سورة لقمان
آية (1-3):
(الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3))
*الأحرف المقطعة في القرآن الكريم كيف نفهمها وما هي اللمسات البيانية الموجودة فيها؟
تبدأ السورة الكريمة بقوله تعالى: (الم) وفيما أحسب أنه حصل سؤال قديم في الأحرف المقطعة عموماً وذكرنا ما ذكرنا فيها وما قيل فيها في القديم لا يمكن أن أزيد عليه لكن أذكر بعض الأمور التي ذكرها القدماء: قيل في عموم هذه الأحرف قسم منهم قال المقصود شد انتباه السامع إلى ما يلي بعد هذه الأحرف لأن العرب غير معتادين أن يقولوا ألم ثم تبدأ بالكلام فعندما يقول ألم أو حم ويبدأ بالأحرف المقطعة السامع لا بد أن ينتبه ما هذا الأمر؟ ما هذا الكلام؟ ما هذا الشيء؟ فيشد انتباهه إلى ما سيقال بعدها. إذن قسم قال المقصود منها هو شد انتباه السامع لما يقال بعدها. وقسم قال هي من باب التحدي، القرآن الكريم هو مؤلف من جنس هذه الأحرف التي تتكلمون بها وهي تتألف منها لغتكم والقرآن يأتي بكلام معجز تحداكم بها وهو من المادة نفسها التي تتكلمون بها فاتوا بمثل هذا القرآن، إذن هي من باب التحدي لهم أن القرآن من جنس هذه الأحرف لكن يؤلف منه كلاماً معجزاً أنتم أيها البلغاء والفصحاء أتوا بمثل هذا الكلام. ثم القدماء نظروا في هذه الأحرف وحاولوا أيضاً أن يروا فيها إشارات وأظن الزمخشري بدأ بهذا وقال هي أربعة عشر حرفاً في تسع وعشرين سورة يعني نصف حروف المعجم موزعة على عدد حروف المعجم، الذي ذُكِر منها هو أشهر الحروف. هذه شملت نصف حروف المعجم وشملت أنصاف أنواع الحروف (مثلاً شملت نصف المهموسة، ونصف المجهورة، ونصف الشديدة، ونصف الرخوة، ونصف المُطبقة، ونصف المنفتحة، ونصف القلقلة، ونصف اللين، ونصف المستعلية، ونصف المستفلة، ونصف الذلاقة، ونصف حروف الحلق) كما جاء بنصف الأحرف جاء أيضاً بأنصاف أوصاف الحروف. وقال أن الأحرف قسم منها من حرف واحد (ص، ق) قسم من حرفين (حم) قسم من ثلاثة (الم، الر) قسم من أربعة (المص) قسم من خمسة (كهيعص) وهذه الكلمات العربية هي هذه أي الأبنية إما يكون من حرف واحد كقسم من الضمائر والحروف كالكاف وقسم من الحروف كهمزة الاستفهام وباء الجر وواو العطف، وقسم من حرفين مثل ذو، وقسم من ثلاث مثل الفعل الثلاثي والاسم الثلاثي وقسم من أربعة وقسم من خمسة ثم لا شيء بعد ذلك في العربية لأنه ليس هناك سداسي أصيل وإنما مزيد فهي جاءت على أصول كلمات العربية. والقدامى نظروا نظرة أخرى فقالوا مثلاً (الم) لو لاحظنا ألم الهمزة حرف حلقي واللام ذلاقة من وسط اللسان والميم شفوي، كل السور التي تبدأ بألم كلها تبدأ أول الخلق، وسط الخلق، نهاية الخلق كأن بينها تناسب وبين مخارج الحروف. في لقمان تبدأ (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) هذا الخلق الأول ثم الوسط (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)) وما ذكر من إنزال الماء، ثم في الآخر (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)) الآخرة. قالوا جميع السور التي تبدأ بـ ألم هكذا. أيضاً انتبه القدامى أن هذه التي تبدأ بهذه الأحرف يكون التعبير فيها طابع هذه الأحرف يعني التي تبدأ بالصاد تكثر فيها الكلمات الصادية يعني هي تعطيك بداية فنية لما يكثر من الأحرف في هذه السورة. مثل سورة ق تردد فيها الكلمات التي فيها قاف (ق والقرآن المجيد، إذ يتلقى المتلقيان، قعيد، سائق، تشقق)، في ص ذكر الخصومات، الخصم، يختصمون، مناص، صيحة، اصبروا، صيحة، اصبر، الكلمات فيها صاد. ثم استدلوا إلى الإحصاء قالوا ضربوا مثالاً في سورة يونس تبدأ بـ الر وفي هذه السورة تكررت الكلمات التي فيها راء كثيراً وأقرب السور إليها سورة النمل والنحل وهي أطول منها لكنها لم تتردد الراء فيها كما في يونس ففيها (فيها 220 راء) هكذا أحصوا. ثم الملاحظة أن كل السور التي تبدأ بالطاء (طه، طس، طسم) كلها تبدأ بقصة موسى أولاً، كلها بلا استثناء. سورة الشعراء والقصص وطه تبدأ أول ما تبدأ بالقصص تبدأ بقصة موسى (عليه السلام) وقد يذكر بعدها قصصاً أخرى ففي الشعراء يذكر قصة نوح بعد قصة موسى. يبدو كما يقولون أن اللمسة البيانية إذا كان أنه هذه تشير إلى أن الحروف المذكورة أولاً تطبع طابع السورة فيكون من باب السمة التعبيرية. نحن نقول هناك سمة تعبيرية للسورة وسمة تعبيرية للسياق أي سورة تكثر فيها كلمات معينة مثل كلمة الله في سورة البقرة وكلمة الرب في سورة آل عمران والرحمن والرحمة في سورة مريم أكثر سورة في القرآن تردد فيها الرحمة والرحمن. قد تكون سمة تعبيرية. ليس هذا فقط ولكن قبل سنوات أخرج دكتور مهندس أخرج كتاباً عن المناهج الرياضية في التعبير القرآني عملها على الكمبيوتر وهو يقول أنه لاحظ أن الأحرف المذكورة في بداية السور تتناسب في السور تناسباً طبيعياً فالتي تبدأ بـ (ألم) يكون الألف أكثر تكراراً في السورة ثم اللام ثم الميم وليس هذا فقط وإنما نسبة الألف إلى اللام مثل نسبة اللام إلى الميم، هذه معادلة رياضية حتى أنني ناقشته وسألته هل راجعت الصحف وتعبقها عليه فقال نعم طبقتها على الصحف لكنه وجد القرآن متفرداً بها.
* هل هناك علاقة بين الأحرف المقطعة في بداية السورة وبين السورة كلها؟ ففي مريم مثلاً لو وضعنا مكان كهيعص طسم هل تتغير الدلالة التعبيرية للسورة؟
هو ليست الدلالة ولكن إذا كان كما يقال تفيد السمة التعبيرية للسورة معنى ذلك أنها تتغير. ألم هي حروف متقطعة وليست كلمات وإن كان قسم من القدامى حاولوا أن يجمعوا هذه الأحرف ويستخرجوا منها جملاً ولاحظت أن كل طائفة تضع جملة تنصر بها طائفتها وقسم يقول لو جمعت الأحرف تحصل على جملة “نص حكيم قاطع له سر”. سألتمونيها، اليوم تنساه، وقسم يقول يا أوس هل نمت؟ الوسمي هتّان (أي المطر ينزل)، هويت السُمان، تُجمع منها عبارات، يجمعون من الأحرف بصور مختلفة كل واحدة لها معنى.
* هل كانت العرب تتكلم في لغتها العربية بالأحرف المقطعة؟
كلا ويقولون هذا لشد انتباههم لأنه غير مألوف في كلامهم، هم يسمون الأحرف.
القول الفصل فيها أنها حروف لها سر من قبل الله تعالى لا نعلمه وقسم قالوا هي من المتشابه الذي لا نعلمه. قد يكون هذا الرأي ولكن هذه الملاحظات جديرة بالانتباه أيضاً.
آية (1-3):
(الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3))
*الأحرف المقطعة في القرآن الكريم كيف نفهمها وما هي اللمسات البيانية الموجودة فيها؟
تبدأ السورة الكريمة بقوله تعالى: (الم) وفيما أحسب أنه حصل سؤال قديم في الأحرف المقطعة عموماً وذكرنا ما ذكرنا فيها وما قيل فيها في القديم لا يمكن أن أزيد عليه لكن أذكر بعض الأمور التي ذكرها القدماء: قيل في عموم هذه الأحرف قسم منهم قال المقصود شد انتباه السامع إلى ما يلي بعد هذه الأحرف لأن العرب غير معتادين أن يقولوا ألم ثم تبدأ بالكلام فعندما يقول ألم أو حم ويبدأ بالأحرف المقطعة السامع لا بد أن ينتبه ما هذا الأمر؟ ما هذا الكلام؟ ما هذا الشيء؟ فيشد انتباهه إلى ما سيقال بعدها. إذن قسم قال المقصود منها هو شد انتباه السامع لما يقال بعدها. وقسم قال هي من باب التحدي، القرآن الكريم هو مؤلف من جنس هذه الأحرف التي تتكلمون بها وهي تتألف منها لغتكم والقرآن يأتي بكلام معجز تحداكم بها وهو من المادة نفسها التي تتكلمون بها فاتوا بمثل هذا القرآن، إذن هي من باب التحدي لهم أن القرآن من جنس هذه الأحرف لكن يؤلف منه كلاماً معجزاً أنتم أيها البلغاء والفصحاء أتوا بمثل هذا الكلام. ثم القدماء نظروا في هذه الأحرف وحاولوا أيضاً أن يروا فيها إشارات وأظن الزمخشري بدأ بهذا وقال هي أربعة عشر حرفاً في تسع وعشرين سورة يعني نصف حروف المعجم موزعة على عدد حروف المعجم، الذي ذُكِر منها هو أشهر الحروف. هذه شملت نصف حروف المعجم وشملت أنصاف أنواع الحروف (مثلاً شملت نصف المهموسة، ونصف المجهورة، ونصف الشديدة، ونصف الرخوة، ونصف المُطبقة، ونصف المنفتحة، ونصف القلقلة، ونصف اللين، ونصف المستعلية، ونصف المستفلة، ونصف الذلاقة، ونصف حروف الحلق) كما جاء بنصف الأحرف جاء أيضاً بأنصاف أوصاف الحروف. وقال أن الأحرف قسم منها من حرف واحد (ص، ق) قسم من حرفين (حم) قسم من ثلاثة (الم، الر) قسم من أربعة (المص) قسم من خمسة (كهيعص) وهذه الكلمات العربية هي هذه أي الأبنية إما يكون من حرف واحد كقسم من الضمائر والحروف كالكاف وقسم من الحروف كهمزة الاستفهام وباء الجر وواو العطف، وقسم من حرفين مثل ذو، وقسم من ثلاث مثل الفعل الثلاثي والاسم الثلاثي وقسم من أربعة وقسم من خمسة ثم لا شيء بعد ذلك في العربية لأنه ليس هناك سداسي أصيل وإنما مزيد فهي جاءت على أصول كلمات العربية. والقدامى نظروا نظرة أخرى فقالوا مثلاً (الم) لو لاحظنا ألم الهمزة حرف حلقي واللام ذلاقة من وسط اللسان والميم شفوي، كل السور التي تبدأ بألم كلها تبدأ أول الخلق، وسط الخلق، نهاية الخلق كأن بينها تناسب وبين مخارج الحروف. في لقمان تبدأ (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) هذا الخلق الأول ثم الوسط (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)) وما ذكر من إنزال الماء، ثم في الآخر (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)) الآخرة. قالوا جميع السور التي تبدأ بـ ألم هكذا. أيضاً انتبه القدامى أن هذه التي تبدأ بهذه الأحرف يكون التعبير فيها طابع هذه الأحرف يعني التي تبدأ بالصاد تكثر فيها الكلمات الصادية يعني هي تعطيك بداية فنية لما يكثر من الأحرف في هذه السورة. مثل سورة ق تردد فيها الكلمات التي فيها قاف (ق والقرآن المجيد، إذ يتلقى المتلقيان، قعيد، سائق، تشقق)، في ص ذكر الخصومات، الخصم، يختصمون، مناص، صيحة، اصبروا، صيحة، اصبر، الكلمات فيها صاد. ثم استدلوا إلى الإحصاء قالوا ضربوا مثالاً في سورة يونس تبدأ بـ الر وفي هذه السورة تكررت الكلمات التي فيها راء كثيراً وأقرب السور إليها سورة النمل والنحل وهي أطول منها لكنها لم تتردد الراء فيها كما في يونس ففيها (فيها 220 راء) هكذا أحصوا. ثم الملاحظة أن كل السور التي تبدأ بالطاء (طه، طس، طسم) كلها تبدأ بقصة موسى أولاً، كلها بلا استثناء. سورة الشعراء والقصص وطه تبدأ أول ما تبدأ بالقصص تبدأ بقصة موسى (عليه السلام) وقد يذكر بعدها قصصاً أخرى ففي الشعراء يذكر قصة نوح بعد قصة موسى. يبدو كما يقولون أن اللمسة البيانية إذا كان أنه هذه تشير إلى أن الحروف المذكورة أولاً تطبع طابع السورة فيكون من باب السمة التعبيرية. نحن نقول هناك سمة تعبيرية للسورة وسمة تعبيرية للسياق أي سورة تكثر فيها كلمات معينة مثل كلمة الله في سورة البقرة وكلمة الرب في سورة آل عمران والرحمن والرحمة في سورة مريم أكثر سورة في القرآن تردد فيها الرحمة والرحمن. قد تكون سمة تعبيرية. ليس هذا فقط ولكن قبل سنوات أخرج دكتور مهندس أخرج كتاباً عن المناهج الرياضية في التعبير القرآني عملها على الكمبيوتر وهو يقول أنه لاحظ أن الأحرف المذكورة في بداية السور تتناسب في السور تناسباً طبيعياً فالتي تبدأ بـ (ألم) يكون الألف أكثر تكراراً في السورة ثم اللام ثم الميم وليس هذا فقط وإنما نسبة الألف إلى اللام مثل نسبة اللام إلى الميم، هذه معادلة رياضية حتى أنني ناقشته وسألته هل راجعت الصحف وتعبقها عليه فقال نعم طبقتها على الصحف لكنه وجد القرآن متفرداً بها.
* هل هناك علاقة بين الأحرف المقطعة في بداية السورة وبين السورة كلها؟ ففي مريم مثلاً لو وضعنا مكان كهيعص طسم هل تتغير الدلالة التعبيرية للسورة؟
هو ليست الدلالة ولكن إذا كان كما يقال تفيد السمة التعبيرية للسورة معنى ذلك أنها تتغير. ألم هي حروف متقطعة وليست كلمات وإن كان قسم من القدامى حاولوا أن يجمعوا هذه الأحرف ويستخرجوا منها جملاً ولاحظت أن كل طائفة تضع جملة تنصر بها طائفتها وقسم يقول لو جمعت الأحرف تحصل على جملة “نص حكيم قاطع له سر”. سألتمونيها، اليوم تنساه، وقسم يقول يا أوس هل نمت؟ الوسمي هتّان (أي المطر ينزل)، هويت السُمان، تُجمع منها عبارات، يجمعون من الأحرف بصور مختلفة كل واحدة لها معنى.
* هل كانت العرب تتكلم في لغتها العربية بالأحرف المقطعة؟
كلا ويقولون هذا لشد انتباههم لأنه غير مألوف في كلامهم، هم يسمون الأحرف.
القول الفصل فيها أنها حروف لها سر من قبل الله تعالى لا نعلمه وقسم قالوا هي من المتشابه الذي لا نعلمه. قد يكون هذا الرأي ولكن هذه الملاحظات جديرة بالانتباه أيضاً.
*بدأت السورة بقوله تبارك وتعالى (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) مقارنة بين بداية سورة لقمان وبداية سورة البقرة (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2))؟
أشار إلى الآيات (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) لم يشر إلى الكتاب كما في البقرة (ذلك الكتاب) لو لاحظنا في سورة لقمان تردد كثير من الآيات السمعية والكونية، مثلاً قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7)) الآيات الكونية (خلق السموات بغير عمد، إلقاء الرواسي وإخراج النبات) وسمّاها آيات (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)) هذه آيات كونية وتلك آيات سمعية (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)). ثم هنالك أمر وهو أن كلمة الكتاب ومشتقات الكتابة في البقرة أكثر من الآيات وفي لقمان كلمة الآيات أكثر من الكتابة. في البقرة مشتقات الكتاب والكتابة 47 مرة والآيات 21 مرة وفي لقمان ذكر الكتاب مرتين والآيات خمس مرات، هذه سمة تعبيرية أن التي بدأت بالكتاب ذكر فيها الكتاب أكثر والتي بدأ فيها بالآيات ذكر فيها الآيات أكثر. نلاحظ أيضاً أن هنالك أمر: قال في لقمان (الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) في البقرة لم يصف الكتاب. ما معنى الحكيم؟ الحكيم محتمل أن يكون من الحكمة ينطق بالحكمة ذو حكمة، ومحتمل أن يكون من الحُكم أي حاكم على غيره ومهيمن عليه (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (48) المائدة) المهيمن حاكم إذن الحكيم هنا ينطق بالحكمة حتى أنه تعالى قال (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (34) الأحزاب) هو حكمة ينطق بالحكمة، أو الحُكم على الكتب قبله أي مهيمناً، تلك الكتب بالنسبة له منسوخة وهو الآن الحاكم ومن كان يتبع الكتب السابقة فليتبع هذا الكتاب الآن الكتاب المهيمن هو هذا الكتاب. وأيضاً يأتي فعيل باسم المفعول مثل فعيل بمعنى مفعول، حكيم بمعنى مُحكم، حكيم من أحكم بمعنى مُحكَم. قال تعالى (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) هود) أحكمت آياته أي ليس فيها خلل. قد يكون من الحكمة أو من الحكم أو استواؤها وعدم وجود الخلل فيها وهذا من باب التوسع في المعنى. لو أراد تعالى معنى محدداً لخصّص. في سورة البقرة ما وصف الكتاب لأن السورة فيها اتجاه آخر. قال الحكيم ثم قال هدى ورحمة، وهنا قال (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة). وصفه بالحكيم هو مناسب لما ورد في لقمان من الحكمة (آتينا لقمان الحكمة) وذكر الحِكَم، (لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) متناسب مع (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ (23) البقرة) في سورة البقرة وربنا وصف أن الله تعالى عزيز حكيم في سورة لقمان أكثر من مرة فكلمة حكيم مناسبة لجو السورة تبدأ (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)) وذكر الحكمة.
*بدأت السورة بقوله تبارك وتعالى (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) مقارنة بين بداية سورة لقمان وبداية سورة البقرة (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2))؟
أشار إلى الآيات (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) لم يشر إلى الكتاب كما في البقرة (ذلك الكتاب) لو لاحظنا في سورة لقمان تردد كثير من الآيات السمعية والكونية، مثلاً قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7)) الآيات الكونية (خلق السموات بغير عمد، إلقاء الرواسي وإخراج النبات) وسمّاها آيات (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)) هذه آيات كونية وتلك آيات سمعية (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)). ثم هنالك أمر وهو أن كلمة الكتاب ومشتقات الكتابة في البقرة أكثر من الآيات وفي لقمان كلمة الآيات أكثر من الكتابة. في البقرة مشتقات الكتاب والكتابة 47 مرة والآيات 21 مرة وفي لقمان ذكر الكتاب مرتين والآيات خمس مرات، هذه سمة تعبيرية أن التي بدأت بالكتاب ذكر فيها الكتاب أكثر والتي بدأ فيها بالآيات ذكر فيها الآيات أكثر. نلاحظ أيضاً أن هنالك أمر: قال في لقمان (الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) في البقرة لم يصف الكتاب. ما معنى الحكيم؟ الحكيم محتمل أن يكون من الحكمة ينطق بالحكمة ذو حكمة، ومحتمل أن يكون من الحُكم أي حاكم على غيره ومهيمن عليه (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (48) المائدة) المهيمن حاكم إذن الحكيم هنا ينطق بالحكمة حتى أنه تعالى قال (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ (34) الأحزاب) هو حكمة ينطق بالحكمة، أو الحُكم على الكتب قبله أي مهيمناً، تلك الكتب بالنسبة له منسوخة وهو الآن الحاكم ومن كان يتبع الكتب السابقة فليتبع هذا الكتاب الآن الكتاب المهيمن هو هذا الكتاب. وأيضاً يأتي فعيل باسم المفعول مثل فعيل بمعنى مفعول، حكيم بمعنى مُحكم، حكيم من أحكم بمعنى مُحكَم. قال تعالى (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) هود) أحكمت آياته أي ليس فيها خلل. قد يكون من الحكمة أو من الحكم أو استواؤها وعدم وجود الخلل فيها وهذا من باب التوسع في المعنى. لو أراد تعالى معنى محدداً لخصّص. في سورة البقرة ما وصف الكتاب لأن السورة فيها اتجاه آخر. قال الحكيم ثم قال هدى ورحمة، وهنا قال (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة). وصفه بالحكيم هو مناسب لما ورد في لقمان من الحكمة (آتينا لقمان الحكمة) وذكر الحِكَم، (لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) متناسب مع (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ (23) البقرة) في سورة البقرة وربنا وصف أن الله تعالى عزيز حكيم في سورة لقمان أكثر من مرة فكلمة حكيم مناسبة لجو السورة تبدأ (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)) وذكر الحكمة.
* ما الفرق بين قوله تعالى (هدى للمتقين) (هدى ورحمة للمحسنين) ؟
قال تعالى في سورة البقرة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)) وقال في سورة لقمان (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)) .
زاد تعالى في سورة لقمان الرحمة واختلف بيت المتقين والمحسنين. المتّقي هو الذي يحفظ نفسه فمتقي النار هو الذي يحمي نفسه منها أما المحسن فيُحسن إلى نفسه وإلى الآخرين كما جاء في قوله تعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك) و(بالوالدين إحسانا) فالإحسان فيه جانب شخصي وجانب للآخرين. إذن هناك فرق بين المتقي والمحسن ثم إن الإحسان إلى الآخرين من الرحمة فزاد تعالى في سورة لقمان الرحمة للمحسنين فكما أن المحسن أحسن للآخرين ورحمهم زاد الله تعالى له الرحمة فقال (هدى ورحمة للمحسنين). فالمحسن إذن زاد على المتقي فزاد الله تعالى له الرحمة والإحسان من الرحمة فزاد الله تعالى له الرحمة في الدنيا (هدى ورحمة للمحسنين) وفي الآخرة أيضاً (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، فكما زاد المحسنون في الدنيا زاد الله تعالى لهم الرحمة في الدنيا والآخرة . الجزاء من جنس العمل ولهذا اقتضى في آية سورة لقمان أن يقول تعالى (هدى ورحمة للمحسنين) ولو قال تعالى هدى للمحسنين لبخس حق المحسنين وكما نعلم إن المحسن يفضل المتّقي والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الإيمان أعمّ من الإحسان ولا يمكن للإنسان أن يكون متقياً حتى يكون مؤمناً وورود كلمة المتقين، المؤمنين، المحسنين والمسلمين يعود إلى سياق الآيات في كل سورة.
في البقرة قال (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ثم قال (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ (24)) اتقوا النار مقابل المتقين فإذن هناك مناسبة بين هدى للمتقين وكلمة التقوى ترددت كثيراً في البقرة. فإذن (لاَ رَيْبَ فِيهِ) متناسب مع قوله (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ) والمتقين واتقوا الله. في لقمان قال هدى ورحمة للمحسنين وفي البقرة قال فقط هدى للمتقين. أولاً ما الفرق بين المتقي والمحسن؟ المتقي هو الذي يحفظ نفسه يتقي الأشياء، المُحسِن يحسن إلى نفسه وإلى غيره (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (77) القصص) (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) البقرة) الإحسان يتعداه إلى نفسه وإلى غيره. إذن الإحسان لا يقتصر على النفس أما التقوى فتقتصر على النفس، الإحسان إلى الآخرين من الرحمة فلما رحموا الآخرين وتعدى إحسانهم إلى غيرهم فرحموا الآخرين ربنا يزيد الرحمة، أما التقوى للنفس وهؤلاء إحسان للنفس وإلى الآخرين والإحسان إلى الآخرين هي الرحمة فلما زادوا هم زادهم والجزاء من جنس العمل، حتى في الآخرة زاد لهم الجزاء قال تعالى في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس) وهذه رحمة، فكما زاد الجزاء لهم في الآخرة زاد لهم في الدنيا، (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) و (هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ).
ولو لاحظنا أن هذه الأوصاف هدى ورحمة للمحسنين هي مناسبة لما ورد في عموم السورة وما شاع في جو السورة، قال هدى ورحمة وإحسان، لو لاحظنا مظاهر الهدى المذكورة في سورة لقمان قال (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ (5)) (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15)) الذي يسلك السبيل يبتغي الهداية، هذا هدى، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) لم يكتف بالهدى والكتاب وإنما كتاب منير والإنسان يستعمل الإنارة للهداية وليس كتاباً فقط. (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى) العلم هدى والكتاب ليس فقط كتاب وإنما كتاب منير وموصوف بالإنارة والإنارة لغرض الهداية لأن الإنسان إذا مشى في الظلام لا يهتدي. من مظاهر الهدى في لقمان النكير على الضالين والمضلين (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (6)) الإضلال نقيض الهداية، (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11)) الهداية في سورة لقمان يشيع بها الجو، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)) إذن جو الهداية شائع في لقمان. ثم الرحمة لما ذكر قوله تعالى (أن تميد بكم) هذا من الرحمة، ولما ذكر تسخير ما في السموات والأرض وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) هل هناك أعظم من هذه الرحمة؟ من مظاهر الإحسان إيتاء الزكاة أليست الزكاة إحساناً للآخرين (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (22))، الإحسان في الوصية بالوالدين والإحسان إليهما، إذن جو السورة كلها شائع فيه الهدى والرحمة والإحسان وهذه ليست في البقرة وإنما سورة البقرة ذكرت أموراً أخرى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)) (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) وصف كثير ثم انتهى (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)) أما في لقمان فاختصر (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). في لقمان كرر كلمة (هم) في البقرة لم يكررها (وبالآخرة هم يوقنون).
*(هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3) لقمان) ما دلالة نصب كلمة رحمة؟
فيها وجهان هي إما مفعول لأجله أو حال.
* ما الفرق بين قوله تعالى (هدى للمتقين) (هدى ورحمة للمحسنين) ؟
قال تعالى في سورة البقرة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)) وقال في سورة لقمان (هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)) .
زاد تعالى في سورة لقمان الرحمة واختلف بيت المتقين والمحسنين. المتّقي هو الذي يحفظ نفسه فمتقي النار هو الذي يحمي نفسه منها أما المحسن فيُحسن إلى نفسه وإلى الآخرين كما جاء في قوله تعالى (وأحسن كما أحسن الله إليك) و(بالوالدين إحسانا) فالإحسان فيه جانب شخصي وجانب للآخرين. إذن هناك فرق بين المتقي والمحسن ثم إن الإحسان إلى الآخرين من الرحمة فزاد تعالى في سورة لقمان الرحمة للمحسنين فكما أن المحسن أحسن للآخرين ورحمهم زاد الله تعالى له الرحمة فقال (هدى ورحمة للمحسنين). فالمحسن إذن زاد على المتقي فزاد الله تعالى له الرحمة والإحسان من الرحمة فزاد الله تعالى له الرحمة في الدنيا (هدى ورحمة للمحسنين) وفي الآخرة أيضاً (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، فكما زاد المحسنون في الدنيا زاد الله تعالى لهم الرحمة في الدنيا والآخرة . الجزاء من جنس العمل ولهذا اقتضى في آية سورة لقمان أن يقول تعالى (هدى ورحمة للمحسنين) ولو قال تعالى هدى للمحسنين لبخس حق المحسنين وكما نعلم إن المحسن يفضل المتّقي والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الإيمان أعمّ من الإحسان ولا يمكن للإنسان أن يكون متقياً حتى يكون مؤمناً وورود كلمة المتقين، المؤمنين، المحسنين والمسلمين يعود إلى سياق الآيات في كل سورة.
في البقرة قال (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ثم قال (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ (24)) اتقوا النار مقابل المتقين فإذن هناك مناسبة بين هدى للمتقين وكلمة التقوى ترددت كثيراً في البقرة. فإذن (لاَ رَيْبَ فِيهِ) متناسب مع قوله (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ) والمتقين واتقوا الله. في لقمان قال هدى ورحمة للمحسنين وفي البقرة قال فقط هدى للمتقين. أولاً ما الفرق بين المتقي والمحسن؟ المتقي هو الذي يحفظ نفسه يتقي الأشياء، المُحسِن يحسن إلى نفسه وإلى غيره (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (77) القصص) (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) البقرة) الإحسان يتعداه إلى نفسه وإلى غيره. إذن الإحسان لا يقتصر على النفس أما التقوى فتقتصر على النفس، الإحسان إلى الآخرين من الرحمة فلما رحموا الآخرين وتعدى إحسانهم إلى غيرهم فرحموا الآخرين ربنا يزيد الرحمة، أما التقوى للنفس وهؤلاء إحسان للنفس وإلى الآخرين والإحسان إلى الآخرين هي الرحمة فلما زادوا هم زادهم والجزاء من جنس العمل، حتى في الآخرة زاد لهم الجزاء قال تعالى في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس) وهذه رحمة، فكما زاد الجزاء لهم في الآخرة زاد لهم في الدنيا، (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) و (هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ).
ولو لاحظنا أن هذه الأوصاف هدى ورحمة للمحسنين هي مناسبة لما ورد في عموم السورة وما شاع في جو السورة، قال هدى ورحمة وإحسان، لو لاحظنا مظاهر الهدى المذكورة في سورة لقمان قال (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ (5)) (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15)) الذي يسلك السبيل يبتغي الهداية، هذا هدى، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) لم يكتف بالهدى والكتاب وإنما كتاب منير والإنسان يستعمل الإنارة للهداية وليس كتاباً فقط. (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى) العلم هدى والكتاب ليس فقط كتاب وإنما كتاب منير وموصوف بالإنارة والإنارة لغرض الهداية لأن الإنسان إذا مشى في الظلام لا يهتدي. من مظاهر الهدى في لقمان النكير على الضالين والمضلين (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (6)) الإضلال نقيض الهداية، (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11)) الهداية في سورة لقمان يشيع بها الجو، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)) إذن جو الهداية شائع في لقمان. ثم الرحمة لما ذكر قوله تعالى (أن تميد بكم) هذا من الرحمة، ولما ذكر تسخير ما في السموات والأرض وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) هل هناك أعظم من هذه الرحمة؟ من مظاهر الإحسان إيتاء الزكاة أليست الزكاة إحساناً للآخرين (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (22))، الإحسان في الوصية بالوالدين والإحسان إليهما، إذن جو السورة كلها شائع فيه الهدى والرحمة والإحسان وهذه ليست في البقرة وإنما سورة البقرة ذكرت أموراً أخرى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)) (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) وصف كثير ثم انتهى (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)) أما في لقمان فاختصر (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). في لقمان كرر كلمة (هم) في البقرة لم يكررها (وبالآخرة هم يوقنون).
*(هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3) لقمان) ما دلالة نصب كلمة رحمة؟
فيها وجهان هي إما مفعول لأجله أو حال.
آية (4-5):
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5))
أشرنا في اللقاء السابق إلى أوليّات الآية فذكرنا أن المقصود بقوله (يقيمون الصلاة) أداؤها على الوجه الأتم إقامة الصلاة هي أداؤها على الوجه الأتم وهي من الإحسان إلى النفس وإيتاء الزكاة من الإحسان إلى الغير. وذكر الإيقان بالآخرة وهو مدعاة إلى الإحسان إلى النفس وإلى الغير لأن الذي يوقن بالآخرة يحسن إلى نفسه بإصلاحها ويحسن إلى الغير. (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وفي آية البقرة قال (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أي هنا كرر هم قبل (بالآخرة) ذلك أنه لو لاحظنا في سورة لقمان تردد في السورة ذكر الآخرة وأحوالها والتوعد بها في زهاء نصف عدد آيات السورة وأولها وآخرها (لهم عذاب مهين)، (فبشره بعذاب أليم)، (لهم جنات النعيم)، (عذاب غليظ)، (إليه المصير)، (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ )، (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِه) في زهاء نصف آيات السورة يتعرض للآخرة وأحوالها ثم هي بدأت بالآخرة (يوقنون) وانتهت بالآخرة بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (34)) فناسب زيادة (هم) توكيداً على طابع السورة وما جاء في السورة. إضافة إلى أن هؤلاء ذكر أنهم محسنون والمحسنون كما علمنا أنهم يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم وزاد فيهم هدى ورحمة وليس كما في البقرة المتقين الذي يحفظ نفسه. فزاد في وصف هؤلاء الذين يعبدون الله كأنهم يرونه وهذا من الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه” زاد في ذكر إيقانهم ويقينهم لما كانوا أعلى مرتبة وزاد لهم في الرحمة وزاد لهم في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس) زاد في ذكر إيقانهم فقال (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) هم أعلى في اليقين لأن اليقين درجات والإيمان درجات (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا (2) الأنفال) فالإيمان يزيد والاطمئنان درجات واليقين درجات والمحسنين يبعدون الله كأنهم يرونه إذن درجة يقينهم عالية فأكد هذا الأمر فقال (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فأكدها على ما ذكر في سورة البقرة (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) .السورة والآية كلها يختلف ويستدعي ذكر الزيادة. لكن الملاحظ أنه في البقرة وفي لقمان قدم الجار والمجرور على الفعل (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) لم يقل وهم يوقنون بالآخرة. الأصل في اللغة العربية أن يتقدم الفعل ثم تأتي المعمولات الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور والتقديم لا بد أن يكون لسبب وهنا قدم (وبالآخرة) وكذلك في البقرة (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) لأن الإيقان بالآخرة صعب ومقتضاه شاق أما الإيمان بالله كثير من الناس يؤمنون بالله لكن قسم منهم مع إيمانه بالله لا يؤمن بالآخرة مثل كفار قريش (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ (32) الجاثية) (إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) سبأ) (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) النمل) وهم مؤمنون بالله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25) لقمان) إذن هم مؤمنون بالله لكن غير مؤمنين بالآخرة ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الإيمان بالله كأنه متسع لكن اليقين بالآخرة ليست متسعة والتقديم هنا للاهتمام والقصر.
آية (4-5):
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5))
أشرنا في اللقاء السابق إلى أوليّات الآية فذكرنا أن المقصود بقوله (يقيمون الصلاة) أداؤها على الوجه الأتم إقامة الصلاة هي أداؤها على الوجه الأتم وهي من الإحسان إلى النفس وإيتاء الزكاة من الإحسان إلى الغير. وذكر الإيقان بالآخرة وهو مدعاة إلى الإحسان إلى النفس وإلى الغير لأن الذي يوقن بالآخرة يحسن إلى نفسه بإصلاحها ويحسن إلى الغير. (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وفي آية البقرة قال (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أي هنا كرر هم قبل (بالآخرة) ذلك أنه لو لاحظنا في سورة لقمان تردد في السورة ذكر الآخرة وأحوالها والتوعد بها في زهاء نصف عدد آيات السورة وأولها وآخرها (لهم عذاب مهين)، (فبشره بعذاب أليم)، (لهم جنات النعيم)، (عذاب غليظ)، (إليه المصير)، (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ )، (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِه) في زهاء نصف آيات السورة يتعرض للآخرة وأحوالها ثم هي بدأت بالآخرة (يوقنون) وانتهت بالآخرة بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (34)) فناسب زيادة (هم) توكيداً على طابع السورة وما جاء في السورة. إضافة إلى أن هؤلاء ذكر أنهم محسنون والمحسنون كما علمنا أنهم يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم وزاد فيهم هدى ورحمة وليس كما في البقرة المتقين الذي يحفظ نفسه. فزاد في وصف هؤلاء الذين يعبدون الله كأنهم يرونه وهذا من الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه” زاد في ذكر إيقانهم ويقينهم لما كانوا أعلى مرتبة وزاد لهم في الرحمة وزاد لهم في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس) زاد في ذكر إيقانهم فقال (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) هم أعلى في اليقين لأن اليقين درجات والإيمان درجات (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا (2) الأنفال) فالإيمان يزيد والاطمئنان درجات واليقين درجات والمحسنين يبعدون الله كأنهم يرونه إذن درجة يقينهم عالية فأكد هذا الأمر فقال (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فأكدها على ما ذكر في سورة البقرة (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) .السورة والآية كلها يختلف ويستدعي ذكر الزيادة. لكن الملاحظ أنه في البقرة وفي لقمان قدم الجار والمجرور على الفعل (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) لم يقل وهم يوقنون بالآخرة. الأصل في اللغة العربية أن يتقدم الفعل ثم تأتي المعمولات الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور والتقديم لا بد أن يكون لسبب وهنا قدم (وبالآخرة) وكذلك في البقرة (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) لأن الإيقان بالآخرة صعب ومقتضاه شاق أما الإيمان بالله كثير من الناس يؤمنون بالله لكن قسم منهم مع إيمانه بالله لا يؤمن بالآخرة مثل كفار قريش (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ (32) الجاثية) (إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) سبأ) (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) النمل) وهم مؤمنون بالله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25) لقمان) إذن هم مؤمنون بالله لكن غير مؤمنين بالآخرة ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الإيمان بالله كأنه متسع لكن اليقين بالآخرة ليست متسعة والتقديم هنا للاهتمام والقصر.
الآية في لقمان تختلف عن الآية في سورة البقرة، صفات الذين تحدثت عنهم سورة البقرة غير صفات الذين تحدثت عنهم سورة لقمان لكن كانت النهاية واحدة (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
هؤلاء المذكورون بهذه الصفات (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة لأن الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، هذا الرب في اللغة. لم يقل على هدى من الله وإنما قال على هدى من ربهم وفيها أمران: يمكن أن يقال هدى من الله لأن الله لفظ الجلالة اسم العلم كل الأمور تنسب إليه يصح أن تُنسب إليه باسمه العلم وأحياناً تنسب إلى صفاته بما يناسب المقام، ينسب لله ما يشاء وكلها تنسب لاسمه العلم ولكن هناك أشياء من الجميل أن تنسب إلى صفاته سبحانه وتعالى مثل أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم فهنا قال على هدى من ربهم والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد فيناسب اللفظ مع الهداية واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) طه) (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (161) الأنعام) كثيراً ما تقترن الهداية بالرب وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي. إضافة إلى أن ربهم أمحض لهم بالنصح والتوجيه والإرشاد وإفادته هو. (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) لا شك أن ربهم يهدهم فيه إخلاص الهداية وإخلاص التوجيه ورب الإنسان يعني مربيه أخلص له من غيره، هناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى وبين بالإضافة ربهم هم، لو استعمل اسم العلم ليس فيه علاقة بهم وإنما عامة لكن على هدى من ربهم لا شك أن ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم لذا فاختيار كلمة رب مناسبة مع الهداية. ثم إضافته إليهم أمر آخر أنه أرأف بهم وأرحم بهم “على هدى من ربهم هم” لأن ربه هو أرأف به وأرحم به وأطلب للخير له. الهدى مقترن بالرب وفيه من الحنو والإرشاد والخوف على العباد ثم إضافة الضمير (ربهم) هذا فيه أن الله يحبهم ويقربهم إليه وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه ولا شك أن رب الإنسان أحنى عليه. وناك أكر التفت إليه الأقدمون: قال تعالى (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) يستعمل مع الهداية لفظ (على) بعكس الضلال يستعمل لها لفظ (في ) (لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) يوسف) هذا ملاحظ في القرآن الكريم (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) يس) (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) النمل) ويستعمل في للضلال (إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) يس) وليس فقط في الضلال وإنما ما يؤدي إلى الضلال (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) التوبة) (فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس) كأن المهتدي هو مستعلي يبصر ما حوله ومتمكن مما هو فيه مستعلي على الشيء ثابت يعلم ما حوله ويعلم ما أمامه أما الساقط في اللجة أو في الغمرة أو في الضلال لا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة لذا يقولون يستعمل ربنا تعالى مع الهداية (على ) ومع الضلال (في).
ثم ختم الآية بقوله (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولاً جاء بضمير الفصل (هم) وجاء بالتعريف (المفلحون) لم يقل أولئك مفلحون ولم يقل هم مفلحون وإنما حصراً إن هؤلاء هم المفلحون حصراً ليس هنالك مفلح آخر. أولئك الأصل اسم الإشارة من الناحية الحسة المحسوسة إذا لم نرد المجاز أن أولئك للبعيد وهؤلاء للقريب هذا الأصل مثل هذا وذلك. ثم تأتي أمور أخرى مجازية كأن هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلو مرتبتهم بفلاحهم وعلة مرتبتهم بأولئك إشارة إلى علو منزلتهم وعلو ما هم فيه فالذي على هدى هو مستعلي فيما يسير هو مستعلي أصلاً فيشار إليهم بما هو بعيد وبما هو مرتفع وبما هو عالٍ ثم حصر الفلاح فيهم قال (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصراً فمن أراد الفلاح ولا شك أن كل إنسان يريد الفلاح. والذي يؤمن بالآخرة يؤمن بكل شيء وبكل ما يتعلق بذلك وهي ليست كلمة تقال. وذكر ركنين أساسيين واحدة في إصلاح النفس وواحدة في الإحسان إلى الآخرين: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإقامة الصلاة هي أول ما يسأل عنه المرء ولذلك هو قال (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصراً لا فلاح في غير هؤلاء ومن أراد الفلاح فليسلك هذا السبيل أن يكون على هدى من ربه إذا أراد الفلاح عليه أن يكون على هدى من ربه وليس وراء ذلك فلاح.
في البقرة قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ما قالها في لقمان وقال في البقرة (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) ولم يقلها في لقمان، وقال في لقمان (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة) وفي البقرة قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وهذه أعم من الزكاة والزكاة من الإنفاق فإذن مما ينفقون تحت طياتها الزكاة. (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وهذا متعلق بالسورة نفسها كما ذكرنا أن في لقمان شاع فيها تردد اذكر لآخرة وهنا جو السورة ومفتتح السورة غالباً ما يكون له علاقة بطابع السورة من أولها إلى نهايتها. في سورة البقرة، قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وبعدها قال (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)) هذا من الغيب لم يؤمنوا لا بالله ولا باليوم الآخر. وقال على لسان بني إسرائيل (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (55)) إذن هم لا يؤمنون بالغيب وطلبهم عكس الغيب لذلك هو قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وليس مثل هؤلاء الذين يقولون آمنا وما هم بمؤمنين ولا مثل هؤلاء الذين طلبوا أن يروا الله جهرة بينما في لقمان قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) إذن هم مؤمنون بالغيب وقال (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ (32) لقمان) إذن هم دعوا الله، يختلف الطابع. الطابع العام في سورة البقرة الإيمان بالغيب وطلب الإيمان أو الإنكار على عدم الإيمان بالغيب بينما في لقمان الإيمان بالغيب حتى الذين كفروا قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) إذن يؤمنون بجزء من الغيب بينما أولئك في سورة البقرة ينكرون (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) هذه ليست إيماناً بالغيب وربنا يريد الإيمان بالغيب. ونلاحظ قال (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) وفي البقرة قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) لأن تكرر في البقرة وذكر عدا الزكاة الإنفاق 17 مرة في البقرة وذكر الزكاة في عدة مواطن وذكر الإنفاق (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (261)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى (262)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً (274)) 17 مرة تكرر الإنفاق عدا الأمر بالزكاة في البقرة فإذن هذا أعم. في لقمان ما ذكر الإنفاق فطابع السورة يختلف. حتى (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) لم يقل هذا في لقمان لأنه في البقرة جرى هذا وطلب من أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أُنزل إليه وما أنزل من قبلك في آيات كثيرة جداً (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ (41) البقرة) إذن يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وهؤلاء لم يؤمنوا (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ (75)) (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا (76)) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ (91)) هم لا يؤمنون بما أُنزل إليه بينما هو طلب يؤمنون بما أنزل إليك وحتى في آخر البقرة قال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (285)) طابع السورة هكذا وفي لقمان لم يجد مثل هذا أصلاً ولذلك مفتتح سورة البقرة فيها طابع السورة موجود في مفتتح سورة البقرة.
الآية في لقمان تختلف عن الآية في سورة البقرة، صفات الذين تحدثت عنهم سورة البقرة غير صفات الذين تحدثت عنهم سورة لقمان لكن كانت النهاية واحدة (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
هؤلاء المذكورون بهذه الصفات (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة لأن الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، هذا الرب في اللغة. لم يقل على هدى من الله وإنما قال على هدى من ربهم وفيها أمران: يمكن أن يقال هدى من الله لأن الله لفظ الجلالة اسم العلم كل الأمور تنسب إليه يصح أن تُنسب إليه باسمه العلم وأحياناً تنسب إلى صفاته بما يناسب المقام، ينسب لله ما يشاء وكلها تنسب لاسمه العلم ولكن هناك أشياء من الجميل أن تنسب إلى صفاته سبحانه وتعالى مثل أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم فهنا قال على هدى من ربهم والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد فيناسب اللفظ مع الهداية واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) طه) (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (161) الأنعام) كثيراً ما تقترن الهداية بالرب وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي. إضافة إلى أن ربهم أمحض لهم بالنصح والتوجيه والإرشاد وإفادته هو. (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) لا شك أن ربهم يهدهم فيه إخلاص الهداية وإخلاص التوجيه ورب الإنسان يعني مربيه أخلص له من غيره، هناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى وبين بالإضافة ربهم هم، لو استعمل اسم العلم ليس فيه علاقة بهم وإنما عامة لكن على هدى من ربهم لا شك أن ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم لذا فاختيار كلمة رب مناسبة مع الهداية. ثم إضافته إليهم أمر آخر أنه أرأف بهم وأرحم بهم “على هدى من ربهم هم” لأن ربه هو أرأف به وأرحم به وأطلب للخير له. الهدى مقترن بالرب وفيه من الحنو والإرشاد والخوف على العباد ثم إضافة الضمير (ربهم) هذا فيه أن الله يحبهم ويقربهم إليه وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه ولا شك أن رب الإنسان أحنى عليه. وناك أكر التفت إليه الأقدمون: قال تعالى (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) يستعمل مع الهداية لفظ (على) بعكس الضلال يستعمل لها لفظ (في ) (لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) يوسف) هذا ملاحظ في القرآن الكريم (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) يس) (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) النمل) ويستعمل في للضلال (إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) يس) وليس فقط في الضلال وإنما ما يؤدي إلى الضلال (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) التوبة) (فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس) كأن المهتدي هو مستعلي يبصر ما حوله ومتمكن مما هو فيه مستعلي على الشيء ثابت يعلم ما حوله ويعلم ما أمامه أما الساقط في اللجة أو في الغمرة أو في الضلال لا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة لذا يقولون يستعمل ربنا تعالى مع الهداية (على ) ومع الضلال (في).
ثم ختم الآية بقوله (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولاً جاء بضمير الفصل (هم) وجاء بالتعريف (المفلحون) لم يقل أولئك مفلحون ولم يقل هم مفلحون وإنما حصراً إن هؤلاء هم المفلحون حصراً ليس هنالك مفلح آخر. أولئك الأصل اسم الإشارة من الناحية الحسة المحسوسة إذا لم نرد المجاز أن أولئك للبعيد وهؤلاء للقريب هذا الأصل مثل هذا وذلك. ثم تأتي أمور أخرى مجازية كأن هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلو مرتبتهم بفلاحهم وعلة مرتبتهم بأولئك إشارة إلى علو منزلتهم وعلو ما هم فيه فالذي على هدى هو مستعلي فيما يسير هو مستعلي أصلاً فيشار إليهم بما هو بعيد وبما هو مرتفع وبما هو عالٍ ثم حصر الفلاح فيهم قال (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصراً فمن أراد الفلاح ولا شك أن كل إنسان يريد الفلاح. والذي يؤمن بالآخرة يؤمن بكل شيء وبكل ما يتعلق بذلك وهي ليست كلمة تقال. وذكر ركنين أساسيين واحدة في إصلاح النفس وواحدة في الإحسان إلى الآخرين: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإقامة الصلاة هي أول ما يسأل عنه المرء ولذلك هو قال (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصراً لا فلاح في غير هؤلاء ومن أراد الفلاح فليسلك هذا السبيل أن يكون على هدى من ربه إذا أراد الفلاح عليه أن يكون على هدى من ربه وليس وراء ذلك فلاح.
في البقرة قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ما قالها في لقمان وقال في البقرة (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) ولم يقلها في لقمان، وقال في لقمان (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة) وفي البقرة قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وهذه أعم من الزكاة والزكاة من الإنفاق فإذن مما ينفقون تحت طياتها الزكاة. (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وهذا متعلق بالسورة نفسها كما ذكرنا أن في لقمان شاع فيها تردد اذكر لآخرة وهنا جو السورة ومفتتح السورة غالباً ما يكون له علاقة بطابع السورة من أولها إلى نهايتها. في سورة البقرة، قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وبعدها قال (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)) هذا من الغيب لم يؤمنوا لا بالله ولا باليوم الآخر. وقال على لسان بني إسرائيل (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (55)) إذن هم لا يؤمنون بالغيب وطلبهم عكس الغيب لذلك هو قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وليس مثل هؤلاء الذين يقولون آمنا وما هم بمؤمنين ولا مثل هؤلاء الذين طلبوا أن يروا الله جهرة بينما في لقمان قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) إذن هم مؤمنون بالغيب وقال (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ (32) لقمان) إذن هم دعوا الله، يختلف الطابع. الطابع العام في سورة البقرة الإيمان بالغيب وطلب الإيمان أو الإنكار على عدم الإيمان بالغيب بينما في لقمان الإيمان بالغيب حتى الذين كفروا قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) إذن يؤمنون بجزء من الغيب بينما أولئك في سورة البقرة ينكرون (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) هذه ليست إيماناً بالغيب وربنا يريد الإيمان بالغيب. ونلاحظ قال (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) وفي البقرة قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) لأن تكرر في البقرة وذكر عدا الزكاة الإنفاق 17 مرة في البقرة وذكر الزكاة في عدة مواطن وذكر الإنفاق (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (261)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى (262)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً (274)) 17 مرة تكرر الإنفاق عدا الأمر بالزكاة في البقرة فإذن هذا أعم. في لقمان ما ذكر الإنفاق فطابع السورة يختلف. حتى (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) لم يقل هذا في لقمان لأنه في البقرة جرى هذا وطلب من أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أُنزل إليه وما أنزل من قبلك في آيات كثيرة جداً (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ (41) البقرة) إذن يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وهؤلاء لم يؤمنوا (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ (75)) (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا (76)) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ (91)) هم لا يؤمنون بما أُنزل إليه بينما هو طلب يؤمنون بما أنزل إليك وحتى في آخر البقرة قال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (285)) طابع السورة هكذا وفي لقمان لم يجد مثل هذا أصلاً ولذلك مفتتح سورة البقرة فيها طابع السورة موجود في مفتتح سورة البقرة.
آية (6):
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6))
اللهو كل باطل يلهي عن الخير. لهو الحديث هو السمر بالأساطير والأحاديث وما لا خير فيه من الحديث قول الخنا (الفحش) وما إلى ذلك. كل ما لا خير فيه من الكلام وساقط القول والكلام في الأساطير والخرافات هو من لهو الحديث. مما ذُكِر في سبب نزول الآية قيل أنها نزلت في النضر بن الحارث كان تاجراً يخرج إلى فارس فيشتري من قصص الأعاجم ويأتي ويحدِّث بها قريش ويقول محمد يحدثكم بأخبار عاد وثمود وأنا أحدثكم بأخبار رستم والأكاسرة فيقص عليهم قصصاً فيستمعون له. يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وهي عامة يدخل فيها كل هؤلاء وكل من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله. ولهو الحديث هو كل ما لا خير فيه من ساقط القول يدخل في اللهو. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هل يشتريه بغير علم؟ أو ليضل بغير علم؟ المفسرون قالوا قسم منهم قال يشتري بغير علم بالتجارة لا يعلم ماذا يشتري هل هو في صالحه أم لا؟ لأن الإنسان لما يشتري يشتري شيئاً لصالحه وهذا لم يشتري لصالحه شيء هو المفروض أن يشتري ما فيه نفع له لكن ما يشتريه ليس في صالحه وإنما سيورده موارد الهلكة والمفروض أن يشتري الحكمة وليس الأساطير والخرافات فإذا أراد أن يشتري المفروض أن يشتري ما فيه نفع له وللناس، فإذن قالوا هو يشتري من غير علم بالتجارة وماذا ستؤول إليه هذه البضاعة هل تؤول إلى صالحه؟ هل تؤول إلى ما فيه خير؟ إلى فلاحه في الدنيا والآخرة؟ أم هو كلام ليس فيه فائدة وفيه خسارة له في الآخرة؟. يشتري بغير علم بالتجارة وغير بصيرة بها. كان أفضل لو اشترى ما فيه حكمة وما فيه منفعة. وقسم قالوا ليضل الناس بغير علم وهو لا يعلم ماذا يتكلم؟ هو يضل الناس ولا يعلم ماذا يفعل؟ فهو يضلهم وهو لا يعلم ماذا يفعل وحتى لو علم فهذا ليس في صالحه لأنه أدى إلى إضلالهم وتكون عاقبة من أضل عليه ويحمل وزره ووزر من أضلهم (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ (25) النحل). إذن هل المقصود يضل الناس بغير علم هو لا يعلم طريق الهدى فكيف يهديهم؟ إذن هو يضلهم عن سبيل الله. إذن قسم قالوا يشتري بغير علم لا يعلم ماذا يشتري غير بصير بالتجارة وقسم علقه يضل الناس بغير علم فأضلهم وهو لا يعلم ماذا يفعل وأنا أميل إلى أنه من التنازع أي الاثنين معاً أي يشتري بغير علم ويضل بغير علم وهذا باب في النحو التنازع يعني مثل يسبحون ويحمدون الله أي يسبحون الله ويحمدون الله، أكرمت وأعطيت زيداً فعلان يتنازعان على واحد المفروض أكرمت زيداً وأعطيت زيداً، هذا تنازع. إذن يشتري بغير علم ويضل بغير علم كلاهما وباب التنازع موجود في النحو كثيراً. كون أكثر من فعل أو أكثر من اسم يشتركان في متعلق واحد وفي معمول واحد يصير هناك تنازع “حضر وسافر محمد”، الكلام فيه كثير في اللغة. بغير علم مرتبطة بمن يشتري ومن يضل كليهما وتكون معمولة لكليهما ولهذا سموه تنازعاً لأن الفعلين يتنازعان مفعولاً واحداً، لما تقول أعطيت وأكرمت زيداً (زيداً) مفعول به للفعلين إذن بغير علم للاثنين يشتري بغير علم ويضل بغير علم فتكون الخسارة مضاعفة الذي يشتري بغير علم خاسر والذي يضل الناس يخسر فالخسارة مضاعفة وكونه بغير علم لا يعفيه من المسؤولية. ربنا قال (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) الكهف) كونه لا يعلم لا يعفيه من المسؤولية. قال إنهم (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) الزخرف) لا ينفعه حسبانه أنه مهتدي ينبغي أن يكون على هدى من ربه. (ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) هذا لا يعفيه من المسؤولية ولذلك لما قال بغير علم فهذه خسارة أخرى هو يضل نفسه ولكن يضل الآخرين فيتحمل وزرين وزر نفسه ووزر الآخرين وسيكون أخسر الأخسرين.
* بدأ الآية بالمفرد (من يشتري) وانتهى بالجمع (أولئك) فهل هنالك رابط؟
لما قال ليضل عن سبيل الله هذا سيكون تهديداً له ولمن يضلهم التهديد ليس له فقط هو فجمعهم في زمرته هو ومن يتبعه المُضِل والضال إذن ليسا واحداً وإنما أصبحت جماعة. إذن هذا تهديد له ولكل من يضله (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). في آية أخرى قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) البقرة) قال (فحسبه جهنم) لأنه لم يذكر أحداً معه بدأ بالمفرد وانتهى بالمفرد لأنه لم يتعلق بالآخر فقال فحسبه ولما هنا تعلق بالآخرين فقال أولئك لهم عذاب مهين.
*قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا (6)) عطف بدون اللام مع أنه في موضع آخر في القرآن عطف باللام مثل في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) الإسراء) فما اللمسة البيانية في هذه الآية؟
الآية التي كنا ذكرناها وبينا قسماً منها هي قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6)) لماذا لم يكرر اللام في (يتخذها)؟ المعلوم المقرر في قواعد النحو أن التكرار آكد من عدم التكرار مثلاً عندما تقول مررت بمحمد وبخالد أقوى من مررت بمحمد وخالد الذكر أقوى هذه قاعدة وآكد. إذن عندنا هنا أمران: هو لماذا يشتري لهو الحديث؟ ذكر أمران: ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزواً هل هما بمرتبة واحدة؟ الغرض الأول هو ليضل عن سبيل الله أما اتخذت الهزو فليس بالضرورة أن يذهب فيشتري فالهزو يهزأ في مكانه السخرية لا يحتاج أن يذهب ويتاجر ويشتري لا يحتاج إذن هما ليسا بمرتبة واحدة، إذن ليضل عن سبيل الله وهو الشراء في الأصل ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزوا تأتي بعدها وليسا بنفس القوة وهذا الترتيب له غرض. إذن عندنا أمران بعضهما أقوى من بعض وآكد من بعض، الأول (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) والثاني دونه في التوكيد (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) فحذف اللام. أما في الآية (لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) ذكر أمران كلاهما له مكانة في الأهمية (لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) هل يمكن أن نعيش بدون معرفة السنين والحساب؟ والابتغاء؟ كلاهما مهمان في الحياة علم السنين والحساب ضروري في الحياة وفي خارج القرآن لو قال في الآية لتبتغوا فضلاً من ربكم وتعلموا عدد السنين والحساب تصبح دونها في التوكيد والأهمية وهذه قاعدة. مررت بمحمد وبخالد آكد من مررت بمحمد وخالد وآكد منهما مررت بمحمد ومررت بخالد. مثال آخر: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) آل عمران) ليعلم الله باللام ويتخذ بدون لام (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) آل عمران) ليعلم الله الذين آمنوا منكم لا يتخلف منه أحد كل واحد ربنا تعالى يعلم علماً يتعلق به الجزاء. لكن هل يتخذ منهم كلهم شهداء؟ كلا إذن ليسا بنفس المنزلة، يتخذ شهاد من قسم قليل منهم. وليمحص الله الذين آمنوا لا يتخلف منه أحد لكن ويمحق الكافرين فقط. هذا يدرس في علم البلاغة في غرض التوكيد الذكر والحذف، يذكر لعِلّة ويحذف لعِلّة. عطف بدون تكرار للحرف الأول وعندنا قاعدة الذكر آكد من الحذف. من هنا نفهم لماذا قال تعالى في آية لقمان (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا).
*(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا (6) لقمان) يتخذُها مرفوعة بقراءة ورش فلماذا جاءت يتخذها بالرفع؟
إذا كانت في المصحف فهي قراءة، يتخذُها بالرفع معطوفة على يشتري وإذا كانت بالنصب معطوفة على (ليضلَّ) وكلاهما صحيح فصيح.
آية (6):
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6))
اللهو كل باطل يلهي عن الخير. لهو الحديث هو السمر بالأساطير والأحاديث وما لا خير فيه من الحديث قول الخنا (الفحش) وما إلى ذلك. كل ما لا خير فيه من الكلام وساقط القول والكلام في الأساطير والخرافات هو من لهو الحديث. مما ذُكِر في سبب نزول الآية قيل أنها نزلت في النضر بن الحارث كان تاجراً يخرج إلى فارس فيشتري من قصص الأعاجم ويأتي ويحدِّث بها قريش ويقول محمد يحدثكم بأخبار عاد وثمود وأنا أحدثكم بأخبار رستم والأكاسرة فيقص عليهم قصصاً فيستمعون له. يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله وهي عامة يدخل فيها كل هؤلاء وكل من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله. ولهو الحديث هو كل ما لا خير فيه من ساقط القول يدخل في اللهو. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هل يشتريه بغير علم؟ أو ليضل بغير علم؟ المفسرون قالوا قسم منهم قال يشتري بغير علم بالتجارة لا يعلم ماذا يشتري هل هو في صالحه أم لا؟ لأن الإنسان لما يشتري يشتري شيئاً لصالحه وهذا لم يشتري لصالحه شيء هو المفروض أن يشتري ما فيه نفع له لكن ما يشتريه ليس في صالحه وإنما سيورده موارد الهلكة والمفروض أن يشتري الحكمة وليس الأساطير والخرافات فإذا أراد أن يشتري المفروض أن يشتري ما فيه نفع له وللناس، فإذن قالوا هو يشتري من غير علم بالتجارة وماذا ستؤول إليه هذه البضاعة هل تؤول إلى صالحه؟ هل تؤول إلى ما فيه خير؟ إلى فلاحه في الدنيا والآخرة؟ أم هو كلام ليس فيه فائدة وفيه خسارة له في الآخرة؟. يشتري بغير علم بالتجارة وغير بصيرة بها. كان أفضل لو اشترى ما فيه حكمة وما فيه منفعة. وقسم قالوا ليضل الناس بغير علم وهو لا يعلم ماذا يتكلم؟ هو يضل الناس ولا يعلم ماذا يفعل؟ فهو يضلهم وهو لا يعلم ماذا يفعل وحتى لو علم فهذا ليس في صالحه لأنه أدى إلى إضلالهم وتكون عاقبة من أضل عليه ويحمل وزره ووزر من أضلهم (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ (25) النحل). إذن هل المقصود يضل الناس بغير علم هو لا يعلم طريق الهدى فكيف يهديهم؟ إذن هو يضلهم عن سبيل الله. إذن قسم قالوا يشتري بغير علم لا يعلم ماذا يشتري غير بصير بالتجارة وقسم علقه يضل الناس بغير علم فأضلهم وهو لا يعلم ماذا يفعل وأنا أميل إلى أنه من التنازع أي الاثنين معاً أي يشتري بغير علم ويضل بغير علم وهذا باب في النحو التنازع يعني مثل يسبحون ويحمدون الله أي يسبحون الله ويحمدون الله، أكرمت وأعطيت زيداً فعلان يتنازعان على واحد المفروض أكرمت زيداً وأعطيت زيداً، هذا تنازع. إذن يشتري بغير علم ويضل بغير علم كلاهما وباب التنازع موجود في النحو كثيراً. كون أكثر من فعل أو أكثر من اسم يشتركان في متعلق واحد وفي معمول واحد يصير هناك تنازع “حضر وسافر محمد”، الكلام فيه كثير في اللغة. بغير علم مرتبطة بمن يشتري ومن يضل كليهما وتكون معمولة لكليهما ولهذا سموه تنازعاً لأن الفعلين يتنازعان مفعولاً واحداً، لما تقول أعطيت وأكرمت زيداً (زيداً) مفعول به للفعلين إذن بغير علم للاثنين يشتري بغير علم ويضل بغير علم فتكون الخسارة مضاعفة الذي يشتري بغير علم خاسر والذي يضل الناس يخسر فالخسارة مضاعفة وكونه بغير علم لا يعفيه من المسؤولية. ربنا قال (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) الكهف) كونه لا يعلم لا يعفيه من المسؤولية. قال إنهم (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) الزخرف) لا ينفعه حسبانه أنه مهتدي ينبغي أن يكون على هدى من ربه. (ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) هذا لا يعفيه من المسؤولية ولذلك لما قال بغير علم فهذه خسارة أخرى هو يضل نفسه ولكن يضل الآخرين فيتحمل وزرين وزر نفسه ووزر الآخرين وسيكون أخسر الأخسرين.
* بدأ الآية بالمفرد (من يشتري) وانتهى بالجمع (أولئك) فهل هنالك رابط؟
لما قال ليضل عن سبيل الله هذا سيكون تهديداً له ولمن يضلهم التهديد ليس له فقط هو فجمعهم في زمرته هو ومن يتبعه المُضِل والضال إذن ليسا واحداً وإنما أصبحت جماعة. إذن هذا تهديد له ولكل من يضله (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ). في آية أخرى قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) البقرة) قال (فحسبه جهنم) لأنه لم يذكر أحداً معه بدأ بالمفرد وانتهى بالمفرد لأنه لم يتعلق بالآخر فقال فحسبه ولما هنا تعلق بالآخرين فقال أولئك لهم عذاب مهين.
*قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا (6)) عطف بدون اللام مع أنه في موضع آخر في القرآن عطف باللام مثل في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) الإسراء) فما اللمسة البيانية في هذه الآية؟
الآية التي كنا ذكرناها وبينا قسماً منها هي قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6)) لماذا لم يكرر اللام في (يتخذها)؟ المعلوم المقرر في قواعد النحو أن التكرار آكد من عدم التكرار مثلاً عندما تقول مررت بمحمد وبخالد أقوى من مررت بمحمد وخالد الذكر أقوى هذه قاعدة وآكد. إذن عندنا هنا أمران: هو لماذا يشتري لهو الحديث؟ ذكر أمران: ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزواً هل هما بمرتبة واحدة؟ الغرض الأول هو ليضل عن سبيل الله أما اتخذت الهزو فليس بالضرورة أن يذهب فيشتري فالهزو يهزأ في مكانه السخرية لا يحتاج أن يذهب ويتاجر ويشتري لا يحتاج إذن هما ليسا بمرتبة واحدة، إذن ليضل عن سبيل الله وهو الشراء في الأصل ليضل عن سبيل الله ويتخذها هزوا تأتي بعدها وليسا بنفس القوة وهذا الترتيب له غرض. إذن عندنا أمران بعضهما أقوى من بعض وآكد من بعض، الأول (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) والثاني دونه في التوكيد (وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا) فحذف اللام. أما في الآية (لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) ذكر أمران كلاهما له مكانة في الأهمية (لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) هل يمكن أن نعيش بدون معرفة السنين والحساب؟ والابتغاء؟ كلاهما مهمان في الحياة علم السنين والحساب ضروري في الحياة وفي خارج القرآن لو قال في الآية لتبتغوا فضلاً من ربكم وتعلموا عدد السنين والحساب تصبح دونها في التوكيد والأهمية وهذه قاعدة. مررت بمحمد وبخالد آكد من مررت بمحمد وخالد وآكد منهما مررت بمحمد ومررت بخالد. مثال آخر: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) آل عمران) ليعلم الله باللام ويتخذ بدون لام (وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) آل عمران) ليعلم الله الذين آمنوا منكم لا يتخلف منه أحد كل واحد ربنا تعالى يعلم علماً يتعلق به الجزاء. لكن هل يتخذ منهم كلهم شهداء؟ كلا إذن ليسا بنفس المنزلة، يتخذ شهاد من قسم قليل منهم. وليمحص الله الذين آمنوا لا يتخلف منه أحد لكن ويمحق الكافرين فقط. هذا يدرس في علم البلاغة في غرض التوكيد الذكر والحذف، يذكر لعِلّة ويحذف لعِلّة. عطف بدون تكرار للحرف الأول وعندنا قاعدة الذكر آكد من الحذف. من هنا نفهم لماذا قال تعالى في آية لقمان (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا).
*(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا (6) لقمان) يتخذُها مرفوعة بقراءة ورش فلماذا جاءت يتخذها بالرفع؟
إذا كانت في المصحف فهي قراءة، يتخذُها بالرفع معطوفة على يشتري وإذا كانت بالنصب معطوفة على (ليضلَّ) وكلاهما صحيح فصيح.
آية (7):
*ما دلالة استعمال (إذا) دون (إن) في الآية (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7))؟
إذا في اللغة أقوى من إن، (إن) تستعمل للأمور المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها ولافتراض الأمور التي قد لا تقع أو إذا وقعت فهي أقل أما (إذا) فلا تستعمل إلا فيما هو واجب وقوع أو الذي يقع كثيراً مع أن كلاهما شرط. لما سأل موسى ربه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي (143) الأعراف) أمر مشكوك فيه ليس بالضرورة أن يستقر. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (71) القصص) هذا افتراض، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (72) القصص) هو أمر افتراضي غير واقع في الحياة (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا (9) الحجرات) هذا ليس أمراً يومياً وإنما قلّ ما يقع وليس كأمر الصلاة (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ (10) الجمعة). (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) الرحمن) (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (61) الأنفال). أما إذا تستعمل للمقطوع بحصوله أو كثير الحصول (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ (180) البقرة) (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ (17) الكهف) لا يمكن أن تقول إن طلعت الشمس إلا في اليوم الغائم، (وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) ولذلك كل أحداث يوم القيامة تأتي بـ (إذا) ولا يصح أن تأتي بـ (إن) لأنها واقعة لا محالة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) التكوير) لا يمكن أن يؤتى بإن ولا يصح لأنها واقعة لا محالة وهذه قاعدة. (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ (5) التوبة) لا بد أن تنسلخ، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ (10) الجمعة) لا بد أن تنقضي، (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا (86) النساء) هل هناك يوم لا يحيي أحد أحد؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ (282) البقرة) (فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ (282) البقرة) هذه الحالة أقل من الأولى. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ (6) المائدة) هذه أقل. (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ (25) النساء) إذا أحصن أي البلوغ فإن أتين بفاحشة هذه قليلة الحدوث. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ (180) البقرة) هذه قاعدة. (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا (28) الأحزاب) هذا افتراض. (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا (33) النور) هذا افتراض. إذا وإن تدلان على الشرط لكن (إذا) هي إما لما هو واقع لا محالة أو كثير الوقوع أما (إن) فهي افتراض وقد يكون استحالة أو أمور لا تقع ولكن ليس هنالك لها في واقع الحياة حصول (وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ (44) الطور) متى رأينا كسفاً من السماء ساقطاً؟ إذن (إذا) أقوى من (إن) من حيث الوقوع وقد وردت في القرآن 362 مرة ولم يرد في موطن واحد في افتراض أنها لم تقع بينما (إن) في افتراض، يمكن تقع أو لا تقع (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (23) البقرة) لكنها ليست مثل (إذا). فإذن لما قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) القراءة حاصلة. هناك فرق بين (إن) الشرطية وإن النافية (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) الملك) هذه بمعنى (ما) ونميز الشرطية بفعل الشرط وجواب الشرط وإذا دخلت على المضارع تجزم وهي مختصة بالدخول على الأفعال بينما (إن) النافية تدخل على الأسماء والأفعال
الفرق بين (إذا) و(إذ):
إذ ظرف للماضي في الغالب ولا يعدونها من أدوات الشرط، إذما من أدوات الشرط (وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ (86) الأعراف) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ (9) الأحزاب) النحاة يقولون إذ للماضي وإذا للمستقبل ونحن نقول (إذ) في الغالب للماضي وإذ ليست شرطية. (إذا) ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب لجوابه مبني على السكون. (إذ) اسم، ظرف زمان للماضي في الغالب لأنه في القرآن (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ (71) غافر) وهذه للمستقبل (سوف) في جهنم يسحبون في الحميم وإن كان له تأويل آخر أنه مستقبل منزَّل منزلة الماضي لكني أعتقد أنها في الغالب للماضي كما أن (إذا) في الغالب للمستقبل وقد تكون في الماضي كما في قوله تعالى (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ (90) يونس) هو أدركه الغرق بالفعل. (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ (86) الكهف) حتى في آية الجمعة (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا (11) الجمعة) هذه الآية نزلت بعد ما وقع الأمر. النحاة لا يقولون غالباً ولكنهم يقولون أن أدوات الشرط كلها في الاستقبال.
*قال في الآية تتلى بصيغة المضارع (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) ولم تأتي بالماضي مع أنه قال (وَلَّى مُسْتَكْبِرًا)؟
الله أعلم الفعل الماضي كما يبدو لي في الشرط يفيد حصول الحدث مرة واحدة والمضارع يفيد تكرر الحدث مثلاً نلاحظ في آيتين متتابعتين (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا (92) (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا (93)) القتل الخطأ ليس من المفروض أن يتكرر فإذا كان يقتل مؤمناً متعمداً هذا يتكرر لذا في القتل الخطأ قال (قتل) وقال (يقتل) لما كان افتراض تكرر الحدث. (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء) (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا (145) آل عمران) من أراد ماضي ومن يرد مضارع يتكرر، الثواب يتكرر، كل شيء متعلق بالثواب يتكرر أما الآخرة فواحدة. (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (19) الأنفال) (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا (8) الإسراء) لو لاحظنا قال (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ) قالها في كفار قريش بعد وقعة بدر هم عادوا بينما (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا) هذه في بني إسرائيل وقد ذكر أنهم يفسدون في الأرض مرتين إحداهما ذهبت وتبقى الأخرى. (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي (76) الكهف) بقي له سؤالاً واحداً، (إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) محمد) هذا متكرر بينما في الأولى سؤال واحد ثم تنقطع المصاحبة. الماضي والمضارع مع الشرط يدلان على الاستقبال لكن الماضي مرة واحدة أو أقل والمضارع فيه توقع حدوث مرات كثيرة. ولذلك هنا في آية لقمان قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) دلالة على تكرار التلاوة الذي يفترض أن يؤدي إلى التأمل والتفكر والانتباه يدعوه للتأمل وهذا بخلاف لو قال تليت عليه احتمال أن تكون تليت مرة واحدة. وقال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) قال آياتنا بإضافة الآيات إلى ضمير التعظيم لله تعالى لتعظيم فعلة هذا والتشنيع عليه أن آيات الله ويستهزئ بها وولى مستكبراً كأن لم يسمعها.
*قال تعالى في آية سورة لقمان (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) وفي الجاثية تحدث عن هذا المعنى بصورة مختلفة (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)) لم يقل كأن في أذنيه وقراً فلم فذ آية لقمان بالتحديد وردت (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا)؟
نقرأ الآيات في سورة لقمان (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)) وفي الجاثية (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)) كيف يكون في أذنيه وقر وهو يسمع كلام الله؟ في لقمان لم يقل يسمع آيات الله، قال تتلى عليه لكنه لم يقل يسمعها. أما في الجاثية قال يسمع آيات الله تتلى عليه فكيف يقول في أذنيه وقراً؟ لما لم يقل يسمع ناسب أن يقول (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) في لقمان. السماع يأتي من التلاوة هناك من يتلو حتى يسمع. الوقر المانع يمنعه من السماع هنالك شيء في أذنه لا يسمع جيداً.
