سورة الأعراف
آية (2):
*ورتل القرآن ترتيلاً:
(كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ (2)) الحرج في حقيقته المكان الضيق من الغابات الكثيرة الأشجار بحيث يعثر السلوك فيه فأغمض عينيك أيها المتدبر لكتاب الله واعمل خيالك في هذه الصورة القرآنية لحال الآسف الحزين الذي امتلأ صدره حزناً فإنه يعسر منه التنفس من انقباض أعصاب مجاري التنفس فتخيل هذا الضيق النفسي بضيق مكان مليء أشجاراً كيف تستطيع تجاوزها. فها هي صورة القرآن التي ترسم بألفاظها المحكمة ما تعجز ريشة الفنان عن الإتيان به.
آية (3):
*ما الفرق بين تذّكّرون وتذكّرون وتتذكرون؟(د.حسام النعيمى)
الاختلاف في المعنى أنه لما تأتي تَتَذَكَّرُونَ تكون مساحة التأمل أوسع وهذا مثال في قوله تعالى: (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ﴿80﴾ الأنعام) قبلها كان الكلام عن النظر في آيات الله في الكون وهذا ربي ثم هذا ربي ثم هذا ربي أمور تحتاج إلى طول زمن.
ولكن عندما نأتي إلى تذكّرون أو تذّكّرون- بالتشديد على الذال- نجد أن المسألة منحصرة إما في أوامر من الله عز وجل يأمرهم بتنفيذها مثل (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾ الأعراف) الأمر يأتي أو تقرير فالمسألة منحصرة مجتزأة لا تحتاج إلى طول الوقت الذي احتاجته التأملات التي في خلق السموات والأرض وهذا ربي وهذا ربي إلى آخره في قصة إبراهيم ِ(عليه السلام).
وأما التشديد على الذال فهو للتأكيد وقلنا كل ما قرأه حفص تذكّرون قرأه نافع وورش تذّكّرون بالتشديد على الذال وأجمعوا على قراءة يذّكّرون- بالتشديد على الذال- حيث ما وردت بالتشديد ففيها معنى التأكيد لما تأتي.
آية (4):
*ورتل القرآن ترتيلاً:
(وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4)) انظر كيف رسم القرآن مشاهده بأبدع رسم فهنا يعرض القرآن حقيقة الهلاك للقرية دون أن يأتي على ذكر أهلها لقصد الإحاطة والشمول. فتخيل مشهد القرية وهي تتدمر بأكلمها، ستجد نفسك أمام هذه الصورة الفظيعة وتتساءل بدهشة إذا كان هذا ما حل بالقرية وهي ثابتة مستقرة فكيف بأهلها؟ وستزداد دهشة إذا علمت أن ساعة الهلاك هي ساعة نومهم قال تعالى: (بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ).
*كيف يأتي البأس بعد الإهلاك في قوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا) في سورة الأعراف ؟ (د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة الأعراف: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ {4}) الفاء تأتي للترتيب الذِكري ولا تنحصر بالترتيب والتعقيب. وهي تعني التفصيل بعد الإجمال . أولاً يأتي بالموت بشكل إجمالي ثم يفصّل الإهلاك. ومثال آخر ما جاء في قوله تعالى: (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة) سألوا موسى مجملة وأرنا الله جهرة مفصّلة. وكذلك ما جاء في قوله تعالى (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ {45} هود) تفصيل بعد الإجمال. دخل محمد ثم خالد هذا للترتيب والتراخي ، توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسل يديه رجليه، هو غسل أولاً حتى يصير وضوءاً.
آية (10):
*ما وجه الاختلاف في قصة آدم (عليه السلام) بين سورتي البقرة والأعراف؟(د.فاضل السامرائى)
قصة آدم عليه السلام في سورة البقرة تبدأ من أقدم نقطة في القصة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30}) لم تُذكر هذه النقطة في أي مكان آخر في القرآن وهي أول نقطة نبدأ فيها القصص القرآني:
القصة في سورة البقرة واردة في تكريم آدم عليه السلام وما يحمله من العلم والقصة كلها في عباراتها ونسجها تدور حول هذه المسألة فهل كان التكريم لآدم أو لما يحمله من العلم؟
وقوله تعالى: (علّم آدم) ينسحب على ذريته في الخلافة في الأرض. والخلافة تقتضي أمرين: الأول حق التصرف (خلق لكم ما في الأرض جميعا)، والثاني القدرة على التصرف وهل هو قادر على القيام بالمهمة أو لا (أثبت القدرة بالعلم). وهل الإنسان أكرم من الملائكة؟ الإنسان الصالح التقي المؤمن أكرم عند الله تعالى من الملائكة (ولقد كرّمنا بني آدم) فالله تعالى كرّم الإنسان بالعلم والعقل.
أما في سورة الأعراف فورود قصة آدم ليست من باب التكريم (قليلاً ما تشكرون) عتاب من الله تعالى على قلة شكرهم.
افتتاح كل قصة:
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ {10}) سورة الأعراف ثم قوله تعالى (قليلاً ما تشكرون) فيها عتاب وهذا لم يرد في البقرة.
التكريم في البقرة أكبر وأكثر مما هو عليه في الأعراف (قليلاً ما تذكرون) في الأعراف.
سياق القصة في سورة الأعراف ورد في العقوبات وإهلاك الأمم الظالمة من بني آدم وفي سياق غضب الله تعالى على الذين ظلموا (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ {5}) القائلون في الآية بمعنى القيلولة، وفي سياق العتب عليهم (قليلاً ما تذكرون، قليلاً ما تشكرون).
في سورة البقرة جمع تعالى لإبليس ثلاث صفات (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34}) (أبى، استكبر، وكان من الكافرين) وهذه الصفات لم تأت مجتمعة إلا في سورة البقرة لبيان شناعة معصية إبليس، أما في الأعراف فقال (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إبليس لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {11}) فذكر صفة لم يكن من الساجدين فقط.
في سورة البقرة جاء الخطاب بإسناد القول إلى الله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35}) والملاحظ في القرآن أنه لما ينسب الله تعالى القول إلى ذاته يكون في مقام التكريم، أما في الأعراف عندما طرد إبليس جمعهما في الكلام (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ {18} وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {19}).
ذكر في سورة البقرة (رغداً) (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35}) المناسب للتكريم في السورة بينما لم ترد في سورة الأعراف (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ {19}). كما أن الواو في (وكُلا منها رغداً) في سورة البقرة تدل على مطلق الجمع وتفيد أن لآدم (عليه السلام) حق الاختيار في كل الأزمنة بمعنى اسكن وكُل غير محددة بزمان. أما في سورة الأعراف فاستخدام الفاء في قوله (فكُلا من حيث شئتما) تدل على التعقيب والترتيب، بمعنى اسكن فكُل أي أن الأكل يأتي مباشرة بعد السكن مباشرة. فالفاء إذن هي جزء من زمن الواو أما الواو فتشمل زمن الفاء وغيرها والجمع وغير الجمع فهي إذن أعمّ وأشمل ومجيئها في سورة البقرة في مجال التكريم أيضاً فلم يقيّد الله تعالى آدم بزمن للأكل. ونسأل هل الواو تفيد الترتيب؟ الواو لا تفيد الترتيب بدليل قوله تعالى: (وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) فلو كانت الواو تفيد الترتيب لكان الكافرون أقروا بالحياة بعد الموت، وكذلك في قوله تعالى: (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك) لا تفيد الترتيب. والعلماء الذين يستندون إلى أن الواو تفيد الترتيب يعتمدون على آية الوضوء ونقول لا مانع أن تأتي الواو للترتيب لكن لا تُحصر للترتيب.
(حيث شئتما) في سورة البقرة تحتمل أن تكون للسكن والأكل بمعنى اسكنا حيث شئتما وكُلا حيث شئتما وفي هذا تكريم أوسع لأن الله تعالى جعل لهم مجال اختيار السكن والأكل والتناسب مع الواو التي دلّت هي مطلقة فأوجبت السعة في الاختيار، أما في الأعراف (من حيث شئتما) بمعنى من حيث شئتما للأكل فقط وليس للسكن، وبما أن الفاء استخدمت في السورة (فكُلا) والفاء مقتصرة اقتضى الحصر للأكل فقط.
(فأزلهما الشيطان) في سورة البقرة ليس بالضرورة الزلة إلى محل أدنى بل يمكن أن يكون في نفس المكان, وقد سُميت زلة تخفيفاً في مقام التكريم الغالب على السورة، أما في سورة الأعراف: (فدلاهما بغرور) والتدلية لا تكون إلا من أعلى لأسفل إذن في مقام التكليف سماها (زلة) وفي مقام العقوبة سماها (فدلاّهما) فخفف المعصية في البقرة ولم يفعل ذلك في الأعراف.
في البقرة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37}) لم يذكر معاتبة الله تعالى لآدم وتوبيخه له وهذا يتناسب مع مقام التكريم في السورة حتى أنه لم يذكر في السورة اعتراف آدم ولم يقل أنهما تابا أو ظلما أنفسهما فطوى تعالى تصريح آدم بالمعصية وهذا أيضاً مناسب لجو التكريم في السورة. أما في سورة الأعراف قال تعالى: (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ {22}) في مجال التوبيخ والحساب ثم جاء اعتراف آدم (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23}). وفي الأعراف تناسب بين البداية والاختيار (عتاب على قلة الشكر وعتاب على عدم السجود) الندم الذي ذكره آدم مناسب لندم ذريته عن معاصيهم وهذا ناسب لسياق الآيات في سورة الأعراف.
اتفق ندم الأبوين والذرية على الظلم (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23}). ذرية (إنا كنا ظالمين) بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت والإصرار وجاءت (ظلمنا) بالصيغة الفعلية أي أن التوبة فعلية وصادقة وليس فيها إصرار لذا جاءت العقوبة مختلفة فتاب سبحانه على الأولين وأهلك الآخرين.
ذكر في البقرة أن الله تعالى تاب على آدم ولم يذكر أن آدم طلب المغفرة لكن وردت التوبة والمغفرة عليه وهذا مناسب لجو التكريم في السورة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ {37})، ولم تذكر في الأعراف بل ذكر أن آدم طلب المغفرة لكن لم يذكر أن الله تعالى تاب عليه (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ {23}).
في سورة الأعراف: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إبليس لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {11}), وفي الآية الأخيرة من السورة (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ {206}) نفى تعالى عن الملائكة التكبر وأكدّ سجودهم ولكن بالنسبة لإبليس في السورة نفسها نفى عنه السجود (إِلاَّ إبليس لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) وأكدّ له التكبر (قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ {13}).
في سورة الأعراف: (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ {17}) وفي مقدمة القصة قال تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ {10}) فصدّق عليهم إبليس ظنّه.
في سورة الأعراف (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ {20}) اختار تعالى للتقوى كلمة اللباس الذي يواري السوءات الباطنة (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {26}) واختيار الريش مناسب للباس الذي يواري السوءات الخارجية. وفي هذه الآيات تحذير من الله تعالى لذرية آدم ((يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ {26}).
آية (11):
*لماذا استخدمت كلمة إبليس مع آدم ولم تستخدم كلمة الشيطان؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34}) وفي سورة الأعراف (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إبليس لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ {11}) إبليس هو أبو الشياطين كما إن آدم أبو البشر وبداية الصراع كان بين أبو البشر وأبو الشياطين. والشيطان يُطلق على كل من كان كافراً من الجن أي على الفرد الكافر من الجنّ.
*ورتل القرآن ترتيلا ً:
(قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ (12)) لعل سائلاً يقول: إذا كان المنع يعني الكف والصد فلمَ جاءت الآية بحرف النفي (لا) في قوله (ألا تسجد) فيكون مقتضى الظاهر أن يقول ما منعك أن تسجد؟ إن (لا) هنا لا تفيد نفياً وإنما جيء بها للتأكيد و (لا) من جملة الحروف التي يؤكد بها الكلام تماماً كما في قوله تعالى: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) البلد) أي أقسم بهذا البلد قسماً محققاً.
آية (12):
*لماذا جاء ذكر إبليس مع الملائكة عندما أمرهم الله تعالى بالسجود لآدم مع العلم أن إبليس ليس من جنس الملائكة؟(د.فاضل السامرائى)
أمر اللهُ تعالى الملائكةَ بالسجود لآدم في آية سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34}) وأمر إبليس على وجه الخصوص في آية سورة الأعراف (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ {12}) فليس بالضرورة أن الله تعالى أمر إبليس بالسجود مع الملائكة لكنه تعالى أمر الملائكة بالسجود كما في آية سورة البقرة وأمر إبليس وحده بالسجود لآدم أمراً خاصاً به في آية سورة الأعراف.
*هل كان إبليس مأموراً بالسجود لآدم؟(د.فاضل السامرائى)
نعم أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم أمراً عامّاً (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إبليس أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34} البقرة) وأمر إبليس بالسجود أمراً خاصاً (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ {12} الأعراف).
*ما الفرق البياني بين قوله تعالى: (ما منعك أن تسجد) سورة ص و(ما منعك ألا تسجد) سورة الأعراف وما دلالة استخدام (لا) ؟
*د.فاضل السامرائى :
قال تعالى في سورة الأعراف: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)) وقال في سورة ص: (قَالَ يَا إبليس مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)).
هناك قاعدة (لا) يمكن أن تُزاد إذا أُمن اللبس، وسُمّيت حرف صلة وغرضها التوكيد وليس النفي. ونلاحظ أن سياق الآيات مختلف في السورتين, ففي سورة الأعراف الآيات التي سبقت هذه الآية كانت توبيخية لإبليس ومبنية على الشدة والغضب والمحاسبة الشديدة وجو السورة عموماً فيه سجود كثير. النحويون يقولون أن (لا) زائدة فهي لا تغيّر المعنى وإنما يُراد بها التوكيد ومنهم من قال أنها صلة. وليس قولهم أنها زائدة يعني أنه ليس منها فائدة إنما حذفها لن يغيّر المعنى لو حُذفت. فلو قلنا مثلاً (والله لا أفعل) وقلنا (لا والله لا أفعل), فالمعنى لن يتغير برغم أننا أدخلنا (لا) على الجملة لكن معناها لم يتغير. أما في آيات القرآن الكريم فلا يمكن أن يكون في القرآن زيادة بلا فائدة. والزيادة في (لا) بالذات لا تكون إلا عند من أمِن اللبس، بمعنى أنه لو كان هناك احتمال أن يفهم السامع النفي فلا بد من زيادتها. في قوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) الحديد) معناها ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء وإذا أراد الله تعالى أن يُنزل فضله على أحد لا يستطيع أحد أن يردّ هذا الفضل. فالقصد من الآية إعلامهم وليس عدم إعلامهم. لذلك قسم من النحاة والمفسرين يقولون أن اللام زائدة أو صلة.
وفي قوله تعالى: (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) طه) هي ليست نافية ولكنها بمعنى من منعك من اتباعي. وفي قوله تعالى (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) الأعراف) الله تعالى يحاسب إبليس على عدم السجود ولو جعلنا (لا) نافية يكون المعنى أنه تعالى يحاسبه على السجود وهذا غير صحيح. ولهذا قال تعالى في سورة ص (قَالَ يَا إبليس مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)). إذن (لا) مزيدة للتوكيد جيء بها لغرض التوكيد لأن المعلوم أن يحاسبه على عدم السجود.
لكن يبقى السؤال لماذا الاختيار بالمجيء بـ (لا) في آية وحذفها في آية أخرى؟ لو نظرنا في سياق قصة آدم (عليه السلام) في الآيتين في سورة الأعراف وص لوجدنا أن المؤكّدات في سورة الأعراف أكثر منها في سورة ص ففي الأعراف جاءت الآيات (لأقعدنّ، لآتينهم، لأملأن، إنك، وغيرها من المؤكّدات) . وكذلك القصة في سورة الأعراف أطول منها في ص ثم إن مشتقات السجود في الأعراف أكثر (9 مرات) أما في ص (3 مرات). ولتأكيد السجود في الأعراف جاءت (ما منعك ألا تسجد). ثم هناك أمر آخر انتبه له القدامى في السور التي تبدأ بالأحرف المقطعة وهي أن هذه الأحرف تطبع السورة بطابعها فعلى سبيل المثال: سورة ق تطبع السورة بالقاف (القرآن، قال، تنقص، فوقهم، باسقات، قبلهم، قوم، حقّ، خلق، أقرب، خلقنا، قعيد، وغيرها) وسورة ص تطبع السورة بالصاد (مناص، اصبروا، صيحة، فصل، خصمان، وغيرها..) حتى السور التي تبدأ بـ (الر) تطبع السورة بطابعها حتى أن جعفر بن الزبير أحصى ورود الر 220 مرة في السورة. وسورة الأعراف تبدأ بـ (المص) وفي الآية موضع السؤال اللام والألف وهما أحرف (لا) فناسب ذكر (لا) في آية سورة الأعراف وناسب كذلك السياق والمقام.
وعليه مثلاً من الخطأ الشائع أننا نقول أعتذر عن الحضور وإنما الصحيح القول: أعتذر عن عدم الحضور.
آية (14):
*(قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15)) هل نال إبليس تكرمة في استجابة طلبه بأن يكون من الكائنات الباقية؟(ورتل القرآن ترتيلا ً)
هذا ما تشير إليه الآية لكن في الحقيقة خاب, فهو أهون على الله من أن يجيب له طلبه وقد نفى هذا التصوير للسامع قوله (قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ) فانظر كيف أفاد التأكيد بـ (إنك) والإخبار بصيغة (من المنظرين) أن إنظاره أمر قد قضاه الله وقدّره من قبل سؤاله وهذه هي النكتة في العدول عن أن يكون الجواب أنظرتك أو أجبت لك مما يدل على كرامته بعد الإجابة ولكنه أعلمه أن ما سأله أمر حاصل فسؤاله تحصيل حاصل. .
آية (17):
*ورتل القرآن ترتيلا ً:
(ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ (17)) انظر كيف يحرص إبليس على إغواء بني آدم, فالآية ضرب من المجاز التمثيلي وليست الجهات الأربع المذكورة بحقيقة إذا علمت أنه ليس للشيطان مسلك للإنسان إلا من نفسه وعقله بإلقاء الوسوسة. فكما شبّه هيئة الحرص على الإغواء بالقعود على الطريق كذلك مُثّلت هيئة التوسل إلى الإغواء بكل وسيلة بهيئة الباحث الحريص على أخذ العدو إذ يأتيه من كل جهة حتى يصادف الجهة التي يتمكن فيها من أخذه أعاذنا الله من شرّه وغوايته.
آية (17):
* لماذا استعمال النفي في آية سورة الأعراف: (ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17))؟(د.حسام النعيمى)
هذه الآية على لسان إبليس. لما قال: (ثم لآتينهم) هذه الآية فيها تحذير كبير من مخاطر هذا المخلوق الذي أخذ على نفسه عهداً أن يضل ذرية آدم (ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِم) لا يترك مكاناً، من أي مكان وبأية وسيلة من الوسوسة. (ولا تجد أكثرهم شاكرين) نقول الشكر لله. هو بيّن كلامه على ظنّه أنه نتيجة هذه التصرفات أكثر بني آدم لا يشكرون الله سبحانه وتعالى. الذي يتناسب مع ظنّه أن يستعمل لا النافية لأن (لن) فيها معنى تأكيد ومعنى التأبيد على رأي الزمخشرية (قال لن تراني) يعني للأبد وفيها دفع للمستقبل فإبليس لا يستطيع أن يقول (ولن تجد أكثرهم شاكرين) لا يصلح أن يستعمل (لن) لأنه لا يملك ذلك، هو يستطيع أن ينفي (لا تجد أكثرهم شاكرين) أما (لن) فهي كلمة متأكّد متثبت يجزم بوقوع الحادثة وهو لا يستطيع أن يقول هذا الكلام وإنما يقول (ولا تجد أكثرهم شاكرين). ولذلك المستحسن أن يقول من يقرأ هذه الآية ليفقأ عين الشيطان أن يقول: الشكر لله ، الحمد لله .
آية (20):
* ما الفرق بين النزغ والوسوسة في الآيات (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (100) يوسف) و (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا (20) الأعراف)؟(د.فاضل السامرائى)
من حيث اللغة النزغ هو الإفساد بين الأصدقاء تحديداً، بين الإخوان، بين الناس (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ (36) فصلت) النزغ هو أن يحمل بعضهم على بعض بإفساد بينهم، هذا هو النزغ في اللغة، أن يغري بعضهم ببعض ويفسد بينهم. الوسوسة شيء آخر وهي عامة، يزين له أمر، يفعل معصية، يزين له معصية، الوسوسة عامة والنزغ خاص بأن يحمل بعضهم على بعض وأن يفسد بينهما. قال تعالى: (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (100) يوسف)، لم يقل وسوس. مع آدم وحواء لم يكن هناك خصومة بينهما لكن مع إخوة يوسف كان هناك خصومة فقد حاولوا أن يقتلوا يوسف، أفسد بينهم، أغروا به حتى أفسدوا. الوسوسة عامة لأنه يدخل فيها النزغ. هنا (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (100) يوسف) (نزغ الشيطان) الحالة الخاصة للحالة الخاصة وهذه الحالة هي هكذا بين يوسف وإخوته، هذا هو المعنى اللغوي. يقولون أصل الوسوسة الصوت الخفي ويكون مسموعاً أحياناً وأحياناً يكون غير مسموع (الذي يوسوس في صدور الناس) أحياناً لا يُسمع وإنما يبقيه الشيطان في نفس الإنسان (من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس) والصدر هو الممر إلى القلب فإذا وسوس في الصدر الشيطان يريد أن يملأ الساحة بالألغام كما يفعل الأعداء في الحرب. وقد تكون الوسوسة بالكلام المسموع، همس أو كلام خفي بينك وبين أحد بدليل أنه لما وسوس إبليس لآدم كان كلاماً باللسان (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) طه) سماها القرآن وسوسة ثم قال (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) الأعراف) قاسمهما أي حلف لهما بالله ولذلك لما رب العالمين عاتب آدم قال آدم: يا رب ما كنت أظن أحداً يحلف بك كاذباً. الوسوسة إذن تكون في الصوت المسموع أحياناً وبالصوت غير المسموع أحياناً.
