأراد له أن يُبيّن ما المقصود بالصراط المستقيم، ومعلوم أن الصراط المستقيم هو دين الله تعالى، لكن كأنما أريد له أن يفصل: الصراط المستقيم: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين)، علماؤنا هنا يقولون: إن البشر في الأصل صنفان: مُنعَم عليهم (مؤمنون)، الذين أنعمت عليهم من المؤمنين، من الصالحين من أتباع هذا الدين، غير المغضوب عليهم، وغير مؤمنين، وغير المؤمنين صنفان: علماء لم يتبعوا الدين (علموا الدين ولم يتبعوه)، وأناس لم يعلموا هذا الدين.
العالم الذي ينحرف عن دين الله يُغضِب الله سبحانه وتعالى؛ لأنه علم الحق ولم يتبعه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) البقرة) هو يعلم الحق كالوليد بن المغيرة حين وصف القرآن، قال إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وصفه حتى قيل له أصبأت؟ قال لا.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فصلت) فلو فتحوا قلوبهم لآمنوا، لكنهم يعرفون وينحرفون، فهؤلاء يُغضبون الله سبحانه وتعالى، فهم مغضوب عليهم؛ لأنهم علماء انحرفوا.
والفريق الآخر: هم الضالون الذين لم يعرفوا شيئاً.
فالمسلم يدعو الله عز وجل أن يرزقه الصراط المستقيم، لا صراط هؤلاء، ولا صراط هؤلاء، فهذه قسمة حاصرة كما يقولون، هم ثلاثة أصناف، فلا مجال لرابع.
لم تكف عبارة الصراط المستقيم، ففصَّل رب العزة، وهو يعلّمنا أن نقصد بالصراط المستقيم (صراط الذين أنعمت عليهم) على مر العصور، فالمسلم ضمن قافلة طويلة ممتدة، فصراط الذين أنعمت عليهم توضيح للصراط المستقيم وبيان له، كما يقول الشاعر (أقسم بالله أبو حفص عمر) فأبو حفص معروف أنه عمر، لكنه حاول أن يبيّن لعلّ هناك أبا حفص آخر.
*كلمة الصراط وأخواتها في القرآن الكريم للشيخ الدكتور أحمد الكبيسي*
لعله من المناسب في عرض اللمسات البيانية في سورة الفاتحة ذكر ما أفاض به الدكتور أحمد الكبيسي بارك الله فيه في برنامجه: الكلمة وأخواتها في القرآن الكريم على قناة دبي الفضائية في شرح كلمة الصراط وأخواتها في القرآن الكريم، وكيف أن كل كلمة منها وردت في القرآن في مكانها المناسب، والمعنى الذي تأتي به كل كلمة لا يمكن أن يكون إلا من عند العلي العظيم الذي وضع كل كلمة بميزانها، وبمكانها الذي لا يمكن لكلمة أخرى أن تأتي بنفس معناها.
مرادفات كلمة الطريق تأتي على النحو التالي:
إمام – صراط – طريق – سبيل – نهج – فج – جدد (جمع جادة) – نفق
وجاء معنى كل منها العام على النحو التالي:
إمام: وهو الطريق العام الرئيسي الدولي الذي يربط بين الدول، وليس له مثيل، وتتميز أحكامه في الإسلام بتميز تخومه. وقدسية علامات المرور فيه هي من أهم صفاته، وهو بتعبيرنا الحاضر الطريق السريع بين المدن (Highway). وقد استعير هذا اللفظ في القرآن الكريم ليدل على الشرائع (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) (الإسراء آية 71 ) أي كل ما عندهم من شرائع وجاء أيضا بمعنى كتاب الله (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) (يس آية 12)
صراط: هو كل ممر بين نقطتين متناقضتين كضفتي نهر، أو قمتي جبلين، أو الحق والباطل، والضلالة والهداية في الإسلام، أو الكفر والإيمان. والصراط واحد لا يتكرر في مكان واحد ولا يثنى ولا يجمع، وقد استعير في القرآن الكريم للتوحيد، فلا إله إلا الله تنقل من الكفر إلى الإيمان (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) ( الأنعام آية 161) (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) ( الأنعام آية 39) (اهدنا الصراط المستقيم) (الفاتحة آية 6) (فاتبعني أهدك صراطا سويا) (مريم آية 43 ) (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) (المؤمنون آية 74 )
والصراط عموما هو العدل المطلق لله تعالى، وما عداه فهو نسبي. (إن ربي على صراط مستقيم) ( هود آية 56 ) والتوحيد هو العدل المطلق وما عداه فهو نسبي.
سبيل: الطريق الذي يأتي بعد الصراط، وهو ممتد طويل آمن سهل لكنه متعدد (سبل جمع سبيل) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) ( العنكبوت آية 69 ) السبل متعددة، ولكن شرطها أن تبدأ من نقطة واحدة، وتصب في نقطة واحدة عند الهدف. وفيه عناصر ثلاثة: ممتد، متحرك، ويأخذ إلى غاية.
والمذاهب في الإسلام من السبل، كلها تنطلق من نقطة واحدة، وتصل إلى غاية واحدة. وسبل السلام تأتي بعد الإيمان، والتوحيد بعد عبور الصراط المستقيم. ولتقريب الصورة إلى الأذهان يمكن اعتبار السبل في عصرنا الحاضر وسائل النقل المتعددة، فقد ينطلق الكثيرون من نقطة واحدة، قاصدين غاية واحدة، لكن منهم من يستقل الطائرة، ومنهم السيارة، ومنهم الدراجة، ومنهم الدواب، وغيرها.
واستخدمت كلمة السبيل في القرآن بمعنى حقوق في قوله (ليس علينا في الأميين سبيل) (آل عمران آية 75 ).
وابن السبيل في القرآن هو من انقطع عن أهله انقطاعا بعيدا، وهدفه واضح ومشروع كالمسافر في تجارة، أو للدعوة، فلا تعطى الزكاة لمن انقطع عن أهله لسبب غير مشروع كالخارج في معصية أو ما شابه.