*الملاحظ بقوله تعالى (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فبشره بضمير الإفراد ولم يجمع الضمير مع أنه سبق الخطاب بالجمع (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) فلماذا؟
قال سبحانه (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) نلاحظ هنا ذكره وحده لم يذكر معه أحداً آخر ونلاحظ سياق الآية كلها تتكلم عن شخص واحد (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) إفراد، بينما الآية قبلها التي جمع فيها يتكلم عليه وعلى من أضله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6)) هناك أصبح جماعة تهديد له ولمن يضله فقال (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) بالجمع وليس له وحده، فإذن هناك كان التهديد للجمع (أولئك لهم عذاب مهين) له ولمن يضله وهنا لما كان الكلام هنا عليه وحده أفرد قال (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وقال بشره مع أن البشرى لا تكون إلا في الخير استهزاء به وسخرية منه فقال (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
*ختمت الآية بقوله تعالى (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وفي آية قبلها قال (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) فما الفرق بين العذاب المهين والعذاب الأليم؟
هذا ليس تعرضاً وإنما وصف آخر، الإهانة تكون إذا وقعت أمام الآخرين. يكون العذاب مهيناً إذا كان هناك من يشهد العذاب إذا لم يكن هنالك من يشهد فالإهانة ليست ظاهرة وكلما كان المشاهدين والحاضرين أكثر كانت الإهانة أكثر. هذا ذكر هنالك من يُضلهم (عذاب مهين) لأنه يشهد بعضهم هذا الذي أضلهم سيعذب أمامهم فهي إذن هذه إهانة له هذا الذي كان يفعل هكذا ويضل هو الآن يعذّب وله عذاب مهين يهينه أمام هؤلاء الذين أضلهم وهؤلاء أيضاً كلهم سيعذبون وكل منهم يشهد عذاب الآخر فهم في عذاب مهين. أما في الآية الثانية فهو وحده له عذاب أليم لا ينطبق عليه مهين. العذاب المهين قد يكون أليماً وهو أولاً كونه مستهزئ جمع أمرين لأن الذين يستهزئ بهم هو أهانهم وآلمهم. الإهانة بحد ذاتها قد يكون فيها إيلام للآخرين فجمع الله تعالى له بين الإهانة والألم. وقد يكون العذاب المهين ليس مؤلماً جسدياً ولكن مؤلم نفسياً أما هنا فجمع له بين العذابين الإهانة والإيلام في مجموعهم (أليم ومهين). أول مرة قال (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) هذه إهانة ثم قال (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) هذا ألم إذن صار له عذابين إهانة وألم وليس مهيناً فقط من دون إيلام. قد يكون على سبيل المثال أن أحداً في سبيل المبدأ، في سبيل القرآن، في سبيل الإسلام يُعذّب لكن لا يرى فيه إهانة بل يرى فيه فلاحاً وثباتاً وعزة وصلاحاً وحسنة. بينما هنا جمع له عذاب مهين وأليم كما استهزأ بالآخرين وأهانهم وآلمهم هنا جمع له عذاب مهين وأليم. وقد يكون المهين غير مؤلم جسدياً لا يشترط في اللغة أن يكون مؤلماً جسدياً فجمعهم مهين وأليم. مهين يشهد بعضهم عذاب بعض والإهانة وما إلى ذلك وما كان يضلهم فأهانه أمام جماعته وشهد بعضهم عذاب بعض وإهانة العذاب لهم وآلمهم به فجمع بينهما.
*تقدير العذاب في القرآن الكريم (عذاب أليم، مهين، شديد) هل يرتبط نوع العذاب بصدر الآية القرآنية؟
يرتبط ويرتبط بفعل المعذب ماذا يقدم له من فعل المعذب وكيف قدم له؟ فيذكر بسبب السياق وفيما اقتضى العذاب.
آية (7):
*ما دلالة استعمال (إذا) دون (إن) في الآية (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7))؟
إذا في اللغة أقوى من إن، (إن) تستعمل للأمور المحتملة الوقوع والمشكوك في حصولها ولافتراض الأمور التي قد لا تقع أو إذا وقعت فهي أقل أما (إذا) فلا تستعمل إلا فيما هو واجب وقوع أو الذي يقع كثيراً مع أن كلاهما شرط. لما سأل موسى ربه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي (143) الأعراف) أمر مشكوك فيه ليس بالضرورة أن يستقر. (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (71) القصص) هذا افتراض، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (72) القصص) هو أمر افتراضي غير واقع في الحياة (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا (9) الحجرات) هذا ليس أمراً يومياً وإنما قلّ ما يقع وليس كأمر الصلاة (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ (10) الجمعة). (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) الرحمن) (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (61) الأنفال). أما إذا تستعمل للمقطوع بحصوله أو كثير الحصول (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ (180) البقرة) (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ (17) الكهف) لا يمكن أن تقول إن طلعت الشمس إلا في اليوم الغائم، (وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ) ولذلك كل أحداث يوم القيامة تأتي بـ (إذا) ولا يصح أن تأتي بـ (إن) لأنها واقعة لا محالة (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) التكوير) لا يمكن أن يؤتى بإن ولا يصح لأنها واقعة لا محالة وهذه قاعدة. (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ (5) التوبة) لا بد أن تنسلخ، (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ (10) الجمعة) لا بد أن تنقضي، (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا (86) النساء) هل هناك يوم لا يحيي أحد أحد؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ (282) البقرة) (فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ (282) البقرة) هذه الحالة أقل من الأولى. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ (6) المائدة) هذه أقل. (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ (25) النساء) إذا أحصن أي البلوغ فإن أتين بفاحشة هذه قليلة الحدوث. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ (180) البقرة) هذه قاعدة. (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا (28) الأحزاب) هذا افتراض. (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا (33) النور) هذا افتراض. إذا وإن تدلان على الشرط لكن (إذا) هي إما لما هو واقع لا محالة أو كثير الوقوع أما (إن) فهي افتراض وقد يكون استحالة أو أمور لا تقع ولكن ليس هنالك لها في واقع الحياة حصول (وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ (44) الطور) متى رأينا كسفاً من السماء ساقطاً؟ إذن (إذا) أقوى من (إن) من حيث الوقوع وقد وردت في القرآن 362 مرة ولم يرد في موطن واحد في افتراض أنها لم تقع بينما (إن) في افتراض، يمكن تقع أو لا تقع (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا (23) البقرة) لكنها ليست مثل (إذا). فإذن لما قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) القراءة حاصلة. هناك فرق بين (إن) الشرطية وإن النافية (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) الملك) هذه بمعنى (ما) ونميز الشرطية بفعل الشرط وجواب الشرط وإذا دخلت على المضارع تجزم وهي مختصة بالدخول على الأفعال بينما (إن) النافية تدخل على الأسماء والأفعال
الفرق بين (إذا) و(إذ):
إذ ظرف للماضي في الغالب ولا يعدونها من أدوات الشرط، إذما من أدوات الشرط (وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ (86) الأعراف) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ (9) الأحزاب) النحاة يقولون إذ للماضي وإذا للمستقبل ونحن نقول (إذ) في الغالب للماضي وإذ ليست شرطية. (إذا) ظرف لما يستقبل من الزمان خافض لشرطه منصوب لجوابه مبني على السكون. (إذ) اسم، ظرف زمان للماضي في الغالب لأنه في القرآن (إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ (71) غافر) وهذه للمستقبل (سوف) في جهنم يسحبون في الحميم وإن كان له تأويل آخر أنه مستقبل منزَّل منزلة الماضي لكني أعتقد أنها في الغالب للماضي كما أن (إذا) في الغالب للمستقبل وقد تكون في الماضي كما في قوله تعالى (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ (90) يونس) هو أدركه الغرق بالفعل. (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ (86) الكهف) حتى في آية الجمعة (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا (11) الجمعة) هذه الآية نزلت بعد ما وقع الأمر. النحاة لا يقولون غالباً ولكنهم يقولون أن أدوات الشرط كلها في الاستقبال.
*قال في الآية تتلى بصيغة المضارع (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) ولم تأتي بالماضي مع أنه قال (وَلَّى مُسْتَكْبِرًا)؟
الله أعلم الفعل الماضي كما يبدو لي في الشرط يفيد حصول الحدث مرة واحدة والمضارع يفيد تكرر الحدث مثلاً نلاحظ في آيتين متتابعتين (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا (92) (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا (93)) القتل الخطأ ليس من المفروض أن يتكرر فإذا كان يقتل مؤمناً متعمداً هذا يتكرر لذا في القتل الخطأ قال (قتل) وقال (يقتل) لما كان افتراض تكرر الحدث. (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء) (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا (145) آل عمران) من أراد ماضي ومن يرد مضارع يتكرر، الثواب يتكرر، كل شيء متعلق بالثواب يتكرر أما الآخرة فواحدة. (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (19) الأنفال) (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا (8) الإسراء) لو لاحظنا قال (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ) قالها في كفار قريش بعد وقعة بدر هم عادوا بينما (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا) هذه في بني إسرائيل وقد ذكر أنهم يفسدون في الأرض مرتين إحداهما ذهبت وتبقى الأخرى. (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي (76) الكهف) بقي له سؤالاً واحداً، (إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) محمد) هذا متكرر بينما في الأولى سؤال واحد ثم تنقطع المصاحبة. الماضي والمضارع مع الشرط يدلان على الاستقبال لكن الماضي مرة واحدة أو أقل والمضارع فيه توقع حدوث مرات كثيرة. ولذلك هنا في آية لقمان قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) دلالة على تكرار التلاوة الذي يفترض أن يؤدي إلى التأمل والتفكر والانتباه يدعوه للتأمل وهذا بخلاف لو قال تليت عليه احتمال أن تكون تليت مرة واحدة. وقال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا) قال آياتنا بإضافة الآيات إلى ضمير التعظيم لله تعالى لتعظيم فعلة هذا والتشنيع عليه أن آيات الله ويستهزئ بها وولى مستكبراً كأن لم يسمعها.
*قال تعالى في آية سورة لقمان (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) وفي الجاثية تحدث عن هذا المعنى بصورة مختلفة (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)) لم يقل كأن في أذنيه وقراً فلم فذ آية لقمان بالتحديد وردت (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا)؟
نقرأ الآيات في سورة لقمان (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)) وفي الجاثية (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)) كيف يكون في أذنيه وقر وهو يسمع كلام الله؟ في لقمان لم يقل يسمع آيات الله، قال تتلى عليه لكنه لم يقل يسمعها. أما في الجاثية قال يسمع آيات الله تتلى عليه فكيف يقول في أذنيه وقراً؟ لما لم يقل يسمع ناسب أن يقول (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) في لقمان. السماع يأتي من التلاوة هناك من يتلو حتى يسمع. الوقر المانع يمنعه من السماع هنالك شيء في أذنه لا يسمع جيداً.
*الملاحظ بقوله تعالى (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) فبشره بضمير الإفراد ولم يجمع الضمير مع أنه سبق الخطاب بالجمع (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) فلماذا؟
قال سبحانه (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) نلاحظ هنا ذكره وحده لم يذكر معه أحداً آخر ونلاحظ سياق الآية كلها تتكلم عن شخص واحد (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا) إفراد، بينما الآية قبلها التي جمع فيها يتكلم عليه وعلى من أضله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (6)) هناك أصبح جماعة تهديد له ولمن يضله فقال (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) بالجمع وليس له وحده، فإذن هناك كان التهديد للجمع (أولئك لهم عذاب مهين) له ولمن يضله وهنا لما كان الكلام هنا عليه وحده أفرد قال (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وقال بشره مع أن البشرى لا تكون إلا في الخير استهزاء به وسخرية منه فقال (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
*ختمت الآية بقوله تعالى (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) وفي آية قبلها قال (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) فما الفرق بين العذاب المهين والعذاب الأليم؟
هذا ليس تعرضاً وإنما وصف آخر، الإهانة تكون إذا وقعت أمام الآخرين. يكون العذاب مهيناً إذا كان هناك من يشهد العذاب إذا لم يكن هنالك من يشهد فالإهانة ليست ظاهرة وكلما كان المشاهدين والحاضرين أكثر كانت الإهانة أكثر. هذا ذكر هنالك من يُضلهم (عذاب مهين) لأنه يشهد بعضهم هذا الذي أضلهم سيعذب أمامهم فهي إذن هذه إهانة له هذا الذي كان يفعل هكذا ويضل هو الآن يعذّب وله عذاب مهين يهينه أمام هؤلاء الذين أضلهم وهؤلاء أيضاً كلهم سيعذبون وكل منهم يشهد عذاب الآخر فهم في عذاب مهين. أما في الآية الثانية فهو وحده له عذاب أليم لا ينطبق عليه مهين. العذاب المهين قد يكون أليماً وهو أولاً كونه مستهزئ جمع أمرين لأن الذين يستهزئ بهم هو أهانهم وآلمهم. الإهانة بحد ذاتها قد يكون فيها إيلام للآخرين فجمع الله تعالى له بين الإهانة والألم. وقد يكون العذاب المهين ليس مؤلماً جسدياً ولكن مؤلم نفسياً أما هنا فجمع له بين العذابين الإهانة والإيلام في مجموعهم (أليم ومهين). أول مرة قال (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ) هذه إهانة ثم قال (فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) هذا ألم إذن صار له عذابين إهانة وألم وليس مهيناً فقط من دون إيلام. قد يكون على سبيل المثال أن أحداً في سبيل المبدأ، في سبيل القرآن، في سبيل الإسلام يُعذّب لكن لا يرى فيه إهانة بل يرى فيه فلاحاً وثباتاً وعزة وصلاحاً وحسنة. بينما هنا جمع له عذاب مهين وأليم كما استهزأ بالآخرين وأهانهم وآلمهم هنا جمع له عذاب مهين وأليم. وقد يكون المهين غير مؤلم جسدياً لا يشترط في اللغة أن يكون مؤلماً جسدياً فجمعهم مهين وأليم. مهين يشهد بعضهم عذاب بعض والإهانة وما إلى ذلك وما كان يضلهم فأهانه أمام جماعته وشهد بعضهم عذاب بعض وإهانة العذاب لهم وآلمهم به فجمع بينهما.
*تقدير العذاب في القرآن الكريم (عذاب أليم، مهين، شديد) هل يرتبط نوع العذاب بصدر الآية القرآنية؟
يرتبط ويرتبط بفعل المعذب ماذا يقدم له من فعل المعذب وكيف قدم له؟ فيذكر بسبب السياق وفيما اقتضى العذاب.
آية (8-9):
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9))
بعد أن ذكر الكافرين وأن لهم عذاب أليم مهين ذكر ما يقابلهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ذكر أن لهم جنات النعيم أضاف الجنات إلى النعيم بمقابل ما يلقاه المُِضل من عذاب مهين وأليم هو الذي يلقى عذاباً مهيناً لو وضعته في الجنة وأنت تعذبه لا ينعم فهنا ربنا قال (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) فهو إذن يتنعم في مقابل ما يلقاه ذاك من عذاب مهين هذا ينعم مقابل ذاك الذي يهان ويألم. ثم تقديم الجار والمجرور (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) وهذا من باب الاختصاص أي لهم لا لغيرهم، للذين آمنوا وعملوا الصالحات لا ينعم أحد في الجنة غير هؤلاء حصراً.
كل الجنات هي نعيم وليس في الجنة بؤس ولا شقاء كلها نعيم بمقابل ما يلقاه ذاك في النار من الإهانة والعذاب. خالدين فيها أي ليس فقط لهم جنات النعيم كما تقول لك هذه الدار وإنما الخلود فيها. معنى الخلود البقاء والدوام يقولون الخلود الطويل لكن بالنسبة للآخرة لا ينقضي ولذلك يقول أحياناً أبداً أي ليس له نهاية عندما يقول خالدين فيها أبداً هذا تأكيد الأبدية. (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) ووعد الله حقاً لا يتخلف. (وعدَ) مفعول مطلق لفعل محذوف يعني يعدكم الله وعده حقاً. وحقاً مفعول آخر مؤكّد لفعل محذوف.
أكد بالذين آمنوا وأكد بـ (حقاً) وأكد بالمفعول المطلق مع أن كلها أشياء طيبة في الجنات ولم يؤكد في العذاب؟ كلها أمر مؤكد. حسب ما يرد وورد قوله تعالى (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا (12) المزمل) وأكّد في أماكن أخرى.
آية (8-9):
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9))
بعد أن ذكر الكافرين وأن لهم عذاب أليم مهين ذكر ما يقابلهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ذكر أن لهم جنات النعيم أضاف الجنات إلى النعيم بمقابل ما يلقاه المُِضل من عذاب مهين وأليم هو الذي يلقى عذاباً مهيناً لو وضعته في الجنة وأنت تعذبه لا ينعم فهنا ربنا قال (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) فهو إذن يتنعم في مقابل ما يلقاه ذاك من عذاب مهين هذا ينعم مقابل ذاك الذي يهان ويألم. ثم تقديم الجار والمجرور (لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ) وهذا من باب الاختصاص أي لهم لا لغيرهم، للذين آمنوا وعملوا الصالحات لا ينعم أحد في الجنة غير هؤلاء حصراً.
كل الجنات هي نعيم وليس في الجنة بؤس ولا شقاء كلها نعيم بمقابل ما يلقاه ذاك في النار من الإهانة والعذاب. خالدين فيها أي ليس فقط لهم جنات النعيم كما تقول لك هذه الدار وإنما الخلود فيها. معنى الخلود البقاء والدوام يقولون الخلود الطويل لكن بالنسبة للآخرة لا ينقضي ولذلك يقول أحياناً أبداً أي ليس له نهاية عندما يقول خالدين فيها أبداً هذا تأكيد الأبدية. (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) ووعد الله حقاً لا يتخلف. (وعدَ) مفعول مطلق لفعل محذوف يعني يعدكم الله وعده حقاً. وحقاً مفعول آخر مؤكّد لفعل محذوف.
أكد بالذين آمنوا وأكد بـ (حقاً) وأكد بالمفعول المطلق مع أن كلها أشياء طيبة في الجنات ولم يؤكد في العذاب؟ كلها أمر مؤكد. حسب ما يرد وورد قوله تعالى (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا (12) المزمل) وأكّد في أماكن أخرى.
*اختيار ختام الآية العزيز الحكيم:
العزيز هو الغالب الممتنع والحكيم فيها احتمالين الحكيم قد يكون من الحكم ومن الحكمة. العزيز الحكيم هو يفعل ذلك لا يمنع من تنفيذ وعده مانع لأنه الغالب الممتنع الحاكم وأحياناً يكون العزيز غير حاكم والعزة درجات. حتى في حياتنا الدنيا أعلى درجات العزة أن يكون حاكماً لكن ليس كل عزيز حاكماً، أعلى الأعزاء أن يكون حاكماً هذا منتهى العزة وكل حاكم عزيز وليس كل عزيز حاكم. فهنا جمع تعالى منتهى العزة العزيز الحكيم. والحكيم لها هنا دلالتان: الحكيم من الحُكم منتهى العزة لا يمنعه مانع لأن بيده كل شيء ومن الحكمة عزيز حاكم حكيم في تصرفاته وإراداته لأن الحاكم إذا لم يكن حكيماُ كان ذلك تهوراً. الحكمة المفروض أنها من مستلزمات الحُكم فالنمرود كان حاكماً لكنه لم يكن حكيماً هنالك كثير ممن نرى ونقرأ يكونوا حاكمين ليس حكماء فإذن هذا حكمه سيكون وبالاً على الآخرين. في الآية الحكيم لها الدلالتان للتوسع في المعنى. في اللغة قد يأتي بوصف له أكثر من دلالة هي كلها مرادة إذا لم يكن قرينة سياقية تحدد معنى محدداً. مثلاً قوله تعالى (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) الفتح) قليلاً من ماذا؟ قليلاً من الفقه أو قليلاً من الأمور؟ هي كلها مرادة لأنه لو أراد لقال فقهاً قليلاً أو أمراً قليلاً، (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا (82) التوبة) هل هو قليل من الوقت أو قليل من الضحك لذا لما نعرب قليلاً نعربها إما مفعول مطلق (ضحكاً قليلاً، صفة وناب عن المصدر صفته هذا مفعول مطلق) وإما ظرف زمان أي وقتاً طويلاً. لم يحدد وقتاً قليلاً أو ضحكاً قليلاً، (وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا) بكاء كثير وزمن كثير طويل فجمع الاثنين. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) الأحزاب)هنا حدد الذكر وليس الوقت وقال (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) الجمعة) الذكر والوقت وكل آية تتماشى مع السياق العام هل يريد الإطلاق والجمع أو التحديد فإذا حدد جاء بما يحدد ويعيّن. في العزيز الحكيم أراد العزة والحكم والحكمة.
العزيز الحكيم بالتعريف ووردت نكرة (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)). العزيز الحكيم لا يمنع مانع من تنفيذ وعده بالنسبة لأولئك وهؤلاء للمؤمنين وغيرهم لأنه هو العزيز الحكيم. لو قرأنا الآية الأخرى في السورة نفسها (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)) ليس وعداً لأحد ومحاربة لأحد ولا جزاء لأحد وليس هناك شخص معاند لم يذكر محارب بينما ذكر محارباً ومعانداً في الآية الأولى فلم يقتضي هذا الشيء. هذا تعقيب بالعزة والحكم لأنه ذكر جزاء وعقاب (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7)) ذاك جزاء الذين آمنوا وعقاب الذين كفروا ولا يمنعه مانع هو العزيز الحكيم وكل من ترونه يتهاوون وليس هنالك أحد. أما في الآية الثانية فهي إخبار وليس فيها تهديد ولا وعيد ولا محارب ولا جزاء ولا شيء فلا يقتضي.
لا نفهم أن النكرة تدل على العموم والشمول والتعريف يدل على التعيين والتحديد كما في بعض الجوانب البلاغية؟ التعريف أحياناً قد يكون جنس حسب السياق يحدده. التعريف إما يكون لعهد أو للجنس (إن الإنسان لفي خسر) (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28) النساء) .
*اختيار ختام الآية العزيز الحكيم:
العزيز هو الغالب الممتنع والحكيم فيها احتمالين الحكيم قد يكون من الحكم ومن الحكمة. العزيز الحكيم هو يفعل ذلك لا يمنع من تنفيذ وعده مانع لأنه الغالب الممتنع الحاكم وأحياناً يكون العزيز غير حاكم والعزة درجات. حتى في حياتنا الدنيا أعلى درجات العزة أن يكون حاكماً لكن ليس كل عزيز حاكماً، أعلى الأعزاء أن يكون حاكماً هذا منتهى العزة وكل حاكم عزيز وليس كل عزيز حاكم. فهنا جمع تعالى منتهى العزة العزيز الحكيم. والحكيم لها هنا دلالتان: الحكيم من الحُكم منتهى العزة لا يمنعه مانع لأن بيده كل شيء ومن الحكمة عزيز حاكم حكيم في تصرفاته وإراداته لأن الحاكم إذا لم يكن حكيماُ كان ذلك تهوراً. الحكمة المفروض أنها من مستلزمات الحُكم فالنمرود كان حاكماً لكنه لم يكن حكيماً هنالك كثير ممن نرى ونقرأ يكونوا حاكمين ليس حكماء فإذن هذا حكمه سيكون وبالاً على الآخرين. في الآية الحكيم لها الدلالتان للتوسع في المعنى. في اللغة قد يأتي بوصف له أكثر من دلالة هي كلها مرادة إذا لم يكن قرينة سياقية تحدد معنى محدداً. مثلاً قوله تعالى (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) الفتح) قليلاً من ماذا؟ قليلاً من الفقه أو قليلاً من الأمور؟ هي كلها مرادة لأنه لو أراد لقال فقهاً قليلاً أو أمراً قليلاً، (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا (82) التوبة) هل هو قليل من الوقت أو قليل من الضحك لذا لما نعرب قليلاً نعربها إما مفعول مطلق (ضحكاً قليلاً، صفة وناب عن المصدر صفته هذا مفعول مطلق) وإما ظرف زمان أي وقتاً طويلاً. لم يحدد وقتاً قليلاً أو ضحكاً قليلاً، (وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا) بكاء كثير وزمن كثير طويل فجمع الاثنين. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) الأحزاب)هنا حدد الذكر وليس الوقت وقال (وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) الجمعة) الذكر والوقت وكل آية تتماشى مع السياق العام هل يريد الإطلاق والجمع أو التحديد فإذا حدد جاء بما يحدد ويعيّن. في العزيز الحكيم أراد العزة والحكم والحكمة.
العزيز الحكيم بالتعريف ووردت نكرة (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)). العزيز الحكيم لا يمنع مانع من تنفيذ وعده بالنسبة لأولئك وهؤلاء للمؤمنين وغيرهم لأنه هو العزيز الحكيم. لو قرأنا الآية الأخرى في السورة نفسها (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)) ليس وعداً لأحد ومحاربة لأحد ولا جزاء لأحد وليس هناك شخص معاند لم يذكر محارب بينما ذكر محارباً ومعانداً في الآية الأولى فلم يقتضي هذا الشيء. هذا تعقيب بالعزة والحكم لأنه ذكر جزاء وعقاب (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7)) ذاك جزاء الذين آمنوا وعقاب الذين كفروا ولا يمنعه مانع هو العزيز الحكيم وكل من ترونه يتهاوون وليس هنالك أحد. أما في الآية الثانية فهي إخبار وليس فيها تهديد ولا وعيد ولا محارب ولا جزاء ولا شيء فلا يقتضي.
لا نفهم أن النكرة تدل على العموم والشمول والتعريف يدل على التعيين والتحديد كما في بعض الجوانب البلاغية؟ التعريف أحياناً قد يكون جنس حسب السياق يحدده. التعريف إما يكون لعهد أو للجنس (إن الإنسان لفي خسر) (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا (28) النساء) .
آية (10):
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10))
*على من يعود الضمير في (ترونها)؟
هذا بحثه القدامى في الناحية اللغوية وبحثه الفراء في كتابه معاني القرآن هذه تسمى التعبيرات الاحتمالية يعني تحتمل أكثر من دلالة ولذلك هم قالوا يحتمل هذا التعبير أنه خلق السموات بغير عمد وهاأنتم ترونها بغير عمد فتكون ترونها جملة استئنافية فيكون السماء مرفوعة بغير عمد وهاأنتم ترونها بغير عمد فيكون المعنى خارج القرآن خلق السموات ترونها بغير عمد. الاحتمال الآخر ترونها صفة لعمد يعني بغير عمد مرئية يعني خلقها بعمد غير مرئية لها أعمدة لكن لا تُرى هذه الأعمدة غير مرئية. القدامى هكذا قالوا هذا التعبير يحتمل أمرين إما أن يكون خلقها بغير عمد وهاأنتم ترونها مرفوعة بغير عمد (ترونها استئنافية) وإما ترونها صفة لعمد، أراد أن يجعلنا نفكر فيها وفي المستقبل سينتهون إلى ما ينتهون إليه فقد تكون هي مرفوعة بغير عمد وقد تكون هنالك أعمدة غير مرئية كالجاذبية مثلاً. البعض في الإعجاز العلمي يقولون أن هنالك أعمدة ولكن لا نراها. أيهما أدل على القدرة؟ أن تكون بغير عمد أو تكون بعمد؟ كلها قدرة وهو سبحانه خلق الأسباب مثلاً تقول أيها أدل على القدرة أن يخلق الإنسان بأب وأم أو من غير أب وأم؟ كلها قدرة. هو خلق الأسباب الأخرى من المطر الذي ينبت الزرع، يخلق الأسباب أو يضع أسباب أو لا يضع أسباب خلقها بغير عمد أو بعمد كما خلق آدم من غير أب ولا أم وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أم بلا أب وخلق من عقيم وخلق من غير زوج وهو سبحانه يفعل ما يشاء والله أعلم قد يأتي زمان نفهم هذه الآية. الآية تحتمل المعنيين وأهل اللغة القدامى قالوا تحتمل وتحتمل أنها استئنافية. الذي يحدد الأمر هو الأمر العلمي والذي يقطع فيها ما يكتشف ويحدد من حقيقة علمية. هذا التعبير بهذا الشكل يسير على نهج العرب وأصل الجمل في العربية على قسمين تعبيرات ذات دلالة احتمالية وتعبيرات ذات دلالة قطعية. (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) البقرة) هذه قطعية، لا رجلٌ حاضراً احتمالية، لا رجلَ حاضرٌ قطعية، ما رجلٌ حاضراً احتمالية، ما من رجل حاضر قطعية. يقولون اشتريت قدح ماءٍ احتمالية، اشتريت قدحاً ماءً قطعية لأنك اشتريت ماء بمقدار قدح ولم تشتر القدح، اشتريت قدح ماءٍ احتمالية قد تكون اشتريت القدح وقد تكون اشتريت الماء. إذن (ترونها) الضمير يعود على السماء أو على العمد تعبير احتمالي والناس في المستقبل يستنبطون (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) فصلت).
*قال تعالى في سورة لقمان (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) وفي سورة الرعد قال (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) فما الفرق بين رفع وخلق؟
كل تعبير مناسب لمكانه لو نظرنا في الرعد قال (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)) لما قال (وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ) الإنزال إنما يكون من فوق أي من مكان مرتفع فناسبها رفع السموات. ثم استوى على العرش (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) العرش فوق السموات إذن رفع السموات حتى تكون مرتفعة. ثم قال (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وهي من الأجرام السماوية وهي مرتفعة إذن يناسب رفع السموات. أما في لقمان فليس فيها شيء من ذلك بعد هذه الآية في لقمان قال (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (11)) خلق الله مناسب لخلق السموات (خلق السموات) (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ). إذن السياق في الرعد يناسبه رفع السموات والسياق في لقمان يناسبه خلق السموات وبعدها (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) فكل تعبير في مكانه.
(بغير عمد) (غير) معناها اللغوي المغايرة ولها معاني كثيرة وأحياناً تكون نافية. وقد يكون هذا المعنى محتملاً في الآية تنفي الأعمدة. يقول بغير علم ينفي العلم. إذا نفت العمد في الآية المسألة في (ترونها) هو نفى بعمد غير مرئية. لما تقول ما جاءني رجل كريم تنفي الكريم من الرجال وليس عموم الرجال، ما جاءني رجل يحمل حقيبة يحتمل أنه جاء رجل لا يحمل حقيبة. هذا تقييد والقيد لا ينفي العموم، خلق السموات بغير عمد مرئية أو بغير عمد أصلاً. تقول جاء بغير كتاب أجنبي، جاء فلان بغير كتاب مقرر، هل جاء بغير كتاب؟ محتمل، جاء بكتاب غير مقرر، إذن جاء بكتاب إذن جاء بغير كتاب مقرر ما أطلق النفي لأنه طالما جاء بصفة اصر قيداً. هي تحتمل أيضاً، الآن تحتمل نفي القيد. يقول تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) الإنسان) هو لم يكن شيئاً أصلاً أو كان شيئاً ولم يكن مذكوراً؟ يحتمل أنه كان شيئاً لكنه كان شيئاً غير مذكور أو لم يكن شيئاً أصلاً فيحتمل المعنيين، ذكرت القيد فيصير احتمالين حتى المفسرين يقولون لم يكن شيئاً أصلاً مذكوراً أو غير مذكوراً، وقسم قالوا كان شيئاً لكن غير مذكور، كيف كان شيئاً غير مذكور؟ النفي يحتمل ولذلك قالوا لم يكن شيئاً مذكوراً لما لم ينفخ فيه الروح، كان طيناً قبل أن ينفخ فيها الروح كان شيئاً لكنه لم يكن مذكوراً أنت إذا ذكرت القيد يصير الاحتمال لذكر القيد.
* ما دلالة الآية (ألقينا فيها رواسي) ألم تكن الجبال مخلوقة من قبل؟
قال تعالى في سورة لقمان (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)). هذا سؤال يجب أن يُوجّه إلى المعنيين بالإعجاز العلمي. لكن أقول والله أعلم أن الملاحظ أنه تعالى يقول أحياناً ألقينا وأحياناً يقول جعلنا في الكلام عن الجبال بمعنى أن التكوين ليس واحداً وقد درسنا أن بعض الجبال تُلقى إلقاء بالبراكين (جبال بركانية) والزلازل أو قد تأتي بها الأجرام المساوية على شكل كُتل. وهناك شكل آخر من التكوين كما قال تعالى في سورة النمل (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)) وسورة الرعد (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3))، وهذا يدل والله أعلم على أن هناك أكثر من وسيلة لتكوين الجبال. وكينونة الجبال تختلف عن كينونة الأرض فالجبال ليست نوعاً واحداً ولا تتكون بطريقة واحدة هذا والله أعلم.
*(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا (10) لقمان)؟ هل يمكن أن تعني الآية وجود العمد لكنها غير محسوسة؟
القدامى قالوا فيها احتمالان جعلوها من الجمل الاحتمالية حتى الفرّاء قال يمكن أن تكون خلقها بغير عمد أو خلقها بعمد غير مرئية. فيها احتمالان من حيث التعبير: بغير عمد وهاأنتم ترونها تصير (ترونها) جملة ابتدائية أو خلقها بعمد غير مرئية. الهاء في ترونها تعود على السماء أو على العمد. إذا عاد الضمير على السماء تكون السماء بغير عمد، ها أنتم ترونها بغير عمد (ترونها تكون جملة ابتدائية) والاحتمال الثاني بغير عمد ترونها (ترونها) جملة صفة لعمد، بغير عمد مرئية (الجُمَل بعد النكرات صفات) هناك أعمدة لكن لا ترونها. القدامى قالوا هذه الآية فيها احتمالان والله أعلم.
*مرة يقول تعالى أن تميد بكم ومرة لا يقولها فما اللمسة البيانية فيها؟
الآية سبق أن ذكرناها وقال (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) أن تميد بكم أي كراهة أن تميد بكم أو لئلا تميد بكم كما يقول النحاة، المعنى لماذا ألقى الرواسي؟ لئلا تميد بكم يقولون كراهة أن تميد بكم أو لئلا تميد بكم (إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) هود) يعني لئلا تكون من الجاهلين، (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى (282) البقرة) كراهة أن تضل إحداهما أو لئلا تضل. إذن أن تميد بكم يعني لئلا تميد بكم. يبقى السؤال أحياناً يقول أن تميد بكم وأحياناً لا يقول أن تميد بكم (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ (3) الرعد) من دون أن تميد بكم. في مواضع قال أن تميد بكم أو تميد بهم وفي مواضع أخرى لم يقل هذا الشيء والسبب أنه إذا أراد بيان نعمة الله على الإنسان يقول أن تميد بكم وإذا أراد فقط أن يبين قدرة الله فيما صنع وليس له علاقة بالإنسان يعني إذا أراد بيان النعمة على الإنسان لهذا الأمر قال أن تميد بكم لماذا خلقها؟ فيها نعمة لئلا تميد بهم وإذا أراد مجرد بيان القدرة في الصنع وليس له علاقة بالإنسان لا يقول هذا لأن الكلام لا يتعلق بالإنسان وإنما يتعلق بصنع الجبال والرواسي. أن تميد بكم هنا لبيان نعمة الله على الإنسان هنا قال (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) هنا الغرض بيان نعمة الله على الإنسان في هذه الرواسي. أولاً هذه مرتبطة بقوله تعالى بدأ السورة (هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)) عدم ميد الأرض بهم أليست من الرحمة؟ بلى إذن هي مرتبطة بالرحمة التي ذكرها في أول السورة لما قال (هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ) وهذه من الرحمة. وهي مرتبطة بالآية السابقة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)) إذن بيّن حكمة إلقاء الرواسي في الأرض، الحكمة منها عدم ميد الأرض، إذن هي مرتبطة بالرحمة وبالحكمة. إذن هذه مناسبة للاسم الحكيم، مناسبة في الأولى للرحمة (هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ) ومناسبة لاسمه الحكيم في الآية التي قبلها ففيها ارتباط مناسب من الجهتين. الرواسي رسى بمعنى ثبت، رواسي يعني ثابتة جبال تثبتها. لم يقل جبال مع أنه استخدمها في القرآن. هو قال (وألقى في الأرض رواسي) وأحياناً يقول (جعل في الأرض رواسي) ألقى في الأرض رواسي وقبلها قال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فإلقاء الرواسي مناسب للعِزّة لأنه عزيز حكيم. ألقى دلالتها متقاربة من جعل، الجبال قسم منها ملقاة تأتي من فوق صخور تسقط من فوق وقسم يخرج من البراكين ثم تسقط، اختيار هنا الإلقاء مناسب للعزيز الحكيم لما ذكر عزته وحكمه قال وألقى حاكم يلقي الأوامر كما يشاء ويلقي الجبال فهي مناسبة إذن للعزيز الحكيم وفيها قوة. إذن ألقى في الأرض مناسبة للعزيز وأن تميد بكم مناسب للحكيم. فإذن هي أيضاً مناسبة للعزيز الحكيم. يجب دراسة الكلمات في القرآن من سياقها وارتباطها ببعض والمقاصد العامة للسورة ولا ينبغي أن نسلخ آية من السياق العام. قال رواسي هنا وفي آيات أخرى يذكر الجبال. المقصود بالرواسي الثوابت حتى تثبت لما يذكر مجراها ومرساها (حين تقف)، (بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا (41) هود) مسيرها وإرساؤها. الرواسي أن تميد بكم أي تثبتها. لما كان اختيار الرواسي بمعنى الثوابت لا يستخدمها يوم القيامة عند زوالها، كيف رواسي وكيف سُيِّرت؟ (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) النبأ) (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) الحاقة) ولذلك في يوم القيامة لا يستعمل الرواسي مطلقاً لأن يوم القيامة الجبال فيها حركة ورفع ودك ونسف (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) القارعة) لا يستعمل في يوم القيامة الرواسي وإنما يستعمل الجبال. هنا (أن تميد بكم) مناسب للرواسي.
*يقول تعالى (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) قال في آيات أخرى (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) ق)؟
أول مرة قال أنزلنا بإسناد الإنزال إلى نفسه سبحانه تعالى وهذا يسمونه التفات لأهمية الماء للإنسان. أنزلنا فيها ضمير التعظيم مع أنه قال (وألقى) أول مرة فالتفت تحول الضمير لبيان النعمة في إنزال الماء وإنبات ما ذكر من الأزواج فهذا الالتفات حتى يبين سبحانه وتعالى نعمته على الإنسان فقال (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). من كل زوج أي من كل صنف فالزوج تأتي بمعنى الصنف (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) الواقعة) (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) الصافات). لكن لماذا اختار هنا زوج كريم وفي مكان آخر زوج بهيج؟. الكريم هو بالغ الجودة والنفاسة كثير الخير والمنفعة، والبهيج الذي يدخل البهجة على النفوس، اختيار كل كلمة لماذا اختار هنا بهيج وهنا كريم؟. يذكر هنا أن لقمان آتاه الله الحكمة (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)) والحكمة هي بالغة الخير والنفاسة (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (269) البقرة) فإذن هذا الكرم مناسب لذلك الخير الكثير الذي في الحكمة. هذا زوج كريم بالغ الخير والنفاسة والجودة هكذا قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) والحكمة بالغة الخير والنفاسة والخير الكثير لأنها مناسبة لما سيذكر بعدها من الحكمة. قد يسأل سائل لم تعددت الأوصاف والزوج واحد؟ ننظر ماذا قال تعالى في سورة ق (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)) إلى أن يقول (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10)) لما قال وزينها أليست الزينة لإدخال البهجة على النفوس؟ بلى، إذن كلمة بهيج مناسبة للزينة التي ذكرها في السماء (مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) هذه تدخل البهجة والزينة تدخل البهجة والزينة أصلاً تدخل البهجة على النفوس ثم يقول (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ) كلها يدخل البهجة. كما في سورة الحج (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)) ناسب بين الهمود وبين البهجة، هذه هامدة لا بهجة فيها مطلقاً فالوصف بحسب السياق الذي ورد، هناك كل زوج كريم لما تكلم عن نفاسة الحكمة وما سيأتي من الخير الذي ذكره في الحكمة قال من كل زوج كريم مناسب لما سيذكر ولما ذكر الزينة والنخل باسقات قال بهيج مناسب للبهجة. الموصوف قد يكون واحداً لكن الصفات تختلف وتتعدد بحسب ما تريد أن تذكره أنت في السياق فإذا أردت أن تصف شخصاً بالعلم تقول هو عالم، الكلام على أي شيء من الصفات الكلام على الخلق تقول هذا صاحب خلق وإذا كان الكلام على الدين تقول هو تقي فالصفات تتعدد بحسب المقام والسياق.
آية (10):
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10))
*على من يعود الضمير في (ترونها)؟
هذا بحثه القدامى في الناحية اللغوية وبحثه الفراء في كتابه معاني القرآن هذه تسمى التعبيرات الاحتمالية يعني تحتمل أكثر من دلالة ولذلك هم قالوا يحتمل هذا التعبير أنه خلق السموات بغير عمد وهاأنتم ترونها بغير عمد فتكون ترونها جملة استئنافية فيكون السماء مرفوعة بغير عمد وهاأنتم ترونها بغير عمد فيكون المعنى خارج القرآن خلق السموات ترونها بغير عمد. الاحتمال الآخر ترونها صفة لعمد يعني بغير عمد مرئية يعني خلقها بعمد غير مرئية لها أعمدة لكن لا تُرى هذه الأعمدة غير مرئية. القدامى هكذا قالوا هذا التعبير يحتمل أمرين إما أن يكون خلقها بغير عمد وهاأنتم ترونها مرفوعة بغير عمد (ترونها استئنافية) وإما ترونها صفة لعمد، أراد أن يجعلنا نفكر فيها وفي المستقبل سينتهون إلى ما ينتهون إليه فقد تكون هي مرفوعة بغير عمد وقد تكون هنالك أعمدة غير مرئية كالجاذبية مثلاً. البعض في الإعجاز العلمي يقولون أن هنالك أعمدة ولكن لا نراها. أيهما أدل على القدرة؟ أن تكون بغير عمد أو تكون بعمد؟ كلها قدرة وهو سبحانه خلق الأسباب مثلاً تقول أيها أدل على القدرة أن يخلق الإنسان بأب وأم أو من غير أب وأم؟ كلها قدرة. هو خلق الأسباب الأخرى من المطر الذي ينبت الزرع، يخلق الأسباب أو يضع أسباب أو لا يضع أسباب خلقها بغير عمد أو بعمد كما خلق آدم من غير أب ولا أم وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أم بلا أب وخلق من عقيم وخلق من غير زوج وهو سبحانه يفعل ما يشاء والله أعلم قد يأتي زمان نفهم هذه الآية. الآية تحتمل المعنيين وأهل اللغة القدامى قالوا تحتمل وتحتمل أنها استئنافية. الذي يحدد الأمر هو الأمر العلمي والذي يقطع فيها ما يكتشف ويحدد من حقيقة علمية. هذا التعبير بهذا الشكل يسير على نهج العرب وأصل الجمل في العربية على قسمين تعبيرات ذات دلالة احتمالية وتعبيرات ذات دلالة قطعية. (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) البقرة) هذه قطعية، لا رجلٌ حاضراً احتمالية، لا رجلَ حاضرٌ قطعية، ما رجلٌ حاضراً احتمالية، ما من رجل حاضر قطعية. يقولون اشتريت قدح ماءٍ احتمالية، اشتريت قدحاً ماءً قطعية لأنك اشتريت ماء بمقدار قدح ولم تشتر القدح، اشتريت قدح ماءٍ احتمالية قد تكون اشتريت القدح وقد تكون اشتريت الماء. إذن (ترونها) الضمير يعود على السماء أو على العمد تعبير احتمالي والناس في المستقبل يستنبطون (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) فصلت).
*قال تعالى في سورة لقمان (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) وفي سورة الرعد قال (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) فما الفرق بين رفع وخلق؟
كل تعبير مناسب لمكانه لو نظرنا في الرعد قال (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)) لما قال (وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ) الإنزال إنما يكون من فوق أي من مكان مرتفع فناسبها رفع السموات. ثم استوى على العرش (اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) العرش فوق السموات إذن رفع السموات حتى تكون مرتفعة. ثم قال (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) وهي من الأجرام السماوية وهي مرتفعة إذن يناسب رفع السموات. أما في لقمان فليس فيها شيء من ذلك بعد هذه الآية في لقمان قال (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (11)) خلق الله مناسب لخلق السموات (خلق السموات) (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ). إذن السياق في الرعد يناسبه رفع السموات والسياق في لقمان يناسبه خلق السموات وبعدها (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) فكل تعبير في مكانه.
(بغير عمد) (غير) معناها اللغوي المغايرة ولها معاني كثيرة وأحياناً تكون نافية. وقد يكون هذا المعنى محتملاً في الآية تنفي الأعمدة. يقول بغير علم ينفي العلم. إذا نفت العمد في الآية المسألة في (ترونها) هو نفى بعمد غير مرئية. لما تقول ما جاءني رجل كريم تنفي الكريم من الرجال وليس عموم الرجال، ما جاءني رجل يحمل حقيبة يحتمل أنه جاء رجل لا يحمل حقيبة. هذا تقييد والقيد لا ينفي العموم، خلق السموات بغير عمد مرئية أو بغير عمد أصلاً. تقول جاء بغير كتاب أجنبي، جاء فلان بغير كتاب مقرر، هل جاء بغير كتاب؟ محتمل، جاء بكتاب غير مقرر، إذن جاء بكتاب إذن جاء بغير كتاب مقرر ما أطلق النفي لأنه طالما جاء بصفة اصر قيداً. هي تحتمل أيضاً، الآن تحتمل نفي القيد. يقول تعالى (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1) الإنسان) هو لم يكن شيئاً أصلاً أو كان شيئاً ولم يكن مذكوراً؟ يحتمل أنه كان شيئاً لكنه كان شيئاً غير مذكور أو لم يكن شيئاً أصلاً فيحتمل المعنيين، ذكرت القيد فيصير احتمالين حتى المفسرين يقولون لم يكن شيئاً أصلاً مذكوراً أو غير مذكوراً، وقسم قالوا كان شيئاً لكن غير مذكور، كيف كان شيئاً غير مذكور؟ النفي يحتمل ولذلك قالوا لم يكن شيئاً مذكوراً لما لم ينفخ فيه الروح، كان طيناً قبل أن ينفخ فيها الروح كان شيئاً لكنه لم يكن مذكوراً أنت إذا ذكرت القيد يصير الاحتمال لذكر القيد.
* ما دلالة الآية (ألقينا فيها رواسي) ألم تكن الجبال مخلوقة من قبل؟
قال تعالى في سورة لقمان (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)). هذا سؤال يجب أن يُوجّه إلى المعنيين بالإعجاز العلمي. لكن أقول والله أعلم أن الملاحظ أنه تعالى يقول أحياناً ألقينا وأحياناً يقول جعلنا في الكلام عن الجبال بمعنى أن التكوين ليس واحداً وقد درسنا أن بعض الجبال تُلقى إلقاء بالبراكين (جبال بركانية) والزلازل أو قد تأتي بها الأجرام المساوية على شكل كُتل. وهناك شكل آخر من التكوين كما قال تعالى في سورة النمل (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)) وسورة الرعد (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3))، وهذا يدل والله أعلم على أن هناك أكثر من وسيلة لتكوين الجبال. وكينونة الجبال تختلف عن كينونة الأرض فالجبال ليست نوعاً واحداً ولا تتكون بطريقة واحدة هذا والله أعلم.
*(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا (10) لقمان)؟ هل يمكن أن تعني الآية وجود العمد لكنها غير محسوسة؟
القدامى قالوا فيها احتمالان جعلوها من الجمل الاحتمالية حتى الفرّاء قال يمكن أن تكون خلقها بغير عمد أو خلقها بعمد غير مرئية. فيها احتمالان من حيث التعبير: بغير عمد وهاأنتم ترونها تصير (ترونها) جملة ابتدائية أو خلقها بعمد غير مرئية. الهاء في ترونها تعود على السماء أو على العمد. إذا عاد الضمير على السماء تكون السماء بغير عمد، ها أنتم ترونها بغير عمد (ترونها تكون جملة ابتدائية) والاحتمال الثاني بغير عمد ترونها (ترونها) جملة صفة لعمد، بغير عمد مرئية (الجُمَل بعد النكرات صفات) هناك أعمدة لكن لا ترونها. القدامى قالوا هذه الآية فيها احتمالان والله أعلم.
*مرة يقول تعالى أن تميد بكم ومرة لا يقولها فما اللمسة البيانية فيها؟
الآية سبق أن ذكرناها وقال (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) أن تميد بكم أي كراهة أن تميد بكم أو لئلا تميد بكم كما يقول النحاة، المعنى لماذا ألقى الرواسي؟ لئلا تميد بكم يقولون كراهة أن تميد بكم أو لئلا تميد بكم (إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) هود) يعني لئلا تكون من الجاهلين، (فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى (282) البقرة) كراهة أن تضل إحداهما أو لئلا تضل. إذن أن تميد بكم يعني لئلا تميد بكم. يبقى السؤال أحياناً يقول أن تميد بكم وأحياناً لا يقول أن تميد بكم (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ (3) الرعد) من دون أن تميد بكم. في مواضع قال أن تميد بكم أو تميد بهم وفي مواضع أخرى لم يقل هذا الشيء والسبب أنه إذا أراد بيان نعمة الله على الإنسان يقول أن تميد بكم وإذا أراد فقط أن يبين قدرة الله فيما صنع وليس له علاقة بالإنسان يعني إذا أراد بيان النعمة على الإنسان لهذا الأمر قال أن تميد بكم لماذا خلقها؟ فيها نعمة لئلا تميد بهم وإذا أراد مجرد بيان القدرة في الصنع وليس له علاقة بالإنسان لا يقول هذا لأن الكلام لا يتعلق بالإنسان وإنما يتعلق بصنع الجبال والرواسي. أن تميد بكم هنا لبيان نعمة الله على الإنسان هنا قال (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) هنا الغرض بيان نعمة الله على الإنسان في هذه الرواسي. أولاً هذه مرتبطة بقوله تعالى بدأ السورة (هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)) عدم ميد الأرض بهم أليست من الرحمة؟ بلى إذن هي مرتبطة بالرحمة التي ذكرها في أول السورة لما قال (هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ) وهذه من الرحمة. وهي مرتبطة بالآية السابقة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)) إذن بيّن حكمة إلقاء الرواسي في الأرض، الحكمة منها عدم ميد الأرض، إذن هي مرتبطة بالرحمة وبالحكمة. إذن هذه مناسبة للاسم الحكيم، مناسبة في الأولى للرحمة (هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ) ومناسبة لاسمه الحكيم في الآية التي قبلها ففيها ارتباط مناسب من الجهتين. الرواسي رسى بمعنى ثبت، رواسي يعني ثابتة جبال تثبتها. لم يقل جبال مع أنه استخدمها في القرآن. هو قال (وألقى في الأرض رواسي) وأحياناً يقول (جعل في الأرض رواسي) ألقى في الأرض رواسي وقبلها قال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فإلقاء الرواسي مناسب للعِزّة لأنه عزيز حكيم. ألقى دلالتها متقاربة من جعل، الجبال قسم منها ملقاة تأتي من فوق صخور تسقط من فوق وقسم يخرج من البراكين ثم تسقط، اختيار هنا الإلقاء مناسب للعزيز الحكيم لما ذكر عزته وحكمه قال وألقى حاكم يلقي الأوامر كما يشاء ويلقي الجبال فهي مناسبة إذن للعزيز الحكيم وفيها قوة. إذن ألقى في الأرض مناسبة للعزيز وأن تميد بكم مناسب للحكيم. فإذن هي أيضاً مناسبة للعزيز الحكيم. يجب دراسة الكلمات في القرآن من سياقها وارتباطها ببعض والمقاصد العامة للسورة ولا ينبغي أن نسلخ آية من السياق العام. قال رواسي هنا وفي آيات أخرى يذكر الجبال. المقصود بالرواسي الثوابت حتى تثبت لما يذكر مجراها ومرساها (حين تقف)، (بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا (41) هود) مسيرها وإرساؤها. الرواسي أن تميد بكم أي تثبتها. لما كان اختيار الرواسي بمعنى الثوابت لا يستخدمها يوم القيامة عند زوالها، كيف رواسي وكيف سُيِّرت؟ (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) النبأ) (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) الحاقة) ولذلك في يوم القيامة لا يستعمل الرواسي مطلقاً لأن يوم القيامة الجبال فيها حركة ورفع ودك ونسف (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) القارعة) لا يستعمل في يوم القيامة الرواسي وإنما يستعمل الجبال. هنا (أن تميد بكم) مناسب للرواسي.
*يقول تعالى (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) قال في آيات أخرى (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) ق)؟
أول مرة قال أنزلنا بإسناد الإنزال إلى نفسه سبحانه تعالى وهذا يسمونه التفات لأهمية الماء للإنسان. أنزلنا فيها ضمير التعظيم مع أنه قال (وألقى) أول مرة فالتفت تحول الضمير لبيان النعمة في إنزال الماء وإنبات ما ذكر من الأزواج فهذا الالتفات حتى يبين سبحانه وتعالى نعمته على الإنسان فقال (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ). من كل زوج أي من كل صنف فالزوج تأتي بمعنى الصنف (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) الواقعة) (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) الصافات). لكن لماذا اختار هنا زوج كريم وفي مكان آخر زوج بهيج؟. الكريم هو بالغ الجودة والنفاسة كثير الخير والمنفعة، والبهيج الذي يدخل البهجة على النفوس، اختيار كل كلمة لماذا اختار هنا بهيج وهنا كريم؟. يذكر هنا أن لقمان آتاه الله الحكمة (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)) والحكمة هي بالغة الخير والنفاسة (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (269) البقرة) فإذن هذا الكرم مناسب لذلك الخير الكثير الذي في الحكمة. هذا زوج كريم بالغ الخير والنفاسة والجودة هكذا قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) والحكمة بالغة الخير والنفاسة والخير الكثير لأنها مناسبة لما سيذكر بعدها من الحكمة. قد يسأل سائل لم تعددت الأوصاف والزوج واحد؟ ننظر ماذا قال تعالى في سورة ق (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)) إلى أن يقول (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10)) لما قال وزينها أليست الزينة لإدخال البهجة على النفوس؟ بلى، إذن كلمة بهيج مناسبة للزينة التي ذكرها في السماء (مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) هذه تدخل البهجة والزينة تدخل البهجة والزينة أصلاً تدخل البهجة على النفوس ثم يقول (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ) كلها يدخل البهجة. كما في سورة الحج (وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)) ناسب بين الهمود وبين البهجة، هذه هامدة لا بهجة فيها مطلقاً فالوصف بحسب السياق الذي ورد، هناك كل زوج كريم لما تكلم عن نفاسة الحكمة وما سيأتي من الخير الذي ذكره في الحكمة قال من كل زوج كريم مناسب لما سيذكر ولما ذكر الزينة والنخل باسقات قال بهيج مناسب للبهجة. الموصوف قد يكون واحداً لكن الصفات تختلف وتتعدد بحسب ما تريد أن تذكره أنت في السياق فإذا أردت أن تصف شخصاً بالعلم تقول هو عالم، الكلام على أي شيء من الصفات الكلام على الخلق تقول هذا صاحب خلق وإذا كان الكلام على الدين تقول هو تقي فالصفات تتعدد بحسب المقام والسياق.
آية (11):
(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11))
كلمة خلق في الأصل مصدر لكن هذا المصدر أحياناً يراد به اسم المفعول، الخلق بمعنى المخلوق لماذا ذكر مخلوقات قال هذا خلق الله، فهي تحتمل أن هذا ما خلقه الله لأن المصدر في اللغة أحياناً يراد به اسم الفاعل أو يراد به اسم المفعول. الزرع يراد به المزروع وقد يراد به المصدر، زرعت الشجرة زرعاً هذه مصدر. (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) هنا تحتمل أن يراد بالمصدر اسم المفعول أي هذه مخلوقاته ويحتمل أن يراد بها هذا صنعه يراد به المصدر كما ذكر وهذا من باب الاتساع في المعنى هذا صنعه العجيب وفعله العظيم وخلقه المتقن وهذه مخلوقاته كما ترى. لو قال مخلوقاته لكان معنى واحد لكن خلق الله تتسع لكل الخلق والمخلوق. (هذا) إشارة للقريب.
*هنا قال (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)؟ ما قال (ما) مع أن كلاهما للاستفهام؟
(ما) قد تكون للاستفهام وقد تكون اسماً موصولاً (آكل ما تأكل وأشرب ما تشرب) (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) ق) بمعنى الذي، (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ (3) النساء). (ما) محتمل أن تكون اسم موصول وتحتمل أن تكون استفهام. هنا لو قال فأروني ما خلق الذين من دونه تحتمل دلالتين: الموصولية بمعنى الذي لو قال أروني الذي خلق قد يقال هو خلق فأرني الذي خلقه، هذه تحتمل تقول أرني ما صنع فلان أي أرني الذي صنعه، هذا اسم الموصول واستفهام أرني ما فعل هذا استفهام. (ما) تحتمل الاستفهامية وتحتمل اسم الموصول. (ماذا) اسم استفهام قطعاً لا تحتمل الموصولية. هو أراد هنا الاستفهام إذن هم قطعاً لم يفعلوا شيئاً أرني ماذا فعل فلان؟ هذا فيه دلالة على أنه لم يفعل شيئاً. (ما صنع) يحتمل أنه صنع (أرني ما صنعت، أرني ما كتبت) هناك شيء موجود يسأل عنه. التعبير هنا قال (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) هذا خلقه الله تعالى أروني ماذا خلق الآخرون؟ هذا صنعه الله تعالى وخلقه أروني ماذا خلق الآخرون؟ لماذا أنتم تشركون؟ ترقى من هذا السؤال إلى أمر آخر وقال (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) انتهى إلى مسألة أن الظالمون في ضلال.
*لماذا قال الظالمين؟
لما قال (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) هؤلاء الذين يعبدون من دون الله هؤلاء مشركون فهنا أراد أن يبين لهم أن الشرك ظلم عظيم. اختار الظالم لأن المشرك ظالم لنفسه أولاً وظالم لغيره. الشرك مؤدّاه إلى الظلم أولاً لأنه عبد ما لا يستحق أصلاً والعبادة هي أعلى شيء فأنت أهنت نفسك وعبدت ما لا يستحق وما هو دونك كالحجارة ثم أنت ظلمت نفسك لأنك توردها مورد الهلكة إذا ظلمت نفسك ستدخلها النار، ظلمت نفسك بأنك عبدت ما لا يستحق وأهنت نفسك هذا ظلم لها ثم أعطى ما لا يستحق شيئاً أعظم الأشياء، هذا لا يستحق العبادة ولا يستحق أن يقدّر فأنت تعطيه العبادة لذا قال بعد آيات (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) لقمان) لماذا؟ قلنا أنه ظلمٌ لنفسه لكن أنت تسوي بين القادر والعاجز، بين المنعِم المتفضل وبين المنعم عليه، هل هذا عدل؟! لو تقدم أشخاص للامتحان للتعيين في دائرة من الدوائر فكان أحدهم أجاب عن كل الأسئلة بأبلغ كلام وأوفى تعبير وأحسن خط وآخر لم يحسن لا الكلام ولا التعبير ولا العلم ولك يحسن أن يكتب وساويت بينهما تكون ظالماً بدون شك. والفرق بين الخالق والمخلوق أكبر من هذا. إذن هو ظالم لأن الشرك لظلم عظيم (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ضلال بيّن لا يحتاج أصلاً إلى إبانة.
الضلال في القرآن يأتي بمعان عدة كما وصف سيدنا يعقوب (قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) يوسف). ضل الطريق أي تنكّب الصراط عكس الهداية.
آية (11):
(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11))
كلمة خلق في الأصل مصدر لكن هذا المصدر أحياناً يراد به اسم المفعول، الخلق بمعنى المخلوق لماذا ذكر مخلوقات قال هذا خلق الله، فهي تحتمل أن هذا ما خلقه الله لأن المصدر في اللغة أحياناً يراد به اسم الفاعل أو يراد به اسم المفعول. الزرع يراد به المزروع وقد يراد به المصدر، زرعت الشجرة زرعاً هذه مصدر. (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) هنا تحتمل أن يراد بالمصدر اسم المفعول أي هذه مخلوقاته ويحتمل أن يراد بها هذا صنعه يراد به المصدر كما ذكر وهذا من باب الاتساع في المعنى هذا صنعه العجيب وفعله العظيم وخلقه المتقن وهذه مخلوقاته كما ترى. لو قال مخلوقاته لكان معنى واحد لكن خلق الله تتسع لكل الخلق والمخلوق. (هذا) إشارة للقريب.
*هنا قال (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ)؟ ما قال (ما) مع أن كلاهما للاستفهام؟
(ما) قد تكون للاستفهام وقد تكون اسماً موصولاً (آكل ما تأكل وأشرب ما تشرب) (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) ق) بمعنى الذي، (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ (3) النساء). (ما) محتمل أن تكون اسم موصول وتحتمل أن تكون استفهام. هنا لو قال فأروني ما خلق الذين من دونه تحتمل دلالتين: الموصولية بمعنى الذي لو قال أروني الذي خلق قد يقال هو خلق فأرني الذي خلقه، هذه تحتمل تقول أرني ما صنع فلان أي أرني الذي صنعه، هذا اسم الموصول واستفهام أرني ما فعل هذا استفهام. (ما) تحتمل الاستفهامية وتحتمل اسم الموصول. (ماذا) اسم استفهام قطعاً لا تحتمل الموصولية. هو أراد هنا الاستفهام إذن هم قطعاً لم يفعلوا شيئاً أرني ماذا فعل فلان؟ هذا فيه دلالة على أنه لم يفعل شيئاً. (ما صنع) يحتمل أنه صنع (أرني ما صنعت، أرني ما كتبت) هناك شيء موجود يسأل عنه. التعبير هنا قال (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) هذا خلقه الله تعالى أروني ماذا خلق الآخرون؟ هذا صنعه الله تعالى وخلقه أروني ماذا خلق الآخرون؟ لماذا أنتم تشركون؟ ترقى من هذا السؤال إلى أمر آخر وقال (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) انتهى إلى مسألة أن الظالمون في ضلال.
*لماذا قال الظالمين؟
لما قال (فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ) هؤلاء الذين يعبدون من دون الله هؤلاء مشركون فهنا أراد أن يبين لهم أن الشرك ظلم عظيم. اختار الظالم لأن المشرك ظالم لنفسه أولاً وظالم لغيره. الشرك مؤدّاه إلى الظلم أولاً لأنه عبد ما لا يستحق أصلاً والعبادة هي أعلى شيء فأنت أهنت نفسك وعبدت ما لا يستحق وما هو دونك كالحجارة ثم أنت ظلمت نفسك لأنك توردها مورد الهلكة إذا ظلمت نفسك ستدخلها النار، ظلمت نفسك بأنك عبدت ما لا يستحق وأهنت نفسك هذا ظلم لها ثم أعطى ما لا يستحق شيئاً أعظم الأشياء، هذا لا يستحق العبادة ولا يستحق أن يقدّر فأنت تعطيه العبادة لذا قال بعد آيات (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) لقمان) لماذا؟ قلنا أنه ظلمٌ لنفسه لكن أنت تسوي بين القادر والعاجز، بين المنعِم المتفضل وبين المنعم عليه، هل هذا عدل؟! لو تقدم أشخاص للامتحان للتعيين في دائرة من الدوائر فكان أحدهم أجاب عن كل الأسئلة بأبلغ كلام وأوفى تعبير وأحسن خط وآخر لم يحسن لا الكلام ولا التعبير ولا العلم ولك يحسن أن يكتب وساويت بينهما تكون ظالماً بدون شك. والفرق بين الخالق والمخلوق أكبر من هذا. إذن هو ظالم لأن الشرك لظلم عظيم (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ضلال بيّن لا يحتاج أصلاً إلى إبانة.
الضلال في القرآن يأتي بمعان عدة كما وصف سيدنا يعقوب (قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) يوسف). ضل الطريق أي تنكّب الصراط عكس الهداية.
آية (12):
(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12))
*لماذا قال نشكر لله؟
*ما هي الحكمة أولاً؟ الحكمة هي وضع الشيء في محله في القول والعمل، إحسان القول والعمل وتوفيق القول بالعمل إذن الحكمة لها جانبين قولي وعملي فمن أحسن القول ولم يحسن العمل فليس بحكيم. نلاحظ ربنا سبحانه وتعالى أسند إيتاء الحكمة إلى نفسه (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) وذلك لأن الله تعالى يسند أفعال الخير لنفسه والحكمة لا يسندها قطعاً إلى غير الله سبحانه وتعالى. حتى لما قال ومن يؤتى الحكمة قال قبلها (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (269) البقرة) أسند إيتاء الحكمة لنفسه كما هو المعتاد في أفعال الخير. يبقى السؤال لماذا قال أن اشكر لله ولم يقل فاشكر؟ ما معنى أن اشكر لله؟ هناك فرق بين أن اشكر لله وفاشكر لله؟ ينبغي أن نعرف الفرق بين التعبيرين حتى نفهم لماذا قال أن اشكر ولم يقل فاشكر. قسم يقول (أن) تفسيرية، أن التفسيرية يسبقها ما فيه معنى القول دون حروفه أي دون حروف القول (ق، و، ل) مثل أوصى وأوحى يسبقها معنى القول أوصيناه أن افعل، لما تقول قال تصير مقول القول. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131) النساء) هذه تفسيرية تفسر ما سبق، ما هي الوصية التي فسرها؟ (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (7) القصص) ما هو الوحي؟ فهي تفسر الوحي الذي أوحاه. الأكثرون يذهبون إلى أنها تفسيرية (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) ماذا آتاه؟ أن اشكر لله؟ لذلك قالوا هل هي الحكمة أو هي من الحكمة ولذلك قسم ذهب إلى أنها ليست تفسيرية وإنما هي وأوصيناه أن اشكر لله يعني هناك معطوف محذوف، أن اشكر لله في تقديره لمحذوف أتيناه وأوصيناه. هذا التعبير (أن اشكر) يفيد ثلاث معاني أنه آتاه الحكمة وأوصاه بالشكر وآتينا لقمان الحكمة يعني طلب منه الشكر يعني آتاك الله الحكمة فاشكر على ما آتاك، آتاك الحكمة فاشكره لأن الحكمة من النِعَم فاشكره وإن من الحكمة أن تشكر ربك ليزيد الخير (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (7) إبراهيم). هو يشكر الله على أن آتاه الحكمة والشكر حكمة في حد ذاتها. لما قال (أن اشكر لله) تجمع ثلاث معاني أولاً أن أوصاه بالشكر والآخر لقد آتاك الحكمة فاشكر لله على ما آتاك من نعمة لأن الحكمة نعمة تستحق الشكر ومن الحكمة أن تشكر ربك. لو قال فاشكر ليس لها إلا معنى واحد يشكر على إيتائه الحكمة بينما هذه إن من الحكمة أن تشكر ربك، هذا معنى آخر جديد إن من الحكمة أن تشكر ربك لأنه لئن شكرتم لأزيدنكم إذن إن من الحكمة أن تشكر ربك حتى تستزيد من الخير في الدنيا والآخرة، إذن إن من الحكمة أن تشكر ربك وقال آتاك الله الحكمة فاشكره على هذه النعمة وهذا معنى آخر، والأمر الآخر آتيناه الحكمة وأوصيناه بالشكر هذا كله في قوله تعالى (أن اشكر لله) لو قال فاشكر لله لا تعطي هذه المعاني وفيها ضعف، لو قال (ولقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر لله) من الذي يشكر؟ المخاطب، هو لا يخاطب لقمان وإنما يتكلم عن لقمان بضمير الغائب ليس بضمير المخاطب فيصبح الفعل فاشكر فعل أمر للمخاطب، لم يؤتك شيئاً فتشكره على أمر لم يؤتيك إياه وإنما أعطاه شخصاً آخر؟. إذن من كل النواحي التعبيرية (أن اشكر) وليس فاشكر. ثم يأتي (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) شكر لفلان أو شكر فلاناً هل هو متعدي أو لازم؟ للشخص في القرآن يكون متعدياً (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) لقمان)، العمل تعدية شكرت لفلان صنيعه للعمل يكون مفعول به، وللشخص يتعدى باللام شكرت لفلان صنيعه، شكرت لله نعمته أو شكرت لفلان، لو شكرته على الفعل تقول شكرت عطاءك متعدياً بذاته أصل الفعل الذي تشكره بسببه يكون متعدياً بذاته وإذا كان الشكر للمنعم يتعدى باللام. لم يقل أن اشكر لنا لأنه أراد أن يبين من المتكلم. (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) يريد أن يبين من هو الذي آتاه الحكمة فذكره باسمه الصريح فقال (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) هذا أمر والأمر الآخر أنه تعالى لم يذكر ضمير الجمع في موطن من المواطن في القرآن الكريم إلا إذا كان قبله أو بعده ما يدل على الإفراد لئلا يتوهم الشرك أصلاً ويزيل أي شائبة من شوائب الشرك حتى لا يتصور أنه إذا قال آتينا يكون أكثر من إله لم يرد في القرآن موطن واحد في ضمير الجمع لله إلا سبقه أو كان بعده ما يذكر على أنه واحد (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) لقمان) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) القدر) .
*الشكر جاء في الآية بصيغة المضارع بينما الكفر جاء بصيغة الماضي فهل لذلك من لمسة بيانية؟
قال تعالى (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) السؤال هو لماذا قال ومن يشكر بالمضارع ثم ومن كفر بالماضي؟ هو الشكر يتكرر وينبغي أن يتكرر لأن كل نعمة تمر بك لا بد أن تشكرها ينبغي أن تشكرها. إذن الشكر يتكرر بينما الكفر ليس كذلك يمكن للإنسان أن يكفر ويبقى على كفره ولا يضطر لأن يكفر ويكفر، يكفي أن يكفر في المعتقد أو في شيء أما الشكر فيتكرر. في حلقة سابقة ذكرنا أنه إذا ورد فعل الشرط مضارعاً فهو مظنّة التكرار وإذا ورد ماضياً فهو ليس مظنة التكرار وضربنا أمثلة من جملتها (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا (93)) فرقنا بين المتعمد والخطأ (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء) (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا (145) آل عمران) الفرق بين الثواب وإرادة الآخرة (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (19) الأنفال) (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا (8) الإسراء)، (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي (76) الكهف)، (إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) محمد) وذكرنا في حينها دلالة أن ورود الفعل المضارع بعد أداة الشرط مظنة التكرار ووروده ماضياً ليس مظنة التكرار. وهنا ورد مضارعاً بعد أداة الشرط (من) اسم شرط وجوابه فإنما يشكر لنفسه، فهو مظنة التكرار وينبغي أن يتكرر لأن الشكر ينبغي أن يتكرر لأن النِعم متكررة لا تنقطع بينما الكفر ينبغي أن يُقطع أصلاً ولذلك جاء به بالفعل الماضي فخالف بين الفعلين، المضارع فيه تجدد واستمرار في الغالب أما الماضي فانقطع في الأصل وإن كان النحاة يرون أن الماضي إذا وقع في فعل الشرط يدل على الاستقبال.
*في سورة الروم قال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) فإذا قارنا بين هذه الآية وآية سورة لقمان فما اللمسة البيانية بين الآيتين؟
هناك أكثر من اختلاف بين الآيتين. نلاحظ أنه في آية الروم قدّم الكفر وأخّر العمل (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) ثم نلاحظ أنه ليس هذا فقط وإنما ذكر عاقبة كلٍ من الفريقين في آية الروم بينما في لقمان ذكر فقط عاقبة الشكر ولم يذكر عاقبة الكفر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) بينما في آية الروم ذكر عاقبة الاثنين (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) ذكر عاقبة الكفر (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) وعاقبة الإيمان والعمل الصالح (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). أما في لقمان فذكر عاقبة الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) يستفيد هو لأن عاقبة الشكر يعود عليه نفعها أما في الكفر لم يذكر شيئاً وما قال يعود عليه كفره. بينما في الروم فقال (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ذكر العاقبة، هناك لم يذكر. إذن صار الخلاف أيضاً من ناحية الجزاء ذكر في لقمان ذكر جزاء الشاكر ولم يذكر جزاء الكافر وفي الروم ذكر جزاء الاثنين الكافر والعمل الصالح. وفي الروم ذكر الفعلين بالماضي (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)). حتى المقابلة في لقمان قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) الكفران بمقابل الشكر بينما في الروم قال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) اختلفت. فهي إذن ليست مسألة واحدة بين الآيتين وإنما أكثر من وجه للاختلاف بينهم والسياق هو الذي يحدد الأمر.
*لماذا قدّم الكفر على العمل الصالح في آية سورة الروم؟
ذكرنا أن التقديم والتأخير هو بحسب السياق وهو الذي يحدد هذا الأمر. السياق في الروم هو في ذِكر الكافرين ومآلهم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) إذن السياق في ذِكر الكافرين فقدّمهم وقال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ). في لقمان قال (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) بدأ بالشكر فلما تقدم الشكر (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِِ) بدأ بالشكر قال (وَمَن يَشْكُرْ) التقديم والتأخير كله بحسب المناسبة لذلك نلاحظ يقدّم الكلمة في موطن ويؤخّرها في موطن آخر بحسب السياق الذي ترد فيه.
*في الأفعال في سورة لقمان (وَمَن يَشْكُرْ) بين مضارع وماضي بينما في الروم بصيغة الماضي (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) فلِمَ التنوع في الصيغة الزمنية في الفعل؟
آية لقمان فيمن هو في الدنيا (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)) هذه كلها في الدنيا، آية الروم في الآخرة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) يومئذ يصدعون ومن كفر بعد هذا اليوم أي يوم القيامة ليس هنالك عمل انتهى، ذهب وسيأتي ما قدّم عاقبة من كفر ومن عمل. أما في آية لقمان في الدنيا قال (وَمَن يَشْكُرْ) هو يمكن أن يشكر طالما هو في الدنيا. لكن آية الروم وقعت بعد قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) انتهى هذا ليس هنالك عمل، انقطع العمل. في الروم يتحدث باعتبار ما كان وما مضى أما في لقمان فيتحدث في الدنيا ولهذا جاءت (يشكر) في لقمان بالمضارع. الكفر ينبغي أن يُقطع وليس مظنّة التكرار والكفر ليس كالشكر لأن الشكر يتكرر.
ذكر عاقبة الكفر في الروم (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ولم يذكر عاقبة الكفر في لقمان. السبب أنه ذكر عاقبة الكفر في الدنيا وعاقبة ذلك في الآخرة وقبلها قال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)) هذا من عقوبات الكفر وذكر العاقبة فناسب ذكر العاقبة أيضاً في الكفر فلما ذكر عاقبتهم في الدنيا ناسب أن يذكر عاقبتهم في الآخرة. في لقمان لم يذكر ولم يرد هذا الشيء وذكر فقط الشكر ولذلك ذكر عاقبة الكفر والعمل في آية سورة الروم لأن هذا وقت حساب.