سؤال: كلمة وسوس فيها هدوء وخفية وفيها تكرار مقطع (وس/وس) فهل هي مرتبطة بكلام سيئ أو خبيث؟
هكذا يبدو من استعمالها لماذا لا يظهر هذا الكلام إلا إذا كان هناك ما يريد أن يخفيه عن الآخرين؟.
سؤال: يقولون أن الشيطان حاول أن يوسوس لآدم فلم يقدر عليه ثم تحول لحواء فقدر عليها فهل هذا صحيح؟
هو أصلاً لم يذكر حواء في الوسوسة؛ إما قال (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ (120) طه) أو (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ (20) الأعراف) ما أفرد حواء. ربنا يخبرنا (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) طه) ثم قال: (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا (20) الأعراف) ما هنالك آية أفرد فيها حواء. إما أن يقول آدم أو يجمعهما معاً. حتى في قوله (فتشقى) هو الذي يكدح ولم يقل فتشقيا.
آية (22):
* خاطب تعالى آدم لوحده ومرة خاطب آدم وحواء والخطاب كان مرة واحدة بصيغ متعددة فكيف نفهم الصيغ المتعددة في الخطاب؟(د.فاضل السامرائى)
من الذي قال أن الخطاب مرة واحدة؟. ربنا قال في القرآن: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ (35) البقرة) (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) طه) هذا الخطاب غير ذاك الخطاب. (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا (123) طه) (قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً (38) البقرة) من أدراه أن الخطاب كان واحداً؟ لما قال (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا (19) الأعراف) غير (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ (22) الأعراف) هذا وقت متغير.
* ذكر تعالى في سورة الأعراف: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ (22) الأعراف) وورد (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ (35) البقرة) فما دلالة استخدام تلكما وليس تلك؟(د.فاضل السامرائى)
هذه لأنها هي قريبة وبعد المعصية لما عاتبهما قال تلكما وهي تعني واحدة ولكن المخاطب اثنان وليستا شجرتين وللجمع تلكم الشجرة. المخاطب آدم وحواء فقال تلكما.
هذه الكاف تسمى حرف خطاب فيه لغتان: الأولى تكون في المفرد المذكر أياً كان المخاطَب تقول تلك الشجرة سواء كان المخاطب واحد أو اثنين أو جمع، واللغة الثانية أن تجعل حرف الخطاب بحسب المخاطَب لو كانت امرأة نقول تلكِ الشجرة مثلما قال (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ (21) مريم) ويمكن أن نقول كذلكَ. (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ (32) القصص) برهانين اثنان (ذان) للبرهانين و(ك) للمخاطب، (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي (37) يوسف) كان يمكن أن يقول ذلك لكنه يقصد الذي قاله، (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (32) يوسف) (ذلك) إشارة ليوسف و(كُنّ) حرف خطاب للنسوة. إذن هذه الكاف هو حرف خطاب يمكن أن نجعله في حالة المذكر المفرد دائماً ويمكن أن يكون في حالة المخاطَبين
أبيني في يُمنى يديك جعلتني فأفرح أم صيّرتني في شمالك
أبيت كأني بين شقين من عصى حذار الردى أو خيفة من زيالك
تعاللت كي أشجى وما بك عِلّةٌ تريدين قتلي قد ظفرت بذلكِ
إذن تلكما الشجرة، تلك للشجرة و (كما) للمخاطَب أي لآدم وحواء.
*ورتل القرآن ترتيلاً :
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ (26)) تأمل هذا التصوير الرائع لمعنى التقوى (وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ) إنه تشبيه لملازمة تقوى الله بملازمة اللابس لثيابه وحسبك قليل من التحول لتشهد كيف تتحول تقوى الله وخشيته إلى لباس يستر عورات النفس ويزين صاحبها بكمالات الأخلاق الرفيعة كما أن بعض الجسد يستر عوراته. ولا شك أن عورات النفس أشد فظاظة ولذلك لا بد من ستر يمحو أثرها فكانت التقوى خير لباس لها.
آية (27):
* ما دلالة (حيث) في قوله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ (27) الأعراف)؟ هل تفيد الزمان أو المكان؟(د.فاضل السامرائى)
(حيث) الأصل فيها أنها للمكان، قسم يقول قد تخرج إلى الزمان، لكن هي عند جمهور النُحاة هي للمكان. وهنا هي للمكان لأن السياق هو في تحذير بني آدم من الشيطان (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) الأعراف) من باب التحذير وهنا التحذير من عدو لا يُرى يكون أخوف أن يأتيك من مكان لا تراه يكون أخوف وأشدّ. وجاء بـ (إنّ) وبالهاء التي هي احتمال ضمير الشأن، إذن هذا أنسب شيء أن يقول (مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ) أي يأتيكم من مكان وأنتم لا تبصرونه وهو عدو لكم فكيف يكون إذا جاءك عدوك من مكان لا تراه؟! لذا هي قطعاً للمكان وهي أنسب مكان للتحذير. (حيث) قسم قال قد تأتي للزمان قليلاً.
* ماذا يقصد بالسوءة؟ وما وجه الشبه بين هذه السوءة وظن السوء في سورة الفتح (12))؟(د.فاضل السامرائى)
السوءة هي العورة.
قال تعالى: (بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) الفتح) السَوْء يعني السيء، السوْء مصدر ساءه سوءاً والسُوء هو الاسم (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ (22) طه) من غير سُوء أي من غير مرض أو علة أما السوْء فهو المصدر وهناك فرق بين المصدر والاسم مثلاً نقول الذبح والذِبح، الحمل والحِمل، الوضوء والوَضوء. الحَمْل مصدر والحِمل ما يُحمل (خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) طه) يحمل على الظهر، (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ (31) الأنعام) أما الحَمل هو المصدر أو ما لا يرى بالعين (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا (189) الأعراف)، الذَبح هي عملية الذَبح أما الذِبح فهو ما يُذبح كبش أو غيره (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) الصافات)، الوُضوء عملية التوضؤ والوَضوء هو الماء الذي يُتوضأ به.
*(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ (29)) الآية مبنية على تمثيل لكمال الإقبال على عبادة الله في مواضع عبادته، كيف ذلك؟(ورتل القرآن ترتيلاً)
تخيل حال المتهيء لمشاهدة أمر عظيم حين يوجه وجهه إلى صوبه لا يلتفت يمنة ولا يسرة فذلك التوجه المحض يطلق عليه إقامة لأنه جعل الوجه قائماً لا متغاض ولا متوان في التوجّه. فتكون بذلك إقامة الوجوه تمثيلاً لكمال الإقبال على الله كأنه يراه أمامه.
آية (30):
* ما دلالة ظاهرة تذكير الفاعل المؤنث في القرآن الكريم كما جاء في كلمة الضلالة؟(د.فاضل السامرائى)
تذكير الفاعل المؤنث له أكثر من سبب وأكثر من خط في القرآن الكريم. فإذا قصدنا باللفظ المؤنّث معنى المذكّر جاز تذكيره وهو ما يُعرف بالحمل على المعنى. وقد جاء في قوله تعالى عن الضلالة: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) الأعراف) وقوله تعالى (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) النحل). ونرى أنه في كل مرة يذكر فيها الضلالة بالتذكير تكون الضلالة بمعنى العذاب لأن الكلام في الآخرة (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) الأعراف) وليس في الآخرة ضلالة بمعناها لأن الأمور كلها تنكشف في الآخرة. وعندما تكون الضلالة بالتأنيث يكون الكلام في الدنيا فلمّا كانت الضلالة بمعناها هي يؤنّث الفعل.
آية (32):
*ورتل القرآن ترتيلاً :
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ (32)) تخرج الأساليب في نظم القرآن عن حقيقتها فتأمل الاستفهام في الآية كيف خرج من معناه الحقيقي إلى الإنكار بغرض التهكم إذ جعل من حرم زينة الله على العباد جهلاً منه بمنزلة أهل علم يطلب منهم البيان والإفادة.
آية (34):
*ورتل القرآن ترتيلاً :
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)) لقد عدل الله عز وجل عن ذكر العذاب أو الاستئصال مع إرادته لذلك وذكر الأجل فقال: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) وما ذاك إلا إيقاظاً لعقولهم من أن يغرهم الإمهال فيحسبوا أن الله غير مؤاخذهم على تكذيبهم كما أنه ذكر عموم الأمم في هذا الوعيد مع أن المقصود هم المشركون من العرب الذين لم يؤمنوا إنما هي مبالغة في الإنذار والوعيد بتقريب حصوله كما حصل لغيرهم من الأمم.
(لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34)) ألا ترى أن (وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) لا تعلق له بغرض التهديد فمنتظر الوعيد يسأل التأخير لا التقديم وهذه السورة من روائع البيان القرآني. فكل ذلك مبني على تمثيل حالة الذي لا يستطيع التخلص من وعيد أو نحوه بهيئة من احتبس بمكان لا يستطيع تجاوزه إلى الأمام ولا إلى الوراء.
آية (40):
*ورتل القرآن ترتيلاً :
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ (40)) تأمل هذه الصورة القرآنية التي ترسم في خيال سامعها صورة متخيلة لفتح أبواب السماء أبواب وليس باباً واحداً وصورة متخيلة أخرى لولوج الجمل في سم الخياط وهو ثقب الإبرة. وتدب الحركة في هذه الصورة التخيلية بتخيل محاولات الجمل اليائسة المتكررة دخول ثقب الإبرة. إنها صورة جامعة لمعنى الحرمان من الخيرات الإلهية المحضة واستحالة دخولهم الجنة بعدها.
* في قوله تعالى (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) الأعراف) الجمل أحياناً تُقرأ الجُمّل بالتشديد فهل يختلف المعنى بهذه القراءة؟(د.حسام النعيمى)
هذا السؤال قديم ولعلنا تكلمنا عنه مرة بشكل سريع. أولاً كلمة الجمل في اللغة لها أكثر من معنى. فمن معانيها الحيوان المعروف (الجمل) الذي هو الناقة والإبل والبعير والجمل، هذا معنى من معانيها. ومن معانيها هو اسم لجنس سمك معيّن العرب تسميه الجمل (سمكة في البحر تسمى جملاً). ومن معانيها: الحبل الغليظ، فله ثلاثة معاني. نحن عندما نجد معاني متعددة للكلمة نحاول أن نرى العلاقة بين الألفاظ. فلما عندنا كلمة سم الخياط وهو ثقب الإبرة أو خرم الإبرة، هذا الثقب يناسبه الخيط وليس الجمل الحيوان لكن لا يمنع أن يكون المُراد هو الجمل لكن الأكثر موافقة لصورة النص هو أن يكون الحبل الغليظ أو الذي تشد به السفن يكون في غاية الغلظ. يقوّي هذا أنه نحن عندنا قراءة شاذة وذكرنا أكثر من مرة أن كلمة شاذة لا تعني أنها خطأ وإنما تعني أنه لم يكن يقرأ بها جمهور عظيم من الناس. نقول هذه قراءة مكة يعني أهل مكة جميعاً كانوا يقرأون هكذا: الجمل. ابن محيصن، أحد العلماء كان في مكة لكنه كان يقرأ بروايات من قبائل قليلة فقرأ: الجُمّل (حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ). لما نأتي إلى كلمة الجُمّل وهو سمعها من أناس سمعوها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أو نقلت إليهم أو قرأوا بين يديه فأقرّهم لكن عددهم كان قليلاً فما جُعِلت متواترة لأن المتواتر هو قراءة أمّة، جمع عظيم من الناس. فلما قرأها وهي ليست قراءة أهل مكة التي هو مقيم فيها فلم يقرّوها وجعلوه قارئاً شاذّاً وجعلوه من القُرّاء الأربعة عشر (من الأربعة الذين فوق العشرة). هذا يعطينا درساً أن أهل مكة عدّوا هذه القراءة شاذة لأنه كان يقرأ بقراءة من خارج بلدهم، حتى لا يقرأ أحدٌ في الشارقة (وأدخله النار) بالإمالة ففي البلد الذي يميل أمِل.
فما دام عندنا هذه القراءة والجُمّل له معنيان: الأول الحبل الغليظ وله معنى آخر وهو الحساب الخاص بالأرقام يسمونه حساب الجُمّل. الحساب لا شأن له هنا فإذن ما بقي إلا الحبل الغليظ. فلما يكون هناك قراءة لا تُحمل إلا وجهاً واحداً هو الحبل الغليظ وقراءة أخرى لها ثلاثة وجوه فإذن القراءة ذات الوجه الواحد تقيّد هذه الوجوه الثلاثة راجحاً ولا نقطع. لا نقول أن الذي قال الجمل مخطئ لأن العربية تحتمله بوجود هذه القراءة وهي قراءة عرب.
ما دلالة استخدام فعل يلِج؟
يلج بمعنى يدخل ولم يقل يدخل لأن الدخول قد يكون براحة أما الولوج إلى المكان ففيه شيء من التضييق في المكان. ولوج شيء في شيء يعني كأنما يكون هناك تماسّ في الولوج لذا قال يلِج وتكون الحركة قليلة. أما الدخول فالدخول يكون واسعاً. قال يلج لأنه سم خياط وعادة حتى الخيط الرفيع لا بد أن يمس الأطراف.
سمّ: هو ثَقْب الإبرة والإبرة معروفة وهي التي يُخاط بها. ومعنى الآية دلالة على استحالة دخول هؤلاء الذين هذه صفاتهم (كذّبوا بآياتنا) لاحظ ما قال كذّبوا آياتنا. (كذبوا بآياتنا) الباء التي فيها معنى التأكيد. كذّب بمعنى نسب الآيات إلى الكذب لكن كان يمكن أن يُعدّيها من غير باء يقول كذّبته أي نسبته الكذب لكن أدخل الباء إشارة إلى أنهم يريدون أن يلصقوا – لأن الباء الأصل فيها الإلصاق – وإن كان فيها معنى الزيادة والتوكيد كأنهم يريدون أن يلصقوا الكذب بالآيات إلصاقاً. يرغمون فكرة الكذب إرغاماً لتلتصق بآياتنا. هذا بذل جهد للتكذيب.
واستكبروا عنها: هذا الاستكبار والتعالي. وما قال استكبروا عليها حتى لا تكون الآيات تحتهم وإنما قال عنها، تجنبوها، وإن قال استكبروا والاستكبار استعلاء قال استكبروا عنها أي انحازوا عنها وانحرفوا عنها. الذي يبذل جهداً ويشتغل في تكذيب الآيات بنوع من الاستكبار لا تفتّح له أبواب السماء والسماء لها أبواب تحملها على الحقيقة أو على المجاز ونحن عندنا أحاديث صريحة بهذا.
آية (41):
*ورتل القرآن ترتيلاً :
(لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)) صورة جديدة متخيلة لألوان العذاب في نار جهنم فانظر كيف تنقلب الألفاظ عن حقيقتها فالمهاد والغواشي ما يفرشه الإنسان ويتغطى به عند اضطجاعه للنوم. وفي الآية تتحول هذه الوسائل المريحة إلى أدوات للعذاب فشبّه البيان الإلهي ما هو تحتهم من النار بالمهاد وما هو فوقهم منها بالغواشي كناية عن انتفاء الراحة لهم في جهنم أعاذنا الله من حسيسها. ولا يخفى ما في هذه الآية من التهكم والسخرية بأولئك الذين اتخذوا فراشاً وثيراً في الدنيا فأُبدِلوا هذا الفراش بفراش آخر ولكنه في نار جهنم.
آية (44):
* (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)) الخطاب في الآخرة بين أصحاب النار وأصحاب الجنة وعبَّر عنه بالنداء فلِمَ اختير النداء دون القول أي عندما قال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ)؟ (ورتل القرآن ترتيلاً )
إن في خطاب أصحاب الجنة لأصحاب النار بالنداء دون القول كناية عن بلوغه أسماع أصحاب النار من مسافة سحيقة البعد فإن سعة الجنة وسعة النار تقتضيان ذلك لا سيما مع قوله (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ (46) الأعراف).
آية (45):
* ما دلالة تكرار (هم) في الآية (وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) يوسف) بينما في سورة الأعراف لم يكرر (هم) (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45))؟(د.فاضل السامرائى)
نعرف الحكم النحوي لماذا التكرار؟ التكرار يفيد التوكيد. (هم كافرون) آكد من عدم ذِكر (هم). من أهم أغراض التكرار في اللغة التوكيد. إحدى الآيتين مؤكدة والأخرى ليست مؤكدة. نوضح المسألة أولاً في الأعراف (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)) من دون تكرار. لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله. نأخذ آية شبيهة بها في سورة هود (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)) كرّر (هم). لو لاحظنا الآيتين: زاد على الأولى الافتراء على الله الكذب (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا) أما في الأولى فما قال وإنما قال (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا). في سورة هود قال: (الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) زاد على الأولى الافتراء على الله الكذب وكذبوا على ربهم. إذن زاد على الصد عن سبيل الله وبغيها عوجاً الكذب على الله هل له درجة واحدة؟ كلا. لو أردنا أن نضع (هم) نضعها في المكان الذي وضعت فيه لأن هؤلاء زادوا الافتراء والكذب على الله فاستحقوا التوكيد.
نأتي إلى سورة يوسف وآيات أخرى: في سورة يوسف: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)) أيّ الأشد، الكافر أو الظالم؟ الكافر أشد لأن الظالم قد يكون مسلماً. هناك قال (الظالمين) وهنا قال (كافرون) أيهما الأولى بالتوكيد؟ الكافرون أولى فوضع (هم) مع الكافرين.
في سورة فصلت: (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)) من الأشدّ، المشرك أو الظالم؟ المشرك أشدّ فقال (وهم كافرون) إذن هو يؤكد حيث ينبغي التوكيد. أقل ما ذكر في الأعراف (وهم بالآخرة كافرون) فلم يؤكد وكل المذكور بعده أشدّ إما أن زاد الافتراء على الله فكرر وأكّد وإما أنه وصفهم بالكفر وهو أشد من الظلم ووصفهم بالشرك وهو أعظم من الكُفر. إذن وضع كل تعبير في مكانه في البلاغة. التكرار يفيد التأكيد. زيادة في الكفر بالآخرة وإلا لم يؤكّد. هم أنفسهم يؤكدون مفرهم. يعني عذا أشد كفر لأن الكفر بعضه أشد من بعض وهو ليس مرتبة واحدة فلما ذكر أموراً أشدّ أكّد الكفر وكانوا أكثر كفراً وأبعد في الكفر (هم كافرون).
آية (46):
* قال تعالى في سورة الأعراف: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ (46)) ما معنى الأعراف؟ وهل هي تشمل الرجال والنساء أو يقصد بها الرجال فقط؟(د.فاضل السامرائى)
الأعراف حجاب حاجز بين أهل الجنة وأهل النار. كلمة الأعراف أي السور المضروب بين الجنة والنار. الأعراف جمع عُرف باعتباره عالي. رجال: هو يتكلم على مسألة معينة فيها كلام، الأعراف لمن تستوي حسناته وسيئاته سواء كان رجلاً أو امرأة لكن هو الآن الكلام على رجال لا يتكلم على أهل الأعراف جميعاً وإنما الذين ينادون فالحادثة هكذا كما تخبر عن شخص في مجموعة، هذه الحادثة فيها رجال يتكلم فيها عن الرجال.
آية (51):
*ورتل القرآن ترتيلا ً:
(فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَـذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)) انظر في الآية وتدبر ألفاظها. فالنسيان في الموضعين نسيان ترك وإهمال؛ لاحظ الآية (فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ), ولا حاجة لذكر اليوم لتمام المعنى دونه ولكن الله آثر ذكر (اليوم) لما فيه من إثارة تحسرهم وندامتهم وذلك لون من ألوان العذاب النفسي. ودلّ معنى كاف التشبيه في قوله (كَمَا نَسُواْ) على أن حرمانهم من رحمة الله كان مماثلاً لإهمالهم التصديق باللقاء وهذه المماثلة مماثلة اعتبارية مماثلة جزاء العمل للعمل.
* (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ (53)) هل سمعت بالاستعاذة التهكمية؟(ورتل القرآن ترتيلا ً)
إنها لون من تفنن القرآن في تعبيره, فالآية هنا تتحدث عن انتظار الكفار لوعيدهم, فشبّه حال تمهلهم إلى الوقت الذي سيحل عليهم فيه ما أوعدهم به القرآن بحال المنتظرين وهم ليسوا بمنتظرين ذلك إذ هم جاحدون وقوعه. فهذه الصورة جرياً على الاستعارة التي أريد بها التهكم بحالهم فأنّى لهم أن يترقبوا عذاب الله. أو ينتظر الإنسان العذاب أو يفر منه؟! لكنه تهكم من جانب وإظهار لما اختبأ في صدورهم من جانب آخر.
آية (53):
*ما دلالة التذكير والتأنيث في قوله تعالى: (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ (53) الأعراف) ؟(د.فاضل السامرائى)
بحسب القاعدة النحوية المعروفة أنه جائز باعتبار أن جمع التكسير يجوز تذكيره وتأنيثه. يؤنّث الفعل عندما يكون الفاعل أكثر وإذا كان أقل يُذكّر الفعل. كذلك في قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) آل عمران) هؤلاء مجموعة من الرسل أما في قوله تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) الأعراف) المذكورون هم جميع الرسل وهم أكثر من الأولى لذا جاء الفعل مؤنثاً.
آية (54):
*ورتل القرآن ترتيلا ً:
(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا (54)) انظر كيف يخلع القرآن الحياة على المواد الجامدة والظواهر الطبيعية لترقى فتصبح حياة إنسانية ففي هذه الآية يجعل البيان القرآني الليل والنهار شخصين يفيضان حياة وحركة. وقد صور لنا الليل هنا في سمت الشخص الواعي له إرادة وقصد فها هو يطلب النهار مسرعاً مستمراً دائماً لا ينقطع حتى قيام الساعة ولكنه محال أن يلحق به فقد قال تعالى (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ (40) يس).