طريق: الطريق يكون داخل المدينة، وللطرق حقوق خاصة بها، وقد سميت طرقا، لأنها تطرق كثيرا بالذهاب والإياب المتكرر من البيت إلى العمل والعكس. والطريق هي العبادات التي نفعلها بشكل دائم كالصلاة والزكاة والصوم والحج والذكر. (يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) (الأحقاف آية 30)
نهج: وهو عبارة عن ممرات خاصة، لا يمر بها إلا مجموعة خاصة من الناس، وهي كالعبادات التي يختص بها قوم دون قوم، مثل نهج القائمين بالليل، ونهج المجاهدين في سبيل الله، ونهج المحسنين وأولي الألباب وعباد الرحمن، فكل منهم يعبد الله تعالى بمنهج معين، وعلى كل مسلم أن يتخذ لنفسه نهجا معينا خاصا به يعرف به عند الله تعالى، كَبِرِّ الوالدين والذكر والجهاد والدعاء والقرآن والإحسان وغيرها (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) ( المائدة آية 48 ) .
وإذا لاحظنا وصفها في القرآن وجدنا لها ثلاث صفات، والإنفاق فيها صفة مشتركة:
نهج المستغفرين بالأسحار: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) ( الذاريات آية 17 – 19 ).
ونهج أهل التهجد: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) (السجدة آية 16).
ونهج المحسنين: (الذين ينفقون بالسراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) ( آل عمران آية 134 ).
فج: وهو الطريق بين جبلين (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) (الحج آية 27 )
جادَّة: وتجمع على جُدَد كما وردت في القرآن الكريم (ومن الجبال جدد بيض وحمر) (فاطر آية 27 ) والجادة هي الطريق الذي يرسم في الصحراء أو الجبال من شدة الأثر، ومن كثرة سلوكه.
نفق: وهو الطريق تحت الأرض (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض) (الأنعام آية 35 )
اهدنا الصراط المستقيم
هذا دعاء، ولا دعاء مفروض على المسلم قوله غير هذا الدعاء، فيتوجب على المسلم قوله عدة مرات في اليوم، وهذا بدوره يدل على أهمية الطلب وهذا الدعاء، لأن له أثره في الدنيا والآخرة، ويدل على أن الإنسان لا يمكن أن يهتدي للصراط المستقيم بنفسه إلا إذا هداه الله تعالى لذلك. وإذا تُرك الناس لأنفسهم لذهب كل إلى مذهبه، ولم يهتدوا إلى الصراط المستقيم، وبما أن هذا الدعاء في الفاتحة، ولا صلاة بدون فاتحة؛ فلذا يجب الدعاء به في الصلاة الفريضة، وهذا غير دعاء السنة في (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) (البقرة آية 201)
والهداية هي الإلهام والدلالة، وفعل الهداية هدى يهدي في العربية قد يتعدى بنفسه دون حرف جر مثل: اهدنا الصراط المستقيم (تعدى الفعل بنفسه) وقد يتعدى بإلى (وانك لتهدي إلى صراط مستقيم) (الشورى آية 52) (وأهديك إلى ربك فتخشى) (النازعات آية 19) وقد يتعدى باللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا ) (الأعراف 43) (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) (الحجرات آية 17)
ذكر أهل اللغة أن الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية بالفعل نفسه أن التعدية بالحرف تستعمل عندما لا تكون الهداية فيه بمعنى أن المهدي كان خارج الصراط فهداه الله له فيصل بالهداية إليه، والتعدية بدون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه، كقولنا : هديته الطريق، قد يكون هو في الطريق فنعرفه به، وقد لا يكون في الطريق فنوصله إليه. (فاتبعني أهدك صراطا سويا) (مريم آية 43) .
أبو سيدنا إبراهيم لم يكن في الطريق، (ولهديناهم صراطا مستقيما) (النساء آية 68) والمنافقون ليسوا في الطريق، واستعملت لمن هم في الصراط (وقد هدانا سبلنا) (إبراهيم آية 12)، قيلت في رسل الله تعالى، وقال تعالى مخاطبا رسوله (ويهديك صراطا مستقيما) (الفتح آية 2) والرسول مالك للصراط، استعمل الفعل المتعدي بنفسه في الحالتين.
أما التعدية باللام وإلى فتكون لمن لم يكن في الصراط (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط) (ص آية 22) (هل من شركائكم من يهدي إلى الحق) (يونس آية 35) وتستعمل هداه له بمعنى بينه له.
والهداية على مراحل وليست هداية واحدة، فالبعيد عن الطريق، الضال، يحتاج من يوصله إليه ويدله عليه (نستعمل هداه إليه)، والذي يصل إلى الطريق يحتاج إلى هادٍ يعرفه بأحوال الطريق، وأماكن الأمن والنجاة والهلاك للثقة بالنفس، ثم إذا سلك الطريق أخيرا يحتاج إلى من يريه غايته، واستعمل سبحانه اللام (الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله) (الأعراف آية 43) وهذه خاتمة الهدايات.
ونلخص ما سبق على النحو التالي:
-إنسان بعيد يحتاج من يوصله إلى الطريق نستعمل الفعل المتعدي بإلى
-إذا وصل ويحتاج من يعرفه بالطريق وأحواله نستعمل الفعل المتعدي بنفسه
-إذا سلك الطريق ويحتاج إلى من يبلغه مراده نستعمل الفعل المتعدي باللام
والهداية مع اللام لم تستعمل مع السبيل أو الصراط أبدا في القرآن؛ لأن الصراط ليس غاية، إنما هو وسيلة توصل للغاية، واللام إنما تستعمل عند الغاية. وقد اختص سبحانه الهداية باللام له وحده أو للقرآن؛ لأنها خاتمة الهدايات كقوله (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) (الإسراء آية 9) وقوله (يهدي الله لنوره من يشاء) (النور آية 35)
قد نقول جاءت الهدايات كلها بمعنى واحد مع اختلاف الحروف.