*لِمَ قال (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) ولم يقل مهّدوا لأنفسهم؟
أحياناً نعبر عن المضارع للدلالة على المُضيّ ويسمونه حكاية الحال الماضية مثلاً (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) البقرة) المفروض قتلتم، (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ (102) البقرة) المفروض تلت، (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (18) الكهف) المفروض قلّبناهم. يستخدم المضارع أحياناً للدلالة على المضي، هذه تسمى حكاية الحال الماضية هي للأشياء المهمة التي تريد أن تركّز عليها تأتي بها بالمضارع إذا كنت تتحدث عن أمر ماضي، القتل أمر مهم جداً فقال (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ) قد تُحدث نوعاً من أنواع لفت النظر وهم يقولون إما أن تأتي بالماضي فتضعه حاضراً للمخاطب كأنه يشاهده تنقل الصورة الماضية إلى الحاضر بصيغة فعل مضارع فيكون المخاطَب كأنما الآن يشاهده أمامه أو أنك تنقل المخاطَب إلى الماضي فتجعله كأنه من أصحاب ذلك الزمن فيشاهد ما حدث. لذلك حتى البلاغيين يستشهدون بمن قتل أبا رافع اليهودي في السيرة لما يقصون القصة كيف قتل أبا رافع يحكي القصة يتكلم عن أمر مضى فيقول: فناديت أبا رافع فقال نعم، فأهويت عليه بالسيف فأضربه وأنا دهِش، (قال فأضربه أبرز حالة اللقطة لم يقل فضربته). هذه تُدرس في علم المعاني وأحياناً في النحو في زمن الأفعال.
*ذكر في لقمان بمقابل الكفر الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) بينما في الروم ذكر الكفر والعمل فاختلف.لماذا؟
الكفر لغةً له دلالتان: الكفر بما يقابل الشكر (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) البقرة) (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) الإنسان) (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ (94) الأنبياء) إذن شكر يقابلها كفر وكفر النعمة أي جحدها. الكفر هو الستر في الدلالة العامة لما تأتي إلى التفصيل شكر يقابلها كفر، شكر النعمة يقابلها كفر النعمة، كفر بالنعمة أي جحد بها وعندنا الإيمان أيضاً يقابله الكفر وهذه دلالة أخرى. إذن كلمة كفر إما تكون مقابل الشكر وإما تكون مقابل الإيمان. إذا كان الأمر متصلاً بالنعمة فهي مقابلة للشكر وإذا كانت متصلة بالعقيدة أو عدم الإيمان فمقابلها الإيمان. العمل يأتي من متممات الإيمان آمن بالقلب وصدّقه العمل “الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل”، لذلك هو السؤال المقابلة تختلف في لقمان مقابل الكفر الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) في الروم مقابل الكفر الإيمان والعمل لأنه لما ذكر الشكر (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) مقابل الشكر الكفر (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). الآن في الروم ذكر الكافرين والمشركين قبلها قال (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)) مقابل هؤلاء مؤمنين (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)) فإذن قابل في لقمان الشكر بالكفر وهو يتحدث عن النِعم. أما في الروم يتحدث عن العقيدة (كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) حتى مقصود الآية يؤدي إلى تغيّر الألفاظ وتغيّر دلالتها. في الروم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)) كل واحدة بمقابلها. لما ذكر الكفر مقابل الشكر ذكر الكفر بما يقابل ذلك. لما ذكر الشكر في لقمان ذكر الكفر بما يقابل ذلك فقابل الكفر في الروم بالإيمان والعمل الصالح وقابله في لقمان بالشكر. لا نستطيع أن نفهم آية من آي القرآن الكريم إلا من خلال السياق العام الذي تتحدث عنه الآية لذلك يقولون السياق هو أعظم القرائن.
قال (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) جاء بـ (إنما) للدلالة على الحصر لأنها تفيد الحصر، سيشكر لنفسه حصراً لأنه هو الذي سيستفيد آلأن الله تعالى لا يستفيد من شكر الشاكرين ولا يضره كفر الكافرين (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن الشكر ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (7) إبراهيم) وهذه الزيادة تكون في الدنيا والآخرة إذن هي مآلها إليه الشاكر يعود شكره عليه (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (إنما) أداة حصر، حصراً ويسميها النُحاة كافّة مكفوفة.
*في لقمان قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ما دلالة الجمع بين غني وحميد؟ وما دلالة حميد في اللغة؟
الحميد هو ابتداءً الذي يستحق الحمد على الدوام. (غني حميد) من ألطف الجمع في الدنيا لأن الشخص عموماً حتى في حياتنا الدنيا قد يكون غنياً غير محمود، غنياً لا يُحمد في غناه قد يكون بخيلاً ومحمود غير غني. فإذا اجتمع أنه غني وحميد في آن واحد فهذا من الكمال أن يكون غنياً وحميداً لأنه لاحظنا أناساً نعرفهم لم يكونوا أغنياء لكنهم كانوا محمودي السيرة وكانوا يُمدحون فلما اغتنوا تغيّرت طباعهم فربنا جمع بين الغنى وأنه محمود على الدوام. هو محمود وحميد لكن هناك فرق بين الصيغتين: حميد فعيل بمعنى مفعول على الأرجح مثل جريح وقتيل وكسير وأسير. لكن ما الفرق بين هاتين الصيغتين محمود وحميد؟ عندنا قاعدة أن فعيل أبلغ من مفعول. حميد ومحمود هذه اسم مفعول وليست صيغة مبالغة، حميد اسم مفعول أي الذي يُحمد كثيراً على الدوام وإن يقول البعض أنه قد تكون بمعنى حامد والأرجح في كتب اللغة أن حميد أي محمود الذي يُحمد على نِعَمه. إذن كلاهما اسم مفعول، قتيل ومقتول كلاهما اسم مفعول، جريح ومجروح كلاهما اسم مفعول. بين فعيل ومفعول فعيل أبلغ من مفعول عموماً يعني كأنما الوصف أصبح في صاحبه ملازماً له خِلقة. هناك فرق بين كفّ مخضوب (بالحنّاء) قد يكون مرة وقد يكون ليس من عادته أن يخضب كفّه بينما كفّ خضيب مستمر، فيه استمرار. طرف كحيل وطرف مكحول يقال أين الطرف الكحيل من المكحول؟ الطرف المكحول قد يكون كُحل مرة في الأسبوع أو الشهر أما كحيل فهو يستمر صاحبه على كحله كأنه خِلقة، وطرف أكحل هذا خِلقة. إذن كحيل كأنه خِلقة من الكثرة والدوام. ثم (مفعول) تحتمل الحال والاستقبال لما تقول أراك مقتولاً هذا اليوم وبعده لم يُقتل، وكما قال تعالى (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا (102) الإسراء) لم يقع بعد هذا ولما قال عبد الله بن الزبير: اعلمي يا أماه أني مقتول من يومي هذا. صيغة مفعول تقال لما حصل أو لما لم يحصل في المستقبل عندما تقول هو مقتول قد يكون هو فعلاً مقتول وقد يكون ليس مقتولاً لكن سيقتل لكن فعيل لا يمكن إلا أن يكون قد قتل بالفعل، لا يمكن أن تقول لمن سيقتل قتيل ولا تقال إلا لمن وقع عليه الفعل حقاً. أما (مفعول) فليس بالضرورة وتقال لما وقع أو لما سيقع. ثم فعيل أبلغ في كيفية الحدث، يقولون لا تقولوا لمن جُرِح في أُنملته جريح وإنما مجروح. فعيل يقال على وجه الاتساع والشمول ولما هو أبلغ. جريح يعني جرح بالغ، مجروح يقال للجرح البسيط أو البليغ وهو عام أما جريح (فعيل) فلا تقال إلا للوصف البليغ، جريح لا تقال إلا للمثخن بالجراح على وجه المبالغة والشمول والاتساع ولمن وقع عليه، مجروح لا تقال، إذن ربنا غني حميد.
*ورد في سورة إبراهيم (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)) وفي لقمان في مكان آخر قال (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) وهنا قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) فكيف نفهم الفروق البيانية الدلالية الموجودة بين الثلاث الآيات ونظهر اللمسات البيانية فيها؟
ربنا سبحانه وتعالى قال في سورة إبراهيم على لسان موسى (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، في لقمان قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) فأكد في سورة إبراهيم فقال (فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أكد بإنّ واللام في (إن الله لغني)، في لقمان أكد بإنّ وحدها وقال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) في إبراهيم زاد اللام وفي لقمان التوكيد فقط بإنّ. وقلنا أن السياق هو الذي يوضح هذا الأمر. لو نقرأ الآية في لقمان (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) إذن قسّم العباد إلى قسمين قسم شاكر وقسم كافر، من يشكر ومن كفر إذن قسم العباد إلى قسمين. في إبراهيم افترض كفر أهل الأرض جميعاً ولم يقسمهم إلى قسمين (إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) إذن في لقمان افترض العباد قسمين وفي إبراهيم افترض كفر أهل الأرض جميعاً فنلاحظ الاختلاف بين التعبيرين في ثلاثة أمور: أولاً في لقمان جرى على التبعيض (بعضهم مؤمن وبعضهم كافر باعتبار من يشكر ومن كفر) بينما في إبراهيم على الشمول شملهم كلهم ولم يستثني أحداً. ونلاحظ في لقمان قال (ومن كفر) بالماضي، في إبراهيم قال (إن تكفروا) بالمضارع، في لقمان فعل الشرط ماضي (ومن كفر) وفي إبراهيم فعل الشرط مضارع (إن تكفروا) والفرق واضح لأنه ذكرنا في حلقة ماضية أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً افتراض وقوع الحدث مرة وإن كان مضارعاً افتراض تكرر الحدث فهنا قال (إن تكفروا) يعني إذا داومتم واستمررتم على الكفر دلالة على تكرر الكفر وتجدده (إن تكفروا) يعني تستمرون على الكفر وتداوموا عليه وفي لقمان قال ومن كفر. ثم قال (جميعاً) جاء بالحال المؤكدة. إذن افتراض كفر أهل الأرض بلا استثناء لم يجعلهم قسمين ثم افتراض الكفر مستمر ثم أكد ذلك بـ (جميعاً) فاقتضى ذلك زيادة التأكيد في إبراهيم (فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) الله تعالى لا يحتاج إلى غني لما ذكر هذه الأمور افتراض ليكفر أهل الأرض جميعاً وليداموا على الكفر جميعاً هذه كلها مؤكدات. ربنا تعالى لم يؤكد غني في لقمان لأن الناس فئتان ولما كان الناس على ملة واحدة أكّد لأنه تعالى لا يحتاج إليهم حتى لو كانوا كلهم كفار ويداومون ويستمرون على ذلك. فائدة التأكيد هنا فائدة بلاغية أن الله تعالى غني عن العباد كلهم لو كفروا كلهم جميعاً واستمروا ربنا غني عنهم، تأكيد الغنى.
*هل نفهم أنه – والعياذ بالله – في لقمان ليس غنياً بدرجة غناه في سورة إبراهيم؟
هو التأكيد ليس معنى ذلك لكن الموقف يحتاج لهذا الشيء فالله تعالى يقول عن نفسه عالم ومرة يقول عليم ومرة يقول والله غفور رحيم، إن ربك لغفور رحيم، حسب ما يقتضي السياق وهو سبحانه وتعالى غني عن العباد في جميع الأحوال.
في لقمان أيضاً قال تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) جاء بضمير الفصل (هو) وعرّف الغني. ضمير الفصل يقع بين المبتدأ والخبر وأصله مبتدأ وخبر بين اسم إنّ وخبرها، بين اسم كان وخبرها، بين مفعولين، ظنّ وأخواتها يفيد التوكيد ويفيد الحصر أحياناً فقوله إن الله هو الغني الحميد يعني ليس في الحقيقة غنيّ سواه. لمّا قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لم يذكر له مُلك بينما في تلك الآية ذكر له ملك (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) والمعروف أن الغني في كل العالم هو الذي يملك. في الآية الأولى لم يذكر الملك قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) كأنه يقول أنا غنيّ عنك وعن شكرك كما إذا قلت لأحد أعطني لأمدحك يقول لك أنا غني عن ذلك، ليس بالضرورة أن تكون مالكاً وحتى في حينها استشهدنا بقول الخليل لما أرسل له أمير الأهواز بِغالاً محمّلة وطلب منه أن يأتي إليه فقال الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في جِدَةٍ وفي غنى غير أني لست ذا مال
ربنا لم يذكر في آية لقمان الأولى أن له ملك والآية الأخرى ذكر له ملك ولا شك أن الذي يملك هو الغني لأنه (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يعني ذكر أنه غني والغنى درجات والناس يتفاوتون في الغنى وعندما تقول فلان غني يعني هو أحد الأنبياء وقد يكون هناك أغنياء آخرون وقد يكون هناك من هو أغنى منه، هو أحد الأغنياء. لكن هو الغني أي لا أحد سواه. فلما ذكر (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لم يبق شيء للآخرين، فهو في الحقيقة هو الغني وحده فكل تعبير في مكانه أنسب وأيّ واحد عنده شيء من البلاغة يضع كل تعبير في مكانه كما هو في القرآن ولا يصح أن يضع هو الغني الحميد في مكان ليس فيه ملك وإنما كل كلمة في مكانها المناسب.
آية (12):
(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12))
*لماذا قال نشكر لله؟
*ما هي الحكمة أولاً؟ الحكمة هي وضع الشيء في محله في القول والعمل، إحسان القول والعمل وتوفيق القول بالعمل إذن الحكمة لها جانبين قولي وعملي فمن أحسن القول ولم يحسن العمل فليس بحكيم. نلاحظ ربنا سبحانه وتعالى أسند إيتاء الحكمة إلى نفسه (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) وذلك لأن الله تعالى يسند أفعال الخير لنفسه والحكمة لا يسندها قطعاً إلى غير الله سبحانه وتعالى. حتى لما قال ومن يؤتى الحكمة قال قبلها (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (269) البقرة) أسند إيتاء الحكمة لنفسه كما هو المعتاد في أفعال الخير. يبقى السؤال لماذا قال أن اشكر لله ولم يقل فاشكر؟ ما معنى أن اشكر لله؟ هناك فرق بين أن اشكر لله وفاشكر لله؟ ينبغي أن نعرف الفرق بين التعبيرين حتى نفهم لماذا قال أن اشكر ولم يقل فاشكر. قسم يقول (أن) تفسيرية، أن التفسيرية يسبقها ما فيه معنى القول دون حروفه أي دون حروف القول (ق، و، ل) مثل أوصى وأوحى يسبقها معنى القول أوصيناه أن افعل، لما تقول قال تصير مقول القول. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131) النساء) هذه تفسيرية تفسر ما سبق، ما هي الوصية التي فسرها؟ (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (7) القصص) ما هو الوحي؟ فهي تفسر الوحي الذي أوحاه. الأكثرون يذهبون إلى أنها تفسيرية (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) ماذا آتاه؟ أن اشكر لله؟ لذلك قالوا هل هي الحكمة أو هي من الحكمة ولذلك قسم ذهب إلى أنها ليست تفسيرية وإنما هي وأوصيناه أن اشكر لله يعني هناك معطوف محذوف، أن اشكر لله في تقديره لمحذوف أتيناه وأوصيناه. هذا التعبير (أن اشكر) يفيد ثلاث معاني أنه آتاه الحكمة وأوصاه بالشكر وآتينا لقمان الحكمة يعني طلب منه الشكر يعني آتاك الله الحكمة فاشكر على ما آتاك، آتاك الحكمة فاشكره لأن الحكمة من النِعَم فاشكره وإن من الحكمة أن تشكر ربك ليزيد الخير (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (7) إبراهيم). هو يشكر الله على أن آتاه الحكمة والشكر حكمة في حد ذاتها. لما قال (أن اشكر لله) تجمع ثلاث معاني أولاً أن أوصاه بالشكر والآخر لقد آتاك الحكمة فاشكر لله على ما آتاك من نعمة لأن الحكمة نعمة تستحق الشكر ومن الحكمة أن تشكر ربك. لو قال فاشكر ليس لها إلا معنى واحد يشكر على إيتائه الحكمة بينما هذه إن من الحكمة أن تشكر ربك، هذا معنى آخر جديد إن من الحكمة أن تشكر ربك لأنه لئن شكرتم لأزيدنكم إذن إن من الحكمة أن تشكر ربك حتى تستزيد من الخير في الدنيا والآخرة، إذن إن من الحكمة أن تشكر ربك وقال آتاك الله الحكمة فاشكره على هذه النعمة وهذا معنى آخر، والأمر الآخر آتيناه الحكمة وأوصيناه بالشكر هذا كله في قوله تعالى (أن اشكر لله) لو قال فاشكر لله لا تعطي هذه المعاني وفيها ضعف، لو قال (ولقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر لله) من الذي يشكر؟ المخاطب، هو لا يخاطب لقمان وإنما يتكلم عن لقمان بضمير الغائب ليس بضمير المخاطب فيصبح الفعل فاشكر فعل أمر للمخاطب، لم يؤتك شيئاً فتشكره على أمر لم يؤتيك إياه وإنما أعطاه شخصاً آخر؟. إذن من كل النواحي التعبيرية (أن اشكر) وليس فاشكر. ثم يأتي (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) شكر لفلان أو شكر فلاناً هل هو متعدي أو لازم؟ للشخص في القرآن يكون متعدياً (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) لقمان)، العمل تعدية شكرت لفلان صنيعه للعمل يكون مفعول به، وللشخص يتعدى باللام شكرت لفلان صنيعه، شكرت لله نعمته أو شكرت لفلان، لو شكرته على الفعل تقول شكرت عطاءك متعدياً بذاته أصل الفعل الذي تشكره بسببه يكون متعدياً بذاته وإذا كان الشكر للمنعم يتعدى باللام. لم يقل أن اشكر لنا لأنه أراد أن يبين من المتكلم. (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) يريد أن يبين من هو الذي آتاه الحكمة فذكره باسمه الصريح فقال (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) هذا أمر والأمر الآخر أنه تعالى لم يذكر ضمير الجمع في موطن من المواطن في القرآن الكريم إلا إذا كان قبله أو بعده ما يدل على الإفراد لئلا يتوهم الشرك أصلاً ويزيل أي شائبة من شوائب الشرك حتى لا يتصور أنه إذا قال آتينا يكون أكثر من إله لم يرد في القرآن موطن واحد في ضمير الجمع لله إلا سبقه أو كان بعده ما يذكر على أنه واحد (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) لقمان) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) القدر) .
*الشكر جاء في الآية بصيغة المضارع بينما الكفر جاء بصيغة الماضي فهل لذلك من لمسة بيانية؟
قال تعالى (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) السؤال هو لماذا قال ومن يشكر بالمضارع ثم ومن كفر بالماضي؟ هو الشكر يتكرر وينبغي أن يتكرر لأن كل نعمة تمر بك لا بد أن تشكرها ينبغي أن تشكرها. إذن الشكر يتكرر بينما الكفر ليس كذلك يمكن للإنسان أن يكفر ويبقى على كفره ولا يضطر لأن يكفر ويكفر، يكفي أن يكفر في المعتقد أو في شيء أما الشكر فيتكرر. في حلقة سابقة ذكرنا أنه إذا ورد فعل الشرط مضارعاً فهو مظنّة التكرار وإذا ورد ماضياً فهو ليس مظنة التكرار وضربنا أمثلة من جملتها (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا (93)) فرقنا بين المتعمد والخطأ (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء) (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا (145) آل عمران) الفرق بين الثواب وإرادة الآخرة (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (19) الأنفال) (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا (8) الإسراء)، (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي (76) الكهف)، (إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) محمد) وذكرنا في حينها دلالة أن ورود الفعل المضارع بعد أداة الشرط مظنة التكرار ووروده ماضياً ليس مظنة التكرار. وهنا ورد مضارعاً بعد أداة الشرط (من) اسم شرط وجوابه فإنما يشكر لنفسه، فهو مظنة التكرار وينبغي أن يتكرر لأن الشكر ينبغي أن يتكرر لأن النِعم متكررة لا تنقطع بينما الكفر ينبغي أن يُقطع أصلاً ولذلك جاء به بالفعل الماضي فخالف بين الفعلين، المضارع فيه تجدد واستمرار في الغالب أما الماضي فانقطع في الأصل وإن كان النحاة يرون أن الماضي إذا وقع في فعل الشرط يدل على الاستقبال.
*في سورة الروم قال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) فإذا قارنا بين هذه الآية وآية سورة لقمان فما اللمسة البيانية بين الآيتين؟
هناك أكثر من اختلاف بين الآيتين. نلاحظ أنه في آية الروم قدّم الكفر وأخّر العمل (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) ثم نلاحظ أنه ليس هذا فقط وإنما ذكر عاقبة كلٍ من الفريقين في آية الروم بينما في لقمان ذكر فقط عاقبة الشكر ولم يذكر عاقبة الكفر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) بينما في آية الروم ذكر عاقبة الاثنين (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) ذكر عاقبة الكفر (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) وعاقبة الإيمان والعمل الصالح (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). أما في لقمان فذكر عاقبة الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) يستفيد هو لأن عاقبة الشكر يعود عليه نفعها أما في الكفر لم يذكر شيئاً وما قال يعود عليه كفره. بينما في الروم فقال (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ذكر العاقبة، هناك لم يذكر. إذن صار الخلاف أيضاً من ناحية الجزاء ذكر في لقمان ذكر جزاء الشاكر ولم يذكر جزاء الكافر وفي الروم ذكر جزاء الاثنين الكافر والعمل الصالح. وفي الروم ذكر الفعلين بالماضي (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)). حتى المقابلة في لقمان قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) الكفران بمقابل الشكر بينما في الروم قال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) اختلفت. فهي إذن ليست مسألة واحدة بين الآيتين وإنما أكثر من وجه للاختلاف بينهم والسياق هو الذي يحدد الأمر.
*لماذا قدّم الكفر على العمل الصالح في آية سورة الروم؟
ذكرنا أن التقديم والتأخير هو بحسب السياق وهو الذي يحدد هذا الأمر. السياق في الروم هو في ذِكر الكافرين ومآلهم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) إذن السياق في ذِكر الكافرين فقدّمهم وقال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ). في لقمان قال (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) بدأ بالشكر فلما تقدم الشكر (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِِ) بدأ بالشكر قال (وَمَن يَشْكُرْ) التقديم والتأخير كله بحسب المناسبة لذلك نلاحظ يقدّم الكلمة في موطن ويؤخّرها في موطن آخر بحسب السياق الذي ترد فيه.
*في الأفعال في سورة لقمان (وَمَن يَشْكُرْ) بين مضارع وماضي بينما في الروم بصيغة الماضي (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) فلِمَ التنوع في الصيغة الزمنية في الفعل؟
آية لقمان فيمن هو في الدنيا (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)) هذه كلها في الدنيا، آية الروم في الآخرة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) يومئذ يصدعون ومن كفر بعد هذا اليوم أي يوم القيامة ليس هنالك عمل انتهى، ذهب وسيأتي ما قدّم عاقبة من كفر ومن عمل. أما في آية لقمان في الدنيا قال (وَمَن يَشْكُرْ) هو يمكن أن يشكر طالما هو في الدنيا. لكن آية الروم وقعت بعد قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) انتهى هذا ليس هنالك عمل، انقطع العمل. في الروم يتحدث باعتبار ما كان وما مضى أما في لقمان فيتحدث في الدنيا ولهذا جاءت (يشكر) في لقمان بالمضارع. الكفر ينبغي أن يُقطع وليس مظنّة التكرار والكفر ليس كالشكر لأن الشكر يتكرر.
ذكر عاقبة الكفر في الروم (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ولم يذكر عاقبة الكفر في لقمان. السبب أنه ذكر عاقبة الكفر في الدنيا وعاقبة ذلك في الآخرة وقبلها قال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)) هذا من عقوبات الكفر وذكر العاقبة فناسب ذكر العاقبة أيضاً في الكفر فلما ذكر عاقبتهم في الدنيا ناسب أن يذكر عاقبتهم في الآخرة. في لقمان لم يذكر ولم يرد هذا الشيء وذكر فقط الشكر ولذلك ذكر عاقبة الكفر والعمل في آية سورة الروم لأن هذا وقت حساب.
*لِمَ قال (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) ولم يقل مهّدوا لأنفسهم؟
أحياناً نعبر عن المضارع للدلالة على المُضيّ ويسمونه حكاية الحال الماضية مثلاً (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) البقرة) المفروض قتلتم، (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ (102) البقرة) المفروض تلت، (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (18) الكهف) المفروض قلّبناهم. يستخدم المضارع أحياناً للدلالة على المضي، هذه تسمى حكاية الحال الماضية هي للأشياء المهمة التي تريد أن تركّز عليها تأتي بها بالمضارع إذا كنت تتحدث عن أمر ماضي، القتل أمر مهم جداً فقال (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ) قد تُحدث نوعاً من أنواع لفت النظر وهم يقولون إما أن تأتي بالماضي فتضعه حاضراً للمخاطب كأنه يشاهده تنقل الصورة الماضية إلى الحاضر بصيغة فعل مضارع فيكون المخاطَب كأنما الآن يشاهده أمامه أو أنك تنقل المخاطَب إلى الماضي فتجعله كأنه من أصحاب ذلك الزمن فيشاهد ما حدث. لذلك حتى البلاغيين يستشهدون بمن قتل أبا رافع اليهودي في السيرة لما يقصون القصة كيف قتل أبا رافع يحكي القصة يتكلم عن أمر مضى فيقول: فناديت أبا رافع فقال نعم، فأهويت عليه بالسيف فأضربه وأنا دهِش، (قال فأضربه أبرز حالة اللقطة لم يقل فضربته). هذه تُدرس في علم المعاني وأحياناً في النحو في زمن الأفعال.
*ذكر في لقمان بمقابل الكفر الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) بينما في الروم ذكر الكفر والعمل فاختلف.لماذا؟
الكفر لغةً له دلالتان: الكفر بما يقابل الشكر (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) البقرة) (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) الإنسان) (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ (94) الأنبياء) إذن شكر يقابلها كفر وكفر النعمة أي جحدها. الكفر هو الستر في الدلالة العامة لما تأتي إلى التفصيل شكر يقابلها كفر، شكر النعمة يقابلها كفر النعمة، كفر بالنعمة أي جحد بها وعندنا الإيمان أيضاً يقابله الكفر وهذه دلالة أخرى. إذن كلمة كفر إما تكون مقابل الشكر وإما تكون مقابل الإيمان. إذا كان الأمر متصلاً بالنعمة فهي مقابلة للشكر وإذا كانت متصلة بالعقيدة أو عدم الإيمان فمقابلها الإيمان. العمل يأتي من متممات الإيمان آمن بالقلب وصدّقه العمل “الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل”، لذلك هو السؤال المقابلة تختلف في لقمان مقابل الكفر الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) في الروم مقابل الكفر الإيمان والعمل لأنه لما ذكر الشكر (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) مقابل الشكر الكفر (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). الآن في الروم ذكر الكافرين والمشركين قبلها قال (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)) مقابل هؤلاء مؤمنين (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)) فإذن قابل في لقمان الشكر بالكفر وهو يتحدث عن النِعم. أما في الروم يتحدث عن العقيدة (كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) حتى مقصود الآية يؤدي إلى تغيّر الألفاظ وتغيّر دلالتها. في الروم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)) كل واحدة بمقابلها. لما ذكر الكفر مقابل الشكر ذكر الكفر بما يقابل ذلك. لما ذكر الشكر في لقمان ذكر الكفر بما يقابل ذلك فقابل الكفر في الروم بالإيمان والعمل الصالح وقابله في لقمان بالشكر. لا نستطيع أن نفهم آية من آي القرآن الكريم إلا من خلال السياق العام الذي تتحدث عنه الآية لذلك يقولون السياق هو أعظم القرائن.
قال (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) جاء بـ (إنما) للدلالة على الحصر لأنها تفيد الحصر، سيشكر لنفسه حصراً لأنه هو الذي سيستفيد آلأن الله تعالى لا يستفيد من شكر الشاكرين ولا يضره كفر الكافرين (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن الشكر ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (7) إبراهيم) وهذه الزيادة تكون في الدنيا والآخرة إذن هي مآلها إليه الشاكر يعود شكره عليه (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (إنما) أداة حصر، حصراً ويسميها النُحاة كافّة مكفوفة.
*في لقمان قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ما دلالة الجمع بين غني وحميد؟ وما دلالة حميد في اللغة؟
الحميد هو ابتداءً الذي يستحق الحمد على الدوام. (غني حميد) من ألطف الجمع في الدنيا لأن الشخص عموماً حتى في حياتنا الدنيا قد يكون غنياً غير محمود، غنياً لا يُحمد في غناه قد يكون بخيلاً ومحمود غير غني. فإذا اجتمع أنه غني وحميد في آن واحد فهذا من الكمال أن يكون غنياً وحميداً لأنه لاحظنا أناساً نعرفهم لم يكونوا أغنياء لكنهم كانوا محمودي السيرة وكانوا يُمدحون فلما اغتنوا تغيّرت طباعهم فربنا جمع بين الغنى وأنه محمود على الدوام. هو محمود وحميد لكن هناك فرق بين الصيغتين: حميد فعيل بمعنى مفعول على الأرجح مثل جريح وقتيل وكسير وأسير. لكن ما الفرق بين هاتين الصيغتين محمود وحميد؟ عندنا قاعدة أن فعيل أبلغ من مفعول. حميد ومحمود هذه اسم مفعول وليست صيغة مبالغة، حميد اسم مفعول أي الذي يُحمد كثيراً على الدوام وإن يقول البعض أنه قد تكون بمعنى حامد والأرجح في كتب اللغة أن حميد أي محمود الذي يُحمد على نِعَمه. إذن كلاهما اسم مفعول، قتيل ومقتول كلاهما اسم مفعول، جريح ومجروح كلاهما اسم مفعول. بين فعيل ومفعول فعيل أبلغ من مفعول عموماً يعني كأنما الوصف أصبح في صاحبه ملازماً له خِلقة. هناك فرق بين كفّ مخضوب (بالحنّاء) قد يكون مرة وقد يكون ليس من عادته أن يخضب كفّه بينما كفّ خضيب مستمر، فيه استمرار. طرف كحيل وطرف مكحول يقال أين الطرف الكحيل من المكحول؟ الطرف المكحول قد يكون كُحل مرة في الأسبوع أو الشهر أما كحيل فهو يستمر صاحبه على كحله كأنه خِلقة، وطرف أكحل هذا خِلقة. إذن كحيل كأنه خِلقة من الكثرة والدوام. ثم (مفعول) تحتمل الحال والاستقبال لما تقول أراك مقتولاً هذا اليوم وبعده لم يُقتل، وكما قال تعالى (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا (102) الإسراء) لم يقع بعد هذا ولما قال عبد الله بن الزبير: اعلمي يا أماه أني مقتول من يومي هذا. صيغة مفعول تقال لما حصل أو لما لم يحصل في المستقبل عندما تقول هو مقتول قد يكون هو فعلاً مقتول وقد يكون ليس مقتولاً لكن سيقتل لكن فعيل لا يمكن إلا أن يكون قد قتل بالفعل، لا يمكن أن تقول لمن سيقتل قتيل ولا تقال إلا لمن وقع عليه الفعل حقاً. أما (مفعول) فليس بالضرورة وتقال لما وقع أو لما سيقع. ثم فعيل أبلغ في كيفية الحدث، يقولون لا تقولوا لمن جُرِح في أُنملته جريح وإنما مجروح. فعيل يقال على وجه الاتساع والشمول ولما هو أبلغ. جريح يعني جرح بالغ، مجروح يقال للجرح البسيط أو البليغ وهو عام أما جريح (فعيل) فلا تقال إلا للوصف البليغ، جريح لا تقال إلا للمثخن بالجراح على وجه المبالغة والشمول والاتساع ولمن وقع عليه، مجروح لا تقال، إذن ربنا غني حميد.
*ورد في سورة إبراهيم (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)) وفي لقمان في مكان آخر قال (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) وهنا قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) فكيف نفهم الفروق البيانية الدلالية الموجودة بين الثلاث الآيات ونظهر اللمسات البيانية فيها؟
ربنا سبحانه وتعالى قال في سورة إبراهيم على لسان موسى (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، في لقمان قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) فأكد في سورة إبراهيم فقال (فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أكد بإنّ واللام في (إن الله لغني)، في لقمان أكد بإنّ وحدها وقال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) في إبراهيم زاد اللام وفي لقمان التوكيد فقط بإنّ. وقلنا أن السياق هو الذي يوضح هذا الأمر. لو نقرأ الآية في لقمان (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) إذن قسّم العباد إلى قسمين قسم شاكر وقسم كافر، من يشكر ومن كفر إذن قسم العباد إلى قسمين. في إبراهيم افترض كفر أهل الأرض جميعاً ولم يقسمهم إلى قسمين (إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) إذن في لقمان افترض العباد قسمين وفي إبراهيم افترض كفر أهل الأرض جميعاً فنلاحظ الاختلاف بين التعبيرين في ثلاثة أمور: أولاً في لقمان جرى على التبعيض (بعضهم مؤمن وبعضهم كافر باعتبار من يشكر ومن كفر) بينما في إبراهيم على الشمول شملهم كلهم ولم يستثني أحداً. ونلاحظ في لقمان قال (ومن كفر) بالماضي، في إبراهيم قال (إن تكفروا) بالمضارع، في لقمان فعل الشرط ماضي (ومن كفر) وفي إبراهيم فعل الشرط مضارع (إن تكفروا) والفرق واضح لأنه ذكرنا في حلقة ماضية أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً افتراض وقوع الحدث مرة وإن كان مضارعاً افتراض تكرر الحدث فهنا قال (إن تكفروا) يعني إذا داومتم واستمررتم على الكفر دلالة على تكرر الكفر وتجدده (إن تكفروا) يعني تستمرون على الكفر وتداوموا عليه وفي لقمان قال ومن كفر. ثم قال (جميعاً) جاء بالحال المؤكدة. إذن افتراض كفر أهل الأرض بلا استثناء لم يجعلهم قسمين ثم افتراض الكفر مستمر ثم أكد ذلك بـ (جميعاً) فاقتضى ذلك زيادة التأكيد في إبراهيم (فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) الله تعالى لا يحتاج إلى غني لما ذكر هذه الأمور افتراض ليكفر أهل الأرض جميعاً وليداموا على الكفر جميعاً هذه كلها مؤكدات. ربنا تعالى لم يؤكد غني في لقمان لأن الناس فئتان ولما كان الناس على ملة واحدة أكّد لأنه تعالى لا يحتاج إليهم حتى لو كانوا كلهم كفار ويداومون ويستمرون على ذلك. فائدة التأكيد هنا فائدة بلاغية أن الله تعالى غني عن العباد كلهم لو كفروا كلهم جميعاً واستمروا ربنا غني عنهم، تأكيد الغنى.
*هل نفهم أنه – والعياذ بالله – في لقمان ليس غنياً بدرجة غناه في سورة إبراهيم؟
هو التأكيد ليس معنى ذلك لكن الموقف يحتاج لهذا الشيء فالله تعالى يقول عن نفسه عالم ومرة يقول عليم ومرة يقول والله غفور رحيم، إن ربك لغفور رحيم، حسب ما يقتضي السياق وهو سبحانه وتعالى غني عن العباد في جميع الأحوال.
في لقمان أيضاً قال تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) جاء بضمير الفصل (هو) وعرّف الغني. ضمير الفصل يقع بين المبتدأ والخبر وأصله مبتدأ وخبر بين اسم إنّ وخبرها، بين اسم كان وخبرها، بين مفعولين، ظنّ وأخواتها يفيد التوكيد ويفيد الحصر أحياناً فقوله إن الله هو الغني الحميد يعني ليس في الحقيقة غنيّ سواه. لمّا قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لم يذكر له مُلك بينما في تلك الآية ذكر له ملك (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) والمعروف أن الغني في كل العالم هو الذي يملك. في الآية الأولى لم يذكر الملك قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) كأنه يقول أنا غنيّ عنك وعن شكرك كما إذا قلت لأحد أعطني لأمدحك يقول لك أنا غني عن ذلك، ليس بالضرورة أن تكون مالكاً وحتى في حينها استشهدنا بقول الخليل لما أرسل له أمير الأهواز بِغالاً محمّلة وطلب منه أن يأتي إليه فقال الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في جِدَةٍ وفي غنى غير أني لست ذا مال
ربنا لم يذكر في آية لقمان الأولى أن له ملك والآية الأخرى ذكر له ملك ولا شك أن الذي يملك هو الغني لأنه (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يعني ذكر أنه غني والغنى درجات والناس يتفاوتون في الغنى وعندما تقول فلان غني يعني هو أحد الأنبياء وقد يكون هناك أغنياء آخرون وقد يكون هناك من هو أغنى منه، هو أحد الأغنياء. لكن هو الغني أي لا أحد سواه. فلما ذكر (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لم يبق شيء للآخرين، فهو في الحقيقة هو الغني وحده فكل تعبير في مكانه أنسب وأيّ واحد عنده شيء من البلاغة يضع كل تعبير في مكانه كما هو في القرآن ولا يصح أن يضع هو الغني الحميد في مكان ليس فيه ملك وإنما كل كلمة في مكانها المناسب.
آية (13):
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13))
فكرة عامة على الآية: قال ربنا (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) إذن هذه من حكمة لقمان وهي ليست فقط في كلامه يعني ما ذكر من الكلام وإنما في موقفه من توجيه ابنه لم يتركه (وهو يعظه) وهذه فيها توجيه للآباء أن لا يتركوا أبناءهم لأصدقاء السوء في الطرقات يتعلمون منهم ما يضرهم ولا ينفعهم وإنما ينبغي للآباء أن يتعهدوا أبناءهم ويوجهوهم ويعلموهم ما هو خير لهم فمن حكمة لقمان أنه ليس في ما قاله من الكلام فقط وإنما في وعظه ابنه أيضاً والوعظ بحد ذاته هذه في حد ذاتها حكمة. هذا يقول الأولون أن حكمة لقمان فيها جانبان: تكميل لنفسه بالشكر (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) وتكميل لغيره بوعظ ابنه. فيها جانبان إذا الحكمة لها جانبان في تكميل النفس وتكميل الآخرين، في إصلاح النفس وإصلاح الآخرين والأقرب هو الابن. فإذن قوله (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) إشارة إلى الكمال وقوله (وهو يعظه) إشارة إلى التكميل تكميل ابنه. إذن ربنا لما قال (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ) قبلها ذكر (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) إذن الحكمة لها جانبان جانب ما قاله شكر الله على إعطائه الحكمة وجانب النصح. حتى فيها دلالة أخرى وهو (ولقد آتينا لقمان الحكمة) الحكمة هي وضع الشيء في محله قولاً وفعلاً، توفيق العلم بالعمل، كان ممكناً أن يقول (هذا خلق الله) مباشرة بدون (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) لكنه صدّر الآية بها لماذا؟ ذكرنا أن الحكمة أنه كلم ابنه ونصحه وهناك أمر آخر يدلنا على أن لقمان كان يعمل بما يقول بمعنى أنه هل من الحكمة أن يعطي الإنسان إنساناً وهو مخالف لقوله؟ لو خالف الإنسان قوله فعله فإن كلامه لا يمكن أن ينفع ولو جاء بأبلغ الحِكم. إذن ليس من الحكمة أن ينصح أحداً ثم يخالف هذا النصح. لما قال (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) يعني أن كل ما قاله لابنه هو كان يطبقه على نفسه بحيث يكون مثالاً صالحاً لابنه ولا يجعل له ثغرة. أذكر أحد أساتذتي قال لي: قلت لابني صلِّ لماذا لا تصلي؟ فقال له يا أبي لماذا لا تصلي؟ قلت لابني لماذا تدخّن؟ قال يا أبت لم تدخن؟ فلما قال (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) ليس من الحكمة أن يخالف قوله فعله. إذن هذه فيها إشارة إلى أن لقمان عندما وعظ ابنه كان يطبق كل ما قاله على نفسه فيكون قدوة صالحة لابنه. إذن فيها دلالة أخرى وليست الحكمة فقط في الأقوال التي قالها وإنما أيضاً جملة أمور فيها الحكمة أولاً تكملة لنفسه بالشكر لله ونصحه لابنه وأن يطبق ما قاله على نفسه؟
(وهو يعظه): الواو تحتمل أمرين: تحتمل أن تكون واو الحال وصاحب الحال لقمان، وتحتمل أن تكون الواو استئنافية ولكلٍ دلالة. واو الحالية أي قال لابنه واعظاً أي في حالة وعظ وهذه إشارة إلى أنه لم يقلها هكذا بسرعة وإنما توخّى الوقت المناسب وتوخّى فراغ ابنه وهو استعداده فاختار الوقت المناسب والحال المناسبة فبدأ يعظه وليست نصيحة طارئة بسرعة إنما قال لابنه في حالة وعظ توخى الحالة التي يرى فيها استعداد ابنه لقبول النصيحة وإنما اختيار الوقت المناسب للوعظ، هذه حالة هو مستعد وابنه مستعد. واو الاستئنافية (وهو يعظه) هو من عادة لقمان أن يعظ ابنه لا يتركه. واو الاستئنافية تعني جملة جديدة، الجملة (وإذ قال لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله) هذا مقول القول وتكون (هو يعظه) استئنافية، إذن من شأن لقمان أن يعظ ابنه لا يتركه فيصير لها دلالتان أنه يختار الحالة المناسبة للوعظ وهو يتعهده لا يتركه.. لو بدل الجملة إلى الحال لو قال (واعظاً) تدل دلالة واحدة الحالية بينما لما حولها إلى جملة اكتسب معنيين معنى الاستئناف ومعنى الحالية فاكتسب معنيين أنه اختيار الوقت المناسب للوعظ والآخر هو لا يترك ابنه وهو من شأنه أن يعظ ابنه وهذه فيها توجيه للآباء في الحالتين أن يختاروا الوقت المناسب لوعظ أبنائهم وأن يتعاهدوهم فلا يتركوهم.
*(يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) بدأ بالشرك فهل لهذا من دلالة؟
هذه حكمة أولاً بدأ بقوله (يا بني) بُنيّ معناها تصغير ابن وإضافة إلى النفس (بُنيّ يعني ابني) فيها تحبيب ورفق وتلطف كما في نوح (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) هود) فيها شفقة به ورحمة. لما قال له (يا بني) الوعظ بدأ فيما ذكر فيما بعد (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) ولكن أراد أن يفتح قلبه وهذا توجيه للدعاة وللآباء أن يبدءوا بكلمة رفيقة فيها حنان وشفقة ورأفة لأن الكلام اللين يفتح القلوب والنفوس لا يصيح بابنه وإنما يأتي إلى ابنه بكلام لطيف ويضع يده على كتفه ويبدأ بالكلام اللطيف الهين عند ذلك ينتفع الابن باللطف والحنان أكثر مما ينتفع بالقول. حتى ربنا سبحانه وتعالى قال (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه) اللين في القول يفتح القلوب العصية ويفتح النفوس لذا قال لقمان (يا بني) حنان ورفق ولطف وشفقة وحتى لو كان الابن ينوي المخالفة يخجل من المخالفة.
ثم بدأ (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) قبل العبادة . التوحيد رأس الإيمان وأول ما ينبغي أن يغرس في النفوس التوحيد لأن أساس الصلاح هو التوحيد. النهي عن الشرك مقدّم على العبادة لأنه لا تنفع عبادة مع الشرك فإذن بدأ بما هو أهمّ. ثم النهي عن الشرك يتعلمه الصغير والكبير يمكن أن تعلم الصغير لا إله إلا الله أما العبادة فلا تكون إلا بعد التكليف. لم يثبت كم كان عمر ابنه. ثم الانتهاء عن الشرك أيسر من العبادة وأسهل وكثير من الموحّدين يتهاونون في العبادة. الانتهاء عن الشرك أيسر من القيام بالعبادة فبدأ بما هو أهم وأعمّ يعم الصغير والكبير وأيسر.
*(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) كيف يكون الشرك ظلم عظيم؟
مرّ بنا مثل هذا من حلقات، هو ظلم لأنه يسوي بين القادر والعاجز، العالم والجاهل، المنعِم والمحتاج إلى النعمة هذا ظلم وذكرنا في حينها أنه لو تقدّم جماعة لإشغال وظيفة في الدولة وقدموا اختباراً وأحدهم أجاب عن الأسئلة بأحسن إجابة وبأوضح كلام وآخر لم يجب عن ذلك ولا بكلمة واحدة صحيحة ولم يحسن الكلام ولم يحسن القول وسوّيت بينهما تكون ظالماً والفرق بين الخالق والمخلوق أكبر من هذا. إذن هو ظلم لأنك سويت بين العاجز وبين القادر، بين العالِم والجاهل، بين المنعِم والمحتاج للنعمة. الظلم واقع على النفس أولاً لأنك عبدت من لا يستحق العبادة فأهنت نفسك وقد يكون المعبود هو أقل فإذن أنت ظلمت نفسك. هذا امر ثم أنت أوردتها الهلاك أدخلتها النار، ظلمتها بأن حططت من قدرها وأهنتها وأدخلتها النار وأوردتها موارد الهلاك فكنت ظالماً. لماذا اختار الظلم؟ فطرة الإنسان تكره الظالم وحتى الظالم إذا وقع عليه ظلم يكرهه فهو يستسيغه من نفسه ولا يسيغه إذا وقع عليه. إذن طبيعة النفس تكره الظلم والظالمين حتى في الأفلام لما نرى إنساناً ظالماً يتحزّب المشاهدون ضده. أراد ذكر الظلم لأن النفس تكره الظلم فقال ظلم حتى تشمئز نفس ابنه. إضافة إلى أنه في تقديرنا لما قال (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) في تقديرنا أن الموجه والناصح والمعلم والداعية ينبغي أن يعلل الأوامر ولا يذكر هذا من دون تعليل، لا تكن أوامر فقط حتى يقبل كلامك لماذا لا تشرك بالله؟ لأن الشرك لظلم عظيم وهذا الظلم يقع عليك وعلى الآخرين فهذا التعليل من أدب الوعظ والتوجيه وأن لا تعطى الأوامر بدون تعليل.
آية (13):
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13))
فكرة عامة على الآية: قال ربنا (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) إذن هذه من حكمة لقمان وهي ليست فقط في كلامه يعني ما ذكر من الكلام وإنما في موقفه من توجيه ابنه لم يتركه (وهو يعظه) وهذه فيها توجيه للآباء أن لا يتركوا أبناءهم لأصدقاء السوء في الطرقات يتعلمون منهم ما يضرهم ولا ينفعهم وإنما ينبغي للآباء أن يتعهدوا أبناءهم ويوجهوهم ويعلموهم ما هو خير لهم فمن حكمة لقمان أنه ليس في ما قاله من الكلام فقط وإنما في وعظه ابنه أيضاً والوعظ بحد ذاته هذه في حد ذاتها حكمة. هذا يقول الأولون أن حكمة لقمان فيها جانبان: تكميل لنفسه بالشكر (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) وتكميل لغيره بوعظ ابنه. فيها جانبان إذا الحكمة لها جانبان في تكميل النفس وتكميل الآخرين، في إصلاح النفس وإصلاح الآخرين والأقرب هو الابن. فإذن قوله (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) إشارة إلى الكمال وقوله (وهو يعظه) إشارة إلى التكميل تكميل ابنه. إذن ربنا لما قال (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ) قبلها ذكر (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) إذن الحكمة لها جانبان جانب ما قاله شكر الله على إعطائه الحكمة وجانب النصح. حتى فيها دلالة أخرى وهو (ولقد آتينا لقمان الحكمة) الحكمة هي وضع الشيء في محله قولاً وفعلاً، توفيق العلم بالعمل، كان ممكناً أن يقول (هذا خلق الله) مباشرة بدون (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) لكنه صدّر الآية بها لماذا؟ ذكرنا أن الحكمة أنه كلم ابنه ونصحه وهناك أمر آخر يدلنا على أن لقمان كان يعمل بما يقول بمعنى أنه هل من الحكمة أن يعطي الإنسان إنساناً وهو مخالف لقوله؟ لو خالف الإنسان قوله فعله فإن كلامه لا يمكن أن ينفع ولو جاء بأبلغ الحِكم. إذن ليس من الحكمة أن ينصح أحداً ثم يخالف هذا النصح. لما قال (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) يعني أن كل ما قاله لابنه هو كان يطبقه على نفسه بحيث يكون مثالاً صالحاً لابنه ولا يجعل له ثغرة. أذكر أحد أساتذتي قال لي: قلت لابني صلِّ لماذا لا تصلي؟ فقال له يا أبي لماذا لا تصلي؟ قلت لابني لماذا تدخّن؟ قال يا أبت لم تدخن؟ فلما قال (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) ليس من الحكمة أن يخالف قوله فعله. إذن هذه فيها إشارة إلى أن لقمان عندما وعظ ابنه كان يطبق كل ما قاله على نفسه فيكون قدوة صالحة لابنه. إذن فيها دلالة أخرى وليست الحكمة فقط في الأقوال التي قالها وإنما أيضاً جملة أمور فيها الحكمة أولاً تكملة لنفسه بالشكر لله ونصحه لابنه وأن يطبق ما قاله على نفسه؟
(وهو يعظه): الواو تحتمل أمرين: تحتمل أن تكون واو الحال وصاحب الحال لقمان، وتحتمل أن تكون الواو استئنافية ولكلٍ دلالة. واو الحالية أي قال لابنه واعظاً أي في حالة وعظ وهذه إشارة إلى أنه لم يقلها هكذا بسرعة وإنما توخّى الوقت المناسب وتوخّى فراغ ابنه وهو استعداده فاختار الوقت المناسب والحال المناسبة فبدأ يعظه وليست نصيحة طارئة بسرعة إنما قال لابنه في حالة وعظ توخى الحالة التي يرى فيها استعداد ابنه لقبول النصيحة وإنما اختيار الوقت المناسب للوعظ، هذه حالة هو مستعد وابنه مستعد. واو الاستئنافية (وهو يعظه) هو من عادة لقمان أن يعظ ابنه لا يتركه. واو الاستئنافية تعني جملة جديدة، الجملة (وإذ قال لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله) هذا مقول القول وتكون (هو يعظه) استئنافية، إذن من شأن لقمان أن يعظ ابنه لا يتركه فيصير لها دلالتان أنه يختار الحالة المناسبة للوعظ وهو يتعهده لا يتركه.. لو بدل الجملة إلى الحال لو قال (واعظاً) تدل دلالة واحدة الحالية بينما لما حولها إلى جملة اكتسب معنيين معنى الاستئناف ومعنى الحالية فاكتسب معنيين أنه اختيار الوقت المناسب للوعظ والآخر هو لا يترك ابنه وهو من شأنه أن يعظ ابنه وهذه فيها توجيه للآباء في الحالتين أن يختاروا الوقت المناسب لوعظ أبنائهم وأن يتعاهدوهم فلا يتركوهم.
*(يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) بدأ بالشرك فهل لهذا من دلالة؟
هذه حكمة أولاً بدأ بقوله (يا بني) بُنيّ معناها تصغير ابن وإضافة إلى النفس (بُنيّ يعني ابني) فيها تحبيب ورفق وتلطف كما في نوح (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) هود) فيها شفقة به ورحمة. لما قال له (يا بني) الوعظ بدأ فيما ذكر فيما بعد (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) ولكن أراد أن يفتح قلبه وهذا توجيه للدعاة وللآباء أن يبدءوا بكلمة رفيقة فيها حنان وشفقة ورأفة لأن الكلام اللين يفتح القلوب والنفوس لا يصيح بابنه وإنما يأتي إلى ابنه بكلام لطيف ويضع يده على كتفه ويبدأ بالكلام اللطيف الهين عند ذلك ينتفع الابن باللطف والحنان أكثر مما ينتفع بالقول. حتى ربنا سبحانه وتعالى قال (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه) اللين في القول يفتح القلوب العصية ويفتح النفوس لذا قال لقمان (يا بني) حنان ورفق ولطف وشفقة وحتى لو كان الابن ينوي المخالفة يخجل من المخالفة.
ثم بدأ (لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) قبل العبادة . التوحيد رأس الإيمان وأول ما ينبغي أن يغرس في النفوس التوحيد لأن أساس الصلاح هو التوحيد. النهي عن الشرك مقدّم على العبادة لأنه لا تنفع عبادة مع الشرك فإذن بدأ بما هو أهمّ. ثم النهي عن الشرك يتعلمه الصغير والكبير يمكن أن تعلم الصغير لا إله إلا الله أما العبادة فلا تكون إلا بعد التكليف. لم يثبت كم كان عمر ابنه. ثم الانتهاء عن الشرك أيسر من العبادة وأسهل وكثير من الموحّدين يتهاونون في العبادة. الانتهاء عن الشرك أيسر من القيام بالعبادة فبدأ بما هو أهم وأعمّ يعم الصغير والكبير وأيسر.
*(إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) كيف يكون الشرك ظلم عظيم؟
مرّ بنا مثل هذا من حلقات، هو ظلم لأنه يسوي بين القادر والعاجز، العالم والجاهل، المنعِم والمحتاج إلى النعمة هذا ظلم وذكرنا في حينها أنه لو تقدّم جماعة لإشغال وظيفة في الدولة وقدموا اختباراً وأحدهم أجاب عن الأسئلة بأحسن إجابة وبأوضح كلام وآخر لم يجب عن ذلك ولا بكلمة واحدة صحيحة ولم يحسن الكلام ولم يحسن القول وسوّيت بينهما تكون ظالماً والفرق بين الخالق والمخلوق أكبر من هذا. إذن هو ظلم لأنك سويت بين العاجز وبين القادر، بين العالِم والجاهل، بين المنعِم والمحتاج للنعمة. الظلم واقع على النفس أولاً لأنك عبدت من لا يستحق العبادة فأهنت نفسك وقد يكون المعبود هو أقل فإذن أنت ظلمت نفسك. هذا امر ثم أنت أوردتها الهلاك أدخلتها النار، ظلمتها بأن حططت من قدرها وأهنتها وأدخلتها النار وأوردتها موارد الهلاك فكنت ظالماً. لماذا اختار الظلم؟ فطرة الإنسان تكره الظالم وحتى الظالم إذا وقع عليه ظلم يكرهه فهو يستسيغه من نفسه ولا يسيغه إذا وقع عليه. إذن طبيعة النفس تكره الظلم والظالمين حتى في الأفلام لما نرى إنساناً ظالماً يتحزّب المشاهدون ضده. أراد ذكر الظلم لأن النفس تكره الظلم فقال ظلم حتى تشمئز نفس ابنه. إضافة إلى أنه في تقديرنا لما قال (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) في تقديرنا أن الموجه والناصح والمعلم والداعية ينبغي أن يعلل الأوامر ولا يذكر هذا من دون تعليل، لا تكن أوامر فقط حتى يقبل كلامك لماذا لا تشرك بالله؟ لأن الشرك لظلم عظيم وهذا الظلم يقع عليك وعلى الآخرين فهذا التعليل من أدب الوعظ والتوجيه وأن لا تعطى الأوامر بدون تعليل.
عظم حق الوالدين
*فى إجابة للدكتور أحمد الكبيسى عن الفرق بين قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴿8﴾ العنكبوت) هذه كلمة (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴿15﴾ الأحقاف) هذه اثنتان ثم (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ﴿14﴾ لقمان) بدون لا حسن ولا إحسان؟
لاحظ قبل كل شيء الله ما قال وصينا المؤمنين بل وصينا الإنسان عموماً. يريد الله عز وجل أن يقول أن هذا علاقة الأبناء بالآباء وعلاقة الآباء بالأبناء هي من خصائص هذا الإنسان لا تجد هذه العلاقة بين كل الأحياء الأخرى، الحيوانات نعم هناك أمٌ تعرف أطفالها ولكن الأب لا يهتم من هو ابنه والابن لا يهتم من هو أبوه بل أن الابن لا يهتم من هي أمه وحينئذٍ الأم فقط في المخلوقات الحية هي التي تهتم بأطفالها إلى حين. من أجل هذا هذا من خصائص الإنسان احترام الأبوين وتقديرهما وتقديسهما وحسن التعامل معهما هذا من خصائص الإنسان لأن الله تعالى وصاه بذلك، رب العالمين هو الذي غرس في هذا الإنسان من جملة عناصر أنسنته عندما خرج من المملكة الحيوانية فوهبه الله سبحانه وتعالى العلم (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴿31﴾ البقرة) (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ﴿12﴾ التحريم) وحينئذٍ تأنسن الحيوان وحينئذٍ من عناصر أنسنة هذا المخلوق هو أن يكون باراً بوالديه (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ ﴿14﴾ المؤمنون). (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) أي العطاء أن تطعمه وأن تسقيه وأن تقدم حاجاته أن تقدم له حاجاته ما يحتاجه من مأكلٍ ومطعمٍ وملبس هذا الإحسان. وفي الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) هذا لا يكون بالعطاء وإنما بحسن التعامل، كيف تحترمه؟ أنت قد تعطي أباك لكنك تشتمه ولا تحترمه أو تتكلم معه بدون احترام هذا أنت أعطيته أنت بريّت به وهذا الفرق بين الحسن والبر. البِرّ أن تعطيها ما تحتاجه وأن تعطي أباك ما يحتاجه، الإحسان أن تعطيه بشكلٍ جيد هذا الفرق بين البر والإحسان. البِرّ أن توفر له حاجاته لكن قد تقدمها بشكل غير لائق فيها شيء من الغلظة أو الخشونة وقد تشتم أباك وقد تزدريه من كِبَره أو تزدري أمك لكن الإحسان أن تعطي هذين الأبوين هذا البر بشكل في غاية الدقة والأناقة والجمال من حيث أنك تكون خادماً لهما وتقريباً وبلا مبالغة ولا مباهاة 99% من هذه الأمة يتعاملون مع آبائهم وأمهاتهم عند العطاء بهذا الخضوع والذل. وهذا الذل من أعظم أنواع العز (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ﴿24﴾ الإسراء) هذا الذل هو من أعظم أنواع العز في الأرض. ولهذا ملوك الأرض والذين فتحوا البلدان والذين قاموا بأنواع من الحضارات والتحضّر أمام والديه كالعبد هذا الذل العبقري الذي هو أعلى قيمة الإنسان العظيم العزيز. هذا الإحسان، فحينئذٍ كلمة الإحسان ما يتعلق بالعطاء توفر له حاجاته لكن ليس فقط مجرد بِرّ وإنما تقدم هذا العطاء لهما بشكل لائق يدل على احترامك لهما وعلى عدم المِنّة أن لا تمنّ عليهما كأن تقول أنا أعطيتك وجئت لك الخ لا إطلاقاً وحينئذٍ وصاك الله بهما حسناً أي كيف تتكلم معهما؟ إذا جاء أبوك أو جاءت أمك تقوم بوجههما وإذا تكلمت معهما تكون في غاية الخضوع يعني انتبه إلى الحديث المتفق على صحته عن الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار مسافرون ثلاثة ودخلوا غاراً عندما جاءت عاصفة فالعاصفة جاءت بحجر ثقيل فأغلقت باب الغار ولم يستطع أحدٌ منهم أن يزحزح هذا الحجر ونفذ ما معهم من ماءٍ وطعام وأوشكوا على الهلاك فتح لله على أحدهم وقال يا جماعة تعالوا نتوسل إلى الله عز وجل بأحسن عملٍ عملناه في حياتنا وكل واحد جاء بعمل الثالث قال يا ربي أنت تعرف أن لي أم وأب وصارا كبيرين وأنا عندما أعود من العمل والعمل كان بين الإبل وبين الغنم يعني كان صاحب إبلٍ وغنم كنت آتي لهما باللبن لكي يتعشيا لكي يناما وكنت لا أعشي أطفالي إلا بعد أن أعشي والدي-وطبعاً نحن نتكلم بالمعنى وليس بلغة الحديث- لا يعشي أولاده إلا بعد أن تشرب الأم والأب هذا اللبن ثم يناما ثم يذهب ويوقظ أطفاله حتى يعشيهم، يوم من الأيام جاء وقد وجد أبويه نائمين وهو يحمل لهم غبوقهما يعني كأسين من اللبن فلما وجد الأبوين نائمين بقي يحمل هذين القدحين إلى أن استيقظا عند الفجر وهو يحمل هذين القدحين وهو واقف أمام رأسيهما وأولاده جائعون ولم يعشهم إلا بعد أن استيقظ الأبوان فقدم لهما هذا العشاء البسيط وهذا هو عشاؤهما كل يوم لا يشربان غيره وبكل أدب بكل خدمة سقاهما كما تسقي الأم المرضعة طفلها ثم عاد بعد أن صليا وعادا وذهب وأيقظ أطفاله لكي يعشيهم، هذا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) كيف تتعامل (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴿23﴾ الإسراء) ولا أفّ هذا من الحسن وليس من الإحسان. فالإحسان هو العطاء عشاء وغداء ولباس الخ هذا من الحسن (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴿15﴾ لقمان) حينئذٍ كل تصرفاتك أبداً أنت عبدٌ عندهما وكلما ازدادت عبوديتك لهما ازدادت عبوديتك لله عز وجل وكنت عبداً صالحاً عند الله سبحانه وتعالى. لأن رضى الله عز وجل من رضاهما لا يرضى الله عنك إلا إذا رضي عنك أبواك. فكلما أمعنت في الخدمة والذل لهما وخفضت لهما جناح الذل إذاً هذا هو الفرق بين الإحسان العطاء سواء كان إذا كان مجرد عطاء يسمى بِرّاً إذا كان عطاء مع هذا الاحترام والإجلال والتقديس والتكريم يسمى إحساناً إذا كان بكل يومك يعني عندما تتحدث معه بأدب تجلس بين يديه بأدب عندما يقوم تقوم عندما تستقبله تنهض للقائه إذا ناداك تقول له لبيك، بهذه العبودية التي جعلها الله جائزة للأبوين أنت قدمت لهما حُسناً هذا الفرق بين (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) وهو طعام وشراب وبين (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وهو تعامل رقيق وأنيق في غاية الذل لهما. الآية التي تقول (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) وسكتت هذا يعني الاثنين، رب العالمين أجمل هذه الحالة وهذه الحالة أجملها بآية واحدة وقال (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) لماذا؟ قال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴿14﴾ لقمان) لم يذكر فضائل الأب لأن فضائل الأب أنت تدركها وأنت كبير أبوك يبدأ دوره معك عندما تميّز قبل هذا أنت عند أمك شقاؤها وسهرها وتعبها وحملها أنت لا تدركه لم تره ولهذا ربما تذهل عن أفضال أمك عليك وأنت لا تذهل عن أفضال أبيك ولهذا رب العالمين يقتصر على فضائل الأم على أولادها. إذاً هكذا هو الحسن والفرق بين الحُسن والجمال أن الجمال شيءٌ متميز عن غيره من حيث قيمته الجمالية، الحُسن هو الجمال إذا كثر واشتد وتعمق حتى صار مبهجاً. إذاً الإحسان جمالٌ مبهج أحياناً جمال عادي هذا كأس جميل هذا بيت جميل لكن هناك جمال عندما تراه تقف وتقول سبحان الخلاق العظيم! ما هذا الجمال! إذا انبهرت بذلك وابتهجت نفسك به يسمى حسناً. من أجل هذا التاريخ ينقل لنا عن بعض الذين عاملوا أبويهم بحسنٍ مبهج عجائب. ولهذا اقصر طريقٍ إلى الجنة هو التعامل مع الوالدين بحُسن هو البِرّ ومن رحمة الله رب العالمين قال (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴿78﴾ الحج ) رب العالمين تكلم عن بر الوالدين حتى لا ييأس أحد أنت ما دمت تكفي والديك أنت بخير لكن هذا الخير يتفاوت الجنة يا جماعة مائة درجة كل درجة بينها وبين الأخرى كما بين السموات والأرض وكل درجة عن درجة في النعيم كما بين الكوخ والقصر من أجل هذا قال (فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ﴿75﴾ طه) (وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴿21﴾ الإسراء) إذا أردت أن تدخل الجنة فبالبِرّ، وإذا أحببت أن تترقى في الدرجات العلى التي هي منازل الأنبياء والصديقين والشهداء فعليك بالإحسان أولاً ثم تنتقل إلى الحُسن، تكون في غاية الذل وأن تقدم لهم ثم في غاية الجمال والحسن المبهج لنفس الأبوين. فالأبوان عندما يرونك كيف تقبل يده كيف تقوم كيف تحترمهم يشعرون ببهجة. من أجل هذا أنت أعظم أنواع الإنسان يوم القيامة إذا جئت وأبواك راضيان عنك من حيث أنك بلغت القمة في التعامل معهما لأنك قدمت لهما ما قدمت بحسنٍ وليس بمجرد إحسان بل ترقيت من البِرّ إلى الإحسان إلى الحُسن أصبحت أنت مبهجاً لهما إلى أن ماتا بين يديك وهما في غاية البهجة حينئذٍ لا عليك ما فعلت. “ثلاثةً لا ينفع معهنّ عمل عقوق الوالدين وثلاثة لا يضرّ معهن ذنب ومنها بر الوالدين” فكيف الحسن إلى الوالدين؟! هذا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. هذه القمم يوم القيامة معدودات، عندك أصحاب الذكر، أصحاب العلم، طبعاً دعك من الأنبياء والصديقين والشهداء هؤلاء قضية أخرى أيضاً، السخاء، الحاكم العادل، قمم يوم القيامة من ضمنهم إذا لم تكن أنت بمالٍ تنفق ولا بحاكم تحكم بالعدل ولا ولا الخ فلتكن مع أبويك مبهجاً لهما بأن تتعامل معهما بحسن.
آية (14):
(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14))
*هذا كلام الله تعالى مع أن لقمان لم ينتهي بعد من الوصية فلماذا هذه المداخلة؟
أراد الله سبحانه تعالى أن يتولى الأمر بالمصاحبة بالمعروف لعظيم منزلة الأبوين عند الله. ربنا هو الذي أراد أن يأمر ويوصي بالإحسان إلى الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف وليس لقمان وهذه فيها أكثر من حالة: أولاً لو قال لقمان لو أوصى ابنه أنه أطع أبويك لتصور الابن أن الأب أراد أن يستغله ويستفيد منه ويجعله تابعاً له كما الآن عندما يقدم أحد لك نصيحة تنظر هل يستفيد هو منها أو لا؟ الذي وصى هو الله وهذا الأمر لا ينفعه ولا يفيده فإذن ربنا أراد أنه هو الذي يأمر بالإحسان إلى الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لا لقمان لعظيم منزلة الأبوين عند الله فهو الذي تولى هذا الأمر، هذا أمر والأمر الآخر حتى لا يظن ابن لقمان أن أباه هو المنتفع.
قد يسأل سائل لم يجعل لقمان ينتهي من الوصية ثم يأتي بهذه الآية؟ وضع الوصية بعد النهي عن الشرك بالله ربنا سبحانه وتعالى يضع الوصية بالوالدين بعد النهي عن الشرك أو بعد الأمر بعبادته وطاعته ولا يجعلها في آخر الوصايا. هو لا يريد أن يقول (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)) ثم يقول (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) لكنه وضعها بعد النهي عن الشرك بالله (أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (151) الأنعام) و(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (23) الإسراء) (لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) البقرة) (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (36) النساء) يضعها بعد عبادة الله تعالى وكأنها منزلة تالية بعد العبادة مباشرة الإحسان إلى الوالدين. هذه فيها إشارة إلى عظيم منزلة الأبوين عند الله كون ربنا هو الذي وصى ولم يجعل لقمان يوصي وتدخّل في مكانها بعد النهي عن الشرك تدخل ربنا وأمر وكانت وصية ربنا تعالى بالإحسان إلى الوالدين ثم لم يدع لقمان ينتهي من الكلام فتكن في آخر الكلام وإنما وضعها بعد النهي عن الشرك أو تأتي بعد الأمر بعبادته سبحانه وتعالى.
*ينزل الله تبارك وتعالى منزلة كريمة بعد عبادة الله أو النهي عن الشرك بالله لكن لِمَ الوالدين تحديداً وليس الأبوين مثلا؟
الآية فيها جوانب كثيرة: أولاً استعمل وصّى المشددة ولم يقل أوصينا وذلك للتشديد على الوصية والمبالغة فيها وصّى فيها تشديد على الوصية والمبالغة فيها. ومن الملاحظ في القرآن أنه يستعمل وصّى في أمور الدين والأمور المعنوية وأوصى في الأمور المادية. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131) النساء) ويستعمل أوصى في المواريث (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا (11) النساء) . لم ترد أوصى في الأمور المعنوية وفي أمور الدين إلا في موطن واحد اقترنت بأمر مادي عبادي وهو قوله تعالى على لسان المسيح (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) مريم) قال أوصاني لأنها اقترنت بأمر مادي وعبادي وهو الزكاة والأمر الآخر أن القائل هو غير مكلّف لذلك خفّف من الوصية لأنه الآن ليس مكلفاً لا بالصلاة ولا بالزكاة فخفف لأنه لا تكاليف عليه.
وقال (وصينا) بإسناد التوصية إلى نفسه سبحانه بضمير التعظيم وربنا في أمور الخير وفي الأمور المهمة يسند الأفعال إلى نفسه لم يقل وصيّ الإنسان وإنما قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) بإسناد الفعل إليه سبحانه بضمير التعظيم. واستمر ورجع إلى الإفراد (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) وقلنا أنه من عادة القرآن إذا ذكر ضمير التعظيم يذكر قبله أو بعده ما يدل على الإفراد (أَنِ اشْكُرْ لِي) لم يقل أن اشكر لنا.
الوالدين: هو لم يقل أبوين لأكثر من سبب: أولاً لو لاحظنا الوالدين والأبوين: الوالدين تثنية الوالد والوالدة لكن غلّب المذكر، الأبوين تثنية الأب والأم لكن غلّب الأب إذن في الحالتين غلّب المذكر الأبوين تغليب الأب وفي الوالدين تغليب الوالد. لكن لماذا اختار الوالدين؟ الولادة تقوم بها المرأة وليس الرجل أما تسمية الوالد يقول أهل اللغة على النسب والوالدة على الفعل هي التي تلد. إذن اختار لفظ الوالدين التي هي من الولادة التي تقوم بها الأم لكنه لم يختر الأبوين واختار لفظ الولادة ولم يختر لفظ الأبوة. الوالدين (الوالد والوالدة) مأخوذة من الولادة أما الأبوين فليست من الولادة من حيث اللفظ والقرآن يستعمل أبوين للجدّين (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَقَ (6) يوسف) ويستعمل أبوين لآدم وحواء (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ (27) الأعراف)
إذن هو اختار لفظ الولادة لماذا؟ جملة دواعي لسبب الاختيار: الأول لو نقرأ السياق (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ (14)) ذكر الحمل والفصال والفصال هو الفطام من الرضاعة، ماذا بين الحمل والإرضاع؟ الولادة. فهو ذكر الحمل والفصال أي الفطام من الرضاعة بينهما الولادة فاختار لفظ الوالدين. ثم فيه تذكير بولادته وهو جاء إلى الدنيا ضعيفاً عاجزاً حال ولادتك وهما أحسنا إليك وربياك يذكره بالحالة الأولى التي يكون فيها أعجز ما يكون. وفيها تعبير إحسان الصحبة إلى الأم أكثر من الأب. الولادة هي للأم وليس للأب فلما قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) فيها إشارة إلى أن إحسان الصحبة والوصية للأم أكثر من الأب وحتى شرعاً وفي الحديث (من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) أمك ثم أمك ثم أمك) الولادة تقوم بها الأم فيها إشارة إلى أن حسن الصحبة ينبغي أن تكون للأم أكثر من الأب فقال (الوالدين). وهناك خط لا يتخلف في جميع القرآن عندما يذكر الإحسان إلى الأبوين والبر بهما والدعاء لهما يذكر لفظ الوالدين ولا يذكر الأبوين لم يقل رب اغفر لي ولأبوي وإنما الوالدين (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ (28) نوح) (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ليس الأبوين (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (151) الأنعام) لم يرد مرة واحدة في القرآن في إحسان الصحبة أو البر أو الدعاء بلفظ الأبوين وإنما كله بلفظ الوالدين. ويستخدم الأبوين في المواريث ولعل ذلك لأن نصيب الأب أكبر من نصيب الأم فيغلّبه لكن الوالدين يغلّب الأم لأن الأم أولى بالدعاء وحسن الصحبة. في المواريث يذكر أبويه لأن نصيب الذكر أكثر من نصيب الأنثى. أما في يوسف قال (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا (100) يوسف) قيل هذا من باب الإكرام لهم قد يظن ظان أن هذا من باب الإكرام. لماذا لم يقل (رفع والديه)؟ هو رفع أبويه على العرش لأكثر من سبب: على الأرجح أنهما كانا أمه وأباه وهذه مسألة خلافية. أولاً لم يرد في قصة يوسف ذكر للأم وإنما ذكر الأب وهو الذي حزن وفقد بصره، لم يرد ذكر للأم في قصة يوسف حتى قال (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) يوسف) فإذن كونه لم يرد ذكر للأم معناه الأب يتغلب. هذا أمر والأمر الآخر أنه لما قال (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) هذا إكرام للأم وليس للأب هو إلماح إلى تكريم الأم فقال (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) أي عظموه والمفروض أن الابن يعظم الأبوين فلما كان فيها تعظيم الأبوين لابنهما اختار أقلّهما وهو الأبوين أقلّهما بحسن الصحبة وهذا أدل على إكرام الأم لما قال (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) هذا تعظيم والمفروض أن الابن يعظّم أبويه فلما ذكر (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا ً) لم يذكر والديه إشارة إلى تعظيم الأم ومنزلتها ثم إلماح أن العرش للأب وليس للأم.
*قال تعالى (أن اشكر لي) ولم يقل اشكر لنا مع أنه قال (ووصينا)؟
ذكرنا في الحلقة السابقة شيئاً عن هذه الآية قلنا قال (وصّينا) ولم يقل أوصينا وقلنا أسند الإيصاء إلى نفسه سبحانه للأمور المهمة قال وصّينا بضمير التعظيم وقلنا قال بوالديه ولم يقل بأبويه وذكرنا أن هذا خط عام في القرآن أن الوصية والبر والدعاء يذكر لفظ الوالدين. نلاحظ في هذه التوصية أنه ذكر الأم ولم يذكر الأب لأن الحمل والفصال هو للأم وليس للأب وهذه إشارة أنها أولى بحسن الصحبة مع أنه قال والديه وقلنا أن كلمة والديه تدل على أن الأم أولى بحسن الصحبة من الولادة وهنا قال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) ثم هو لم يقل وهناً فقط وإنما قال وهناً على وهن أي ذكر الضعف المستمر. الوهن هو الضعف يعني هو يثقل عليها دائماً وباستمرار ثم ذكر مدة الفصال ولم يذكر مدة الحمل أولاً لأن الفصال بيد المرأة تستطيع أن تفطم الرضيع متى ما تريد. حدد مدة للفصال عامين لو لم تلتزم المرأة تزيد أو تقل، بينما الحمل لم يذكر له مدة أولاً لأن الحمل ليس بيد المرأة كالفطام ثم الحمل قد يزيد وقد ينقص قد يكون مدة الحمل ستة أشهر أو سبعة أشهر أو ثمانية أشهر (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا (15) الأحقاف) وابن عباس استند من هذه الآية أن الحمل قد يكون ستة أشهر لأنه قال في آية أخرى (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) إذن بقي مدة الحمل ستة أشهر معناه يصح الحمل في ستة أشهر، قد تضع المرأة حملها في ستة أشهر. لم يذكر الحمل هنا لأنه ليس بيد المرأة الفصال بيد المرأة. هنا الوهن وصف الحمل لأن كل يوم يمر عليها يكون ثقيلاً عليها يوهنها ويضعفها وهو ليس على وتيرة واحدة كلما كبر الجنين يثقل عليها إذن هو وهن على وهن. كل المدة وهن على وهن لكنه لم يذكر كم مدة الحمل لأن المرأة لا دخل لها في مدة الحمل لكن لها دخل في مدة الرضاعة تستطيع أن تفصل الطفل من الرضاعة في أقل من عامين إذا شاءت لكن أفضل مدة للفصال في عامين كما قال القرآن الكريم.