آية (55):
*ما الفرق بين الخيفة والخفية في القرآن الكريم؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة الأعراف: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ {205}) وقال تعالى في سورة الأعراف أيضاً: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55}). في اللغة الخفية من الخفاء (إذ نادى ربه نداء خفيا) والخيفة من الخوف. ومعنى قوله تعالى: (واذكر ربك في نفسك) أن تعلم ما تقول أي لا تذكر ربك وقلبك غافل، وتضرعاً من التضرع, والخيفة وهو بمعنى التذلل والتمسكن والمسكنة والتوسل، ودون الجهر من القول بمعنى أن تُسمع نفسك ولا ترفع صوتك، فلو ذكرت ربك بصوت غير مسموع ولكن لم تعلم ما تقول فأنت لم تذكر ربك في نفسك.
أما الخيفة فهي اسم قد تكون مصدر للهيئة كما في الحديث (إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة) أو هو المصدر أو الشيء الذي تجده في النفس كما يقال (الجُرح) هو مكان الشق الذي يسيل منه الدم و(الجَرح) هو المصدر، فإذا أردت الحدث تقول (جَرح) وكذلك الحِمل والحَمل الحمل هو المصدر والحِمل هو ما يُحمل، وكذلك الدُهن (هو الشيء) والدَهن (عملية الدهان) وكذلك (الوَقود) بمعنى الحطب الذي يوضع في النار و(الوُقود) هو الاشتعال. والخيفة يجعلونها إما اسماً مثل الدُهن والجُرح وإما أن تكون الهيئة أي الشي الذي تجده في نفسك. إذن الخفية من الخفاء والخيفة من الخوف.
آية (56):
*(إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) الأعراف) كلمة رحمة جاءت بالمؤنث وقريب بالمذكر فما اللمسة البيانية في هذا؟(د.فاضل السامرائى)
المعروف في اللغة أن كلمة قريب إذا كان القُرب للنَسَب تطابق تقول هو قريبي وهي قريبتي، هذا قريب في النسب تحديداً. وإذا لم تكن للنسب فتجوز المطابقة وعدمها قال تعالى: (لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) الأحزاب) (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) الشورى) هذه ليست للنسب. هذا أمر، والأمر الثاني من جهة أخرى رحمة الله مضاف ومضاف إليه وعندنا في باب الإضافة أن المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير والتأنيث أو غير ذلك ويضربون أمثلة (أرى مر سنين تعرقتني) (كما شرقت صدر القناة من الدم) شرقت وصدر القناة ،(إمارة العقل مكسوفٌ) لم يقل مكسوفة وإنما قال مكسوف، (مشينا كما اهتزت رماحٌ تسفّهت أعاليها مَرُّ الرياح المواسم) (مرّ) مذكر وقال تسفهت لأن الرياح مؤنث، (الليالي أسرعت في نقضي نقضن كلي) لو حذفنا الليالي يكون الكلام صحيح. لغة يجوز أن يكتسب في مواطن إذا كان المضاف جزء أو كالجزء وليس في عموم الإضافة لا نقول جاءت غلام هند، إذا كان المضاف جزء أو كالجزء أو ما يصح الاستغناء عنه. في الآية الرحمة يصح الاستغناء عنه بحيث إذا حذفنا يبقى المعنى العام واحد (إن الله قريب من المحسنين). لغوياً يجوز حتى (كل وبعض) يمكن تذكيرها وتأنيثها بحسب المضاف إليه (وما حب الديار شغفن قلبي) الحب مفرد وشغفن مؤنث وجمع (للديار وليست للحب). إذن من حيث اللغة أولاً هي ليست من باب قرابة النسب في فيجوز فيها الوجهان ثم من باب الإضافة يجوز. يبقى سبب الاختيار؛ لو قال قريبة ستكون الرحمة هي القريبة فقط لما قال قريب كسب معنيين رحمته وهو قريب (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ (186) البقرة) فذكر التذكير يشعر بقربه هو وقرب رحمته. وقال تعالى (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) الشعراء) لم يقل خاضعة جعل الخضوع للمضاف إليه (خاضعين) هذا يجوز لأن هذا جزء، الأعناق جزء من الإنسان.
إذن من الناحية النحوية يجوز ومن الناحية اللغوية يجوز ومن الناحية البيانية يجوز.
آية (57):
*ما الفرق بين كلمة ريح ورياح في القرآن الكريم؟(د.فاضل السامرائى)
كلمة ريح في القرآن الكريم تستعمل للشّر كما في قوله تعالى في سورة آل عمران: (مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {117}) .
أما كلمة الرياح فهي تستعمل في القرآن الكريم للخير كالرياح المبشّرات كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {57}).
*لماذا اختلاف صيغة الفعل في قوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {57}) الأعراف)؟(د.فاضل السامرائى)
زمن الأفعال تعبّر أحياناً عن الأحداث المستقبلية بأفعال ماضية (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73} الزمر) والأحداث الماضية بأفعال مضارعة حكاية الحال تُعبّر عن حدث ماضي بفعل مضارع كأنما نريد أن نستحضر الحدث أمامنا مثل قوله تعالى في سورة الأعراف (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {57}).
* ما دلالة وصف للسحاب في الآية (57) الأعراف ؟(د.حسام النعيمى)
كلمة السحاب وردت في تسعة مواضع والسَحاب هي بفتح السين وليس لها وجه آخر والسَحابة بفتح السين.
في سورة الأعراف أول موضع من المواضع التي وصف فيها السحاب (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)) هنا قال بشرى بين يدي رحمته، الرياح مبشرات. العربي عندما يشم رائحة الهواء يقول هذا وراءه غيث ولو بعد نصف نهار يشمّه وهذا من الخبرة والتجربة. (بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً) وصفه بالثقل أي ماؤه كثير. (سقناه لبلد ميت) لما يقول البلد ميت معناه الأرض ميتة ليس فيها نبت لكن حقيقة الحال لولا الماء والنبات الحيوان يموت والناس تموت (فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات) فيها كلام تفصيلي الآن. وصف السحاب بالثقل لأن فيه إنزال للماء وإخراج من كل الثمرات (كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون).
آية (64):
*ورتل القرآن ترتيلا ً:
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا (64)) تأمل كيف يختصر البيان الإلهي الزمن, فمع وجود الفاء في قوله (فَأَنجَيْنَاهُ) الدالة على التعقيب فأنت تعلم بأن التكذيب كان من القادة ثم العامة ثم أعقب الوحي وصناعة الفلك ثم بعد ذلك يرتب الوقائع بحسب الأهمية. إن الله أسرع في هذا الإخبار بالإنجاء وجعله مقدماً على الإخبار بالإغراق مع أن مقتضى العبرة تقديم إغراق المكذبين (فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا). قدّم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلاً لمسرّة السامعين من المؤمنين.
آية (65):
*ما دلالة الواو في قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً (65)) ؟ (د.فاضل السامرائى)
لو قرأنا قصص الرسل في الأعراف كل قصة ثم قال: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً (65)) معطوفة على (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ (59)) ثم تأتي قصة نوح ثم (وَإِلَى عَادٍ) معطوفة على (أَرْسَلْنَا نُوحًا) يعني وأرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً، أخاهم مفعول به منصوبة. نقول (وإلى عاد) هذ الواو واو العطف ثم قال (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا (73)) تكلم على عاد وما فيها ثم قال (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا (73)).
* (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)الأعراف) (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) التوبة) كيف ينساهم الله تعالى؟(د.حسام النعيمى)
أحياناً نحن نأخذ الكلمة على معنى واحد من معانيها ونتحيّر فيها بمعنى أنه نحن نفهم النسيان نسيت هذا الأمر بمعنى غاب عن ذاكرتي وهذا ليس معنى النسيان في لغة العرب دائماً وله دلالة أخرى وهي الترك والإهمال. لما تقول نسيت هذا الأمر بمعنى أهملته. (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا) هم لم يكونوا متذكرين للقاء هذا اليوم حتى ينسوه وإنما كانوا منكرين له مهملين له. هل نسوا يوم القيامة؟ أم كانوا غير مكترثين به؟ فالنسيان هنا جاء بمعنى عدم الاكتراث والعبء بالشيء. طبعاً هناك مقابلة : نسيتم- ننساكم، ننساهم – كما نسوا، نسيتها- تُنسى، نوع من المقابلة اللفظية. نسيتها أي أهملتها فاليوم تُهمل من رحمة الله عز وجل يعني لا تنالك رحمة الله عز وجل لأنه (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) بمعنى الغفلة عن الشيء لكن هنا النسيان بمعنى ترك الشيء وإهمال الشيء أنه يهمل واليوم تُنسى يعنى تُهمَل. السياق هو الذي يعين على فهم المعنى. القرينة السياقية المعنوية في الحقيقة أن الله تعالى لا يغيب عنه شيء فلا يُنسب له النسيان الذي نتخيله للوهلة الأولى أنه غفل عن الشيء، كلا. ليس في السياق الموجود فقط ولكن للقرينة المعنوية أيضاً . كلمة النسيان التي بمعنى الغفلة لا تُنسب لله سبحانه وتعالى نأخذها من المعنى أن الله عز وجل لا يُنسب له الغفلة لقوله سبحانه وتعالى (في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى). لكن من المعنى: أنت تقول مثلاً: بنى الأمير المدينة الفلانية فهل تفهم منها أنه ذهب بنفسه ووضع الحجر أو أمر ببنائها؟ أمر ببنائها. من أين فهمنا هذا المعنى؟ السياق ليس فيه أن الأمير بنى المدينة. من السياق والفكر والعلم يحملك على القول أنه ليس هو الذي قام عملياً بالبناء وإنما أمر به. فلما تأتي (فاليوم ننساهم) الله سبحانه وتعالى لا يضل ولا ينسى فلا ينسب له النسيان. وثانياً من اللفظ نفسه : هم لم ينسوا لقاء يوم القيامة وإنما ما أعدّوا له عدة ولم يكترثوا به. لا يقول أحد نسوه هم لم يتذكروه حتى نسوا وإنما ما أعدوا له العدة. قال تعالى (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى) هو لما خوطب بآيات الله تعالى ابتداءً أهملها ولم يلق لها بالاً فإذن اليوم تُنسى في نفس النمط أي لا يلقى لك بالاً، وليس أن هناك تعارض بين الآيات وهذا كلام عربي يفهمه العربي ومتعلّم العربية يفهمه أيضاً.
آية (68):
*لماذا جاءت (ناصح) باسم الفاعل(وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) الأعراف)مع أنها جاءت بعدها بصيغة الفعل ؟(د.حسام النعيمى)
لو تأملنا الآية، النظر في كلام الله سبحانه وتعالى يُظهر أو يبين عِلل الاختيار. في الآية الأولى (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62)) هذه مع نوح (عليه السلام) (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)) فاستعمل الفعل (أنصح) وبالاستمرارية أي بالفعل المضارع الذي فيه معنى التجدد والاستمرار لأنه مستمر في نُصحهم.
الآية الأخرى في السورة نفسها عن هود (عليه السلام) (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)) استعمل اسم الفاعل (ناصح). علماؤنا هنا يقولون هناك فرق بين التُهمتين: التهمة الأولى الضلال اتهموا نوحاً بأنه في ضلال، ضالّ والضلال هو التيه ضال أي تائه أي بعيد عن الصواب، بعيد عن الحق، بعيد عما هو عليه آباؤنا والضلال وصف غير ثابت يتغير بسرعة، تقول للإنسان مثلاً هذا طريق ضلال انحرف إلى هنا تحوّل إلى هنا فيتحول ليس فيه هذا التشبث أو التمسك لما يكون ضال في الطريق أنت في أفكارك أنت ضال تحول إلى أفكارنا عد إلى عبادة ما نعبد والأمر سهل بدل أن تعبد ربك اعبد أصنامنا فأنت في ضلال يمكن أن يتغير فلما كان الأمر يتعلق بشيء سهل التغيير استعمل الفعل في الرد عليه لما كانت التهمة تتعلق بفعل استُعمِل الفعل في الجواب عنه لكن لما كان الأمر يتعلق بشيء يكاد يكون ثابتاً في الإنسان وهو السفاهة، الإنسان السفيه هذه خِلقة، السفاهة نوع من الحمق.
لكل داء دواء يستطب له إلا الحماقة أعييت من يداويها
ومن معنى السفاهة الحمق ورجعت إلى لسان العرب السفه في الأصل الخِفّة والطيش والسفيه الجاهل والساذج الأحمق. الضلال أمر طارئ يمكن أن يتحول عنه أما السفه يمكن أن يتحول عنه لكن بمدة طويلة يكاد يكون بهذا الشكل فلما كان الأمر يتعلق باتهام ثابت يكاد يكون ثابتاً احتاج لنفيه أن يستعمل اسم الفاعل الذي هو دال على الثبات. الكوفيون يسمون اسم الفاعل الفعل الدائم لأن فيه معنى الدوام فاستعمل النصح الثابت في مقابل التهمة الثابتة واستعمل النصح المتغير المتطور في مقابل الصفة المتغيرة المتحولة العارضة فهناك مناسبة في استعمال هذا اللفظ ولذلك العلماء ناصح لا تستقيم في المكان السابق وكلمة أنصح لا تستقيم في هذا المكان. في دقة التعبير لا تستقيم لأن هناك لما استعملوا الشيء العارض ينبغي أن تجيبهم بشيء عارض وهنا لما استعملوا الشيء الثابت ينبغي أن تجيبهم بشيء ثابت (أنصح) فيه تجدد واستمرار لكن فيه نوع من التحول والتغير ليس فيه هذا الثبات، ناصح تقابل السفاهة اتهامه بالسفه ولم يكتف بهذا (كلمة ناصح) وإنما الجملة الأخيرة في الآية (وأنا) يريد أن يزيل عن نفسه هذه التهمة، لاصقة هذه السفاهة وإنما قال: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (نفس اللفظة التي قيلت عن نوح ولكن زاد عليها (وأنا) استعمال المتكلم (لكم) وليس لغيركم كأنه تخصيص (وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) نوع من التأكيد باستعمال الجملة الاسمية واستعمال ضمير المتكلم ومجيء هذه اللام التي هي للإيصال يعني أنا لكم، لأجلكم، أنا من أجلكم، هذا اللفظ يناسب ما تقدم وذلك اللفظ يناسب ما تقدم.
الآية 79 (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) والآية 93 (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ) الكلام فيهما بصيغة الماضي فلا موضع لاسم الفاعل فيهما ولذا فهما ليسا مما يقابل الآية 68.
* (قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا (70)) لعل سائلاً يسأل ألا يصح أن يكتفي بقوله “ونذر ما يعبد آباؤنا” دون (كان)؟( ورتل القرآن ترتيلا ً)
وكيف يمكن الجمع بين الماضي والحاضر في الآية؟ لتدل على أن عبادتهم أمر قديم مضت عليه العصور. والتعبير بالفعل كونه مضارعاً في قوله (نعْبُدُ) ليدل على أن ذلك متكرر من آبائهم ومتجدد منهم.
آية (70):
* ما الفرق بين نزّل وأنزل؟(د.فاضل السامرائى)
هذا يستدعي أن ننظر في الفرق بين أنزل ونزل وبين إليك وعليك. أنزل ونزّل قسم غير قليل يفرق بينهما أنه نزّل تفيد التدرج والتكرار وأنزل عامة ويستدلون بقوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (3) آل عمران) وقالوا لأن القرآن نزل منجماً مفرقاً والتوراة والإنجيل أنزلتا جملة واحدة فقال أنزل. ردوا التدرج بقوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (32) الفرقان)لأن أنزل عامة سواء كان متدرجاً أو غير متدرجاً، كلمة أنزل لا تختص بالتدرج ولا بدون تدرج. السؤال يقولون الإنزال عام لا يخص التدرج أو غير التدرج لكن التنزيل هو الذي يخص التدرج، نزّل الذي فيه التدرج (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) القدر) أنزلناه من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة، هناك مراحل لنزول القرآن الكريم من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل منجماً. ردوا التدرج في نزّل التدرج في نزّل وقالوا (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (32) الفرقان) هذا ليس فيه تدريج (لولا هنا من حروف التحضيض). لكن الذي يبدو أن الفرق بين نزّل وأنزل أنه نزّل تفيد الاهتمام نظير وصى وأوصى وكرّم وأكرم ففي المواطن التي فيها توكيد واهتمام بالسياق يأتي بـ (نزّل) والتي دونها يأتي بـ (أنزل). نضرب أمثلة: قال تعالى في الأعراف: (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)) وقال في يوسف: (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40)) وقال في النجم (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)). ننظر السياق في الأعراف فيها محاورة شديدة حيث قال (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)) فيها تهديد، كلام شديد من أولئك كيف تتركنا نترك آلهتنا ونعبد الله فقال (نزّل). في سورة يوسف قال تعالى (مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40)) لم يردّ عليه السجينان وليس فيها تهديد إذن الموقف يختلف عن آية سورة الأعراف فقال أنزل. في النجم (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)) لم يردّوا عليه ولم يكن هنالك محاورة ولا تهديد، إذن الأشد (نزّل)، هذا أمر. إذن نزّل آكد وأقوى في موطن الاهتمام أشد من أنزل.
آية (71):
*ورتل القرآن ترتيلا ً:
(قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ (71)) تأمل التقديم والتأخير في الآية، فكلاهما يدل على بلاغة كلام الله تعالى. فقدّم (عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) للاهتمام بتعجيل ذكر المغضوب والغاضب إيقاظاً لبصائرهم لعلهم يبادرون بالتوبة. وأخر الغضب عن الرجس لأن الرجس هو خبث نفوسهم قد دلّ على أن الله فطرهم على خبث بحيث كان استمرارهم على الضلال أمراً جلياً. فدل ذلك على أن الله غضب عليهم لما وقع منهم من فسق ورجس. وقبل ذلك كله تجيء كلمة (قد) لتؤذن بتقريب زمن الماضي من الحال مثل قولك (قد قامت الصلاة).
آية (79):
* (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي (79) الأعراف) بالإفراد وفي الآية (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)) (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي (62)) (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي (93)) بالجمع فما دلالة الإفراد في الأولى والجمع في الثانية؟ (د.فاضل السامرائى)
رسالة مفرد ورسالات جمع. نقرأ القصتين وننظر: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)) تكلم عن الآية إلى أن قال (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)). في قصة مدين وشعيب (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) نفس النص الذي قاله صالح لقومه (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)) إلى أن قال: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)). صالح لم يقل إلا عبارة واحدة (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وجاء بالناقة فقط، أما شعيب فقال الآية نفسها (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) ثم (فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا) هذه رسالات وليست رسالة واحدة، أما هناك أمر واحد. لا بد أن تكون هناك مجانسة بين الكلمات ومقتضى الحال ولا تقال الكلمات هكذا ولا يمكن أن يقال في قوم صالح رسالات.
* لماذا جاء في سورة الأعراف قوله تعالى: (وأبلغكم رسالة ربي) في قصة سيدنا لوط وجاءت (وأبلغكم رسالات ربي) مع باقي الرسل وجاءت (حقيق على أن لا أقول) في قصة موسى عليه السلام؟(د.حسام النعيمى)
نلاحظ الآية الأولى في قصة صالح (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)) جاءت(رسالة) بالإفراد نجد أن الكلام في قوله تعالى (هذه ناقة الله لكم آية) إذن هناك معجزة وهي الناقة (فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم) إذن هذا تحذير: رسالة الله عز وجل بشأن هذه الناقة إلى قوم صالح أنه إذا مسستموها بسوء سيأخذكم عذاب أليم. إذن الكلام ليس عن الرسالة التي هي الشريعة والدين وإنما على المعجزة أن هذا المخلوق لا تمسوه بسوء. المقصود بالرسالة هو التحذير من قتل الناقة هذه هي الرسالة (أحذّركم من أن تقتلوا الناقة) هم قتلوها فإذن وقع عليهم العذاب. إذن هي ليست الرسالة السماوية ولو كانت الرسالة السماوية سيقول رسالات كما جاءت عند الأنبياء الآخرين بمعنى مفردات الأوامر والنواهي لأن كل أمر هو رسالة. أما هنا القضية تتعلق برسالة واحدة بقضية واحدة: عدم قتل الناقة، (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)) مسألة واضحة: حذّرتكم ونصحت لكم ألا تتعرضوا لها بسوء إذن هذه هي الرسالة.
لكن لما ننتقل إلى بقية الرسالات وبقية ذكر الرسل الآخرين: الآيات على ألسنة أنبياء: الأولى على لسان نوح ، هم قالوا (قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)) فقال (قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)) أي هذه الجزئيات، والثاني على لسان هود (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)) والثالثة على لسان شعيب (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)). عندما يستعمل كلمة رسالات يعني الدين أو الشريعة بهذه الجزئيات المتعددة والمتفرقة. والرسالة كانت لقضية واحدة لتحذير واحد.