§ (قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى) (يونس آية 35)
جاءت يهدي للحق المقترنة بالله تعالى؛ لأن معنى الآيات تفيد: هل من شركائكم من يوصل إلى الحق قل الله يهدي للحق الله وحده يرشدك ويوصلك إلى خاتمة الهدايات، يعني أن الشركاء لا يعرفون أين الحق ولا كيف يرشدون إليه ويدلون عليه.
§ (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) (المائدة آية 16)
استعمل الهداية معداة بنفسها بدون حرف، واستعملها في سياق واحد مع الفعل المعدى بإلى، ومعنى الآيات أنه من اتبع رضوان الله، وليس بعيدا ولا ضالا استعمل له الفعل المعدى بنفسه، والذي في الظلمات هو بعيد عن الصراط، ويحتاج إلى من يوصله إلى الصراط ؛ لذا قال يهديهم إلى صراط مستقيم (استعمل الفعل المعدى بإلى)
نعود إلى الآية اهدنا الصراط المستقيم (الفعل معدىً بنفسه) وهنا استعمل هذا الفعل المعدى بنفسه لجمع عدة معانٍ، فالذي انحرف عن الطريق نطلب من الله تعالى أن يوصله إليه، والذي في الطريق نطلب من الله تعالى أن يبصره بأحوال الطريق، والثبات والتثبيت على الطريق.
وهنا يبرز تساؤل آخر، نقول: سبق أن قدم سبحانه مفعولي العبادة والاستعانة في (إياك نعبد وإياك نستعين) فلماذا لم يقل سبحانه إيانا اهد؟
هذا المعنى لا يصح، فالتقديم في إياك نعبد وإياك نستعين يفيد الاختصاص، ولا يجوز أن نقول إيانا اهد، بمعنى خصنا بالهداية، ولا تهد أحدا غيرنا، فهذا لا يجوز؛ لذلك لا يصح التقديم هنا، فالمعنى تطلب التقديم في المعونة والاستعانة، ولم يتطلبه في الهداية؛ لذا قال: اهدنا الصراط المستقيم.
فلم قال اهدنا ولم يقل اهدني؟
لأنه مناسب لسياق الآيات السابقة، وكما في آيات الاستعانة والعبادة، اقتضى الجمع في الهداية أيضا.
وفيه إشاعة لروح الجماعة، وقتل لروح الأثرة والأنانية، وفيه نزع الأثرة والاستئثار من النفس، بأن ندعو للآخرين بما ندعو به لأنفسنا.
على أن الاجتماع على الهدى وسير المجموعة على الصراط دليل قوة، فإذا كثر السالكون يزيد الأنس ويقوى الثبات، فالسالك وحده قد يضعف وقد يمل أو يسقط أو تأكله الذئاب، فكلما كثر السالكون كان أدعى للاطمئنان والاستئناس.
والاجتماع رحمة والفرقة عذاب، يشير الله تعالى إلى أمر الاجتماع، والأنس بالاجتماع، وطبيعة حب النفس للاجتماع، كما ورد في قوله الكريم: (ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها) (النساء آية 13) وخالدين جاءت بصيغة الجمع؛ لأن المؤمنين في الجنة يستمتعون بالأنس ببعضهم.
وقوله (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) (النساء آية 14) فيزيد على عذاب الكافر عذاب الوحدة فكأنما عذبه الله تعالى بشيئين النار والوحدة.
لذا فعندما قال سبحانه وتعالى اهدنا الصراط المستقيم كان فيه شيء من التثبيت والاستئناس، وهذا الدعاء ارتبط بأول السورة وبوسطها وآخرها. فقوله: الحمد لله رب العالمين يعني أن مهمة الرب هي الهداية، وكثيرا ما اقترنت الهداية باسم الرب، فهي مرتبطة برب العالمين، وارتبطت بقوله: الرحمن الرحيم؛ لأن من هداه الله فقد رحمه، وأنت الآن تطلب من الرحمن الرحيم الهداية، أي تطلب من الرحمن الرحيم أن لا يتركك ضالا غير مهتد، ثم قال إياك نعبد وإياك نستعين، فلا تتحقق العبادة إلا بسلوك الطريق المستقيم، وكذلك الاستعانة، ومن الاستعانة طلب الهداية للصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، أي صراط الذين سلكوا الصراط المستقيم، ولا الضالين، والضالون هم الذين سلكوا غير الصراط المستقيم، فالهداية والضلال نقيضان، والضالون نقيض الذين سلكوا الصراط المستقيم.
لماذا اختار كلمة الصراط بدلا من الطريق أو السبيل؟
لو لاحظنا البناء اللغوي لكلمة الصراط نجدها على وزن (فعال بكسر الفاء) وهو من الأوزان الدالة على الاشتمال كالحزام والشداد والسداد والخمار والغطاء والفراش، هذه الصيغة تدل على الاشتمال، بخلاف كلمة الطريق التي لا تدل على نفس المعنى، الصراط يدل على أنه واسع رحب يتسع لكل السالكين، أما كلمة طريق فهي على وزن فعيل بمعنى مطروق، أي مسلوك، والسبيل على وزن فعيل، ونقول أسبلت الطريق إذا كثر السالكون فيها، لكن ليس في صيغتها ما يدل على الاشتمال.
فكلمة الصراط تدل على الاشتمال والوسع، هذا في أصل البناء اللغوي ، قال الزمخشري في كتابه الكشاف:( الصراط من صرط، كأنه يبتلع السبل، كلما سلك فيه السالكون، وكأنه يبتلعهم من سعته).
فقوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)
لا يوهم بأن هناك صراطاً آخر، فالآخرون لا يكون لهم صراط مستقيم، لأنه بين نقطتين لا يكون إلا خط واحد، لأن الخط عبارة عن مجموعة نقاط.