* قال تعالى أن اشكر لي ولوالديك ولم يقل أن اشكر لنا؟
وصاه بالشكر للمنعم الأول الذي هو الله الذي أوجد من العدم وهيأ له أسباب الحياة وهياً له من يحمله ويرضعه وهو ضعيف عاجز. ثم وصاه بالشكر لوالديه. ونحن قلنا هذا خط عام في القرآن أنه إذا ذكر ضمير التعظيم يذكر قبله أو بعده ما يدل على التوحيد. (ووصينا أن اشكر لي) وصينا ضمير تعظيم، أن اشكر لي ضمير الإفراد توحيد. ما المقصود بالشكر؟ هل تقول بلسانك الحمد لله؟ ليس الشكر مطلق القول باللسان لأن الشكر عمل كما قال تعالى (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) سبأ) يعني من لم يؤد حق النعمة فليس بشاكر ولو بقي الليل والنهار يقول الحمد لله يعني من آتاه الله مالاً ولم يؤد حقه فليس بشاكر وإن شكر بلسانه، الشكر عمل ويكون معه القول. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) اشكر لي حق الله تعالى أن يقوم بتأدية نعم الله تعالى عليه عملاً وقولاً إذن (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) إشارة إلى أن الحياة لا تنتهي وأن هذه مرحلة وإشارة إلى الحياة الآخرة في (إليّ المصير) أي المرجع إذن إشارة إلى الحياة الآخرة
*ما علاقة (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) بصدر الآية؟
مآل ذلك فيما إن خالفت إليّ سيجزيك بما تعمل وبما أوصاك به ربك كأن هذه تذكير بالمآل، مآل ذلك ماذا سيكون؟ ثم قال (إليّ) بتقديم الجار والمجرور، الجملة خارج القرآن المصير إليّ، قدّم الخبر للدلالة على الحصر إليه لا إلى غيره وفي هذا نفي للشرك وإثبات للمعاد. نفي للشرك إليه حصراً لأن المصير إليه وحده، لا شريك مع الله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) نفي للشرك وإثبات للمعاد إليه حصراً. ولو قال المصير إليّ لا يفيد الحصر إذن المصير إليّ غير إليّ المصير.
*في صدر الآية نفهم أن الكلام عن غائب (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) ثم يتحول إلى المخاطب (أن اشكر لي)؟ من المخاطب؟
هو قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ) عموماً، بماذا وصاه؟ بأن اشكر لي ولوالديك، إذن الوصية هي أن اشكر لي ولوالديك. جملة (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) هذا مما يوجب الشكر لهما لأنهما أنعما عليه من حمله وإرضاعه وتعهده. أصل التركيبة ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك.
*هل في القرآن جملة اعتراضية؟ الجملة الاعتراضية مصطلح نحوي.
*هل تعني الآية أن الأب مهضوم الحق؟
لا قال بوالديه لكن أيهما أولى بحسن الصحبة؟ قال بوالديه ولم يقل بأمه وهي أولى بحسن الصحبة كما في الحديث. ذكرنا في الحلقة الماضية أن أبوين ووالدين كلاهما من حيث اللغة تغليب المذكر، الوالدان هما الوالد والوالدة تثنية الوالد والوالدة لكن غُلِّب فيها لفظ المذكر وهو الوالد والأبوان هما الأب والأم لكن غُلِّب بلفظ المذكر الذي هو الأب إذن كلاهما تغليب المذكر وهذا ورد في اللغة يقولون القمران أي الشمس والقمر لكن قلنا في الخط القرآني العام يذكر مع الوصية والدعاء البر يذكر الوالدين أما في المال فيذكر لفظ الأبوين لأن لفظ الأب له نصيبه في الميراث أكثر. الذَكَر عموماً أكثر من الإناث (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (11) النساء) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا (11) النساء). في أمور الدين والطاعات يقول يوصّي وفي غير ذلك يقول يوصي والوالدان يستعملها في البر والدعاء لهما ولم يأت في القرآن في الدعاء والبر بلفظ الأبوين وقلنا ويستعمل الأبوين للجد (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَقَ (6) يوسف) واستخدم أبويكم في الجنة لآدم وحواء (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ (27) الأعراف). وذكرنا قصة يوسف وقلنا فيها ما قلنا وهناك سؤال قد يثار في الذهن: لماذا لم تذكر أم يوسف مع أنها كانت حزينة على يوسف؟ في القصة كلها الأب هو مثار الحزن وفقد بصره ثم هناك حقيقة أن هذا من حسن التقدير لأم أم يوسف لأنها أم يوسف وأم أخيه وليست أم الأبناء الآخرين فلا تستطيع أن تواجههم بالكلام وقد يُسمعونها كلاماً لا يرضيها لأنها ليست أمهم وبمثابة الغريبة بينما هو أبوهم يستطيع أن يقرّعهم وهذا من حسن التقدير لها فقد تكتم في نفسها ولا تستطيع أن تقول.
المحاضرة التي ألقاها فضيلة العالم الأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي في جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم عام 1423 هـ الموافق 2002 م
لمحات قرآنية تربوية (نظرات بيانية في وصية لقمان لابنه)
تبدأ الوصية من قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم(13) وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19))
تلك هي الوصية وقد بدأت بذكر إتيان لقمان الحكمة
“وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ” 12
الحكمة
والحكمة هي وضع الشيء في محله قولا وعملا، أو هي توفيق العلم بالعمل، فلا بد من الأمرين معا: القول والعمل، فمن أحسن القول ولم يحسن العمل فليس بحكيم، ومن أحسن العمل ولم يحسن القول فليس بحكيم. فالحكمة لها جانبان: جانب يتعلق بالقول، وجانب يتعلق بالعمل. والحكمة خير كثير كما قال الله تعالى: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” البقرة 269.
الله تعالى مؤتي الحكمة ولذلك نلاحظ أنه تعالى قال: ” وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ”.
قال (آتينا) بإسناد الفعل إلى نفسه، ولم يقل: لقد أوتي لقمان الحكمة، بل نسب الإتيان لنفسه. والله تعالى في القرآن الكريم يسند الأمور إلى ذاته العلية في الأمور المهمة وأمور الخير، ولا ينسب الشر والسوء إلى نفسه ألبتة. قال تعالى: “وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً10” الجـن .
فعندما ذكر الشر بناه للمجهول، وعندما ذكر الخير ذكر الله تعالى نفسه. وهذا مطرد في القرآن الكريم، ونجده في نحو: “آتيناهم الكتاب” و “أوتوا الكتاب” فيقول الأولى في مقام الخير، وإن قال الثانية فهو في مقام السوء والذم. وقال تعالى: ” وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً 83″ الإسراء فعندما ذكر النعمة قال: (أنعمنا) بإسناد النعمة إلى نفسه تعالى. وعندما ذكر الشر قال: “وإذا مسه الشر” ولم يقل: إذا مسسناه بالشر. ولم ترد في القرآن مطلقا: زينا لهم سوء أعمالهم، وقد نجد: زينا لهم أعمالهم، بدون السوء، لأن الله تعالى لا ينسب السوء إلى نفسه، ولما كانت الحكمة خيرا محضا نسبها إلى نفسه.
ـ إن قيل: فقد قال في موضع: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” البقرة 269.
فالرد أنه عز وجل قد قال قبلها: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” فنسب إتيان الحكمة إلى نفسه، ثم أعادها عامة بالفعل المبني للمجهول.
مقام الشكر
ـ( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ)
لها دلالتان:
الأولى ـ أن الحكمة لما كانت تفضلا ونعمة فعليه أن يشكر النعم، كما تقول: لقد آتاك الله نعمة فاشكره عليها. والله آتاه الحكمة فعليه أن يشكره لأن النعم ينبغي أن تقابل بالشكر لموليها. (آتاك نعمة الحكمة فاشكره عليها)
الثانية ـ أن من الحكمة أن تشكر ربك، فإذا شكرت ربك زادك من نعمه “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ 7)” إبراهيم ولو قال غير هذا ، مثلا (فاشكر لله) لكان فيه ضعف، ولم يؤد هذين المعنيين. وضعف المعنى يكون لأن الله تعالى آتاه النعمة “وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ” فإن قال بعدها: (فاشكرلله ) فهذا أمر موجه لشخص آخر وهو الرسول، فيصير المعنى : آتى الله لقمان الحكمة فاشكر أنت!! كيف يكون؟ المفروض أن من أوتي الحكمة يشكر ولذلك قال: “أن اشكر لله” فجاء بأن التفسيرية ولو قال أي تعبير آخر لم يؤد هذا المعنى.
الشكر والكفر
(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12))
“يشكر” قال الشكر بلفظ المضارع ، والكفران قاله بالفعل الماضي “ومن كفر” من الناحية النحوية الشرط يجعل الماضي استقبالا ، مثال (إذا جاء نصر الله)، فكلاهما استقبال. ويبقى السؤال : لماذا اختلف زمن الفعلين فكان الشكر بالمضارع والكفر بالمشي على أن الدلالة هي للاستقبال؟
من تتبعنا للتعبير القرآني وجدنا أنه إذا جاء بعد أداة الشرط بالفعل الماضي فذلك الفعل يُفعل مرة واحدة أو قليلا، وما جاء بالفعل المضارع يتكرر فعله
مثال: ” وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا92″ النساء وبعدها قال: “وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا 93” النساء فعندما ذكر القتل الخطأ جاء بالفعل الماضي لأن هذا خطأ غير متعمد، إذن هو لا يتكرر وعندما جاء بالقتل العمد جاء بالفعل المضارع (ومن يقتل) لأنه ما دام يتعمد قتل المؤمن فكلما سنحت له الفرصة فعل. فجاء بالفعل المضارع الذي يدل على التكرار.
مثال آخر: “وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً 19” الإسراء .
فذكر الآخرة وجاء بالفعل الماضي لأن الآخرة واحدة وهي تراد. لكن عندما تحدث عن الدنيا قال: “وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ 145” آل عمران.
لأن إرادة الثواب تتكرر دائما.
كل عمل تفعله تريد الثواب، فهو إذن يتكرر والشيء المتكرر جاء به بالمضارع يشكر، فالشكر يتكرر لأن النعم لا تنتهي ” وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ 34″ إبراهيم.
فالشكر يتكرر، كلما أحدث لك نعمة وجب عليك أن تحدث له شكرا أما الكفر فهو أمر واحد حتى إن لم يتكرر، فإن كفر الإنسان بأمر ما فقد كفر، إن كفر بما يعتقد من الدين بالضرورة فقد كفر، لا ينبغي أن يكرر هذا الأمر لأنه إن أنكر شيئا من الدين بالضرورة واعتقد ذلك فقد كفر وانتهى ولا يحتاج إلى تكرار، أما الشكر فيحتاج إلى تكرار لأن النعم لا تنتهي. وفيه إشارة إلى أن الشكر ينبغي أن يتكرر وأن الكفر ينبغي أن يقطع، فخالف بينهما في التعبير فجاء بأحدهما في الزمن الحاضر الدال على التجدد والاستمرار وجاء بالآخر في الزمن الماضي الذي ينبغي أن ينتهي.
الله غني حميد
(فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12))
جاء بإنما التي تفيد الحصر، أي الشكر لا يفيد إلا صاحبه ولا ينفع الله ولا يفيد إلا صاحبه حصرا أما الله فلا ينفعه شكر ولا تضره معصية
( يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر )
لذلك قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)
جمع بين هاتين الصفتين الجليلتين الحميد أي المحمود على وجه الدوام والثبوت وهو تعالى غني محمود في غناه
ـ قد يكون الشخص غنيا غير محمود
ـ أو محمودا غير غني
ـ أو محمودا وهو ليس غنيا بعد، فإن اغتنى انقلب لأن المال قد يغير الأشخاص وقد يغير النفوس كما أن الفقر قد يغير النفوس
ـ وقد يكون الشخص غنيا وغير محمود لأنه لا ينفع في غناه، ولا يؤدي حق الله عليه ولا يفيد الآخرين، بل قد يجر المصالح لنفسه على غناه
ـ وقد يكون محمودا غير غني، ولو كان غنيا لما كان محمودا، فإن اجتمع الأمران فكان غنيا محمودا فذلك منتهى الكمال
وفي آية أخرى في السورة نفسها قال: ” لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
نقول: فلان غني أي هو من جملة الأغنياء، وقد يكون ملكا معه أغنياء فإذا قلت هو الغني فكأن الآخرين ليسوا شيئا بالنسبة إلى غناه وهو صاحب الغنى وحده.
فلماذا قال ها هنا فإن الله غني حميد وهناك في السورة نفسها هو الغني الحميد؟
نلاحظ أن في هذه الآية لم يذكر له ملكا ولا شيئا وهذا حتى في حياتنا اليومية نستعمله نقول أنا غني عنك كما قال الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في جو وفي غنى غير أني لست ذا مال
فقد تقول: أنا غني عنك، ولكن ليس بالضرورة أن تكون ذا ثروة ومال فهنا لم يذكر الله سبحانه لنفسه ملكا المعنى أن الله غني عن الشكر وعن الكفر لا ينفعه شكر ولا يضره كفر.
أما في الآية الأخرى فقد ذكر له ملكا ” لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
فعندما ذكر له ملك السموات والأرض المتسع ، فمن أغنى منه؟ فقال (هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
أهمية الحكمة في الوعظ
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13))
من هنا بدأت الوصية، فلماذا صدر بقوله: “ولقد آتينا..” وكان يمكن مثلا أن يحذفها؟
الحكمة لها جانبان : جانب قولي وجانب عملي، وحكمة لقمان ليست فيما ذكره من أحاديث وأقوال وما قاله لابنه من الوصية، وإنما أيضا في العمل الذي فعله وهو تعهده لابنه وعدم تركه بلا وعظ أو إرشاد، وفي هذا توجيه للآباء أن يتعهدوا أبناءهم ولا يتركوهم لمعلمي سوء ولا للطرقات.
وصدّر بالحكمة وهي ذات جانبين قولي وعملي لأمر آخر مهم، فعندما وصى ابنه فهل من الحكمة أن يوصي ابنه بشيء ويخالفه؟ هذا ليس من الحكمة ولو فعله فلن تنفع وصيته، لو خالف الوعظ عمل الواعظ والموجه لم تنفع الوصية بل لا بد أن يطبق ذلك على نفسه، فعندما قال آتينا لقمان الحكمة علمنا من هذا أن كل ما قاله لقمان لابنه فقد طبقه على نفسه أولا حتى يكون كلامه مؤثرا لذلك كان لهذا التصدير دور مهم في التربية والتوجيه.
ففي هذا القول ولقد آتينا لقمان الحكمة عدة دروس مهمة:
الأول فيما قاله من الحكمة،
الثاني في تعهده لابنه وتربيته وتعليمه وعدم تركه لأهل السوء والجهالة يفعلون في نفسه وعقله ما يشاء،
الثالث قبل أن يعظ ابنه طبق ذلك على نفسه فرأى الابن في أبيه كل ما يقوله وينصحه به من خير ، لذلك كان لهذا التصدير ملمح تربوي مهم وهو توجيه الوعاظ والمرشدين والناصحين والآباء أن يبدؤوا بأنفسهم فإن ذلك من الحكمة وإلا سقطت جميع أقوالهم.
التعهد بالنصح مع حسن اختيار الوقت
(وَهُوَ يَعِظُهُ)
نحن نعرف أنه يعظه ويتضح أنه وعظ من خلال الآيات والأوامر وسياق الكلام، فلماذا قال (وَهُوَ يَعِظُهُ)
فيها دلالتان:
1. من حيث اللغة: الحال والاستئناس للدلالة على الاستمرار. وهو يعظه اختار الوقت المناسب للوعظ ، ليس كلاما طارئا يفعله هكذا، أو في وقت لا يكون الابن فيه مهيأ للتلقي، ولا يلقيه بغير اهتمام فلا تبلغ الوصية عند ذلك مبلغا لكنه جاء به في وقت مناسب للوعظ فيلقي ونفسه مهيأة لقبول الكلام فهو إذن اختار الوقت المناسب للوعظ والتوجيه
2. والأمر الثاني (وَهُوَ يَعِظُهُ). فهذا من شأن لقمان أن يعظ ابنه، هو لا يتركه، وليست هذه هي المرة الأولى، هو من شأنه ألا يترك ابنه بل يتعاهده دائما، وهكذا ينبغي أن يكون المربي.
فكل كلمة فيها توجيه تربوي للمربين والواعظين والناصحين والآباء.
الرفق في الموعظة
(يا بني)
كلمة تصغير للتحبيب، أي ابدأ بالكلام اللين اللطيف الهين للابن وليس بالتعنيف والزجر. بل بحنان ورِقّة لأن الكلمة الطيبة الهينة اللينة تفتح القلوب المقفلة وتلين النفوس العصية، عكس الكلمة الشديدة المنفرة التي تقفل النفوس . لذلك قال ربنا لموسى عن فرعون: “فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى 44” طـه .
وأنت أيها الأب إن أجلست ولدك إلى جانبك ووضعت يدك على رأسه وكتفه، وقلت له يا بني ، فتأكد أن هذه الكلمة بل هذه الحركة من المسح تؤثر أضعاف الكلام الذي تقوله ، وتؤثر في نفسه أكثر بكثير من كل كلام تقوله وتزيل أي شيء بينك وبينه من حجاب وتفتح قلبه للقبول. وعندها فهو إن أراد أن يخالفك فهو يخجل أن يخالفك، بهذه الكلمة اللطيفة الشفيقة تزيل ما بينك وبينه من حجاب، ويكون لك كتابا مفتوحا أمامك، وعندها سيقبل كلامك والكلمة الطيبة صدقة .
لذلك بدأ بهذه الكلمة مع أنه من الممكن أن يبدأ الأب بالأمر مباشرة ولكن لها أثُرها الذي لا ينكر ولا يترك، فأراد ربنا أن يوجهنا إلى الطريقة اللطيفة الصحيحة المنتجة في تربية الأبناء وتوجيههم وإزالة الحجاب بيننا بينهم من دون تعنيف أو قسوة أو شدة، وبذلك تريح نفسه وتزيل كل حجاب بينك وبينه ونحن في حياتنا اليومية نعلم أن كلمة واحدة قد تؤدي إلى أضعاف ما فيها من السوء، وكلمة أخرى تهون الأمور العظيمة وتجعلها يسيرة.
ولقد تعلمت درسا في هذه الحياة قلته لابني مرة وقد اشتد في أمر من الأمور في موقف ما، وأنا أتجاوز الستين بكثير، وكان الموقف شديدا جدا، وقد فعل فعلته في جهة ما وخُبّرت بذلك فجئت به ووضعته إلى جنبي وقلت له: يا فلان تعلمت من الحياة درسا أحب أن تتعلمه وهو أنه بالكلمة الشديدة القاهرة ربما لا أستطيع أن أحصل على حقي ولكن تعلمت أنه بالكلمة الهينة اللينة آخذ أكثر من حقي.
أس الوصية
(يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم((13))
لم يبدأ بالعبادة ولم يقل له اعبد الله وإنما بدأ بالنهي عن الشرك، وذلك لما يلي:
أولا: التوحيد أس الأمور، ولا تقبل عبادة مع الشرك، فالتوحيد أهم شيء.
ثانيا: العبادة تلي التوحيد وعدم الشرك فهي أخص منه. التوحيد تعلمه الصغير والكبير، فالمعتقدات تُتعلم في الصغر وما تعلم في الصغر فمن الصعب فيما بعد أن تجتثه من نفسه ، ولن يترك ما تعلمه حتى لو كان أستاذا جامعيا في أرقى الجامعات، هذا ما شهدناه وعايناه بأنفسنا فهذا الأمر يكون للصغير والكبير ، تعلمه لابنك وهو صغير، ويحتاجه وهو كبير، أما العبادة فتكون بعد التكليف.
ثالثا : أمر آخر أنه أيسر، فالأمر بعدم الشرك (أي بالتوحيد) هو أيسر من التكليف بالعبادة، العبادة ثقيلة ولذلك نرى كثيرا من الناس موحدين ولكنهم يقصرون بالعبادة، فبدأ بما هو أعم وأيسر؛ أعم لأنه يشمل الصغير والكبير، وأيسر في الأداء والتكليف.
ثم قال (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)
لماذا اختار الظلم؟ لماذا لم يختر : إثم عظيم، ولماذا لم يقل كبير؟
لو تقدم شخصان إلى وظيفة أحدهما يعلم أمر الوظيفة ودقائقها وأمورها وحدودها، ويعبر عن ذلك بأسلوب واضح سهل بين، والثاني تقدم معه ولكنه لا يعلم شيئا ولا يحسنها وهو فيه عبء، وعنده قصور فهم وإدراك، فإن سوينا بينهما أفليس ذلك ظلما؟
ولو تقدم اثنان للدراسات العليا وأحدهما يعرف الأمور بدقة ويجيب على كل شيء، وله أسلوب فصيح بليغ لطيف، وآخر لا يعلم شيئا ولا يفقه شيئا ولم يجب عن سؤال ولا يحسن أن يبين عن نفسه، فإن سويت بينهما أفليس ذلك ظلما؟
والفرق بين الله وبين المعبود الآخر أكبر بكثير، ليست هناك نسبة بين الخالق والمخلوق، بين مولي النعمة ومن ليس له نعمة، فإن كان ذاك الظلم لا نرضى به في حياتنا اليومية فكيف نرضى فيما هو أعظم منه فهذا إذن ظلم، وهو ظلم عظيم.
والإنسان المشرك يحط من قدر نفسه لأن الآلهة التي يعبدها تكون أحط منه، وقصارى الأمر أن تكون مثله، فهو يعبد من هو أدنى منه، أو بمنزلته، فهذا حط وظلم للنفس بالحط من قدرها، إنه ظلم لأنه يورد نفسه موارد التهلكة ويخلدها في النار وهذا ظلم عظيم.
وأمر آخر أن الإنسان بطبيعته يكره الظلم، قد يرتضيه لنفسه لكن لا يرضى أن يقع عليه ظلم ، فاختار الأمر الذي تكرهه نفوس البشر (الظلم) وإن كان المرء بنفسه ظالما.
وفي هذا القول تعليل، فهو لم يقل له: (لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) وسكت، وإنما علل له، وهذا توجيه للآباء أن يعللوا لا أن يقتصروا على الأوامر والنواهي بلا تعليل، لا بد من ذكر السبب حتى يفهم لماذا، لا بد أن يعرف حتى يقتنع فهو بهذه النهاية (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أفادنا أمورا كثيرة في التوجيه والنصح والتعليم والتربية.
عظم حق الوالدين
(وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14))
(ووصينا) من قائلها؟ هذه ليست وصية لقمان، هذا كلام الله ، لقمان لم ينه وصيته، هذه مداخلة، وستتواصل الوصية فيما بعد .قبل أن يتم الوصية قال الله (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْه)ِ ، ولم يدع لقمان يتم الوصية، بل تدخل سبحانه بهذا الكلام ، وذلك لأسباب:
أولا: أمر الوالدين أمر عظيم، والوصية بهما كذلك، فالله تعالى هو الذي تولى هذا الأمر، ولم يترك لقمان يوصي ابنه به، فلما كان شأن الوالدين عظيما تولى ربنا تعالى أمرهما، لعظم منزلتهما عند الله تعالى.
ثانيا: لو ترك لقمان يوصي ابنه يا بني أطع والديك لكان الأمر مختلفا. لأننا عادة في النصح والتوجيه ننظر للشخص الناصح هل له في هذا النصح نفع؟ فإن نصحك شخص ما فأنت تنظر هل في هذا النصح نفع يعود على الناصح؟ فإن كان فيه نفع يعود على الناصح فأنت تتريث وتفكر وتقول: قد يكون نصحني لأمر في نفسه، قد ينفعه، لو لم ينفعه لم ينصحني هذه النصيحة. لو ترك الله تعالى لقمان يوصي ابنه لكان ممكنا أن يظن الولد أن الوالد ينصحه بهذا لينتفع به، ولكن انتفت المنفعة هنا فالموصي هو الله وليست له فيه مصلحة.
وقال: (ووصينا) ، ولم يقل: وأوصينا.
والله تعالى يقول (وصّى) بالتشديد إذا كان أمر الوصية شديدا ومهماً، لذلك يستعمل وصى في أمور الدين، وفي الأمور المعنوية: (“وَوَصَّى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132” البقرة ) (“وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ 131” النساء).
أما (أوصى) فيستعملها الله تعالى في الأمور المادية : “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ” النساء.
لم ترد في القرآن أوصى في أمور الدين إلا في مكان واحد اقترنت بالأمور المادية وهو قول السيد المسيح : “وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً 31” مريم.
في غير هذه الآية لم ترد أوصى في أمور الدين، أما في هذا الموضع الوحيد فقد اقترنت الصلاة بالأمور المادية وقد قالها السيد المسيح في المهد وهو غير مكلف أصلا.
قال وصّى وأسند الوصية إلى ضمير التعظيم (ووصينا) والله تعالى ينسب الأمور إلى نفسه في الأمور المهمة وأمور الخير.
ولم يقل بأبويه بل اختار بوالديه:
الوالدان مثنى الوالد والوالدة، وهو تغليب للمذكر كعادة العرب في التغليب إذ يغلبون المذكر كالشمس والقمر يقولون عنهما (القمران).
والأبوان هما الأب والأم ولكنه أيضا بتغليب المذكر ولو غلب الوالدة لقال الوالدتين، فسواء قال بأبويه أو بوالديه فهو تغليب للمذكر، ولكن لماذا اختار الوالدين ولم يقل الأبوين؟
لو نظرنا إلى الآية لوجدناه يذكر الأم لا الأب: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)
فذكر أولا ا لحمل والفطام من الرضاع (وفصاله) ولم يذكر الأب أصلا ذكر ما يتعلق بالأم (الحمل والفصال) وبينهما الولادة والوالدان من الولادة، والولادة تقوم بها الأم. إذن:
أولا (المناسبة) فعندما ذكر الحمل والفصال ناسب ذكر الولادة.
ثانيا: ذكره بالولادة وهو عاجز ضعيف، ولولا والداه لهلك فذكره به.
ثالثا إشارة إلى انه ينبغي الإحسان إلى الأم أكثر من الأب، ومصاحبة الأم أكثر من الأب، لأن الولادة من شأن الأم وليست من شأن الأب.
لذلك فعندما قال (بوالديه) ذكر ما يتعلق في الأصل بالأم، ولذلك فهذه الناحية تقول : ينبغي الإحسان إلى الوالدة قبل الأب وأكثر من الأب. ولذلك لا تجد في القرآن الكريم البر أو الدعاء أو التوصية إلا بذكر الوالدين لا الأبوين
أمثلة :
“وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً 23” الإسراء.
” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 36″ النساء.
” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 151″ الأنعام .
وكذلك البر والدعاء والإحسان.
“رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ 41” إبراهيم.
” رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً28″ نوح.
“وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً 8” العنكبوت.
” وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً 15″ الأحقاف.
لم يرد استعمال (الأبوين) إلا مرة في المواريث، حيث نصيب الأب أكثر من نصيب الأم، أو التساوي في الأنصبة. لكن في البر والتوصية والدعاء لم يأت إلا بلفظ الوالدين إلماحا إلى أن نصيب الأم ينبغي أن يكون أكثر من نصيب الأب.
كما ان لفظ (الأبوان) قد يأتي للجدين : “وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَاقَ 6” يوسف
ويأتي لآدم وحواء: “يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ 27” الأعراف
فاختيار الوالدين له دلالات مهمة.
ثم هو هنا لم يأت بالأب أصلا بل قال ( حملته أمه وهنا ..) ولم يرد ذكر للأب أبدا، لذلك كان اختيار الوالدين انسب من كل ناحية.
قد تقول إن هذا الأمر تخلف في قصة سيدنا يوسف عندما قال: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100” يوسف فاختار الأبوين. الجواب: لم يتخلف هذا الأمر، فعندما قال رفع أبويه لم يتخلف وإنما هو على الخط نفسه، وذلك لما يلي:
أولا: في قصة يوسف لم يرد ذكر لأم مطلقا ورد ذكر الأب فهو الحزين وهو الذي ذهب بصره .. الخ ولم يرد ذكر للام أصلا في قصة يوسف.
ثانيا في هذا الاختيار أيضا تكريم للأم لأنه قال: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100” فالعادة أن يكرم الابن أبويه، ليس أن يكرم الأبوان الابن ولكن هنا هم خروا له سجدا فالتكريم هنا حصل بالعكس من الأبوين للابن ولذلك جاء بلفظ الأبوين لا الوالدين إكراما للام فلم يقل: ورفع والديه.
وفيها إلماح آخر أن العرش ينبغي أن يكون للرجال.
فلما قال أبويه هنا ففيه تكريم للأم، ويلمح أن لعرش ينبغي أن يكون للرجال ، ويناسب ما ذكر عن الأب إذ القصة كلها مع الأب، فهو الأنسب من كل ناحية.
وهنا قد يرد سؤال: إن الأم هي التي تتأثر وتتألم أكثر وتحزن فلماذا لم يرد ذكرها هنا؟ ألم تكن بمنزلة أبيه في اللوعة والحسرة؟
لا .. المسألة أمر آخر، أم يوسف ليست أم بقية الإخوة، هي أم يوسف وأخيه فقط، ولذلك فيكون كلامها حساسا مع إخوته، أما يعقوب عليه السلام فهو أبوهم جميعا، فإذا عاتبهم أو كلمهم فهو أبوهم، أما الأم فليست أمهم، فإذا تكلمت ففي الأمر حساسية، وهذا من حسن تقديرها للأمور فكتمت ما في نفسها وأخفت لوعتها حتى لا تثير هذه الحساسية في نفوسهم وهذا من حسن التقدير والأدب، فلننظر كيف يختار القرآن التعبيرات في مكانها ويعلمنا كيف نربي ونتكلم مع أبنائنا. {نظرا لانتهاء الوقت المخصص للمحاضرة فقد اضطر العالم الفاضل الأستاذ فاضل السامرائي للوقوف عند هذا الحد}.
عظم حق الوالدين
*فى إجابة للدكتور أحمد الكبيسى عن الفرق بين قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ﴿8﴾ العنكبوت) هذه كلمة (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴿15﴾ الأحقاف) هذه اثنتان ثم (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ﴿14﴾ لقمان) بدون لا حسن ولا إحسان؟
لاحظ قبل كل شيء الله ما قال وصينا المؤمنين بل وصينا الإنسان عموماً. يريد الله عز وجل أن يقول أن هذا علاقة الأبناء بالآباء وعلاقة الآباء بالأبناء هي من خصائص هذا الإنسان لا تجد هذه العلاقة بين كل الأحياء الأخرى، الحيوانات نعم هناك أمٌ تعرف أطفالها ولكن الأب لا يهتم من هو ابنه والابن لا يهتم من هو أبوه بل أن الابن لا يهتم من هي أمه وحينئذٍ الأم فقط في المخلوقات الحية هي التي تهتم بأطفالها إلى حين. من أجل هذا هذا من خصائص الإنسان احترام الأبوين وتقديرهما وتقديسهما وحسن التعامل معهما هذا من خصائص الإنسان لأن الله تعالى وصاه بذلك، رب العالمين هو الذي غرس في هذا الإنسان من جملة عناصر أنسنته عندما خرج من المملكة الحيوانية فوهبه الله سبحانه وتعالى العلم (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴿31﴾ البقرة) (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ﴿12﴾ التحريم) وحينئذٍ تأنسن الحيوان وحينئذٍ من عناصر أنسنة هذا المخلوق هو أن يكون باراً بوالديه (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ ﴿14﴾ المؤمنون). (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) أي العطاء أن تطعمه وأن تسقيه وأن تقدم حاجاته أن تقدم له حاجاته ما يحتاجه من مأكلٍ ومطعمٍ وملبس هذا الإحسان. وفي الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) هذا لا يكون بالعطاء وإنما بحسن التعامل، كيف تحترمه؟ أنت قد تعطي أباك لكنك تشتمه ولا تحترمه أو تتكلم معه بدون احترام هذا أنت أعطيته أنت بريّت به وهذا الفرق بين الحسن والبر. البِرّ أن تعطيها ما تحتاجه وأن تعطي أباك ما يحتاجه، الإحسان أن تعطيه بشكلٍ جيد هذا الفرق بين البر والإحسان. البِرّ أن توفر له حاجاته لكن قد تقدمها بشكل غير لائق فيها شيء من الغلظة أو الخشونة وقد تشتم أباك وقد تزدريه من كِبَره أو تزدري أمك لكن الإحسان أن تعطي هذين الأبوين هذا البر بشكل في غاية الدقة والأناقة والجمال من حيث أنك تكون خادماً لهما وتقريباً وبلا مبالغة ولا مباهاة 99% من هذه الأمة يتعاملون مع آبائهم وأمهاتهم عند العطاء بهذا الخضوع والذل. وهذا الذل من أعظم أنواع العز (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ﴿24﴾ الإسراء) هذا الذل هو من أعظم أنواع العز في الأرض. ولهذا ملوك الأرض والذين فتحوا البلدان والذين قاموا بأنواع من الحضارات والتحضّر أمام والديه كالعبد هذا الذل العبقري الذي هو أعلى قيمة الإنسان العظيم العزيز. هذا الإحسان، فحينئذٍ كلمة الإحسان ما يتعلق بالعطاء توفر له حاجاته لكن ليس فقط مجرد بِرّ وإنما تقدم هذا العطاء لهما بشكل لائق يدل على احترامك لهما وعلى عدم المِنّة أن لا تمنّ عليهما كأن تقول أنا أعطيتك وجئت لك الخ لا إطلاقاً وحينئذٍ وصاك الله بهما حسناً أي كيف تتكلم معهما؟ إذا جاء أبوك أو جاءت أمك تقوم بوجههما وإذا تكلمت معهما تكون في غاية الخضوع يعني انتبه إلى الحديث المتفق على صحته عن الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار مسافرون ثلاثة ودخلوا غاراً عندما جاءت عاصفة فالعاصفة جاءت بحجر ثقيل فأغلقت باب الغار ولم يستطع أحدٌ منهم أن يزحزح هذا الحجر ونفذ ما معهم من ماءٍ وطعام وأوشكوا على الهلاك فتح لله على أحدهم وقال يا جماعة تعالوا نتوسل إلى الله عز وجل بأحسن عملٍ عملناه في حياتنا وكل واحد جاء بعمل الثالث قال يا ربي أنت تعرف أن لي أم وأب وصارا كبيرين وأنا عندما أعود من العمل والعمل كان بين الإبل وبين الغنم يعني كان صاحب إبلٍ وغنم كنت آتي لهما باللبن لكي يتعشيا لكي يناما وكنت لا أعشي أطفالي إلا بعد أن أعشي والدي-وطبعاً نحن نتكلم بالمعنى وليس بلغة الحديث- لا يعشي أولاده إلا بعد أن تشرب الأم والأب هذا اللبن ثم يناما ثم يذهب ويوقظ أطفاله حتى يعشيهم، يوم من الأيام جاء وقد وجد أبويه نائمين وهو يحمل لهم غبوقهما يعني كأسين من اللبن فلما وجد الأبوين نائمين بقي يحمل هذين القدحين إلى أن استيقظا عند الفجر وهو يحمل هذين القدحين وهو واقف أمام رأسيهما وأولاده جائعون ولم يعشهم إلا بعد أن استيقظ الأبوان فقدم لهما هذا العشاء البسيط وهذا هو عشاؤهما كل يوم لا يشربان غيره وبكل أدب بكل خدمة سقاهما كما تسقي الأم المرضعة طفلها ثم عاد بعد أن صليا وعادا وذهب وأيقظ أطفاله لكي يعشيهم، هذا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) كيف تتعامل (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴿23﴾ الإسراء) ولا أفّ هذا من الحسن وليس من الإحسان. فالإحسان هو العطاء عشاء وغداء ولباس الخ هذا من الحسن (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴿15﴾ لقمان) حينئذٍ كل تصرفاتك أبداً أنت عبدٌ عندهما وكلما ازدادت عبوديتك لهما ازدادت عبوديتك لله عز وجل وكنت عبداً صالحاً عند الله سبحانه وتعالى. لأن رضى الله عز وجل من رضاهما لا يرضى الله عنك إلا إذا رضي عنك أبواك. فكلما أمعنت في الخدمة والذل لهما وخفضت لهما جناح الذل إذاً هذا هو الفرق بين الإحسان العطاء سواء كان إذا كان مجرد عطاء يسمى بِرّاً إذا كان عطاء مع هذا الاحترام والإجلال والتقديس والتكريم يسمى إحساناً إذا كان بكل يومك يعني عندما تتحدث معه بأدب تجلس بين يديه بأدب عندما يقوم تقوم عندما تستقبله تنهض للقائه إذا ناداك تقول له لبيك، بهذه العبودية التي جعلها الله جائزة للأبوين أنت قدمت لهما حُسناً هذا الفرق بين (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) وهو طعام وشراب وبين (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وهو تعامل رقيق وأنيق في غاية الذل لهما. الآية التي تقول (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) وسكتت هذا يعني الاثنين، رب العالمين أجمل هذه الحالة وهذه الحالة أجملها بآية واحدة وقال (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) لماذا؟ قال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴿14﴾ لقمان) لم يذكر فضائل الأب لأن فضائل الأب أنت تدركها وأنت كبير أبوك يبدأ دوره معك عندما تميّز قبل هذا أنت عند أمك شقاؤها وسهرها وتعبها وحملها أنت لا تدركه لم تره ولهذا ربما تذهل عن أفضال أمك عليك وأنت لا تذهل عن أفضال أبيك ولهذا رب العالمين يقتصر على فضائل الأم على أولادها. إذاً هكذا هو الحسن والفرق بين الحُسن والجمال أن الجمال شيءٌ متميز عن غيره من حيث قيمته الجمالية، الحُسن هو الجمال إذا كثر واشتد وتعمق حتى صار مبهجاً. إذاً الإحسان جمالٌ مبهج أحياناً جمال عادي هذا كأس جميل هذا بيت جميل لكن هناك جمال عندما تراه تقف وتقول سبحان الخلاق العظيم! ما هذا الجمال! إذا انبهرت بذلك وابتهجت نفسك به يسمى حسناً. من أجل هذا التاريخ ينقل لنا عن بعض الذين عاملوا أبويهم بحسنٍ مبهج عجائب. ولهذا اقصر طريقٍ إلى الجنة هو التعامل مع الوالدين بحُسن هو البِرّ ومن رحمة الله رب العالمين قال (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴿78﴾ الحج ) رب العالمين تكلم عن بر الوالدين حتى لا ييأس أحد أنت ما دمت تكفي والديك أنت بخير لكن هذا الخير يتفاوت الجنة يا جماعة مائة درجة كل درجة بينها وبين الأخرى كما بين السموات والأرض وكل درجة عن درجة في النعيم كما بين الكوخ والقصر من أجل هذا قال (فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا ﴿75﴾ طه) (وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴿21﴾ الإسراء) إذا أردت أن تدخل الجنة فبالبِرّ، وإذا أحببت أن تترقى في الدرجات العلى التي هي منازل الأنبياء والصديقين والشهداء فعليك بالإحسان أولاً ثم تنتقل إلى الحُسن، تكون في غاية الذل وأن تقدم لهم ثم في غاية الجمال والحسن المبهج لنفس الأبوين. فالأبوان عندما يرونك كيف تقبل يده كيف تقوم كيف تحترمهم يشعرون ببهجة. من أجل هذا أنت أعظم أنواع الإنسان يوم القيامة إذا جئت وأبواك راضيان عنك من حيث أنك بلغت القمة في التعامل معهما لأنك قدمت لهما ما قدمت بحسنٍ وليس بمجرد إحسان بل ترقيت من البِرّ إلى الإحسان إلى الحُسن أصبحت أنت مبهجاً لهما إلى أن ماتا بين يديك وهما في غاية البهجة حينئذٍ لا عليك ما فعلت. “ثلاثةً لا ينفع معهنّ عمل عقوق الوالدين وثلاثة لا يضرّ معهن ذنب ومنها بر الوالدين” فكيف الحسن إلى الوالدين؟! هذا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. هذه القمم يوم القيامة معدودات، عندك أصحاب الذكر، أصحاب العلم، طبعاً دعك من الأنبياء والصديقين والشهداء هؤلاء قضية أخرى أيضاً، السخاء، الحاكم العادل، قمم يوم القيامة من ضمنهم إذا لم تكن أنت بمالٍ تنفق ولا بحاكم تحكم بالعدل ولا ولا الخ فلتكن مع أبويك مبهجاً لهما بأن تتعامل معهما بحسن.
آية (14):
(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14))
*هذا كلام الله تعالى مع أن لقمان لم ينتهي بعد من الوصية فلماذا هذه المداخلة؟
أراد الله سبحانه تعالى أن يتولى الأمر بالمصاحبة بالمعروف لعظيم منزلة الأبوين عند الله. ربنا هو الذي أراد أن يأمر ويوصي بالإحسان إلى الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف وليس لقمان وهذه فيها أكثر من حالة: أولاً لو قال لقمان لو أوصى ابنه أنه أطع أبويك لتصور الابن أن الأب أراد أن يستغله ويستفيد منه ويجعله تابعاً له كما الآن عندما يقدم أحد لك نصيحة تنظر هل يستفيد هو منها أو لا؟ الذي وصى هو الله وهذا الأمر لا ينفعه ولا يفيده فإذن ربنا أراد أنه هو الذي يأمر بالإحسان إلى الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لا لقمان لعظيم منزلة الأبوين عند الله فهو الذي تولى هذا الأمر، هذا أمر والأمر الآخر حتى لا يظن ابن لقمان أن أباه هو المنتفع.
قد يسأل سائل لم يجعل لقمان ينتهي من الوصية ثم يأتي بهذه الآية؟ وضع الوصية بعد النهي عن الشرك بالله ربنا سبحانه وتعالى يضع الوصية بالوالدين بعد النهي عن الشرك أو بعد الأمر بعبادته وطاعته ولا يجعلها في آخر الوصايا. هو لا يريد أن يقول (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)) ثم يقول (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) لكنه وضعها بعد النهي عن الشرك بالله (أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (151) الأنعام) و(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (23) الإسراء) (لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) البقرة) (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (36) النساء) يضعها بعد عبادة الله تعالى وكأنها منزلة تالية بعد العبادة مباشرة الإحسان إلى الوالدين. هذه فيها إشارة إلى عظيم منزلة الأبوين عند الله كون ربنا هو الذي وصى ولم يجعل لقمان يوصي وتدخّل في مكانها بعد النهي عن الشرك تدخل ربنا وأمر وكانت وصية ربنا تعالى بالإحسان إلى الوالدين ثم لم يدع لقمان ينتهي من الكلام فتكن في آخر الكلام وإنما وضعها بعد النهي عن الشرك أو تأتي بعد الأمر بعبادته سبحانه وتعالى.
*ينزل الله تبارك وتعالى منزلة كريمة بعد عبادة الله أو النهي عن الشرك بالله لكن لِمَ الوالدين تحديداً وليس الأبوين مثلا؟
الآية فيها جوانب كثيرة: أولاً استعمل وصّى المشددة ولم يقل أوصينا وذلك للتشديد على الوصية والمبالغة فيها وصّى فيها تشديد على الوصية والمبالغة فيها. ومن الملاحظ في القرآن أنه يستعمل وصّى في أمور الدين والأمور المعنوية وأوصى في الأمور المادية. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131) النساء) ويستعمل أوصى في المواريث (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا (11) النساء) . لم ترد أوصى في الأمور المعنوية وفي أمور الدين إلا في موطن واحد اقترنت بأمر مادي عبادي وهو قوله تعالى على لسان المسيح (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) مريم) قال أوصاني لأنها اقترنت بأمر مادي وعبادي وهو الزكاة والأمر الآخر أن القائل هو غير مكلّف لذلك خفّف من الوصية لأنه الآن ليس مكلفاً لا بالصلاة ولا بالزكاة فخفف لأنه لا تكاليف عليه.
وقال (وصينا) بإسناد التوصية إلى نفسه سبحانه بضمير التعظيم وربنا في أمور الخير وفي الأمور المهمة يسند الأفعال إلى نفسه لم يقل وصيّ الإنسان وإنما قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) بإسناد الفعل إليه سبحانه بضمير التعظيم. واستمر ورجع إلى الإفراد (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) وقلنا أنه من عادة القرآن إذا ذكر ضمير التعظيم يذكر قبله أو بعده ما يدل على الإفراد (أَنِ اشْكُرْ لِي) لم يقل أن اشكر لنا.
الوالدين: هو لم يقل أبوين لأكثر من سبب: أولاً لو لاحظنا الوالدين والأبوين: الوالدين تثنية الوالد والوالدة لكن غلّب المذكر، الأبوين تثنية الأب والأم لكن غلّب الأب إذن في الحالتين غلّب المذكر الأبوين تغليب الأب وفي الوالدين تغليب الوالد. لكن لماذا اختار الوالدين؟ الولادة تقوم بها المرأة وليس الرجل أما تسمية الوالد يقول أهل اللغة على النسب والوالدة على الفعل هي التي تلد. إذن اختار لفظ الوالدين التي هي من الولادة التي تقوم بها الأم لكنه لم يختر الأبوين واختار لفظ الولادة ولم يختر لفظ الأبوة. الوالدين (الوالد والوالدة) مأخوذة من الولادة أما الأبوين فليست من الولادة من حيث اللفظ والقرآن يستعمل أبوين للجدّين (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَقَ (6) يوسف) ويستعمل أبوين لآدم وحواء (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ (27) الأعراف)
إذن هو اختار لفظ الولادة لماذا؟ جملة دواعي لسبب الاختيار: الأول لو نقرأ السياق (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ (14)) ذكر الحمل والفصال والفصال هو الفطام من الرضاعة، ماذا بين الحمل والإرضاع؟ الولادة. فهو ذكر الحمل والفصال أي الفطام من الرضاعة بينهما الولادة فاختار لفظ الوالدين. ثم فيه تذكير بولادته وهو جاء إلى الدنيا ضعيفاً عاجزاً حال ولادتك وهما أحسنا إليك وربياك يذكره بالحالة الأولى التي يكون فيها أعجز ما يكون. وفيها تعبير إحسان الصحبة إلى الأم أكثر من الأب. الولادة هي للأم وليس للأب فلما قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) فيها إشارة إلى أن إحسان الصحبة والوصية للأم أكثر من الأب وحتى شرعاً وفي الحديث (من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) أمك ثم أمك ثم أمك) الولادة تقوم بها الأم فيها إشارة إلى أن حسن الصحبة ينبغي أن تكون للأم أكثر من الأب فقال (الوالدين). وهناك خط لا يتخلف في جميع القرآن عندما يذكر الإحسان إلى الأبوين والبر بهما والدعاء لهما يذكر لفظ الوالدين ولا يذكر الأبوين لم يقل رب اغفر لي ولأبوي وإنما الوالدين (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ (28) نوح) (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ليس الأبوين (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (151) الأنعام) لم يرد مرة واحدة في القرآن في إحسان الصحبة أو البر أو الدعاء بلفظ الأبوين وإنما كله بلفظ الوالدين. ويستخدم الأبوين في المواريث ولعل ذلك لأن نصيب الأب أكبر من نصيب الأم فيغلّبه لكن الوالدين يغلّب الأم لأن الأم أولى بالدعاء وحسن الصحبة. في المواريث يذكر أبويه لأن نصيب الذكر أكثر من نصيب الأنثى. أما في يوسف قال (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا (100) يوسف) قيل هذا من باب الإكرام لهم قد يظن ظان أن هذا من باب الإكرام. لماذا لم يقل (رفع والديه)؟ هو رفع أبويه على العرش لأكثر من سبب: على الأرجح أنهما كانا أمه وأباه وهذه مسألة خلافية. أولاً لم يرد في قصة يوسف ذكر للأم وإنما ذكر الأب وهو الذي حزن وفقد بصره، لم يرد ذكر للأم في قصة يوسف حتى قال (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) يوسف) فإذن كونه لم يرد ذكر للأم معناه الأب يتغلب. هذا أمر والأمر الآخر أنه لما قال (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) هذا إكرام للأم وليس للأب هو إلماح إلى تكريم الأم فقال (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) أي عظموه والمفروض أن الابن يعظم الأبوين فلما كان فيها تعظيم الأبوين لابنهما اختار أقلّهما وهو الأبوين أقلّهما بحسن الصحبة وهذا أدل على إكرام الأم لما قال (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) هذا تعظيم والمفروض أن الابن يعظّم أبويه فلما ذكر (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا ً) لم يذكر والديه إشارة إلى تعظيم الأم ومنزلتها ثم إلماح أن العرش للأب وليس للأم.
*قال تعالى (أن اشكر لي) ولم يقل اشكر لنا مع أنه قال (ووصينا)؟
ذكرنا في الحلقة السابقة شيئاً عن هذه الآية قلنا قال (وصّينا) ولم يقل أوصينا وقلنا أسند الإيصاء إلى نفسه سبحانه للأمور المهمة قال وصّينا بضمير التعظيم وقلنا قال بوالديه ولم يقل بأبويه وذكرنا أن هذا خط عام في القرآن أن الوصية والبر والدعاء يذكر لفظ الوالدين. نلاحظ في هذه التوصية أنه ذكر الأم ولم يذكر الأب لأن الحمل والفصال هو للأم وليس للأب وهذه إشارة أنها أولى بحسن الصحبة مع أنه قال والديه وقلنا أن كلمة والديه تدل على أن الأم أولى بحسن الصحبة من الولادة وهنا قال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) ثم هو لم يقل وهناً فقط وإنما قال وهناً على وهن أي ذكر الضعف المستمر. الوهن هو الضعف يعني هو يثقل عليها دائماً وباستمرار ثم ذكر مدة الفصال ولم يذكر مدة الحمل أولاً لأن الفصال بيد المرأة تستطيع أن تفطم الرضيع متى ما تريد. حدد مدة للفصال عامين لو لم تلتزم المرأة تزيد أو تقل، بينما الحمل لم يذكر له مدة أولاً لأن الحمل ليس بيد المرأة كالفطام ثم الحمل قد يزيد وقد ينقص قد يكون مدة الحمل ستة أشهر أو سبعة أشهر أو ثمانية أشهر (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا (15) الأحقاف) وابن عباس استند من هذه الآية أن الحمل قد يكون ستة أشهر لأنه قال في آية أخرى (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) إذن بقي مدة الحمل ستة أشهر معناه يصح الحمل في ستة أشهر، قد تضع المرأة حملها في ستة أشهر. لم يذكر الحمل هنا لأنه ليس بيد المرأة الفصال بيد المرأة. هنا الوهن وصف الحمل لأن كل يوم يمر عليها يكون ثقيلاً عليها يوهنها ويضعفها وهو ليس على وتيرة واحدة كلما كبر الجنين يثقل عليها إذن هو وهن على وهن. كل المدة وهن على وهن لكنه لم يذكر كم مدة الحمل لأن المرأة لا دخل لها في مدة الحمل لكن لها دخل في مدة الرضاعة تستطيع أن تفصل الطفل من الرضاعة في أقل من عامين إذا شاءت لكن أفضل مدة للفصال في عامين كما قال القرآن الكريم.
* قال تعالى أن اشكر لي ولوالديك ولم يقل أن اشكر لنا؟
وصاه بالشكر للمنعم الأول الذي هو الله الذي أوجد من العدم وهيأ له أسباب الحياة وهياً له من يحمله ويرضعه وهو ضعيف عاجز. ثم وصاه بالشكر لوالديه. ونحن قلنا هذا خط عام في القرآن أنه إذا ذكر ضمير التعظيم يذكر قبله أو بعده ما يدل على التوحيد. (ووصينا أن اشكر لي) وصينا ضمير تعظيم، أن اشكر لي ضمير الإفراد توحيد. ما المقصود بالشكر؟ هل تقول بلسانك الحمد لله؟ ليس الشكر مطلق القول باللسان لأن الشكر عمل كما قال تعالى (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) سبأ) يعني من لم يؤد حق النعمة فليس بشاكر ولو بقي الليل والنهار يقول الحمد لله يعني من آتاه الله مالاً ولم يؤد حقه فليس بشاكر وإن شكر بلسانه، الشكر عمل ويكون معه القول. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) اشكر لي حق الله تعالى أن يقوم بتأدية نعم الله تعالى عليه عملاً وقولاً إذن (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) إشارة إلى أن الحياة لا تنتهي وأن هذه مرحلة وإشارة إلى الحياة الآخرة في (إليّ المصير) أي المرجع إذن إشارة إلى الحياة الآخرة
*ما علاقة (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) بصدر الآية؟
مآل ذلك فيما إن خالفت إليّ سيجزيك بما تعمل وبما أوصاك به ربك كأن هذه تذكير بالمآل، مآل ذلك ماذا سيكون؟ ثم قال (إليّ) بتقديم الجار والمجرور، الجملة خارج القرآن المصير إليّ، قدّم الخبر للدلالة على الحصر إليه لا إلى غيره وفي هذا نفي للشرك وإثبات للمعاد. نفي للشرك إليه حصراً لأن المصير إليه وحده، لا شريك مع الله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) نفي للشرك وإثبات للمعاد إليه حصراً. ولو قال المصير إليّ لا يفيد الحصر إذن المصير إليّ غير إليّ المصير.
*في صدر الآية نفهم أن الكلام عن غائب (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) ثم يتحول إلى المخاطب (أن اشكر لي)؟ من المخاطب؟
هو قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ) عموماً، بماذا وصاه؟ بأن اشكر لي ولوالديك، إذن الوصية هي أن اشكر لي ولوالديك. جملة (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) هذا مما يوجب الشكر لهما لأنهما أنعما عليه من حمله وإرضاعه وتعهده. أصل التركيبة ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك.
*هل في القرآن جملة اعتراضية؟ الجملة الاعتراضية مصطلح نحوي.
*هل تعني الآية أن الأب مهضوم الحق؟
لا قال بوالديه لكن أيهما أولى بحسن الصحبة؟ قال بوالديه ولم يقل بأمه وهي أولى بحسن الصحبة كما في الحديث. ذكرنا في الحلقة الماضية أن أبوين ووالدين كلاهما من حيث اللغة تغليب المذكر، الوالدان هما الوالد والوالدة تثنية الوالد والوالدة لكن غُلِّب فيها لفظ المذكر وهو الوالد والأبوان هما الأب والأم لكن غُلِّب بلفظ المذكر الذي هو الأب إذن كلاهما تغليب المذكر وهذا ورد في اللغة يقولون القمران أي الشمس والقمر لكن قلنا في الخط القرآني العام يذكر مع الوصية والدعاء البر يذكر الوالدين أما في المال فيذكر لفظ الأبوين لأن لفظ الأب له نصيبه في الميراث أكثر. الذَكَر عموماً أكثر من الإناث (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (11) النساء) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا (11) النساء). في أمور الدين والطاعات يقول يوصّي وفي غير ذلك يقول يوصي والوالدان يستعملها في البر والدعاء لهما ولم يأت في القرآن في الدعاء والبر بلفظ الأبوين وقلنا ويستعمل الأبوين للجد (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَقَ (6) يوسف) واستخدم أبويكم في الجنة لآدم وحواء (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ (27) الأعراف). وذكرنا قصة يوسف وقلنا فيها ما قلنا وهناك سؤال قد يثار في الذهن: لماذا لم تذكر أم يوسف مع أنها كانت حزينة على يوسف؟ في القصة كلها الأب هو مثار الحزن وفقد بصره ثم هناك حقيقة أن هذا من حسن التقدير لأم أم يوسف لأنها أم يوسف وأم أخيه وليست أم الأبناء الآخرين فلا تستطيع أن تواجههم بالكلام وقد يُسمعونها كلاماً لا يرضيها لأنها ليست أمهم وبمثابة الغريبة بينما هو أبوهم يستطيع أن يقرّعهم وهذا من حسن التقدير لها فقد تكتم في نفسها ولا تستطيع أن تقول.
المحاضرة التي ألقاها فضيلة العالم الأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي في جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم عام 1423 هـ الموافق 2002 م
لمحات قرآنية تربوية (نظرات بيانية في وصية لقمان لابنه)
تبدأ الوصية من قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم(13) وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19))
تلك هي الوصية وقد بدأت بذكر إتيان لقمان الحكمة
“وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ” 12
الحكمة
والحكمة هي وضع الشيء في محله قولا وعملا، أو هي توفيق العلم بالعمل، فلا بد من الأمرين معا: القول والعمل، فمن أحسن القول ولم يحسن العمل فليس بحكيم، ومن أحسن العمل ولم يحسن القول فليس بحكيم. فالحكمة لها جانبان: جانب يتعلق بالقول، وجانب يتعلق بالعمل. والحكمة خير كثير كما قال الله تعالى: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” البقرة 269.
الله تعالى مؤتي الحكمة ولذلك نلاحظ أنه تعالى قال: ” وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ”.
قال (آتينا) بإسناد الفعل إلى نفسه، ولم يقل: لقد أوتي لقمان الحكمة، بل نسب الإتيان لنفسه. والله تعالى في القرآن الكريم يسند الأمور إلى ذاته العلية في الأمور المهمة وأمور الخير، ولا ينسب الشر والسوء إلى نفسه ألبتة. قال تعالى: “وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً10” الجـن .
فعندما ذكر الشر بناه للمجهول، وعندما ذكر الخير ذكر الله تعالى نفسه. وهذا مطرد في القرآن الكريم، ونجده في نحو: “آتيناهم الكتاب” و “أوتوا الكتاب” فيقول الأولى في مقام الخير، وإن قال الثانية فهو في مقام السوء والذم. وقال تعالى: ” وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً 83″ الإسراء فعندما ذكر النعمة قال: (أنعمنا) بإسناد النعمة إلى نفسه تعالى. وعندما ذكر الشر قال: “وإذا مسه الشر” ولم يقل: إذا مسسناه بالشر. ولم ترد في القرآن مطلقا: زينا لهم سوء أعمالهم، وقد نجد: زينا لهم أعمالهم، بدون السوء، لأن الله تعالى لا ينسب السوء إلى نفسه، ولما كانت الحكمة خيرا محضا نسبها إلى نفسه.
ـ إن قيل: فقد قال في موضع: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” البقرة 269.
فالرد أنه عز وجل قد قال قبلها: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” فنسب إتيان الحكمة إلى نفسه، ثم أعادها عامة بالفعل المبني للمجهول.
مقام الشكر
ـ( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ)
لها دلالتان:
الأولى ـ أن الحكمة لما كانت تفضلا ونعمة فعليه أن يشكر النعم، كما تقول: لقد آتاك الله نعمة فاشكره عليها. والله آتاه الحكمة فعليه أن يشكره لأن النعم ينبغي أن تقابل بالشكر لموليها. (آتاك نعمة الحكمة فاشكره عليها)
الثانية ـ أن من الحكمة أن تشكر ربك، فإذا شكرت ربك زادك من نعمه “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ 7)” إبراهيم ولو قال غير هذا ، مثلا (فاشكر لله) لكان فيه ضعف، ولم يؤد هذين المعنيين. وضعف المعنى يكون لأن الله تعالى آتاه النعمة “وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ” فإن قال بعدها: (فاشكرلله ) فهذا أمر موجه لشخص آخر وهو الرسول، فيصير المعنى : آتى الله لقمان الحكمة فاشكر أنت!! كيف يكون؟ المفروض أن من أوتي الحكمة يشكر ولذلك قال: “أن اشكر لله” فجاء بأن التفسيرية ولو قال أي تعبير آخر لم يؤد هذا المعنى.
الشكر والكفر
(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12))
“يشكر” قال الشكر بلفظ المضارع ، والكفران قاله بالفعل الماضي “ومن كفر” من الناحية النحوية الشرط يجعل الماضي استقبالا ، مثال (إذا جاء نصر الله)، فكلاهما استقبال. ويبقى السؤال : لماذا اختلف زمن الفعلين فكان الشكر بالمضارع والكفر بالمشي على أن الدلالة هي للاستقبال؟
من تتبعنا للتعبير القرآني وجدنا أنه إذا جاء بعد أداة الشرط بالفعل الماضي فذلك الفعل يُفعل مرة واحدة أو قليلا، وما جاء بالفعل المضارع يتكرر فعله
مثال: ” وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا92″ النساء وبعدها قال: “وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا 93” النساء فعندما ذكر القتل الخطأ جاء بالفعل الماضي لأن هذا خطأ غير متعمد، إذن هو لا يتكرر وعندما جاء بالقتل العمد جاء بالفعل المضارع (ومن يقتل) لأنه ما دام يتعمد قتل المؤمن فكلما سنحت له الفرصة فعل. فجاء بالفعل المضارع الذي يدل على التكرار.
مثال آخر: “وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً 19” الإسراء .
فذكر الآخرة وجاء بالفعل الماضي لأن الآخرة واحدة وهي تراد. لكن عندما تحدث عن الدنيا قال: “وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ 145” آل عمران.
لأن إرادة الثواب تتكرر دائما.
كل عمل تفعله تريد الثواب، فهو إذن يتكرر والشيء المتكرر جاء به بالمضارع يشكر، فالشكر يتكرر لأن النعم لا تنتهي ” وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ 34″ إبراهيم.
فالشكر يتكرر، كلما أحدث لك نعمة وجب عليك أن تحدث له شكرا أما الكفر فهو أمر واحد حتى إن لم يتكرر، فإن كفر الإنسان بأمر ما فقد كفر، إن كفر بما يعتقد من الدين بالضرورة فقد كفر، لا ينبغي أن يكرر هذا الأمر لأنه إن أنكر شيئا من الدين بالضرورة واعتقد ذلك فقد كفر وانتهى ولا يحتاج إلى تكرار، أما الشكر فيحتاج إلى تكرار لأن النعم لا تنتهي. وفيه إشارة إلى أن الشكر ينبغي أن يتكرر وأن الكفر ينبغي أن يقطع، فخالف بينهما في التعبير فجاء بأحدهما في الزمن الحاضر الدال على التجدد والاستمرار وجاء بالآخر في الزمن الماضي الذي ينبغي أن ينتهي.
الله غني حميد
(فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12))
جاء بإنما التي تفيد الحصر، أي الشكر لا يفيد إلا صاحبه ولا ينفع الله ولا يفيد إلا صاحبه حصرا أما الله فلا ينفعه شكر ولا تضره معصية
( يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر )
لذلك قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)
جمع بين هاتين الصفتين الجليلتين الحميد أي المحمود على وجه الدوام والثبوت وهو تعالى غني محمود في غناه
ـ قد يكون الشخص غنيا غير محمود
ـ أو محمودا غير غني
ـ أو محمودا وهو ليس غنيا بعد، فإن اغتنى انقلب لأن المال قد يغير الأشخاص وقد يغير النفوس كما أن الفقر قد يغير النفوس
ـ وقد يكون الشخص غنيا وغير محمود لأنه لا ينفع في غناه، ولا يؤدي حق الله عليه ولا يفيد الآخرين، بل قد يجر المصالح لنفسه على غناه
ـ وقد يكون محمودا غير غني، ولو كان غنيا لما كان محمودا، فإن اجتمع الأمران فكان غنيا محمودا فذلك منتهى الكمال
وفي آية أخرى في السورة نفسها قال: ” لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
نقول: فلان غني أي هو من جملة الأغنياء، وقد يكون ملكا معه أغنياء فإذا قلت هو الغني فكأن الآخرين ليسوا شيئا بالنسبة إلى غناه وهو صاحب الغنى وحده.
فلماذا قال ها هنا فإن الله غني حميد وهناك في السورة نفسها هو الغني الحميد؟
نلاحظ أن في هذه الآية لم يذكر له ملكا ولا شيئا وهذا حتى في حياتنا اليومية نستعمله نقول أنا غني عنك كما قال الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في جو وفي غنى غير أني لست ذا مال
فقد تقول: أنا غني عنك، ولكن ليس بالضرورة أن تكون ذا ثروة ومال فهنا لم يذكر الله سبحانه لنفسه ملكا المعنى أن الله غني عن الشكر وعن الكفر لا ينفعه شكر ولا يضره كفر.
أما في الآية الأخرى فقد ذكر له ملكا ” لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
فعندما ذكر له ملك السموات والأرض المتسع ، فمن أغنى منه؟ فقال (هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
أهمية الحكمة في الوعظ
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13))
من هنا بدأت الوصية، فلماذا صدر بقوله: “ولقد آتينا..” وكان يمكن مثلا أن يحذفها؟
الحكمة لها جانبان : جانب قولي وجانب عملي، وحكمة لقمان ليست فيما ذكره من أحاديث وأقوال وما قاله لابنه من الوصية، وإنما أيضا في العمل الذي فعله وهو تعهده لابنه وعدم تركه بلا وعظ أو إرشاد، وفي هذا توجيه للآباء أن يتعهدوا أبناءهم ولا يتركوهم لمعلمي سوء ولا للطرقات.
وصدّر بالحكمة وهي ذات جانبين قولي وعملي لأمر آخر مهم، فعندما وصى ابنه فهل من الحكمة أن يوصي ابنه بشيء ويخالفه؟ هذا ليس من الحكمة ولو فعله فلن تنفع وصيته، لو خالف الوعظ عمل الواعظ والموجه لم تنفع الوصية بل لا بد أن يطبق ذلك على نفسه، فعندما قال آتينا لقمان الحكمة علمنا من هذا أن كل ما قاله لقمان لابنه فقد طبقه على نفسه أولا حتى يكون كلامه مؤثرا لذلك كان لهذا التصدير دور مهم في التربية والتوجيه.
ففي هذا القول ولقد آتينا لقمان الحكمة عدة دروس مهمة:
الأول فيما قاله من الحكمة،
الثاني في تعهده لابنه وتربيته وتعليمه وعدم تركه لأهل السوء والجهالة يفعلون في نفسه وعقله ما يشاء،
الثالث قبل أن يعظ ابنه طبق ذلك على نفسه فرأى الابن في أبيه كل ما يقوله وينصحه به من خير ، لذلك كان لهذا التصدير ملمح تربوي مهم وهو توجيه الوعاظ والمرشدين والناصحين والآباء أن يبدؤوا بأنفسهم فإن ذلك من الحكمة وإلا سقطت جميع أقوالهم.
التعهد بالنصح مع حسن اختيار الوقت
(وَهُوَ يَعِظُهُ)
نحن نعرف أنه يعظه ويتضح أنه وعظ من خلال الآيات والأوامر وسياق الكلام، فلماذا قال (وَهُوَ يَعِظُهُ)
فيها دلالتان:
1. من حيث اللغة: الحال والاستئناس للدلالة على الاستمرار. وهو يعظه اختار الوقت المناسب للوعظ ، ليس كلاما طارئا يفعله هكذا، أو في وقت لا يكون الابن فيه مهيأ للتلقي، ولا يلقيه بغير اهتمام فلا تبلغ الوصية عند ذلك مبلغا لكنه جاء به في وقت مناسب للوعظ فيلقي ونفسه مهيأة لقبول الكلام فهو إذن اختار الوقت المناسب للوعظ والتوجيه
2. والأمر الثاني (وَهُوَ يَعِظُهُ). فهذا من شأن لقمان أن يعظ ابنه، هو لا يتركه، وليست هذه هي المرة الأولى، هو من شأنه ألا يترك ابنه بل يتعاهده دائما، وهكذا ينبغي أن يكون المربي.
فكل كلمة فيها توجيه تربوي للمربين والواعظين والناصحين والآباء.
الرفق في الموعظة
(يا بني)
كلمة تصغير للتحبيب، أي ابدأ بالكلام اللين اللطيف الهين للابن وليس بالتعنيف والزجر. بل بحنان ورِقّة لأن الكلمة الطيبة الهينة اللينة تفتح القلوب المقفلة وتلين النفوس العصية، عكس الكلمة الشديدة المنفرة التي تقفل النفوس . لذلك قال ربنا لموسى عن فرعون: “فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى 44” طـه .
وأنت أيها الأب إن أجلست ولدك إلى جانبك ووضعت يدك على رأسه وكتفه، وقلت له يا بني ، فتأكد أن هذه الكلمة بل هذه الحركة من المسح تؤثر أضعاف الكلام الذي تقوله ، وتؤثر في نفسه أكثر بكثير من كل كلام تقوله وتزيل أي شيء بينك وبينه من حجاب وتفتح قلبه للقبول. وعندها فهو إن أراد أن يخالفك فهو يخجل أن يخالفك، بهذه الكلمة اللطيفة الشفيقة تزيل ما بينك وبينه من حجاب، ويكون لك كتابا مفتوحا أمامك، وعندها سيقبل كلامك والكلمة الطيبة صدقة .
لذلك بدأ بهذه الكلمة مع أنه من الممكن أن يبدأ الأب بالأمر مباشرة ولكن لها أثُرها الذي لا ينكر ولا يترك، فأراد ربنا أن يوجهنا إلى الطريقة اللطيفة الصحيحة المنتجة في تربية الأبناء وتوجيههم وإزالة الحجاب بيننا بينهم من دون تعنيف أو قسوة أو شدة، وبذلك تريح نفسه وتزيل كل حجاب بينك وبينه ونحن في حياتنا اليومية نعلم أن كلمة واحدة قد تؤدي إلى أضعاف ما فيها من السوء، وكلمة أخرى تهون الأمور العظيمة وتجعلها يسيرة.
ولقد تعلمت درسا في هذه الحياة قلته لابني مرة وقد اشتد في أمر من الأمور في موقف ما، وأنا أتجاوز الستين بكثير، وكان الموقف شديدا جدا، وقد فعل فعلته في جهة ما وخُبّرت بذلك فجئت به ووضعته إلى جنبي وقلت له: يا فلان تعلمت من الحياة درسا أحب أن تتعلمه وهو أنه بالكلمة الشديدة القاهرة ربما لا أستطيع أن أحصل على حقي ولكن تعلمت أنه بالكلمة الهينة اللينة آخذ أكثر من حقي.
أس الوصية
(يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم((13))
لم يبدأ بالعبادة ولم يقل له اعبد الله وإنما بدأ بالنهي عن الشرك، وذلك لما يلي:
أولا: التوحيد أس الأمور، ولا تقبل عبادة مع الشرك، فالتوحيد أهم شيء.
ثانيا: العبادة تلي التوحيد وعدم الشرك فهي أخص منه. التوحيد تعلمه الصغير والكبير، فالمعتقدات تُتعلم في الصغر وما تعلم في الصغر فمن الصعب فيما بعد أن تجتثه من نفسه ، ولن يترك ما تعلمه حتى لو كان أستاذا جامعيا في أرقى الجامعات، هذا ما شهدناه وعايناه بأنفسنا فهذا الأمر يكون للصغير والكبير ، تعلمه لابنك وهو صغير، ويحتاجه وهو كبير، أما العبادة فتكون بعد التكليف.
ثالثا : أمر آخر أنه أيسر، فالأمر بعدم الشرك (أي بالتوحيد) هو أيسر من التكليف بالعبادة، العبادة ثقيلة ولذلك نرى كثيرا من الناس موحدين ولكنهم يقصرون بالعبادة، فبدأ بما هو أعم وأيسر؛ أعم لأنه يشمل الصغير والكبير، وأيسر في الأداء والتكليف.
ثم قال (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)
لماذا اختار الظلم؟ لماذا لم يختر : إثم عظيم، ولماذا لم يقل كبير؟
لو تقدم شخصان إلى وظيفة أحدهما يعلم أمر الوظيفة ودقائقها وأمورها وحدودها، ويعبر عن ذلك بأسلوب واضح سهل بين، والثاني تقدم معه ولكنه لا يعلم شيئا ولا يحسنها وهو فيه عبء، وعنده قصور فهم وإدراك، فإن سوينا بينهما أفليس ذلك ظلما؟
ولو تقدم اثنان للدراسات العليا وأحدهما يعرف الأمور بدقة ويجيب على كل شيء، وله أسلوب فصيح بليغ لطيف، وآخر لا يعلم شيئا ولا يفقه شيئا ولم يجب عن سؤال ولا يحسن أن يبين عن نفسه، فإن سويت بينهما أفليس ذلك ظلما؟
والفرق بين الله وبين المعبود الآخر أكبر بكثير، ليست هناك نسبة بين الخالق والمخلوق، بين مولي النعمة ومن ليس له نعمة، فإن كان ذاك الظلم لا نرضى به في حياتنا اليومية فكيف نرضى فيما هو أعظم منه فهذا إذن ظلم، وهو ظلم عظيم.
والإنسان المشرك يحط من قدر نفسه لأن الآلهة التي يعبدها تكون أحط منه، وقصارى الأمر أن تكون مثله، فهو يعبد من هو أدنى منه، أو بمنزلته، فهذا حط وظلم للنفس بالحط من قدرها، إنه ظلم لأنه يورد نفسه موارد التهلكة ويخلدها في النار وهذا ظلم عظيم.
وأمر آخر أن الإنسان بطبيعته يكره الظلم، قد يرتضيه لنفسه لكن لا يرضى أن يقع عليه ظلم ، فاختار الأمر الذي تكرهه نفوس البشر (الظلم) وإن كان المرء بنفسه ظالما.
وفي هذا القول تعليل، فهو لم يقل له: (لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) وسكت، وإنما علل له، وهذا توجيه للآباء أن يعللوا لا أن يقتصروا على الأوامر والنواهي بلا تعليل، لا بد من ذكر السبب حتى يفهم لماذا، لا بد أن يعرف حتى يقتنع فهو بهذه النهاية (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أفادنا أمورا كثيرة في التوجيه والنصح والتعليم والتربية.
عظم حق الوالدين
(وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14))
(ووصينا) من قائلها؟ هذه ليست وصية لقمان، هذا كلام الله ، لقمان لم ينه وصيته، هذه مداخلة، وستتواصل الوصية فيما بعد .قبل أن يتم الوصية قال الله (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْه)ِ ، ولم يدع لقمان يتم الوصية، بل تدخل سبحانه بهذا الكلام ، وذلك لأسباب:
أولا: أمر الوالدين أمر عظيم، والوصية بهما كذلك، فالله تعالى هو الذي تولى هذا الأمر، ولم يترك لقمان يوصي ابنه به، فلما كان شأن الوالدين عظيما تولى ربنا تعالى أمرهما، لعظم منزلتهما عند الله تعالى.