ورد على لسان موسى (عليه السلام) (حقيقٌ علي) الكلام على لسان موسى (عليه السلام) (فيها قراءتان: حقيقٌ عليّ وهذه قراءة سبعية، وحقيقٌ على أن لا أقول هذه قراءة جمهور القرّاء) الكلام من موسى إلى فرعون (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)) عاش موسى عليه السلام في بيت فرعون مدة طويلة وفرعون كان يقول لهم (ما أريكم إلا ما أرى) و (أنا ربكم الأعلى), هؤلاء حوله يقولون ما قاله وهو من صغره لم يكن يعلم هذه المقولة ولكنها قيلت له. فرعون يعلم أنه ليس ربّاً ولأنه لا يملك أن يصنع شيئاً كما يفعله الربّ سبحانه وتعالى فيعلم أن من حوله يكذبون وموسى(عليه السلام) يعلم أن من حول فرعون زمرة تعيش بالكذب على هذا المسؤول يكذبون عليه. فرعون يتعامل مع السحرة ويعلم أنهم يكذبون وموسى يعلم أنهم يكذبون. لما نأتي إلى قوله تعالى(إن هذا لمكر مكرتموه), وفي قوله تعالى في سورة الشعراءك (إنه لكبيركم الذي علمكم السحرة) فرعون يعلم أن موسى ليس كبير السحرة فموسى نشأ في بيت فرعون لكنه هو أيضاً يكذب لكنه يريد أن يشيع كلمة يخرج بها إلى الناس أنه حدث مؤامرة على فرعون: كبير السحرة موسى والسحرة تلامذته خدعوا فرعون ولذلك سيقتص منهم. موسى يعلم أن هذا الرجل محاط بكذابين ويعتقد أن كل من يكلمه كذاب لذلك لا بد أن ينبهه (حقيق) بمعنى جدير وخليق بي أن لا أقول على الله إلا الحق فاعلم أني إنسان صادق لست كالذين يكذبون عليك فكان من الضروري أن ينبههم إلى أنه هو إنسان صادق ليس كهؤلاء الذين يحيطون به. فالقضية هنا ليست قضية إني جئت مرسلاً وإنما صادق في قولي ورسول من رب العالمين. ولاحظ رسالة موسى (عليه السلام) كم هي محدودة ولذلك هم إلى الآن لا يرضون أن يدخل أحد في دينهم وكذلك رسالة عيسى (عليه السلام) (إنما جئت لهداية الخِراف الضالة من بني إسرائيل) فرسالته محصورة ببني إسرائيل ثم هم أخرجوه. الرسالة العالمية الوحيدة هي رسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) فكل رسالة موسى عليه السلام(أن أرسل معي بني إسرائيل) فقط.
آية (83):
*ما الفرق بين قوله تعالى في امرأة لوط (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) الحجر) (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) النمل) (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) الأعراف)؟ (د.حسام النعيمى)
في قوله تعالى في سورة الحجر الكلام كان على لسان الملائكة: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)) ضيف إبراهيم الملائكة (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)) الجو العام جو وجل وخوف من إبراهيم وتشكك هو ليس شاكاً في الله سبحانه وتعالى ولكن الجو الذي جاء فيه الملائكة كان في وجل ورهبة، قالوا (قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)) قال: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)) إذن عنده نوع من التشكك. إذن مسألة وجل وتشكك. (قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)) لا تيأس من رحمة الله (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)) (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)) لاحظ التأكيدات هو يحتاج لمؤكدات لأنه وجل وشاك من الملائكة. (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)) تأكيد بإنّ وباللام. كلام الملائكة لاحظ كلمة(قدرنا) هم لا يقدرون ولكن لأنهم وسيلة تنفيذ قدر الله سبحانه وتعالى رخصوا لأنفسهم أن يقولوا قدرنا ولكن ما قالوا قدرناها لم يربطوا الضمير بالتقدير، بأنفسهم لذلك أبعدوها مع وجود إنّ المؤكدة. فإذن كلام الملائكة يحتاج إلى تأكيد وابتعد ضمير المفعول به في الأصل. الأصل هي قدرنا لكن أدخلوا إنّ فأبعدوها عن التقدير.
الآية الثانية هي من كلام الله سبحانه وتعالى المباشر في سورة النمل (فما كان جواب قومه فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) النمل) (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) خبر، (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ) ما قال قدرنا إنها ، ما أبعدها وما احتاج إلى تأكيدات لأن الله سبحانه وتعالى يخبرنا بأمر: بأن قوم لوط أجابوا بهذه الإجابة فالله سبحانه وتعالى أنجاه وأهله إلا امرأته قدرها رب العزة من الغابرين. وأُنظر كيف ربط الضمير بالفعل مباشرة ما أبعده (قدرناها) لأن هذا قدره سبحانه وتعالى فما احتاج إلى إبعاده. الغابرين قالوا بمعنى الباقين الهالكين الذين بقوا في الهلاك. نهاية الآية تفسر لنا كلمة كانت. لما قال: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) ) انتهى الكلام على ذكر الأمم، كان آخر شيء في ذكر الأمم يعني لم تكن هناك حكاية ورواية لأمور وإنما رواية لهذه المسألة. النهاية كانت (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)) لم يذكر أمة أخرى وراءها. هو لا يتحدث حديثاً تاريخياً متواصلاً وإنما انقطع الكلام هنا.
لما ننظر في الآية الثالثة أيضاً (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) الأعراف). الله سبحانه وتعالى يحكي لنا ما حدث (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)) هناك قدرناها من الغابرين وانتهى الكلام على الأمم. لكن هنا الكلام كأنه كلام تاريخي والكلام التاريخي يصلح معه (كان) لأن ذكر أشياء رواية فقال (فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) ) استعمل (كان) ثم قال (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) الآيات مستمرة في الحديث عن جانب تاريخي وعندما يكون الكلام عن جانب تاريخي يستعمل (كان) لما يكون حديث تاريخي وإنما قدر الله عز وجل يستعمل كلمة قدرنا والله سبحانه وتعالى أعلم.
آية (85):
* لماذا ترد أحيانا( أَخَاهُمْ ) مع شعيب عليه السلام وأحيانا لا ترد ؟(د.حسام النعيمى)
مراجعة الآيات توصلنا إلى شيء أنه حيثما ذُكِرت الرسالة وأن شعيباً مرسل إلى قومه يقول أخوهم. يذكر الأخوّة عندما يتحدث عن الرسالة كأنما فيها إشارة إلى أن واجبه معهم ورعايته لهم هو أخوهم يريد لهم الخير. وإذا لم يذكر الرسالة لا يقل أخوهم. لاحظ الآيات هذه القاعدة العامة حيثما ذكر الإرسال قال (أخاهم) وفي غير ذلك ذكر الاسم مجرّداً.
الإرسال ذُكِر في ثلاثة مواضع كما ذكره محمد فؤاد عبد الباقي (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم):
– (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) الأعراف).
– (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) هود).
– (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) العنكبوت) .
وفي ثمانية مواضع لم يُذكر الإرسال فذكر الاسم مجرّداً:
– (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) الأعراف).
– (وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) الأعراف).
– (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) الأعراف).
– (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) هود).
– (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) هود).
– (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) هود).
– (إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) الشعراء).
ليس في هذه المواضع كلام عن الرسالة فهنا هذه الآيات الثماني ليس فيها ذكر للرسالة فليس فيها ذكر للأخوّة وهذا مضطرد في القرآن. لما نجد شيئاً مضطرداً وهو يتنزل منجماً فهذا من دلائل النبوة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
آية (96):
* ما اللمسة البيانية في قول “فتح الله لك” وليس “فتح الله عليك”؟(د.فاضل السامرائى)
يقال فتح لك وفتح عليك لكن فتح عليك يكون من فوق قد يكون في الخير والشر (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) الحجر) (حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) المؤمنون) (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ (96) الأعراف) (قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (76) البقرة) إذن فتح الله عليك تأتي في الخير والشر لكن تأتي من فوق.
آية (97):
* ما الفرق بين الفاء والواو في بعض آيات القرآن العاطفة (الأعراف 97، 98، 99، 100)؟(د.فاضل السامرائى)
الفاء كما هو معلوم للتعقيب مع السبب، التعقيب أي يأتي بعدها مباشرة، في عقب الشيء. أما الواو فهي لمطلق الجمع ولا يدل على ترتيب أو تعقيب (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) الشورى). الفاء تفيد التعقيب وتأتي للسبب، سببية درس فنجح، الواو ليس فيها سبب. هذه أحد الأسباب درس فنجح. الآية التي ذكرها السائل (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) الأعراف) جاء بالفاء، نلاحظ قبلها قال (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96) الأعراف) أفأمن أهل القرى هذا سبب ولما قال (فأخذناهم) ينبغي أن لا يأمن الإنسان للظالم. الآية بعدها عطف (أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) الأعراف) هذا عطف على سبب وليست الأولى سبباً للثانية، هذا أمر آخر مثلاً تقول لقد رأيت ما فعلت بفلان أفلا تتعظ؟ هذا سبب يدعوك للاتعاظ. لقد رأيت ما فعلت بفلان أفلا تتعظ أولا ترعو؟ هذا أمر آخر. بعد أن تأتي (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) الأعراف) هذا على مجموع الأمرين السابقين. (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100) الأعراف) ليس فيها تعقيب فجاء بالواو. الفاء تدل على التعقيب والترتيب والسبب فإذا كان ما قبلها سبب لما بعدها يؤتى بالفاء وإذا كان مجر العطف مطلقاً يأتي بالواو.
آية (101):
* ما الفرق بين نسبة الرسل إلى الله تعالى في الآية (وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ (32) المائدة) ونسبتهم إليهم في الآية (وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ (101) الأعراف)؟(د.فاضل السامرائى)
لما يذكر الأحكام التي تأتي عن الله تعالى يقول رسلنا ولما يتكلم بما يتعلق بموقف القرى من الرسل وما أصابهم من سوء يقول رسلهم. مثال (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) المائدة) هذه جاءت عن الله تعالى وذكر فيها أحكام. (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) الأعراف) يتكلم عن موقف القوم من الرسل وكان عليهم أن ينتفعوا بالرسل. هم في الحالتين رسل لكن لما يتكلم عما جاء به عن الله تعالى يقول رسلنا ولما يذكر موقفهم وما أصابهم وكان يمكن الانتفاع بهم يذكر رسلهم أي جماعتهم.
آية (107):
* ورد في القرآن الكريم ذكر عصى موسى عليه السلام بأوصاف مختلفة مرة جان ومرة ثعبان ومرة حية فما الفرق بينها؟ (د.فاضل السامرائى)
المعنى اللغوي للكلمات: الجان هي الحية السريعة الحركة تتلوى بسرعة، الثعبان هو الحية الطويلة الضخمة الذَّكَر، الحية عامة تشمل الصغيرة والكبيرة فالثعبان حية والجان حية. الحية عامة تطلق على الجميع أما الثعبان فهو الذكر الضخم الطويل والجان هو الحية سريعة الحركة. ننظر كيف استعملها؟
كلمة ثعبان لم يستعملها إلا أمام فرعون في مكانين (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) الأعراف) (فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) الشعراء) وذلك لإخافة فرعون ثعبان ضخم يُدخل الرهبة في قلبه فذكر الثعبان فقط أمام فرعون.
كلمة الجان ذكرها في موطن خوف موسى (عليه السلام) في القصص (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)) وفي النمل (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)) تتلوى وهي عصا واختيار كلمة جان في مقام الخوف (يَا مُوسَى لَا تَخَفْ) في القصص (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) عصا يلقيها تكون جان واختيار كلمة جان والإنسان يخاف من الجان والخوف والفزع. الجان دلالة الحركة السريعة، عصاه تهتز بسرعة. الجان يخيف أكثر من الثعبان فمع الخوف استعمل كلمة جان وسمي جان لأنه يستتر بمقابل الإنس (الإنس للظهور والجن للستر) هذا من حيث اللغة.
سؤال: كيف رآها وفيها معنى الاستتار؟
قد يظهر الجان بشكل أو يتشكل بشكل كما حدث مع أبو هريرة، قد يظهر الجان بشكل من الأشكال. كلمة (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) إضافة إلى أنها حية صغيرة تتلوى بسرعة إضافة إلى إيحائها اللغوي يُدخل الفزع لذلك استعملها في مكان (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ). كلمة ثعبان أو حية لا تعطي هذه الدلالة. أناس كثيرون يمسكون الحية أو الثعبان ويقتلونها وفي الهند يمسكون بالثعبان. كل كلمة جعلها تعالى في مكانها.
الحية جاءت في مكان واحد لبيان قدرة الله تعالى: (فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) طه) لم يقل أن موسى هرب أو فزع. ذكر ثعبان مع فرعون لأنه مخيف وذكر جان مع موسى لأنها تدخل الرعب على قلب موسى. ذكر ثعبان مرتين أمام فرعون وجان مرتين أمام موسى.
سؤال: لماذا لم يذكر جان مع فرعون؟
لأنه مع الملأ الموجودين إذا كانوا مئات وتأتي بجان واحد ماذا يؤثر؟ لذا اختار ثعبان لأنه يحتاج إلى ضخامة وقوة.
آية (111):
* ما دلالة التقديم والتأخير في (رب موسى وهارون) و (رب هارون وموسى)؟(د.فاضل السامرائى)
ننظر الآيتين: في سورة طه: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)) في الشعراء والأعراف قال (رب موسى وهارون). لو نلاحظ ذكر هارون تكرر كثيراً في سورة طه وجعله تعالى شريكاً في تبليغ الدعوة أما في الشعراء فلم يذكر هارون إلا قليلاً, في طه قال (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)) وخطاب فرعون كان موجهاً لهما معاً (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)) (قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) بينما في الشعراء (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)) (قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ (15)) وينتهي ولم يرد بعدها ذكر هارون ثم الخطاب من فرعون موجه لموسى وحده وهارون ليس له دور كبير في الشعراء وإنما الكلام كان بين موسى وفرعون وقال (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)) في الشعراء التركيز على موسى أما في طه فالتركيز مسترك وفي طه ذكر خوف موسى لما ألقى السحرة (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (67) طه) ولم يذكر خوف هارون فقدم هارون. بينما في الشعراء الكلام كله لموسى ولم يذكر الخوف فقدم موسى وفي الأعراف لم يرد ذكر لهارون إلا في قوله (قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (111)) فقط فلا يستوي أن يقدم هارون في الأعراف والشعراء. إذن مسألة التقديم والتأخير تراعي سياق الحال الذي يتكلم عنه القرآن الكريم.
* ما الفرق بين البعث والإرسال (وأرسل في المدائن حاشرين) الأعراف و (وابعث في المدائن حاشرين) الشعراء؟
*د.فاضل السامرائى :
بعث فيه معنى الإرسال تقول بعثت شخصاً فيه معنى الإرسال لكن في بعث أيضاً معاني غير الإرسال. الإرسال أن ترسل رسولاً تحمّله رسالة لطرف آخر. البعث قد يكون فيه إرسال وفيه معاني أخرى غير الإرسال أي فيه إرسال وزيادة. تبعث بارِك أي الجمل، تبعث الموتى ليس بمعنى إرسال ولكن يقيمهم، فيه إثارة وإقامتهم (إن للفتنة بعثات) أي إثارات، فيها تهييج. (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا (247) البقرة) أي أقامه منكم. ولذلك عموماً أن البعث يستعمل فيما هو أشد. نضرب مثالاً: (قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) الشعراء) و (قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (111) الأعراف) والقصة قصة موسى في الحالتين: الملأ يقولون لفرعون وابعث في المدائن وأرسل في المدائن. ننظر لتكملة كل آي من الآيتين (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) الشعراء) صيغة مبالغة والثانية (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) الأعراف) ليس فيها مبالغة ساحر ليس فيها مبالغة بينما سحار فيها مبالغة لأنه في الشعراء المحاجة أشد مما كانت في الأعراف. لو قرأنا قصة موسى وفرعون في الشعراء المواجهة أشد من الأعراف وفرعون كان غاضباً فقالوا وابعث في المدائن أنت أرسل وأقم من المدينة من يهيّج عليه أيضاً هذا معنى (ابعث) هذا البعث، أن تبعث أي تهيّج، تقيم لذا قال بعدها (بكل سحار عليم) ولما قال أرسل قال (بكل ساحر عليم). فالبعث هو أشد وفيه حركة أما الإرسال فلا، فالبعث هو الإرسال وزيادة ولهذا قال تعالى (فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) الإسراء)) فيه قوة وقسوة وعمل.
آية (113):
*ما الفرق بين (وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) الأعراف) و (فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) الشعراء)؟(د.فاضل السامرائى)
أتمنى أن نأخذ القصتين في الشعراء والأعراف في حلقة خاصة لأن فيها أكثر من سؤال واختلاف. لكن الآن نجيب أنه إذا رجعنا إلى القصة في السورتين:
الأعراف الشعراء
في الأعراف ذكر أن ملأ فرعون هم الذين قالوا أن موسى ساحر (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)) في الشعراء تتسم القصة بسمتين بارزتين أولها التفصيل في سرد الأحداث والآخر قوة المواجهة والتحدي لأن موسى أمام فرعون (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) الشعراء).
في الشعراء فرعون هو الذي قال وليس الملأ (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)) لأن الكلام كان شديداً بينه وبين موسى. في الشعراء ناسب أن يواجهوا فرعون بالقول لأن هو الذي قال.
في الأعراف قال: (وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)) لم يقل قالوا لفرعون لأن المتكلم كان الملأ لأن القائل الأول ليس فرعون. وفي الشعراء قالوا: (فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)).
إن لنا لأجراً استفهام لكن لم يذكروا همزة الاستفهام.
الفرق بين (إن) وأئن، أئن استفهام مضمر (هل تذهب؟) أحياناً حرف الاستفهام يضمر ولا يذكر لكن يفهم من السياق تذهب معي؟ أصلها أتذهب معي؟. في الشعراء قالوا لفرعون: (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)) لم يقولوا إن زيادة في التوكيد وزيادة في سرد الأحداث لما كان التفصيل أكثر قال (أئن). الوضع فيه شدة وحدة وتفصيل أكثر والاستفهام أدل على هذا الأمر وصرحوا بالهمزة (أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ).
حتى في الجواب قال في الأعراف: (قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)) وفي الشعراء قال: (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)) أضاف إذن لأن الموقف مختلف يريد أن ينتصر وكان الكلام شديداً مع موسى ولا يمكن أن يواجهه الحجة.
في الأعراف ما أقسموا بعزة فرعون لأن فرعون في مأزق في المناقشة وصار عصبياً فأقسموا بعزة فرعون ولم يقسموا في الأعراف. ونحتاج للنظر في السورتين بتفصيل.
في الشعراء أقسموا بعزة فرعون (فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44))
سؤال: ألا يجعل هذا قائلاً يقول أن هذا يدل على تناقض في القصة الواحدة؟
التناقض هو أن تذكر أمراً مخالفاً للآخر لكن أن توجر في ذكر الأحداث أو تفصّل هذا ليس تناقضاً. إذا سافرت وعدت تذكر بالتفصيل ماذا حصل معك وتذكر الأشخاص وأحياناً تذكر أنك سافرت يوماً وعدت. هذا ليس تناقضاً والقرآن مرة يستعمل الإجمال ومرة التفصيل. في قصة إبراهيم قال في موضع (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ (69) هود) (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (25) الذاريات) وفي موضع آخر لم يذكر سلام (إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) الحجر) لكنه لم يقل أنه لم يرحب بهم.
آية (114):
*ما الفرق بين (قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {114}) الأعراف و (قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {42}) الشعراء ؟(د.فاضل السامرائى)
الآيتين في سياق قصة موسى عليه السلام وهناك جملة اختلافات في التعبير في القصة. في سورة الأعراف تبدأ القصة بأحداث طويلة ممتدة من مجيء موسى (عليه السلام) إلى فرعون وحتى نهاية فرعون وفيها كلام طويل عن بني إسرائيل. أما في سورة الشعراء فالقصة تأخذ جانب من مقابلة موسى وفرعون وينتهي بنهاية فرعون. وفي كل قصة اختار التعبيرات المناسبة لكا منها. ونلاحظ أنه في سورة التفصيل في سرد الأحداث في سورة الشعراء أكثر والمواجهة والتحدي بين موسى وفرعون في الشعراء أكثر. وعليه فقد انطبعت كل التعبيرات بناء على هذين الأمرين.
في سورة الأعراف إذا استعرضنا الآيات (ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {103} وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ {104} حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ {105} قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {106} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ {107} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ {108} قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {109} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {110} قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ {111} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ {112} وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ {113} قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {114} قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ {115} قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ {116} وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {117} فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ {118} فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ {119} وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {120} قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ {121} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {122} قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ {123} لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ {124} قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ {125} وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ {126})
وإذا استعرضنا الآيات في سورة الشعراء (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {10} قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ {11} قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ {12} وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ {13} وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ {14} قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ {15} فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ {16} أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ {17} قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ {18} وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ {19} قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ {20} فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ {21} وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ {22} قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ {23} قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ {24} قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ {25} قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ {26} قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ {27} قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ {28} قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ {29} قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ {30} قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ {31} فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ {32} وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ {33} قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {34} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {35} قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {36} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ {37} فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ {38} وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ {39} لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ {40} فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ {41} قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ {42} قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ {43} فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ {44} فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ {45} فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ {46} قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ {47} رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ {48} قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ {49} قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ {50} إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ {51})
نلاحظ أن التفصيل في سورة الشعراء أكثر وحصلت محاورة بين موسى (عليه السلام) وفرعون أما في الأعراف فلم يرد ذلك. وفي الشعراء هدد فرعون موسى (عليه السلام) بالسجن. ونلخّص الفرق بين الآيتين من الناحية التعبيرية:
سورة الأعراف سورة الشعراء
قال الملأ من قوم فرعون (قول الملأ) قال للملأ من قومه (قول فرعون)
يريد أن يخرجكم من أرضكم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره
وأرسل في المدائن حاشرين وابعث في المدائن حاشرين
يأتوك بكل ساحر عليم يأتوك بكل سحّار عليم
قالوا قالوا لفرعون
وإنكم لمن المقربين وإنكم إذاً لمن المقربين
وألقي السحرة ساجدين فألقي السحرة ساجدين
فسوف تعلمون فلسوف تعلمون
ثم لأصلّبنّكم ولأصلبنّكم
إنا إلى ربنا منقلبون لا ضير إنا إلى ربنا لمنقلبون
ونأخذ كل فرق على حدة ونبدأ بقول الملأ في الأعراف؛ فالقائلون في الأعراف هم الملأ والقائل في الشعراء هو فرعون وعندما كانت المحاجة عند فرعون وانقطع الحجة بقول (بسحره). والفرق بين أرسل وابعث في اللغة كبير: أرسل وفعل الإرسال تردد في الأعراف أكثر مما تردد في الشعراء (ورد 30 مرة في الأعراف و17 مرة في الشعراء) هذا من الناحية اللفظية . وفعل بعث هو بمعنى أرسل أو هيّج ويقال في اللغة بعث البعير أي هيّجه وفي البعث إنهاض كما في قوله تعالى (ويوم يبعث من كل أمة شهيداً) (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) أي أقامه لكم وليست بنفس معنى أرسله. فلما كانت المواجهة والتحدّي في الشعراء أكثر جاء بلفظ بعث ولم يكتفي بالإرسال إنما المقصود أن ينهض من المدن من يواجه موسى ويهيجهم وهذا يناسب موقف المواجهة والتحدي والشدة. وكذلك في اختيار كلمة ساحر في الأعراف وسحّار في الشعراء لأنه عندما اشتد التحدي تطلّب المبالغة لذا يحتاج لكلّ سحّار وليس لساحر عادي فقط ونلاحظ في القرآن كله حيثما جاء فعل أرسل جاء معه ساحر وحيثما جاء فعل بعث جاء معه سحّار. وفي سورة الأعراف وردت كلمة السحر 7 مرات بينما وردت 10 مرات في سورة الشعراء مع العلم أن سورة الأعراف أطول من الشعراء.
وكذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين) أما في سورة الشعراء فقال تعالى: (قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين) ففي الأعراف لم يقل (قالوا لفرعون) أما في الشعراء فقال (قالوا لفرعون) أي أصبح القول موجهاً إلى فرعون لأن التحدي أكبر في الشعراء وفيها تأكيد أيضاً بقوله (أئن لنا لأجراً)، أما في الأعراف (إن لنا لأجراً) المقام يقتضي الحذف لأن التفصيل أقلّ.
وفي الشعراء قال تعالى (قال نعم إنكم إذاً لمن المقربين) فجاء بـ (إذاً) حرف جواب وجزاء وتأتي في مقام التفصيل لأن سياق القصة كلها في الشعراء فيها كثر من التفصيل بخلاف الأعراف.
وفي الشعراء أقسموا بعزّة فرعون ولم يرد ذلك في الأعراف.
وفي الشعراء قال (فألقوا حبالهم وعصيهم) ولم يرد ذلك في الأعراف.
وفي الشعراء ولأن التحدي كبير ألقي السحرة ساجدين فوراً ولم يرد ذلك في الأعراف.
في الأعراف ورد (آمنتم به قبل أن آذن لكم ) و(فسوف تعلمون) الضمير يعود إلى الله تعالى هنا. أما في الشعراء (آمنتم به قبل أن آذن لكم) (فلسوف تعلمون) أي أنقدتم لموسى فالهاء تعود على موسى ولهذا قال تعالى هنا (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) واللام في (فلسوف) هي في مقام التوكيد.
وفي الأعراف قال (ثم لأصلبنّكم) وفي الشعراء (ولأصلبنكم) وهذا يدل على أنه أعطاهم مهلة في الأعراف ولم يعطهم مهلة في الشعراء.
وفي الأعراف قال: (إنا إلى ربنا منقلبون) أما في الشعراء: (لا ضير إنا إلى ربنا لمنقلبون) دلالة عدم الاكتراث بتهديد فرعون مع شدة التوعد والوعيد ثم مناسبة لمقام التفصيل.
آية (129):
* ما اللمسة البيانية في الآية (قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الأعراف)؟(د.فاضل السامرائى)
لو يسأل السائل سؤالاً محدداً في الآية. أولاً للعلم أن القرآن لم يستعمل مضارعاً للفعل جاء ولم يستخدم إلا الفعل الماضي (جيء، جاء) لم يستعمل لا فعلاً مضارعاً لجاء ولا فعل أمر ولا اسم مفعول ولا اسم فاعل. إذا أراد أن يستخدم مضارعاً يستعمل الفعل يأتي. يقولون المجيء بمعنى الإتيان لكن الإتيان أيسر من المجيء ويستعمل لما هو أيسر وجاء يستعمل لما هو أصعب. لا نتوقع أن يأتي مضارع يجيء لأن القرآن لم يستعمل مضارع جاء. إذا كان كما يقول قسم من أهل اللغة أن المجيء فيه صعوبة والإتيان لما هو أيسر وأسهل فعند ذلك هل ما وقع أسهل أو ما لم يقع؟ إذا لم يقع أسهل وما وقع أصعب فـ (جاء) لما وقع و (يأتي) لما لم يقع. فرق بين الماضي والمضارع، جئتنا ماضي وتأتينا مضارع. هذا عموم استعمال جاء ويأتي وهذا لم يقع بعد فيكون أيسر، هذا من حيث جاء ويجيء ويأتي.
تبقى الآية نفسها عندنا فيها أمران: استعمل الماضي للفعل (جاء) في (من بعد ما جئتنا) جئتنا فعل ماضي و(تأتينا) فعل مضارع والقرآن لا يستعمل مضارع جاء وإنما قال (تأتينا). هذا أمر. ولم يستعمل فعل أتى بالماضي لأن هذا عذاب وإيذاء وقلنا المجيء لما هو أصعب من الإتيان فقال أوذينا من قبل ما جئتنا وهذا طبيعي في الاستخدام.
يبقى استعمال (أن) و (ما): ما قال من بعد أن جئتنا وإنما قال (من بعد ما جئتنا) فعل الماضي يأتي بعد (أن) في اللغة كما جاء في قوله (مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي (100) يوسف)، (مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ (24) الفتح). لماذا هنا استخدم (ما) وهنا استخدم (أن)؟ (من بعد ما جئتنا) (ما) هذه تحتمل معنيين في اللغة هنا: الأول المصدرية والثانية الموصولة. هنا توسع في المعنى وتحتمل الأمرين. هي مصدرية بمعنى (الذي) أي من بعد الذي جئتنا به وهو الرسالة. إذن تحتمل أمرين معنيين: من بعد مجيئه هو شخصياً ومن بعد الذي جاء به من الرسالة ولذلك ما قال من بعد أن جئتنا به لتشمل المعنيين ولو قال من بعد أن جئتنا تكون تعني الموصولة لأنه يصير عائد. فهنا (ما جئتنا) ذكر أمرين لأنه كان مجيئه بالرسالة ومجيئه هو، فجمع معنيين هنا وهذا من باب التوسع في المعنى.
الفرق بين ما المصدرية وما الموصولة: السياق يحددها لكن هنالك أمر يقطع: إذا كان موجود عائد وهو الضمير الذي يعود على الاسم الموصول يقطع هذا بأنها اسم موصول. في حالة عدم وجود العائد نبحث عن المعنى هل يحتمل المصدرية أو الموصولة. (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ (23) الأحزاب) (ما) هنا اسم موصول أي صدقوا الذي عاهدوا الله عليه. لو حذف في غير القرآن (عليه) لو قال: صدقوا ما عاهدوا الله يكون صدقوا عهد الله نفسه والعهد الذي عاهدوا عليه. (المزيد في باب التوسع في المعنى يمكن الرجوع إليه في كتابي الجملة العربية والمعنى).
سؤال: إذا كان كفار مكة آنذاك فهموا العربية ولم يؤمنوا بالقرآن ونحن نؤمن بالقرآن ولا نفهم العربية ألهذه الدرجة تنحدر لغتنا العربية؟
لم تبقى لنا سليقة لأن اللغة العربية منذ زمن بعيد, وقد دخلت أقوام وصار اختلاط ألسنة وصارت اللغة تضمحل شيئاً فشيئاً وتحلّ محلها اللهجات العامية ثم هناك من يدفع لإشاعة اللهجات العامية ومحاربة اللغة العربية لأسباب كثيرة وكل جهة لها غرض لمحاربة العربية وخاصة لارتباطها بالقرآن الكريم ولم يبقى عربية في التعليم والمدارس إلا أشياء محدودة وضئيلة جداً. كان العرب يفهمون العربية لأن هذه كانت لغة العرب آنذاك يتحدثون بها. وحتى نعيد العربية إلى سليقتنا نحن نحتاج إلى جهود متضافرة وليس جهد شخص إنما جهد حكومات وجمعيات للغة العربية تكون جادّة وضرورة إفهام الناس بضرورة هذه اللغة وأنه إذا ضاعت هذه اللغة ضاع وجودهم وهنالك عدة أمور يجب أن يفهمها الناس للحفاظ على لغتهم والاعتزاز بها. واللغة العربية عجيبة وهي بالنسبة للغات الأخرى كأنها جهاز متطور ذو تقنية عالية جداً واللغات الأخرى الشائعة الآن لا تستطيع أن تعبّر عن المعاني. لو قلنا مثلاً: أعطى محمد خالداً كتاباً يقابلها في الإنجليزية Mohamed gave khaled a book ولو قلنا محمد أعطى كتاباً خالداً، خالداً كتاباً أعطى محمد، وغيرها ذكرناها سابقاً، حوالي 8 جمل كل واحدة لها معنى خاص دقيق ومعناها العام هو نفسه. عندما نضع الفعل والفاعل والمفعول الأول والمفعول الثاني على الترتيب تقولها والمخاطَب خالي الذهن ليس عنده أي معلومة عن الحادث فأنت تعطيه معلومة جديدة. عندما أقول: محمد أعطى خالداً كتاباً المخاطَب يعلم أن شخصاً ما أعطى خالداً كتاباً لكن لا يعلم الشخص المعطي فكأنه يسأل من أعطى خالداً كتاباً؟ محمد. إذا قلنا: خالداً أعطى محمد كتاباً المخاطَب يعلم أن محمداً أعطى كتاباً لكن لا يعلم لمن أعطاه فكأنه يسأل لمن أعطى محمد كتاباً؟ خالداً. لو قلنا: كتاباً أعطى محمد خالداً المخاطب يعلم أن محمداً أعطى خالداً شيئاً لكن لا يعلم ما هو؟ لو قلنا: خالداً كتاباً أعطى محمد المخاطَب يعلم أن محمد أعطى شيئاً ما لشخص ما فتقدمهما على العامل حتى يكون هذا المعنى. ولو قلنا: خالداً كتاباً محمد أعطى المخاطب يعلم أن شخصاً ما أعطى شيئاً ما لشخص ما، هناك عطاء لكن لا يعرف من أعطى وماذا أعطى ولمن أعطى؟ هذه التراكيب كلها تصح نحوياً. لو قدمنا فقط على الفاعل كل واحدة لها معنى. أحياناً عندنا 25 جملة في العربية أو أكثر كل واحدة لها معنى يقابلها جملة واحدة في اللغات الأخرى. هذه الجمل موجودة في الحياة كيف نعبّر عنها؟ وهذه تدخل في البلاغة والأهمية.
آية (136):
* ما اللمسة البيانية في ورود لفظة اليم 8 مرات و لفظة البحر 8 مرات في قصة موسى ووردت لفظة البحرين مرة واحدة؟(د.فاضل السامرائى)
مسألة البحر واليم ذُكِرت أكثر من مرة في هذا البرنامج وقلنا أن القرآن الكريم يستعمل اليم والبحر في موقفين متشابهين كما في قصة موسى (عليه السلام) مرة يستعمل اليم ومرة يستعمل البحر في القصة نفسها (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ (63) الشعراء) (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (40) القصص) اليمّ كما يقول أهل اللغة المحدثون أنها عبرانية وسريانية وأكادية وهي في العبرانية (يمّا) وفي الأكادية (يمو) اليمّ وردت كلها في قصة موسى ولم ترد في موطن آخر ومن التناسب اللطيف أن ترد في قصة العبرانيين وهي كلمة عبرانية. كلمة البحر وردت عامة (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ (50) البقرة) (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ (14) النحل) عامة لكن من الملاحظ أن القرآن لم يستعمل اليم إلا في مقام الخوف والعقوبة أما البحر فعامة ولم يستعمل اليم في مقام النجاة، البحر قد يستعمله في مقام النجاة أو العقوبة. قال تعالى (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ (7) القصص) (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ (39) طه) هذا خوف، (فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (136) الأعراف) هذه عقوبة، (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) طه) (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ (40) القصص) عقوبة، أما البحر فعامة استعملها في النِعم لبني إسرائيل وغيرهم (أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (63) النمل) (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ (67) الإسراء) في نجاة بني إسرائيل استعمل البحر ولم يستعمل اليم. استعمل اليم في العقوبة واستعمل البحر في النجاة والإغراق (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ (50) البقرة) استعملها في الإغراق والإنجاء (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر) أي أنجيناهم، (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) طه) (فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ (78) طه) لم يقل البحر، (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ (63) الشعراء). إذن يستعمل اليم في مقام الخوف والعقوبة فقط ويستعمل البحر عامة في بني إسرائيل وغيرهم. اليم يستعمل للماء الكثير وإن كان نهراً كبيراً واسعاً. يستعمل اليم للنهر الكبير المتسع ويستعمل للبحر أيضاً. اللغة تفرق بين البحر والنهر واليم: النهر أصغر من البحر والقرآن أطلق اليم على الماء الكثير ويشتق من اليم ما لم يشتقه من البحر (ميموم) أي غريق لذلك تناسب الغرق. العرب لا تجمع كلمة يم فهي مفردة وقالوا لم يسمع لها جمع ولا يقاس لها جمع وإنما جمعت كلمة بحر (أبحر وبحار) وهذا من خصوصية القرآن في الاستعمال. كونها خاصة بالخوف والعقوبة هذا من خصوصية الاستعمال في القرآن.
آية (137):
*ما إعراب كلمة القوم ومشارق في الآية (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) ؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة الأعراف: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ {137}). فعل أورثنا ينصب مفعولين وعليه فإن القوم مفعول به أوّل ومشارقَ مفعول به ثاني لفعل أورثنا. وهذا ينطبق أيضاً على قوله تعالى في سورة الأحزاب: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً {27}) أرضهم مفعول به أول وديارهم مفعول به ثاني.
آية (142):
*ما الفرق بين قوله تعالى: (وواعدنا موسى أربعين ليلة) وقوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)؟
د.فاضل السامرائى :
قال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ {51}) وقال في سورة الأعراف (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ {142}) آية فيها إجمال وآية فيها تفصيل لكن لماذا الإجمال في موضع والتفصيل في موضع آخر؟ لو عدنا إلى سياق سورة البقرة نجد أنه ورد فيها هذه الآية فقط في هذا المجال بينما في المشهد نفسه في سورة الأعراف فيه تفصيل كبير من قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ {142}) إلى قوله (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ {145}) الكلام طويل والقصة والأحداث في المواعدة مفصلة أكثر في الأعراف ولم تذكر في البقرة لأن المسألة في البقرة فيها إيجاز فناسب التفصيل في سورة الأعراف والإيجاز في سورة البقرة لذا جاء في الأعراف أن موسى (عليه السلام) صام ثلاثين يوماً ثم أفطر فقال تعالى صم فصام عشرة أيام أخرى أما في سورة البقرة فجاءت على سبيل الإجمال (أربعين يوماً).
آية (142):
*ما الفرق بين قوله تعالى: (وواعدنا موسى أربعين ليلة) وقوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)؟
د.أحمد الكبيسى :
قال الله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴿142﴾ الأعراف) وفي آية أخرى قال (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴿51﴾ البقرة) لماذا مرة أربعين ومرة ثلاثين زائد عشرة؟ نفس الشيء لكن ما الحكمة؟ فعلاً بحثنا عنها في كل مكان ما وجدناها. الذي حصل ما يلي: رب العالمين لماذا يقول له أربعين سنة روح ؟ كلهم قالوا أنه في الحقيقة قال له صم لا ينبغي ولا يليق بالله عز وجل أن تقابله وأن تكلمه وأنت مليء بالطعام والغازات وطبعاً سيدنا موسى فرّ يعني انهزم هرب وهو موسى, لاحظ, قال ما يليق أنت بطنك مليئة أشياء قد يخرج منك- بول – فهناك من عندما يخاف يبول على نفسه فرب العالمين سبحانه وتعالى أراد أن يهيأ سيدنا موسى تهيئة كاملة بحيث يستطيع أن يصمد أمام تلك الحالة الوحيدة الفريدة له في التاريخ وهو أن الله كلّمه. فرب العالمين قال له أربعين يوم تصوم صوماً كاملاً وتأتي ناشف ما فيك أي احتمال لأي خلل يسيء الأدب أو يفسد وجودك معي، مقابلتك لي، أربعين يوم لكن أربعين يوم الله لم يأمره بها. ففي الآية التي تسبقها الآية الأساسية الأولى (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً) الله قال يا موسى صم ثلاثين ليلة وفعلاً شهر الصوم في كل الأديان شهر وراح موسى شهر ولما صام ونشف تماماً بعقله البشري طبعاً ثلاثين يوماً لم يكن في ذلك الوقت هنالك مطهر لم يكن هنالك شيء فجلس حوالي يوم كامل يفرك بأسنانه وينظفها وينظف رائحة فمه, رب العالمين سيكلمه وجهاً لوجه فهذا اختراع سيدنا موسى يعني هداه عقله والتفكير البشري منطقي. كلنا لما تقابل أنت وجيه تقابل أمير تقابل شيخ تضع عطراً وتتعطر وتنظف ملابسك حتى تليق بمقابلة الملوك فما بالك بملك الملوك؟! سيدنا موسى فعلاً تعطر وتزين وغير من شكله مقابلة ملكية, يا الله مقابلة تاريخية لم يحظَ بها إلا موسى من جميع بني آدم إلى يوم القيامة, ونظف أسنانه بالتراب حاول بأي شيء عنده فجاء سيدنا موسى إلى رب العالمين كأنه عريس. الله قال له ما الذي فعلته؟ – بما معناه طبعاً هذا كلامنا نحن نشرح- قال له ما هذا الذي فعلته؟ قال أنا أتيت لأكلمك فقال له أنا أمرتك بالصيام لكي أشم رائحة فمك (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من رائحة المسك) كل عطور الدنيا لا تساوي عندي وأنا رب العالمين، نفحة من نفحات فمك التي ترونها غير لائقة أنا أراها مسك، أطيب عندي من رائحة المسك لأنه ما من عبادة أحب إلي من عبادة الصيام (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي) ومن ضمن ذلك فإنه لي أنا أحب أن أشم رائحته – بما يليق به سبحانه وتعالى- رائحة فم الصائم التي تضايقنا نحن هي عند الله خيرٌ من كل عطور الدنيا قال له اذهب عشرة أيام أخرى صم ولا تنظف فمك وتعال. واضح إذاً الفرق (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ) ثم قال الله: (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴿142﴾ الأعراف).
سؤال: سيدي الفاضل الإمام النووي تعليقاً على هاتين الآيتين العظيمتين يقول: لما كان سفر سيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام من قبل إلى مخلوق سيدنا الخضر قال لفتاه: (قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴿62﴾ الكهف) فشكى الجوع وشكى التعب لكن سفره عندما كان إلى الله سبحانه وتعالى ثلاثين ليلة وأتمها عشراً لم يشكُ نصباً ولم يشكو جوعاً لأن فرط الحب قد شغله عن طعامه وعن شرابه.
الدكتور الكبيسي: الحب واللذة ومناجاة الله يا سيدي سيدنا موسى نبي ورسول ورب العالمين أسمعه صوته. هنالك صالحين في هذه الأمة للذة مناجاتهم لله في القرآن يذهل. النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الواحدة البقرة وآل عمران والنساء من شدة تلذذه. يقال عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه كان لما يصلي لا يسمع أحداً وكان فكِهاً طيباً فقالوا له: أنت عندما تصلي تصفرّ قال: أتعلمون من أُكلِّم؟ يتلذذون ولهذا سيدنا عثمان لما يقرأ القرآن بليلة في التهجد هذا لذة الخطاب مع رب العالمين نحن الآن مساكين نحن أي كلام يعني صلاتنا وقراءتنا للقرآن ما فيها هذا البعد بعد اللذة في مناجاة الله هذا لا يعرفه إلا أهل العزم:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد
الإمام النووي أيضاً حمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم (أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني) في حديث الوصال على المحبة.
آية (143):
* د.فاضل السامرائى :
الإنسان لما يقول عن نفسه أنا عبد الله هذا تواضع والله تعالى لما يقولها عن عبد يكون تكريماً (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً (1) الإسراء) (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) النجم) (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) ص) هذا من الله تكريم ولذلك لاحظ يقولون لما قال (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) لما ذكر كلمة عبد عرج به إلى السموات العلى وإلى سدرة المنتهى ولما ذكر موسى باسمه قال (وَخَرَّ موسَى صَعِقًا (143) الأعراف) إذن وكأن مقام العبودية عند الله سبحانه وتعالى مقام عظيم.
آية (146):
*ما الفرق بين الرُشد والرَشَد مع أن الرَشَد مستخدمة في القرآن الكريم ؟(د.فاضل السامرائى)
هم يفرّقون بين الرُشد والرَشَد، الرُشد معناه الصلاح والاستقامة وهم قالوا الرُشد يكون في الأمور الدينية والدنيوية، في أمور الدين وفي أمور الدنيا، في الأمور الدنيوية والأخروية والرَشد في أمور الآخرة، يعني الرُشد يكون في أمور الدنيا والآخرة والرَشَد في أمور الآخرة. في القرآن ورد الرُشد (وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا (6) النساء) أمر دنيوي، (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) الكهف) أمر دنيوي موسى تتبع الرجل الصالح، (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (256) البقرة) و (وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً (146) الأعراف) إذن الرُشد يستعمل في أمور الدنيا والدين. أما الرَشد فالكثير أنه يستعمل في أمور الدين أكثر ما يكون في الدين (فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) الكهف) (وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) الكهف) أغلب ما تستعمل في أمور الدين، أما الرُشد فهي عامة. هذا ما قاله قسم من اللغويين وإن كان قسم قالوا أن هاتان لغتان لكن هما في القرآن هكذا، يستعمل الرُشد في أمور الدنيا والدين والرَشَد في أمور الدين. قسم قالوا هذه لغة ولكن قسم قالوا هذا من خصوصيات الاستعمال القرآني.