*هل كلمة الصراط توحي بالاستقامة؟
كلا، الصراط هو السبيل الواسع؛ لأن كلمة (فعال) فيها معنى الاشتمال، أي يشتمل على كل ما فيه، ولا يضيق بما فيه، بغض النظر عما إذا كان مستقيماً أو متعرجاً، ولذا لا بد من قول المستقيم لعدة معانٍ: مستقيم: حتى يبيّن استقامته بلا اعوجاج، وليبيّن أنه لا يوجد طريق مستقيم آخر بين نقطتين بينك وبين النهاية التي يريدها الله عز وجل لك، لا يوجد إلا طريق واحد بخط واحد بمستقيم واحد، وهذا فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) خطّ خطاً في الأرض، وقال (هذا صراط الله المستقيم)، وخط خطوطاً على جانبيه، وقال: (هذه السبل، وعلى رأس كل سبيل شيطان يدعو إليه).
لا يوجد إلا دين واحد، طريق واحد، يوصل إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى، خط مستقيم لا يحتمل التعدد، يقولون خطي أو منهجي لا يتعارض مع الإسلام، يوازي الإسلام، هذا الكلام كله لا ينفع، منهجك الإسلام ولا يكون بين نقطتين إلا مستقيم واحد، يمكن أن يكون بينهما أكثر من خط متعرج أو منحنٍ، لكن هناك مستقيم واحد.
*ما دلالة استخدام صيغة الماضي في (أنعمت عليهم)؟
حينما يقول تعالى (أنعمت عليهم)، أولاً: معناها هناك تجربة سابقة لمن أنعم الله عز وجل عليهم، هذا شيء، والشيء الآخر حتى يحسّ المسلم أنه جزء من قافلة، فالله سبحانه وتعالى قد أنعم على أناس، وجعلهم على هذا الصراط من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً، فهو أولاً طريق قديم أنعم الله سبحانه وتعالى على هؤلاء منذ آدم ِ(عليه السلام). فلو قال : تنعم عليهم سيكون الكلام على الحال والاستقبال، يقطعه عن السابقين الماضين، فحين نقول: أنعمت عليهم، تعني: نحن ستنعم علينا، فالذين يأتون من بعدنا يدعون أن يكونوا على حالنا، فالإنعام دائماً متجدد، كلما تأتي أمة تدعو الله أن ينعم عليها، كما أنعم على من سبقها.
*هل بالإمكان في غير القرآن قول: صراط المنعَم عليهم؟
حين يقول أنعمت: هذه التاء خطاب للباري عز وجل، فيها ذكر الله عز وجل، وأنه هو المنعم، بينما لو قال في غير القرآن: صراط المنعم عليهم لغابت هذه الصورة، ولسأل القارئ: من قِبَل مَنْ هذا الإنعام؟ فالإسناد المباشر إلى الله تعالى فيه هذه اللمسة على قلوب المؤمنين، فحين يقول: صراط الذين أنعمت عليهم: فإنه يعبر عن ماضي الخطاب مع الله سبحانه وتعالى.
*هل بالإمكان قول غير المغضوب عليهم وغير الضالين أو غير المغضوب عليهم والضالين؟
لو قال في غير القرآن: غير المغضوب عليهم والضالين سيجتمع الفريقان، كأنهما شيء واحد بصفتين: مغضوب عليهم وضالون، فهناك فريقان: غير المغضوب عليهم، هذا فريق، والضالون فريق آخر.
ولو قال: غير المغضوب عليهم والضالين، فكأنه يعني أن المغضوب عليهم والضالين هم أنفسهم. وليس شرطاً أن العطف يفيد المغايرة، فنحن نقول: زيد كريم وفاضل، أي فيه صفتان هو نفسه، هؤلاء غضب الله عليهم وضلوا فيكونون فريقاً واحداً، والله تعالى يريد أن يبيّن أن الناس هنا غير المؤمنين فريقان أو صنفان، فتفوت حينئذ فكرة أنهم على صنفين.
لكن ممكن أن يتحصل هذا المعنى (معنى الصفتين) بغير (لا) إذا قال: (وغير الضالين)، وتكون مناسبة (غير وغير) أو(وليس الضالين) وغير وغير أفضل من ليس؛ لأن غير وغير تبقى محافظة على الغيرية. علماؤنا يقولون: حين يقول: غير المغضوب عليهم، فإن تكوينهم غير تكوين الضالين، وحسابهم غير حساب الضالين، وجرمهم غير جرم الضالين. أما المغضوب عليهم فقلنا: إنهم الذين علموا وانحرفوا، والبعض يقولون: إن المغضوب عليهم هم اليهود، والضالين هم النصارى، ونحن لا نخوض في هذا، ولكنا نأخذ النص من حيث اللغة على عمومه، المغضوب عليهم هم الذين عرفوا الطريق ولم يتبعوه وانحرفوا، وحساب هذا العارف بالطريق ولم يتبعه غير حساب الذي لم تبلغه الدعوة أو لم يعرف، فالضالّ أقل جُرماً من الذي يعرف الطريق وينحرف. فلو قال (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) سيجعلهم بمنزلة سواء (غير وغير)؛ فاستعمل الحرف (لا) ولم يستعمل الاسم (غير)، والاسم أقوى من الحرف.
(غير المغضوب عليهم) هؤلاء الذين عرفوا وانحرفوا، ثم استعمل الحرف (لا) الذي هو أقل شأناً، وفيه معنى التوكيد .
(ولا الضالين) هؤلاء هم أقل منزلة في الجرم، أقل جرماً من العارفين، العارف المنحرف غير الجاهل في حكمه وفي حسابه. من حيث الدلالة: الغيرية تكون شاملة و (لا) تكون مؤكدة للنفي (أكّدت نفي (غير) الأولى، لكنها أقل رتبة؛ لأنها حرف، والحرف أقل من الاسم، ثم هو أقل من الفعل.
لكن لماذا لم يقل (وليس من الضالين)؛ لأن ليس في مرتبة أدنى، ولماذا قدّم المغضوب عليهم على الضالين؛ لأن مصيبتهم أكبر، فلا بد أن يبدأ بهم.