ثانيا: لو ترك لقمان يوصي ابنه يا بني أطع والديك لكان الأمر مختلفا. لأننا عادة في النصح والتوجيه ننظر للشخص الناصح هل له في هذا النصح نفع؟ فإن نصحك شخص ما فأنت تنظر هل في هذا النصح نفع يعود على الناصح؟ فإن كان فيه نفع يعود على الناصح فأنت تتريث وتفكر وتقول: قد يكون نصحني لأمر في نفسه، قد ينفعه، لو لم ينفعه لم ينصحني هذه النصيحة. لو ترك الله تعالى لقمان يوصي ابنه لكان ممكنا أن يظن الولد أن الوالد ينصحه بهذا لينتفع به، ولكن انتفت المنفعة هنا فالموصي هو الله وليست له فيه مصلحة.
وقال: (ووصينا) ، ولم يقل: وأوصينا.
والله تعالى يقول (وصّى) بالتشديد إذا كان أمر الوصية شديدا ومهماً، لذلك يستعمل وصى في أمور الدين، وفي الأمور المعنوية: (“وَوَصَّى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132” البقرة ) (“وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ 131” النساء).
أما (أوصى) فيستعملها الله تعالى في الأمور المادية : “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ” النساء.
لم ترد في القرآن أوصى في أمور الدين إلا في مكان واحد اقترنت بالأمور المادية وهو قول السيد المسيح : “وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً 31” مريم.
في غير هذه الآية لم ترد أوصى في أمور الدين، أما في هذا الموضع الوحيد فقد اقترنت الصلاة بالأمور المادية وقد قالها السيد المسيح في المهد وهو غير مكلف أصلا.
قال وصّى وأسند الوصية إلى ضمير التعظيم (ووصينا) والله تعالى ينسب الأمور إلى نفسه في الأمور المهمة وأمور الخير.
ولم يقل بأبويه بل اختار بوالديه:
الوالدان مثنى الوالد والوالدة، وهو تغليب للمذكر كعادة العرب في التغليب إذ يغلبون المذكر كالشمس والقمر يقولون عنهما (القمران).
والأبوان هما الأب والأم ولكنه أيضا بتغليب المذكر ولو غلب الوالدة لقال الوالدتين، فسواء قال بأبويه أو بوالديه فهو تغليب للمذكر، ولكن لماذا اختار الوالدين ولم يقل الأبوين؟
لو نظرنا إلى الآية لوجدناه يذكر الأم لا الأب: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)
فذكر أولا ا لحمل والفطام من الرضاع (وفصاله) ولم يذكر الأب أصلا ذكر ما يتعلق بالأم (الحمل والفصال) وبينهما الولادة والوالدان من الولادة، والولادة تقوم بها الأم. إذن:
أولا (المناسبة) فعندما ذكر الحمل والفصال ناسب ذكر الولادة.
ثانيا: ذكره بالولادة وهو عاجز ضعيف، ولولا والداه لهلك فذكره به.
ثالثا إشارة إلى انه ينبغي الإحسان إلى الأم أكثر من الأب، ومصاحبة الأم أكثر من الأب، لأن الولادة من شأن الأم وليست من شأن الأب.
لذلك فعندما قال (بوالديه) ذكر ما يتعلق في الأصل بالأم، ولذلك فهذه الناحية تقول : ينبغي الإحسان إلى الوالدة قبل الأب وأكثر من الأب. ولذلك لا تجد في القرآن الكريم البر أو الدعاء أو التوصية إلا بذكر الوالدين لا الأبوين
أمثلة :
“وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً 23” الإسراء.
” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 36″ النساء.
” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 151″ الأنعام .
وكذلك البر والدعاء والإحسان.
“رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ 41” إبراهيم.
” رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً28″ نوح.
“وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً 8” العنكبوت.
” وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً 15″ الأحقاف.
لم يرد استعمال (الأبوين) إلا مرة في المواريث، حيث نصيب الأب أكثر من نصيب الأم، أو التساوي في الأنصبة. لكن في البر والتوصية والدعاء لم يأت إلا بلفظ الوالدين إلماحا إلى أن نصيب الأم ينبغي أن يكون أكثر من نصيب الأب.
كما ان لفظ (الأبوان) قد يأتي للجدين : “وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَاقَ 6” يوسف
ويأتي لآدم وحواء: “يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ 27” الأعراف
فاختيار الوالدين له دلالات مهمة.
ثم هو هنا لم يأت بالأب أصلا بل قال ( حملته أمه وهنا ..) ولم يرد ذكر للأب أبدا، لذلك كان اختيار الوالدين انسب من كل ناحية.
قد تقول إن هذا الأمر تخلف في قصة سيدنا يوسف عندما قال: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100” يوسف فاختار الأبوين. الجواب: لم يتخلف هذا الأمر، فعندما قال رفع أبويه لم يتخلف وإنما هو على الخط نفسه، وذلك لما يلي:
أولا: في قصة يوسف لم يرد ذكر لأم مطلقا ورد ذكر الأب فهو الحزين وهو الذي ذهب بصره .. الخ ولم يرد ذكر للام أصلا في قصة يوسف.
ثانيا في هذا الاختيار أيضا تكريم للأم لأنه قال: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100” فالعادة أن يكرم الابن أبويه، ليس أن يكرم الأبوان الابن ولكن هنا هم خروا له سجدا فالتكريم هنا حصل بالعكس من الأبوين للابن ولذلك جاء بلفظ الأبوين لا الوالدين إكراما للام فلم يقل: ورفع والديه.
وفيها إلماح آخر أن العرش ينبغي أن يكون للرجال.
فلما قال أبويه هنا ففيه تكريم للأم، ويلمح أن لعرش ينبغي أن يكون للرجال ، ويناسب ما ذكر عن الأب إذ القصة كلها مع الأب، فهو الأنسب من كل ناحية.
وهنا قد يرد سؤال: إن الأم هي التي تتأثر وتتألم أكثر وتحزن فلماذا لم يرد ذكرها هنا؟ ألم تكن بمنزلة أبيه في اللوعة والحسرة؟
لا .. المسألة أمر آخر، أم يوسف ليست أم بقية الإخوة، هي أم يوسف وأخيه فقط، ولذلك فيكون كلامها حساسا مع إخوته، أما يعقوب عليه السلام فهو أبوهم جميعا، فإذا عاتبهم أو كلمهم فهو أبوهم، أما الأم فليست أمهم، فإذا تكلمت ففي الأمر حساسية، وهذا من حسن تقديرها للأمور فكتمت ما في نفسها وأخفت لوعتها حتى لا تثير هذه الحساسية في نفوسهم وهذا من حسن التقدير والأدب، فلننظر كيف يختار القرآن التعبيرات في مكانها ويعلمنا كيف نربي ونتكلم مع أبنائنا. {نظرا لانتهاء الوقت المخصص للمحاضرة فقد اضطر العالم الفاضل الأستاذ فاضل السامرائي للوقوف عند هذا الحد}.
آية (15):
(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15))
فكرة عامة عن الآية: جاهداك أي بذلا جهدهما على أن تشرك بالله، إذا بذلا جهدهما وحاولا على أن تشرك بالله فلا تطعهما. ثم قال (بي) مقام توحيد هذا لأن هذا موطن التوحيد نفي الشك والقرآن لا يستعمل في مثل هذا إلا مقام الإفراد. في مقام التوحيد ونفي الشرك لا يستعمل إلا ضمير المفرد (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا (15) طه) في القرآن كله في كل مواطن التوحيد يذكر ضمير الإفراد، قال (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي) (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أبطل الشك من جميع نواحيه وأقسامه. المعلومات على قسمين إما أن يعلم الإنسان أن هذا لا يصلح أن يكون شريكاً لله إما أن يعلم أو لا يعلم. كل ما في الوجود الإنسان أحد أمرين إما أن يعلم أن هذا يكون شريكاً أو لا يكون فإن علِم أنه لا يصح أن يكون شريكاً يكون علِم بقي النفي عما لا يعلم.. كل ما في الوجود بالنسبة للإنسان أحد أمرين إما يعلم أو لا يعلم، إما أن يعلم أن هذا لا يصلح أن يكون شريكاً لله أو لا يعلم بذلك. الذي لا يعلم يعلمه وبقي الذي لا يعلم فقال (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) تعود على الذي يريد أن يشركه بالله وهو لا يعلم. إذا كنت تعلم أن هذا ليس لا يصلح فأنت تعلم بقي الذي لا يعلم (فلا تطعهما) الذي حصل أنه نهاه عن كل الشرك وكل أقسامه ما علِم وما لم يعلم. إذا نفى ما ليس له به علم فالمنطق أن يكون نفى الذي له به علم لأنه يعرفه. (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (ما) هنا مفعول به للفعل تشرك، الذي تعرفه إشراك، الذي تعرفه أنه لا يصلح فأنت تعرفه. إن جاهداك على الشرك فلا تطعهما. (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) الدنيا يحملها المفسرون على أمرين إما في الحياة الدنيا لأن هذه المصاحبة ستنتهي ستكون في الدنيا ثم ستنتهي ويفترقان في الآخرة وإنما المصاحبة في أمور الدنيا لا في أمور الدين يعني أمور الدين لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. في أمور الدين لا تطعهما بينما في أمور الدنيا قد تطيعهما، صاحبهما في أمور الدنيا لا في أمور الدين. إما في الحياة الدنيا أي ما داما على قيد الحياة فصاحبهما معروفا إلى أن يقضي الله بينهما وتفترقا المقصود تصاحبهما في أمور الدنيا ولا يعارض ذلك الدين أما إذا الأمر تعلق بالدين فلا تطعهما. إذن هي صاحبهما في الدنيا معروفاً لها حالتين: في الدنيا كلها أو في أمور الدنيا.
*حينما يتحدث الله تعالى عن العلاقة بين الأفراد والمعاشرات يقول (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (2) الطلاق) وهنا قال (معروفاً) لم يقل بمعروف فلماذا؟
هذا التعبير تدل على عظيم منزلة الأبوين عند الله يعني تصاحبهما في الدنيا مصاحبة هي المعروف بعينه. صحاباً معروفاً يعني ليست مصاحبة للمعروف. لو قال صاحبهما بمعروف يعني أن تكون المصاحبة مع المعروف والباء للإلصاق أو قد تكون للمعية أي مصاحبة للمعروف وليست هي المعروف كله وإنما مصاحبة للمعروف لما قال تعالى (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (231) البقرة) مصاحبة الزوج للزوجة تختلف فأنت تستطيع أن تنهر زوجتك أو ترفع صوتك عليها أو تعضلها أو تضربها أما مع الأبوين فلا يمكن أن يحصل شيء من هذا. قد تصاحب المرأة بمعروف لكن مع هذه المصاحبة بالمعروف قد تنهرها وتزجرها وتؤدبها لكن لا يمكن أن يكون هذا مع الوالدين. إذن هذه معروف وليست بمعروف، صاحبهما مصاحبة هي المعروف بعينه. (معروفاً) تُعرَب مفعولاً مطلق، هو في الأصل وصف للمصدر صِحاباً معروفاً، صاحب فاعل مصدر فاعل فعال ومفاعلة مثل قاتل القتال والمقاتلة، جاهد الجهاد والمجاهدة.
*في سورة العنكبوت قال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)) وفي الأحقاف (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا (15)) ولكن هنا قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فما اللمسة البيانية في اختيار حُسناً وإحساناً؟
ذكر ربنا سبحانه وتعالى في سورة لقمان قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لم يرد مثل هذا التعبير في آيتي العنكبوت أو في الأحقاف لم يقل وصاحبهما في الدنيا معروفا وإنما ورد التعبير بأسلوب وتعبير آخر. في العنكبوت قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وفي الأحقاف قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) في لقمان قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) ما قال لا حُسناً ولا إحساناً ولكن ذكر المصاحبة بدل الحسن والإحسان ذكر المصاحبة (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لم يذكر المصاحبة في آيتي العنكبوت والأحقاف وكل تعبير هو في مكانه أنسب ومناسب للسياق. هو قوله (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لا شك هو أنسب مع السياق لأن السياق في المصاحبات مصاحبة الابن لابنه وكيف وجهه وكيف ينبغي أن يصاحب الابن لأبويه وعلّمه مصاحبة الآخرين في المجتمع أن لا يصعِّر خدّه وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هذه كلها في المصاحبات، فالسياق في لقمان في آداب المصاحبات الأب مع ابنه ينبغي أن يوجهه ويعلمه وأن لا يتركه والابن مع والديه كيف ينبغي أن يتعامل ثم الشخص مع عموم المجتمع كيف ينبغي أن يتعامل في المجتمع مع الآخرين لم يرد مثل هذا السياق لا في الأحقاف ولا في العنكبوت. إذن (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) هو أنسب مع سياق المصاحبة.
لماذا قال حسنا وإحساناً؟ في لقمان ذكر أن افتراض أبويه يجاهدانه على أن يشرك بالله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) إذن افتراض أن أبويه يجاهدانه على الشرك بالله فطلب المصاحبة بالمعروف. في العنكبوت أيضاً قال (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تطعهما) فلماذا قال حسناً في آية العنكبوت؟ مثلما قال في لقمان (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) في العنكبوت قال أيضاً (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تطعهما) فما الفرق؟ المجاهدة في لقمان أشد على الشرك (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي) وفي العنكبوت قال (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي) وجاهداك على أن تشرك بي أشد حملاً على المجاهدة وأقوى من جاهداك لتشرك (اللام للتعليل) و(على) فيها معنى الحمل والشدة. مثال: لما تقول أنفقتُ عليه لينجح وأنفقتُ عليه على أن ينجح (هذا شرط الإنفاق) وأما الأولى (لينجح هذه لام التعليل)، زوّجتك ابنتي لتعينني (هذه لام التعليل) وزوّجتك ابنتي على أن تعينني (هذا شرط) فيه اشتراط، (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (27) القصص) هذا شرط وفيها اشتراط. فإذن (على أن تشرك بي) المجاهدة فيها أشد من (لتشرك بي). مع الشدة الأقل قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) ومع الشدة الأكثر قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) وفي العنكبوت لم يقل صاحبهما في الدنيا معروفا، إذن قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) هذا مع الجهاد الشديد ولم يقل حسناً. السياق في المصاحبات قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) وفي العنكبوت ليس السياق في المصاحبات فقط الوصية والمجاهدة أقل ولهذا حدد الوصية بـ(حسنا). في لقمان قال (بوالديه) هذا معناه العموم والإطلاق. فلما كان في العنكبوت الجهاد أقل قال حُسناً لكن لم يذكر المصاحبة بالمعروف وفي الجهاد الأشد قال (بوالديه) لم يذكر حُسناً وإنما ذكر المصاحبة بالمعروف في سورة لقمان. في لقمان ما ذكر حُسناً ولا إحساناً ولكن ذكر المصاحبة بالمعروف مع الجهاد بشدة ومع الجهاد الأقل في العنكبوت قال (حُسناً) ولم يذكر المصاحبة لأن السياق في العنكبوت في الحسن من الأعمال. في العنكبوت قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وفي الأحقاف قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) حتى التعبير (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) كيف قال وصاحبهما في الدنيا معروفا ولم يقل بمعروف لأنه أراد أن المصاحبة هي المعروف بعينه وهنا لما قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) يعني الوصية هي الحُسن بعينه لم يقل بالحُسن ولم يقل وصيناه بشيء حسن وإنما جاء بالمصدر (حُسناً). الإتيان بالمصدر له دلالة بيانية أن الوصف أو الإتيان أو الإخبار أو الحال بالمصدر يدل على المبالغة لذلك ليست عندهم قياس (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (18) يوسف) كذب مصدر أي هو الكذب بعينه. ومحتمل في غير القرآن أن يقال بدم كاذب أو بالكذب كما يقال هذا رجل زور وهذا رجل صوم وهذا رجل عدل، تقول هذا رجل صائم أي قد يكون صام يوماً أما لو قلنا هذا رجل صوم لا تقال إلا إذا كان الصوم عادة طاغية ظاهرة عنده وهذا يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والجمع لفظاً واحداً لأنه مصدر يقال رجال صوم ونساء صوم ورجل صوم وامرأة صوم. المصدر (ووصفوا بمصدرٍ كثيراً فالتزموا الإفراد والتذكير). هذا من المبالغة يعني المعاملة في الوصية هي الحُسن بعينه (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) ليس فيها حُسن وليست حسنة جيدة وإنما هي الحُسن بعينه.
يبقى السؤال لماذا قال حسناً وإحساناً وكلاهما مصدر؟ يجوز للكلمة أن يكون لها أكثر من مصدر (حُسناً مصدر حَسُن من الفعل الثلاثي وإحساناً مصدر أحسن، أفعل إفعال هذا قياس مثل أكرم إكرام، أعظم إعظام، أجبر إجبار، أكره إكراه) هذان مصدران مختلفان لفعلين مختلفين. حسُن فعل لازم حسُن الشيء في نفسه حًسناً، إحسان أن يتعدى خيره للآخرين أحسنت إليه إحساناً (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (77) القصص) فرق بين أحسنت إليه وبين عاملته حُسناً، عاملته حُسناً أي المعاملة أو اللقاء كان حسناً لكن لم تفعل له شيئاً أما الإحسان فيتعدى خيره للآخرين أحسنت إليه أي قدمت له معروفاً قدمت له خيراً. ووصينا الإنسان بوالديه حسناً أي عاملهما حسناً أما إحساناً أن تقدم لهما الخير إذن إحساناً أقوى من حُسناً. يبقى لماذا استعمل كل واحدة في مكانها؟ آية العنكبوت (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) هذه الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) الأحقاف) نلاحظ في هذه الآية حملته كُرهاً ووضعته كُرهاً ولم يقل هذا في العنكبوت ولم يقل هذا في لقمان (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) وإنما ذكر الحمل دون الوضع أما هنا فذكر الحمل والوضع وكلاهما كُره فأيهما أشدّ على المرأة؟ قد تحمل شيئاً كرهاً وتضعه بيُسر إذن ذكر في الأحقاف أمرين الحمل والوضع وكلاهما كره ومشقة. هذا فيه مشقة في الحمل والوضع ولم يذكر الحمل أصلاً في العنكبوت وفي لقمان ذكر الحمل ولم يذكر الوضع وقال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) لم يذكر آلام الوضع ولا مشقة الوضع لكن ذكر جزءاً من آلام الحمل. في لقمان ذكر الحمل وحده وقال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)، في الأحقاف ذكر الحمل والوضع وكلاهما كُره وفي العنكبوت لم يذكر الحمل والوضع، إذن أيهما يستحق الإحسان؟ الأحقاف. هذا أمر والأمر الآخر أنه في الأحقاف الوالدان مؤمنان (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) هذان الأبوان مؤمنان وبعدها قال (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) الأحقاف)
في الأحقاف الوالدان مؤمنان وفي العنكبوت ولقمان الوالدان كافران في لقمان (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) وفي العنكبوت (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) بينما في الأحقاف لم يذكر هذا وإنما ذكر آلام الحمل وآلام الوضع وأن الأبوين مؤمنان فمن الذين يستحق الإحسان؟ المؤمن يستحق الإحسان. هل يصح في البلاغة أن نضع الإحسان في آية العنكبوت والحُسن في آية الأحقاف؟ لا يمكن. هذا إضافة إلى أن ذكر الحُسن في سياق آية العنكبوت أنسب من الإحسان. في العنكبوت قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) ووصينا الإنسان ) حتى يتناسب مع الجزاء، هذا في سياق الحسن من الأعمال. في الأحقاف قال (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) هذا في سياق الحسن من الأعمال. فإذن العنكبوت والأحقاف السياق في الحُسن من الأعمال فذكر حسنا وإحساناً وفي لقمان السياق في المصاحبة بين الناس والمعاشرة بين الناس فذكر المصاحبة بالمعروف. إذن سواء كان من ناحية السياق أو من ناحية واقع الوالدين كل تعبير هو أنسب في مكانه: الحُسن في العنكبوت والإحسان في الأحقاف والمصاحبة بالمعروف في لقمان.
*هل يجوز للرجل العادي الذي ليس له علم بالعربية والبيان والبلاغة كيف له أن يفهم بهذا الشكل؟
هو ليس مكلفاً بأن يفهم بهذا الشكل لكن المهم أن يقرأ لكن إذا كان الشخص يتعالم فينبغي أن يُبين له ما يجهله. هناك أناس يتكلمون بما لا يعلمون فيُبين لهم حتى تقوم الحجة عليه.
(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15) لقمان) لا سبيلهما، صاحبهما في أمور الدنيا وليس في أمور الآخرة ولا تتبع سبيلهما وإنما اتبع سبيل المنيبين إلى الله في الطاعة والعبادة والمعاملة في إقامة شرع الله فيما أنت مكلف به واتّبع سبيل المنيبين إلى الله لا سبيلهما لأنهما مشركان لكن ينبغي المصاحبة بالمعروف. برغم أنه ذكر المصاحبة بالمعروف والوصية بالوالدين إلا أنه يقول واتبع سبيل من أناب إليّ لأن الله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس للعبادة والطاعة ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فكيف تتبع سبيلهما وهما قد عصيا؟ تصاحبهما في الدنيا معروفاً في أمور الدنيا وهم قالوا المصاحبة إما في أمور الدنيا أو في الدنيا ثم تنقطع المصاحبة وكل واحد يذهب في حال سبيله.
(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ (15) لقمان) إليّ حصراً لا ترجعون إلى جهة أخرى ولا إلى ذات أخرى وفي هذا إبطال للشرك لا يرجعون إلا إليه حصراً فلماذا الشرك وما يفعل الشركاء؟ إليّ مرجعكم مثل إلي المصير تقديم الجار والمجرور والمبتدأ معرفة وهنا ابتدأ بالخبر ويجوز التقديم.
(فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) لقمان) أي أخبركم ولم يقل فأجزيكم مثلاً لأن ربنا قد ينبئ الإنسان بما عمل ثم يغفر له في الآخرة، يستر عليه قد ينبئ الإنسان بما عمل ثم يجزيه خيراً منه. لم يذكر الجزاء هنا وإنما ذكر الإخبار، قد يكون أحصاها وقد يكون نسيها (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ (6) المجادلة) ربنا ينبئه بما كان يعمل من خير أو شر المؤمن قد يفعل معصية ولمم فينبئه بما عمل ثم يغفر له والحسنة يجزيه بخير منها (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا (89) النمل) أو بعشر أمثالها (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا (160) الأنعام) (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) الزلزلة) إذن هو ينبئ ما ذكر الجزاء ما قال يجزى به وإنما قال يره. هذا حكم عام أن يرى الرجل عمله ليس هذا الجزاء فإن كان مؤمناً يجزيه الله تعالى خيراً مما رأى أو يغفر له يدنيه فيغفر له (سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم) ويسترها عليه في الآخرة كما سترها عليه في الدنيا. في نفس السورة في مكان آخر لم يكتف بالتنبيه وإنما ذكر الجزاء مع الكافرين (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)) لم يكتف بالتنبيء لأن هؤلاء كفروا، ينبئهم ثم يجزيهم بما عملوا. هناك لم يذكر كفر وإنما كان حكماً عاماً.
آية (15):
(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15))
فكرة عامة عن الآية: جاهداك أي بذلا جهدهما على أن تشرك بالله، إذا بذلا جهدهما وحاولا على أن تشرك بالله فلا تطعهما. ثم قال (بي) مقام توحيد هذا لأن هذا موطن التوحيد نفي الشك والقرآن لا يستعمل في مثل هذا إلا مقام الإفراد. في مقام التوحيد ونفي الشرك لا يستعمل إلا ضمير المفرد (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا (15) طه) في القرآن كله في كل مواطن التوحيد يذكر ضمير الإفراد، قال (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي) (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أبطل الشك من جميع نواحيه وأقسامه. المعلومات على قسمين إما أن يعلم الإنسان أن هذا لا يصلح أن يكون شريكاً لله إما أن يعلم أو لا يعلم. كل ما في الوجود الإنسان أحد أمرين إما أن يعلم أن هذا يكون شريكاً أو لا يكون فإن علِم أنه لا يصح أن يكون شريكاً يكون علِم بقي النفي عما لا يعلم.. كل ما في الوجود بالنسبة للإنسان أحد أمرين إما يعلم أو لا يعلم، إما أن يعلم أن هذا لا يصلح أن يكون شريكاً لله أو لا يعلم بذلك. الذي لا يعلم يعلمه وبقي الذي لا يعلم فقال (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) تعود على الذي يريد أن يشركه بالله وهو لا يعلم. إذا كنت تعلم أن هذا ليس لا يصلح فأنت تعلم بقي الذي لا يعلم (فلا تطعهما) الذي حصل أنه نهاه عن كل الشرك وكل أقسامه ما علِم وما لم يعلم. إذا نفى ما ليس له به علم فالمنطق أن يكون نفى الذي له به علم لأنه يعرفه. (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (ما) هنا مفعول به للفعل تشرك، الذي تعرفه إشراك، الذي تعرفه أنه لا يصلح فأنت تعرفه. إن جاهداك على الشرك فلا تطعهما. (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) الدنيا يحملها المفسرون على أمرين إما في الحياة الدنيا لأن هذه المصاحبة ستنتهي ستكون في الدنيا ثم ستنتهي ويفترقان في الآخرة وإنما المصاحبة في أمور الدنيا لا في أمور الدين يعني أمور الدين لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. في أمور الدين لا تطعهما بينما في أمور الدنيا قد تطيعهما، صاحبهما في أمور الدنيا لا في أمور الدين. إما في الحياة الدنيا أي ما داما على قيد الحياة فصاحبهما معروفا إلى أن يقضي الله بينهما وتفترقا المقصود تصاحبهما في أمور الدنيا ولا يعارض ذلك الدين أما إذا الأمر تعلق بالدين فلا تطعهما. إذن هي صاحبهما في الدنيا معروفاً لها حالتين: في الدنيا كلها أو في أمور الدنيا.
*حينما يتحدث الله تعالى عن العلاقة بين الأفراد والمعاشرات يقول (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (2) الطلاق) وهنا قال (معروفاً) لم يقل بمعروف فلماذا؟
هذا التعبير تدل على عظيم منزلة الأبوين عند الله يعني تصاحبهما في الدنيا مصاحبة هي المعروف بعينه. صحاباً معروفاً يعني ليست مصاحبة للمعروف. لو قال صاحبهما بمعروف يعني أن تكون المصاحبة مع المعروف والباء للإلصاق أو قد تكون للمعية أي مصاحبة للمعروف وليست هي المعروف كله وإنما مصاحبة للمعروف لما قال تعالى (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (231) البقرة) مصاحبة الزوج للزوجة تختلف فأنت تستطيع أن تنهر زوجتك أو ترفع صوتك عليها أو تعضلها أو تضربها أما مع الأبوين فلا يمكن أن يحصل شيء من هذا. قد تصاحب المرأة بمعروف لكن مع هذه المصاحبة بالمعروف قد تنهرها وتزجرها وتؤدبها لكن لا يمكن أن يكون هذا مع الوالدين. إذن هذه معروف وليست بمعروف، صاحبهما مصاحبة هي المعروف بعينه. (معروفاً) تُعرَب مفعولاً مطلق، هو في الأصل وصف للمصدر صِحاباً معروفاً، صاحب فاعل مصدر فاعل فعال ومفاعلة مثل قاتل القتال والمقاتلة، جاهد الجهاد والمجاهدة.
*في سورة العنكبوت قال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (8)) وفي الأحقاف (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا (15)) ولكن هنا قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فما اللمسة البيانية في اختيار حُسناً وإحساناً؟
ذكر ربنا سبحانه وتعالى في سورة لقمان قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لم يرد مثل هذا التعبير في آيتي العنكبوت أو في الأحقاف لم يقل وصاحبهما في الدنيا معروفا وإنما ورد التعبير بأسلوب وتعبير آخر. في العنكبوت قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وفي الأحقاف قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) في لقمان قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) ما قال لا حُسناً ولا إحساناً ولكن ذكر المصاحبة بدل الحسن والإحسان ذكر المصاحبة (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لم يذكر المصاحبة في آيتي العنكبوت والأحقاف وكل تعبير هو في مكانه أنسب ومناسب للسياق. هو قوله (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) لا شك هو أنسب مع السياق لأن السياق في المصاحبات مصاحبة الابن لابنه وكيف وجهه وكيف ينبغي أن يصاحب الابن لأبويه وعلّمه مصاحبة الآخرين في المجتمع أن لا يصعِّر خدّه وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هذه كلها في المصاحبات، فالسياق في لقمان في آداب المصاحبات الأب مع ابنه ينبغي أن يوجهه ويعلمه وأن لا يتركه والابن مع والديه كيف ينبغي أن يتعامل ثم الشخص مع عموم المجتمع كيف ينبغي أن يتعامل في المجتمع مع الآخرين لم يرد مثل هذا السياق لا في الأحقاف ولا في العنكبوت. إذن (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) هو أنسب مع سياق المصاحبة.
لماذا قال حسنا وإحساناً؟ في لقمان ذكر أن افتراض أبويه يجاهدانه على أن يشرك بالله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) إذن افتراض أن أبويه يجاهدانه على الشرك بالله فطلب المصاحبة بالمعروف. في العنكبوت أيضاً قال (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تطعهما) فلماذا قال حسناً في آية العنكبوت؟ مثلما قال في لقمان (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) في العنكبوت قال أيضاً (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تطعهما) فما الفرق؟ المجاهدة في لقمان أشد على الشرك (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي) وفي العنكبوت قال (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي) وجاهداك على أن تشرك بي أشد حملاً على المجاهدة وأقوى من جاهداك لتشرك (اللام للتعليل) و(على) فيها معنى الحمل والشدة. مثال: لما تقول أنفقتُ عليه لينجح وأنفقتُ عليه على أن ينجح (هذا شرط الإنفاق) وأما الأولى (لينجح هذه لام التعليل)، زوّجتك ابنتي لتعينني (هذه لام التعليل) وزوّجتك ابنتي على أن تعينني (هذا شرط) فيه اشتراط، (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ (27) القصص) هذا شرط وفيها اشتراط. فإذن (على أن تشرك بي) المجاهدة فيها أشد من (لتشرك بي). مع الشدة الأقل قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) ومع الشدة الأكثر قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) وفي العنكبوت لم يقل صاحبهما في الدنيا معروفا، إذن قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) هذا مع الجهاد الشديد ولم يقل حسناً. السياق في المصاحبات قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) وفي العنكبوت ليس السياق في المصاحبات فقط الوصية والمجاهدة أقل ولهذا حدد الوصية بـ(حسنا). في لقمان قال (بوالديه) هذا معناه العموم والإطلاق. فلما كان في العنكبوت الجهاد أقل قال حُسناً لكن لم يذكر المصاحبة بالمعروف وفي الجهاد الأشد قال (بوالديه) لم يذكر حُسناً وإنما ذكر المصاحبة بالمعروف في سورة لقمان. في لقمان ما ذكر حُسناً ولا إحساناً ولكن ذكر المصاحبة بالمعروف مع الجهاد بشدة ومع الجهاد الأقل في العنكبوت قال (حُسناً) ولم يذكر المصاحبة لأن السياق في العنكبوت في الحسن من الأعمال. في العنكبوت قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) وفي الأحقاف قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا) حتى التعبير (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) كيف قال وصاحبهما في الدنيا معروفا ولم يقل بمعروف لأنه أراد أن المصاحبة هي المعروف بعينه وهنا لما قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) يعني الوصية هي الحُسن بعينه لم يقل بالحُسن ولم يقل وصيناه بشيء حسن وإنما جاء بالمصدر (حُسناً). الإتيان بالمصدر له دلالة بيانية أن الوصف أو الإتيان أو الإخبار أو الحال بالمصدر يدل على المبالغة لذلك ليست عندهم قياس (وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ (18) يوسف) كذب مصدر أي هو الكذب بعينه. ومحتمل في غير القرآن أن يقال بدم كاذب أو بالكذب كما يقال هذا رجل زور وهذا رجل صوم وهذا رجل عدل، تقول هذا رجل صائم أي قد يكون صام يوماً أما لو قلنا هذا رجل صوم لا تقال إلا إذا كان الصوم عادة طاغية ظاهرة عنده وهذا يستعمل للمفرد والمثنى والجمع والمذكر والجمع لفظاً واحداً لأنه مصدر يقال رجال صوم ونساء صوم ورجل صوم وامرأة صوم. المصدر (ووصفوا بمصدرٍ كثيراً فالتزموا الإفراد والتذكير). هذا من المبالغة يعني المعاملة في الوصية هي الحُسن بعينه (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) ليس فيها حُسن وليست حسنة جيدة وإنما هي الحُسن بعينه.
يبقى السؤال لماذا قال حسناً وإحساناً وكلاهما مصدر؟ يجوز للكلمة أن يكون لها أكثر من مصدر (حُسناً مصدر حَسُن من الفعل الثلاثي وإحساناً مصدر أحسن، أفعل إفعال هذا قياس مثل أكرم إكرام، أعظم إعظام، أجبر إجبار، أكره إكراه) هذان مصدران مختلفان لفعلين مختلفين. حسُن فعل لازم حسُن الشيء في نفسه حًسناً، إحسان أن يتعدى خيره للآخرين أحسنت إليه إحساناً (وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ (77) القصص) فرق بين أحسنت إليه وبين عاملته حُسناً، عاملته حُسناً أي المعاملة أو اللقاء كان حسناً لكن لم تفعل له شيئاً أما الإحسان فيتعدى خيره للآخرين أحسنت إليه أي قدمت له معروفاً قدمت له خيراً. ووصينا الإنسان بوالديه حسناً أي عاملهما حسناً أما إحساناً أن تقدم لهما الخير إذن إحساناً أقوى من حُسناً. يبقى لماذا استعمل كل واحدة في مكانها؟ آية العنكبوت (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) هذه الآية (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) الأحقاف) نلاحظ في هذه الآية حملته كُرهاً ووضعته كُرهاً ولم يقل هذا في العنكبوت ولم يقل هذا في لقمان (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) وإنما ذكر الحمل دون الوضع أما هنا فذكر الحمل والوضع وكلاهما كُره فأيهما أشدّ على المرأة؟ قد تحمل شيئاً كرهاً وتضعه بيُسر إذن ذكر في الأحقاف أمرين الحمل والوضع وكلاهما كره ومشقة. هذا فيه مشقة في الحمل والوضع ولم يذكر الحمل أصلاً في العنكبوت وفي لقمان ذكر الحمل ولم يذكر الوضع وقال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) لم يذكر آلام الوضع ولا مشقة الوضع لكن ذكر جزءاً من آلام الحمل. في لقمان ذكر الحمل وحده وقال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)، في الأحقاف ذكر الحمل والوضع وكلاهما كُره وفي العنكبوت لم يذكر الحمل والوضع، إذن أيهما يستحق الإحسان؟ الأحقاف. هذا أمر والأمر الآخر أنه في الأحقاف الوالدان مؤمنان (قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) هذان الأبوان مؤمنان وبعدها قال (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) الأحقاف)
في الأحقاف الوالدان مؤمنان وفي العنكبوت ولقمان الوالدان كافران في لقمان (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) وفي العنكبوت (وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) بينما في الأحقاف لم يذكر هذا وإنما ذكر آلام الحمل وآلام الوضع وأن الأبوين مؤمنان فمن الذين يستحق الإحسان؟ المؤمن يستحق الإحسان. هل يصح في البلاغة أن نضع الإحسان في آية العنكبوت والحُسن في آية الأحقاف؟ لا يمكن. هذا إضافة إلى أن ذكر الحُسن في سياق آية العنكبوت أنسب من الإحسان. في العنكبوت قال (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) ووصينا الإنسان ) حتى يتناسب مع الجزاء، هذا في سياق الحسن من الأعمال. في الأحقاف قال (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)) هذا في سياق الحسن من الأعمال. فإذن العنكبوت والأحقاف السياق في الحُسن من الأعمال فذكر حسنا وإحساناً وفي لقمان السياق في المصاحبة بين الناس والمعاشرة بين الناس فذكر المصاحبة بالمعروف. إذن سواء كان من ناحية السياق أو من ناحية واقع الوالدين كل تعبير هو أنسب في مكانه: الحُسن في العنكبوت والإحسان في الأحقاف والمصاحبة بالمعروف في لقمان.
*هل يجوز للرجل العادي الذي ليس له علم بالعربية والبيان والبلاغة كيف له أن يفهم بهذا الشكل؟
هو ليس مكلفاً بأن يفهم بهذا الشكل لكن المهم أن يقرأ لكن إذا كان الشخص يتعالم فينبغي أن يُبين له ما يجهله. هناك أناس يتكلمون بما لا يعلمون فيُبين لهم حتى تقوم الحجة عليه.
(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15) لقمان) لا سبيلهما، صاحبهما في أمور الدنيا وليس في أمور الآخرة ولا تتبع سبيلهما وإنما اتبع سبيل المنيبين إلى الله في الطاعة والعبادة والمعاملة في إقامة شرع الله فيما أنت مكلف به واتّبع سبيل المنيبين إلى الله لا سبيلهما لأنهما مشركان لكن ينبغي المصاحبة بالمعروف. برغم أنه ذكر المصاحبة بالمعروف والوصية بالوالدين إلا أنه يقول واتبع سبيل من أناب إليّ لأن الله سبحانه وتعالى خلق الجن والإنس للعبادة والطاعة ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فكيف تتبع سبيلهما وهما قد عصيا؟ تصاحبهما في الدنيا معروفاً في أمور الدنيا وهم قالوا المصاحبة إما في أمور الدنيا أو في الدنيا ثم تنقطع المصاحبة وكل واحد يذهب في حال سبيله.
(ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ (15) لقمان) إليّ حصراً لا ترجعون إلى جهة أخرى ولا إلى ذات أخرى وفي هذا إبطال للشرك لا يرجعون إلا إليه حصراً فلماذا الشرك وما يفعل الشركاء؟ إليّ مرجعكم مثل إلي المصير تقديم الجار والمجرور والمبتدأ معرفة وهنا ابتدأ بالخبر ويجوز التقديم.
(فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) لقمان) أي أخبركم ولم يقل فأجزيكم مثلاً لأن ربنا قد ينبئ الإنسان بما عمل ثم يغفر له في الآخرة، يستر عليه قد ينبئ الإنسان بما عمل ثم يجزيه خيراً منه. لم يذكر الجزاء هنا وإنما ذكر الإخبار، قد يكون أحصاها وقد يكون نسيها (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ (6) المجادلة) ربنا ينبئه بما كان يعمل من خير أو شر المؤمن قد يفعل معصية ولمم فينبئه بما عمل ثم يغفر له والحسنة يجزيه بخير منها (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا (89) النمل) أو بعشر أمثالها (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا (160) الأنعام) (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) الزلزلة) إذن هو ينبئ ما ذكر الجزاء ما قال يجزى به وإنما قال يره. هذا حكم عام أن يرى الرجل عمله ليس هذا الجزاء فإن كان مؤمناً يجزيه الله تعالى خيراً مما رأى أو يغفر له يدنيه فيغفر له (سترتها عليك في الدنيا وأنا أسترها عليك اليوم) ويسترها عليه في الآخرة كما سترها عليه في الدنيا. في نفس السورة في مكان آخر لم يكتف بالتنبيه وإنما ذكر الجزاء مع الكافرين (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)) لم يكتف بالتنبيء لأن هؤلاء كفروا، ينبئهم ثم يجزيهم بما عملوا. هناك لم يذكر كفر وإنما كان حكماً عاماً.
آية (16):
(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16))
*قال (إن تك) ثم قال (فتكن) ما الفرق في حذف النون وإثباتها في الفعل المضارع؟
انتهت وصية ربنا (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) التي جاءت بين كلام لقمان لابنه وعاد لوصية لقمان لابنه (يَا بُنَيَّ) للتحبيب حتى تكون مظنّة الاستماع والقبول بلطف وحنان بالتصغير وإضافته إلى نفسه (يَا بُنَيَّ) حتى يزيل أي حجاب بينهما. مقام الحب بين الأب وابنه وفي قصة نوح مع ابته العاصي قال (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) هود) هذه عاطفة الأب أراد أن ينقذه وكان ابنه مع الكافرين لعله عندما يأتي انبه للجماعة المسلمة ويتركه الذين أضلوه قد يستفيد وبرغم تعارض الموقفين إلا أن عاطفة الأبوة واحدة لا تختلف. إذن (يَا بُنَيَّ) للتحبيب والتقريب.
(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) (إنها) قسم قال هو ضمير القصة أي الأمر أو المسألة أو الفعلة أو الخصلة. (فتكن في صخرة) بإثبات النون. لما قال (إن تك) لم يذكر مكاناً لها (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) ولما قال (تكن) ذكر مكاناً لها (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ)، لم يذكر المكان فلم يذكر النون وذكر المكان فذكر النون. حذف النون له ضوابط ولكن في الجواز ولا يجب الحذف. هذا الفعل (يكون) إذا كان مضارعاً مجزوماً علامة جزمه السكون (هذا شرط) وبعده حرف متحرك (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) على أن لا يكون ضميراً متصلاً مثل (تكُنْهُ) في هذه الحالة يجوز الحذف (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) مريم) مضارع مجزوم بالسكون بعده متحرك، (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) مريم) يجوز ومواطن الجواز تلمس لها القدامى أسباباً بيانية. لما حذف الأماكن حذف النون، (إنها إن تك) لا مكان لها (فتكن في صخرة) استقرت فصار لها مكان. هناك أمر آخر هي فيها قراءة أخرى (فتكِن) من وَكَن يكِن أي دخل الطائر عُشّه والوَكْن هو العُشّ يعني تستر في صخرة وفي قراءة (فتكِنّ في صخرة) من كنّ يكِنّ، كلها مما يقوي ذكر النون، إذا كانت تكِن من وكن وإذا كانت تكِنّ تذكر النون وتكن النون مذكورة فكل القراءات النون مذكورة.
لماذا الصخرة؟ الصخرة لا بد أن تكون في السموات والأرض هناك صخور في السموات في المشتري وزحل. (في صخرة) يعني استخلاص الشيء من باطن الصخرة أمر عسير. إذا أردت أن تحفظ شيئاً لا ترميه في ساحة الدار وإنما تضعه في صندوق وإذا أردت المبالغة في حفظه تضعه في حقيبة ثم في خزانة وإذا أردت المبالغة أكثر تضعه في حقيبة داخل حقيبة في خزانة وإذا أردت أن لا يصل إليه أحد قد تأتي بقفل يصعب فتحه وقد تضعها في مكان ليس له مفتاح أصلاً. الصخرة عبارة عن محفظة ليس فيها مفتاح، ما قال على صخرة وإنما قال (في صخرة) مثلها مثل محفظة ليس لها مفتاح وبداخلها مثقال حبة من خردل، كيف يخرجها ربنا تعالى من دون تحطيم للصخرة؟! بلطفه وخبرته يأتي بها الله لم يقل يعلمها لأنك قد تعلم المكان لكن لا تقدر أن تأتي بها. إذن يأتي بها الله أدل على العلم والقدرة، وإن كانت صغيرة في مكان صغير عميق شديد وصلب وليس فيها مفتاح يأتي بها الله تعالى من دون تكسير للصخرة يستخرجها بلطفه وقدرته.
*تك وتكن:
ذكرنا في الحلقة الماضية قال (إنها إن تك) ثم قال (فتكن) وذكرنا في حينها أنه لما قال (تك) لم تكن في مكان معين وإنما ذكرها هباء تائهة في الوجود (إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) ثم ذكر مكانها فلما ذكر مكانها أنها استقرت ذكر النون (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ). وقلنا أنه قال في صخرة ولم يقل على صخرة وقلنا أنها مثل المحفظة التي يكون في باطنها شيء ثم يستخرجها ربنا تعالى بدون أن يفتحها بلطفه وخبرته من غير مفتاح. ثم قال في الأرض ولم يقل على الأرض (أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) يعني هي في باطن الأرض (في ظرفية هنا). يقولون الخفاء يكون بطرق، طرق الخفاء استوفاها هنا إما أنها تكون في غاية الصغر (مثقال حبة) أو يكون بعيداً في السموات مثلاً أو في مكان مظلم (في الأرض) لأنه لا يوجد نور أو من وراء حجاب (في صخرة) هذه طرق الخفاء استوفاها كلها، تكون بعيدة صغيرة في ظلمة من وراء حجاب كلها استوفاها: صغيرة (مثقال حبة من خردل)، البعد (في السموات) ، الظلمة (في الأرض) ، الحجاب (في صخرة) استوفاها كلها. ثم قال (يأتي بها الله) ولم يقل يعلمها لأن العلم لا يدل على القدرة، الفعل يأتي يدل على طلاقة القدرة لله تعالى لأنه يعلمها ويأتي بها فأنت قد تعلم شيئاً في مكان لكن لا تستطيع أن تأتي به، الإتيان علم وقدرة علم مكانها وجاء بها صار علماً وقدرة ولو قال يعلمها الله لدل على العلم لكن لا يدل على القدرة هناك أكمور كثيرة نعلم مكانها لكن لا نستطيع أن نأتي بها، يأتي بها الله إن الله لطيف خبير. لذلك قال تعالى تحديداً الصخرة. ثم ترتيب الآيات وذكر هذه الأشياء فيها، هذا الترتيب له دلالة محددة فالصخرة مشتركة قد تكون في السماء وقد تكون في الأرض، السماء يعني الأجرام السماوية كثير منها فيها صخور وقد تكون هناك صخور سابحة في الفضاء. هو ما قال في السموات ولكن قال في صخرة أو في السموات ولم يقل الصخرة في السموات، نكّر كلمة صخرة ولم يذكر لها مكان جعلها جزءاً من الأمكنة، صخرة سموات، أرض، ذكر ثلاثة أمكان صخرة، السموات، الأرض ولم يقل في الأرض لأنها عامة والصخرة قد تكون في السماء وقد تكون في الأرض قد تكون في الأجرام السماوية وقد تكون صخور سابحة في الفضاء إذن الصخرة وجودها مشترك لهذا لم يقيدها تعالى بمكان قد تكون في السموات وقد تكون في الأرض. لم يقيدها بمكان ولم يقل الصخرة في الأرض، لِمَ لم تقيد؟ لو قيدها وقال صخرة في الأرض تصير في الأرض لكنه قال صخرة وقد تكون في الأرض وقد تكون في غير الأرض وقد تكون سابحة في الفضاء وقد تكون في أحد الأجرام السماوية، في المشتري صخور أو المريخ صخور. إذن تنكير كلمة صخرة له دلالة وعدم تقييدها له دلالة، قال في صخرة وليس على صخرة وهو بدأ بالمشترك (صخرة) ثم قال في السموات، في السموات هو الخط الجاري في السورة أنه في كل السورة إذا ذكر السموات والأرض قدّم السموات في كل السورة (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) حيث جرى ذكر السموات والأرض قدّم السموات وأخّر الأرض وهذا التأخير أيضاً له غرض وهو أنه عندما يؤخرها يذكر بجانب الأرض أمور تتعلق بالأرض أو بأهل الأرض مثل: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ) (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) هذا ترتيب متناسق مع كل السورة حيث اجتمعت السموات والأرض قدّم السموات وأخر الأرض وذكر بجانب الأرض ما يتعلق بالأرض وسكان الأرض إذن الترتيب مقصود ويتناسب مع سياق السورة عموماً وجو السورة عموماً.
كلمة صخرة جاءت نكرة والسموات والأرض معرفة لأن الصخرة غير معروفة والسموات والأرض معروفة.
*هل للتكرار (في) دلالة محددة؟ هل يجوز أن أقول في السموات أو الأرض؟
هذا آكد وهو موطن توكيد وهذا من إحاطة علم الله بالأشياء.
*في سورة الأنبياء قال تعالى (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) مقارنة بين الآيتين؟ فعل الشرط وجوابه في لقمان مضارعان وفي الأنبياء ماضيان فلماذا؟
لو قرأنا آية الأنبياء (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) يتضح الجواب. آية لقمان في الدنيا يخاطب ابنه (يا بني إنها) (إنها) إما ضمير القصة أو ضمير الشأن إذا كان للمؤنث يسمى ضمير القصة وللمذكر ضمير الشأن (إنه). ضمير الشأن العائد فيه يكون بعده لا يكون قبله وهذه قاعدة (قل هو الله أحد) (هو) ضمير الشأن، الله أحد هو المقصود، ضمير الشأن هناك ضمائر تعود على ما بعدها وليس على ما قبلها وهي سبعة مواطن منها ضمير الشأن (هي الدنيا تغرر تابعيها) (هي) تعود على الدنيا والدنيا بعد هي لما كانت الدنيا مؤنث قال هي (هي مبتدأ والدنيا خبر) ضمير الشأن يكون ما بعده جملة ولا يكون مفرداً ويُخبر عنه بجملة. (يا بني إنها إن تك) (إنها) ضمير الشأن، (فإنها لا تعمى الأبصار) إنها أي الشأن أو المسألة أو الأمر أو القصة أنها لا تعمى الأبصار. في لقمان المسألة يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل. ضمير الشأن يعود على ما بعده لا على ما قبله ويُخبر عنه بجملة هذه قاعدة. قسم قالوا يقصد بـ (إنها) أي الفعلة أو الخصلة.
فلما أنّث فعل الشرط وجوابه مضارعان ولما كان الأمر في الدنيا وهذه أمور مستمرة قال (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) تلك في يوم القيامة الأعمال انتهت والوقت وقت حساب وإن كان العمل مثقال حبة جئنا به وكفى بنا حاسبين (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) هذه قطعاً ماضية وليست مضارعة لذلك قال (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) بالماضي لأن الآن الموقف موقف حساب بينما تلك لقمان يخبر ابنه ويعلمه بقدرة الله (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) متى ما شاءت، متى ما وقعت، متى ما تكون فهذه يأتي بها مضارع وهذه يأتي بها ماضي.
*فعل الكينونة في لقمان مؤنث (إن تك) وفي الأنبياء مذكر (كان) لماذا؟
أولاً للعلم أصلاً في مثل هذا التعبير يجوز فيه التأنيث والتذكير (مثقال حبة من خردل). كقاعدة نحوية في مثل هذا التعبير يجوز فيه الوجهان
وربما أكسب ثانٍ أولاً تأنيثاً إن كان لحذف موهلا
المضاف إليه يكسب المضاف التأنيث وطبعاً يكسبه التذكير وإنما ذكر التأنيث لأن الشعر قال تأنيثاً وتذكيراً، إن كان لحذف موهلا إذا كان المضاف يمكن تحذفه بأن كان جزءاً أو كالجزء أيضاً واستشهدوا بقوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) قال قريب ولم يقل قريبة. (إنارة العقل مكسوفٌ بطوع هوى) ما قال مكسوفة. مثقال حبة من خردل مثقال مذكر وحبة مؤنث يجوز أن يكتسب هذه كقاعدة نحوية (وما حب الديار شغفن قلبي) حب مذكر وشغفن مؤنثة جاءت من الديار من المضاف إليه. في التركيب الإضافي يجوز التذكير والتأنيث لكن بشرط في مواطن، بشرط أن يكون المضاف جزء أو كالجزء في الاستغناء عنه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا (111) النحل) كلّ مذكر ونفس مؤنث فقال تأتي. بشرط أن يكون المضاف جزء أو كالجزء في الاستغناء عنه يعني ممكن تستغني عنه ويُفهم مثل (قُطعت بعض أصابعي) يمكن أن يقال قُطعت أصابعي، مثقال حبة يعني حبة. (لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخُشّع) سور مذكر وتواضعت مؤنثة. إذن من حيث الحكم النحوي ليس فيه إشكال يبقى طبيعة الاستخدام هنا: أصلاً قال في الأنبياء (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) شيئاً مذكر (وإن كان مثقال حبة ) وإن كان الشيء مثقال حبة فذكّر أي إن كان الشيء مع أنه يجوز التأنيث أما في لقمان (مثقال حبة) قد يكون الحبة أو الفِعلة أو قد يكون العمل. إذن (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) وإن كان هذا الشيء مثقال حبة إذن ذكّر مع أنه يجوز التأنيث. في الأنبياء قال بصيغة فعل الكينونة بالماضي لأنه يدل على حالة محددة وهي حالة الحساب يوم القيامة للدلالة على عمل كان في الدنيا وانتهى وأتى به مذكراً لمناسبته مع ما قبله وهو مذكر.
*في لقمان ذكر تعالى أماكن وجود المتحدث عنه (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) في الأنبياء لم يذكر مكان وجودها فلماذا؟
في لقمان هو يبين لابنه قدرة الله سبحانه وتعالى، يريد أن يعلم ابنه أما في الأنبياء فليس الغرض في هذا الأمر فالسياق سياق وزن الأعمال وليس في أماكن ذكر هذا المثقال الحبة أين يكون وإنما في سياق وزن الأعمال فلا يحتاج لذكر هذا الشيء أما في لقمان فهو يعلم ابنه ويعرفه بقدرة الله (إنها إن تك) يذكر الأماكن، أما في الأنبياء أتينا بها أينما كانت لأن السياق ليس في ذلك ولا هو في بيان للخلق أن قدرتي كذا والخلق يعرفون قدرته وقد جيء بهم الآن أعلم حالاتهم بالله تعالى الحساب موجود والجامع هو الله ولا يشك أحد في قدرته أما في لقمان فيعلم لقمان ابنه أمراً من أمور الدنيا، يوم القيامة ليس الأمر مجهولاً لأي أحد وإنما الأمر معلوم لكل أحد.
*ختام الآية في لقمان (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) وفي الأنبياء (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) فما الفرق؟
في الأنبياء مكان حساب ووقت حساب (ونضع الموازين القسط) فقال (وكفى بنا حاسبين) لأنه مقام حساب وليس في مقام استخلاص المثقال من مكانه أما في لقمان ففي مكان استخلاص الحبة ومكان الحبة فقال (لطيف خبير).
*في سورة لقمان عندما يوصي ابنه قال (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) لم يقل مثلاً عليم لأنه يعلم أماكن وجود ضمير الشأن فما دلالة اللطف؟
استخلاص هذا المثقال من هذا المكان يحتاج إلى لطف وإلى خبرة والخبرة هي العلم ببواطن الأمور والخبير هو العليم ببواطن الأمور. واللطيف هو الذي يتوصل إلى أشياء بالخفاء. وقسم قال اللطيف أي الذي لا يُرى وقالوا (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (19) الشورى) بمعنى آخر أنه يلطف بهم ويرأف بهم. اللطيف هو الذي يأتي بأمور بخفاء يستخلصها بخبرته وبطريق الخفاء ويأتي بها من دون أن يحطم الصخرة بلطف وخفاء تمتد قدرته إليها فيستخلصها. ذكر هذا الأمر من لقمان لابنه أولاً يعلمه أنه إذا كان رب العالمين سبحانه وتعالى يأتي بمثقال حبة من خردل من هذه الأماكن فلماذا الشرك؟ ماذا يفعل الشريك؟ لا شيء إذن لماذا الشرك؟ الشريك لا يستطيع أن يمنع هذه الحبة الصغيرة من أن يأتي بها الله فلماذا الشرك. ثم هناك أمر آخر أن لقمان يبين المسألة ويوضح قدرة الله لابنه وفي هذا يعلمنا لقمان بحكمته أن ليست المسألة فقط في الأوامر والنواهي لا تفعل كذا لا تفعل كذا وإنما يضرب له الأمثال ويبين له بالحجج حتى يقتنع ويستوعب المسألة وهذا فيه توجيه للآباء والوعاظ والمرشدين بأن لا يكثروا فقط من الأوامر والنواهي هكذا وإنما ينبغي أن يعلّلوا ويبينوا حتى يقتنع السامع بعقله ويقبل هذ الشيء أما أن تذكر فقط أوامر ونواهي هكذا فلا. هذا التعليم من حسن التربية أولاً الرفق دائماً يردد قول (يا بني) وعندما يذكر الأمر يعلل له العلة حتى يقتنع بما يقول وحتى يستوعب المسألة وحتى تتضح له المسألة وليس مجرد أوامر وهذا توجيه للآباء والمرشدين عموماً أولاً أن يحسنوا في القول ويلطفوا في القول لا يكونوا أشداء، اللطف واللين في القول والأمر الآخر أن الأمر ليس مجرد أمور ونواهي وإنما عليهم أن يوضحوا ويبينوا ويأتوا بالحجج المبينة حتى يقبل العقل ما يقولون.
آية (16):
(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16))
*قال (إن تك) ثم قال (فتكن) ما الفرق في حذف النون وإثباتها في الفعل المضارع؟
انتهت وصية ربنا (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) التي جاءت بين كلام لقمان لابنه وعاد لوصية لقمان لابنه (يَا بُنَيَّ) للتحبيب حتى تكون مظنّة الاستماع والقبول بلطف وحنان بالتصغير وإضافته إلى نفسه (يَا بُنَيَّ) حتى يزيل أي حجاب بينهما. مقام الحب بين الأب وابنه وفي قصة نوح مع ابته العاصي قال (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) هود) هذه عاطفة الأب أراد أن ينقذه وكان ابنه مع الكافرين لعله عندما يأتي انبه للجماعة المسلمة ويتركه الذين أضلوه قد يستفيد وبرغم تعارض الموقفين إلا أن عاطفة الأبوة واحدة لا تختلف. إذن (يَا بُنَيَّ) للتحبيب والتقريب.
(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) (إنها) قسم قال هو ضمير القصة أي الأمر أو المسألة أو الفعلة أو الخصلة. (فتكن في صخرة) بإثبات النون. لما قال (إن تك) لم يذكر مكاناً لها (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) ولما قال (تكن) ذكر مكاناً لها (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ)، لم يذكر المكان فلم يذكر النون وذكر المكان فذكر النون. حذف النون له ضوابط ولكن في الجواز ولا يجب الحذف. هذا الفعل (يكون) إذا كان مضارعاً مجزوماً علامة جزمه السكون (هذا شرط) وبعده حرف متحرك (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) على أن لا يكون ضميراً متصلاً مثل (تكُنْهُ) في هذه الحالة يجوز الحذف (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) مريم) مضارع مجزوم بالسكون بعده متحرك، (وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) مريم) يجوز ومواطن الجواز تلمس لها القدامى أسباباً بيانية. لما حذف الأماكن حذف النون، (إنها إن تك) لا مكان لها (فتكن في صخرة) استقرت فصار لها مكان. هناك أمر آخر هي فيها قراءة أخرى (فتكِن) من وَكَن يكِن أي دخل الطائر عُشّه والوَكْن هو العُشّ يعني تستر في صخرة وفي قراءة (فتكِنّ في صخرة) من كنّ يكِنّ، كلها مما يقوي ذكر النون، إذا كانت تكِن من وكن وإذا كانت تكِنّ تذكر النون وتكن النون مذكورة فكل القراءات النون مذكورة.
لماذا الصخرة؟ الصخرة لا بد أن تكون في السموات والأرض هناك صخور في السموات في المشتري وزحل. (في صخرة) يعني استخلاص الشيء من باطن الصخرة أمر عسير. إذا أردت أن تحفظ شيئاً لا ترميه في ساحة الدار وإنما تضعه في صندوق وإذا أردت المبالغة في حفظه تضعه في حقيبة ثم في خزانة وإذا أردت المبالغة أكثر تضعه في حقيبة داخل حقيبة في خزانة وإذا أردت أن لا يصل إليه أحد قد تأتي بقفل يصعب فتحه وقد تضعها في مكان ليس له مفتاح أصلاً. الصخرة عبارة عن محفظة ليس فيها مفتاح، ما قال على صخرة وإنما قال (في صخرة) مثلها مثل محفظة ليس لها مفتاح وبداخلها مثقال حبة من خردل، كيف يخرجها ربنا تعالى من دون تحطيم للصخرة؟! بلطفه وخبرته يأتي بها الله لم يقل يعلمها لأنك قد تعلم المكان لكن لا تقدر أن تأتي بها. إذن يأتي بها الله أدل على العلم والقدرة، وإن كانت صغيرة في مكان صغير عميق شديد وصلب وليس فيها مفتاح يأتي بها الله تعالى من دون تكسير للصخرة يستخرجها بلطفه وقدرته.
*تك وتكن:
ذكرنا في الحلقة الماضية قال (إنها إن تك) ثم قال (فتكن) وذكرنا في حينها أنه لما قال (تك) لم تكن في مكان معين وإنما ذكرها هباء تائهة في الوجود (إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) ثم ذكر مكانها فلما ذكر مكانها أنها استقرت ذكر النون (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ). وقلنا أنه قال في صخرة ولم يقل على صخرة وقلنا أنها مثل المحفظة التي يكون في باطنها شيء ثم يستخرجها ربنا تعالى بدون أن يفتحها بلطفه وخبرته من غير مفتاح. ثم قال في الأرض ولم يقل على الأرض (أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) يعني هي في باطن الأرض (في ظرفية هنا). يقولون الخفاء يكون بطرق، طرق الخفاء استوفاها هنا إما أنها تكون في غاية الصغر (مثقال حبة) أو يكون بعيداً في السموات مثلاً أو في مكان مظلم (في الأرض) لأنه لا يوجد نور أو من وراء حجاب (في صخرة) هذه طرق الخفاء استوفاها كلها، تكون بعيدة صغيرة في ظلمة من وراء حجاب كلها استوفاها: صغيرة (مثقال حبة من خردل)، البعد (في السموات) ، الظلمة (في الأرض) ، الحجاب (في صخرة) استوفاها كلها. ثم قال (يأتي بها الله) ولم يقل يعلمها لأن العلم لا يدل على القدرة، الفعل يأتي يدل على طلاقة القدرة لله تعالى لأنه يعلمها ويأتي بها فأنت قد تعلم شيئاً في مكان لكن لا تستطيع أن تأتي به، الإتيان علم وقدرة علم مكانها وجاء بها صار علماً وقدرة ولو قال يعلمها الله لدل على العلم لكن لا يدل على القدرة هناك أكمور كثيرة نعلم مكانها لكن لا نستطيع أن نأتي بها، يأتي بها الله إن الله لطيف خبير. لذلك قال تعالى تحديداً الصخرة. ثم ترتيب الآيات وذكر هذه الأشياء فيها، هذا الترتيب له دلالة محددة فالصخرة مشتركة قد تكون في السماء وقد تكون في الأرض، السماء يعني الأجرام السماوية كثير منها فيها صخور وقد تكون هناك صخور سابحة في الفضاء. هو ما قال في السموات ولكن قال في صخرة أو في السموات ولم يقل الصخرة في السموات، نكّر كلمة صخرة ولم يذكر لها مكان جعلها جزءاً من الأمكنة، صخرة سموات، أرض، ذكر ثلاثة أمكان صخرة، السموات، الأرض ولم يقل في الأرض لأنها عامة والصخرة قد تكون في السماء وقد تكون في الأرض قد تكون في الأجرام السماوية وقد تكون صخور سابحة في الفضاء إذن الصخرة وجودها مشترك لهذا لم يقيدها تعالى بمكان قد تكون في السموات وقد تكون في الأرض. لم يقيدها بمكان ولم يقل الصخرة في الأرض، لِمَ لم تقيد؟ لو قيدها وقال صخرة في الأرض تصير في الأرض لكنه قال صخرة وقد تكون في الأرض وقد تكون في غير الأرض وقد تكون سابحة في الفضاء وقد تكون في أحد الأجرام السماوية، في المشتري صخور أو المريخ صخور. إذن تنكير كلمة صخرة له دلالة وعدم تقييدها له دلالة، قال في صخرة وليس على صخرة وهو بدأ بالمشترك (صخرة) ثم قال في السموات، في السموات هو الخط الجاري في السورة أنه في كل السورة إذا ذكر السموات والأرض قدّم السموات في كل السورة (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) حيث جرى ذكر السموات والأرض قدّم السموات وأخّر الأرض وهذا التأخير أيضاً له غرض وهو أنه عندما يؤخرها يذكر بجانب الأرض أمور تتعلق بالأرض أو بأهل الأرض مثل: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ) (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) هذا ترتيب متناسق مع كل السورة حيث اجتمعت السموات والأرض قدّم السموات وأخر الأرض وذكر بجانب الأرض ما يتعلق بالأرض وسكان الأرض إذن الترتيب مقصود ويتناسب مع سياق السورة عموماً وجو السورة عموماً.
كلمة صخرة جاءت نكرة والسموات والأرض معرفة لأن الصخرة غير معروفة والسموات والأرض معروفة.
*هل للتكرار (في) دلالة محددة؟ هل يجوز أن أقول في السموات أو الأرض؟
هذا آكد وهو موطن توكيد وهذا من إحاطة علم الله بالأشياء.
*في سورة الأنبياء قال تعالى (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) مقارنة بين الآيتين؟ فعل الشرط وجوابه في لقمان مضارعان وفي الأنبياء ماضيان فلماذا؟
لو قرأنا آية الأنبياء (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) يتضح الجواب. آية لقمان في الدنيا يخاطب ابنه (يا بني إنها) (إنها) إما ضمير القصة أو ضمير الشأن إذا كان للمؤنث يسمى ضمير القصة وللمذكر ضمير الشأن (إنه). ضمير الشأن العائد فيه يكون بعده لا يكون قبله وهذه قاعدة (قل هو الله أحد) (هو) ضمير الشأن، الله أحد هو المقصود، ضمير الشأن هناك ضمائر تعود على ما بعدها وليس على ما قبلها وهي سبعة مواطن منها ضمير الشأن (هي الدنيا تغرر تابعيها) (هي) تعود على الدنيا والدنيا بعد هي لما كانت الدنيا مؤنث قال هي (هي مبتدأ والدنيا خبر) ضمير الشأن يكون ما بعده جملة ولا يكون مفرداً ويُخبر عنه بجملة. (يا بني إنها إن تك) (إنها) ضمير الشأن، (فإنها لا تعمى الأبصار) إنها أي الشأن أو المسألة أو الأمر أو القصة أنها لا تعمى الأبصار. في لقمان المسألة يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل. ضمير الشأن يعود على ما بعده لا على ما قبله ويُخبر عنه بجملة هذه قاعدة. قسم قالوا يقصد بـ (إنها) أي الفعلة أو الخصلة.
فلما أنّث فعل الشرط وجوابه مضارعان ولما كان الأمر في الدنيا وهذه أمور مستمرة قال (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) تلك في يوم القيامة الأعمال انتهت والوقت وقت حساب وإن كان العمل مثقال حبة جئنا به وكفى بنا حاسبين (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)) هذه قطعاً ماضية وليست مضارعة لذلك قال (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) بالماضي لأن الآن الموقف موقف حساب بينما تلك لقمان يخبر ابنه ويعلمه بقدرة الله (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ) متى ما شاءت، متى ما وقعت، متى ما تكون فهذه يأتي بها مضارع وهذه يأتي بها ماضي.
*فعل الكينونة في لقمان مؤنث (إن تك) وفي الأنبياء مذكر (كان) لماذا؟
أولاً للعلم أصلاً في مثل هذا التعبير يجوز فيه التأنيث والتذكير (مثقال حبة من خردل). كقاعدة نحوية في مثل هذا التعبير يجوز فيه الوجهان
وربما أكسب ثانٍ أولاً تأنيثاً إن كان لحذف موهلا
المضاف إليه يكسب المضاف التأنيث وطبعاً يكسبه التذكير وإنما ذكر التأنيث لأن الشعر قال تأنيثاً وتذكيراً، إن كان لحذف موهلا إذا كان المضاف يمكن تحذفه بأن كان جزءاً أو كالجزء أيضاً واستشهدوا بقوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) قال قريب ولم يقل قريبة. (إنارة العقل مكسوفٌ بطوع هوى) ما قال مكسوفة. مثقال حبة من خردل مثقال مذكر وحبة مؤنث يجوز أن يكتسب هذه كقاعدة نحوية (وما حب الديار شغفن قلبي) حب مذكر وشغفن مؤنثة جاءت من الديار من المضاف إليه. في التركيب الإضافي يجوز التذكير والتأنيث لكن بشرط في مواطن، بشرط أن يكون المضاف جزء أو كالجزء في الاستغناء عنه (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا (111) النحل) كلّ مذكر ونفس مؤنث فقال تأتي. بشرط أن يكون المضاف جزء أو كالجزء في الاستغناء عنه يعني ممكن تستغني عنه ويُفهم مثل (قُطعت بعض أصابعي) يمكن أن يقال قُطعت أصابعي، مثقال حبة يعني حبة. (لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخُشّع) سور مذكر وتواضعت مؤنثة. إذن من حيث الحكم النحوي ليس فيه إشكال يبقى طبيعة الاستخدام هنا: أصلاً قال في الأنبياء (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) شيئاً مذكر (وإن كان مثقال حبة ) وإن كان الشيء مثقال حبة فذكّر أي إن كان الشيء مع أنه يجوز التأنيث أما في لقمان (مثقال حبة) قد يكون الحبة أو الفِعلة أو قد يكون العمل. إذن (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) وإن كان هذا الشيء مثقال حبة إذن ذكّر مع أنه يجوز التأنيث. في الأنبياء قال بصيغة فعل الكينونة بالماضي لأنه يدل على حالة محددة وهي حالة الحساب يوم القيامة للدلالة على عمل كان في الدنيا وانتهى وأتى به مذكراً لمناسبته مع ما قبله وهو مذكر.
*في لقمان ذكر تعالى أماكن وجود المتحدث عنه (فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) في الأنبياء لم يذكر مكان وجودها فلماذا؟
في لقمان هو يبين لابنه قدرة الله سبحانه وتعالى، يريد أن يعلم ابنه أما في الأنبياء فليس الغرض في هذا الأمر فالسياق سياق وزن الأعمال وليس في أماكن ذكر هذا المثقال الحبة أين يكون وإنما في سياق وزن الأعمال فلا يحتاج لذكر هذا الشيء أما في لقمان فهو يعلم ابنه ويعرفه بقدرة الله (إنها إن تك) يذكر الأماكن، أما في الأنبياء أتينا بها أينما كانت لأن السياق ليس في ذلك ولا هو في بيان للخلق أن قدرتي كذا والخلق يعرفون قدرته وقد جيء بهم الآن أعلم حالاتهم بالله تعالى الحساب موجود والجامع هو الله ولا يشك أحد في قدرته أما في لقمان فيعلم لقمان ابنه أمراً من أمور الدنيا، يوم القيامة ليس الأمر مجهولاً لأي أحد وإنما الأمر معلوم لكل أحد.
*ختام الآية في لقمان (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) وفي الأنبياء (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) فما الفرق؟
في الأنبياء مكان حساب ووقت حساب (ونضع الموازين القسط) فقال (وكفى بنا حاسبين) لأنه مقام حساب وليس في مقام استخلاص المثقال من مكانه أما في لقمان ففي مكان استخلاص الحبة ومكان الحبة فقال (لطيف خبير).
*في سورة لقمان عندما يوصي ابنه قال (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) لم يقل مثلاً عليم لأنه يعلم أماكن وجود ضمير الشأن فما دلالة اللطف؟
استخلاص هذا المثقال من هذا المكان يحتاج إلى لطف وإلى خبرة والخبرة هي العلم ببواطن الأمور والخبير هو العليم ببواطن الأمور. واللطيف هو الذي يتوصل إلى أشياء بالخفاء. وقسم قال اللطيف أي الذي لا يُرى وقالوا (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ (19) الشورى) بمعنى آخر أنه يلطف بهم ويرأف بهم. اللطيف هو الذي يأتي بأمور بخفاء يستخلصها بخبرته وبطريق الخفاء ويأتي بها من دون أن يحطم الصخرة بلطف وخفاء تمتد قدرته إليها فيستخلصها. ذكر هذا الأمر من لقمان لابنه أولاً يعلمه أنه إذا كان رب العالمين سبحانه وتعالى يأتي بمثقال حبة من خردل من هذه الأماكن فلماذا الشرك؟ ماذا يفعل الشريك؟ لا شيء إذن لماذا الشرك؟ الشريك لا يستطيع أن يمنع هذه الحبة الصغيرة من أن يأتي بها الله فلماذا الشرك. ثم هناك أمر آخر أن لقمان يبين المسألة ويوضح قدرة الله لابنه وفي هذا يعلمنا لقمان بحكمته أن ليست المسألة فقط في الأوامر والنواهي لا تفعل كذا لا تفعل كذا وإنما يضرب له الأمثال ويبين له بالحجج حتى يقتنع ويستوعب المسألة وهذا فيه توجيه للآباء والوعاظ والمرشدين بأن لا يكثروا فقط من الأوامر والنواهي هكذا وإنما ينبغي أن يعلّلوا ويبينوا حتى يقتنع السامع بعقله ويقبل هذ الشيء أما أن تذكر فقط أوامر ونواهي هكذا فلا. هذا التعليم من حسن التربية أولاً الرفق دائماً يردد قول (يا بني) وعندما يذكر الأمر يعلل له العلة حتى يقتنع بما يقول وحتى يستوعب المسألة وحتى تتضح له المسألة وليس مجرد أوامر وهذا توجيه للآباء والمرشدين عموماً أولاً أن يحسنوا في القول ويلطفوا في القول لا يكونوا أشداء، اللطف واللين في القول والأمر الآخر أن الأمر ليس مجرد أمور ونواهي وإنما عليهم أن يوضحوا ويبينوا ويأتوا بالحجج المبينة حتى يقبل العقل ما يقولون.
*ختمت الآية في سورة لقمان (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وفي سورة الشورى (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) فما اللمسة البيانية في الاختلاف بينها؟
إجابة د.حسام النعيمى عن نفس السؤال:
في قوله تعالى (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) لقمان) هذه وصية من أبٍ لولده. أبٌ يوصي ولده فلا يحتاج لتوكيدات، نصيحة أب لابنه ما يقتضي التأكيد. (يا بُنيَّ) بفتح الياء (رواية حفص عن عاصم)، شُعبة قرأ (يا بُنيِّ). نافع وسائر القراء (يا بنيِّ) إذن انفرد عاصم بها من القراء السبعة. هي لغتان للعرب، معناه بعض العرب كان إذا نادى ولده يقول يا بنيَّ وبعض العرب يقول يا بُنيِّ والأكثرون كانوا يقولون (يا بُنيِّ) بدليل أن القراء الستة والسابع بروايتين، رواية وافقت الستة يعني باثني عشر راوياً يعني ثلاثة عشر راوياً يروون يا بنيِّ، يعني جمهور العرب يقولون بنيِّ، هذه لهجة وهذه لهجة، هذه لهجة أقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه أو قرأ بها وهذه لهجة أقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه وقرأ بها وقرأت بها القبائل. لكن علماء الصرف يوجهون أنه كيف هذا قال هكذا وكيف هذا قال هكذا؟: (ابن) أصلها بنو لما تُصغّر تصير (بنيو) اجتمعت الياء والواو والأول منهما أصلي ذاتاً وسكوناً فانقلبت إلى ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت بنيّ مثل كلمة نَهَر لما تُصغّر تصير نُهير لكن بدل الراء هناك ياء أخرى فصار بياءين أضيفت إليها ياء المتكلم.