آية (150):
*مادلالة ذكر وحذف (يا) في قوله تعالى (ابن أوم) في سورة الأعراف و(يبنؤم) في سورة طه؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة الأعراف: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُومَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {150}) وقال في سورة طه (قَالَ يَبْنَؤمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي {94}) وذكر الحرف وعدم ذكره له دوافع, والقاعدة العامة فيه أنه عندما يكون السياق في مقام البسط والتفصيل يذكر الحرف سواء كان ياء أو غيرها من الأحرف كما في سورة طه وإذا كان المقام مقام إيجاز يوجز ويحذف الحرف إذا لم يؤدي ذلك إلى التباس في المعنى كما جاء في سورة الأعراف . وكذلك في قوله (أئن لنا لآجراً) وقد يكون مقام التوكيد بالحرف. ففي سورة الأعراف حذف الحرف لأن الموقف جاء ذكره باختصار (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُومَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ {150}) أما في سورة طه فالآيات جاءت مفصلة ومبسّطة وذُكرت فيها كل الجزئيات لذا اقتضى ذكر (يا) (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي {86} قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ {87} فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ {88} أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً {89} وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي {90} قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى {91} قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا {92} أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي {93}).
* يرد في القرآن خطاب هارون لموسى بقوله: (يا ابن أم) فهل هذا أسلوب استعطاف وتليين أو هو أسلوب يشير إلى أنهما ليسا إخوة أشقاء؟(د.فاضل السامرائى)
على الأرجح أن موسى وهارون كانا أخوين شقيقين, لكن يقولون للترقيق, ثم هنالك أمر لأن ربنا ما ذكر أبا موسى وإنما ذكر أمه هي التي خافت وكادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها وقالت لأخته قصيه وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً وهي التي قاست فهذا تذكير بأمه فقال (يا ابن أم). ليس معنى هذا أنهما ليسا من أب واحد هما شقيقان ولكن هذا تذكير بأمه لما قاست.
آية (151):
*مرة يقول تعالى: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) الأعراف) و(فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) الأعراف) فما الفرق؟(د.فاضل السامرائى)
الرحمة موجودة في الحالتين في الأولى قال أرحم الراحمين وفي الثانية خير الغافرين في آية جعل خاتمة الآية رحمة والثانية مغفرة فإذا ذكر ذنباً عقّب بالمغفرة وإذا لم يذكر ذنباً عقّب بالرحمة. في الآية الأولى (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)) هذا قول موسى لم يذكر لهما ذنباً فقال وأنت أرحم الراحمين بينما الآية (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)) عندما ذكر ذنباً قال: (خير الغافرين). في آية (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) المؤمنون) لم يذكر ذنباً إذن عموماً هذا خط عام في ذكر هاتين الفاصلتين إذا ذكر ذنباً ذكر الغافرين وإذا لم يذكر قال الراحمين.
آية (154):
*ما معنى سكت الغضب وما اللمسة البيانية في الآية (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) الأعراف)؟(د.فاضل السامرائى)
هذه استعارة مكنية كأن الغضب آمر ناهي يهيج موسى ويدعوه إلى الغضب ويلهبه ثم أثبت له السكوت على طريقة تغيير الاستعارة، استعارة مكنية يشبهه بشخص وحذف الشخص. الغضب فاعل وفي الآية مبالغة كبيرة أن موسى كان غضبان كأن الغضب كان يلحّ عليه ويهيجه ويثيره.
* لماذا جاءت لربهم باللام( لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)؟(د.فاضل السامرائى)
يمكن أن يوصل المفعول باللام وتسمى لام المقوية يُدخل اللام على المفعول به يعني فيما هو لو حذفناها يرجع مفعول به نأتي باللام إن شئنا (لام المقوية) ويتقدم المفعول به على فعله كما في قوله تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) الأعراف) والمقصود يرهبون ربهم (لربّهم مفعول به مقدّم). والغرض منها عند النحاة أن الفعل إذا تقدّم يكون في أقوى حالاته في العمل فإذا تأخر كان أضعف في العمل فقد يؤتى باللام للتقوية وعندما يكون فرعاً يكون أضعف فيؤتى باللام للتقوية وأنا شخصياً أقول أنها تستعمل لتقوية الحدث فيؤتى باللام الزائدة المؤكِدة زيادة في التوكيد. التوكيد الذي يُدرس في النحو هو توكيد صناعي والتوكيد باب كبير في اللغة وليس هناك باب لا يدخل فيه التوكيد مثلاً التوكيد بالجار والمجرور كما في قوله تعالى: (ولا طائر يطير بجناحيه) المعلوم أن الطائر يطير بجناحيه ومع هذا جاءت كلمة بجناحيه للتوكيد, والظرف المؤكّد كما في قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً) الإسراء يكون ليلاً وقوله تعالى: (فخرَّ عليهم السقف من فوقهم) والسقف سيخرّ بالتأكيد من فوقهم، كلها فيها توكيد.
آية (157):
* الفرق بين كفّر عنهم سيئاتهم وغفر لهم ذنوبهم وحطّ عنهم خطاياهم؟(د.فاضل السامرائى)
هذا سؤال قديم وأجبنا عنه في حلقات سابقة. السيئات هي الصغائر صغار الذنوب والذنب أكبر والخطيئة عامة. لماذا يستعمل مع السيئات التكفير والمغفرة مع الذنوب (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا (193) آل عمران)؟ قلنا السيئات الصغائر والذنوب الكبائر، التكفير في الأصل الستر وكفر الشيء أي ستر وأصلها كفر البذرة أي غطاها وسترها بتراب والليل سمي كافراً لأنه يستر الناس (لي فيك أجر مجاهد إن صح أن الليل كافر) من أسماء الليل الكافر لأنه يستر. نأتي إلى المِغفر هو الغفر والستر، المِغفر الآلة التي تتقي بها السهام في الحرب تحفظه. الليل كافر هل إذا ضربت أحدهم بالسهم هل سيحفظه الليل؟ لا لكن المِغفر يحفظه فلما كان الذنب أكبر يصيب الإنسان يراد له ستر أكبر والأخف يحتاج لأخف. عندما تكفر البذرة في التربة تحتاج حفرة صغيرة وتسترها لكن المغفرة أكبر. إذن الذنب هو أكبر من السيئة ولذلك يستعمل معه المغفرة لأنه لما كان أكبر احتاج لوقاية أكبر والخطيئة عامة قد تكون لأكبر الذنوب وقد تكون للصغائر. قال: (حُط عنا خطايانا) الحط هو الإنزال من فوق (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ (157) الأعراف) هذه أحمال وأوزار يحطها عنهم أي يضعها عنهم. الخطايا عامة تستعمل فيها كلها، السيئة صغائر والذنب أكبر، يستعمل كفر عنا سيئاتنا لأنها صغيرة ومع الذنوب يقول غفران.
آية (160):
*ما الفرق من الناحية البيانية بين (انفجرت) في سورة البقرة و(انبجست) في سورة الأعراف في قصة موسى؟
*د.فاضل السامرائى :
جاء في سورة البقرة: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60}) وجاء في سورة الأعراف ( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {160}).
والسؤال ماذا حدث فعلاً هل انفجرت أو انبجست؟ والجواب كلاهما وحسب ما يقوله المفسرون أن الماء انفجرت أولاً بالماء الكثير ثم قلّ الماء بمعاصيهم وفي سياق الآيات في سورة البقرة الذي يذكر الثناء والمدح والتفضّل على بني إسرائيل جاء بالكلمة التي تدل على الكثير فجاءت كلمة (انفجرت) أما في سورة الأعراف فالسياق في ذمّ بني إسرائيل فذكر معها الانبجاس وهو أقلّ من الانفجار وهذا أمرٌ مشاهد فالعيون والآبار لا تبقى على حالة واحدة فقد تجفّ العيون والآبار فذكر الانفجار في موطن والانبجاس في موطن آخر وكلا المشهدين حصل بالفعل.
إذا لاحظنا سياق الآيات في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ {59} وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60})
أما سياق الآيات في سورة الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {161}) يمكن ملاحظة اختلافات كثيرة في اختيار ألفاظ معينة في كل من السورتين ونلخّص هذا فيما يأتي:
سورة البقرة سورة الأعراف
سياق الآيات والكلام هو في التكريم لبني إسرائيل فذكر أموراً كثيرة في مقام التفضيل والتكرّم والتفضّل (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ {49} وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ {50}) و (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {47}) السياق في ذكر ذنوبهم ومعاصيهم والمقام مقام تقريع وتأنيب لبني إسرائيل (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {138}) والفاء هنا تفيد المباشرة أي بمجرد أن أنجاهم الله تعالى من الغرق أتوا على قوم يعبدون الأصنام فسألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً مثل هؤلاء القوم.
قوم موسى استسقوه فأوحى إليه ربه بضرب الحجر (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ) وفيها تكريم لنبيّ الله موسى (عليه السلام) واستجابة الله لدعائه. والإيحاء أن الضرب المباشر كان من الله تعالى. فموسى هو الذي استسقى لقومه (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ)
(كلوا واشربوا) والشرب يحتاج إلى ماء أكثر لذا انفجرت الماء من الحجر في السياق الذي يتطلب الماء الكثير (كلوا من طيبات ما رزقناكم) لم يذكر الشرب فجاء باللفظ الذي يدل على الماء الأقلّ (انبجست)
جعل الأكل عقب الدخول وهذا من مقام النعمة والتكريم (ادخلوا هذه القرية فكلوا) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. لم يرد ذكر الأكل بعد دخول القرية مباشرة وإنما أمرهم بالسكن أولاً ثم الأكل (اسكنوا هذه القرية وكلوا)
(رغداً) تذكير بالنعم وهم يستحقون رغد العيش كما يدلّ سياق الآيات. لم يذكر رغداً لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم.
(وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطة) بُدئ به في مقام التكريم وتقديم السجود أمر مناسب للأمر بالصلاة الذي جاء في سياق السورة (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ {43}) والسجود هو من أشرف العبادات. (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً) لم يبدأ بالسجود هنا لأن السجود من أقرب ما يكون العبد لربه وهم في السياق هنا مبعدين عن ربهم لمعاصيهم.
(نغفر لكم خطاياكم) الخطايا هم جمع كثرة وإذا غفر الخطايا فقد غفر الخطيئات قطعاً وهذا يتناسب مع مقام التكريم الذي جاء في السورة. (نغفر لكم خطيئاتكم) وخطيئات جمع قلّة وجاء هنا في مقام التأنيب وهو يتناسب مع مقام التأنيب والذّم في السورة.
(وسنزيد المحسنين) إضافة الواو هنا تدل على الاهتمام والتنويع ولذلك تأتي الواو في موطن التفضّل وذكر النعم. (سنزيد المحسنين) لم ترد الواو هنا لأن المقام ليس فيه تكريم ونعم وتفضّل.
(فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم) (الذين ظلموا منهم) هم بعض ممن جاء ذكرهم في أول الآيات
(فأنزلنا على الذين ظلموا) (فأرسلنا ) أرسلنا في العقوبة أشدّ من أنزلنا، وقد تردد الإرسال في السورة 30 مرة أما في البقرة فتكرر 17 مرة
(بما كانوا يفسقون) (بما كانوا يظلمون) والظلم أشدّ لأنه يتعلّق بالضير
(فانفجرت) جاءت هنا في مقام التكريم والتفضّل وهي دلالة على أن الماء بدأ بالانفجار بالماء الشديد فجاء بحالة الكثرة مع التنعيم. (فانبجست) في مقام التقريع قلّ الماء بمعاصيهم فناسب ذكر حالة قلّة الماء مع تقريعهم.
سؤال: هل خروج الماء كان كثيراً أو قليلاً؟
خروج الماء كان كثيراً في البداية لكنه قلّ بسبب معاصيهم. ليس هذا تعارض كما يظن البعض لكن ذكر الحالة بحسب الموقف الذي هم فيه لما كان فيهم صلاح قال انفجرت ولما كثرت معاصيهم قال انبجست. حتى نلاحظ مرة قال (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ (60) البقرة) موسى هو الذي استسقى ومرة قال (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ (160) الأعراف) طلبوا منه السقيا، أيها الإجابة أكثر أن يستقي النبي أو القوم يستسقون؟ لما يستسقي النبي إذن لما قال استسقى موسى قال انفجرت ولما قال استسقاه قومه قال انبجست. هي كلها صحيحة وهي خروج اثنتا عشرة عيناً. قال (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ (60) البقرة) لم يقلها لما قال انبجست وإنما قال فقط كلوا (كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ (160) الأعراف). اشربوا يحتاج إلى ماء إذن الماء الكثير يأتي مع الأكل والشرب فمع الأكل والشرب قال انفجرت لأنه يحتاج إلى ماء ولما لم يذكر الشرب قال انبجست.
سؤال: هذ قضية يستعصي على الكثير فهمها فما الموقف الذي حصل بالضبط؟
انفجر بالماء الكثير. من ناحية اللغة (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) موسى ضرب الحجر لكنه لم يقل فضرب إذن الكلام محذوف وهو مفهوم ولكن لم يذكره. كذلك (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) لم يقل معها ضرب إذن معناه هنالك تُختزل جُمَل بحسب الحالة مثل (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) الفرقان) وكذلك في النمل (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)) إذن هناك اختزال، هناك قال انفجرت ثم عصوا ربهم فانبجست وهذا الأمر في القرآن كثير.
آية (160):
*ما الفرق من الناحية البيانية بين (انفجرت) في سورة البقرة و(انبجست) في سورة الأعراف في قصة موسى؟
*د.أحمد الكبيسي :
هذا في غاية الدقة، الانفجار ليس كالانبجاس كما كان يقول الكثير قبل أن نعرض برنامجنا الكلمة وأخواتها، انفجر غير انبجس، انفجر ساعة خروج الماء من الأرض الصلبة أو الحجر الصلبة عندما انفجر الحجر أين ذهب الماء؟ سال الماء هذا السيل يسمى انبجاساً فالانبجاس كانبجاس الجرح، إذا انبجس جرحك هو ينفجر أولاً ثم ينبجس بحيث يسيل الدم إلى مكان بعيد، رب العالمين يذكر لنا الحالتين حالة بني إسرائيل مع موسى ساعة الانفجار عندما انفجر هذا الحجر وخرج منه ماء زلال عذب وانفجر بقوة انفجاره بقوة أدى إلى أنه ينبجس أي سال في الأرض التي هي بعد الحجر لكي يشرب منه 12 لواء من ألوية بني إسرائيل، كيف يشرب 12 فرقة من حجر؟ فسال هذا الماء فانبجست. إذن هاتان الآيتان تتحدثان عن تسلسل الواقعة وكل كلمة ترسم جزءاً من صورة وهكذا هو كل القصص القرآني. الانبجاس لا يكون إلا بعد الانفجار. إذن هكذا هو الفرق بين انفجرت وانبجست.
آية (161):
* (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً (58) البقرة) وفي آية أخرى (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ (161) الأعراف) ما الفرق بينهما؟(د.فاضل السامرائى)
هنالك أكثر من مسألة في اختلاف التعبير بين هاتين الآيتين وقد سبق أن فصلناها في حلقة سابقة. إحدى الآيتين في البقرة والثانية في الأعراف.
آية البقرة (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)) وفي الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)) لو أردنا أن نُجمِل الاختلاف بين الآيتين:
سورة البقرة سورة الأعراف
(وإذ قلنا) (وإذ قيل لهم)
(ادخلوا هذه القرية) (اسكنوا هذه القرية)
(فكلوا) (وكلوا)
(رغداً) لم يذكر رغداً لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم.
(وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطة) (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً)
(نغفر لكم خطاياكم) (نغفر لكم خطيئاتكم)
(وسنزيد المحسنين) (سنزيد المحسنين)
قلنا في أكثر من مناسبة أن الآية يجب أن توضع في سياقها لتتضح الأمور والمعنى والمقصود: آية البقرة في مقام التكريم تكريم بني إسرائيل، بدأ الكلام معهم بقوله سبحانه: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) البقرة) العالمين هنا أي قومهم في زمانهم وليس على كل العالمين الآن واستعمل القرآن العالمين عدة استعمالات (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) الحجر) يعني فضلناكم على العالمين في وقتهم وليس كل العالمين. إذن السياق في البقرة في مقام التكريم يذكرهم بالنعم وفي الأعراف في مقام التقريع والتأنيب. هم خرجوا من البحر ورأوا أصناماً فقالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة وعبدوا العجل, وهذا لم يذكره في البقرة, وانتهكوا حرمة السبت, ورد في سياق آخر غير سياق التكريم وإنما في سياق التقريع والتأنيب وذكر جملة من معاصيهم فالسياق اختلف. قال في البقرة: (وإذ قلنا) بإسناد القول إلى نفسه سبحانه وتعالى وهذا يكون في مقام التكريم وبناه للمجهول في الأعراف للتقريع (وإذ قيل لهم) مثل أوتوا الكتاب وآتيناهم الكتاب، أوتوا الكتاب في مقام الذم. قال: (ادخلوا القرية فكلوا) في البقرة فكلوا الفاء تفيد الترتيب والتعقيب يعني الأكل مهيأ بمجرد الدخول الأكل موجود ادخلوا فكلوا أما في الأعراف: (اسكنوا وكلوا) الدخول ليس سكناً فقد تكون ماراً إذن الأكل ليس بعد الدخول وإنما بعد السكن، ولم يأت بالفاء بعد السكن أما في البقرة فالفاء للتعقيب الأكل بعد الدخول وأتى بالفاء. (وكلوا) الواو تفيد مطلق الجمع تكون متقدم متأخر، ففي البقرة الأكل مهيأ بعد الدخول أما في الأعراف فالأكل بعد السكن ولا يدرى متى يكون؟ الأكرم أن يقول ادخلوا فكلوا. وقال: (رغداً) في البقرة ولم يقلها في الأعراف لأنها في مقام تقريع، رغداً تستعمل للعيش يعني لين العيش ورخاؤه، رغداً تتناسب مع التكريم. (وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ) يعني حُطّ عنا ذنوبنا من حطّ يحط حطة أي إرفع عنا، قدّم السجود على القول أما في الأعراف: (وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا)، أولاً السجود أفضل الحالات، أقرب ما يكون العبد لربه فالسجود أفضل من القول لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فقدّم ما هو أفضل (وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ) وفي الأعراف جاء بالسجود بعد القول. إضافة إلى أن السياق في البقرة في الصلاة والسجود قبلها قال (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) البقرة) والسجود من أركان الصلاة وقال بعدها أيضاً (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) البقرة) السياق في الصلاة فتقديم السجود هو المناسب للسياق من ناحية أخرى في المقام. في البقرة قال نغفر لكم خطاياكم وهو جمع كثرة وفي الأعراف خطيئاتكم جمع قلة، خطايا جمع كثرة وخطيئات جمع قلة، جمع المذكر السالم يفيد القلة إذا كان معه جمع كثرة وإذا لم يكن معه جمع كثرة فإنه يستعمل للكثرة والقلة مثل سنبلات وسنابل، إذا كان معه في لغة العرب وليس في الآية، خطايا جمع كثرة وخطيئات جمع قلة، كافرات وكوافر كافرات جمع قلة وكوافر جمع كثرة. طالما هناك جمع كثرة الأصل في جمع السالم مذكر أو مؤنث يكون للقلة هذا الأصل فيه. فإذن خطايا جمع كثرة وخطيئات جمع قلة، نغفر لكم خطاياكم وإن كثرت، خطيئاتكم قليلة، أيها الأكرم؟ خطاياكم أكرم. إذن آية الأعراف لم تحدد أن خطاياهم قليلة لكن ما غُفر منها قليل إذا ما قورن بآية البقرة. في آية البقرة يغفر كل الخطايا أما في الأعراف فيغفر قسماً منها. وقال في البقرة: (وسنزيد المحسنين) جاء بالواو الدالة على الاهتمام والتنويه وقال في الأعراف: (سنزيد المحسنين) بدون الواو. وهنالك أمور أخرى في السياق لكن نجيب على قدر السؤال. الخطاب في الآيتين من الله تعالى إلى بني إسرائيل والأمر بالدخول للقرية والأكل واحد لكن التكريم والتقريع مختلف والسياق مختلف. حتى نفهم آية واحدة في القرآن يجب أن نضعها في سياقها لا ينبغي أن نفصلها. إذا أردنا أن نفسرها تفسيراً بيانياً نضعها في سياقها وقال القدامى السياق من أهم القرائن. لا يكفي أن نقول مرة قال وكلوا ومرة فكلوا لأنه يبقى السؤال لماذا قال؟ هي في الحالين حرف عطف لكن حرف العطف يختلف، أقبل محمد لا خالد، وأقبل محمد وخالد، ما أقبل محمد بل خالد كلها عاطفة لكن كل واحدة لها معنى.
آية (170):
*ما دلالة قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ {170}) هل المصلحين وصف لهم؟(د.فاضل السامرائى)
هي إجابة عامة والمقصود بها إرادة العموم وهناك في القرآن أمثلة كثيرة على هذا النمط مثل قوله تعالى (مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ {98} البقرة) لا يكون الجواب منحصراً بالشخص المذكور ولكن تأتي للعموم وهي أشمل كما جاء في قوله تعالى في سورة الأعراف (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ {170}) جاءت للعموم ولم يقل تعالى (لا نضيع أجرهم) للأفراد وكلمة أجرهم تفيد أن المذكورين دخلوا في المصلحين.