* ما الفرق بين معنى الضلال في الفاتحة (ولا الضالين)، و قوله تعالى (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) الشعراء) و(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) الضحى)؟
معنى الضلال في الآيات الثلاث واحد، وهو عدم معرفة شرع الله سبحانه وتعالى، فموسى (عليه السلام) فعل هذا قبل النبوة فهو لا يعرف شرع الله، وحين يقول الله عز وجل للرسول (صلى الله عليه وسلم) (ووجدك ضالاً فهدى) فهو يعني أنه لم يكن عارفاً شرع الله تعالى، فهداه إلى معرفة شرع الله بالنبوة.
فالضلال هنا عدم معرفة شرع الله، وليس معناه الفسق والفجور وعمل المنكرات، وإنما هو الجهل بشرع الله سبحانه وتعالى. فموسى (عليه السلام) قبل النبوة فعل هذا حين كان جاهلاً بشرع الله، ومحمد (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يعرف شرع الله تعالى قبل النبوة فالمعنى واحد.
أما قوله تعالى: (ما ودَّعك ربك وما قلى)، (ما ودَّعك) من التوديع، قال الشاعر:
ودِّع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
(وما قلى) القلى من البغض، ويكون بين المتباغضين، قال تعالى: (ما ودعك)، فأكرمه؛ لأنه يحبه، ولم يقل وما قلاك إكراماً له أن يناله الفعل، عندما تكرم أحدهم تقول: سمعت أنك تكلمت، فيقول ما تكلمت، ولا يقول تكلمت عليك، لا يقول له ما شتمتك، وإنما يقول: ما شتمت. وفيها إكرام وإجلال للمخاطب في الحالتين في التوديع والقلى، شرّفه في الذكر، فقال ودعك، وشرّفه في الحذف، فقال (وَمَا قَلَى)، إذن شرّفه في الذكر وشرفه في الحذف. ودراسة الحذف مسألة تحددها السياقات التي ترد فيه، وتأتي كل حالة بقدرها.
آمين:
*ما أصل كلمة آمين التي نختم بها الفاتحة على أنها دعاء؟ وهل لها بديل في لغة العرب؟
لا شك أن الذي يصلي في المساجد يلحظ هذا الأمر، أنه عندما ينتهي الإمام من قراءة الفاتحة، يقول هو: آمين، ويقول من وراءه: آمين، ويحرص على أن يكون التأمين واحداً، بحيث إنه في السنة والحديث الصحيح أن مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يهتز من كلمة آمين؛ لأن الصحابة كانوا يقولونها بصوت واحد ليس مرتفعاً، ولا يعني علو الصوت كما يفهمه بعض الشباب أن يصرخ بأعلى صوته، لأنك لا تنادي أصم ولكنك تناجي ربك، وتقول: آمين بصوت جيد، لكن لأن الجميع يقولونها فيكون نوع من الاهتزاز لمجموع الأصوات، وليس لعلو الصوت، لأننا نناجي قريباً.
هذه الكلمة (آمين) في المدارس من الابتدائية يعلّمون الطالب أن الكلمة اسم وفعل وحرف، ثم يعلّمونه علامات للكلمة إذا كانت اسماً، وعلامات إذا كانت فعلاً، وإذا خلت من العلامات تكون حرفاً.
وفي ألفية ابن مالك يقول:
بالجرّ والتنوين والندا وأل ومُسند للاسم تمييز حصل
ما خلا من العلامات يكون حرفاً، لكن وجدوا خمسة حروف أو ستة إذا تغيّرت الهمزة بين الفتح والكسر تشتغل شغل الأفعال فسميت الحروف المشبهة بالفعل. هي خمسة أو ستة ، سيبويه يقول خمسة لأنه عدّ إن وأن حرفاً واحداً، وكلاهما للتوكيد، تفتح همزته في مكان وتُكسر في آخر (إنّ، أنّ، ليت، لعلّ، لكنّ، كأن) فهذه حروف مشبهة بالفعل؛ لأن إنّ معناها أؤكد، وكأن معناها أشبّه.
وجدوا أيضاً كلمات هي أسماء بقبولها علامات الاسم، لكنها تشتغل مثل الفعل منها كلمة هيهات تقابل الفعل الماضي (بعُد) يقال هيهات الأمر بمعنى بَعُد. مثل كلمة (إيه) بمعنى زدنا مثل فعل الأمر. حين يتكلّم الإنسان في موضوع تريد أن يزيدك منه تقول له (إيهِ يا فلان أي زدنا من هذا الحديث)، فإذا أردت أن يحدثك بأي حديث شاء، فتقول له (إيهٍ يا فلان) والتنوين هنا تنوين للتنكير. إذا أردت من الحديث المخصوص تقول (إيهِ)
يروى أن الخنساء كانت تُنشد، فقيل إيهِ يا خُناس، أي زيدينا من هذا اللون من الشعر، وهيهات استعملت في القرآن الكريم، وسُميّت اسم فعل، هي تأخذ من الأسماء ومن الأفعال، فكأنها كما قلنا حروف مشبهة بالفعل. لاحظ أن التنوين من علامات الاسم، فحين نُوّنت هذه الكلمات أشبهت الأسماء، لكنها جامدة، ومعناها معنى فعل (إيهِ يعني زِد) وبعضها يُنوّن، وبعضها لا يُنوّن.
(أُف) في القرآن الكريم (ولا تقل لهما أفٍ) ، أفٍ اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر (أفٍ بالتنكير) أراد أي كلمة تؤذيهما بإطلاق قال (أفٍ) بالتنوين، وقلنا هذا تنوين التنكير، يعني كما قلنا إيهِ من هذا الحديث يعني زدنا من هذا الحديث، وإيهٍ يعني زدنا من أيّ حديث.