في الشورى (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) نلاحظ هنا في البداية توجد لام التوكيد، لام مؤكدة وبعض العلماء يرى أنها في جواب قَسَم محذوف يعني كأنه “والله لمن انتصر”، (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (من عزم الأمور) و (لمن عزم الأمور). اللام هنا في جواب (إنّ) في (إن ذلك لمن عزم الأمور) التي هي اللام المزحلقة. لكننا وقفنا عند قراءة (يا بُنيَّ) بالفتح وقلنا الفتح هنا هو من القراء السبعة لراوٍ واحد وهو حفص عن عاصم هذه التي نقرأ بها. ونحن حريصون على ذكر قراءة نافع من أجل إخواننا في المغرب العربي لأنهم يتابعون البرنامج من خلال كثرة أسئلتهم. نافع وسائر القراء بل شعبة عن عاصم يقرأون (يا بُنيِّ) بالكسر وليس بالفتح، الفتح عند عاصم. وذكرنا أن كلمة (بُني) هي تصغير كلمة (ابن) مثل كلمة نهر تُصغّر فتصير نُهير فتأتي ياء. (بنو) لما تصغر تصير (بنيو) – لأن ابن أصلها بنو والهمزة زائدة في الأول، همزة وصل – لما تصير بنيو تجتمع الياء والواو والأول منهما أصلي ذاتاً وسكوناً يُدغمان في ياء واحدة، مثل كلمة سيد من ساد يسود فصارت سيود تصير سيد، لوى يلوي لوياً صارت ليّاً، طوى يطوي طيّاً، وهكذا إذا اجتمعت الياء والواو والأول منهما أصلي ذاتاً وسكوناً أي غير منقلب عن غيره وساكن وليس سكوناً عارضاً أيضاً تصير ياء وتدغم الياء في الياء. فلما صارت بنيو صارت بنيّ أي عندنا ياءان مثل نهير تخيل أن الراء ياء تصير نهيي لما ينسبه إلى نفسه: هذا نهير زيدٍ تصير ياء أخرى نهيري اجعل الراء ياء فتصير نهييي ثلاث ياءات. فبعض قبائل العرب حذفت ياء المتكلم وهم الأغلبية واكتفوا بالكسرة فقالوا (بنيِّ) فإذن هنا ياء ومحذوفة اكتفاء بالكسرة التي تشير إلى الياء وعليها جمهور القراء كما قلنا. بعض قبائل العرب لم تحذف ياء المتكلم أو حذفت الياء التي قبلها أو حذفت ياء المتكلم وأجرت على الياء الباقية ما يُجرى على ياء المتكلم من الفتح في التخفيف فتقول: هذا لي أو هذا ليَ، كتابي أو كتابيَ بفتح ياء المتكلم. فيا بُنيَّ هذه فتحة التخفيف على ما قرأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) على قبائل من العرب بلهجتها بإذن من ربه. و(يا بُنيِّ) هذا بالنسبة لاختلاف القراء والنتيجة واحدة هي تصغير الابن للتحبيب للمتكلم هو نسبه إلى نفسه ثم بدأ يعظه ويوصيه: أقم الصلاة، أُمر بالمعروف، إنه عن المنكر.
إقامة الصلاة تكوين أن تُكوّن نفسك ثم تنتقل مرحلة ثانية تدعو الناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هذا سيؤدي إلى الإضرار بك فاصبر على ما أصابك فهي نصيحة ومتدرجة وليس الموضع موضع تأكيد زائد فقال له (إن ذلك من عزم الأمور) فأكّد بـ (إنّ) وحدها، أن الصبر على ما يصيبك هو من عزم الأمور، من الإرادة القوية.
لما نأتي إلى الآية الأخرى نجد أنها من البداية (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)) من أولها فيها توكيد كما قلنا جوّ الآية جو توكيد. (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) إنسان اعتُدي عليه والدولة أخذت له حقه بأنه أصر على أخذ حقه ما أراد أن يتنازل فظُلِم ولم يتنازل عن حقه، قد يكون في نفس الذي أُخِذ منه الحق أو من أهله أو من أقاربه نوع من الغضب والحقد على الإنسان الذي أخذ حقه فبدأت الآية بالتأكيد أو القسم المحذوف الذي هو لام القسم على قولين (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) ما يحاول أحد أن يعتدي على هؤلاء الذين أخذوا حقهم أو أخذت الدولة حقهم إنما حصراً (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)، هذه توصية سواء للذي أخذ حقه أو الذي اُخِذ الحق منهم (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) لأنه فيه صبر وفيه عفو عن الإساءة بالنسبة لمن ظلم أنه إذا عفا الأفضل حتى لا يثير حفيظة الآخرين لا يثير حقدهم والعفو أحياناً لا يكون سهلاً، ألم يقل الشاعر:
قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت أصابني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللاً ولئن رميت لأوهنن عظمي
هو متردد بين حالين لأن الذي قتل أخاه قومه يأخذ الثأر منهم، يعني يجعل الدولة تقتص منهم؟ سيُضعف قومه فهم متحير. لذا لما كان الصبر على هذا الأذى والمغفرة يحتاج إلى توكيد والجو كله جو تأكيد من البداية (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). وفيها (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) بمعنى الحصر والحصر فيه معنى التوكيد فجاءت (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) معناه أكّد بمؤكدين هنا لمناسبة الحالة لأن الكلام على صبر على عدوان يحتاج إلى تأكيد (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) بينما النصيحة الطبيعية لا تحتاج لهذا التأكيد (إن ذلك من عزم الأمور).
آية (17):
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17))
هذه الآية فيها أوامر (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)). بعد أن نهاه عن الشرك وأمره بالتوحيد بعد ذلك بدأ بأهم العبادات. أول مرة أقام العقيدة السليمة وهو التوحيد لأنه لا تصح عبادة مع الشرك فبعد أن جاءه بأهم الأمور وأعمها وأيسرها نفي الشرك بالله وترسيخ عقيدة التوحيد الآن أمره بالعبادات فقال له وبدأ بأهم العبادات وأوجبها هي الصلاة وهي التي لا تسقط بحال من الأحوال وهي أول ما يُسأل عنه المرء يوم القيامة. الصلاة إسماعيل (عليه السلام) كان يأمر أهله بالصلاة وموسى (عليه السلام) (وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ (87) يونس) الصلاة هي عبادة أوجبها الله تعالى منذ البدء وهي آخر ما يُرفع من الأعمال قبل يوم القيامة هي الصلاة، فبدأ بأهم العبادات وأوجبها وهي العبادة التي لا تسقط في حال من الأحوال في المرض أو غيره وأول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة. ولم يقل له صلي وإنما قال أقم الصلاة أي الإتيان بها على أتم حالاتها بكل سكناتها وحركاتها وخشوعها. نلاحظ أنه بعد الأمر بإقامة الصلاة ما قال أموراً أخرى وإنما قال (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) إذن هو أمره بنوعين من العبادات عبادة فردية شخصية (الصلاة) وعبادة عامة اجتماعية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هذه علاقته بالمجتمع، بالآخرين، عبادة اجتماعية. الصلاة عبادة فردية والثانية عبادة اجتماعية كما قال القدامى إحداهما تكميل للنفس (الصلاة) والثانية تكميل للمجتمع (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إذن عبادتين إحداهما للنفس وتكميلها والثانية للمجتمع لأن من حق المجتمع على الفرد أن يحفظه ويرسي قواعد الخير فيه ويجتث أمور الشر فيه، الأمر بالمعروف يرسي قواعد الخير والنهي عن المنكر يجتث قواعد التخريب وقواعد الهدم. (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) الذي يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدركه الأذى من الآخرين وهكذا قال القدامى لأنك تتعرض للآخرين تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر فقد تسمع منهم كلاماً يؤذيك وقد يكونوا أذوك بأشد الأذى ولقمان أدرك بحكمته أن ابنه إذا فعل هذا سيتعرض للأذى لأنه من أمر بالمعروف عليه أن يتوقع أن يصيبه أذى. والغريب أنه من حكمة لقمان أنه أمر ابنه بذلك – مع أنه يدرك أن ابنه سيصيبه أذى – أن الآباء عادة يقولون لأبنائهم اتركوا الناس بشأنهم لا عليكم منهم، يخشون على أبنائهم من الأذى فيقولون لهم اتركوا الناس أما لقمان بحكمته الثاقبة مع أنه يعلم أن ابنه سيصيبه الأذى لكن علم أن هذا الأمر أولى من راحة ابنه أن إرساء قواعد الخير في المجتمع واجتثاث عوامل الشر منه أولى من راحة ابنه لأنه المجتمع إذا انهار ينهار عليه وعلى ابنه وأسرته الانهيار لا يختص بواحد وإنما يعم الجميع إذن هو أولى من راحة الابن فليتعب ابنه لأنه قد يؤذى فرداً فلا بأس لكن هو يرسي قواعد الخير فلو كان كل الآباء يوجهون أبناءهم هذا التوجيه لصاروا كلهم مثل ابن لقمان فالمجتمع يصير يثبت فيه قواعد الخير وينجو من عوامل التفكك والتخريب وفي ذلك سلامته وسلامة المجتمع وراحته وراحة المجتمع بخلاف لو تُرِك المجتمع على عواهنه فإنه هو أيضاً سيدمر الابن والعائلة ستدمر. ولذلك هو مع معرفته بذلك أوصاه بفعل ذلك وهذا من حكمة لقمان الثاقبة فهم كم يحب ابنه ويتمنى له الخير وهو يعلم أنه سيصيبه أذى لكن هذا الأذى أهون من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(إن ذلك) أي الصبر على إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها من الأمور الواجبة المقطوعة التي لا ينبغي التخلي عنها لا الصلاة (تكميل للنفس) ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه كلها تحتاج عزم وعزيمة وقوة وإن كانت الثانية أكثر لأنها مواجهة (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ذلك تعود على البعيد. إن ذلك من عزم الأمور أي الأمور التي لا ينبغي التخلي عنها مهما أوذي في ذلك.
*ختمت الآية في سورة لقمان (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وفي سورة الشورى (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) فما اللمسة البيانية في الاختلاف بينها؟
في لقمان قال (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) في الشورى قال (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) أيّ الأشد أن تصبر وتغفر أو أن تصبر فقط؟ أن تصبر وتغفر لأنها أشق على النفس. يطالبنا ربنا بالصبر والمغفرة لأن هذا أسدى إلى الخير وأكمل للمعروف ويؤلف قلوب الآخرين ولا يثير فيهم الضغائن وإذا فعلت لهم الحسنة فقد جمعت قلوبهم (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) فصلت) حميم أي قريب فأنت تعامل بالصبر والمغفرة مع أنها شاقة على النفس الصبر وحده شاق فكيف الصبر والمغفرة وما هو أعلى وهو الإحسان. لذلك فيما فيه مشقة قال (لمن عزم الأمور) فيه صبر ومغفرة فأكد باللام وإنّ. زيادة حرف في اللغة للتوكيد له وقع خاص من الناحية البيانية.
*قال تعالى (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) لم يقل على الأرض؟
مختال أولاً هو اسم فاعل يصلح أن يكون اسم فاعل واسم مفعول. مختال فعله الثلاثي خالَ (خالَ بناتك الضرر) اختال زيادة في الاختيال في التكبر فيها مبالغة، إذن المختال هو المبالغ الأصل هو خال خائل، اختال أبلغ في هذا الوصف ومختال أبلغ في هذا الوصف. فخور صفة مبالغة (فعول) إذن مختال مبالغة وفخور مبالغة.
قال لا تمش في الأرض ولم يقل على الأرض مع أنه قال في موطن آخر قال (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا (63) الفرقان). (في) تفيد الظرفية و(على) للاستعلاء كأن هذا المختال يريد أن يخرق الأرض وهو يمشي كما قال تعالى (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ (37) الإسراء) فالمختال يمشي في الأرض هكذا. أما عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً بوقار وسكينة وليس في الأرض كما يفعل أولئك. (على) تفيد الاستعلاء و(في) تفيد الظرفية قال تعالى (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ (5) لقمان) (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) سبأ) فالهدى استعلاء، استعلاء على السوء وعلى الشر وعلى السفاسف. لهذا قال تعالى (في الأرض) لأنه فيها تكبر وخيلاء وفخر و(على) فيها استعلاء وهذه صفة عباد الرحمن. نلاحظ أن الأبنية في الآية كلها تفيد المبالغة (ولا تمش في الأرض، مرحاً) مرحاً حال جاء بها على وزن المصدر (مرح) هذا يفيد المبالغة إذا أتيت بالحال مصدراً فهو المبالغة قطعاً عندما تقول جاء ركضاً أبلغ من جاءك راكضاً وكما قال تعالى (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا (260) البقرة) أبلغ من ساعيات لأن أخبرت عن الذات بالحدث المجرد كأنه ليس شيء يثقله من الذات أصبح حدثاً مجرداً. في الأرض مبالغة في المشي، ومرحاً مبالغة، ثم إنّ توكيد، ومختال فيه المبالغة من افتعل، وفخور مبالغة يعني كل أبنتيها وكل ترتيبها للمبالغة.
*ختمت الآية في سورة لقمان (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وفي سورة الشورى (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) فما اللمسة البيانية في الاختلاف بينها؟
إجابة د.حسام النعيمى عن نفس السؤال:
في قوله تعالى (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) لقمان) هذه وصية من أبٍ لولده. أبٌ يوصي ولده فلا يحتاج لتوكيدات، نصيحة أب لابنه ما يقتضي التأكيد. (يا بُنيَّ) بفتح الياء (رواية حفص عن عاصم)، شُعبة قرأ (يا بُنيِّ). نافع وسائر القراء (يا بنيِّ) إذن انفرد عاصم بها من القراء السبعة. هي لغتان للعرب، معناه بعض العرب كان إذا نادى ولده يقول يا بنيَّ وبعض العرب يقول يا بُنيِّ والأكثرون كانوا يقولون (يا بُنيِّ) بدليل أن القراء الستة والسابع بروايتين، رواية وافقت الستة يعني باثني عشر راوياً يعني ثلاثة عشر راوياً يروون يا بنيِّ، يعني جمهور العرب يقولون بنيِّ، هذه لهجة وهذه لهجة، هذه لهجة أقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه أو قرأ بها وهذه لهجة أقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه وقرأ بها وقرأت بها القبائل. لكن علماء الصرف يوجهون أنه كيف هذا قال هكذا وكيف هذا قال هكذا؟: (ابن) أصلها بنو لما تُصغّر تصير (بنيو) اجتمعت الياء والواو والأول منهما أصلي ذاتاً وسكوناً فانقلبت إلى ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت بنيّ مثل كلمة نَهَر لما تُصغّر تصير نُهير لكن بدل الراء هناك ياء أخرى فصار بياءين أضيفت إليها ياء المتكلم.
في الشورى (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) نلاحظ هنا في البداية توجد لام التوكيد، لام مؤكدة وبعض العلماء يرى أنها في جواب قَسَم محذوف يعني كأنه “والله لمن انتصر”، (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). (من عزم الأمور) و (لمن عزم الأمور). اللام هنا في جواب (إنّ) في (إن ذلك لمن عزم الأمور) التي هي اللام المزحلقة. لكننا وقفنا عند قراءة (يا بُنيَّ) بالفتح وقلنا الفتح هنا هو من القراء السبعة لراوٍ واحد وهو حفص عن عاصم هذه التي نقرأ بها. ونحن حريصون على ذكر قراءة نافع من أجل إخواننا في المغرب العربي لأنهم يتابعون البرنامج من خلال كثرة أسئلتهم. نافع وسائر القراء بل شعبة عن عاصم يقرأون (يا بُنيِّ) بالكسر وليس بالفتح، الفتح عند عاصم. وذكرنا أن كلمة (بُني) هي تصغير كلمة (ابن) مثل كلمة نهر تُصغّر فتصير نُهير فتأتي ياء. (بنو) لما تصغر تصير (بنيو) – لأن ابن أصلها بنو والهمزة زائدة في الأول، همزة وصل – لما تصير بنيو تجتمع الياء والواو والأول منهما أصلي ذاتاً وسكوناً يُدغمان في ياء واحدة، مثل كلمة سيد من ساد يسود فصارت سيود تصير سيد، لوى يلوي لوياً صارت ليّاً، طوى يطوي طيّاً، وهكذا إذا اجتمعت الياء والواو والأول منهما أصلي ذاتاً وسكوناً أي غير منقلب عن غيره وساكن وليس سكوناً عارضاً أيضاً تصير ياء وتدغم الياء في الياء. فلما صارت بنيو صارت بنيّ أي عندنا ياءان مثل نهير تخيل أن الراء ياء تصير نهيي لما ينسبه إلى نفسه: هذا نهير زيدٍ تصير ياء أخرى نهيري اجعل الراء ياء فتصير نهييي ثلاث ياءات. فبعض قبائل العرب حذفت ياء المتكلم وهم الأغلبية واكتفوا بالكسرة فقالوا (بنيِّ) فإذن هنا ياء ومحذوفة اكتفاء بالكسرة التي تشير إلى الياء وعليها جمهور القراء كما قلنا. بعض قبائل العرب لم تحذف ياء المتكلم أو حذفت الياء التي قبلها أو حذفت ياء المتكلم وأجرت على الياء الباقية ما يُجرى على ياء المتكلم من الفتح في التخفيف فتقول: هذا لي أو هذا ليَ، كتابي أو كتابيَ بفتح ياء المتكلم. فيا بُنيَّ هذه فتحة التخفيف على ما قرأ الرسول (صلى الله عليه وسلم) على قبائل من العرب بلهجتها بإذن من ربه. و(يا بُنيِّ) هذا بالنسبة لاختلاف القراء والنتيجة واحدة هي تصغير الابن للتحبيب للمتكلم هو نسبه إلى نفسه ثم بدأ يعظه ويوصيه: أقم الصلاة، أُمر بالمعروف، إنه عن المنكر.
إقامة الصلاة تكوين أن تُكوّن نفسك ثم تنتقل مرحلة ثانية تدعو الناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هذا سيؤدي إلى الإضرار بك فاصبر على ما أصابك فهي نصيحة ومتدرجة وليس الموضع موضع تأكيد زائد فقال له (إن ذلك من عزم الأمور) فأكّد بـ (إنّ) وحدها، أن الصبر على ما يصيبك هو من عزم الأمور، من الإرادة القوية.
لما نأتي إلى الآية الأخرى نجد أنها من البداية (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)) من أولها فيها توكيد كما قلنا جوّ الآية جو توكيد. (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) إنسان اعتُدي عليه والدولة أخذت له حقه بأنه أصر على أخذ حقه ما أراد أن يتنازل فظُلِم ولم يتنازل عن حقه، قد يكون في نفس الذي أُخِذ منه الحق أو من أهله أو من أقاربه نوع من الغضب والحقد على الإنسان الذي أخذ حقه فبدأت الآية بالتأكيد أو القسم المحذوف الذي هو لام القسم على قولين (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) ما يحاول أحد أن يعتدي على هؤلاء الذين أخذوا حقهم أو أخذت الدولة حقهم إنما حصراً (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ)، هذه توصية سواء للذي أخذ حقه أو الذي اُخِذ الحق منهم (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) لأنه فيه صبر وفيه عفو عن الإساءة بالنسبة لمن ظلم أنه إذا عفا الأفضل حتى لا يثير حفيظة الآخرين لا يثير حقدهم والعفو أحياناً لا يكون سهلاً، ألم يقل الشاعر:
قومي هم قتلوا أميم أخي فإذا رميت أصابني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللاً ولئن رميت لأوهنن عظمي
هو متردد بين حالين لأن الذي قتل أخاه قومه يأخذ الثأر منهم، يعني يجعل الدولة تقتص منهم؟ سيُضعف قومه فهم متحير. لذا لما كان الصبر على هذا الأذى والمغفرة يحتاج إلى توكيد والجو كله جو تأكيد من البداية (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). وفيها (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ) بمعنى الحصر والحصر فيه معنى التوكيد فجاءت (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) معناه أكّد بمؤكدين هنا لمناسبة الحالة لأن الكلام على صبر على عدوان يحتاج إلى تأكيد (إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) بينما النصيحة الطبيعية لا تحتاج لهذا التأكيد (إن ذلك من عزم الأمور).
آية (17):
(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17))
هذه الآية فيها أوامر (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)). بعد أن نهاه عن الشرك وأمره بالتوحيد بعد ذلك بدأ بأهم العبادات. أول مرة أقام العقيدة السليمة وهو التوحيد لأنه لا تصح عبادة مع الشرك فبعد أن جاءه بأهم الأمور وأعمها وأيسرها نفي الشرك بالله وترسيخ عقيدة التوحيد الآن أمره بالعبادات فقال له وبدأ بأهم العبادات وأوجبها هي الصلاة وهي التي لا تسقط بحال من الأحوال وهي أول ما يُسأل عنه المرء يوم القيامة. الصلاة إسماعيل (عليه السلام) كان يأمر أهله بالصلاة وموسى (عليه السلام) (وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ (87) يونس) الصلاة هي عبادة أوجبها الله تعالى منذ البدء وهي آخر ما يُرفع من الأعمال قبل يوم القيامة هي الصلاة، فبدأ بأهم العبادات وأوجبها وهي العبادة التي لا تسقط في حال من الأحوال في المرض أو غيره وأول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة. ولم يقل له صلي وإنما قال أقم الصلاة أي الإتيان بها على أتم حالاتها بكل سكناتها وحركاتها وخشوعها. نلاحظ أنه بعد الأمر بإقامة الصلاة ما قال أموراً أخرى وإنما قال (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) إذن هو أمره بنوعين من العبادات عبادة فردية شخصية (الصلاة) وعبادة عامة اجتماعية (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هذه علاقته بالمجتمع، بالآخرين، عبادة اجتماعية. الصلاة عبادة فردية والثانية عبادة اجتماعية كما قال القدامى إحداهما تكميل للنفس (الصلاة) والثانية تكميل للمجتمع (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) إذن عبادتين إحداهما للنفس وتكميلها والثانية للمجتمع لأن من حق المجتمع على الفرد أن يحفظه ويرسي قواعد الخير فيه ويجتث أمور الشر فيه، الأمر بالمعروف يرسي قواعد الخير والنهي عن المنكر يجتث قواعد التخريب وقواعد الهدم. (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ) الذي يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدركه الأذى من الآخرين وهكذا قال القدامى لأنك تتعرض للآخرين تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر فقد تسمع منهم كلاماً يؤذيك وقد يكونوا أذوك بأشد الأذى ولقمان أدرك بحكمته أن ابنه إذا فعل هذا سيتعرض للأذى لأنه من أمر بالمعروف عليه أن يتوقع أن يصيبه أذى. والغريب أنه من حكمة لقمان أنه أمر ابنه بذلك – مع أنه يدرك أن ابنه سيصيبه أذى – أن الآباء عادة يقولون لأبنائهم اتركوا الناس بشأنهم لا عليكم منهم، يخشون على أبنائهم من الأذى فيقولون لهم اتركوا الناس أما لقمان بحكمته الثاقبة مع أنه يعلم أن ابنه سيصيبه الأذى لكن علم أن هذا الأمر أولى من راحة ابنه أن إرساء قواعد الخير في المجتمع واجتثاث عوامل الشر منه أولى من راحة ابنه لأنه المجتمع إذا انهار ينهار عليه وعلى ابنه وأسرته الانهيار لا يختص بواحد وإنما يعم الجميع إذن هو أولى من راحة الابن فليتعب ابنه لأنه قد يؤذى فرداً فلا بأس لكن هو يرسي قواعد الخير فلو كان كل الآباء يوجهون أبناءهم هذا التوجيه لصاروا كلهم مثل ابن لقمان فالمجتمع يصير يثبت فيه قواعد الخير وينجو من عوامل التفكك والتخريب وفي ذلك سلامته وسلامة المجتمع وراحته وراحة المجتمع بخلاف لو تُرِك المجتمع على عواهنه فإنه هو أيضاً سيدمر الابن والعائلة ستدمر. ولذلك هو مع معرفته بذلك أوصاه بفعل ذلك وهذا من حكمة لقمان الثاقبة فهم كم يحب ابنه ويتمنى له الخير وهو يعلم أنه سيصيبه أذى لكن هذا الأذى أهون من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(إن ذلك) أي الصبر على إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلها من الأمور الواجبة المقطوعة التي لا ينبغي التخلي عنها لا الصلاة (تكميل للنفس) ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه كلها تحتاج عزم وعزيمة وقوة وإن كانت الثانية أكثر لأنها مواجهة (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ذلك تعود على البعيد. إن ذلك من عزم الأمور أي الأمور التي لا ينبغي التخلي عنها مهما أوذي في ذلك.
*ختمت الآية في سورة لقمان (إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) وفي سورة الشورى (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) فما اللمسة البيانية في الاختلاف بينها؟
في لقمان قال (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) في الشورى قال (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)) أيّ الأشد أن تصبر وتغفر أو أن تصبر فقط؟ أن تصبر وتغفر لأنها أشق على النفس. يطالبنا ربنا بالصبر والمغفرة لأن هذا أسدى إلى الخير وأكمل للمعروف ويؤلف قلوب الآخرين ولا يثير فيهم الضغائن وإذا فعلت لهم الحسنة فقد جمعت قلوبهم (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) فصلت) حميم أي قريب فأنت تعامل بالصبر والمغفرة مع أنها شاقة على النفس الصبر وحده شاق فكيف الصبر والمغفرة وما هو أعلى وهو الإحسان. لذلك فيما فيه مشقة قال (لمن عزم الأمور) فيه صبر ومغفرة فأكد باللام وإنّ. زيادة حرف في اللغة للتوكيد له وقع خاص من الناحية البيانية.
*قال تعالى (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) لم يقل على الأرض؟
مختال أولاً هو اسم فاعل يصلح أن يكون اسم فاعل واسم مفعول. مختال فعله الثلاثي خالَ (خالَ بناتك الضرر) اختال زيادة في الاختيال في التكبر فيها مبالغة، إذن المختال هو المبالغ الأصل هو خال خائل، اختال أبلغ في هذا الوصف ومختال أبلغ في هذا الوصف. فخور صفة مبالغة (فعول) إذن مختال مبالغة وفخور مبالغة.
قال لا تمش في الأرض ولم يقل على الأرض مع أنه قال في موطن آخر قال (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا (63) الفرقان). (في) تفيد الظرفية و(على) للاستعلاء كأن هذا المختال يريد أن يخرق الأرض وهو يمشي كما قال تعالى (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ (37) الإسراء) فالمختال يمشي في الأرض هكذا. أما عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً بوقار وسكينة وليس في الأرض كما يفعل أولئك. (على) تفيد الاستعلاء و(في) تفيد الظرفية قال تعالى (أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ (5) لقمان) (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (24) سبأ) فالهدى استعلاء، استعلاء على السوء وعلى الشر وعلى السفاسف. لهذا قال تعالى (في الأرض) لأنه فيها تكبر وخيلاء وفخر و(على) فيها استعلاء وهذه صفة عباد الرحمن. نلاحظ أن الأبنية في الآية كلها تفيد المبالغة (ولا تمش في الأرض، مرحاً) مرحاً حال جاء بها على وزن المصدر (مرح) هذا يفيد المبالغة إذا أتيت بالحال مصدراً فهو المبالغة قطعاً عندما تقول جاء ركضاً أبلغ من جاءك راكضاً وكما قال تعالى (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا (260) البقرة) أبلغ من ساعيات لأن أخبرت عن الذات بالحدث المجرد كأنه ليس شيء يثقله من الذات أصبح حدثاً مجرداً. في الأرض مبالغة في المشي، ومرحاً مبالغة، ثم إنّ توكيد، ومختال فيه المبالغة من افتعل، وفخور مبالغة يعني كل أبنتيها وكل ترتيبها للمبالغة.
آية (18):
(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18))
نلاحظ أن لقمان انتقل بابنه إلى الآداب في معاملة الناس وكيف ينبغي أن يعامل الناس فنهاه عن التكبر وتصعير الخد (ولا تصعر) والتصعير هو إمالة الخد كِبراً يشيح بوجهه تكبراً وإعراضاً، صعّر خده أي أماله كِبراً والمرح هو النشاط مع الخيلاء والزهو، يعني هو معجب بنفسه. المختال هو المتكبر وقالوا المختال هو الصلِف المتباهي الجهول المُعجَب بنفسه.
آية (18):
(وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18))
نلاحظ أن لقمان انتقل بابنه إلى الآداب في معاملة الناس وكيف ينبغي أن يعامل الناس فنهاه عن التكبر وتصعير الخد (ولا تصعر) والتصعير هو إمالة الخد كِبراً يشيح بوجهه تكبراً وإعراضاً، صعّر خده أي أماله كِبراً والمرح هو النشاط مع الخيلاء والزهو، يعني هو معجب بنفسه. المختال هو المتكبر وقالوا المختال هو الصلِف المتباهي الجهول المُعجَب بنفسه.
آية (19):
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19))
هذه الآية الكريمة (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) اقصد يعني توسّط في المشي بين الإسراع والإبطاء، قال تعالى قبلها (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)) والآن يوجهنا إلى الطريق المستقيم الصحيح في القصد والاعتدال في المشي وفي الكلام. القصد هو التوسّط بين الإسراع والإبطاء وإذا احتجت إلى الإسراع فأسرِع بقدر ما تحتاج لا تمشي مشياً متماوتاً وإنما مشية القصد والمتوسط لا مشية المتماوت ولا مشية المسرع كأنه يسابق بدون سبب ولا داع. (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) اغضض يعني اخفض، جاء بـ (من) ما قال اغضض صوتك، قال اغضض من صوتك للتبعيض فيخفض منه بحيث لا يكون مرتفعاً فيؤذي ولا يكون همساً فلا يُسمَع. لما نقول اغضض من صوتك أي اخفض منه قليلاً ولذلك عند الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) ولذلك كان الصحابة لا يكاد يُسمع أصواتهم عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فرق بين خطاب عموم الناس غض من الصوت وأما عند الرسول (صلى الله عليه وسلم) فتغض صوتك. قال (واغضض من صوتك) أي توسط في الصوت والحديث مثل التوسط في المشي. ثم ذكّره بما تستقبحه الآذان فقال (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ذكّر من يرفع صوته أكثر مما يحتاج إليه السامعون ذكّره بصوت الحمار ونُكره في النفس. إذن اغضض من صوتك أي اخفضه بعض الشيء أما يغضون أصواتهم فيعني يخفضه تماماً وحتى بعد نزول هذه الآية كان الصحابة لا يكاد يُسمع صوتهم أمام رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولذلك (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ (30) النور) استخدم القرآن الفعل غضّ مع البصر يغض من بصره أي يقلل أما يغض بصره فلا يرى شيئاً.
*قال تعالى (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) استخدم الحمير في الآية مع أنه في مكان آخر استخدم (حُمُر) فما دلالة استخدام (الحمير)؟
كلاهما جمع حمار، لكن القرآن استعمل كلمة الحمير للحُمُر الأهلية والحُمُر للوحشية هكذا خصصها. قال (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) النحل) خصص هذا الجمع بالحُمُر الأهلية والحُمُر خصصها بالوحشية (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) المدثر) هذه الوحشية التي في الغابة. اللغة العربية لا تفرق بين الكلمتين ولكن هذا من خواص الاستعمال القرآني. في القرآن كثيراً من الأمور خصصها بالجمع مثل الأعين والعيون، العيون عيون الماء والأعين استعملها للعين الباصرة أو الرعاية، واستخدام الموتى والأموات والميتون، الموتى للميّت حقيقة والميّتون لمن لم يمت بعد (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) الزمر). كذلك القعود والقاعدين القعود استخدمها في القعود الحقيقي نقيض القيام والقاعدون في القاعدون عن الجهاد فقط هذا من خواص الاستعمال القرآني. اللغة العربية قد تخصص مثلاً تخصص الخال وهي مشتركة بين الشامة وأخ الأم، تستخدم خيلان جمع خال الشامة وأخوال لجمع حال أخو الأم. الركاب والركبان، الركاب عامة للسفينة والخيل وغيرها أما الركبان فللإبل فقط، هذا تخصيص العرب والقرآن يخصص في الاستعمال. فالحُمُر للوحشية والحمير للأهلية المستأنسة.
آية (19):
(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19))
هذه الآية الكريمة (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) اقصد يعني توسّط في المشي بين الإسراع والإبطاء، قال تعالى قبلها (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)) والآن يوجهنا إلى الطريق المستقيم الصحيح في القصد والاعتدال في المشي وفي الكلام. القصد هو التوسّط بين الإسراع والإبطاء وإذا احتجت إلى الإسراع فأسرِع بقدر ما تحتاج لا تمشي مشياً متماوتاً وإنما مشية القصد والمتوسط لا مشية المتماوت ولا مشية المسرع كأنه يسابق بدون سبب ولا داع. (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ) اغضض يعني اخفض، جاء بـ (من) ما قال اغضض صوتك، قال اغضض من صوتك للتبعيض فيخفض منه بحيث لا يكون مرتفعاً فيؤذي ولا يكون همساً فلا يُسمَع. لما نقول اغضض من صوتك أي اخفض منه قليلاً ولذلك عند الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) ولذلك كان الصحابة لا يكاد يُسمع أصواتهم عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فرق بين خطاب عموم الناس غض من الصوت وأما عند الرسول (صلى الله عليه وسلم) فتغض صوتك. قال (واغضض من صوتك) أي توسط في الصوت والحديث مثل التوسط في المشي. ثم ذكّره بما تستقبحه الآذان فقال (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) ذكّر من يرفع صوته أكثر مما يحتاج إليه السامعون ذكّره بصوت الحمار ونُكره في النفس. إذن اغضض من صوتك أي اخفضه بعض الشيء أما يغضون أصواتهم فيعني يخفضه تماماً وحتى بعد نزول هذه الآية كان الصحابة لا يكاد يُسمع صوتهم أمام رسول الله (صلى الله عليه وسلم). ولذلك (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ (30) النور) استخدم القرآن الفعل غضّ مع البصر يغض من بصره أي يقلل أما يغض بصره فلا يرى شيئاً.
*قال تعالى (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) استخدم الحمير في الآية مع أنه في مكان آخر استخدم (حُمُر) فما دلالة استخدام (الحمير)؟
كلاهما جمع حمار، لكن القرآن استعمل كلمة الحمير للحُمُر الأهلية والحُمُر للوحشية هكذا خصصها. قال (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) النحل) خصص هذا الجمع بالحُمُر الأهلية والحُمُر خصصها بالوحشية (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) المدثر) هذه الوحشية التي في الغابة. اللغة العربية لا تفرق بين الكلمتين ولكن هذا من خواص الاستعمال القرآني. في القرآن كثيراً من الأمور خصصها بالجمع مثل الأعين والعيون، العيون عيون الماء والأعين استعملها للعين الباصرة أو الرعاية، واستخدام الموتى والأموات والميتون، الموتى للميّت حقيقة والميّتون لمن لم يمت بعد (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) الزمر). كذلك القعود والقاعدين القعود استخدمها في القعود الحقيقي نقيض القيام والقاعدون في القاعدون عن الجهاد فقط هذا من خواص الاستعمال القرآني. اللغة العربية قد تخصص مثلاً تخصص الخال وهي مشتركة بين الشامة وأخ الأم، تستخدم خيلان جمع خال الشامة وأخوال لجمع حال أخو الأم. الركاب والركبان، الركاب عامة للسفينة والخيل وغيرها أما الركبان فللإبل فقط، هذا تخصيص العرب والقرآن يخصص في الاستعمال. فالحُمُر للوحشية والحمير للأهلية المستأنسة.
آية (20):
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20))
*ما تعلُّق هذه الآية وتواصلها بما قبلها خاصة بعد انتهاء وصايا لقمان لابنه فكيف نربط بين هذه الآية وما سبقها من آيات؟
انتهت وصية لقمان بالآية التي ذكرناها (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)) وبدأ الآن كلاماً آخر وهو كلام رب العالمين وخطابه للخلق (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) هو قبل وصية لقمان قال (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) ذكر خلق السموات وإلقاء الرواسي في الأرض وما بثّ فيها من كل دابة قبل وصية لقمان وهنا ذكر النِعم التي أنعمها في السموات والتسخير وأسباب النِعم، هناك الخلق وهنا المرحلة الأخرى وهي التسخير بعد الخلق هناك خلق السموات وهنا تسخيرها لأن التسخير يكون بعد الخلق، بدأ هناك بالخلق (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) والآن إسباغ النعم والتسخير في النِعم فالخلق أولاً ثم التسخير والنِعم التي أنعمها رب العالمين علينا فهو الخالق وهو المسخر وهو المُفيض بالنِعم، هذه من حيث الارتباط. ومن حيث المضمون الناس هم يعلمون أن الله خالق السموات والأرض (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (38) الزمر) كان المتوقع أن معرفة هذا الأمر تدعو الناس إلى عبادته سبحانه لكن مع ذلك ذكر مع هذا (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) قال قسم من الناس يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين. هذه الآية ليست فقط لها ارتباط بالآية التي سبقت وصية لقمان فهي كأنها مكملة لها خلق السموات وما إلى ذلك ثم بعدها التسخير وحتى يبدو أن لها ارتباطاً بأول السورة (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)) وصف الكتاب بأنه حكيم وذكر بأنه هدى ورحمة للمحسنين وذكر أن هؤلاء يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، هناك ذكر الكتاب وذكر أنه حكيم، وهنا ذكر أنهم يجادلون بغير علم ولو اطلعوا على الكتاب لكان عندهم علم لأن حكيم من الحِكمة توفيق العلم بالعمل، يعلم ثم يعمل بمقتضى العلم، الحكمة أن يضع الشيء في محله قولاً وفعلاً. إذن بغير علم يقابل وصف الكتاب بأنه حكيم لأنهم لو اطلعوا وقرأوا الكتاب لكانوا يتكلمون بعلم، ثم قال (ولا هدى) وقد وصف الكتب بأنه هدى قال (هدى ورحمة). (ولا كتاب منير) وهو أثبت أنه كتاب حكيم (تلك آيات الكتاب الحكيم) إذن هنا قال (ورحمة للمحسنين) وهنا لم يحسنوا في الجدال يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير إذن لم يحسنوا في الجدال وأما الرحمة المذكورة فرحمته بخلقه وما أفاض عليهم من النِعم في السورة. فهي إذا كما هي مرتبطة كأنما هي تأتي بعد الوصية هي مرتبطة بفاتحة السورة (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)).
اللمسات البيانية في الآية:
الآية الكريمة (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) قال ألم تروا ولم يقل ألم تر أي الخطاب لعموم العقلاء وليس المفرد، خاطب جمع العقلاء. (ألم تروا) أي ألم تبصروا، ألم تر إلى يصير علماً يعني ألم تعلم (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (45) الفرقان) ربنا لا يُرى فيعني ألم تعلم. ورأى قد يكون قلبياً أو بصرياً، فإذن (ألم تروا) الخطاب لعموم العقلاء ثم قال (سخر لكم) ذكر نعمته بالتسخير لعموم الخلق ثم قال (ما في السموات وما في الأرض) شمل عموم ما فيهما ما في السموات وما في الأرض وهذا أعمّ تسخير (ما في السموات وما في الأرض) (ما بمعنى الذي) لم يقل كما قال في مواطن أخرى (وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) إبراهيم) تحديداً، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) إبراهيم) (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ (12) النحل) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ (12) الجاثية) هذه جزيئات وهنا قال (ما في السموات وما في الأرض)، إذن ألم تروا جمع، سخر لكم جمع ثم ما في السموات وما في الأرض أعم تسخير ثم قال (وأسبغ) معناها أفاض في العطاء وليس العطاء فقط، كلها في الزيادة والمبالغة في الشيء. ثم قال (نِعمه) جمع الكثرة لم يقل أنعمه لأن أنعم جمع قلة وجمع القِلّة معدود بين الثلاثة والعشرة ونِعم جمع كثرة غير معدود لما أثنى الله تعالى على إبراهيم (عليه السلام) قال (إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ (121) النحل) لم يقل لنعمه، لا يستطيع لأنها لا تُحصى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا (34) إبراهيم) نعمة هنا جنس وحتى النعمة الواحدة فيها نِعم. النِعم عامة والنعمة قد تكون للجنس مثل الإنسان فتشمل جميع النِعم وحتى لو كانت واحدة فهي لا تُحصى. (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) نعمة هنا اسم جنس يعني النعمة على العموم مثل كلمة رجل أحياناً يراد به فرد وأحياناً يراد به جنس. هنا قال ربنا تعالى نِعمه ولم يقل أنعمه. ثم قال (ظاهرة وباطنة) دلالة على شمول النِعم لكافة أنواعها ظاهرة وباطنة. ولو قال وأسبغ عليكم نعمه قد يظن ظان أنها ظاهرة وغير باطنة مثلاً؟ ذكر ظاهرة وباطنة للشمول لأن من النعم ما هو باطن مثل العقل والقلب وما أودعه الله تعالى فينا من القوة والأشياء باطنة لأن الإنسان قد لا يحس إلا بالنعم الظاهرة فقال (ظاهرة وباطنة) وهذه كلها متناسبة مع الشمول الذي يذكره. ثم قال (بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) فأفاض في ذكر مركّب الجهل، عناصر الجدل. هو أوسع وأفاض في عموم المسخر لهم عموم الخلق (ألم تروا، سخر لكم، أسبغ عليكم) وأوسع وأفاض فيما سخره لهم (ما في السموات وما في الأرض) وأوسع وأفاض في الفعل (أسبغ) وأوسع وأفاض في النعم (نعمه) وأوسع وأفاض في الشمول (ظاهرة وباطنة) وأوسع وأفاض في ذكر عناصر الجهل (بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين) هذه تشمل عناصر الجهل المركّب الظاهر والباطن. العلم هذا باطني أنت ترى إنساناً لكن لا تحدد علمه من الرؤية وقد تظهر بعض الآثار إذا تكلم الشخص، هذا أمر باطني. والهدى قسمين قد يكون ظاهراً وقد يكون باطناً، ظاهراً في الكتب ورب العالمين سمى الكتب هدى التوراة والنجيل والقرآن هدى ورحمة، والهدى الظاهر أدلاء الطريق (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) طه) من يهديه وذكر النجوم (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) النحل) هذا هدى ظاهر والهدى الباطن هو توفيق الله وما يقذفه من نور في قلب الإنسان (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) الكهف) (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (76) مريم) (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا (13) السجدة) وقوله (ولا كتاب منير) هذا كتاب ظاهر مقروء. إذن نفى عناصر الجهل وتدرج في ذكر العناصر من الباطن إلى المشترك إلى الظاهر، الباطن هو العلم والمشترك هو الهدى والباطن هو الكتاب. ثم وصف الكتاب بأنه منير لم يقل فقط ولا كتاب لأن هؤلاء قد يرجعون إلى كتب غير منيرة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (6) لقمان) وقد يرجعون إلى الكتب المحرفة، إذن كلمة منير أفادت أنها حددت كتاب الله. علاقة منير بالوصف الذي قبله من الجهل المركّب الذين هم فيه أنهم في ظلمات ويخرجهم من الظلمات إلى النور. واللطيفة أن هذه المجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير هي أنكر المجادلات وهي مثل أنكار صوت الحمير فمن اللطيفة أن تكون بعدها، فهي مناسبة لما قبلها. جعل كلاهما من المستنكرات المستنكر في العقول أن يرفع الإنسان صوته والمستنكر في الجدال والنقاش أنه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
القرآن كله وحدة واحدة مترابطة دائماً ولا يمكن تفسير القرآن بما هو خارج عنه وهناك كلام أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ومن الأسس الذي يتصدى لعلم التفسير أن يرجع إلى ما في القرآن من نحو التعبيرات والمعاني حتى يتبين له كثير من الأمور. وهناك رسالة دكتوراة بعنوان وحدة السورة في القرآن الكريم تناولت هذه الجوانب.
*قال تعالى في سورة النحل (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)) وفي سورة لقمان (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً (20)) فما الفرق بين أنعُم ونِعَم؟ نِعمه هل هي نِعَم واحدة؟
أنعم جمع قِلّة على وزن أفعُل، نِعم جمع كثرة. ونعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تُشكر ولا نستطيع شكرها فالله تعالى مدح إبراهيم (عليه السلام) على أنه شكر الأنعم أي القليل من النِعم فمدحه على ذلك لأنه لا يمكن لأحد أن يشكر نِعَم الله تعالى التي لا تُحصى فأثنى على إبراهيم (عليه السلام) لأنه كان شاكراً لأنعم الله تعالى. والله تعالى لم يسبغ علينا أنعماً ولكنه أسبغ نعماً ظاهرة وباطنة لا تُحصى.
والإسباغ هو الإفاضة في ذكر النِعم. قال تعالى في سورة الإنسان (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) شاكراً اسم فاعل والكفور مبالغ في الكفر. وتوجد نِعم مستديمة منها ما نعلم وما لا نعلم والله تعالى أفاض علينا بالنعم الكثيرة ولو شكرنا نشكر باللسان وهو بحد ذاته نعمة.
آية (20):
(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20))
*ما تعلُّق هذه الآية وتواصلها بما قبلها خاصة بعد انتهاء وصايا لقمان لابنه فكيف نربط بين هذه الآية وما سبقها من آيات؟
انتهت وصية لقمان بالآية التي ذكرناها (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)) وبدأ الآن كلاماً آخر وهو كلام رب العالمين وخطابه للخلق (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) هو قبل وصية لقمان قال (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)) ذكر خلق السموات وإلقاء الرواسي في الأرض وما بثّ فيها من كل دابة قبل وصية لقمان وهنا ذكر النِعم التي أنعمها في السموات والتسخير وأسباب النِعم، هناك الخلق وهنا المرحلة الأخرى وهي التسخير بعد الخلق هناك خلق السموات وهنا تسخيرها لأن التسخير يكون بعد الخلق، بدأ هناك بالخلق (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) والآن إسباغ النعم والتسخير في النِعم فالخلق أولاً ثم التسخير والنِعم التي أنعمها رب العالمين علينا فهو الخالق وهو المسخر وهو المُفيض بالنِعم، هذه من حيث الارتباط. ومن حيث المضمون الناس هم يعلمون أن الله خالق السموات والأرض (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (38) الزمر) كان المتوقع أن معرفة هذا الأمر تدعو الناس إلى عبادته سبحانه لكن مع ذلك ذكر مع هذا (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) قال قسم من الناس يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين. هذه الآية ليست فقط لها ارتباط بالآية التي سبقت وصية لقمان فهي كأنها مكملة لها خلق السموات وما إلى ذلك ثم بعدها التسخير وحتى يبدو أن لها ارتباطاً بأول السورة (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)) وصف الكتاب بأنه حكيم وذكر بأنه هدى ورحمة للمحسنين وذكر أن هؤلاء يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، هناك ذكر الكتاب وذكر أنه حكيم، وهنا ذكر أنهم يجادلون بغير علم ولو اطلعوا على الكتاب لكان عندهم علم لأن حكيم من الحِكمة توفيق العلم بالعمل، يعلم ثم يعمل بمقتضى العلم، الحكمة أن يضع الشيء في محله قولاً وفعلاً. إذن بغير علم يقابل وصف الكتاب بأنه حكيم لأنهم لو اطلعوا وقرأوا الكتاب لكانوا يتكلمون بعلم، ثم قال (ولا هدى) وقد وصف الكتب بأنه هدى قال (هدى ورحمة). (ولا كتاب منير) وهو أثبت أنه كتاب حكيم (تلك آيات الكتاب الحكيم) إذن هنا قال (ورحمة للمحسنين) وهنا لم يحسنوا في الجدال يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير إذن لم يحسنوا في الجدال وأما الرحمة المذكورة فرحمته بخلقه وما أفاض عليهم من النِعم في السورة. فهي إذا كما هي مرتبطة كأنما هي تأتي بعد الوصية هي مرتبطة بفاتحة السورة (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ (3)).
اللمسات البيانية في الآية:
الآية الكريمة (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) قال ألم تروا ولم يقل ألم تر أي الخطاب لعموم العقلاء وليس المفرد، خاطب جمع العقلاء. (ألم تروا) أي ألم تبصروا، ألم تر إلى يصير علماً يعني ألم تعلم (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ (45) الفرقان) ربنا لا يُرى فيعني ألم تعلم. ورأى قد يكون قلبياً أو بصرياً، فإذن (ألم تروا) الخطاب لعموم العقلاء ثم قال (سخر لكم) ذكر نعمته بالتسخير لعموم الخلق ثم قال (ما في السموات وما في الأرض) شمل عموم ما فيهما ما في السموات وما في الأرض وهذا أعمّ تسخير (ما في السموات وما في الأرض) (ما بمعنى الذي) لم يقل كما قال في مواطن أخرى (وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) إبراهيم) تحديداً، (وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) إبراهيم) (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ (12) النحل) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ (12) الجاثية) هذه جزيئات وهنا قال (ما في السموات وما في الأرض)، إذن ألم تروا جمع، سخر لكم جمع ثم ما في السموات وما في الأرض أعم تسخير ثم قال (وأسبغ) معناها أفاض في العطاء وليس العطاء فقط، كلها في الزيادة والمبالغة في الشيء. ثم قال (نِعمه) جمع الكثرة لم يقل أنعمه لأن أنعم جمع قلة وجمع القِلّة معدود بين الثلاثة والعشرة ونِعم جمع كثرة غير معدود لما أثنى الله تعالى على إبراهيم (عليه السلام) قال (إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ (121) النحل) لم يقل لنعمه، لا يستطيع لأنها لا تُحصى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا (34) إبراهيم) نعمة هنا جنس وحتى النعمة الواحدة فيها نِعم. النِعم عامة والنعمة قد تكون للجنس مثل الإنسان فتشمل جميع النِعم وحتى لو كانت واحدة فهي لا تُحصى. (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) نعمة هنا اسم جنس يعني النعمة على العموم مثل كلمة رجل أحياناً يراد به فرد وأحياناً يراد به جنس. هنا قال ربنا تعالى نِعمه ولم يقل أنعمه. ثم قال (ظاهرة وباطنة) دلالة على شمول النِعم لكافة أنواعها ظاهرة وباطنة. ولو قال وأسبغ عليكم نعمه قد يظن ظان أنها ظاهرة وغير باطنة مثلاً؟ ذكر ظاهرة وباطنة للشمول لأن من النعم ما هو باطن مثل العقل والقلب وما أودعه الله تعالى فينا من القوة والأشياء باطنة لأن الإنسان قد لا يحس إلا بالنعم الظاهرة فقال (ظاهرة وباطنة) وهذه كلها متناسبة مع الشمول الذي يذكره. ثم قال (بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) فأفاض في ذكر مركّب الجهل، عناصر الجدل. هو أوسع وأفاض في عموم المسخر لهم عموم الخلق (ألم تروا، سخر لكم، أسبغ عليكم) وأوسع وأفاض فيما سخره لهم (ما في السموات وما في الأرض) وأوسع وأفاض في الفعل (أسبغ) وأوسع وأفاض في النعم (نعمه) وأوسع وأفاض في الشمول (ظاهرة وباطنة) وأوسع وأفاض في ذكر عناصر الجهل (بغير علم ولا هدى ولا كتاب مبين) هذه تشمل عناصر الجهل المركّب الظاهر والباطن. العلم هذا باطني أنت ترى إنساناً لكن لا تحدد علمه من الرؤية وقد تظهر بعض الآثار إذا تكلم الشخص، هذا أمر باطني. والهدى قسمين قد يكون ظاهراً وقد يكون باطناً، ظاهراً في الكتب ورب العالمين سمى الكتب هدى التوراة والنجيل والقرآن هدى ورحمة، والهدى الظاهر أدلاء الطريق (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) طه) من يهديه وذكر النجوم (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) النحل) هذا هدى ظاهر والهدى الباطن هو توفيق الله وما يقذفه من نور في قلب الإنسان (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) الكهف) (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (76) مريم) (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا (13) السجدة) وقوله (ولا كتاب منير) هذا كتاب ظاهر مقروء. إذن نفى عناصر الجهل وتدرج في ذكر العناصر من الباطن إلى المشترك إلى الظاهر، الباطن هو العلم والمشترك هو الهدى والباطن هو الكتاب. ثم وصف الكتاب بأنه منير لم يقل فقط ولا كتاب لأن هؤلاء قد يرجعون إلى كتب غير منيرة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ (6) لقمان) وقد يرجعون إلى الكتب المحرفة، إذن كلمة منير أفادت أنها حددت كتاب الله. علاقة منير بالوصف الذي قبله من الجهل المركّب الذين هم فيه أنهم في ظلمات ويخرجهم من الظلمات إلى النور. واللطيفة أن هذه المجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير هي أنكر المجادلات وهي مثل أنكار صوت الحمير فمن اللطيفة أن تكون بعدها، فهي مناسبة لما قبلها. جعل كلاهما من المستنكرات المستنكر في العقول أن يرفع الإنسان صوته والمستنكر في الجدال والنقاش أنه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
القرآن كله وحدة واحدة مترابطة دائماً ولا يمكن تفسير القرآن بما هو خارج عنه وهناك كلام أن القرآن يفسر بعضه بعضاً ومن الأسس الذي يتصدى لعلم التفسير أن يرجع إلى ما في القرآن من نحو التعبيرات والمعاني حتى يتبين له كثير من الأمور. وهناك رسالة دكتوراة بعنوان وحدة السورة في القرآن الكريم تناولت هذه الجوانب.
*قال تعالى في سورة النحل (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)) وفي سورة لقمان (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً (20)) فما الفرق بين أنعُم ونِعَم؟ نِعمه هل هي نِعَم واحدة؟
أنعم جمع قِلّة على وزن أفعُل، نِعم جمع كثرة. ونعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تُشكر ولا نستطيع شكرها فالله تعالى مدح إبراهيم (عليه السلام) على أنه شكر الأنعم أي القليل من النِعم فمدحه على ذلك لأنه لا يمكن لأحد أن يشكر نِعَم الله تعالى التي لا تُحصى فأثنى على إبراهيم (عليه السلام) لأنه كان شاكراً لأنعم الله تعالى. والله تعالى لم يسبغ علينا أنعماً ولكنه أسبغ نعماً ظاهرة وباطنة لا تُحصى.
والإسباغ هو الإفاضة في ذكر النِعم. قال تعالى في سورة الإنسان (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) شاكراً اسم فاعل والكفور مبالغ في الكفر. وتوجد نِعم مستديمة منها ما نعلم وما لا نعلم والله تعالى أفاض علينا بالنعم الكثيرة ولو شكرنا نشكر باللسان وهو بحد ذاته نعمة.
آية (21):
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21))
اللمسات البيانية في الآية:
أراد أن يبين ضلالهم وجهلهم بعد أن ذكر مجادلتهم في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير أراد أن يبين ضلالهم وجهلهم وقلة إدراكهم، ما قال اتبعوا ما عندنا أو اتبعوا سبيلنا وإنما قال (اتبعوا ما أنزل الله) لو قال اتبعوا سبيلنا لقالوا سبيلنا أفضل، قال (اتبعوا ما أنزل الله) هذه محايدة هل ما عندهم أفضل مما أنزل الله؟ بالطبع لا. لو قال لهم اتبعوا سبيلنا أو ما عندنا لقالوا ما عندنا أفضل وفيه الكفاية. ثم قال (وإذا قيل لهم) بني الفعل لما لم يسمى فاعله (قيل) لو يذكر فاعلاً معيناً لأنه لا يتعلق الأمر بذكره وحتى لا يُظن أن رفضهم بسبب هذا القائل لأنك أحياناً ترفض القول بسبب قائله (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) الزخرف) حتى في حياتنا قد تقبل القول من أحدهم ولا تقبله من آخر ولذلك قال (وإذا قيل لهم) للمحايدة حتى لا تأخذهم العزة بالإثم. ثم قال (بل نتبع ما وجدنا عليهم آباءنا) أي جعلوا آباءهم بإزاء الله تعالى، لو قالوا لو نعلم أن هذا أنزله الله لأتبعناه لو قالوا ذلك كان يعذرهم السامع حتى يقيم عليهم الحجة، لكنهم قيل لهم (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) هم يرفضون الرسالة بحد ذاتها آثروا اتباع آباءهم على ما أنزل الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثم قال (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) هذا سؤال تعجيب من حالهم، هذا كلام رب العالمين يتعجب من حال هؤلاء (أولو كان) استفهام يُنكر عليهم يثير العجب من حالهم. هم قالوا (بل نتبع ما وجدنا عليهم آباءنا) بإزاء ما أنزل الله، (أولو كان الشيطان) هذا تعجيب من حالهم لأن معتنق كل فكرة يبتغي المآل السعيد والعاقبة الحسنة، وهو ذكر أمرين: الشيطان يدعوهم والشيطان لا شك أنه عدو للإنسان ثم عاقبة من اتبعه عذاب السعير فكيف يتبعونه؟! الداعي هو الشيطان والمآل عذاب السعير فكيف يتبعوه؟ هذه إهانة لكل عاقل أن ينجو بجلده ويفر مما هو فيه إلى ما أنزل الله. الشيطان غرّهم كما غرّ أباهم آدم (عليه السلام). الشياطين يدعون إلى عذاب السعير. انتهى كلامهم عند (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) (أولو كان الشيطان) هذا كلام الله تعالى، لما قالوا (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) الشيطان هو الذي يمنعهم من الإيمان إذن هو منعهم ودعاهم ووسوس لهم وترك ورفض ما دعاهم إليه الله سبحانه وتعالى وفي الحقيقة الشيطان دعاهم إلى عذاب السعير وإلى جهنم. في هذا القول الشيطان دعاهم إلى عذاب السعير. التركيب (أولو) يعني أولو كان ذلك؟ تقول لفلان سأفعل كذا فيقول أول كان كذا؟ تقول ولو كان كذا، ولو فعلت كذا؟ لو فعلت كذا، أولو كان فذ ذلك أذى؟ قال ولو كان في ذلك أذى، برغم أن الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير. الإجابة على أولو كان؟ نقول ولو كان، هذا إصرار عجيب وما التفتوا ولا انتبهوا لأن الشيطان عمّ عليهم.
*ما الفرق بين وجدنا وألفينا في القرآن (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة)؟
نقرأ الآية التي فيها ألفينا والتي فيها وجدنا (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة) وفي الأخرى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) المائدة). آية ألفينا وآيتين وجدنا. في القرآن الكريم لم يرد الفعل ألفى إلا فيما هو مشاهد محسوس ولذلك قال بعض النحاة أنه ليس من أفعال القلوب، قسم يدخلوه في أفعال القلوب وقسم يقولون لا ليس من أفعال القلوب وإنما في الأفعال المحسوسة المشاهدة. أفعال القلوب قلبية يستشعر بها. وهي فعلاً في القرآن لم ترد إلا مشاهدة. في هذه الآيات في القرآن (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) الصافات) (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ (25) يوسف) (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا (170) البقرة). (وجدنا) في القرآن وفي غير القرآن وردت قلبية وغير قلبية ومشاهدة وغير مشاهدة مثلاً (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً (37) آل عمران) (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا (86) الكهف) (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ (39) النور) (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ (102) الأعراف) يعني وجدهم يخلفون الميعاد، (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) الأحزاب) (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110) النساء) وجد هي أشمل وتستعمل للأمور القلبية وألفينا للأمور المحسوسة هذا في القرآن أما في غير القرآن ففيها كلام. من حيث اللغة قسم من النحاة يقول هي ليست من أفعال القلوب أصلاً، هذا حكم عند قسم من النحاة. والنحاة في (وجد) هذه لا يختلفون فيها ويقولون هي من أفعال القلوب الأفعال المحسوسة أما (ألفى) فهم مختلفون فيها قسم يقول هي قد تأتي من أفعال القلوب وقسم يقول هي ليست من أفعال القلوب. في القرآن لم ترد في أفعال القلوب وإنما هي محسوسة. ماذا ينبني على هذا؟ التعبير كيف اختلف بالنسبة لهذا الأمر؟ الذي لا يؤمن إلا بما هو مشاهد ومحسوس معناه هو أقل علماً ومعرفة واطلاعاً بمن هو أوسع إدراكاً، أقل، ولذلك عندما يستعمل (ما ألفينا عليها آباءنا) يستعملها في الذم أكثر من (وجدنا)، يعني يستعمل (ألفى) إذا أراد أن يذم آباءهم أشد من الحالة، الذم مختلف وقد تكون حالة أشد من حالة في الحالة الشديدة يستعمل ألفينا، يستعملها أشد في الذم. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة) نفى عنهم العقل، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) المائدة) نفى عنهم العلم. أيّ الأشد تنفي العقل أو تنفي العلم؟ نفي العقل أشد. فاستعمل ألفى في نفي العقل ونفي العقل يعني نفي العلم. نفى العقل وفي الثانية نفى العلم، العاقل يمكن أن يعلم لكن غير العاقل لا يعلم. وحتى في الآية الأخرى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) الشيطان يدعو العاقل أو غير العاقل” يدعو العاقل لأن غير العاقل غير مكلف، يدعوهم معناه هم أصحاب عقل إذن هو يستعمل ألفى إذا أراد أن يذم أشد بنفي العقل ويستعمل وجد لما هو أقل.
سؤال: الجاهليون كانوا يعلمون هذا الكلام ألفى ووجد والفروق الدلالية؟
هم قطعاً يستعملون ألفى في الأمور المادية المحسوسة أكثر ولذلك قال قسم من النحاة أنه ليس من أفعال القلوب.
سؤال: إذن كل كلمة في القرآن تحتاج إلى دراسة وإلى علم غزير وليس إلى وجهة نظر أو انطباع القارئ أو الباحث في القرآن الكريم وهناك علاقات ترابطية ودلالية لا بد أن تحتاج إلى علم وأي علم.
الاجتهاد مبني على علم وأصحاب علوم القرآن يذكرون شروط للذي يتصدى لهذا العلم، لا يأتي أحد ويقول أنا أفسر القرآن الكريم.
آية (21):
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21))
اللمسات البيانية في الآية:
أراد أن يبين ضلالهم وجهلهم بعد أن ذكر مجادلتهم في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير أراد أن يبين ضلالهم وجهلهم وقلة إدراكهم، ما قال اتبعوا ما عندنا أو اتبعوا سبيلنا وإنما قال (اتبعوا ما أنزل الله) لو قال اتبعوا سبيلنا لقالوا سبيلنا أفضل، قال (اتبعوا ما أنزل الله) هذه محايدة هل ما عندهم أفضل مما أنزل الله؟ بالطبع لا. لو قال لهم اتبعوا سبيلنا أو ما عندنا لقالوا ما عندنا أفضل وفيه الكفاية. ثم قال (وإذا قيل لهم) بني الفعل لما لم يسمى فاعله (قيل) لو يذكر فاعلاً معيناً لأنه لا يتعلق الأمر بذكره وحتى لا يُظن أن رفضهم بسبب هذا القائل لأنك أحياناً ترفض القول بسبب قائله (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) الزخرف) حتى في حياتنا قد تقبل القول من أحدهم ولا تقبله من آخر ولذلك قال (وإذا قيل لهم) للمحايدة حتى لا تأخذهم العزة بالإثم. ثم قال (بل نتبع ما وجدنا عليهم آباءنا) أي جعلوا آباءهم بإزاء الله تعالى، لو قالوا لو نعلم أن هذا أنزله الله لأتبعناه لو قالوا ذلك كان يعذرهم السامع حتى يقيم عليهم الحجة، لكنهم قيل لهم (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) هم يرفضون الرسالة بحد ذاتها آثروا اتباع آباءهم على ما أنزل الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثم قال (أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير) هذا سؤال تعجيب من حالهم، هذا كلام رب العالمين يتعجب من حال هؤلاء (أولو كان) استفهام يُنكر عليهم يثير العجب من حالهم. هم قالوا (بل نتبع ما وجدنا عليهم آباءنا) بإزاء ما أنزل الله، (أولو كان الشيطان) هذا تعجيب من حالهم لأن معتنق كل فكرة يبتغي المآل السعيد والعاقبة الحسنة، وهو ذكر أمرين: الشيطان يدعوهم والشيطان لا شك أنه عدو للإنسان ثم عاقبة من اتبعه عذاب السعير فكيف يتبعونه؟! الداعي هو الشيطان والمآل عذاب السعير فكيف يتبعوه؟ هذه إهانة لكل عاقل أن ينجو بجلده ويفر مما هو فيه إلى ما أنزل الله. الشيطان غرّهم كما غرّ أباهم آدم (عليه السلام). الشياطين يدعون إلى عذاب السعير. انتهى كلامهم عند (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) (أولو كان الشيطان) هذا كلام الله تعالى، لما قالوا (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) الشيطان هو الذي يمنعهم من الإيمان إذن هو منعهم ودعاهم ووسوس لهم وترك ورفض ما دعاهم إليه الله سبحانه وتعالى وفي الحقيقة الشيطان دعاهم إلى عذاب السعير وإلى جهنم. في هذا القول الشيطان دعاهم إلى عذاب السعير. التركيب (أولو) يعني أولو كان ذلك؟ تقول لفلان سأفعل كذا فيقول أول كان كذا؟ تقول ولو كان كذا، ولو فعلت كذا؟ لو فعلت كذا، أولو كان فذ ذلك أذى؟ قال ولو كان في ذلك أذى، برغم أن الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير. الإجابة على أولو كان؟ نقول ولو كان، هذا إصرار عجيب وما التفتوا ولا انتبهوا لأن الشيطان عمّ عليهم.
*ما الفرق بين وجدنا وألفينا في القرآن (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة)؟
نقرأ الآية التي فيها ألفينا والتي فيها وجدنا (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة) وفي الأخرى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) المائدة). آية ألفينا وآيتين وجدنا. في القرآن الكريم لم يرد الفعل ألفى إلا فيما هو مشاهد محسوس ولذلك قال بعض النحاة أنه ليس من أفعال القلوب، قسم يدخلوه في أفعال القلوب وقسم يقولون لا ليس من أفعال القلوب وإنما في الأفعال المحسوسة المشاهدة. أفعال القلوب قلبية يستشعر بها. وهي فعلاً في القرآن لم ترد إلا مشاهدة. في هذه الآيات في القرآن (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ (69) الصافات) (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ (25) يوسف) (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا (170) البقرة). (وجدنا) في القرآن وفي غير القرآن وردت قلبية وغير قلبية ومشاهدة وغير مشاهدة مثلاً (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً (37) آل عمران) (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا (86) الكهف) (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ (39) النور) (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ (102) الأعراف) يعني وجدهم يخلفون الميعاد، (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) الأحزاب) (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا (110) النساء) وجد هي أشمل وتستعمل للأمور القلبية وألفينا للأمور المحسوسة هذا في القرآن أما في غير القرآن ففيها كلام. من حيث اللغة قسم من النحاة يقول هي ليست من أفعال القلوب أصلاً، هذا حكم عند قسم من النحاة. والنحاة في (وجد) هذه لا يختلفون فيها ويقولون هي من أفعال القلوب الأفعال المحسوسة أما (ألفى) فهم مختلفون فيها قسم يقول هي قد تأتي من أفعال القلوب وقسم يقول هي ليست من أفعال القلوب. في القرآن لم ترد في أفعال القلوب وإنما هي محسوسة. ماذا ينبني على هذا؟ التعبير كيف اختلف بالنسبة لهذا الأمر؟ الذي لا يؤمن إلا بما هو مشاهد ومحسوس معناه هو أقل علماً ومعرفة واطلاعاً بمن هو أوسع إدراكاً، أقل، ولذلك عندما يستعمل (ما ألفينا عليها آباءنا) يستعملها في الذم أكثر من (وجدنا)، يعني يستعمل (ألفى) إذا أراد أن يذم آباءهم أشد من الحالة، الذم مختلف وقد تكون حالة أشد من حالة في الحالة الشديدة يستعمل ألفينا، يستعملها أشد في الذم. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) البقرة) نفى عنهم العقل، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) المائدة) نفى عنهم العلم. أيّ الأشد تنفي العقل أو تنفي العلم؟ نفي العقل أشد. فاستعمل ألفى في نفي العقل ونفي العقل يعني نفي العلم. نفى العقل وفي الثانية نفى العلم، العاقل يمكن أن يعلم لكن غير العاقل لا يعلم. وحتى في الآية الأخرى (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) لقمان) الشيطان يدعو العاقل أو غير العاقل” يدعو العاقل لأن غير العاقل غير مكلف، يدعوهم معناه هم أصحاب عقل إذن هو يستعمل ألفى إذا أراد أن يذم أشد بنفي العقل ويستعمل وجد لما هو أقل.
سؤال: الجاهليون كانوا يعلمون هذا الكلام ألفى ووجد والفروق الدلالية؟
هم قطعاً يستعملون ألفى في الأمور المادية المحسوسة أكثر ولذلك قال قسم من النحاة أنه ليس من أفعال القلوب.
سؤال: إذن كل كلمة في القرآن تحتاج إلى دراسة وإلى علم غزير وليس إلى وجهة نظر أو انطباع القارئ أو الباحث في القرآن الكريم وهناك علاقات ترابطية ودلالية لا بد أن تحتاج إلى علم وأي علم.
الاجتهاد مبني على علم وأصحاب علوم القرآن يذكرون شروط للذي يتصدى لهذا العلم، لا يأتي أحد ويقول أنا أفسر القرآن الكريم.
*فى إجابة ل(د.أحمد الكبيسى)عن الفرق بين قوله تعالى(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴿112﴾ البقرة) – (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿22﴾ لقمان)
قال تعالى (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴿112﴾ البقرة) لله لام حرف جر لله، أخرى (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿22﴾ لقمان) مرة لام ومرة إلى، هناك واحد أسلم وجهه إلى الله والآخر أسلم وجهه لله طبعاً ربما لم تخطر على بال أحد لماذا؟ مرة واحد أسلم وجهه إلى الله وواحد أسلم وجهه لله. مثلاً أنا أقول أعطيت ألف درهمٍ إلى فلان أو أقول أعطيت ألف درهمٍ لفلان ما الفرق؟ حروف الجر هذه معجزة اللغة العربية هذه هي العكوس للحنفيّات يعني هذا البوري الذي تشرب أنت منه الماء هذا يخرج يمين ويسار ويصعد هذا يربط بعكس هذا العِكس هو الذي يوجه الماء بدونه الماء لا يصل ينفرط الماء في كل مكان الذي يمسك الماء ويوجهه توجيهاً صحيحاً هذه العكوس التي تربط المواسير ببعضها هذا العكس الصغير كحرف الجر هو الذي يوجه معنى اللغة العربية وخاصة لغة الكتاب العزيز. فرق كبير بين كما علمتم (أُنزِل علينا) على حرف جر و(أُنزِل إلينا) إلى حرف جر هنا أيضاً فرق كبير بين أسلمت وجهي لله للذي فطرني وبين أسلمت وجهي إلى الله. كما قلنا أعطيت إلى فلان ألف درهم أنت لم تعطيه بيدك ولكن بعثته مع شخص يا فلان خذ هذا المال وأعطه إلى فلان فالعطاء تم لكن طريقته أني أرسلته إليه من بعدي بواسطة من بعيد وقد يكون لم يصل بعد. لكن لما أقول أعطيته لفلان وصل ووضعه في جيبه. هذا الفرق بين كما يقول الدكتور نجيب الفرق بين أسلمت وجهي إلى الله واحد أسلم حديثاً هو مسلم لكن إلى الآن لم يصل فلا يزال في بداياته تعلم كيف يصلي وتعلم كيف يتوضأ وكيف يتقرب من رب العالمين وكيف يتقدم درجات درجات ويتدرج من مسلم عام إلى مسلم كذا إلى مؤمن عام إلى مؤمن خاص إلى تقي إلى أن ينتقل من البعد إلى العند إلى أن يصير (الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ (206) الأعراف) وصلوا من هذا الطريق إلى أن صار عند ربك. هذا طبعاً من البداية اسلم وجهه إلى الله ولكن بعد ما وصل ولكن عندما يقول (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) هذا وصل. حينئذٍ هذا وصل للقمة بدليل الإحسان حينئذٍ عندما تقرأ (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). الأخرى (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) ما زال متمسكاً وانظر القرآن هذا نهايات الآيات أعجوبة (إِلَى اللَّهِ) يعني هو ما زال بادئاً يقول (اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) ما زال هو بتسلق يعني أنت ما زلت تصعد لكن هذا بأسلوب عروة وثقى وأنت ماسك ويسحبونك أو أنت تندفع بمصعد كهربائي إلى الجبال كما رأينا هذا في بعض دول العالم تطلع هكذا بشكل عامودي حينئذٍ هذا إلى الله متجه إلى الله متوجه حينئذٍ كما قلنا عن إلينا وعلينا. فحينئذٍ إذا قرأت في القرآن الكريم (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) سيدنا إبراهيم بعد ما عرف قال (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾ الأنعام) للذي وليس إلى الذي هذا في البداية عندما كان يبحث عن ربه كان إلى الله إلى ربه الآن وصل. لاحظ هذا الفرق بين (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ) وبين (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) كما قال سيدنا إبراهيم (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿99﴾ الصافات) إلى لسه في الطريق في الأخير وصل (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي) مش إلى الذي هكذا وعلى هذا النسق نفس الآيتين واحدة تقول (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) الحج) وتقول الأخرى (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الذي قال (لله) وصل أمري الآن بيد الله وأنا معه أنا مع عبدي (الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وصل هذا (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) الحج). الآخر (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) لسه عاد لما نوصل الأمور تعود إلى الله في النهاية. هذا الفرق بين التعبير القرآني المعجز.