آية (171):
*ما الفرق بين استعمال كلمة الجبل والطور في سورة البقرة والنساء والأعراف وما اللمسة البيانية في تقديم وتأخير ذكر الجبل عن بنى إسرائيل ؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {63}) وقال في سورة النساء (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً {154}) وقال في سورة الأعراف (وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {171}).
أما من حيث التقديم والتأخير هو قائم على الاهتمام الذي يقتضيه سياق الآيات سواء كان فضل أو مفضول وإنما للأهمية. في سورة البقرة (ورفعنا فوقكم الطور) فوقكم أهمّ من الطور نفسه لأن سياق الآيات في السورة هو في الكلام عن بني إسرائيل أما آية سورة الأعراف فالجبل أهم من فوقهم.
في آية سورة الأعراف وصف تعالى الجبل كأنه ظُلّة وذكر (وظنوا أنه واقع بهم) ومعنى واقع بهم أي أوقع بهم أو أهلكهم وهذا كله له علاقة بالجبل فالجبل في الأعراف أهمّ. ولم يذكر عن الطور شيئاً آخر في سورة البقرة أو النساء.
آية البقرة والنساء يستمر الكلام بعد الآيات على بني إسرائيل حوالي أربعين آية بعد الآية التي جاء فيها ذكر الطور لذا قدّم فوقهم في النساء وفوقهم في البقرة على الطور للأهمية. أما في سورة الأعراف فبعد الآية التي تحدث فيها عن الجبل انتهى الكلام عن بني إسرائيل ولم يذكر أي شيء عنهم بعد هذه الآية لذا قدّم الجبل.
والجبل هو اسم لما طال وعظُم من أوتاد الأرض والجبل أكبر وأهم من الطور من حيث التكوين. أما النتق فهو أشد وأقوى من الرفع الذي هو ضد الوضع. ومن الرفع أيضاً الجذب والاقتلاع وحمل الشيء والتهديد للرمي به وفيه إخافة وتهديد كبيرين ولذلك ذكر الجبل في آية سورة الأعراف لأن الجبل أعظم ويحتاج للزعزعة والاقتلاع وعادة ما تُذكر الجبال في القرآن في موقع التهويل والتعظيم ولذا جاء في قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ {143}) ولم يقل الطور. إذن النتق والجبل أشد تهديداً وتهويلاً.
آية (178):
* ما دلالة ذكر وحذف الياء في قوله تعالى: (وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ (97) الإسراء) و(مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي (178) الأعراف)؟(د.فاضل السامرائى)
المهتدي أطول من المهتدِ. لما يكون أطول يكون فيه هداية أكثر إضافة إلى أمر آخر. نضرب مثالاً: (مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي (178) الأعراف) قبلها قال (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) الأعراف) هذا الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها هل كان مهتدياً أول مرة أم لا؟ كان مهتدياً لكن كان يحتاج إلى قدر من الهداية أكبر حتى لا ينسلخ لذلك عقّب عليها بـ (المهتدي) لأن الهداية التي كانت عنده ما عصمته من الانسلاخ فكان يريد هداية أكثر وأطول حتى يرسخ ولا يزل ولا يضل لذلك عقب (فهو المهتدي) مثل قوله تعالى (ذلك ما كنا نبغي). أما في سورة الإسراء (فهو المهتدِ) في قوله تعالى (وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) الإسراء) هؤلاء من أصحاب النار. ما الذي ينجي من الخلود في النار؟ أن يكون عنده هداية بسيطة (شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله) وقسم من الفروض. كانت تكفيهم قدر بسيط من الهداية يخرجهم من هذا. أما ذاك فكان يحتاج إلى هداية كبيرة حتى لا ينسلخ، أما هؤلاء فتكفيهم هداية قليلة.
من الناحية النحوية الإعرابية (المهتدِ) تقدّر الحركة على الياء المحذوفة (فهو المهتد: المهتد خبر مرفوع بالضمة المقدرة على الياء المحذوفة).
ثم هناك إضافة إلى ما ذكرنا ما نسميه السمة التعبيرية للسورة؛ مثلاً سورة مريم فيها الرحمة من أولها إلى آخرها. لو أخذنا سورة الأعراف وسورة الإسراء والكهف نلاحظ لفظ الهداية تردد في الأعراف أكثر من ما تردد في الإسراء وفي الكهف. في الأعراف 17 مرة وفي الإسراء 8 مرات وفي الكهف 6 مرات أي مجموع ما تردد في السورتين الإسراء والكهف 14 مرة فلما تردد لفظ الهداية أكثر في الأعراف زاد الياء.
**مداخلة من إحدى المشاهدات حول ما ذكره الدكتور فاضل في مسألة المهتدي والمهتدِ أن المهتدي هو الذي يهتدي ويسير على هدى الله وهي تكون بمقام اسم الفاعل وفيه الاستمرارية أما في قوله: (فهو المهتدِ) من تم له الاهتداء إلى الله تعالى فصار مهتدياً وهنا ينطبق عليه الحديث القدسي (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها) وذلك بدليل ما لحق بالآية (من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً).
آية (185):
* (وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) الأعراف) ما معنى عسى في القرآن؟(د.فاضل السامرائى)
عسى طمع وترجي وذكرنا (فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ (52) المائدة) يكون الإنسان راجياً يقول: (قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ (22) القصص) أما الآية موضع السؤال (أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) الأعراف) أولاً ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها عليهم فيرتدعوا ويسارعوا إلى التوبة. أولم ينظروا في اقتراب آجالهم ألا يتوقعون حدوثها في أي لحظة؟ ألا يتوقعون أن آجالهم مقتربة؟. عسى هنا بمعنى توقّع، (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ (216) البقرة) ينبغي أن تتوقع فيما تحب قد يكون فيه شر، قد يتوقع أنه مما يكره وقد يون فيه خير. عسى بمعنى طمع وترجي وقد تأتي للتوقع (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) محمد) هل عسيتم أي هل توقعتم أن تفعلوا. الفيصل في تحديد المعنى هو السياق والمعجم يعطي معنى الكلمة مفردة. ولا يصح الاستناد إلى المعجم وحده للفهم حتى في كل اللغات لا يمكن ترجمة النص من مجرد المعجم وإنما السياق.
* ما الفرق بين الملك والملكوت؟(د.حسام النعيمى)
كلمة الملك والملكوت كلمتان من اشتقاق واحد من الميم واللام والكاف من ملك وعندنا قاعدة في اللغة كما يذكرها علماؤنا أن زيادة المبنى تؤدي إلى زيادة المعنى. فبصورة أولية كلمة الملكوت هي أوسع من كلمة الملك وبهذا المعنى استعملت في القرآن الكريم فعندما نأتي إلى قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ 185 الأعراف) عطف الخلق العام (وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) كله داخل في ملكوته فالعطف هنا هو من عطف الخاص على العام فكل ما خلق هو داخل ضمن عموم كلمة الملكوت. والملك والملكوت كله لله سبحانه وتعالى ولذلك في الآية الكريمة (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴿107﴾ البقرة) له وقدم للحصر ملك السموات والأرض لله سبحانه وتعالى. الفارق أنه يمكن أن يعطي من ملكه جلت قدرته لعبيده يتصرفون فيه من سلطان أو مال فكل ما في الكون هو ملك لله سبحانه وتعالى فيعطي لهؤلاء العبيد وهو لا يخرج من ملكية الله سبحانه وتعالى بل هو باقٍ ويستعمله عبيده على سبيل العارية المردودة والمسترجعة فله ملك السموات والأرض. وعندما ننظر لاستعمال الملك والملكوت في القرآن الكريم نجد أن الملك يمكن أن يوجه إلى عبيد الله سبحانه وتعالى أي إلى البشر لكن الملكوت لم يرد في القرآن الكريم أنه أعطي من الملكوت للبشر (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿26﴾ آل عمران) فالملك ملك الله سبحانه وتعالى ممكن أن بعضه يُعار، يملك على سبيل كما قلنا الإعارة (وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُم ْ(33) النور) هو مال الله (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ (7) الحديد) هذا يكون منه.
أما الملكوت فلدينا نص من معجم الوسيط يقول: “والملكوت العز والسلطان، وملكوت الله سلطانه، والملكوت ملك الله خاصة” أي لا يعطي منه لأحد. والملك داخل في الملكوت والملكوت عام. فالله عز وجل لم يقل يؤتي الملكوت من يشاء بل يؤتي الملك، وملك الله عز وجل ما في السموات وما في الأرض ونتذكر ما نسب لابن عباس في تقريب حجم الكون عندما قال السماء الأولى وما فيها بالقياس للسماء الثانية كحلقة في فلاة ثم قال السموات السبع وما فيها لملك الرحمن هي للكرسي كحلقة في فلاة وللعرش كحلقة في فلاة كلُ كحلقة في فلاة والكرسي ليس هذا الذي نجلس عليه وإنما الكرسي هو ما يضع الإنسان قدمه عليه فالذي نجلس عليه يسمى عرشاً وعادة العرش يكون مرتفعاً وتوضع خشبة يضع عليها الشخص قدميه هذا الذي توضع عليه القدمان هو الكرسي كما في الآية (وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا (34) ص) ليس على عرشه وإنما على هذا الذي يضع قدمه عليه. فملكوت الله عز وجل ليس السموات والأرض وما بينهما لوحده فملكوت الله عز وجل لا يحيط به ذهن إنسان. فهذه السموات والأرض والكواكب السيارة والشمس الخ لو جمعت لأمكن أن تدفن في قشرة أحد النجوم التي هي تحت السماء الأولى والسماء الدنيا التي هي منتهى علمنا في النجوم والمجرات هذه كلها وبما فيها حلقة في فلاة بالقياس إلى السماء الثانية وهكذا. فملكوت الله عز وجل واسع، الله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن أنه يعطي من ملكه أما كلمة الملكوت فهي عامة لم يرد أنه أعطى أحداً الملكوت ولذلك قال في الوسيط هو ملك الله خاصة فالملكوت لا يعطي منه شيئاً والملكوت هو هذا الملك الواسع بكل ما يمكن أن يتخيله الإنسان. هذا الملكوت والملك هو بعض هذا الملكوت والله سبحانه وتعالى ذكر في القرآن أنه أعطى من هذا الملك للبشر (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) ولم يقل يؤتي الملكوت لأن كلمة الملكوت كما قلنا دلالته المعنوية أوسع وأشمل فلا يعطي أحداً هذا الملكوت وفي قوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (75) الأنعام) أي هذا الشيء الخاص بالله سبحانه وتعالى لما قال نريه الملكوت ليس كل الملكوت ولكن بعضه فقد أراه ما في السموات الدنيا أي بعض ملكوته ولكن لأن الموطن موطن تعجب وموطن عظمة فقال نريه ملكوت السماوات والأرض فبدأ يتفكر في خلق السماء والأرض والنجوم الخ حتى يراها بقلبه وببصره فيتفكر فيها. ولم يقل ملك لأن الملك مبذول لكن الملكوت هذا الشيء الذي هو خاص بالله سبحانه وتعالى فجعله يتفكر فيه. ومعنى أن الملك مبذول أي أن الله سبحانه وتعالى يعطي الملك يبذله فممكن أن يكون الإنسان مالكاً لشيء ما، مالك لأرض وهكذا وهو في الأصل ملك الله سبحانه وتعالى فإذن استعمل الملكوت في ما لا يعطى لأحد منه شيء ممكن التفكر، وقد وردت في موضعين: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وفي قوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) دعوة إلى التفكر وموضعين آخرين في المؤمنون ويس فبذلك تكون وردت كلمة ملكوت أربع مرات وليس فيها إشارة إلى إعطائها لأحد. وملكوت كلمة عربية وهذه الزيادة فعلوت مثل رهبوت الرهبة عندنا والرهبوت وتعني الرهبة العظيمة والألفاظ قليلة في هذا المجال، إذن الملكوت أعم وأشمل من الملك وهو خاص لله سبحانه وتعالى.
آية (188):
* متى يأتي الضر قبل النفع في القرآن؟(د.فاضل السامرائى)
القدامى بحثوا في هذه المسألة وقالوا حيث يتقدم ما يتضمن النفع يسبق النفع وحيث يتقدم ما يتضمن الضر يقدم الضر. (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) الأعراف) قدم النفع على الضر وقال قبلها (مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) الأعراف) فلما قدم الهداية قدم النفع (مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي). وقال بعدها في نفس السياق (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) قدم النفع على الضر إذن مناسب هنا تقديم النفع على الضر لأن تقدّمها. في تقديم الضر: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49) يونس) هنا قدم الضر وقبلها قال تعالى (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ (11) يونس) هذا ضر، (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ (12) يونس) وبعدها قال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا (50) يونس) تقديم الضر أنسب.
مثال آخر في الرعد (قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا (16)) قبلها (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) الرعد). (فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلَا ضَرًّا (42) سبأ) قبلها قال (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ (39) سبأ) بسط الرزق نفع ويقدر ضر فقالوا حيث يتقدم ما يتضمن النفع يقدم النفع وحيث يتقدم ما يتضمن الضر يقدم الضر.
* ما الفرق بين الضُرّ والضَر والضرر ؟(د.فاضل السامرائى)
الضُر يكون في البدن من مرض وغيره (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ (83) الأنبياء). الضَر مصدر بما يقابل النفع (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا (188) الأعراف). الضرر الاسم أي النقصان يدخل في الشيء يقال دخل عليه ضرر (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ) أي الذين فيهم عِلّة أما الضر فهو ما يقابل النفع. الضرر هو الاسم عام والضرّ مصدر. الضُر ما يحصل في البدن من سقم والضَر المصدر لما يقابل النفع والضرر اسم. نحن عندنا المصدر وأحياناً يكون التغيير في المصدر بحركة أو بشيء آخر يسمى اسماً.
آية (193):
*قال تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ) الأعراف, وقال تعالى: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ)هود، جاثمين والأخذ والإصباح واحد فلماذا اختلاف في البنية بين دارهم وديارهم؟(د.فاضل السامرائى)
أنا في ذهني لم يقل الصيحة مع دارهم ولا مرة لأن الصيحة يبلغ مداها أكثر من الرجفة فأنت تسمع صوتاً لم تكن فيه كانفجار أو زلزال يحصل في مكان لكن الصوت يُسمع في مكان آخر. الصوت لما كان يُسمع في مدى أوسع قال ديارهم أما الرجفة فهي أقل مدى فقال دارهم وهذا عائد إلى طبيعة العقاب الموجود.
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) الأعراف).
الأصل هم الصمت وليس الحديث عندما ينام أو يخلو الإنسان إلى نفسه يكون صامتاً هو لا يتحدث إلا إذا عرض له أمر أما إذا لم يعرض له أمر فهو صامت. إذن الصمت هو الحالة الثانية الدائمة لذلك لا يسوي بين الطرفين (أدعوتموهم أو صمتم)
آية (198):
* ما الفرق بين تنظرون وتبصرون؟(د.فاضل السامرائى)
أبصرت الشيء رأيته، النظر قد يكون فيه رؤية وقد يكون من غير رؤية يعني توجيه الحاسة إلى مكان معين تقول أنا أنظر إليه الآن لكن ليس بالضرورة أنك تبصره. (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) الغاشية) فيها احتمالين النظر فيه معنيين: احتمال الإبصار يُحسِّه ببصره ويحتمل توجيه الحاسة إلى مكان معين لكن لم تحدث الرؤية كما في قوله تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198) الأعراف) إذن يبصر من الرؤية إدراك الحاسة والنظر فيها احتمالين قد يكون النظر إدراك وقد يكون النظر من دون رؤية وإنما توجيه النظر إلى مكان معين.
آية (199):
* ما القيمة الفنية في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) الأعراف)؟ النعيمى
هذه الآية من الآيات التي وقف عندها علماء البلاغة والبيان لما فيها من إيجاز. يمكن أن نقول أنها تمثل صورة مما ينبغي عليه المجتمع المسلم. صحيح أن الخطاب مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكن أمته جميعاً تُشمل به، فلما يقال له (خذ العفو) معناه جميع المسلمين، كل مسلم ينبغي أن يلتزم بهذا، (وأمر بالعرف) كذلك و(وأعرض عن الجاهلين) كذلك. نتخيل هذا المجتمع الذي يكون فيه أخذٌ للعفو وأمرٌ بالعرف وإعراضٌ عن الجاهلين بهذا الإيجاز مجتمع في كامل صفاته التي يطمح إليها أي إنسان يريد أن يعيش في مجتمع مسالم في مجتمع كريم نبيل.
نبدأ بكلمة (خذ العفو): كلمة العفو لها جملة معاني ولذلك ما قيل في القرآن: خذ عفو كذا وإنما العفو بجنسه، بكل ما يحمله هذا اللفظ من أجناس العفو ومن أنواع العفو، هو جنس وله أنواع. للتعريف هنا غاية العفو هنا لبيان الجنس. العفو من معانيه: الصفح، أن تصفح عنه، (خذ العفو) أي خذ الصفح خُلُقاً لك. هل (خُذ) تعني أن يأخذ من نفسه أو يأخذ من أحد؟ خذ تحتمل المعنيين خذ لنفسك وخذ من غيرك. خذ العفو: أي خذ الصفح خُلُقاً لنفسك وخُذ الرحمة خُلُقاً لنفسك وخذ ما زاد من تصرفات الناس ومن أخلاقهم هذا خذ من غيرك، خذ منهم ما يَحسُن. لأن من معاني العفو ما يطفو على السطح، خذ منهم الظاهر، ما يظهر. الذي يكون على سطح الماء يطفو هو عفو فخُذ هذا العفو أيضاً من أخلاق الناس ومن تعاملهم ولا تكلّفهم ما لا يطيقون، اقبل منهم هذا الذي هو ظاهر عندهم، اقبل منهم الظاهر، خذ العفو أي خذ هذا الظاهر وفيها نوع من المسامحة، نوع من الرضى بما يصنعون بشرط، وهذا نبّهت عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “ما خُيّر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراماً”. يأخذ منهم هذا العفو الظاهر ما لم يكن فيه مخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى لأن المجاملة لا تكون على حساب شرع الله سبحانه وتعالى. هذا يذكره علماء التفسير لما يتكلمون على كلمة (خذ العفو) يقول هذا الظاهر من أمر الناس حتى يأخذ منهم ما تيسر وما حسُن ولا يكلفهم ما لا يطيقون. ثم يضعون هذا القيد: بشرط أن لا يكون في ذلك خلاف لشرع الله سبحانه وتعالى، أن يكون تحت مظلة شرع الله لأنك تريد أن تبني مجتمعاً كريماً فالمجتمع الكريم يُبنى تحت مظلة شرع الله سبحانه وتعالى بتطبيقه ولا يكون بمخالفات شرعية لأنه عندها لن يكون كريماً. تقول أنا أتسامح مع فلان إذا فعل كذا مما يخالف شرع الله تعالى هذا لن يكون المجتمع مجتمعاً كريماً. فإذن في كلمة (خذ العفو) – ونحن سنتكلم بإيجاز لأن المفسرين يفيضون فيها – خذ العفو أي خذ خُلُقاً لنفسك وخُذ خُلُقاً لغيرك على ما يبدو منهم ما لم يكن مخالفة شرعية باعتبار أن من معاني العفو هو هذا الذي يطفو على السطح، يظهر.
ثم قال: (وأمُر بالعرف): العُرف هو كل ما تعارف عليه الناس مما لا يحتاج إلى إثبات وجدل. يعني الناس تعارفوا أن الكرم محمدة وأن البخل مذمّة، تعارف الناس على ذلك ولا يحتاج إلى مناظرة فلسفية ومناقشة كيف أن الكرم يكون محمدة ويقولون الكرم فيه تبذير! فتجد أفراداً من المجتمع والمجتمع لا يعرف لهم ما يفعلون، يعني لا يقرّهم على ما يفعلون ويسميهم بخلاء ولا يسميهم حكماء في مالهم. يعني الإنسان الذي يبخل على نفسه علماً أن الله تعالى يحب أن يرى آثار نعمته على عبده، الله سبحانه وتعالى أنعم عليه ثم هو لا يأكل ولا يُطعِم أهله إلا أسوأ ما يكون. فهؤلاء قِلّة. الذي جرى عليه العرف أن هناك قيماً متعارفاً عليها سواء كان من حيث الخير أو من حيث الشر. فيُطلب من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن أتباعه لأن الله سبحانه وتعالى يقول (قل هذه سبيلي أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) أتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ملزمون بما أُمِر به (صلى الله عليه وسلم). الأمر بالعرف لأنه في بعض الأحيان يكون هناك تهاون من بعض الأشخاص مما تعارف عليه الجمهور عند ذلك ينبغي أن تأمر به والساكت عن الحق شيطان أخرس إنما في إطار ما أوضحه الحديث الشريف في مواطن أخرى: “من رأى منكم منكراً فليغيّره” منكراً أي ليس معروفاً لأن العُرف غير النُكر.
*سؤال: إذا تعورف – كما في بلاد الغرب – هناك فواحش تظهر في المجتمع ويُقِرّها العُرف هناك وليس الشريعة الإسلامية فهل يؤمر بهذا العرف؟ أم أيضاً في سياقات الشريعة الإسلامية؟
الآية لم تقل (خُذ بعُرف) وإنما العرف المعروف في مجتمعاتكم المسلمة، الذي تعرفه النفوس بفِطَرها السليمة وليس بالفطرة المعوجة. الإنسان بفطرته السليمة عنده غيرة، كل المخلوقات تغار، انظر إلى عش العصفور: عصفور وعصفورة يبنيان عشاً فهل يقترب عصفور آخر من العش نفسه؟ لا يمكن. انظر إلى الحيوانات، فلما تنتكس الفطرة البشرية إلى ما دون الحيوانية والإنسان لا يغار على عرضه ويرى زوجته أو ابنته أو أخته مع رجل آخر! هذا صار عندهم مألوفاً ولكن الفطرة السليمة في تلك البلاد ما زالت تنكره، ما زال هناك أصوات ترفض هذا. هو عُرفهم هناك ولكن نحن مأمورون بأن نأمر بعُرفنا في ظل شرع الله سبحانه وتعالى ولهذا عرّفها (العُرف). العرف المخصوص الذي ألفتموه فيما بينكم من مكارم الأخلاق ومما يُحمد به الإنسان. حتى بعض أعراف الجاهلية لما جاء الإسلام ووجدها خيراً أقرّ بها وأمر بها. لما ننظر في بعض أبيات عنترة بن شداد يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مخباها
هذا خُلُق رفيع ولعله من نُبل هؤلاء الناس أو مما وصل إليهم من أخلاق النبوة الأولى. هو فارس بدوي في الصحراء تأتي الريح فتضرب خيمتها فتنكشف فإذا انكشفت يغض طرفه إلى أن تتستر ويكرر هذا المعنى بقوله:.