من هذه الألفاظ كلمة (آمين) وهي كلمة عربية النِجار، صميمية النسبة، مثل هيهات ومثل أف ومثل صه هذه أسماء أفعال، آمين: اسم فعل بمعنى اللهم استجب. هي فعل أمر طبعاً، ولكن الأمر من الأدنى إلى الأعلى يخرج للدعاء، كما نقول اللهم اغفر لنا: اغفر فعل أمر، لكن علماءنا يقولون خرج للدعاء. فآمين اسم فعل أمر بمعنى اللهم استجب؛ لأن كلمة آمين لم تستعمل إلا مع الله، حتى في الجاهلية لا تقول لشخص يتكلم آمين بمعنى استجب لي يا فلان، لكن آمين يعني اللهم استجب لكلامه، وحتى قبل نزول القرآن.
وكلمة اللهم كانت مستعملة عندهم ويعنون بها يا الله:
إني إذا ما حدثٌ ألمّ أقول ياللهم ياللهم
لأن هذه الكلمة (اللهم) جُعِلت خاصة بنداء الله تعالى، ولأنها جُعِلت هكذا أُدخل عليها حرف النداء، مع أن الميم هي عوض عن حرف النداء، فقال (ياللهم) هذا شاهد نحوي.
هناك إشكال أن كلمة آمين – ولعل هذا سبب السؤال المطروح من قبل السائل – أننا نسمعها في الصلوات في الكنائس من الأوروبيين، الآن يميلونها يقولون (Amen)، هذه الكلمة وجودها في اللغات الأخرى لا يعني أنها ليست عربية، وإنما هي موجودة في اللغة السريانية التي هي الآرامية.
والآراميون كما هو معلوم خرجوا من جزيرة العرب في حدود 1500 ق.م، وهذه الكلمة مستعملة عند السريان والإنجيل بالسريانية، وفيها آمين. السريانية خرجت من جزيرة العرب ولذلك نحن نسمي هذه اللغات الخارجة من جزيرة العرب اللغات الجزرية، ولا نسميها اللغات السامية، كما سماها “شنيغل”، ليس عندنا دليل. والأكادية التي هي البابلية والآشورية خرجت أيضاً من جزيرة العرب حوالي 3600 ق.م وفيها ألفاظ مقاربة للعربية، وينفعنا أن الأكاديين وردت نصوص في أدبياتهم المسجلة فيها ذكر العربي معناها أن العربية كانت قديمة موجودة، هؤلاء القوم قدامى، وكان عندهم حروب مع البابليين والآشوريين.
وبعد الأكاديين جاءت موجة الكنعانيين 1500 ق.م، ومن الكنعانية اللغة الأوغاريتية والفينيقية والعبرية فالعبرية متأخرة عن العربية، لأن العرب ذكرهم الأكاديون. وكلمة آمين موجودة في العبرية وتدل على أنهم هم الذين أخذوها من العربية، لأن العبرية متأخرة، وبعد ذلك بألف عام خرجت الآرامية والسريانية فيها آمين، فإذًا هي مأخوذة من لغة أقدم، واللغة الأقدم هي العربية.
كما قلنا (آمين) نسميها أسماء أفعال، ألفاظ جامدة، هكذا تدل على هذه المعاني. وآمين بهذا اللفظ دخلت إلى هذه اللغات، فلا نتحرّج أنهم هم يستعملونها، فنقول كيف نستعملها؟ هذه ملكنا، وهي لغتنا، والرسول (صلى الله عليه وسلم) حثّ على قول آمين، ثم بعد ذلك صاروا يشتقون منها (إني داعٍ فأمّنوا)، اشتق منها فعل، أي قولوا آمين اللهم استجب. فهذا الكلمة عربية ، وهي اسم فعل. مادام عندنا صفة نشتق منها، آمين هي كلمة عربية شأنها شأن هيهات وشأن أف، ثم صارت العرب تولد أسماء.
آمين لم ترد في المصحف، لكن أُثبتت في السنة، وفي الحديث الصحيح أن الصحابة الكرام كان يهتز بهم المسجد عندما يقولون آمين. فالذين يقولون أنها كلمة أعجمية هم واهمون في ذلك لأننا قلنا إن الذين استعملوها جاءوا بعد العرب وليس قبل العرب، العبريون هم فرع من الكنعانيين، والكنعانيون خرجوا من جزيرة العرب عام 2500 ق.م، وعند الأكاديين ورد ذكر العرب 3600 ق.م. واللغة العربية تسبق العبرية بلا شك، وفي التوراة شائع أن العبرية أقدم اللغات بطريقة تسيء إلى الله سبحانه وتعالى، إن العبرية قديمة وإن الله سبحانه وتعالى نظر فقال: هذا شعب واحد ولسان واحد فلا نأمن شرورهم، وكأن الله تعالى يخاف منهم، هَلُمّ نبلبل ألسنتهم، فبلبلها فسميت مدينة بابل” هذا كلام غير صحيح. لذلك نسمي هذه اللغات اللغات الجزرية.
يبقى أن بعض الفقهاء المسلمين يقول إنه لا يُجهر بها وهذا اجتهاده، وأذكر أن أحد أئمة المساجد في سوق في بغداد كان ممن يؤمن بعدم التصريح بكلمة آمين، وإنما الإسرار بها، أي أن تقول آمين في قلبك، وليس جهراً، كأن الحديث الذي ذكرناه لم يصل إلى فقهه، أو هو غير صحيح عنده، مع أنه في الصحاح، فكان عندما يصلي بالناس يقول: ولا الضالين قل هو الله أحد، لا يعطي فرصة لمن بعده أن يقول آمين.