ما الفرق بين قوله تعالى (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿28﴾ آل عمران) – (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴿53﴾ الشورى) – (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿109﴾ آل عمران) – (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿22﴾ لقمان)؟(د.أحمد الكبيسى)
(إلى الله المصير) فيما يتعلق بنهاية رحلتنا نحن كبشر من عباد الله من بني آدم رحلتنا طريقة وطويلة مما كنا في ظهور آدم في عالم الأمر ورب العالمين خاطبنا (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴿172﴾ الأعراف) ثم بقينا هناك إلى أن تزوج آباؤنا بأمهاتنا ثم حملوا بنا ثم ولدنا ثم مشينا في الطريق إلى أن متنا ثم ذهبنا إلى البرزخ والبرزخ عالم تحدثنا عنه طويلاً ثم سوف نبعث يوم القيامة ثم سوف نحشر مسيرة طويلة جداً إلى أن تصل أجسامنا وأجسادنا إلى ساحة المحشر هذا مصيرنا (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) تبقى الخطوة الأخيرة عندما نتوجه إما إلى الجنة وإما إلى النار ذاك ممشى آخر. إذاً صار (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿126﴾ البقرة) المصير في أجسادنا عندما نقف أمام الله وبين يديه (إلى الله المصير) انتهت الرحلة. عندما أصبحنا في المصير النهائي لمن تصير الأمور؟ في الدنيا كان الأمر لأبيك لأختك لأمك للملك للحاكم للمعلِّم للمدرس للمؤدب للأنبياء الخ، في تلك الساعة لمن تصير الأمور؟ أنت جسدك صار إلى النهاية (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أمرك بيد من؟ مصيرك بيد من؟ بيد الله إذاً صار (إلى الله المصير) بجسدك (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) بالحكم عليك وشؤونك وأحوالك كلها إلى ما لا نهاية. هذا الفرق بين مصيرك أنت كإنسان وبين أن تصير أمورك كلها مباشرة بدون أسباب بيد الله عز وجل هذا الفرق بين (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) وبين (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ). نحن وقفنا أما رب العالمين فهذا المصير رب العالمين سبحانه وتعالى في تلك الساعة سوف يحاسبنا، من الذي يملك المحاكمة؟ ومن الذي يملك أن يحكم عليك بالخلود في النار أو بالخلود في الجنة؟ هذا يسمى مرجعية الحكم. من هي المرجعية التي يكون كلامها هي الفصل؟ عند الخصومة في الدنيا القاضي هو الذي ترجع إليه الأمور تذهب أنت والخصم عندك محامي وهو عنده محامي وتذهب إلى المحكمة وأوراق ودعاوى ثم يقف الخصمان أمام القاضي فالقاضي هو الذي يحكم بينكما فترجع الأمور إلى القاضي الذي يقوله القاضي هو الصح ليس هناك غيره، هذا في الدنيا إلى القاضي ترجع الأمور يوم القيامة لمن ترجع الأمور؟ إلى الله عز وجل. فهذه تتكلم لما رب العالمين ينزل كما في الحديث ثم بعد المحشر ينزل الله سبحانه وتعالى للفصل بين العباد، هذا الفصل الحساب ثم إصدار الحكم هذا (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ثم حكم عليه، صدر الحكم المرجعي صدر الحكم من مرجعيته المباشرة وهو الله عز وجل إلى أين نتوجه؟ قال ستتوجهون حتى النهاية (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) إما خالدٌ في الجنة أو خالد في النار، فلما تمشي من ساعة الحساب ثم تعبر الصراط وعلى الصراط هناك مشاكل وبعد الصراط حوض الكوثر وبعد حوض الكوثر دخول الجنة ثم يستقبلونك على الباب ويكون لديك مدير أعمال يأخذوك إلى دارك هذا الممشى (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) العاقبة آخر شيء، عقب الإنسان آخر شيء، إلى الله في الطريق وأنت ذاهب إلى أن تستقر استقراراً نهائياً إما في الجنة خالداً أو في النار خالداً (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الذي يدخل النار ثم يخرج منها هذا إلى العاقبة على أن يخرج من النار ثم يغتسل ثم يذهب إلى الجنة في الطريق كل هذا إلى الله (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) المرحلة النهائية لما يصل كل واحد منا إلى داره إلى سكناه ويدخل القصر واستقبال حافل كما جاء في الكتاب والسنة (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿41﴾ الحج). هذا الفرق بين (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) وبين (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). وهناك انتهى الأمر وأصبحنا (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ﴿23﴾ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴿24﴾ الرعد) هذه العاقبة آخر شيء (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) هذا هو الفرق بين (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) و (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
آية (22):
(وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22))
*ما هو السلوك التركيبي للفعل يُسلم من حيث التعدّي واللزوم؟هنا جاء الفعل يُسلم متعدياً بـحرف الجر (إلى) وفي مواطن أخرى في القرآن متعدياً بحرف الجر اللام (فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الحج) (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ (20) آل عمران) فما الفرق بين تعديه باللام وتعديه بإلى؟
أكثر ما ورد في القرآن متعدياً باللام ولم ترد إلا هذه الآية بإلى فقط هذه الآية في سورة لقمان (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)، البقية باللام أو من دون حرف جر (وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا (14) الحجرات). ما الفرق بين أسلم إلى وأسلم لـ؟ (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) النمل) (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) البقرة) (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) غافر) ما الفرق بينهما في الدلالة؟ أسلم إليه معناه دفعه إليه، تسليم دفعه إليه أو فوّض أمره إليه هذ المشهور، من التوكل. أسلم بمعنى انقاد وخضع ومنها الإسلام الانقياد. أسلم الشيء إليه أي دفعه إليه، أعطاه إليه بانقياد هذه أسلمه إليه أو فوض أمره إليه وهذا أشهر معنى لأسلم إليه. أسلم لله معناه انقاد له وجعل نفسه سالماً له أي خالصاً له، جعل نفسه لله خالصاً أخلص إليه. لما قالت ملكة سبأ (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) النمل) انقدت له وخضعت وجعلت نفسي سالمة له خالصة ليس لأحد فيه شيء. وإبراهيم (عليه السلام) قال (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أسلم له أي انقاد له وجعل نفسه خالصة له أما أسلم إليه معناها دفعه إليه لذا يقولون أسلم لله أعلى من أسلم إليه لأنه لم يجعل معه لأحد شيء، ومن يسلم وجهه إلى الله اختلفت الدلالة أسلم إليه أي فوّض أمره إليه يعني في الشدائد (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ (44) غافر) أو في الانقياد أما أسلم لله فجعل نفسه خالصاً ليس لأحد شيء. لذلك قال القدامى أسلم له أعلى من أسلم إليه لأنه إذا دفعه إليه قد يكون لم يصل لكن سلّم له اختصاص واللام للملك (أسلم لله) ملّك نفسه لله ولذلك قالوا هي أعلى. الدلالة فيها انقياد لكن السؤال يبقى لماذا قال هنا في آية لقمان (إلى)؟ السياق يحدد، قبل هذه الآية قال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)) الإتباع أن يسير المتبِع خلف المتبَع كأنما يسلم أمره إليه وذاك يسلم قياده إلى الله، هذا أسلم قياده إلى الشيطان اتّبعه وأي واحد اتبع أحداً يسلم قياده إليه وهذا أسلم قياده ووجهه إلى الله، ذاك يقوده الشيطان وهذا أسلم قياده إلى الله، هذا أمر. أسلم إليه بمعنى فوض أمره إليه وانقاد ولو قرأنا الآية (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الإنسان لماذا يفوض أمره إلى الله؟ في حال الشدائد يفوض أمره إلى الله فقال ربنا تعالى (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) هذا الذي يفوض أمره إلى الله لا تناله الشدائد فقد استمسك بالعروة الوثقى، العروة الوثقى تعصمه من الشدائد وهي إسلام وجهه إلى الله، ثم قال النتيجة ماذا يحدث من عاقبة الأمور؟ فوضت أمرك إلى الله في الشدائد ولكن ماذا سيحصل (إلى الله عاقبة الأمور). إذن (من يسلم وجهه إلى الله) اقتضى هذا التعبير أمران: اقتضى الاتباع ما قبله لأنهم قالوا (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) بإزاء أولئك (ومن يسلم وجهه إلى الله)، بالمعنى الآخر (وأفوض أمري إلى الله) بمعنى التفويض والتوكل عليه يأتي (فقد استمسك بالعروة الوثقى) أيضاً يقتضي الإسلام إلى الله وهو تفويض الأمر إلى الله، بهذا المعنى فقد استمسك بالعروة الوثقى وبالمعنى الآخر أسلم قياده إلى الله بإزاء أولئك الذين اتبعوا الشيطان. فإذن أسلم وجهه إلى الله يقتضيها التعبير من كل ناحية. ثم قال (وإلى الله عاقبة الأمور) يعني من يستمسك بالعروة الوثقى واستمسك بها أما العاقبة ماذا سيحصل فيما بعد هذا إلى الله عاقبة الأمور يحسمها فيما بعد. العورة هي ما يُمسك به.
*في سورة البقرة قال تعالى (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ورد الفعل أسلم بالماضي وفي لقمان بالمضارع فما الفرق بينهما؟
في لقمان (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) وآية البقرة (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) هناك أكثر من اختلاف بين الآيتين: الماضي والمضارع، واللام وإلى، ثم تأتي أمور أخرى (فقد استمسك بالعروة الوثقى) في لقمان ولم يقلها في البقرة واختلف الجواب (فله أجره عند ربه) في البقرة ولم يقلها في لقمان. المضارع والماضي سياق الآيتين يوضح الاستعمال. أسلم إلى قلنا بمعنى الإتباع وتفويض الأمر إذا كان بمعنى الإتباع فأمور الاتباع كثيرة وإذا كان بمعنى التفويض وما يقع للإنسان من حوادث ونوازل كثيرة وهذا يقتضي إذن التعدد وقلنا سابقاً أنه إذا وقع فعل الشرط مضارعاً بعد أداة الشرط فهذا يفيد التكرار غالباً وإذا وقع بالماضي يفيد وقوع الحدث مرة في الغالب. آية لقمان يتعلق بالإتباع (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) وأمور الاتباع كثيرة في الحياة ما يتعلق بالحلال والحرام وإذا كان بمعنى التفويض إلى الله في حال النوازل والشدائد هذه كثيرة إذن يقتضي تكرر المسألة. في آية البقرة جاءت في الرد على اليهود والنصارى (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى (111)) قال ربنا تعالى (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) يدخلها المسلم في مقابل اليهود والنصارى الذين قالوا (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) القرآن رد عليهم (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) يعني بلى يدخلها كل مسلم والإسلام كم مرة يدخل الإنسان به؟ مرة واحدة من قال أشهد أن لا إله الله مرة واحدة فهو مسلم أما تفويض الأمر والاتباع كثير فلما يتعلق الأمر بالتفويض والاتباع يقول (يسلم) بالمضارع لأنها تتكرر ولما يذكر الدخول في الإسلام فهو مرة واحدة فيستعمل الماضي (أسلم). الحاكم في السياق هو المسرح الذي تتم فيه الأحداث.
في آية البقرة لم يقل (فقد استمسك بالعروة الوثقى) كما ذكر في آية لقمان وإنما ذكر الأجر لأنه ليس في الآية تفويض أمر، ذكر الأجر. قال (من يسلم وجهه لله فقد استمسك بالعروة الوثقى) وقال (ومن أسلم وجهه لله فله أجره عند ربه) أيها أعلى العاقبتين؟ العاقبة في البقرة أعلى، جعل الأجر مع الإسلام لله والإخلاص لله أن يكون سالماً خالصاً لله جعل عاقبته الأجر (فله أجره عند ربه) ناسب بين علو الأجر وبين معنى دلالة الإسلام لما جعل نفسه خالصاً له لأننا قلنا أسلم لله أي جعل نفسه خالصاً لله ليس لأحد آخر فيه نصيب هذا عاقبته (فله أجره عند ربه) ذاك بمعنى التفويض قال (فقد استمسك بالعروة الوثقى)، لما جعل نفسه خالصاً لله قال (فله أجره عند ربه) جعل هذه عاقبته. بالمناسبة أذكر مسألة عرضاً في السابق أذكر حادثة كثيراً ما كنت أدعو الله إني أسألك الفردوس الأعلى فجاءني زمن كنت دائماً أقول هذا الدعاء رأيت في المنام كأني في يدي كتاب من كتاب الله ليس هو القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل (وقد قرأتها جميعاً عندما ألّفت كتاب نبوءة محمد من الشك إلى اليقين) كأني أقرأ كتاب من كتاب الله مكتوب فيها ” إن الذي يسأل الفردوس الأعلى عليه أن لا يدع حظاً لنفسه” بمعنى أن تجعل كل شيء لله خالصاً أن يجعل نفسه خالصة لله وأن لا يدع حظاً لنفسه، هذا ما قرأت.
في كلا الآيتين من أسلم لله وأسلم إلى الله كلاهما محسن لذلك قال القدامى أسلم لله أعلى من أسلمت إلى الله كما قال الرازي واختلف الأجر وكل أجر مناسب لكل واحد ذاك فوض أمره إلى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى وذاك جعل نفسه خالصاً لله فله أجره عند ربه وكونه مسلم دخل في الإسلام.
*في لقمان قال تعالى (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ محسن) أخّر لفظ الجلالة بعد يُسلم مع أن الملاحظ أنه في آيات كثيرة يقدّم (فله أسلموا)؟ فلم؟
السياق والمقام هو الذي يحدد. في سورة الحج (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)) وفي الزمر (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54)) إذا كان المقام في مقام التوحيد يُقدِّم وإذا لم يكن في مقام التوحيد لا يقدم إلا إذا اقتضى المقام. قال تعالى في سورة الحج (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) في مقام التوحيد والنهي عن الشرك فخصص وجاء التقديم للقصر حصراً. هناك دلالات للتقديم والتأخير في البلاغة في اللغة العربية. التقديم في آية الحج للحصر حصر التسليم لله فقط، (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا (29) الملك) عليه توكلنا حصراً وقال آمنا به ما قال به آمنا، مرة يؤخر الجار والمجرور عن الفعل ومرة يقدم في آية واحدة، لو آمن الواحد بالله حصراً ولم يؤمن بغيره لكفر لأن الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لا يصح أن يقال (به آمنا) من الناحية اللغوية لأنه إذا كان يؤمن بالله فقط يكون كفر بما عداه، التقديم على العامِل في الغالب يفيد الحصر إلا إذا كان المقام يدل على غير ذلك بمعنى السياق المتحدث عنه ولذلك التوكل على الله حصراً فقال (وعليه توكلنا) قدم الجار والمجرور أما الإيمان فليس منحصراً بالله فإذا قال أحد أؤمن بالله ولا أؤمن بالرسل هذا كفر، كفار قريش يؤمنون بالله لكن لا يؤمنون بالساعة ولا بالرسل (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى) (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) لا يؤمنون بغير الله (ما أنزل الله على بشر من شيء). لما نسمع قوله تعالى (آمنا به وعليه توكلنا) يفهم أن هذه لها دلالة وتلك لها دلالة والعرب تفهم هذا الكلام لأنها لغتهم. (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) الزمر) ليس في مقام توحيد لا يقتضي التقديم أما في مقام التوحيد والنهي عن الشرك يقدّم حصراً.
*في آية البقرة يقول تعالى (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) ولم يقل في لقمان لا انفصام لها؟
السياق هو الذي يحدد، قال تعالى في سورة البقرة (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)) قال (فمن يكفر بالطاغوت) والطاغوت رأس كل طغيان من ظالم أو غيره، هذا معنى الطاغوت من كان رأساً في الطغيان مثل فرعون والشيطان وجمعها طواغيت. فمن يكفر بالطاغوت أحياناً الكفر بالطاغوت يؤدي إلى أذى شديد وهلكة إذن تحتاج إلى (لا انفصام لها) يعني لا يحصل فيها أي خدش أو انفصال أو شيء. لما ذكر الكفر بالطاغوت الذي قد يؤدي إلى مظلمة كبيرة أو إلى عذاب أو إلى هلكة أكّد ربنا تعالى فقال (لا انفصام لها) أما في لقمان فهي اتباع (ومن يسلم وجهه إلى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى) لا تحتاج. لذلك لما ذكر الكفر بالطاغوت الذي قد يؤدي إلى هلكة (فرعون صلّبهم في جذوع النخل) قال (لا انفصام لها) تستمسك ولا تنفصم ولا تنفصل وكأنها تحفيز للاستعصام والاستمساك بالله سبحانه وتعالى.
*ما دلالة (فقد) في قوله تعالى (فقد استمسك بالعروة الوثقى)؟
(قد) حرف تحقيق على الماضي وإن كان على المضارع حصل أكثر من سؤال هل هي تفيد التقليل؟ هي من معانيها التقليل، (قد) إذا دخلت على المضارع تفيد التحقيق والتكثير ومن معانيها الشك. تفيد التوكيد والتكثير (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء (144) البقرة) (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا (18) الأحزاب). أحياناً يسألون أليست (قد) للتقليل إذا دخلت على المضارع؟ هذا من أحد معانيها وليس معناها الكامل كما يذكر النحاة. (قد نرى تقلب وجهك) هذا يقين، للتحقيق إذا عرفنا أن الفعل متحقق إذن (قد) تفيد التحقيق. الله تعالى يرى ويعلم سبحانه وتعالى. إذا دخلت (قد) على الماضي فهي للتحقيق أن الأمر تحقق وأحياناً قد تغير معنى الفعل من دعاء إلى خبر مثلاً تقول رزقك الله محتمل أنك تدعو له بالرزق وتحتمل أنك تخبر أن الله رزقه وأعطاه لكن لو قلت (قد رزقك الله) لا يمكن أن تكون دعاء وإنما إخبار لذا لا يصح أن تقول قد غفر الله لك وإنما تقول غفر الله لك أنت مخبر ولست داعياً. إذن (قد) تفيد التحقيق إذن (فقد استمسك بالعروة الوثقى) تعني تحقق استمساكه.
أيها الراكب الميمم أرضي أقري من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضٍ وفؤادي وساكنيه بأرضِ
قد قضى الله بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي
إن بيتاً أنت ساكنه غير محتاج إلى السُرُج
ومريضاً أنت عائده قد أتاه الله بالفرج
إذن (فقد استمسك) تحقق استمساكه، هذا تحقق لأنه في الغالب الفعل الماضي بعد جواب الشرط في الغالب استقبال (درست نجحت) إذا قلت فقد نجحت أي تحقق الأمر مثل الدعاء تقول: غفر الله له يعني تدعو له، قد غفر الله له تحقق. (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) المؤمنون) هذا إخبار وتحقق. إذن (فقد استمسك بالعروة الوثقى) تحقق استمساكه.
ذكرنا يسلم واختيار الفعل المضارع ووقفنا عند (فقد) وهو قال استمسك ولم يقل أمسك (فقد استمسك). استمسك استفعل قد تفيد المبالغة في التمسك والاستمساك، أحياناً استفعل لها معاني قد تكون للطلب (الألف والسين والتاء) مثل استنصره أي طلب نصره (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ (72) الأنفال) استنجد به أي طلب النجدة، استغفر طلب المغفرة. وقد تكون للمبالغة مثل استيأس (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ (110) يوسف) فيها مبالغة في اليأس، ومثل استقر فيها مبالغة في الاستقرار (قرّ واستقرّ)، استمسك المبالغة في الاستمساك. قد تكون بمعنى الوجود على الشيء استصغره يعني وجده صغيراً. المحدِّد الدلالي هو السياق فاستمسك هنا للمبالغة في الإمساك. وثد تأتي للصيرورة بمعنى التحوّل مثل استنوق الجمل، لها معاني متعددة، مثل استحجر الطين أي صار حجراً. فإذن استمسك هو المبالغة في الاستمساك. للعلم الاستمساك في القرآن لا يأتي إلا في أمور الدين (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) الزخرف) كلمة استمسك هذه وردت في أمور الدين (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) الزخرف) وهذا من خصوصيات الاستعمال القرآني واستمسك في اللغة تأتي بمعاني عدة. ثم وصف العروة بأنها الوثقى ولم يقل الوثيقة لاحظ المبالغات لم يقل العروة الوثيقة وإنما هي أوثق العرى وهي أعلى درجات التفضيل. العروة هي ما يُمسك به والوثقى هي أقواها وأمتنها لم يقل وثيقة. وثيقة وثيق تأتي صفة مشبهة وتأتي صيغة مبالغة وتأتي فعيل بمعنى مفعول، وثقى فُعلى مؤنث الأوثق، مذكّر الوثقى الأوثق، الأعظم – العظمى، الأفضل – الفضلى، الأكبر – الكبرى (نقول الكبرى أو كبرى بالإضافة مثل كبرى النساء) الفُعلى تأنيث الأفعل، الأوثق هو الدرجة العليا في التفضيل تقول أكبر من فلان لكن تقول فلان الأكبر أي الأكبر من كل من عداه ولا يصح أن تأتي بـ (من) فلا يقال فلان الأكبر من فلان. الوثقى تأنيث الأوثق وليست تأنيث أوثق.
(وإلى الله عاقبة الأمور) تقديم الجار والمجرور للحصر لأن الأمور عاقبتها ترجع إليه وحده سبحانه وتعالى ولو قال عاقبة الأمور إلى الله لا تدل على الحصر. استمسك فيها مبالغة والوثقى فيها مبالغة والتقديم فيه حصر، من كل المؤشرات نستدل على أن نسلم وجوهنا إلى الله تعالى ونفوض أمورنا إلى الله ونسلم انقيادنا إليه مع الإحسان لأنه تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة تسلم وجهك ليس فقط في حالة وقوعك في أمر وإنما ينبغي أن تكون محسناً حتى يكون الاستمساك بالعروة الوثقى ينبغي أن لا يكون في حالة شدة فقط.
آية (22):
(وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22))
*ما هو السلوك التركيبي للفعل يُسلم من حيث التعدّي واللزوم؟هنا جاء الفعل يُسلم متعدياً بـحرف الجر (إلى) وفي مواطن أخرى في القرآن متعدياً بحرف الجر اللام (فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الحج) (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ (20) آل عمران) فما الفرق بين تعديه باللام وتعديه بإلى؟
أكثر ما ورد في القرآن متعدياً باللام ولم ترد إلا هذه الآية بإلى فقط هذه الآية في سورة لقمان (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ)، البقية باللام أو من دون حرف جر (وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا (14) الحجرات). ما الفرق بين أسلم إلى وأسلم لـ؟ (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) النمل) (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) البقرة) (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) غافر) ما الفرق بينهما في الدلالة؟ أسلم إليه معناه دفعه إليه، تسليم دفعه إليه أو فوّض أمره إليه هذ المشهور، من التوكل. أسلم بمعنى انقاد وخضع ومنها الإسلام الانقياد. أسلم الشيء إليه أي دفعه إليه، أعطاه إليه بانقياد هذه أسلمه إليه أو فوض أمره إليه وهذا أشهر معنى لأسلم إليه. أسلم لله معناه انقاد له وجعل نفسه سالماً له أي خالصاً له، جعل نفسه لله خالصاً أخلص إليه. لما قالت ملكة سبأ (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) النمل) انقدت له وخضعت وجعلت نفسي سالمة له خالصة ليس لأحد فيه شيء. وإبراهيم (عليه السلام) قال (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أسلم له أي انقاد له وجعل نفسه خالصة له أما أسلم إليه معناها دفعه إليه لذا يقولون أسلم لله أعلى من أسلم إليه لأنه لم يجعل معه لأحد شيء، ومن يسلم وجهه إلى الله اختلفت الدلالة أسلم إليه أي فوّض أمره إليه يعني في الشدائد (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ (44) غافر) أو في الانقياد أما أسلم لله فجعل نفسه خالصاً ليس لأحد شيء. لذلك قال القدامى أسلم له أعلى من أسلم إليه لأنه إذا دفعه إليه قد يكون لم يصل لكن سلّم له اختصاص واللام للملك (أسلم لله) ملّك نفسه لله ولذلك قالوا هي أعلى. الدلالة فيها انقياد لكن السؤال يبقى لماذا قال هنا في آية لقمان (إلى)؟ السياق يحدد، قبل هذه الآية قال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)) الإتباع أن يسير المتبِع خلف المتبَع كأنما يسلم أمره إليه وذاك يسلم قياده إلى الله، هذا أسلم قياده إلى الشيطان اتّبعه وأي واحد اتبع أحداً يسلم قياده إليه وهذا أسلم قياده ووجهه إلى الله، ذاك يقوده الشيطان وهذا أسلم قياده إلى الله، هذا أمر. أسلم إليه بمعنى فوض أمره إليه وانقاد ولو قرأنا الآية (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الإنسان لماذا يفوض أمره إلى الله؟ في حال الشدائد يفوض أمره إلى الله فقال ربنا تعالى (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) هذا الذي يفوض أمره إلى الله لا تناله الشدائد فقد استمسك بالعروة الوثقى، العروة الوثقى تعصمه من الشدائد وهي إسلام وجهه إلى الله، ثم قال النتيجة ماذا يحدث من عاقبة الأمور؟ فوضت أمرك إلى الله في الشدائد ولكن ماذا سيحصل (إلى الله عاقبة الأمور). إذن (من يسلم وجهه إلى الله) اقتضى هذا التعبير أمران: اقتضى الاتباع ما قبله لأنهم قالوا (بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) بإزاء أولئك (ومن يسلم وجهه إلى الله)، بالمعنى الآخر (وأفوض أمري إلى الله) بمعنى التفويض والتوكل عليه يأتي (فقد استمسك بالعروة الوثقى) أيضاً يقتضي الإسلام إلى الله وهو تفويض الأمر إلى الله، بهذا المعنى فقد استمسك بالعروة الوثقى وبالمعنى الآخر أسلم قياده إلى الله بإزاء أولئك الذين اتبعوا الشيطان. فإذن أسلم وجهه إلى الله يقتضيها التعبير من كل ناحية. ثم قال (وإلى الله عاقبة الأمور) يعني من يستمسك بالعروة الوثقى واستمسك بها أما العاقبة ماذا سيحصل فيما بعد هذا إلى الله عاقبة الأمور يحسمها فيما بعد. العورة هي ما يُمسك به.
*في سورة البقرة قال تعالى (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ورد الفعل أسلم بالماضي وفي لقمان بالمضارع فما الفرق بينهما؟
في لقمان (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) وآية البقرة (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) هناك أكثر من اختلاف بين الآيتين: الماضي والمضارع، واللام وإلى، ثم تأتي أمور أخرى (فقد استمسك بالعروة الوثقى) في لقمان ولم يقلها في البقرة واختلف الجواب (فله أجره عند ربه) في البقرة ولم يقلها في لقمان. المضارع والماضي سياق الآيتين يوضح الاستعمال. أسلم إلى قلنا بمعنى الإتباع وتفويض الأمر إذا كان بمعنى الإتباع فأمور الاتباع كثيرة وإذا كان بمعنى التفويض وما يقع للإنسان من حوادث ونوازل كثيرة وهذا يقتضي إذن التعدد وقلنا سابقاً أنه إذا وقع فعل الشرط مضارعاً بعد أداة الشرط فهذا يفيد التكرار غالباً وإذا وقع بالماضي يفيد وقوع الحدث مرة في الغالب. آية لقمان يتعلق بالإتباع (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا) وأمور الاتباع كثيرة في الحياة ما يتعلق بالحلال والحرام وإذا كان بمعنى التفويض إلى الله في حال النوازل والشدائد هذه كثيرة إذن يقتضي تكرر المسألة. في آية البقرة جاءت في الرد على اليهود والنصارى (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى (111)) قال ربنا تعالى (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) يدخلها المسلم في مقابل اليهود والنصارى الذين قالوا (لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى) القرآن رد عليهم (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (112)) يعني بلى يدخلها كل مسلم والإسلام كم مرة يدخل الإنسان به؟ مرة واحدة من قال أشهد أن لا إله الله مرة واحدة فهو مسلم أما تفويض الأمر والاتباع كثير فلما يتعلق الأمر بالتفويض والاتباع يقول (يسلم) بالمضارع لأنها تتكرر ولما يذكر الدخول في الإسلام فهو مرة واحدة فيستعمل الماضي (أسلم). الحاكم في السياق هو المسرح الذي تتم فيه الأحداث.
في آية البقرة لم يقل (فقد استمسك بالعروة الوثقى) كما ذكر في آية لقمان وإنما ذكر الأجر لأنه ليس في الآية تفويض أمر، ذكر الأجر. قال (من يسلم وجهه لله فقد استمسك بالعروة الوثقى) وقال (ومن أسلم وجهه لله فله أجره عند ربه) أيها أعلى العاقبتين؟ العاقبة في البقرة أعلى، جعل الأجر مع الإسلام لله والإخلاص لله أن يكون سالماً خالصاً لله جعل عاقبته الأجر (فله أجره عند ربه) ناسب بين علو الأجر وبين معنى دلالة الإسلام لما جعل نفسه خالصاً له لأننا قلنا أسلم لله أي جعل نفسه خالصاً لله ليس لأحد آخر فيه نصيب هذا عاقبته (فله أجره عند ربه) ذاك بمعنى التفويض قال (فقد استمسك بالعروة الوثقى)، لما جعل نفسه خالصاً لله قال (فله أجره عند ربه) جعل هذه عاقبته. بالمناسبة أذكر مسألة عرضاً في السابق أذكر حادثة كثيراً ما كنت أدعو الله إني أسألك الفردوس الأعلى فجاءني زمن كنت دائماً أقول هذا الدعاء رأيت في المنام كأني في يدي كتاب من كتاب الله ليس هو القرآن ولا التوراة ولا الإنجيل (وقد قرأتها جميعاً عندما ألّفت كتاب نبوءة محمد من الشك إلى اليقين) كأني أقرأ كتاب من كتاب الله مكتوب فيها ” إن الذي يسأل الفردوس الأعلى عليه أن لا يدع حظاً لنفسه” بمعنى أن تجعل كل شيء لله خالصاً أن يجعل نفسه خالصة لله وأن لا يدع حظاً لنفسه، هذا ما قرأت.
في كلا الآيتين من أسلم لله وأسلم إلى الله كلاهما محسن لذلك قال القدامى أسلم لله أعلى من أسلمت إلى الله كما قال الرازي واختلف الأجر وكل أجر مناسب لكل واحد ذاك فوض أمره إلى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى وذاك جعل نفسه خالصاً لله فله أجره عند ربه وكونه مسلم دخل في الإسلام.
*في لقمان قال تعالى (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ محسن) أخّر لفظ الجلالة بعد يُسلم مع أن الملاحظ أنه في آيات كثيرة يقدّم (فله أسلموا)؟ فلم؟
السياق والمقام هو الذي يحدد. في سورة الحج (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)) وفي الزمر (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54)) إذا كان المقام في مقام التوحيد يُقدِّم وإذا لم يكن في مقام التوحيد لا يقدم إلا إذا اقتضى المقام. قال تعالى في سورة الحج (فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا) في مقام التوحيد والنهي عن الشرك فخصص وجاء التقديم للقصر حصراً. هناك دلالات للتقديم والتأخير في البلاغة في اللغة العربية. التقديم في آية الحج للحصر حصر التسليم لله فقط، (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا (29) الملك) عليه توكلنا حصراً وقال آمنا به ما قال به آمنا، مرة يؤخر الجار والمجرور عن الفعل ومرة يقدم في آية واحدة، لو آمن الواحد بالله حصراً ولم يؤمن بغيره لكفر لأن الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، لا يصح أن يقال (به آمنا) من الناحية اللغوية لأنه إذا كان يؤمن بالله فقط يكون كفر بما عداه، التقديم على العامِل في الغالب يفيد الحصر إلا إذا كان المقام يدل على غير ذلك بمعنى السياق المتحدث عنه ولذلك التوكل على الله حصراً فقال (وعليه توكلنا) قدم الجار والمجرور أما الإيمان فليس منحصراً بالله فإذا قال أحد أؤمن بالله ولا أؤمن بالرسل هذا كفر، كفار قريش يؤمنون بالله لكن لا يؤمنون بالساعة ولا بالرسل (إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى) (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) لا يؤمنون بغير الله (ما أنزل الله على بشر من شيء). لما نسمع قوله تعالى (آمنا به وعليه توكلنا) يفهم أن هذه لها دلالة وتلك لها دلالة والعرب تفهم هذا الكلام لأنها لغتهم. (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) الزمر) ليس في مقام توحيد لا يقتضي التقديم أما في مقام التوحيد والنهي عن الشرك يقدّم حصراً.
*في آية البقرة يقول تعالى (فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها) ولم يقل في لقمان لا انفصام لها؟
السياق هو الذي يحدد، قال تعالى في سورة البقرة (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)) قال (فمن يكفر بالطاغوت) والطاغوت رأس كل طغيان من ظالم أو غيره، هذا معنى الطاغوت من كان رأساً في الطغيان مثل فرعون والشيطان وجمعها طواغيت. فمن يكفر بالطاغوت أحياناً الكفر بالطاغوت يؤدي إلى أذى شديد وهلكة إذن تحتاج إلى (لا انفصام لها) يعني لا يحصل فيها أي خدش أو انفصال أو شيء. لما ذكر الكفر بالطاغوت الذي قد يؤدي إلى مظلمة كبيرة أو إلى عذاب أو إلى هلكة أكّد ربنا تعالى فقال (لا انفصام لها) أما في لقمان فهي اتباع (ومن يسلم وجهه إلى الله فقد استمسك بالعروة الوثقى) لا تحتاج. لذلك لما ذكر الكفر بالطاغوت الذي قد يؤدي إلى هلكة (فرعون صلّبهم في جذوع النخل) قال (لا انفصام لها) تستمسك ولا تنفصم ولا تنفصل وكأنها تحفيز للاستعصام والاستمساك بالله سبحانه وتعالى.
*ما دلالة (فقد) في قوله تعالى (فقد استمسك بالعروة الوثقى)؟
(قد) حرف تحقيق على الماضي وإن كان على المضارع حصل أكثر من سؤال هل هي تفيد التقليل؟ هي من معانيها التقليل، (قد) إذا دخلت على المضارع تفيد التحقيق والتكثير ومن معانيها الشك. تفيد التوكيد والتكثير (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء (144) البقرة) (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا (18) الأحزاب). أحياناً يسألون أليست (قد) للتقليل إذا دخلت على المضارع؟ هذا من أحد معانيها وليس معناها الكامل كما يذكر النحاة. (قد نرى تقلب وجهك) هذا يقين، للتحقيق إذا عرفنا أن الفعل متحقق إذن (قد) تفيد التحقيق. الله تعالى يرى ويعلم سبحانه وتعالى. إذا دخلت (قد) على الماضي فهي للتحقيق أن الأمر تحقق وأحياناً قد تغير معنى الفعل من دعاء إلى خبر مثلاً تقول رزقك الله محتمل أنك تدعو له بالرزق وتحتمل أنك تخبر أن الله رزقه وأعطاه لكن لو قلت (قد رزقك الله) لا يمكن أن تكون دعاء وإنما إخبار لذا لا يصح أن تقول قد غفر الله لك وإنما تقول غفر الله لك أنت مخبر ولست داعياً. إذن (قد) تفيد التحقيق إذن (فقد استمسك بالعروة الوثقى) تعني تحقق استمساكه.
أيها الراكب الميمم أرضي أقري من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضٍ وفؤادي وساكنيه بأرضِ
قد قضى الله بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي
إن بيتاً أنت ساكنه غير محتاج إلى السُرُج
ومريضاً أنت عائده قد أتاه الله بالفرج
إذن (فقد استمسك) تحقق استمساكه، هذا تحقق لأنه في الغالب الفعل الماضي بعد جواب الشرط في الغالب استقبال (درست نجحت) إذا قلت فقد نجحت أي تحقق الأمر مثل الدعاء تقول: غفر الله له يعني تدعو له، قد غفر الله له تحقق. (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) المؤمنون) هذا إخبار وتحقق. إذن (فقد استمسك بالعروة الوثقى) تحقق استمساكه.
ذكرنا يسلم واختيار الفعل المضارع ووقفنا عند (فقد) وهو قال استمسك ولم يقل أمسك (فقد استمسك). استمسك استفعل قد تفيد المبالغة في التمسك والاستمساك، أحياناً استفعل لها معاني قد تكون للطلب (الألف والسين والتاء) مثل استنصره أي طلب نصره (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ (72) الأنفال) استنجد به أي طلب النجدة، استغفر طلب المغفرة. وقد تكون للمبالغة مثل استيأس (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ (110) يوسف) فيها مبالغة في اليأس، ومثل استقر فيها مبالغة في الاستقرار (قرّ واستقرّ)، استمسك المبالغة في الاستمساك. قد تكون بمعنى الوجود على الشيء استصغره يعني وجده صغيراً. المحدِّد الدلالي هو السياق فاستمسك هنا للمبالغة في الإمساك. وثد تأتي للصيرورة بمعنى التحوّل مثل استنوق الجمل، لها معاني متعددة، مثل استحجر الطين أي صار حجراً. فإذن استمسك هو المبالغة في الاستمساك. للعلم الاستمساك في القرآن لا يأتي إلا في أمور الدين (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) الزخرف) كلمة استمسك هذه وردت في أمور الدين (أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) الزخرف) وهذا من خصوصيات الاستعمال القرآني واستمسك في اللغة تأتي بمعاني عدة. ثم وصف العروة بأنها الوثقى ولم يقل الوثيقة لاحظ المبالغات لم يقل العروة الوثيقة وإنما هي أوثق العرى وهي أعلى درجات التفضيل. العروة هي ما يُمسك به والوثقى هي أقواها وأمتنها لم يقل وثيقة. وثيقة وثيق تأتي صفة مشبهة وتأتي صيغة مبالغة وتأتي فعيل بمعنى مفعول، وثقى فُعلى مؤنث الأوثق، مذكّر الوثقى الأوثق، الأعظم – العظمى، الأفضل – الفضلى، الأكبر – الكبرى (نقول الكبرى أو كبرى بالإضافة مثل كبرى النساء) الفُعلى تأنيث الأفعل، الأوثق هو الدرجة العليا في التفضيل تقول أكبر من فلان لكن تقول فلان الأكبر أي الأكبر من كل من عداه ولا يصح أن تأتي بـ (من) فلا يقال فلان الأكبر من فلان. الوثقى تأنيث الأوثق وليست تأنيث أوثق.
(وإلى الله عاقبة الأمور) تقديم الجار والمجرور للحصر لأن الأمور عاقبتها ترجع إليه وحده سبحانه وتعالى ولو قال عاقبة الأمور إلى الله لا تدل على الحصر. استمسك فيها مبالغة والوثقى فيها مبالغة والتقديم فيه حصر، من كل المؤشرات نستدل على أن نسلم وجوهنا إلى الله تعالى ونفوض أمورنا إلى الله ونسلم انقيادنا إليه مع الإحسان لأنه تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة تسلم وجهك ليس فقط في حالة وقوعك في أمر وإنما ينبغي أن تكون محسناً حتى يكون الاستمساك بالعروة الوثقى ينبغي أن لا يكون في حالة شدة فقط.
*فى إجابة ل(د.أحمد الكبيسى)عن الفرق بين قوله تعالى(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴿112﴾ البقرة) – (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿22﴾ لقمان)
قال تعالى (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ﴿112﴾ البقرة) لله لام حرف جر لله، أخرى (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿22﴾ لقمان) مرة لام ومرة إلى، هناك واحد أسلم وجهه إلى الله والآخر أسلم وجهه لله طبعاً ربما لم تخطر على بال أحد لماذا؟ مرة واحد أسلم وجهه إلى الله وواحد أسلم وجهه لله. مثلاً أنا أقول أعطيت ألف درهمٍ إلى فلان أو أقول أعطيت ألف درهمٍ لفلان ما الفرق؟ حروف الجر هذه معجزة اللغة العربية هذه هي العكوس للحنفيّات يعني هذا البوري الذي تشرب أنت منه الماء هذا يخرج يمين ويسار ويصعد هذا يربط بعكس هذا العِكس هو الذي يوجه الماء بدونه الماء لا يصل ينفرط الماء في كل مكان الذي يمسك الماء ويوجهه توجيهاً صحيحاً هذه العكوس التي تربط المواسير ببعضها هذا العكس الصغير كحرف الجر هو الذي يوجه معنى اللغة العربية وخاصة لغة الكتاب العزيز. فرق كبير بين كما علمتم (أُنزِل علينا) على حرف جر و(أُنزِل إلينا) إلى حرف جر هنا أيضاً فرق كبير بين أسلمت وجهي لله للذي فطرني وبين أسلمت وجهي إلى الله. كما قلنا أعطيت إلى فلان ألف درهم أنت لم تعطيه بيدك ولكن بعثته مع شخص يا فلان خذ هذا المال وأعطه إلى فلان فالعطاء تم لكن طريقته أني أرسلته إليه من بعدي بواسطة من بعيد وقد يكون لم يصل بعد. لكن لما أقول أعطيته لفلان وصل ووضعه في جيبه. هذا الفرق بين كما يقول الدكتور نجيب الفرق بين أسلمت وجهي إلى الله واحد أسلم حديثاً هو مسلم لكن إلى الآن لم يصل فلا يزال في بداياته تعلم كيف يصلي وتعلم كيف يتوضأ وكيف يتقرب من رب العالمين وكيف يتقدم درجات درجات ويتدرج من مسلم عام إلى مسلم كذا إلى مؤمن عام إلى مؤمن خاص إلى تقي إلى أن ينتقل من البعد إلى العند إلى أن يصير (الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ (206) الأعراف) وصلوا من هذا الطريق إلى أن صار عند ربك. هذا طبعاً من البداية اسلم وجهه إلى الله ولكن بعد ما وصل ولكن عندما يقول (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) هذا وصل. حينئذٍ هذا وصل للقمة بدليل الإحسان حينئذٍ عندما تقرأ (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ). الأخرى (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) ما زال متمسكاً وانظر القرآن هذا نهايات الآيات أعجوبة (إِلَى اللَّهِ) يعني هو ما زال بادئاً يقول (اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) ما زال هو بتسلق يعني أنت ما زلت تصعد لكن هذا بأسلوب عروة وثقى وأنت ماسك ويسحبونك أو أنت تندفع بمصعد كهربائي إلى الجبال كما رأينا هذا في بعض دول العالم تطلع هكذا بشكل عامودي حينئذٍ هذا إلى الله متجه إلى الله متوجه حينئذٍ كما قلنا عن إلينا وعلينا. فحينئذٍ إذا قرأت في القرآن الكريم (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) سيدنا إبراهيم بعد ما عرف قال (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿79﴾ الأنعام) للذي وليس إلى الذي هذا في البداية عندما كان يبحث عن ربه كان إلى الله إلى ربه الآن وصل. لاحظ هذا الفرق بين (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ) وبين (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) كما قال سيدنا إبراهيم (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿99﴾ الصافات) إلى لسه في الطريق في الأخير وصل (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي) مش إلى الذي هكذا وعلى هذا النسق نفس الآيتين واحدة تقول (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) الحج) وتقول الأخرى (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الذي قال (لله) وصل أمري الآن بيد الله وأنا معه أنا مع عبدي (الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) وصل هذا (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) الحج). الآخر (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) لسه عاد لما نوصل الأمور تعود إلى الله في النهاية. هذا الفرق بين التعبير القرآني المعجز.
ما الفرق بين قوله تعالى (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴿28﴾ آل عمران) – (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴿53﴾ الشورى) – (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴿109﴾ آل عمران) – (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿22﴾ لقمان)؟(د.أحمد الكبيسى)
(إلى الله المصير) فيما يتعلق بنهاية رحلتنا نحن كبشر من عباد الله من بني آدم رحلتنا طريقة وطويلة مما كنا في ظهور آدم في عالم الأمر ورب العالمين خاطبنا (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ﴿172﴾ الأعراف) ثم بقينا هناك إلى أن تزوج آباؤنا بأمهاتنا ثم حملوا بنا ثم ولدنا ثم مشينا في الطريق إلى أن متنا ثم ذهبنا إلى البرزخ والبرزخ عالم تحدثنا عنه طويلاً ثم سوف نبعث يوم القيامة ثم سوف نحشر مسيرة طويلة جداً إلى أن تصل أجسامنا وأجسادنا إلى ساحة المحشر هذا مصيرنا (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) تبقى الخطوة الأخيرة عندما نتوجه إما إلى الجنة وإما إلى النار ذاك ممشى آخر. إذاً صار (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿126﴾ البقرة) المصير في أجسادنا عندما نقف أمام الله وبين يديه (إلى الله المصير) انتهت الرحلة. عندما أصبحنا في المصير النهائي لمن تصير الأمور؟ في الدنيا كان الأمر لأبيك لأختك لأمك للملك للحاكم للمعلِّم للمدرس للمؤدب للأنبياء الخ، في تلك الساعة لمن تصير الأمور؟ أنت جسدك صار إلى النهاية (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أمرك بيد من؟ مصيرك بيد من؟ بيد الله إذاً صار (إلى الله المصير) بجسدك (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) بالحكم عليك وشؤونك وأحوالك كلها إلى ما لا نهاية. هذا الفرق بين مصيرك أنت كإنسان وبين أن تصير أمورك كلها مباشرة بدون أسباب بيد الله عز وجل هذا الفرق بين (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) وبين (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ). نحن وقفنا أما رب العالمين فهذا المصير رب العالمين سبحانه وتعالى في تلك الساعة سوف يحاسبنا، من الذي يملك المحاكمة؟ ومن الذي يملك أن يحكم عليك بالخلود في النار أو بالخلود في الجنة؟ هذا يسمى مرجعية الحكم. من هي المرجعية التي يكون كلامها هي الفصل؟ عند الخصومة في الدنيا القاضي هو الذي ترجع إليه الأمور تذهب أنت والخصم عندك محامي وهو عنده محامي وتذهب إلى المحكمة وأوراق ودعاوى ثم يقف الخصمان أمام القاضي فالقاضي هو الذي يحكم بينكما فترجع الأمور إلى القاضي الذي يقوله القاضي هو الصح ليس هناك غيره، هذا في الدنيا إلى القاضي ترجع الأمور يوم القيامة لمن ترجع الأمور؟ إلى الله عز وجل. فهذه تتكلم لما رب العالمين ينزل كما في الحديث ثم بعد المحشر ينزل الله سبحانه وتعالى للفصل بين العباد، هذا الفصل الحساب ثم إصدار الحكم هذا (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ثم حكم عليه، صدر الحكم المرجعي صدر الحكم من مرجعيته المباشرة وهو الله عز وجل إلى أين نتوجه؟ قال ستتوجهون حتى النهاية (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) إما خالدٌ في الجنة أو خالد في النار، فلما تمشي من ساعة الحساب ثم تعبر الصراط وعلى الصراط هناك مشاكل وبعد الصراط حوض الكوثر وبعد حوض الكوثر دخول الجنة ثم يستقبلونك على الباب ويكون لديك مدير أعمال يأخذوك إلى دارك هذا الممشى (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) العاقبة آخر شيء، عقب الإنسان آخر شيء، إلى الله في الطريق وأنت ذاهب إلى أن تستقر استقراراً نهائياً إما في الجنة خالداً أو في النار خالداً (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) الذي يدخل النار ثم يخرج منها هذا إلى العاقبة على أن يخرج من النار ثم يغتسل ثم يذهب إلى الجنة في الطريق كل هذا إلى الله (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) المرحلة النهائية لما يصل كل واحد منا إلى داره إلى سكناه ويدخل القصر واستقبال حافل كما جاء في الكتاب والسنة (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿41﴾ الحج). هذا الفرق بين (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) وبين (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ). وهناك انتهى الأمر وأصبحنا (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ﴿23﴾ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴿24﴾ الرعد) هذه العاقبة آخر شيء (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) هذا هو الفرق بين (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) (إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) و (وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ).
آية (23):
(وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23))
قال (من كفر) بالماضي وقبلها قال (ومن يسلم) بالمضارع. في آية سابقة قال تعالى (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ (40) النمل) الشكر يتجدد وينبغي أن يتكرر لأن النعم متكررة متجددة فكل نعمة تستوجب شكر فقال ومن يشكر أما الكفر يكفي أن يكفر فمسألة واحدة (ومن كفر). قلنا من يسلم وجهه إلى الله، يفوض أمره إلى الله أو يتبع أوامر الله الاتّباع مسائل كثيرة وما يقتضي التفويض إلى الله أمور كثيرة متعددة في الحياة فقال (ومن يسلم) أما من كفر ليس بالضرورة أن يتجدد الكفر لو كفر في الاعتقاد مرة واحدة فلا يحتاج إلى التكرار. (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ (22) لقمان) قلنا إما يتبع أوامر الله أو يفوض أمره إلى الله وقلنا الإتباع في أمور كثيرة والتفويض تفويض الأمور إلى الله وما يحصل فيها والمصائب التي تقع عليه وما يحذره وما يخافه أمور كثيرة جداً فقال (ومن يسلم وجهه).
*ما دلالة الفاء في (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) ثم ما دلالة هذا التعبير بالذات وما اللمسات البيانية فيها؟
(وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) لو تأملنا فيه فهو تعبير غريب وليس مثل فلا تحزن لكفره، الكفر فاعل والكاف المخاطب مفعول به (المخاطَب هو الرسول (صلى الله عليه وسلم))، في اللغة المنهي هو الفاعل لما أقول لا يضرب محمد خالداً المنهي هو محمد، المنهي هو الفاعل ففي الآية الكفر هو المنهي وليس الرسول (صلى الله عليه وسلم). المعنى العام لا تحزن لكفره هذا أصل المعنى لكن كيف اختار التعبير؟ لماذا لم يقل فلا تحزن لكفره. في اللغة المنهي هو الفاعل إلى المفعول. لم يقل تعالى فلا تحزن وإنما قال (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) الكاف مفعول به. لو قال لا تحزن يكون الفاعل المخاطب (أنت) لكن في الآية المنهي هو الكفر. المنهي في الآية هو الكفر يعني أيها الكفر لا تُحزِن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ينهى تعالى الكفر ألا يُحزن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إشفاقاً على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكأن الكفر يريد أن يُحزِن رسول الله (صلى الله عليه وسلم). هذه فيها تعبير مجازي كأن الكفر ذات عاقلة تريد أن تحزن الرسول فينهاه تعالى (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) تعبير في غاية اللطافة والرقة. قال تعالى في آيات أخرى (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) النحل) ليس هنا مفعول به منهي. في القرآن (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) فاطر) لأن الشيطان يغرّ المسلم، المنهي هو إبليس لكن المقصود به الإنسان أن لا يغتر بإبليس. (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) المنهي هو الكفر أن لا يُحزِن رسول الله.
الفاء في (فَلَا يَحْزُنكَ) الفاء يمكن حذفها. ذكرها له معنى وحذفها له معنى. الفاء هنا عرّفتنا جواب الشرط ولو حذف الفاء لا تكون شرطية، هناك ضوابط لاقتران الفاء بجواب الشرط. الفاء تحتمل أن تكون موصولة وتحتمل أن تكون شرطية والذي يحدد أحياناً ضابط لفظي كأن يكون الجزم (من يدرس ينجح) هذا شرط للأن اسم الموصول لا يجزم. هذا الذي يحدد الفاء الموطن موطن وجوب اقتران الفاء بالشرط لأن هذا نهي (لا) الناهية إذا كانت (من) شرطية فالفاء لا بد أن تأتي, وإذا كانت (من) موصولة لا تأتي الفاء. لو لم تأتي بالفاء في الآية تكون موصولة، الفاء شرطية وهذا هو المقصود. وإذا كانت موصولة ومن كفر لا يحزنك كفره المعنى ليس واحداً. الشرط يفيد العموم قطعاً (من يستعن بالله يعنه) لا يقصد شخص معين. أما الموصول فلا يدل على الغموم لأن الموصول معرفة وقد يكون المعرفة للجنس أو للواحد (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) المدثر) شخص معين واحد هو الوليد بن المغيرة. الموصول لا يقتضي أن يكون جنساً يحتمل أن يكون واحداً معيناً أو جنساً (أكرمت من زارني) من يزورني أكرمه، من يعتدي عليّ أعتدي عليه. الشرط يدل على العموم والوصول ليس بالضرورة وفي الآية أراد تعالى العموم وليس جماعة معينة في الكفر وإنما الكلام على الإطلاق وفهمنا الإطلاق من الفاء. هذه الفاء عيّنت أن (من) شرطية والشرط يفيد العموم إطلاقاً لأنه لو قال لا يحزنك يحتمل أن يكون جماعة معينة بينهم مشادة أو أذى لا تعني غيرهم لكن عندما جاء بالفاء صارت للعموم ولو حذفها ليست بالضرورة للعموم إذن ذكرها ليس كحذفها، وجود الفاء يحدد معنى الشرطية لـ (من) وهذا فيه العموم وهذا هو المقصود بالآية.
*قال تعالى في الآية (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ (23)) بالجمع وفي آية سابقة قال (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ (15) لقمان) بالمفرد وإضافة (ثم) فما الفرق؟
(إلينا) ضمير التعظيم، إليّ ضمير الإفراد. الآية السابقة (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)) الآية السابقة في مقام الوحدانية والنهي عن الشرك فجاء بضمير الوحدة (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) (وإن جاهداك على أن تشرك بي) كلها في مقام التوحيد والنهي عن الشرك فيقول (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ). أما الآية الثانية فليست في مقام التوحيد فجاء كضير التعظيم وأيضاً قدم الجار والمجرور (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) للحصر أي إلينا مرجعهم لا إلى غيرهم.
*هنا قال (فَنُنَبِّئُهُم) وفي مواطن أخرى قال (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) الأنعام) فما الفرق؟
في الآية السابقة في لقمان قال (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم (15)) (ثم) عاطفة تفيد التراخي. في الآية لم يأتي بـ (ثم) قال (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ). في الآية الأولى الكلام على التراخي معناها تقريب المرجع (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) هنالك مهلة أما في الآية لم يكن هناك مهلة وإنما جعل المرجع أقرب. لماذا جعل هناك مهلة وهنا لم يجعل مهلة بدون (ثم)؟ هو جاء بـ (ثم) هناك أكثر من سبب قال (وَإِن جَاهَدَاكَ) المجاهدة قد تستغرق وقتاً وقال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فيها وقت (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) فيها وقت وهذا يناسب (ثم). أما في هذه الآية ليس فيها ما يدل على التراخي ما يقتضي التراخي أما في تلك الآية ما يدل على التراخي. السياق في هذه الآية ليس فيه تراخي كأن فيه تقريب الأمر (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) وقت قليل وينتهي لما نهاه عن الحزن فقال له الوقت قريب ولا يعقل أن ينهاه عن الحزن وأن لا يهتم بهذا ثم يقول له هناك وقت طويل فقال (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) إذن هناك أكثر من مسألة استدعت استعمال (ثم). عندما ترى صاحبك في ضيق وتريد أن تخفف عنه تقول له الدنيا قصيرة فتقلل الأمر في عينه حتى يخف فلما قال تعالى (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) يريد أن يصبره فقال أن الوقت قصير (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) المهم أن تهون المسألة عليه لا العكس، الله تعالى ينهاه عن الحزن فلا يطيل الوقت عليه.
العرب كان تعرف هذا وهم كانوا إذا أرادوا أو يواسوا شخصاً يقولون له الدنيا قصيرة.
*قال تعالى (فأنبئكم) وفي مواطن أخرى لم يستعمل الفاء فلماذا؟
في مواطن قال (فأنبئكم) (فينبئهم) (ثم ينبئهم) الأمر الأساسي في فهم التعبير هو السياق ووضعه في مكانه. أصل السياق في الدنيا (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا (159) الأنعام) لم يذكر إلينا مرجعهم. هناك لما ذكر المرجع صار بين الدنيا والتنبيه وقت طويل قال (ثم ينبئهم) وهناك قال (إلي مرجعهم) فلما رجعوا سيكون التنبيه أقرب وهنا لم يقل الرجوع (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14) المائدة) إلى يوم القيامة الوقت ممتد فيقول سوف، السياق هو الذي يحدد. لما يذكر الكلام إذا كان السياق مبني على التأخير يقول (ثم). (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) الأنعام) ليس هناك استعجال فلا يقول فأنبئكم. في نفس السياق (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الأنعام) يقول (ثم) لأن المقام ليس في الاستعجال. السياق الذي يحدد ولا ينبغي أن نقطع كلمة من سياقها.
*قال تعالى بما عملوا وفي آية سابقة في السورة قال بما كنتم تعملون فما الفرق بين الآيتين؟
الآية الكريمة قوله تعالى (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ذكرنا بعض الأمور التي تتعلق بالآية فيما سبق ووقفنا عند قوله تعالى (فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا). ربنا تعالى في آية سابقة في السورة نفسها قال (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)) (كنتم تعملون) هذا الماضي المستمر، كان يعمل مستمر، كنتم تعملون أي كنتم مستمرون على العمل في الماضي يسمى الماضي المستمر و(عملوا) هذا الماضي المنقطع. هناك أكثر من ماضي وأنواعه متعددة لكن في الآية (بما كنتم تعملون) بالماضي المستمر وهذه الآية بالماضي المنقطع (بما عملوا). السبب كما ذكرنا أكثر من مرة أن السياق يحدد المسألة، في الآية السابقة ذكر استكرار المجاهدة (وإن جاهداك) واستمرار المصاحبة بالمعروف (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) واستمرار الإتباع اتباع المنيبين إليه (واتبع سبيل من أناب إليّ) ثم قال (ثم إلي مرجعكم) و (ثم) تفيد المهلة والتراخي، هذه الأمور تحتاج إلى استمرار عمل، هنا ليس فيها استمرار عمل (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) ما ذكر أموراً فيها دلالة على استمرار العمل لكن المصاحبة والمجاهدة واتباع سبيل المؤمنين ثم إلي مرجعكم أما هنا ما قال (ثم) فيها أصلاً إذن هناك سياق الآية يدل على استمرار العمل قال بما كنتم تعملون جاء بالماضي المستمر وهنا ليس فيها استمرار عمل فقال بما عملوا فإذن هذه مناسبة لهذا الموضع وتلك مناسبة للموضع الذي وردت فيه.
الماضي المستمر له دلالات سياقية. مسألة الماضي فيها أكثر من ستة عشر زمن في الماضي، يُدرّس للأطفال الفعلال ماضي أنه ما مضى وانقطع فقط وتبقى هذه المعلومة ثابتة بينما الماضي كثير هناك الماضي المنقطع، وأحياناً الماضي بحد ذاته هكذا عملوا، هو الآن ماضي منقطع أي انقطع وانتهى لأن الماضي بهذه الصورة قد يكون ماضي واستمر عليه لم ينقطع (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) طه) ليس مرة واحدة (وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) الأعراف) وأحياناً المنقطع لما يكون مسبوقاً بـ (كان) مثل قد كان فعل (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ (15) الأحزاب). وأيضاً هناك الماضي المعتاد كان رسول الله يفعل كذا أي معتاد عليه كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمسح كذا ثلاثاً ماضي معتاد بمعنى الماضي المستمر يسمونه المعتاد أي ما اعتاد عليه. هناك كلام كثير في الماضي.
*قال تعالى (فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) بالفاء وفي سورة المائدة قال (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14))؟
ذكرنا هذا الأمر في الحلقة السابقة أنه في بعضها لم يذكر إلينا مرجعهم وهنا ذكر إلينا مرجعهم فلما يكون المدة بين الرجوع والتنبيء ليست طويلة بينما لم يذكر أصلاً المرجع فيكون المسافة أطول وشرحنا أمثلة في حينها.
*في قوله تعالى (إن الله عليم بذات الصدور) لم يقل إننا مع أنه قال قبلها (إلينا مرجعهم) بضمير الجمع؟
في أكثر من مناسبة ذكرنا أنه إذا ورد ضمير التعظيم لا بد أن يسبقه أو يأتي بعده ما يدل على الإفراد وهذا سمت في القرآن الكريم لم يتخلف في أي موطن من المواطن في جميع القرآن. لما كان ما سبق هو في ضمير التعظيم (إلينا مرجعهم فننبئهم) يأتي بعده ما يدل على المرد لئلا تبقى في الذهن شائبة شرك فقال (إن الله عليم بذات الصدور) وهذا ثابت في القرآن واضح في جميع القرآن لم يتخلف في موطن واحد حيث ذكر ضمير التعظيم لا بد أن يسبقه أو يأتي بعده ما يدل على أنه مفرد.
*(إن الله عليم بذات الصدور) مع أن الآية تتكلم عن الذي كفر ومع هذا لم يقل عليم به؟
قال تعالى (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) كأنما المناسب أن الله عليم به أي بالكافر على الأقل. لو قال إن الله عليم به سيقصر العلم الآن على من كفر لكن لما قال عليم بذات الصدور صارت أشمل ودخل فيها الذي كفر وغيره. عليم بالذي كفر فيها تخصيص بالذي كفر تحديداً لو قال عليم به يعود الضمير على من كفر، إنما قال عليم بذات الصدور دخل فيها من كفر ومن لم يكفر والله تعالى ليس فقط عليم بالذي كفر بل هو عليم بذات الصدور عموماً فهذا حتى يفيد العموم وهذا في القرآن كثير (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) الأعراف) ما قال إنا لا نضيع أجرهم وهذا أفاد أن هؤلاء من المصلحين معناه أن الذين يمسكون الكتاب وأقاموا الصلاة من المصلحين ثم هنالك مصلحون آخرون دخلوا فيهم فدخل فيهم هؤلاء وهؤلاء. من اعتدى على فلان فإننا نعاقب المعتدين فدخل فيهم من اعتدى على فلان وعلى غيره فهذا أفاد الشمول فدخل فيه هؤلاء ودخل فيه صار عموماً أن الله عليم بذات الصدور ولو قال عليم به المعنى يختلف من ناحية أخرى، هو قال بذات الصدور وذات الصدور يعني خفايا الصدور لو قال عليم به ستكون للأشياء الظاهرة إن الله عليم به أي بالشخص الذي كفر لكن لما قال بذات الصدور صار الخفايا يعني ما في داخل الصدور. فإذن شمل علمه ما في الصدور، (فننبئهم بما عملوا) هذا أمر ظاهر (إن الله عليم بذات الصدور) بذات الصدور هذا أمر خفي إذن هذا الكلام للظاهر والخفي، إذن لما قال بذات الصدور شملت الظاهر والباطن ولو قال عليم به أفادت الظاهر فقط. إذن أولاً أفادت الآية عموم العموم وليس الخصوص هؤلاء وغيرهم من كفر ومن لم يكفر وأيضاً الظاهر والباطن، الأمور الظاهرة وخفايا الصدور ولو قال عليم به لا تشمل هذا فإذن هذا توسع كثير والآن وضح أنه شمل علمه ما ظهر وما بطن ولو قال عليم به لم تشمل هذا الشيء. ثم قال عليم ولم يقل عالم، عليم صيغة مبالغة. في أكثر من مناسبة قلنا أن كلمة عالم في القرآن لم ترد إلا في علم الغيب خصوصاً والمفرد (عالم الغيب) أو الغيب والشهادة (عالم الغيب والشهادة) وعلاّم للغيوب وعليم مطلقة لكل شيء. لهذا قال عليم بذات الصدور وما قال علام ولا عالم وهذا من خصوصية استعمال القرآن الكريم لأنه خصص كلمة عالِم بهذا المعنى لكن من حيث الاستخدام اللغوي يتعاور بعض هذه الكلمات مكان البعض الآخر عدا المبالغة واسم الفاعل، المبالغة فيها تكثير واسم الفاعل ليس فيه تكثير هذا من حيث اللغة. وكذلك أكّد هذه المسألة بـ (إنّ) في قوله (إن الله عليم بذات الصدور) واستخدم عليم دونما عالم أو علام وقال بذات الصدور وليس به.
آية (23):
(وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23))
قال (من كفر) بالماضي وقبلها قال (ومن يسلم) بالمضارع. في آية سابقة قال تعالى (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ (40) النمل) الشكر يتجدد وينبغي أن يتكرر لأن النعم متكررة متجددة فكل نعمة تستوجب شكر فقال ومن يشكر أما الكفر يكفي أن يكفر فمسألة واحدة (ومن كفر). قلنا من يسلم وجهه إلى الله، يفوض أمره إلى الله أو يتبع أوامر الله الاتّباع مسائل كثيرة وما يقتضي التفويض إلى الله أمور كثيرة متعددة في الحياة فقال (ومن يسلم) أما من كفر ليس بالضرورة أن يتجدد الكفر لو كفر في الاعتقاد مرة واحدة فلا يحتاج إلى التكرار. (وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ (22) لقمان) قلنا إما يتبع أوامر الله أو يفوض أمره إلى الله وقلنا الإتباع في أمور كثيرة والتفويض تفويض الأمور إلى الله وما يحصل فيها والمصائب التي تقع عليه وما يحذره وما يخافه أمور كثيرة جداً فقال (ومن يسلم وجهه).
*ما دلالة الفاء في (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) ثم ما دلالة هذا التعبير بالذات وما اللمسات البيانية فيها؟
(وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) لو تأملنا فيه فهو تعبير غريب وليس مثل فلا تحزن لكفره، الكفر فاعل والكاف المخاطب مفعول به (المخاطَب هو الرسول (صلى الله عليه وسلم))، في اللغة المنهي هو الفاعل لما أقول لا يضرب محمد خالداً المنهي هو محمد، المنهي هو الفاعل ففي الآية الكفر هو المنهي وليس الرسول (صلى الله عليه وسلم). المعنى العام لا تحزن لكفره هذا أصل المعنى لكن كيف اختار التعبير؟ لماذا لم يقل فلا تحزن لكفره. في اللغة المنهي هو الفاعل إلى المفعول. لم يقل تعالى فلا تحزن وإنما قال (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) الكاف مفعول به. لو قال لا تحزن يكون الفاعل المخاطب (أنت) لكن في الآية المنهي هو الكفر. المنهي في الآية هو الكفر يعني أيها الكفر لا تُحزِن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ينهى تعالى الكفر ألا يُحزن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إشفاقاً على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكأن الكفر يريد أن يُحزِن رسول الله (صلى الله عليه وسلم). هذه فيها تعبير مجازي كأن الكفر ذات عاقلة تريد أن تحزن الرسول فينهاه تعالى (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) تعبير في غاية اللطافة والرقة. قال تعالى في آيات أخرى (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) النحل) ليس هنا مفعول به منهي. في القرآن (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) فاطر) لأن الشيطان يغرّ المسلم، المنهي هو إبليس لكن المقصود به الإنسان أن لا يغتر بإبليس. (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) المنهي هو الكفر أن لا يُحزِن رسول الله.
الفاء في (فَلَا يَحْزُنكَ) الفاء يمكن حذفها. ذكرها له معنى وحذفها له معنى. الفاء هنا عرّفتنا جواب الشرط ولو حذف الفاء لا تكون شرطية، هناك ضوابط لاقتران الفاء بجواب الشرط. الفاء تحتمل أن تكون موصولة وتحتمل أن تكون شرطية والذي يحدد أحياناً ضابط لفظي كأن يكون الجزم (من يدرس ينجح) هذا شرط للأن اسم الموصول لا يجزم. هذا الذي يحدد الفاء الموطن موطن وجوب اقتران الفاء بالشرط لأن هذا نهي (لا) الناهية إذا كانت (من) شرطية فالفاء لا بد أن تأتي, وإذا كانت (من) موصولة لا تأتي الفاء. لو لم تأتي بالفاء في الآية تكون موصولة، الفاء شرطية وهذا هو المقصود. وإذا كانت موصولة ومن كفر لا يحزنك كفره المعنى ليس واحداً. الشرط يفيد العموم قطعاً (من يستعن بالله يعنه) لا يقصد شخص معين. أما الموصول فلا يدل على الغموم لأن الموصول معرفة وقد يكون المعرفة للجنس أو للواحد (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) المدثر) شخص معين واحد هو الوليد بن المغيرة. الموصول لا يقتضي أن يكون جنساً يحتمل أن يكون واحداً معيناً أو جنساً (أكرمت من زارني) من يزورني أكرمه، من يعتدي عليّ أعتدي عليه. الشرط يدل على العموم والوصول ليس بالضرورة وفي الآية أراد تعالى العموم وليس جماعة معينة في الكفر وإنما الكلام على الإطلاق وفهمنا الإطلاق من الفاء. هذه الفاء عيّنت أن (من) شرطية والشرط يفيد العموم إطلاقاً لأنه لو قال لا يحزنك يحتمل أن يكون جماعة معينة بينهم مشادة أو أذى لا تعني غيرهم لكن عندما جاء بالفاء صارت للعموم ولو حذفها ليست بالضرورة للعموم إذن ذكرها ليس كحذفها، وجود الفاء يحدد معنى الشرطية لـ (من) وهذا فيه العموم وهذا هو المقصود بالآية.
*قال تعالى في الآية (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ (23)) بالجمع وفي آية سابقة قال (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ (15) لقمان) بالمفرد وإضافة (ثم) فما الفرق؟
(إلينا) ضمير التعظيم، إليّ ضمير الإفراد. الآية السابقة (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)) الآية السابقة في مقام الوحدانية والنهي عن الشرك فجاء بضمير الوحدة (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) (وإن جاهداك على أن تشرك بي) كلها في مقام التوحيد والنهي عن الشرك فيقول (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ). أما الآية الثانية فليست في مقام التوحيد فجاء كضير التعظيم وأيضاً قدم الجار والمجرور (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) للحصر أي إلينا مرجعهم لا إلى غيرهم.
*هنا قال (فَنُنَبِّئُهُم) وفي مواطن أخرى قال (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) الأنعام) فما الفرق؟
في الآية السابقة في لقمان قال (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم (15)) (ثم) عاطفة تفيد التراخي. في الآية لم يأتي بـ (ثم) قال (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ). في الآية الأولى الكلام على التراخي معناها تقريب المرجع (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) هنالك مهلة أما في الآية لم يكن هناك مهلة وإنما جعل المرجع أقرب. لماذا جعل هناك مهلة وهنا لم يجعل مهلة بدون (ثم)؟ هو جاء بـ (ثم) هناك أكثر من سبب قال (وَإِن جَاهَدَاكَ) المجاهدة قد تستغرق وقتاً وقال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) فيها وقت (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ) فيها وقت وهذا يناسب (ثم). أما في هذه الآية ليس فيها ما يدل على التراخي ما يقتضي التراخي أما في تلك الآية ما يدل على التراخي. السياق في هذه الآية ليس فيه تراخي كأن فيه تقريب الأمر (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) وقت قليل وينتهي لما نهاه عن الحزن فقال له الوقت قريب ولا يعقل أن ينهاه عن الحزن وأن لا يهتم بهذا ثم يقول له هناك وقت طويل فقال (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) إذن هناك أكثر من مسألة استدعت استعمال (ثم). عندما ترى صاحبك في ضيق وتريد أن تخفف عنه تقول له الدنيا قصيرة فتقلل الأمر في عينه حتى يخف فلما قال تعالى (فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ) يريد أن يصبره فقال أن الوقت قصير (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) المهم أن تهون المسألة عليه لا العكس، الله تعالى ينهاه عن الحزن فلا يطيل الوقت عليه.
العرب كان تعرف هذا وهم كانوا إذا أرادوا أو يواسوا شخصاً يقولون له الدنيا قصيرة.
*قال تعالى (فأنبئكم) وفي مواطن أخرى لم يستعمل الفاء فلماذا؟
في مواطن قال (فأنبئكم) (فينبئهم) (ثم ينبئهم) الأمر الأساسي في فهم التعبير هو السياق ووضعه في مكانه. أصل السياق في الدنيا (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا (159) الأنعام) لم يذكر إلينا مرجعهم. هناك لما ذكر المرجع صار بين الدنيا والتنبيه وقت طويل قال (ثم ينبئهم) وهناك قال (إلي مرجعهم) فلما رجعوا سيكون التنبيه أقرب وهنا لم يقل الرجوع (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14) المائدة) إلى يوم القيامة الوقت ممتد فيقول سوف، السياق هو الذي يحدد. لما يذكر الكلام إذا كان السياق مبني على التأخير يقول (ثم). (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) الأنعام) ليس هناك استعجال فلا يقول فأنبئكم. في نفس السياق (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) الأنعام) يقول (ثم) لأن المقام ليس في الاستعجال. السياق الذي يحدد ولا ينبغي أن نقطع كلمة من سياقها.
*قال تعالى بما عملوا وفي آية سابقة في السورة قال بما كنتم تعملون فما الفرق بين الآيتين؟
الآية الكريمة قوله تعالى (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ذكرنا بعض الأمور التي تتعلق بالآية فيما سبق ووقفنا عند قوله تعالى (فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا). ربنا تعالى في آية سابقة في السورة نفسها قال (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15)) (كنتم تعملون) هذا الماضي المستمر، كان يعمل مستمر، كنتم تعملون أي كنتم مستمرون على العمل في الماضي يسمى الماضي المستمر و(عملوا) هذا الماضي المنقطع. هناك أكثر من ماضي وأنواعه متعددة لكن في الآية (بما كنتم تعملون) بالماضي المستمر وهذه الآية بالماضي المنقطع (بما عملوا). السبب كما ذكرنا أكثر من مرة أن السياق يحدد المسألة، في الآية السابقة ذكر استكرار المجاهدة (وإن جاهداك) واستمرار المصاحبة بالمعروف (وصاحبهما في الدنيا معروفاً) واستمرار الإتباع اتباع المنيبين إليه (واتبع سبيل من أناب إليّ) ثم قال (ثم إلي مرجعكم) و (ثم) تفيد المهلة والتراخي، هذه الأمور تحتاج إلى استمرار عمل، هنا ليس فيها استمرار عمل (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) ما ذكر أموراً فيها دلالة على استمرار العمل لكن المصاحبة والمجاهدة واتباع سبيل المؤمنين ثم إلي مرجعكم أما هنا ما قال (ثم) فيها أصلاً إذن هناك سياق الآية يدل على استمرار العمل قال بما كنتم تعملون جاء بالماضي المستمر وهنا ليس فيها استمرار عمل فقال بما عملوا فإذن هذه مناسبة لهذا الموضع وتلك مناسبة للموضع الذي وردت فيه.
الماضي المستمر له دلالات سياقية. مسألة الماضي فيها أكثر من ستة عشر زمن في الماضي، يُدرّس للأطفال الفعلال ماضي أنه ما مضى وانقطع فقط وتبقى هذه المعلومة ثابتة بينما الماضي كثير هناك الماضي المنقطع، وأحياناً الماضي بحد ذاته هكذا عملوا، هو الآن ماضي منقطع أي انقطع وانتهى لأن الماضي بهذه الصورة قد يكون ماضي واستمر عليه لم ينقطع (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) طه) ليس مرة واحدة (وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) الأعراف) وأحياناً المنقطع لما يكون مسبوقاً بـ (كان) مثل قد كان فعل (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ (15) الأحزاب). وأيضاً هناك الماضي المعتاد كان رسول الله يفعل كذا أي معتاد عليه كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يمسح كذا ثلاثاً ماضي معتاد بمعنى الماضي المستمر يسمونه المعتاد أي ما اعتاد عليه. هناك كلام كثير في الماضي.
*قال تعالى (فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) بالفاء وفي سورة المائدة قال (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (14))؟
ذكرنا هذا الأمر في الحلقة السابقة أنه في بعضها لم يذكر إلينا مرجعهم وهنا ذكر إلينا مرجعهم فلما يكون المدة بين الرجوع والتنبيء ليست طويلة بينما لم يذكر أصلاً المرجع فيكون المسافة أطول وشرحنا أمثلة في حينها.
*في قوله تعالى (إن الله عليم بذات الصدور) لم يقل إننا مع أنه قال قبلها (إلينا مرجعهم) بضمير الجمع؟
في أكثر من مناسبة ذكرنا أنه إذا ورد ضمير التعظيم لا بد أن يسبقه أو يأتي بعده ما يدل على الإفراد وهذا سمت في القرآن الكريم لم يتخلف في أي موطن من المواطن في جميع القرآن. لما كان ما سبق هو في ضمير التعظيم (إلينا مرجعهم فننبئهم) يأتي بعده ما يدل على المرد لئلا تبقى في الذهن شائبة شرك فقال (إن الله عليم بذات الصدور) وهذا ثابت في القرآن واضح في جميع القرآن لم يتخلف في موطن واحد حيث ذكر ضمير التعظيم لا بد أن يسبقه أو يأتي بعده ما يدل على أنه مفرد.