وإن جارتي ألوت رياحٌ ببيتها تشاغلتُ حتى يستر البيتَ جانبُه
أما نقول لبعض الناس نتمنى أن تكون عندكم بعض أخلاق الجاهلية؟! العُرف الذي هو معروف من مكارم الأخلاق مما هو في ظل شرع الله سبحانه وتعالى وما خالف الفطرة السليمة لا يكون عرفاً سليماً. العُرف هو الذي عندكم في ضوء ما تعارفتم عليه من مكارم الأخلاق ومن نبلها، هذا ينبغي أن تأمر به وهذا الأمر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولمن تبعه.
(وأعرِض عن الجاهلين): خلال الأمر بالعرف وخلال محاولة بناء المجتمع المسلم في ضوء ما يريده الله سبحانه وتعالى سيصطدم – سواء كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو من سار على خطاه (صلى الله عليه وسلم) – سيصطدم بأناس جهلة إما أنهم يجهلون شرع الله سبحانه وتعالى وإما أنهم من الجهل ضد الحلم. ليس فيهم حلم وإنما حمقى والأحمق هو أيضاً يسمى جاهلاً. الجهل إما من عدم المعرفة وإما من الجهل ضد الحلم كما قيل:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظُنّ أنيَ جاهل
يعني تصوروا أني لا أعلم أو تصوروا أني غير حليم. الجهل إما يكون ضد الحلم والعقل والرشد وإما أن يكون الجهل عدم معرفة.
**سؤال: لمَ سُميَ العصر الجاهلي جاهلاً؟ وهل يندرج هذا المعنى في الآية؟
كلا لا يندرج وليس المراد هنا العصر الجاهلي. والعصر الجاهلي لم يسمّه الناس وإنما سمّاه الله سبحانه وتعالى بغير هذا المصطلح (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) فقال الناس هذا العصر الجاهلي أي العصر الذي وصفه القرآن بالجاهلية. لذلك لما يأتي بعض الأدباء وبعض كُتّاب النقد الأدبي ويريد أن يتفاصح ويقول عصر ما قبل الإسلام وهذا أولاً ما كتبه المستشرقون. فإذا كان ربك أطلق على تلك الحقبة “الجاهلية” ففيم أنت تريد أن تتخلى عن هذا اللفظ؟ هذه واحدة. والمسألة الثانية: الإسلام لم يقل الذين كانوا في ذلك العصر كانوا في جهالة مطلقة من كل شيء والآن كنا نتكلم عن نُبل وقيم بعض الأخلاق الموجودة عندهم، هم ليسوا صِفراً كما يحاول بعض الناس للأسف الشديد يتكلم عن الناس قبل الإسلام وكأنهم كانوا في حمأة الرذيلة وفي حمأة المخالفات في كل شيء، لا يا أخي. أمةٌ بهذا الشكل السيء الذي تصفون لا تستحق أن تُرسل إليها رسالة ولا تستحق أن تحمل آخر رسالة في الأرض. هذه أمة كريمة نبيلة كانت على مستوى رفيع، الرجل فيهم يعرّض نفسه للقتل من أجل كلمة: قيل لهانئ ابن مسعود، شيخ بني شيبان، لما قيل له ائتنا بدروع النعمان وبناته، قال: هذه أمانة عندي ولا يمكن أن أسلّمها، ودخل العرب لأول مرة في معركة مع الإمبراطورية الساسانية من أجل يقولون: أنا كسرى، أنا دولة عظمى، سأبيدكم، ائتني بما عندك، يقول: هذه أمانة. وقاتل العرب في تلك المرحلة على تخوم الصحراء وكتب الله سبحانه وتعالى لهم النصر كما ورد في الحديث الشريف ” وبي نُصِروا” بسببي نُصِروا بمعنى أنه حتى يُنزع من قلوب العرب هذه الرهبة والخوف من هذه الدولة العظيمة فإذا جاء الإسلام وامتدت الفتوحات لا يكون العرب في خوف لأن عندهم سابقة في الجاهلية قاتلوا. هذه أمة كريمة، أمة نبيلة، نعم تقول أنهم كانوا مشتتين فوحّدهم الإسلام وكان بعضهم وبعض شرائح المجتمع سفيهة، وفي كل مجتمع هناك سفهاء، فحاول الإسلام أن ينقّي هذه السفاهة. كان فيهم من يئد البنات، قلة قليلة جداً وفي أواخر حياة العصر الجاهلي وإلا كان انعدم العرب لو فعلوها كلهم لكن لأن الجُرم عظيم أرّخه القرآن الكريم (وإذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قُتلت) هذا جُرمٌ عظيم ولو حدث مرة واحدة أو مرتين يستحق أن يُسجّل وليس كل العرب هكذا. لما نقول العصر الجاهلي لأنهم كانوا يجهلون الدين ويصرّون على عبادة الأصنام هذا جهلهم فقط. الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول عن حلف الفضول: “لو دُعيت لمثله الآن لأجبت” ” وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. هذه أمة لا ينبغي أن تُهان أما أن يأتي أبو نواس وهو سكران ويهرف ( يتكلم بما لا يعرف كلاماً لا معنى له، نوع من الخرافة): لا در درك قل لي من بنو أسد ومن قيس
اسم هذا العصر هو العصر الجاهلي, سماه ربنا سبحانه وتعالى بالجاهلية والمستشرقون سموه (PRE-ISLAMIC) فيأتي البعض ويسمونه ما قبل الإسلام؟!. العصر الجاهلي بمعنى جهل الدين أو جهل العبادة بعد أن كانوا على دين إبراهيم (عليه السلام)، وهو دين التوحيد جهلوا فعبدوا الأصنام ومنهم من قال تُقرِّبنا إلى الله زلفى وبعضهم بقي على الحنيفية، ما كانوا جميعاً ولذا يجب أن يصحح هذا وبودّنا أن إخواننا ممن يعتلون المنابر لا يشتموا ذلك العصر ويتصوروا أنهم بذلك يرفعون قدر الإسلام، لا، الإسلام رفيع القدرة لوحده، بما فيه من مبادئ وقيم. أعطهم حقهم، هؤلاء الناس هم رفعوا شأن هذا الدين، الصحابة رجالٌ من الجاهلية والرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: ” خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا” فالعِلّة إذن “الفقه” وما دام ذهب عنهم الفقه ليسوا خياراً لأنهم من غير فقه الدين. ألم يضحك أحد الصحابة لأنه سبق أن أكل ربّه؟! هذا جهل في الدين لكن سلهم في الحكمة، في الشجاعة، في المروءة، في الكرم، في الغيرة على أعراضهم، أمة في غاية السمو والنُبل هذه الأمة التي كانت في الجزيرة ولذلك اختارها الله سبحانه وتعالى لتحمل آخر رسالة إلى الدنيا جميعاً. في الفتوحات الإسلامية التي بدأت من عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه خارج الجزيرة وامتدت على عهد الخلفاء الراشدين وامتدت إلى عهد الأمويين كل المقاتلين كانوا من هذا العصر. وحتى في الشيشان الآن يقولون أنهم من قبائل عربية وحتى في أقصى بلاد الأفغان وفي روسيا أناس ينتسبون إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) نسباً أنهم من أولاد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه،- هم عربٌ ولا يحسنون كلمة عربية – كما نقول بالعامية “سيّد” أو “الشريف” في شمال إفريقيا. وفي إيران كل عمامة سوداء يزعم صاحبها – والعهدة على صاحبها – أنه من ذرية عليّ، يعني هو عربي ولا يحسن أن يتكلم جملة عربية فامتد هؤلاء في الشرق والغرب. هؤلاء رجال نشروا هذا الدين:
تخالهم في ظهور الخيل نبتُ رُبى من شدة الحَزْم لا من شدة الحُزُم
نبت ربى نشروا هذا الدين فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
الجاهلين إما أن يكون بمعنى غير العالمين أو السفهاء. هذا متى يظهر؟ متى تُعرِض؟ بعد أن تأمر بالعُرف، بعد أن تتحرك وتتكلم معه مرة أو مرتين فإذا وجدت منه جهلاً وحماقة عند ذلك تُعرِض. يقول الإمام علي رضي الله عنه ” ما جادلت أو ما حاججت عاقلاً إلا غلبته وما جادلني أحمق إلا غلبني”. لأنه يرفع شعار لا أقتنع ولو أقنعتني، هذا كيف تتعامل معه؟ هذا الذي وجده يعظ إنساناً جُرِّبت الموعظة معه حتى يئس الناس منه فقيل له: يا فلان ما تصنع؟ قال: أغسل حبشياً لعلّه يبيض، أي أنا ما يئست منه.
الإعراض عن الجاهلين: متى يثبت عندك أنه جاهل؟ بعد أن تدعوه، بعد أن تشافهه، بعد أن تكلمه، بعد أن تدعوه أن يكف عما هو خلاف العرف. إذا تبين جهله وحماقته عند ذلك تُعرِض عنه (وإذا مروا باللغو مروا كراما) (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
**سؤال: هل هذا الترتيب (خذ وأمر وأعرض) مقصود بذاته؟
هذا الترتيب: خذ، أأمر، أعرِض مقصود بذاته حتى ينبني المجتمع بناء سليماً بهذه الصورة أن يكون هناك نوع من التسامح بين أفراد هذا المجتمع وأن يكون هناك تناصح وتجنب المِراء والجدل لأنك مع الجاهل ستكون في حال مِراء وجدل لا ينتهي إلى نتيجة. ولذلك إذا أحسّ الذي يريد أن ينصح الآخرين أو أن يعظهم أو يرشدهم أن المقابل لا نفع من ورائه أو أن المسألة التي يناقشها لا نفع من ورائها يكفّ عنها. لا يتصور أنه ضعيف الشخصية أو ما شابه لأن هذه مسألة تدخل في النيّة والإخلاص لله سبحانه وتعالى. أنت عندما تحدّث شخصاً في أمر من أمور شرع الله عز وجل لا تحدّثه حتى يقال “هو عالم” لأنه – والعياذ بالله – (حتى يقال هو عالم) أدخلت أو تدخل صاحبها النار يوم القيامة وفي الحديث أن أول من تُسجّر بهم النار (السجر هو وضع الشوك الذي يشتعل بسرعة تحت الجذور الكبيرة)، أول من تُسعّر بهم النار ثلاثة أصناف، من هذه الأصناف رجلٌ يُعرّف نِعَم الله عز وجل أنعم الله عليك بكذا وكذا وكذا فيقال له ماذا صنعت؟ فيقول: ربي وهبتني علماً فبثثته في سبيلك، فيقال له: كذبت وإنما بثثته ليقال هو عالم فقد قيل، فيُسحب إلى النار ويقال أخذت جزاءك. لذلك علماؤنا يشددون على تصفية النيّة لأن الإنسان بطبيعته تنحرف نيّته أحياناً هو يتكلم مع نفسه فيقول: كلامي مؤثّر، أنا نافع، أنا مفيد وغير ذلك، عند ذلك يقولون فإذا دخله شيء من ذلك فليبادر إلى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى ويُقلِع عنه مباشرة لأن الله سبحانه وتعالى يقول عن المتقين (إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) فالمتّقي إذن يمسّه طائف من الشيطان لأن هذه معركة والشيطان يريد أن يدخله النار، لكن انظر العبارة (إذا مسّهم) لا ينتظر أن يغور الطائف في أعماقهم ويظلم قلوبهم وإنما بمجرد المسّ يتذكر فيتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويسأله عز وجل أن يجعل عمله خالصاً لوجهه الكريم. ومن الأدعية المأثورة :” اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل والصواب فيهما”. يمكن أن يكون الإنسان مخلصاً لكن في الخطأ فيسأله الإخلاص في القول والعمل. لما يحدث إنساناً ويريد أن يزيحه عن مخالفة العُرف ويأتي به إلى عُرف الشرع، الإمام مالك إمام دار الهجرة والذي يقيل فيه لا يفتى ومالك في المدينة، أحياناً يُسأل فيقول للسائل: وقع لك هذا؟ حتى يفتيه، هذه ليست مسألة نظريات، فإذا قال السائل: نعم تحرّى الجواب وإذا قال له لا قال لا أدري، فمرة جاءه رجل وسأله فقال: وقع لك هذا؟ قال الرجل: لا ولكن يمكن أن يقع، فقال: لا أدري، فقال: أخرج إلى الناس فأقول مالك لا يدري؟ قال اخرج إلى الناس وقل مالك لا يدري. هذه تربيتنا وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم إذا كان هناك شيئاً لا يعلمه يقول لا يدري وإذا وجد أمامه شخصاً لا يحسن الحوار ودخل الأمر في المِراء والجدل الذي لا معنى له عند ذلك ينسحب إكراماً للمبادئ التي هو يدعو إليها، مبادئ الدين وأفكار الدين وليست من أفكار رجل وإنما المبادئ المستنبطة من الكتاب والسُنّة فلا ننزعج من كلمة الفكر الإسلامي أو المفكر الإسلامي، هو ليس مفكراً بدل محمد (صلى الله عليه وسلم) وإنما هو مفكّر في النصوص والنصوص أنت تفكر فيها.
**سؤال: ماذا يحدث لو حصل الترتيب: امر بالعرف وخذ العفو وأعرض عن الجاهلين؟
انظر النظام: في البداية أنت تكوّن نفسك (خذ العفو) أي ألزم نفسك بتربية معينة فيها معنى الصفح والسماح، هذه الأمور في البداية هي لتربية النفس. ثم تنتقل إلى مرحلة ثانية الأمور التي لا جدال فيها، مثلاً تأتي إلى رجل مسلم لا يصلي فتقول له يا أخي لا يختلف اثنان أن الصلاة عمود الدين ثم بعد ذلك لما تصل إلى مرحلة أخرى قد تتحدث معه فيقول لك أنا مسلم أصلي مؤمن بالنظام الاقتصادي الفلاني لكن لا أؤمن أن الإسلام نظام اقتصادي لا ينبغي أن ننظر فيه أو أن المرأة كانت في الجاهلية لها زِيُّها والآن لها زي آخر فلماذا تصرون على حشمة المرأة؟ أو كما يقول بعض العامّة: المرأة الشريفة تمشي عريانة بين طابور عسكر ولا شيء عليها، ما هذا الكلام؟! فلما تصل إلى هذه الأمور ستنتقل من موضوع العُرف إلى موضوع جدل لتقنعه بقضية هو غير مقتنع بها فإذا وجدت ممارياً شعاره لا أقتنع ولو أقنعتني! أو أحياناً تتحاور مع شخص وتأتيه بنصوص يقول لك غلبتني، أنت لديك نصوص اسمح لي أن أذهب وآتي بمن لديه نصوص وقد وقع هذا الأمر معي شخصياً في دمشق سمعت رجلاً يشتم صلاح الدين الأيوبي فسألته: لماذا تشتم صلاح الدين؟ وتحاورنا ولما انقطع الرجل قال أنت عندك معلومات أنا سأذهب إلى فلان وآتي به ليحاورك في هذه القضية، يا أخي الله تعالى خلق لك عقلاً!. إذن هذا هو الترتيب الطبيعي (خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين): يربي نفسه، يكوّن نفسه، ينظر إلى الآخرين، يأمرهم بالشيء الذي لا مجال للجدال فيه.
**سؤال: ما اللمسة البيانية في الفعل (أُمُر)؟ ولماذا لم يستخدم فعل انصح أو أُدعُ؟
الأمر ليس دائماً بمعنى الفرض وإنما أن يستخدم هذه الصيغة صيغة (افعل) فإذا كان ممن هو صاحب أمر يكون الأمر على معناه الحقيقي. لأن كلمة (افعل) قد تكون من الأعلى إلى الأدنى: لما رب العزة يأمرنا بشيء، حتى لما يأمرنا يُنظر السياق هل هو أمر إلزام أو أمر إباحة؟ لما يقول تعالى: (وأقيموا الصلاة) هذا أمر إلزام، ولكن لما يقول: (كلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود) هذا أمر إباحة أي يرخّص لكم بالأكل والشرب. فيُنظر في سياق الأمر. أحياناً الأمر يكون من الأدنى إلى الأعلى مثل كلمة: اغفر، فعل أمر لكن هي للدعاء لأنه من البشر إلى رب العزة سبحانه وتعالى (اللهم اغفر لنا، ارحمنا) هذا فعل أمر ولذلك بعض النحويين لا يسميه أمراً وإنما يسميه طلباً. لا هو صيغة أمر لكن من الأدنى إلى الأعلى غرضه الدعاء. إذا كان الأمر من صديق إلى صديق يكون نوع من الالتماس والرجاء.
دلالة الأمر تختلف من الآمر إلى الآخر ومن السياق. الآمر هو الله سبحانه وتعالى، مرة كانت إلزاماً ومرة كانت إباحة. ننظر الذي صدر منه الأمر والسياق فإذا صدر الأمر ممن له سلطة الأمر لأن هذه في الإسلام مقننة لأن الذي يأمر الناس أمر إلزام هو الإمام أو من ينيبه الإمام. فالإمام الذي هو الإمام المبسوط الطاعة، الحاكم المبايع على إقامة شرع الله سبحانه وتعالى فيما ورد في كتاب الله وسُنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) واجب الطاعة يجب أن يطاع إلا إذا أمر بمعصية. والمعصية هي ما عندنا فيه من الله سبحانه وتعالى عليه برهان وليس باجتهاد. يعني إذا اختلف اجتهادك مع اجتهاد ولي الأمر يمضي اجتهاد ولي الأمر لا تقول هذا اجتهادي لأن اجتهاده أمر ملزم ” اسمعوا وأطيعوا إلا أن تروا كُفراً بواحاً” أي كفراً ظاهراً. أو من يُنيبه من ولاة وحكام لأنه لا يستطيع أن يباشر أموره كلها لوحده، أما عموم الناس ليس لهم أن يأمروا بهذا المعنى أما أمرهم فهو نُصح.
(أُمُر بالعُرف): الأمر خاص بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وبمن يليه من الحُكّام، هذا في الأمر المُلزِم. أما الأمر الذي هو بمعنى النُصح كأن أقول لك: افتح المصحف، هذا ليس أمراً لأنه ليس لي عليك سلطة أمر وإنما للالتماس. من حيث القانون ليس لأحد سلطة أمر إلا الذي أمّره القانون. فالأمر ينظر إليه على هذا الأساس فإذا كان الأمر من ولي الأمر يكون واجب التطبيق والطاعة ومعصيته معصية لله ورسوله.
لماذا لم تستخدم كلمة (السفهاء) بدل الجاهلين مع أنها استخدمت في مواطن أخرى في القرآن؟
الجاهلون تحوي الأمرين: الجهل ضد العلم والجهل الذي هو ضد العلم والتعقّل (السفاهة). ولو قال (وأعرض عن السفهاء) سيبقى إنسان جاهل تحدّثه هو ليس سفيهاً وليس عنده علم بالموضوع. إذا حدّثته يقول لك كُفّ عن هذا الكلام وإلا أترك المجلس وهذا نسمعه. مثلاً لما يأتي شخص رائحة الدخان تفوح منه فتقول له يا فلان أنت أخي لو تركت التدخين فيقول لك إذا تكلمت في هذا الموضوع أترك المجلس وأنت تقول له يا أخي أنا ليس لي عليك سلطان أنا آمرك أمراً أي نصحاً. ففرق بين السفيه والجاهل فجمعهما القرآن الكريم بالجاهلين بصنيعتهم.
هل يندرج الكفار مع الجاهلين؟
الكفار يندرجون في الجاهلين. المجتمع الإسلامي ليس إسلامياً صِرفاً إنما فيه كفار وفيه عابد النار (المجوس) مع ذلك قال (صلى الله عليه وسلم): سنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب. إلا العرب في الجاهلية لا يُقبل منهم إلا أحد أمرين: الإسلام أو القتال لأن القرآن عربي، يقال له: اقرأ أنت هل تظن أن هذا الكلام من كلام بشر؟ فإذن إصرارك على عدم الإسلام هو إصرار في غير محلّه بينما عموم البشر لهم إما الإسلام أو الجزية إعلان الخضوع لدولة الإسلام حتى يسمح لدعاة الإسلام (لا إكراه في الدين. حتى لا يقال لهم ماذا تصنعون هنا. هذه الأوامر الثلاثة خاصة للمجتمع كله، أنت تنصح لسبب أنت تعتقد كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): ” مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فصار الفراش يقع فيها فأنا أذودكم عنها وأنتم تفلّتون مني” (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فالمسلم مأمور لما يجد شخصاً لا يصلي – وأول سؤال يوم القيامة الصلاة فإذا فسدت فسد سائر عمله إذا لم تكن موجودة يُقفل الملف ولا ينفع أنك كنت إنساناً طيباً أو صالحاً أنفقت أو عملت أو غيره – لا يصلي وأنت تعلم بذلك وهو جارك سيكون مصيره خطيراً فكيف تسكت عنه؟ ينبغي أن تحدّثه وأن تذكّره بطاعة الله سبحانه وتعالى. فهو أمر صحيح للرسول (صلى الله عليه وسلم) لكنه عام لجميع أتباعه كلٌ بما عنده من علم.