*في الحديث الشريف “إذا أمّن الإمام فأمّنوا فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه” وسمعت شريطاً للشيخ الألباني يقول أن تأمين المأموم يكون بعد تأمين الإمام فكيف نوضح الفرق حتى لا نخسر الأجر والثواب؟
إذا أمّن الإمام فأمّنوا، هذه تتعلق بمسألة لغوية (إذا فعل زيدٌ فافعل) هي الفاء الواقعة في جواب الطلب، لكن يحتمل أنه إذا فعل فافعل أنه بعده مباشرة بوقت قصير، لأن الفاء تقتضي الترتيب مع القُرب (عقبه مباشرة) غير ثُمّ التي للتراخي. لكنها هنا رابطة لجواب الشرط، ويمكن أن يُفهم منها في الوقت نفسه، أي يكون تأمينك مع تأمين الإمام، وهو يقول آمين أنت تقول معه آمين. ففيها رأيان، وأنا أقتنع مثلاً أن زيدا من الناس هو محقق في هذا الجانب فقيه، ويجب أن ينتبه المشاهدون أن كثيراً من الناس لديهم علمٌ في تخصص معين فلا ينبغي أن يخوضوا في اختصاص آخر. والذي ليس عنده علم في أصول الفقه وفي محاكمة النصوص في رأيي ينبغي أن لا يفتي، لأن المفتين كثروا اليوم، وإنما ينقل بعضهم فتوى فيقول: بعض العلماء يقول كذا، والسامع يتولى ذلك.
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين
لماذا جاءت كلمة الصراط معرفة بأل مرة، ومضافة مرة أخرى (صراط الذين أنعمت عليهم)؟
جاءت كلمة الصراط مفردة، ومعرفة بتعريفين: بالألف واللام والإضافة، وموصوفا بالاستقامة مما يدل على أنه صراط واحد (موصوف بالاستقامة؛ لأنه ليس بين نقطتين إلا طريق مستقيم واحد، والمستقيم هو أقصر الطرق وأقربها وصولا إلى الله) وأي طريق آخر غير هذا الصراط المستقيم لا يوصل إلى المطلوب ولا يوصل إلى الله تعالى.
والمقصود بالوصول إلى الله تعالى هو الوصول إلى مرضاته، فكلنا واصل إلى الله، وليس هناك من طريق غير الصراط المستقيم. (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (المزمل آية 19) (الإنسان آية 29) (إن ربي على صراط مستقيم) (هود آية 56) (قال هذا صراط علي مستقيم) (الحجر آية 41)
وردت كلمة الصراط في القرآن مفردة، ولم ترد مجموعة أبداً، بخلاف السبيل فقد وردت مفردة ووردت جمعا (سبل) لأن الصراط هو الأوسع، وهو الذي تفضي إليه كل السبل (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (الأنعام 153) (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (المائدة 16) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت 69) (هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ) (يوسف آية 108) .
الصراط هو صراط واحد مفرد لأنه هو طريق الإسلام الرحب الواسع الذي تفضي إليه كل السبل، واتباع غير هذا الصراط ينأى بنا عن المقصود. (انظر شرح د. أحمد الكبيسي لكلمة الصراط وغيرها من مرادفات الطريق فيما سيأتي) .
ثم زاد هذا الصراط توضيحا وبيانا بعد وصفه بالاستقامة، وتعريفه بأل بقوله (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) جمعت هذه الآية كل أصناف الخلق المكلفين ولم تستثن منهم أحدا فذكرت:
الذين أنعم الله عليهم، وهم الذين سلكوا الصراط المستقيم، وعرفوا الحق وعملوا بمقتضاه.
الذين عرفوا الحق وخالفوه (المغضوب عليهم)، ويقول قسم من المفسرين إنهم العصاة.
الذين لم يعرفوا الحق وهم الضالون (قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (الكهف آية 103-104) وهذا الحسبان لا ينفعهم، إنما هم من الأخسرين.
ولا يخرج المكلفون عن هذه الأصناف الثلاثة، فكل الخلق ينتمي لواحد من هذه الأصناف.
وقال تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم) ولم يقل تنعم عليهم، فلماذا ذكر الفعل الماضي؟
اختار الفعل الماضي على المضارع أولاً: ليتعين زمانه، فيبين صراط الذين تحققت عليهم النعمة (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (النساء آية 69) صراط الذين أنعمت عليهم يدخل في هؤلاء.
فلو قال: تنعم عليهم لأغفل كل من أنعم عليهم سابقا من رسل الله والصالحين، ولو قال تنعم عليهم لم يدل في النص على أنه سبحانه أنعم على أحد، ولاحتمل أن يكون صراط الأولين غير الآخرين، ولا يفيد التواصل بين زمر المؤمنين من آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. مثال: إذا قلنا أعطني ما أعطيت أمثالي، فمعناه أعطني مثلما أعطيت سابقا، ولو قلنا أعطني ما تعطي أمثالي، فهي لا تدل على أنه أعطى أحدا قبلي.
ولو قال: تنعم عليهم لكان صراط هؤلاء أقل شأنا من صراط الذين أنعم عليهم، فصراط الذين أنعم عليهم من أولي العزم من الرسل والأنبياء والصديقين، أما الذين تنعم عليهم فلا تشمل هؤلاء.
فالإتيان بالفعل الماضي يدل على أنه بمرور الزمن يكثر عدد الذين أنعم الله عليهم، فمن ينعم عليهم الآن يلتحقون بالسابقين من الذين أنعم الله عليهم، فيشمل كل من سبق أن أنعم الله عليهم، فهم زمرة كبيرة من أولي العزم والرسل وأتباعهم والصديقين وغيرهم، وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم، أما الذين تنعم عليهم فتختص بوقت دون وقت، ويكون عدد المنعم عليهم قليلا؛ لذا كان قوله سبحانه أنعمت عليهم أوسع وأشمل وأعم من الذين تنعم عليهم.
لماذا قال: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين؟
أي لماذا عبر عن الذين أنعم عليهم باستخدام الفعل (أنعمت) وذكر المغضوب عليهم والضآلين بالاسم؟
الاسم يدل على الشمول، ويشمل سائر الأزمنة من المغضوب عليهم، ويدل على الثبوت. أما الفعل فيدل على التجدد والحدوث، فوصفه لهم بأنهم مغضوب عليهم وضالون دليل على الثبوت والدوام.
إذًا فلماذا لم يقل المنعم عليهم للدلالة على الثبوت؟
لو قال صراط المنعم عليهم بالاسم لم يتبين المعنى، أي من الذي أنعم؟ إنما بين المنعم (بكسر العين) في قوله أنعمت عليهم؛ لأن معرفة المنعم مهمة، فالنعم تقدر بمقدار المنعم (بكسر العين)؛ لذا أراد سبحانه وتعالى أن يبين المنعم، ليبين قدر النعمة وعظمتها، ومن عادة القرآن أن ينسب الخير إلى الله تعالى، وكذلك النعم والتفضل، وينزهه سبحانه عن نسبة السوء إليه (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) (الجن آية 10).
والله سبحانه لا ينسب السوء لنفسه، فقد يقول (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) (النمل آية 4) لكن لا يقول زينا لهم سوء أعمالهم (زُين لهم سوء أعمالهم) (التوبة آية 37) (زُين للناس حب الشهوات ) (آل عمران آية 14) (وزُين لفرعون سوء عمله). (غافر آية 37) (أفمن زُين له سوء عمله) (فاطر آية 8) (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) (الأنفال آية 48)، أما النعمة فينسبها الله تعالى إلى نفسه لأن النعمة كلها خير (ربي بما أنعمت علي) (القصص آية 17) (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) (الزخرف آية 59) (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا) (الإسراء آية 83) ولم ينسب سبحانه النعمة لغيره إلا في آية واحدة (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك) (الأحزاب آية 37) فهي نعمة خاصة بعد نعمة الله تعالى عليه.
*(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7) الفاتحة)
لماذا ذكرت المغضوب عليهم بصيغة المبني للمجهول والضالين بصيغة اسم الفاعل؟(د.فاضل السامرائى)
أولاً جيء بكل منهما اسماً (المغضوب عليهم) و(الضالين) للدلالة على الثبوت، الغضب عليهم ثابت، والضلال فيهم ثابت، لا يرجى فيهم خير ولا هدى، لم يقل صراط الذين غضب عليهم وضلوا، وإنما المغضوب عليهم ولا الضالين، فجاء الوصفان بالاسمية للدلالة على ثبوت هذين الوصفين فيهما.
يبقى السؤال: لماذا جاء المغضوب عليهم اسم مفعول، ولم يقل غاضب اسم فاعل؟
مغضوب عليهم اسم مفعول، يعني وقع عليهم الغضب، لم يذكر الجهة التي غضبت عليهم ليعم الغضب عليهم من جميع الجهات، غضب الله، وغضب الغاضبين لله من الملائكة، وغيرهم، لا يتخصص بغاضب معين، ليس غضب عليهم فلان أو فلان، وإنما مغضوب عليهم من كل الجهات، بل هؤلاء سيغضب عليهم أخلص أصدقائهم في الآخرة (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) الأنعام) (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا (25) العنكبوت) إذًا مغضوب عليهم من جميع الجهات، من كل الجهات، فحذف جهة الغاضب فيه عموم وشمول. أما الضالون فهم الذين ضلّوا.
لماذا قال المغضوب عليهم ولم يقل غضبت عليهم؟
جاء باسم المفعول وأسنده للمجهول، ولذا ليعم الغضب عليهم من الله والملائكة وكل الناس حتى أصدقاؤهم يتبرأ بعضهم من بعض، حتى جلودهم تتبرأ منهم، ولذا جاءت المغضوب عليهم لتشمل غضب الله وغضب الغاضبين.
غير المغضوب عليهم ولا الضآلين: لم ذكر لا؟
ولم يقل غير المغضوب عليهم والضالين؟ إذا حذفت (لا) يمكن أن يفهم أن المباينة والابتعاد هي فقط للذين جمعوا الغضب والضلالة، أما من لم يجمعهما (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) فلا يدخل في الاستثناء. فإذا قلنا مثلا: لا تشرب الحليب واللبن الرائب (أي لا تجمعهما)، أما إذا قلنا: لا تشرب الحليب ولا تشرب اللبن الرائب كان النهي عنهما كليهما إن اجتمعا أو انفردا.
فلماذا قدم إذُا المغضوب عليهم على الضآلين؟
المغضوب عليهم الذين عرفوا ربهم ثم انحرفوا عن الحق، وهم أشد بُعدا لأنه ليس من علم كمن جهل؛ لذا بدأ بالمغضوب عليهم، وفي الحديث الصحيح أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأما النصارى فهم الضالون. واليهود أسبق من النصارى؛ ولذا بدأ بهم واقتضى التقديم.
وصفة المغضوب عليهم هي أول معصية ظهرت في الوجود، وهي صفة إبليس عندما أُمر بالسجود لآدم عليه السلام، وهو يعرف الحق، ومع ذلك عصى الله تعالى، وهي أول معصية ظهرت على الأرض.
أيضا عندما قتل ابن آدم أخاه، كانت أول معصية في الملأ الأعلى وعلى الأرض (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه) (النساء آية 93) ولذا بدأ بها.
أما جعل المغضوب عليهم بجانب المنعم عليهم، فلأن المغضوب عليهم مناقض للمنعم عليهم، والغضب مناقض للنعم.
خاتمة سورة الفاتحة مناسبة لكل ما ورد في السورة من أولها إلى آخرها: فمن لم يحمد الله تعالى فهو مغضوب عليه وضال، ومن لم يؤمن بيوم الدين وأن الله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين وملكه، ومن لم يخص الله تعالى بالعبادة والاستعانة، ومن لم يهتد إلى الصراط المستقيم، فهم جميعا مغضوب عليهم وضالون.
ولقد تضمنت السورة الإيمان والعمل الصالح، الإيمان بالله (الحمد لله رب العالمين)، واليوم الآخر (مالك يوم الدين)، والملائكة والرسل والكتب (اهدنا الصراط المستقيم)، لما تقتضيه من إرسال الرسل والكتب. وقد جمعت هذه السورة توحيد الربوبية (رب العالمين)، وتوحيد الألوهية (إياك نعبد وإياك نستعين)، ولذا فهي حقاً أم الكتاب.