*(إن الله عليم بذات الصدور) مع أن الآية تتكلم عن الذي كفر ومع هذا لم يقل عليم به؟
قال تعالى (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) كأنما المناسب أن الله عليم به أي بالكافر على الأقل. لو قال إن الله عليم به سيقصر العلم الآن على من كفر لكن لما قال عليم بذات الصدور صارت أشمل ودخل فيها الذي كفر وغيره. عليم بالذي كفر فيها تخصيص بالذي كفر تحديداً لو قال عليم به يعود الضمير على من كفر، إنما قال عليم بذات الصدور دخل فيها من كفر ومن لم يكفر والله تعالى ليس فقط عليم بالذي كفر بل هو عليم بذات الصدور عموماً فهذا حتى يفيد العموم وهذا في القرآن كثير (وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) الأعراف) ما قال إنا لا نضيع أجرهم وهذا أفاد أن هؤلاء من المصلحين معناه أن الذين يمسكون الكتاب وأقاموا الصلاة من المصلحين ثم هنالك مصلحون آخرون دخلوا فيهم فدخل فيهم هؤلاء وهؤلاء. من اعتدى على فلان فإننا نعاقب المعتدين فدخل فيهم من اعتدى على فلان وعلى غيره فهذا أفاد الشمول فدخل فيه هؤلاء ودخل فيه صار عموماً أن الله عليم بذات الصدور ولو قال عليم به المعنى يختلف من ناحية أخرى، هو قال بذات الصدور وذات الصدور يعني خفايا الصدور لو قال عليم به ستكون للأشياء الظاهرة إن الله عليم به أي بالشخص الذي كفر لكن لما قال بذات الصدور صار الخفايا يعني ما في داخل الصدور. فإذن شمل علمه ما في الصدور، (فننبئهم بما عملوا) هذا أمر ظاهر (إن الله عليم بذات الصدور) بذات الصدور هذا أمر خفي إذن هذا الكلام للظاهر والخفي، إذن لما قال بذات الصدور شملت الظاهر والباطن ولو قال عليم به أفادت الظاهر فقط. إذن أولاً أفادت الآية عموم العموم وليس الخصوص هؤلاء وغيرهم من كفر ومن لم يكفر وأيضاً الظاهر والباطن، الأمور الظاهرة وخفايا الصدور ولو قال عليم به لا تشمل هذا فإذن هذا توسع كثير والآن وضح أنه شمل علمه ما ظهر وما بطن ولو قال عليم به لم تشمل هذا الشيء. ثم قال عليم ولم يقل عالم، عليم صيغة مبالغة. في أكثر من مناسبة قلنا أن كلمة عالم في القرآن لم ترد إلا في علم الغيب خصوصاً والمفرد (عالم الغيب) أو الغيب والشهادة (عالم الغيب والشهادة) وعلاّم للغيوب وعليم مطلقة لكل شيء. لهذا قال عليم بذات الصدور وما قال علام ولا عالم وهذا من خصوصية استعمال القرآن الكريم لأنه خصص كلمة عالِم بهذا المعنى لكن من حيث الاستخدام اللغوي يتعاور بعض هذه الكلمات مكان البعض الآخر عدا المبالغة واسم الفاعل، المبالغة فيها تكثير واسم الفاعل ليس فيه تكثير هذا من حيث اللغة. وكذلك أكّد هذه المسألة بـ (إنّ) في قوله (إن الله عليم بذات الصدور) واستخدم عليم دونما عالم أو علام وقال بذات الصدور وليس به.
آية (24):
(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24))
*كلمة (قليلاً) ما دلالتها وما إعرابها؟
(قليلاً) فيها احتمالان في الإعراب محتمل أن نعربها مفعول مطلق يعني تمتيعاً قليلاً أي قليل وصف للمصدر أو نعربها ظرف زمان أي زمناً قليلاً. فإذن من حيث الإعراب تحتمل الحدث وهو تمتيعاً قليلاً وتحتمل الزمن زمناً قليلاً، وهو حذف الموصوف لأنه لو ذكر الموصوف لتحدد بشيء واحد لو قال زمناً أو تمتيعاً لحدد. حذف والآن يشمل الاثنين معناه يمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً فجمع المعنيين بالحذف، الآن اتسع واستفدنا أنه يمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً ولو ذكر لخصص الذي ذكره وأطلق الآخر. لو أراد أن يقول تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً، الحذف أغنى عن أن يقول تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً فشمل المعنيين وقال (نمتعهم قليلاً). بدل العبارة الطويلة حذف فتوسع المعنى (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) التوبة) بدل أن يقول فليضحكوا ضحكاً قليلاً زمناً قليلاً وليبكوا بكاء كثيراً زمناً كثيراً حذف فجمع المعنيين وأحياناً يكون الحذف أبلغ من الذكر وقد يكون الحذف للتوسع في المعنى وأحياناً الذكر يكون للتخصيص مثل (هو يُكرم) إطلاق و (هو يكرم فلاناً) تحديداً. إذن حينما يحذف لا بد أن تدل (قليلاً) على المعنيين نمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً ولما تُعرب تُعرب باحتمالين، والحذف هنا جائز.
*في البقرة قال (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)) بضمير المفرد وفي لقمان بالجمع (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) فما الفرق بينهما؟
حتى نفهم المسألة نقرأ سياق آية البقرة لأن السياق هو الذي يوضح (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)) إذن آية البقرة في مكة (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا) وقبل أن توجد مكة، ولما قال (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا (35) إبراهيم) هذا بعد البناء بعد أن صارت بلداً. فإذن آية البقرة في مكة وآية لقمان عامة (نمتعهم قليلاً) كلاماً عاماً وليس في بلد معين ولا أناس معينين. أيها الأكثر؟ الآية في لقمان، فجاء بضمير الكثرة وتسمى الكثرة النسبية (نمتعهم قليلاً) يعني يُعبَّر عن الأكثر بالضمير الذي يدل على الكثرة والجمع ويعبر عن الأقل بالمفرد. و (من) تحتمل ذلك إذن فمن كفر فأمتعه قليلاً وهؤلاء أقل من الذين قال فيهم أمتعه قليلاً هذا أقل من الذين نمتعهم فجاء بضمير الجمع. في القرآن يراعي هذا الشيء (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) يونس) الذين يستمعون أكثر من الذين ينظرون فقال يستمعون هذه تسمى مناسبة وهذا ما جعل المفعول في لقمان بالجمع وفي البقرة بالمفرد.
*قال تعالى(وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) في آية البقرة ونمتعهم بالجمع في آية لقمان؟
هذا يدخل فيه أكثر من مسألة. مسألة التعظيم ذكرنا أنه لماذا قال (إن الله عليم بذات الصدور) وقلنا أن قبلها جاء بالجمع (إلينا مرجعهم) ثم هنا جاء بالمفرد وفي البقرة بالعكس ذكر الإفراد أولاً ثم الجمع. هذه فيها أكثر من مناسبة (وَعَهِدْنَا إِلَى إبراهيم وَإسماعيل أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة) هذه جمع سيأتي بعدها مفرد، بعد الجمع يأتي المفرد، ضمير التعظيم (وَعَهِدْنَا إِلَى إبراهيم). والأمر الآخر قال (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ) البيت نسبه تعالى إلى نفسه وصاحب البيت يتولى الأمر وربنا صاحب البيت يتولى هذا فقال (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) وهو قال طهرا بيتي للطائفين هو صاحب البيت ويتولى من يسيء فهي أنسب من كل ناحية وقال بيتي فمناسبة أكثر للإفراد.
*في لقمان قال (إلينا مرجعهم) ولم يقلها في البقرة؟
إبراهيم سأل ربه (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) إذن لما قال فأمتعه قليلاً كان من دعاء إبراهيم لما قال (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) والرزق فيه تمتيع إذن هذه المسألة ليست متعلقة بالتبليغ وإنما هو طلب الرزق (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) الجواب (فأمتعه قليلاً) لأنه طلب الرزق فالجواب يكون فأمتعه قليلاً وهذه ليست في التبليغ أما آية لقمان ففي التبليغ (ومن كفر) والسياق مختلف تماماً. فإذن لما كانت الآية في التبليغ قال (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) أما في آية البقرة ليست في التبليغ فقال (فأمتعه قليلاً). في لقمان قال (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ولم يقلها في البقرة أيضاً، هؤلاء في آية لقمان الكفار موجودين أما هؤلاء الذين قال فيهم الآية في سورة البقرة لم يخلقوا بعد هذا باعتبار ما سيكون هم ليسوا مخلوقين أصلاً قال (اجعل هذا بلداً آمناً) فكيف يقول فلا يحزنك كفره هم غير موجودين ويأتون بعده بقرون، أما في آية لقمان فهو معاصر لهم يبلغهم.
*في لقمان قال (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)) وفي البقرة قال (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126))؟
أيها الأشد أن تقول إلى عذاب غليظ أو إلى عذاب النار وبئس المصير؟ عذاب النار. عندما يقول عذاب غليظ هل معناه أنك ستحرقه؟ كلا لأنك لم تصرح أنه بالنار، عندما تقول سأعذبه عذاباً غليظاً هل معناه أنك ستحرقه؟ لم تصرح أنه بالنار، أما عذاب النار فيها حرق فأيها الأشد؟ عذاب النار. لم يذكر نار في لقمان وفي البقرة ذكر ناراً وبئس المصير إذن هذا العذاب أشد، ذكر النار وقال أنه بئس المصير. عذاب غليظ لا يشترط أن يكون بالنار قد يكون بعضا غليظة. قال عذاب النار في أهل مكة وإبراهيم يطلب البلد الآمن والرزق، السيئة في مكة تتضاعف أكثر بكثير من مكان آخر وكذلك الحسنة تتضاعف في مكة والسيئة في مكة تتضاعف فمن أساء في مكة في بلد الله الحرام ليس كمن أساء في غيرها، نفس السيئة إذا فعلها شخص في مكة ليست عقوبتها كمن أساء في غير مكة السيئة فيها تتضاعف والحسنة فيها تتضاعف فإذن عندما تكون السيئة تتضاعف فالعذاب يتضاعف ويشتد لذا قال عذاب النار وبئس المصير لأن ذكر السيئة والكفر في مكة ليس كالكفر في غير مكة والمعصية في مكة ليست كالمعصية في غير مكة الحسنة أكثر والسيئة أكثر ولذلك شدّد العذاب فقال عذاب النار وبئس المصير.
آية (24):
(نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24))
*كلمة (قليلاً) ما دلالتها وما إعرابها؟
(قليلاً) فيها احتمالان في الإعراب محتمل أن نعربها مفعول مطلق يعني تمتيعاً قليلاً أي قليل وصف للمصدر أو نعربها ظرف زمان أي زمناً قليلاً. فإذن من حيث الإعراب تحتمل الحدث وهو تمتيعاً قليلاً وتحتمل الزمن زمناً قليلاً، وهو حذف الموصوف لأنه لو ذكر الموصوف لتحدد بشيء واحد لو قال زمناً أو تمتيعاً لحدد. حذف والآن يشمل الاثنين معناه يمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً فجمع المعنيين بالحذف، الآن اتسع واستفدنا أنه يمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً ولو ذكر لخصص الذي ذكره وأطلق الآخر. لو أراد أن يقول تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً، الحذف أغنى عن أن يقول تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً فشمل المعنيين وقال (نمتعهم قليلاً). بدل العبارة الطويلة حذف فتوسع المعنى (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) التوبة) بدل أن يقول فليضحكوا ضحكاً قليلاً زمناً قليلاً وليبكوا بكاء كثيراً زمناً كثيراً حذف فجمع المعنيين وأحياناً يكون الحذف أبلغ من الذكر وقد يكون الحذف للتوسع في المعنى وأحياناً الذكر يكون للتخصيص مثل (هو يُكرم) إطلاق و (هو يكرم فلاناً) تحديداً. إذن حينما يحذف لا بد أن تدل (قليلاً) على المعنيين نمتعهم تمتيعاً قليلاً زمناً قليلاً ولما تُعرب تُعرب باحتمالين، والحذف هنا جائز.
*في البقرة قال (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)) بضمير المفرد وفي لقمان بالجمع (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ) فما الفرق بينهما؟
حتى نفهم المسألة نقرأ سياق آية البقرة لأن السياق هو الذي يوضح (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)) إذن آية البقرة في مكة (رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا) وقبل أن توجد مكة، ولما قال (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا الْبَلَدَ آمِنًا (35) إبراهيم) هذا بعد البناء بعد أن صارت بلداً. فإذن آية البقرة في مكة وآية لقمان عامة (نمتعهم قليلاً) كلاماً عاماً وليس في بلد معين ولا أناس معينين. أيها الأكثر؟ الآية في لقمان، فجاء بضمير الكثرة وتسمى الكثرة النسبية (نمتعهم قليلاً) يعني يُعبَّر عن الأكثر بالضمير الذي يدل على الكثرة والجمع ويعبر عن الأقل بالمفرد. و (من) تحتمل ذلك إذن فمن كفر فأمتعه قليلاً وهؤلاء أقل من الذين قال فيهم أمتعه قليلاً هذا أقل من الذين نمتعهم فجاء بضمير الجمع. في القرآن يراعي هذا الشيء (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) يونس) الذين يستمعون أكثر من الذين ينظرون فقال يستمعون هذه تسمى مناسبة وهذا ما جعل المفعول في لقمان بالجمع وفي البقرة بالمفرد.
*قال تعالى(وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) في آية البقرة ونمتعهم بالجمع في آية لقمان؟
هذا يدخل فيه أكثر من مسألة. مسألة التعظيم ذكرنا أنه لماذا قال (إن الله عليم بذات الصدور) وقلنا أن قبلها جاء بالجمع (إلينا مرجعهم) ثم هنا جاء بالمفرد وفي البقرة بالعكس ذكر الإفراد أولاً ثم الجمع. هذه فيها أكثر من مناسبة (وَعَهِدْنَا إِلَى إبراهيم وَإسماعيل أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) البقرة) هذه جمع سيأتي بعدها مفرد، بعد الجمع يأتي المفرد، ضمير التعظيم (وَعَهِدْنَا إِلَى إبراهيم). والأمر الآخر قال (أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ) البيت نسبه تعالى إلى نفسه وصاحب البيت يتولى الأمر وربنا صاحب البيت يتولى هذا فقال (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) وهو قال طهرا بيتي للطائفين هو صاحب البيت ويتولى من يسيء فهي أنسب من كل ناحية وقال بيتي فمناسبة أكثر للإفراد.
*في لقمان قال (إلينا مرجعهم) ولم يقلها في البقرة؟
إبراهيم سأل ربه (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) إذن لما قال فأمتعه قليلاً كان من دعاء إبراهيم لما قال (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) والرزق فيه تمتيع إذن هذه المسألة ليست متعلقة بالتبليغ وإنما هو طلب الرزق (وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) الجواب (فأمتعه قليلاً) لأنه طلب الرزق فالجواب يكون فأمتعه قليلاً وهذه ليست في التبليغ أما آية لقمان ففي التبليغ (ومن كفر) والسياق مختلف تماماً. فإذن لما كانت الآية في التبليغ قال (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) أما في آية البقرة ليست في التبليغ فقال (فأمتعه قليلاً). في لقمان قال (وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ولم يقلها في البقرة أيضاً، هؤلاء في آية لقمان الكفار موجودين أما هؤلاء الذين قال فيهم الآية في سورة البقرة لم يخلقوا بعد هذا باعتبار ما سيكون هم ليسوا مخلوقين أصلاً قال (اجعل هذا بلداً آمناً) فكيف يقول فلا يحزنك كفره هم غير موجودين ويأتون بعده بقرون، أما في آية لقمان فهو معاصر لهم يبلغهم.
*في لقمان قال (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)) وفي البقرة قال (وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126))؟
أيها الأشد أن تقول إلى عذاب غليظ أو إلى عذاب النار وبئس المصير؟ عذاب النار. عندما يقول عذاب غليظ هل معناه أنك ستحرقه؟ كلا لأنك لم تصرح أنه بالنار، عندما تقول سأعذبه عذاباً غليظاً هل معناه أنك ستحرقه؟ لم تصرح أنه بالنار، أما عذاب النار فيها حرق فأيها الأشد؟ عذاب النار. لم يذكر نار في لقمان وفي البقرة ذكر ناراً وبئس المصير إذن هذا العذاب أشد، ذكر النار وقال أنه بئس المصير. عذاب غليظ لا يشترط أن يكون بالنار قد يكون بعضا غليظة. قال عذاب النار في أهل مكة وإبراهيم يطلب البلد الآمن والرزق، السيئة في مكة تتضاعف أكثر بكثير من مكان آخر وكذلك الحسنة تتضاعف في مكة والسيئة في مكة تتضاعف فمن أساء في مكة في بلد الله الحرام ليس كمن أساء في غيرها، نفس السيئة إذا فعلها شخص في مكة ليست عقوبتها كمن أساء في غير مكة السيئة فيها تتضاعف والحسنة فيها تتضاعف فإذن عندما تكون السيئة تتضاعف فالعذاب يتضاعف ويشتد لذا قال عذاب النار وبئس المصير لأن ذكر السيئة والكفر في مكة ليس كالكفر في غير مكة والمعصية في مكة ليست كالمعصية في غير مكة الحسنة أكثر والسيئة أكثر ولذلك شدّد العذاب فقال عذاب النار وبئس المصير.
آية (25):
(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25))
*في هذه الآية لم يقل الله تعالى ليقولن خلقهن الله مع أنه في سورة الزخرف قال تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)) فما الفرق؟
كل الآيات التي سألهم فيها نحو هذا السؤال من خلق السموات والأرض أو من خلقهم يقولون الله من دون ذكر خلقهن الله أو خلقنا الله إلا آية الزخرف فقط (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) المعنى معلوم سواء ذكر فعل خلق أو لم يذكر. ولا شك أنه (ليقولن الله) أوجز من حيث الإيجاز الكلام أوجز و(ليقولن خلقهن العزيز العليم) هذا فيه توسع إذن هو المقام والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال ففي مقام الإيجاز يوجز وفي مقام التوسع يتوسع. في الزخرف أراد أن يتوسع في الكلام على الخلق (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)) فذكر ما يتعلق بالخلق لم يقل فقط خلق السموات والأرض، في الآيات الأخرى التي لم يذكر خلقهن لم يذكر شيئاً في الخلق ولم يتوسع وقد تكون آية وحيدة وليس بعدها شيء يدل على الخلق مثلاً (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) العنكبوت) بعدها مباشرة (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)) ليس فيها خلق، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) لقمان) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) الزمر) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) الزخرف) آية الزخرف هي الآية الوحيدة من بين ما ورد التي توسع فيها بالسياق ذكر الخلق فناسب لهذا التوسع والتفصيل أن يقول (خلقهن العزيز العليم) فالبلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
* لماذا جاء الفعل (ليقولَّن) بالنصب في آية سورة هود (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)) بينما جاءت بالضم في آية أخرى في سورة لقمان (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) ؟
في الآية الأولى في سورة هود الفعل يُبنى على الفتح لأن نون التوكيد باشرت الفعل المضارع لأنه مُسند إلى اسم ظاهر (الذين كفروا) والفعل يُفرد مع الفاعل وهذه قاعدة إذا كان الفاعل ظاهراً فنأتي بالفعل في حالة الإفراد ويُبنى على الفتح لأن نون التوكيد باشرته كما في قوله تعالى (وإذا جاءك الذين كفروا) ولا نقول جاءوك الذين كفروا.
أما في الآية الثانية فالفعل مُسند إلى واو الجماعة ولم تباشره نون التوكيد وأصل الفعل إذا حذفنا نون التوكيد (يقولون) ومثلها الآيات 61 و63 في سورة العنكبوت والآية 9 و87 في الزخرف والآية 38 في الزمر والآية 65 من سورة التوبة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)) والآية 8 من سورة هود (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)).
ولهذا فلا بد أن يكون الفعل في الآية الأولى مبني على الفتح لأنه مُسند إلى اسم ظاهر (ليقولَّن) والثاني مُسند إلى واو الجماعة (ليقولُنّ) مرفوع بالنون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين. أصل الفعل يقولون مرفوع بثبات النون وعندما جاءت نون التوكيد الثقيلة يصبح عندنا 3 نونات ويصبح هذا كثيراً فيحذفون نون الرفع وتبقى نون التوكيد واللام لام الفعل.
وفي الآية الأولى اللام في (ليقولنّ) واقعة في جواب القسم. (لئن) اللام موطّئة للقسم و(إن) الشرطية و(لئن) قسم. واللام في الإثبات لا بد أن تأتي في الجواب (حتى يكون الفعل مثبتاً). فإذا قلنا لئن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون يُصبح الفعل منفيّاً. في جواب القسم إذا أجبنا القسم بفعل مضارع إذا كان الفعل مثبتاً فلا بد من أن نأتي باللام سواء معه نون أو لم يكن معه نون كأن نقول “والله لأذهب الآن، أو والله لأذهبنّ” فلو حُذفت اللام فتعني النفي قطعاً فّإذا قلنا والله أذهب معناها لا أذهب كما في قوله تعالى في سورة يوسف (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)) بمعنى لا تفتأ. فمتى أجبت القسم بالفعل المضارع ولم تأت باللام فهو نفي قطعاً كما في هذه الأبيات:
رأيت الخمر صالحة وفيها مناقب تُفسد الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ولا أشفي بها أبداً سقيما
وكذلك:
آليت حَبَّ العراق الدهر أطعمه والحَبُّ يأكله في القرية السوس
فالقاعدة تقول أن اللام في جواب القسم دلالة على إثبات الفعل.
*قال تعالى (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ما دلالة الحمد لله في الآية الكريمة؟
لأكثر من سبب أولاً أن الحجة قامت عليهم هو يدعوهم ويبلغهم هم يعلمون لكن لما قالوا (ليقولن الله) صار إقراراً لذا يجب أن يعبدوا الله الذي خلقهم لا يشركون به شيئاً إذن الحجة لزمتهم وأبرأ نفسه فأقام الحجة عليهم. ثم الحمد لله الذي هدانا للحق اننا لم نكن مثلهم ممن يدعوهم الشيطان إلى عذاب السعير، إذن الحمد لأن الحجة قامت عليهم , ألزمتهم الحجة وأبرأ نفسه والحمد لله الذي هدانا إلى الحق ولم يجعلنا مثلهم أن نكون من أصحاب السعير والحمد لله الذي خلق السموات والأرض فهو سبحانه يستحق الحمد (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذن الحمد لله مناسبة لعدة جهات.
*قال تعالى في آية لقمان (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) وفي العنكبوت قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)) فما الفرق بينهما؟
لا يعلمون يعني لا يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض هو وحده المستحق للعبادة مع أنهم يعرفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض لكن لا يعلمون ماذا ينبني على هذا العلم. من آمن بالله ووحّده هذا علِم أن الذي خلق السموات والأرض هو مستحق لأن يُفرد ويوحّد ولا يُشرك به وهنالك آخرون يعلمون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض لكن لا يعلمون ماذا ينبني على هذا العلم؟ مثل الذي يعلم البديهيات لكن لا يعلم ما ينبني عليها لا يعلمون أن الله مستحق للعبادة يعلمون الأساس ولا يعلمون ما ينبني عليه وما هو المطلوب منهم. هم يعلمون أن الله خلقهم لكن ما الذي ينبني على هذا العلم؟ هل ينبني عليه التوحدي؟ أكثرهم لا يعلمون هذا. مثلاً واحد يعرف أباه ويعلم أنه هو الذي رباه وأنفق عليه أغدق عليه النعم لكن لا يعلم أن عليه أن يطيعه ولا يعصيه فيطيع ويشكر من لا فضل عليه. هذا الأول ثم نأتي للسؤال في العنكبوت قال (لا يعقلون) نفي عنهم العقل، طبعاً الذمّ بعدم العقل أشد من عدم العلم لأن نفي العقل معناه مساواة بالبهائم لأنه يتعلم بالعقل. ننظر في السياق: قال في لقمان (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) وفي العنكبوت قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)) في لقمان سألهم سؤالاً واحداً (من خلق السموات والأرض) وفي العنكبوت سألهم أكثر من سؤال، عن كلها قالوا الله يعني معرفتهم بكل هذه المسلّمات ثم لا يوحّدوه هذا عدم عقل. معناه ليس عندهم من العقل ما يترقون به من المسلمات إلى التوحيد. في لقمان سألهم سؤالاً واحداً من الأسئلة التي سألها في العنكبوت إذن كان الأمر في لقمان أيسر فقرنهم بما هو أيسر (لا يعلمون) وفي العنكبوت قرنهم بما هو أشد فقال (لا يعقلون).
آية (25):
(وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25))
*في هذه الآية لم يقل الله تعالى ليقولن خلقهن الله مع أنه في سورة الزخرف قال تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)) فما الفرق؟
كل الآيات التي سألهم فيها نحو هذا السؤال من خلق السموات والأرض أو من خلقهم يقولون الله من دون ذكر خلقهن الله أو خلقنا الله إلا آية الزخرف فقط (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) المعنى معلوم سواء ذكر فعل خلق أو لم يذكر. ولا شك أنه (ليقولن الله) أوجز من حيث الإيجاز الكلام أوجز و(ليقولن خلقهن العزيز العليم) هذا فيه توسع إذن هو المقام والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال ففي مقام الإيجاز يوجز وفي مقام التوسع يتوسع. في الزخرف أراد أن يتوسع في الكلام على الخلق (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)) فذكر ما يتعلق بالخلق لم يقل فقط خلق السموات والأرض، في الآيات الأخرى التي لم يذكر خلقهن لم يذكر شيئاً في الخلق ولم يتوسع وقد تكون آية وحيدة وليس بعدها شيء يدل على الخلق مثلاً (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) العنكبوت) بعدها مباشرة (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)) ليس فيها خلق، (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) لقمان) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) الزمر) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) الزخرف) آية الزخرف هي الآية الوحيدة من بين ما ورد التي توسع فيها بالسياق ذكر الخلق فناسب لهذا التوسع والتفصيل أن يقول (خلقهن العزيز العليم) فالبلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال.
* لماذا جاء الفعل (ليقولَّن) بالنصب في آية سورة هود (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)) بينما جاءت بالضم في آية أخرى في سورة لقمان (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) ؟
في الآية الأولى في سورة هود الفعل يُبنى على الفتح لأن نون التوكيد باشرت الفعل المضارع لأنه مُسند إلى اسم ظاهر (الذين كفروا) والفعل يُفرد مع الفاعل وهذه قاعدة إذا كان الفاعل ظاهراً فنأتي بالفعل في حالة الإفراد ويُبنى على الفتح لأن نون التوكيد باشرته كما في قوله تعالى (وإذا جاءك الذين كفروا) ولا نقول جاءوك الذين كفروا.
أما في الآية الثانية فالفعل مُسند إلى واو الجماعة ولم تباشره نون التوكيد وأصل الفعل إذا حذفنا نون التوكيد (يقولون) ومثلها الآيات 61 و63 في سورة العنكبوت والآية 9 و87 في الزخرف والآية 38 في الزمر والآية 65 من سورة التوبة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)) والآية 8 من سورة هود (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)).
ولهذا فلا بد أن يكون الفعل في الآية الأولى مبني على الفتح لأنه مُسند إلى اسم ظاهر (ليقولَّن) والثاني مُسند إلى واو الجماعة (ليقولُنّ) مرفوع بالنون المحذوفة لتوالي الأمثال والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين. أصل الفعل يقولون مرفوع بثبات النون وعندما جاءت نون التوكيد الثقيلة يصبح عندنا 3 نونات ويصبح هذا كثيراً فيحذفون نون الرفع وتبقى نون التوكيد واللام لام الفعل.
وفي الآية الأولى اللام في (ليقولنّ) واقعة في جواب القسم. (لئن) اللام موطّئة للقسم و(إن) الشرطية و(لئن) قسم. واللام في الإثبات لا بد أن تأتي في الجواب (حتى يكون الفعل مثبتاً). فإذا قلنا لئن سألتهم من خلق السموات والأرض يقولون يُصبح الفعل منفيّاً. في جواب القسم إذا أجبنا القسم بفعل مضارع إذا كان الفعل مثبتاً فلا بد من أن نأتي باللام سواء معه نون أو لم يكن معه نون كأن نقول “والله لأذهب الآن، أو والله لأذهبنّ” فلو حُذفت اللام فتعني النفي قطعاً فّإذا قلنا والله أذهب معناها لا أذهب كما في قوله تعالى في سورة يوسف (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)) بمعنى لا تفتأ. فمتى أجبت القسم بالفعل المضارع ولم تأت باللام فهو نفي قطعاً كما في هذه الأبيات:
رأيت الخمر صالحة وفيها مناقب تُفسد الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ولا أشفي بها أبداً سقيما
وكذلك:
آليت حَبَّ العراق الدهر أطعمه والحَبُّ يأكله في القرية السوس
فالقاعدة تقول أن اللام في جواب القسم دلالة على إثبات الفعل.
*قال تعالى (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ما دلالة الحمد لله في الآية الكريمة؟
لأكثر من سبب أولاً أن الحجة قامت عليهم هو يدعوهم ويبلغهم هم يعلمون لكن لما قالوا (ليقولن الله) صار إقراراً لذا يجب أن يعبدوا الله الذي خلقهم لا يشركون به شيئاً إذن الحجة لزمتهم وأبرأ نفسه فأقام الحجة عليهم. ثم الحمد لله الذي هدانا للحق اننا لم نكن مثلهم ممن يدعوهم الشيطان إلى عذاب السعير، إذن الحمد لأن الحجة قامت عليهم , ألزمتهم الحجة وأبرأ نفسه والحمد لله الذي هدانا إلى الحق ولم يجعلنا مثلهم أن نكون من أصحاب السعير والحمد لله الذي خلق السموات والأرض فهو سبحانه يستحق الحمد (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) إذن الحمد لله مناسبة لعدة جهات.
*قال تعالى في آية لقمان (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) وفي العنكبوت قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)) فما الفرق بينهما؟
لا يعلمون يعني لا يعلمون أن الذي خلق السموات والأرض هو وحده المستحق للعبادة مع أنهم يعرفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض لكن لا يعلمون ماذا ينبني على هذا العلم. من آمن بالله ووحّده هذا علِم أن الذي خلق السموات والأرض هو مستحق لأن يُفرد ويوحّد ولا يُشرك به وهنالك آخرون يعلمون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض لكن لا يعلمون ماذا ينبني على هذا العلم؟ مثل الذي يعلم البديهيات لكن لا يعلم ما ينبني عليها لا يعلمون أن الله مستحق للعبادة يعلمون الأساس ولا يعلمون ما ينبني عليه وما هو المطلوب منهم. هم يعلمون أن الله خلقهم لكن ما الذي ينبني على هذا العلم؟ هل ينبني عليه التوحدي؟ أكثرهم لا يعلمون هذا. مثلاً واحد يعرف أباه ويعلم أنه هو الذي رباه وأنفق عليه أغدق عليه النعم لكن لا يعلم أن عليه أن يطيعه ولا يعصيه فيطيع ويشكر من لا فضل عليه. هذا الأول ثم نأتي للسؤال في العنكبوت قال (لا يعقلون) نفي عنهم العقل، طبعاً الذمّ بعدم العقل أشد من عدم العلم لأن نفي العقل معناه مساواة بالبهائم لأنه يتعلم بالعقل. ننظر في السياق: قال في لقمان (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) وفي العنكبوت قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)) في لقمان سألهم سؤالاً واحداً (من خلق السموات والأرض) وفي العنكبوت سألهم أكثر من سؤال، عن كلها قالوا الله يعني معرفتهم بكل هذه المسلّمات ثم لا يوحّدوه هذا عدم عقل. معناه ليس عندهم من العقل ما يترقون به من المسلمات إلى التوحيد. في لقمان سألهم سؤالاً واحداً من الأسئلة التي سألها في العنكبوت إذن كان الأمر في لقمان أيسر فقرنهم بما هو أيسر (لا يعلمون) وفي العنكبوت قرنهم بما هو أشد فقال (لا يعقلون).
آية (26):
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26))
فكرة عامة عن الآية: الآية الكريمة (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) نلاحظ ابتداءً أنه قدّم الجار والمجرور قال (لله ما في السموات والأرض) الذي هو الخبر على المبتدأ (لله) خبر و(ما في السموات) مبتدأ أصلها ما في السموات والأرض لله، فقدّم الجار والمجرور للحصر هذا من باب تقديم العامل على المعمول في الغالب يفيد الحصر أو القصر يعني لله ما في السموات والأرض حصراً لله ليس لأحد غيره. نلاحظ هنا أنه ذكر أن له ما في السموات والأرض وقبل هذه الآية قال (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) ذكر هنالك خلق السموات وهنا قال لله ما في السموات وهذا يدل على أن له السموات والأرض وما فيهما هنا ذكر ما فيهما لم يذكر السموات والأرض وإنما ذكر ما فيهما وهناك خلقهما إذن هو الصانع لهما فدل على أن له السموات والأرض وما فيهما باعتبار خالقاً وصانعاً ومالكاً لما فيهما لأن الشخص قد يكون يملك الظرف لكن لا يملك ما فيه، (لله) اللام تفيد الملكية. قد يملك الإنسان الظرف ولا يملك ما فيه فقد يملك أحدهم بيتاً وآخر يملك الأثاث فالأثاث للساكن والبيت لصاحب البيت. إذن لا نفهم من خلق السموات والأرض أنه يملك ما فيهما فالخلق شيء والملك شيء. هو خلق السموات والأرض إذن هما ملكه وذكر أن ما فيهما أيضاً ملكه إذن صار السموات والأرض وما فيهما ملكه حتى لا يظن ظان أنه مجرد خالق للسموات والأرض أما المالك فشخص آخر كمن عنده مخزن يؤجره لشخص يضع فيه بضاعة البضاعة لشخص والمالك شخص آخر، السموات الظرف والمظروف كله لله سبحانه وتعالى. إذن دل بهذه الآية ما قبلها أن الله تعالى مالك السموات والأرض ومالك ما فيهما. وقال سابقاً (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) تسخير، نستفيد من قوله (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وقوله (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) على أنه المتصرف فيهما وليس فقط أنه المالك. هناك خلق وهنالك مِلك وهنالك تصرف. الخلق لا يغني عن الملك والتصرف. إذن هو المالك للسموات والأرض وما فيهما والمتصرف فيهما. أنت تملك داراً بنيتها وأثثتها فصارت الدار وما فيها لك والحاكم يريد أن يقيم شارعاً فرأى أن يهدم البيت فالحاكم هو المتصرف وليس أنت لأنه يحدد المصلحة العليا. إذن هنا المالك للسموات والأرض وما فيهما والمتصرف فيهما هو الله سبحانه وتعالى.
*قال تعالى هنا (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وقال في الحج (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)) فما الفرق بين الآيتين؟
لما ذكر أن له ما في السموات والأرض معناه أنه غني هذا ابتداءً. وفي الآية السابقة لما قال (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) معناه أنه حميد، الذي له الحمد هو الحميد فهو الغني الحميد أي الغني المحمود في غناه وعلى وجه الإطلاق. ذكرنا سابقاً في قوله (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)) وتعرضنا لهذه الآية سابقاً، هنالك في الآية (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لم يقل إن الله هو الغني الحميد من دون تعريف ومن دون ضمير فصل وهنا قال (إن الله هو الغني الحميد) بالتعريف (الغني الحميد) وضمير الفصل (هو). في آية الحج التي ذكرناها (وإن الله لهو الغني الحميد) زيادة على هذه الآية باللام (لهو). إذن صار عندنا ثلاث آيات: إن الله غني حميد، إن الله هو الغني الحميد، إن الله لهو الغني الحميد . في الآية الأولى الغني في عُرف الناس هو الذي يملك. في الآية الأولى عندما قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لم يذكر له ملك وإنما قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) وضربنا مثلاً قول أحدهم أعطني حتى أكتب عنك وأذكرك في الصحف أو أثني عليك في قصيدة فيقول أنا غني عن مدحك، إذن إن يشكر أو يكفر فإن الله غني عن ذلك وذكرنا سليمان عندما أرسل إلى الخليل ابن أحمد بغال محمّلة وجاء إلى الخليل بن أحمد وهو في البصرة يأكل الخبز اليابس وقال له يقول الأمير تحوّل إلينا نكرمك وأتى له ببغال محمّلة قال الخليل:
أبلِغ سليمان أني عنه في جِدَة وفي غنى غير أني لست ذا مال
غني عن هذا يكتفي بما هو عنده وغني عما يدفعه سليمان أو غيره من نعمة العيش ويكفيه رغيف خبز يابس وقال هذا عندي ما يكفيني. غني يستغني عما في أيدي الناس يرى في نفسه أنه مكتف عن غيره، هذه مرحلة أولى لذلك في الآية الأولى التي لم يذكر له ملك. في هذه الآية ذكر ملك قال (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أيها الأغنى أن تقول فلان غني أو فلان هو الغني؟ فلان هو الغني. لما ذكر له ما في السموات والأرض ليس مثل تلك التي لم يذكر له ملك، هنا قال (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلما زاد الملك زاد في الغنى تخصيصاً ومعرّفاً وحصراً لم يبق شيء لغيره الآخرون ما يسمون أغنياء هم يملكون أشياء مالكها الله تعالى إذن (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي لا غني غير الله سبحانه وتعالى. نأتي إلى آية الحج (وإن الله لهو الغني الحميد) قال في الحج (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) الحج) أولاً كرر (ما) والتكرار يفيد التوكيد والسعة ولم يكتف بهذا وإنما قال وإنما جاء بالواو (وإن الله لهو الغني الحميد). آية لقمان التي نحن بصددها جعل ما في السموات والأرض دليلاً على غناه، استدل على غناه بأن له ما في السموات والأرض وفي آية الحج جعلها من غناه وليست الدليل على غناه، جعلها من جملة ما يملك وليست السموات والأرض دليل على غناه وإنما هو غني بأشياء أخرى. تقول فلان يملك مائة دار وألف بستان إنه غني وفلان يملك مائة دار وألف بستان وإنه غني يعني لو زالت هذه هو يبقى غنياً وهذه من جملة ما يملك، إذن الدور والبساتين هي من جملة ما يملك لو ذهبت هو يبقى غنياً وليست هي كل غناه أما تلك لما قلنا إنه غني جعلته بما ذكرت له مما يملك. في سورة لقمان جعل غنى الله مرتبطاً بملك السموات والأرض وفي آية الحج جعلها من جملة ما يملك، هذه الواو استئناف وليست عاطفة، (وإنه غني) يعني حتى لو ذهبت لا يؤثر على غناه. أيها الأولى بالتوكيد؟ الآية في سورة الحج لذا لا يمكن أن نضع تعبيراً مكان تعبير بلاغياً بيانياً لأن الموازين في التعبير دقيقة جداً (إن الله غني حميد) (إن الله هو الغني الحميد) (وإن الله لهو الغني الحميد) المشركون لم يكونوا يتكلمون بهذه البلاغة وهي متفاوتة عندهم لكنهم كانوا يفهمون هذا الكلام ويستشعرون الفروق الموجودة واللمسات أكثر مما يستشعر كل كلمة عاشقة مكانها، في أماكن متباعدة كأنها لمحة واحدة بينما كل كلمة نزلت في آية نزلت في زمن متباعد بينما هي كلها وضعت في وقت واحد، لا يمكن أن نتصدى لآية مبتورة عن السياق لا بد أن نضعها في السياق.
*مرة يقول (لله ملك السموات والأرض) ومرة يقول (لله ما في السموات والأرض) فما الفرق؟
هناك فرق بين مُلك ومِلك، المُلك الحُكم فرعون قال (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ (51) الزخرف) يعني الحكم وليس مملوكة له. والمِلك من التملّك فصاحب المُلك مَلِك وصاحب المِلك مالك في الفاتحة نقول ملك يوم الدين ومالك يوم الدين لأنه تعالى الملك والمالك. لما يقول (ملك السموات والأرض) يعني هو الحاكم ولما يقول (له ما في السموات والأرض) هذا التملك مملوكة له. فإذن في مجموعة هذه الآيات أنه هو المالك وهو الملك، كل آية لا تدل على الأخرى (له ما في السموات) من التملك فهو ملكهما ومالكهما كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ (26) آل عمران) المُلك هو مِلكه (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء) بيده التصرف فهي ملكه. في الفاتحة هنالك قراءتان متواتران ملك يوم الدين ومالك يوم الدين، الآية نزلت مرتين مرة ملك يوم الدين ومرة مالك يوم الدين وهي قراءات نزل بها جبريل وأقرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه. هناك عشر قراءات متواترة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه.
آية (26):
(لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26))
فكرة عامة عن الآية: الآية الكريمة (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) نلاحظ ابتداءً أنه قدّم الجار والمجرور قال (لله ما في السموات والأرض) الذي هو الخبر على المبتدأ (لله) خبر و(ما في السموات) مبتدأ أصلها ما في السموات والأرض لله، فقدّم الجار والمجرور للحصر هذا من باب تقديم العامل على المعمول في الغالب يفيد الحصر أو القصر يعني لله ما في السموات والأرض حصراً لله ليس لأحد غيره. نلاحظ هنا أنه ذكر أن له ما في السموات والأرض وقبل هذه الآية قال (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) ذكر هنالك خلق السموات وهنا قال لله ما في السموات وهذا يدل على أن له السموات والأرض وما فيهما هنا ذكر ما فيهما لم يذكر السموات والأرض وإنما ذكر ما فيهما وهناك خلقهما إذن هو الصانع لهما فدل على أن له السموات والأرض وما فيهما باعتبار خالقاً وصانعاً ومالكاً لما فيهما لأن الشخص قد يكون يملك الظرف لكن لا يملك ما فيه، (لله) اللام تفيد الملكية. قد يملك الإنسان الظرف ولا يملك ما فيه فقد يملك أحدهم بيتاً وآخر يملك الأثاث فالأثاث للساكن والبيت لصاحب البيت. إذن لا نفهم من خلق السموات والأرض أنه يملك ما فيهما فالخلق شيء والملك شيء. هو خلق السموات والأرض إذن هما ملكه وذكر أن ما فيهما أيضاً ملكه إذن صار السموات والأرض وما فيهما ملكه حتى لا يظن ظان أنه مجرد خالق للسموات والأرض أما المالك فشخص آخر كمن عنده مخزن يؤجره لشخص يضع فيه بضاعة البضاعة لشخص والمالك شخص آخر، السموات الظرف والمظروف كله لله سبحانه وتعالى. إذن دل بهذه الآية ما قبلها أن الله تعالى مالك السموات والأرض ومالك ما فيهما. وقال سابقاً (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) تسخير، نستفيد من قوله (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وقوله (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ) على أنه المتصرف فيهما وليس فقط أنه المالك. هناك خلق وهنالك مِلك وهنالك تصرف. الخلق لا يغني عن الملك والتصرف. إذن هو المالك للسموات والأرض وما فيهما والمتصرف فيهما. أنت تملك داراً بنيتها وأثثتها فصارت الدار وما فيها لك والحاكم يريد أن يقيم شارعاً فرأى أن يهدم البيت فالحاكم هو المتصرف وليس أنت لأنه يحدد المصلحة العليا. إذن هنا المالك للسموات والأرض وما فيهما والمتصرف فيهما هو الله سبحانه وتعالى.
*قال تعالى هنا (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وقال في الحج (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)) فما الفرق بين الآيتين؟
لما ذكر أن له ما في السموات والأرض معناه أنه غني هذا ابتداءً. وفي الآية السابقة لما قال (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) معناه أنه حميد، الذي له الحمد هو الحميد فهو الغني الحميد أي الغني المحمود في غناه وعلى وجه الإطلاق. ذكرنا سابقاً في قوله (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)) وتعرضنا لهذه الآية سابقاً، هنالك في الآية (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لم يقل إن الله هو الغني الحميد من دون تعريف ومن دون ضمير فصل وهنا قال (إن الله هو الغني الحميد) بالتعريف (الغني الحميد) وضمير الفصل (هو). في آية الحج التي ذكرناها (وإن الله لهو الغني الحميد) زيادة على هذه الآية باللام (لهو). إذن صار عندنا ثلاث آيات: إن الله غني حميد، إن الله هو الغني الحميد، إن الله لهو الغني الحميد . في الآية الأولى الغني في عُرف الناس هو الذي يملك. في الآية الأولى عندما قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لم يذكر له ملك وإنما قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) وضربنا مثلاً قول أحدهم أعطني حتى أكتب عنك وأذكرك في الصحف أو أثني عليك في قصيدة فيقول أنا غني عن مدحك، إذن إن يشكر أو يكفر فإن الله غني عن ذلك وذكرنا سليمان عندما أرسل إلى الخليل ابن أحمد بغال محمّلة وجاء إلى الخليل بن أحمد وهو في البصرة يأكل الخبز اليابس وقال له يقول الأمير تحوّل إلينا نكرمك وأتى له ببغال محمّلة قال الخليل:
أبلِغ سليمان أني عنه في جِدَة وفي غنى غير أني لست ذا مال
غني عن هذا يكتفي بما هو عنده وغني عما يدفعه سليمان أو غيره من نعمة العيش ويكفيه رغيف خبز يابس وقال هذا عندي ما يكفيني. غني يستغني عما في أيدي الناس يرى في نفسه أنه مكتف عن غيره، هذه مرحلة أولى لذلك في الآية الأولى التي لم يذكر له ملك. في هذه الآية ذكر ملك قال (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أيها الأغنى أن تقول فلان غني أو فلان هو الغني؟ فلان هو الغني. لما ذكر له ما في السموات والأرض ليس مثل تلك التي لم يذكر له ملك، هنا قال (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فلما زاد الملك زاد في الغنى تخصيصاً ومعرّفاً وحصراً لم يبق شيء لغيره الآخرون ما يسمون أغنياء هم يملكون أشياء مالكها الله تعالى إذن (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي لا غني غير الله سبحانه وتعالى. نأتي إلى آية الحج (وإن الله لهو الغني الحميد) قال في الحج (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) الحج) أولاً كرر (ما) والتكرار يفيد التوكيد والسعة ولم يكتف بهذا وإنما قال وإنما جاء بالواو (وإن الله لهو الغني الحميد). آية لقمان التي نحن بصددها جعل ما في السموات والأرض دليلاً على غناه، استدل على غناه بأن له ما في السموات والأرض وفي آية الحج جعلها من غناه وليست الدليل على غناه، جعلها من جملة ما يملك وليست السموات والأرض دليل على غناه وإنما هو غني بأشياء أخرى. تقول فلان يملك مائة دار وألف بستان إنه غني وفلان يملك مائة دار وألف بستان وإنه غني يعني لو زالت هذه هو يبقى غنياً وهذه من جملة ما يملك، إذن الدور والبساتين هي من جملة ما يملك لو ذهبت هو يبقى غنياً وليست هي كل غناه أما تلك لما قلنا إنه غني جعلته بما ذكرت له مما يملك. في سورة لقمان جعل غنى الله مرتبطاً بملك السموات والأرض وفي آية الحج جعلها من جملة ما يملك، هذه الواو استئناف وليست عاطفة، (وإنه غني) يعني حتى لو ذهبت لا يؤثر على غناه. أيها الأولى بالتوكيد؟ الآية في سورة الحج لذا لا يمكن أن نضع تعبيراً مكان تعبير بلاغياً بيانياً لأن الموازين في التعبير دقيقة جداً (إن الله غني حميد) (إن الله هو الغني الحميد) (وإن الله لهو الغني الحميد) المشركون لم يكونوا يتكلمون بهذه البلاغة وهي متفاوتة عندهم لكنهم كانوا يفهمون هذا الكلام ويستشعرون الفروق الموجودة واللمسات أكثر مما يستشعر كل كلمة عاشقة مكانها، في أماكن متباعدة كأنها لمحة واحدة بينما كل كلمة نزلت في آية نزلت في زمن متباعد بينما هي كلها وضعت في وقت واحد، لا يمكن أن نتصدى لآية مبتورة عن السياق لا بد أن نضعها في السياق.
*مرة يقول (لله ملك السموات والأرض) ومرة يقول (لله ما في السموات والأرض) فما الفرق؟
هناك فرق بين مُلك ومِلك، المُلك الحُكم فرعون قال (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ (51) الزخرف) يعني الحكم وليس مملوكة له. والمِلك من التملّك فصاحب المُلك مَلِك وصاحب المِلك مالك في الفاتحة نقول ملك يوم الدين ومالك يوم الدين لأنه تعالى الملك والمالك. لما يقول (ملك السموات والأرض) يعني هو الحاكم ولما يقول (له ما في السموات والأرض) هذا التملك مملوكة له. فإذن في مجموعة هذه الآيات أنه هو المالك وهو الملك، كل آية لا تدل على الأخرى (له ما في السموات) من التملك فهو ملكهما ومالكهما كما قال تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ (26) آل عمران) المُلك هو مِلكه (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء) بيده التصرف فهي ملكه. في الفاتحة هنالك قراءتان متواتران ملك يوم الدين ومالك يوم الدين، الآية نزلت مرتين مرة ملك يوم الدين ومرة مالك يوم الدين وهي قراءات نزل بها جبريل وأقرها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه. هناك عشر قراءات متواترة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أقرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأمر من ربه.
آية (27):
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27))
فكرة عامة عن الآية: لما ذكر قبل هذه الآية أن له ما في السموات والأرض لربما يظن ظان أن هذا جميع ملكه، لكن جاءت بعدها (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) كلماته ما يريد أن يعمل ويخلق وكل شيء إذن لا حدود لملكه وخزائنه لعله يفهم أن ما سبق هو كل ما يملك فذكر لنا أن هذا ليس شيئاً إذا ربنا شاء أن يفعل فهذا شيء من كلماته سبحانه وتعالى. الآية (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) معناها لو تتبعنا شجر الأرض شجرة شجرة ولذلك حتى الزمخشري قال لماذا لم يقل من شجر؟ لو تتبعناها شجرة شجرة وجعلنا من أغصانها كل واحدة أقلام والشجرة فيها عدد لا يحصى من الأقلام وكل ما في الأرض لا نترك شجرة نصنع منها أقلاماً، جميع أشجار الأرض تتبع وإحصاء وإنما شجرة شجرة بحيث لا تترك شجرة في الأرض ويصنع منها أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر بمداد (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) الكهف) يكتب به كلمات، الأشياء التي عنده تعالى في خزائنه، الأقلام تفنى والبحر ينفد ويجف ولا تنفذ كلمات الرحمن. اختار كلمات مع أنها جمع قلة واستخدم القرآن كلِم بالجمع (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ (46) النساء) أن كلماته لا تفي بها البحار فكيف بالكلِم؟! ما قل من كلمة لا تفي بها هذه البحار والأقلام فكيف بالكلِم؟! حتى نعلم أن ما ذكر قبلها من الآية هي شيء من كلماته سبحانه، ما في السموات والأرض مجرد شيء.
*(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وفي نفس السورة قال (العزيز الحكيم) بتعريف العزيز الحكيم فما الفرق بين الآيتين؟
هو سبحانه عزيز بقدرته التي لا تحد وعلمه الذي لا ينتهي وبخزائنه التي لا تنفد وحكيم لا يصدر فعله إلا عن حكمة. لو قرأنا الآية (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) والآية السابقة قال تعالى (وهو العزيز الحكيم) من دون تأكيد. هذه الآية في الآخرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)) في الآخرة معلوم واضح أنه لا يبقى عزيز إلا هو ولا حاكم إلا هو حصراً أما في الدنيا نرى أشخاصاً أعزة وحكام وملوك يتداولون هذا في الدنيا أما في الآخرة فهو العزيز الأوحد وهو الحكيم الأوحد وهذا معلوم للجميع هذا يوم لا ينطقون يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون، هناك يظهر للجميع وهو معلوم أنه العزيز الأوحد لا عزيز سواه ولا حكيم سواه لذلك عرّف (هو العزيز الحكيم) حصراً لا عزيز سواه حصراً فالتعريف هنا يفيد الحصر. لما نقول هو عزيز يحتمل أن يكون هنالك عزيز آخر أما لما نقول هو العزيز أي لا عزيز غيره وفي الآخرة قال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ولم يؤكد لأن التوكيد يكون عند المخاطب عنده شك أو ظنّ فيحتاج للتوكيد لكن هذا أمر ظاهر للجميع في الآخرة الأمر ظاهر لا يحتاج فقال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) حصراً بينما في الدنيا هناك من يخالف هناك من يشك هناك من يظن هناك من يقول لا هناك من ينكر قال (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وهنالك أعزة وهناك حكماء وهناك حكام وهنالك ملوك أما في الآخرة فالجميع يرون أنه ليس هنالك عزيز أصلاً لا أحد يتمكن أن يتكلم أو ينطق إلا إذا أراد الله فهو الحاكم والحكيم حصراً لا أحد يحكم سواه، في الآخرة قال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) حصراً وقصراً بما لا شك فيه. إذن ربنا تعالى يؤكد ما له إذا اقتضى المقام التأكيد ولا يؤكد إذا لم يقتض لتأكيد وهذا من البلاغة. لغوياً يجوز لكن بلاغياً فيها كلام. يجب أن نضع الآية في مسرحها هذه الآية في الدنيا أو في الآخرة ولا نقول أن عزيز في اللغة تعني كذا وحكيم تعني كذا لأن هذا أمر معجمي نأخذ المعاني من المعجم لنفهمها أما أمر بياني فيوضع في النص أنت تأخذ المعاني من المعجم لتفهمها أما في التركيب فشيء آخر. على سبيل المثال فسق خرج عن الطاعة، عندنا في القرآن المصدر فِسْق وفسوق في اللغة تعني الخروج عن الطاعة لكن القرآن يستعمل الفسق في سياق الأطعمة مطلقاً (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ (121) الأنعام) أما الفسوق فعام (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ (11) الحجرات) الفسوق عامة والفسق فقط في الأطعمة وهذا من خصوصية الاستعمال في القرآن. أيها الأكثر في الحروف الفسق أو الفسوق؟ الفسوق فجعلها عامة في كل عموم الفسق، هناك مواءمة بين أحرف الكلمات والدلالة.
آية (27):
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27))
فكرة عامة عن الآية: لما ذكر قبل هذه الآية أن له ما في السموات والأرض لربما يظن ظان أن هذا جميع ملكه، لكن جاءت بعدها (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) كلماته ما يريد أن يعمل ويخلق وكل شيء إذن لا حدود لملكه وخزائنه لعله يفهم أن ما سبق هو كل ما يملك فذكر لنا أن هذا ليس شيئاً إذا ربنا شاء أن يفعل فهذا شيء من كلماته سبحانه وتعالى. الآية (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) معناها لو تتبعنا شجر الأرض شجرة شجرة ولذلك حتى الزمخشري قال لماذا لم يقل من شجر؟ لو تتبعناها شجرة شجرة وجعلنا من أغصانها كل واحدة أقلام والشجرة فيها عدد لا يحصى من الأقلام وكل ما في الأرض لا نترك شجرة نصنع منها أقلاماً، جميع أشجار الأرض تتبع وإحصاء وإنما شجرة شجرة بحيث لا تترك شجرة في الأرض ويصنع منها أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر بمداد (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) الكهف) يكتب به كلمات، الأشياء التي عنده تعالى في خزائنه، الأقلام تفنى والبحر ينفد ويجف ولا تنفذ كلمات الرحمن. اختار كلمات مع أنها جمع قلة واستخدم القرآن كلِم بالجمع (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ (46) النساء) أن كلماته لا تفي بها البحار فكيف بالكلِم؟! ما قل من كلمة لا تفي بها هذه البحار والأقلام فكيف بالكلِم؟! حتى نعلم أن ما ذكر قبلها من الآية هي شيء من كلماته سبحانه، ما في السموات والأرض مجرد شيء.
*(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وفي نفس السورة قال (العزيز الحكيم) بتعريف العزيز الحكيم فما الفرق بين الآيتين؟
هو سبحانه عزيز بقدرته التي لا تحد وعلمه الذي لا ينتهي وبخزائنه التي لا تنفد وحكيم لا يصدر فعله إلا عن حكمة. لو قرأنا الآية (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) والآية السابقة قال تعالى (وهو العزيز الحكيم) من دون تأكيد. هذه الآية في الآخرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)) في الآخرة معلوم واضح أنه لا يبقى عزيز إلا هو ولا حاكم إلا هو حصراً أما في الدنيا نرى أشخاصاً أعزة وحكام وملوك يتداولون هذا في الدنيا أما في الآخرة فهو العزيز الأوحد وهو الحكيم الأوحد وهذا معلوم للجميع هذا يوم لا ينطقون يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون، هناك يظهر للجميع وهو معلوم أنه العزيز الأوحد لا عزيز سواه ولا حكيم سواه لذلك عرّف (هو العزيز الحكيم) حصراً لا عزيز سواه حصراً فالتعريف هنا يفيد الحصر. لما نقول هو عزيز يحتمل أن يكون هنالك عزيز آخر أما لما نقول هو العزيز أي لا عزيز غيره وفي الآخرة قال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ولم يؤكد لأن التوكيد يكون عند المخاطب عنده شك أو ظنّ فيحتاج للتوكيد لكن هذا أمر ظاهر للجميع في الآخرة الأمر ظاهر لا يحتاج فقال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) حصراً بينما في الدنيا هناك من يخالف هناك من يشك هناك من يظن هناك من يقول لا هناك من ينكر قال (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وهنالك أعزة وهناك حكماء وهناك حكام وهنالك ملوك أما في الآخرة فالجميع يرون أنه ليس هنالك عزيز أصلاً لا أحد يتمكن أن يتكلم أو ينطق إلا إذا أراد الله فهو الحاكم والحكيم حصراً لا أحد يحكم سواه، في الآخرة قال (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) حصراً وقصراً بما لا شك فيه. إذن ربنا تعالى يؤكد ما له إذا اقتضى المقام التأكيد ولا يؤكد إذا لم يقتض لتأكيد وهذا من البلاغة. لغوياً يجوز لكن بلاغياً فيها كلام. يجب أن نضع الآية في مسرحها هذه الآية في الدنيا أو في الآخرة ولا نقول أن عزيز في اللغة تعني كذا وحكيم تعني كذا لأن هذا أمر معجمي نأخذ المعاني من المعجم لنفهمها أما أمر بياني فيوضع في النص أنت تأخذ المعاني من المعجم لتفهمها أما في التركيب فشيء آخر. على سبيل المثال فسق خرج عن الطاعة، عندنا في القرآن المصدر فِسْق وفسوق في اللغة تعني الخروج عن الطاعة لكن القرآن يستعمل الفسق في سياق الأطعمة مطلقاً (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ (121) الأنعام) أما الفسوق فعام (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ (11) الحجرات) الفسوق عامة والفسق فقط في الأطعمة وهذا من خصوصية الاستعمال في القرآن. أيها الأكثر في الحروف الفسق أو الفسوق؟ الفسوق فجعلها عامة في كل عموم الفسق، هناك مواءمة بين أحرف الكلمات والدلالة.
آية (28):
(مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28))
*(مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان) ما اللمسة البيانية في الآية وما هو ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها؟
هذه الآية أولاً من الناحية البيانية ارتبطت بما قبلها (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)) (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان) خلق الناس من كلمات الله وبعثة من كلمات الله، خلقكم كنفس واحدة من كلمات الله وبعثهم كنفس واحدة من كلمات الله. ختم الآية (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) وقبلها قال (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ما قبلها قال (عزيز حكيم). لاحظ كيف ارتبطت هذه الآية بخاتمة الآية السابقة من الناحية البيانية الخالق عزيز حكيم، الخالق له العزة والمخلوقات كلها من صنعه وهي له طائعة إذن هذا مرتبط باسمه (عزيز). الخالق حكيم، حكيم في خلقه وصنعه وخلقهم لحكمة أرادها (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات) إذن هو حكيم في الصنع وحكيم في الغرض، إذن (مَّا خَلْقُكُمْ) ارتبط بقوله العزيز من حيث الحكمة والعزة. الذي يبعث الخلق (وَلَا بَعْثُكُمْ) عزيز حكيم، عزيز لأنه يجازي ويعذِّب ولا رادّ لأمره، حكيم بمعنى الحكم هو الحاكم، هكذا هو الحاكم (أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ (46) الزمر) وهو الحكمة (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) المؤمنون) إذن هو حكيم بمعنى الحكم وبمعنى الحكمة. إذن ارتبطت هذه بالآية وأيضاً بخاتمة الآية (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ) لأن الخالق والباعث عزيز حكيم من الحكم ومن الحكمة. وارتبطت هذه الآية بما بعدها (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى (29)) هذ الأجل مسمى هو البعث الذي يبعث الله فيه الخلائق الذي ذكره (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان) وهم يجرون كجري الشمس والقمر إلى منتهاه.
وارتبطت بجو السورة التي شاع فيها ذكر الخلق والبعث قال (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا (10)) (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (11)) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)). والبعث شائع من أولها إلى آخرها أول السورة قال (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) وفي آخرها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (23)) ارتبط بالبعث. قال (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)) الخلق ألا يكون سميعاً بصيراً؟ لا بد أن يكون، والذي يبعث لا بد أن يكون سميعاً بصيراً وإلا كيف يحاسبهم على أقوالهم وعلى أفعالهم ويسمع أقوالهم؟ بصير بأعمالهم والأعمال قسم ظاهرة وقسم مضمرة، بصير بأعمالهم الظاهرة والمضمرة لأن البصير قد يكون من البصيرة. فإذن هي مرتبطة بالآية التي قبلها والآية التي بعدها والجو العام للسورة وبخاتمة السورة. ثم نلاحظ أنه قال (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ولم يقل (إن الله هو السميع البصير) لأنه أثبت السمع والبصر بخلقه في السورة فقال (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20)) هذا بصر، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ (29)) هذا بصر، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ (31)) هذا بصر، السمع (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7)) هذا سمع، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا (21)) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) إذن أثبت لهم السمع والبصر.
*حينما نتأمل في هذه الآية المتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أنها تعبر عن القدرة الإلهة في الخلق والبعث والقريب للعقل أن تختتم الآية إن الله على كل شيء قدير ولكن الآية ختمت (سميع بصير) فكيف نفهم الخاتمة في سياقيات الآية؟
الآية قد تحتمل أكثر من خاتمة فيمكن أن تجعل “إن الله على كل شيء قدير” وهذه يمكن أن تصلح لخاتمة أكثر من آية في السورة مثلاً يمكن أن نختم الآيات التالية بـإن الله على كل شيء قدير (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) تحتمل أن تكون هذه خاتمتها وكذلك في السور الأخرى قد تحتمل السورة أكثر من خاتمة لكن اختيار الخاتمة ينبغي أن يكون مناسباً للسياق الذي وردت فيه الآية والغرض الذي ذكرت من أجله الآية. هذه ليست مقتطعة وإنما الآية موضوعة في سياقها فلماذا ذُكِرت الآية؟ مثلاً في عموم الآيات أيّ آية ننظر هل هي واردة في سياق بيان القدرة الإلهية؟ أو بيان الحكمة؟ في عموم ما يرد في الآيات ننظر أي آية لأي غرض وردت؟ هل السياق لبيان القدرة أو بيان الحكمة أو بيان التفضل والنعمة، عموم الآيات، الآية عندما ننظر فيها لأي غرض وردت وفي أي سياق؟ بيان الغنى؟ بيان صفة الإلهية؟ بيان موقف الإنسان منها؟ مثلاً إنزال الماء من السماء وإخراج الزرع والفاكهة والحبوب هذا يمكن أن يساق في بيان قدرة الله ويمكن أن يساق في بيان نعمة الله على الإنسان والحيوان، زرع وحبوب وفاكهة هذا أمر آخر ويمكن أن يساق في أمر آخر للاستدلال على البعث والنشور ويمكن أن يساق في بيان جحود الإنسان لنعمة ربه وهذا كله ممكن في مسألة واحدة وهي إنزال الماء من السماء وإخراج النبات وكلها تحتمل، كيف تأتي الخاتمة؟ الخاتمة تختلف بحسب السياق والغرض. مثال: قال تعالى (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) آل عمران) قال (وتوفنا مع الأبرار)، (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) آل عمران) هنا ختم الآية بـ(انصرنا على القوم الكافرين)، لو أخذناها مقتطعة لسألنا لماذا اختلاف الخاتمة؟ لكن الآية (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) آل عمران) قبلها مباشرة (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)) هل يمكن في القتال أن تقول توفّنا؟ تقول في القتال انصرنا، لذا لا يجوز أن نقتطعها ونضع لها خاتمة. ولا يمكن أن تضع خاتمة تلك الآية في هذه الآية لأن كل منها في سيقا واحدة في سياق حرب وقتال وطلب الثبات. والقدامى يضربون لنا مثالاً (وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها) وردت مرتين كل مرة بخاتمة، الآية الواردة في سورة النحل (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)) هي في بيان صفات الله فختمها بقوله (إن الله لغفور رحيم) أما الثانية ففي بيان صفات الإنسان وجحوده، فلما كانت في بيان صفات الإنسان وجحوده ختمها (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) إبراهيم) النعم لا تحصى لكن الإنسان ظلوم كفار مع أن نِعَم الله إن الإنسان متتالية عليه ومتتابعة لكنه ظلوم كفار، السياق هكذا واحدة في صفات الله وواحدة في صفات الإنسان فلا يصح أن تؤخذ الآية مقتطعة من سياقها. حتى في حياتنا اليومية نذكر أمراً لكن الغرض من ذكره يختلف، مثلاً تذكر حادثة غريبة تدل على كسل شخص لكنك تذكر الحادثة لبيان صفة الشخص أو للتندر منها أو لبيان أن هذا الشخص لا يصلح في المكان الذي عُهِد به إليه أو سيفرِّط في المسألة، هي مسألة واحدة لكن ما الغرض من الذي ذكرته؟ التعقيب يكون بحسب الغرض من الذكر في حادثة واحدة يمكن أن نذكرها في أماكن متعدة وفي جلسات متعددة وهكذا ينبغي أن يكون النظر في خواتيم الآيات عموماً لا نقتطعها وإنما نضعها في سياقها وننظر الغرض في هذه الآية.
ننظر في الآية (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) كيف اتفقت خاتمة الآية بسياقها؟ ابتدأت بالخلق والبعث وختمت بالسمع والبصر، الخالق ألا بد أن يكون سميعاً بصيراً؟ لا بد أن يكون سميعاً بصيراً، الذي يبعث الخلق من مدافنها لا بد أن يكون سميعاً بصيراً، الخالق الذي يخلق عباده ليعبدوه وليبلوهم أيهم أحسن عملاً لا بد أن يكون سميعاً لأقوالهم بصيراً بأعمالهم، الذي يبعثهم ليحاسبهم على أعمالهم لا بد أن يكون سميعاً لما قالوه في الدنيا وما يحتجون به في الآخرة، وبصير بأعمالهم في الدنيا وبما كانوا يعملون وبما أعد لهم لا بد أن يكون بصيراً بهذا الشيء وأنه لا يبقى منهم أحد لا يحاسب. أعمال الإنسان منها ما يُسمَع ومنها ما يُبصَر ومنها ما يُضمَر ولما قال (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) استوفى ما يُسمع وما يُبصر وما يُضمر، السميع يسمع والبصير يحتمل رؤية العين ويحتمل أن يكون من البصيرة (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) القيامة) (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) غافر) البصير تحتمل من البصر ومن البصيرة إذن سميع يشمل ما يُسمع وبصير يشمل ما يُبصر وما يُضمر وقبلها قال (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)) فإذن ذكر ما يُضمر تنصيصاً إذن هذه الآية شملت ما يُسمع وما يُبصر وما يُضمر وهذا يتلاءم مع الخلق والبعث ولا بد للخالق أن يكون كذلك والباعث لا بد أن يكون كذلك سميع بصير. ونفهم القدرة الإلهية من الخلق والبعث السمع والبصر ولو قال إن الله على كل شيء قدير هذا مفهوم أصلاً لكنه أضاف معنى جديد آخر.
*قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ولم يقل إن الله هو السميع البصير فما دلالة عدم توكيد سميع بصير؟
لما يقول (هو السميع البصير) يعني المتفرد بالسمع والبصر لكنه أثبت لنا في السورة أنه سميع بصير في قوله (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20)) يعني الإنسان يُبصر، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ (29)) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ (31)) إذن أثبت البصر للإنسان. وقال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا (7)) يعني يجعل نفسه كأنه لا يسمع هو يسمع (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) الذي يجادل يسمع الكلام، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا (21)) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) أجابوا عن السؤال إذن أثبت لهم السمع وأثبت لهم الرؤية فكيف يكون متفرداً في السمع والبصر؟ السياق لا يتحمل هذا، في السورة أثبت لهم السمع والبصر. أحد معاني البصير من البصر وهي الأشهر فطالما أثبتها للعباد لا يتناسب أن يقول إن الله هو السميع البصير لأن السورة مليئة بالسمع والبصر.
* ما دلالة تقديم السمع على البصر.؟
الأكثر في القرآن تقديم السمع على البصر (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) غافر) (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) الإنسان) (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) الفرقان) القدامى يقولون أن السمع أفضل واستدلوا على أنه تعالى لم يبعث نبياً أصمّ (يعقوب (عليه السلام) عميَ لكنه لم يفقد السمع)، الظاهر أن السمع بالنسبة لتلقي الرسالة أفضل من البصر لأن فاقد البصر يسمع الرسالة، القرآن يسمعه الأعمى ويفهم مقاصده أما الأصم فلا يفهم. إذن بالنسبة إلى تلقي الرسالة السمع أفضل وفاقد البصر يسمع. وقد يكون سبب آخر أن مدى السمع أقل من مدى الرؤية أنت ترى أشياء من بعيد لكن لا تسمعها تسمع الصوت أقرب فإذا اقتضى هذا الشيء قدم السمع (إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه) يشير إلى معنى قريب منكم، مدى السمع أقرب فمعناها أنه قريب. وقد يقدّم البصر لكن في المواطن التي تقتضي، على سبيل المثال (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) السجدة) قدّم البصر لأكثر من سبب أولاً قال (وَلَوْ تَرَى) والرؤية تحتاج إلى بصر، هم قالوا (أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) كانوا في الدنيا يسمعون عن جهنم والآخرة ولكن لا يبصروها والآن أبصروها وسمعوا، قدّم البصر لأولويته في هذا المقام والإبصار هنا أهم من السمع لأن السمع يدخل في باب الظن الشك أما الإبصار فهو يقين قال (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) يقين. إذن التقديم والتأخير هو السمع على البصر على العموم لكن إذا اقتضى الأمر تقديم البصر على السمع يقدِّم، وفي الخِلقة يخلق الله تعالى السمع قبل البصر.
آية (28):
(مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28))
*(مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان) ما اللمسة البيانية في الآية وما هو ارتباط هذه الآية بما قبلها وما بعدها؟
هذه الآية أولاً من الناحية البيانية ارتبطت بما قبلها (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)) (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان) خلق الناس من كلمات الله وبعثة من كلمات الله، خلقكم كنفس واحدة من كلمات الله وبعثهم كنفس واحدة من كلمات الله. ختم الآية (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) وقبلها قال (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ما قبلها قال (عزيز حكيم). لاحظ كيف ارتبطت هذه الآية بخاتمة الآية السابقة من الناحية البيانية الخالق عزيز حكيم، الخالق له العزة والمخلوقات كلها من صنعه وهي له طائعة إذن هذا مرتبط باسمه (عزيز). الخالق حكيم، حكيم في خلقه وصنعه وخلقهم لحكمة أرادها (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات) إذن هو حكيم في الصنع وحكيم في الغرض، إذن (مَّا خَلْقُكُمْ) ارتبط بقوله العزيز من حيث الحكمة والعزة. الذي يبعث الخلق (وَلَا بَعْثُكُمْ) عزيز حكيم، عزيز لأنه يجازي ويعذِّب ولا رادّ لأمره، حكيم بمعنى الحكم هو الحاكم، هكذا هو الحاكم (أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ (46) الزمر) وهو الحكمة (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) المؤمنون) إذن هو حكيم بمعنى الحكم وبمعنى الحكمة. إذن ارتبطت هذه بالآية وأيضاً بخاتمة الآية (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ) لأن الخالق والباعث عزيز حكيم من الحكم ومن الحكمة. وارتبطت هذه الآية بما بعدها (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى (29)) هذ الأجل مسمى هو البعث الذي يبعث الله فيه الخلائق الذي ذكره (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان) وهم يجرون كجري الشمس والقمر إلى منتهاه.
وارتبطت بجو السورة التي شاع فيها ذكر الخلق والبعث قال (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا (10)) (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (11)) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)). والبعث شائع من أولها إلى آخرها أول السورة قال (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) وفي آخرها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (23)) ارتبط بالبعث. قال (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)) الخلق ألا يكون سميعاً بصيراً؟ لا بد أن يكون، والذي يبعث لا بد أن يكون سميعاً بصيراً وإلا كيف يحاسبهم على أقوالهم وعلى أفعالهم ويسمع أقوالهم؟ بصير بأعمالهم والأعمال قسم ظاهرة وقسم مضمرة، بصير بأعمالهم الظاهرة والمضمرة لأن البصير قد يكون من البصيرة. فإذن هي مرتبطة بالآية التي قبلها والآية التي بعدها والجو العام للسورة وبخاتمة السورة. ثم نلاحظ أنه قال (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ولم يقل (إن الله هو السميع البصير) لأنه أثبت السمع والبصر بخلقه في السورة فقال (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20)) هذا بصر، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ (29)) هذا بصر، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ (31)) هذا بصر، السمع (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7)) هذا سمع، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا (21)) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) إذن أثبت لهم السمع والبصر.
*حينما نتأمل في هذه الآية المتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أنها تعبر عن القدرة الإلهة في الخلق والبعث والقريب للعقل أن تختتم الآية إن الله على كل شيء قدير ولكن الآية ختمت (سميع بصير) فكيف نفهم الخاتمة في سياقيات الآية؟
الآية قد تحتمل أكثر من خاتمة فيمكن أن تجعل “إن الله على كل شيء قدير” وهذه يمكن أن تصلح لخاتمة أكثر من آية في السورة مثلاً يمكن أن نختم الآيات التالية بـإن الله على كل شيء قدير (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ) (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ) تحتمل أن تكون هذه خاتمتها وكذلك في السور الأخرى قد تحتمل السورة أكثر من خاتمة لكن اختيار الخاتمة ينبغي أن يكون مناسباً للسياق الذي وردت فيه الآية والغرض الذي ذكرت من أجله الآية. هذه ليست مقتطعة وإنما الآية موضوعة في سياقها فلماذا ذُكِرت الآية؟ مثلاً في عموم الآيات أيّ آية ننظر هل هي واردة في سياق بيان القدرة الإلهية؟ أو بيان الحكمة؟ في عموم ما يرد في الآيات ننظر أي آية لأي غرض وردت؟ هل السياق لبيان القدرة أو بيان الحكمة أو بيان التفضل والنعمة، عموم الآيات، الآية عندما ننظر فيها لأي غرض وردت وفي أي سياق؟ بيان الغنى؟ بيان صفة الإلهية؟ بيان موقف الإنسان منها؟ مثلاً إنزال الماء من السماء وإخراج الزرع والفاكهة والحبوب هذا يمكن أن يساق في بيان قدرة الله ويمكن أن يساق في بيان نعمة الله على الإنسان والحيوان، زرع وحبوب وفاكهة هذا أمر آخر ويمكن أن يساق في أمر آخر للاستدلال على البعث والنشور ويمكن أن يساق في بيان جحود الإنسان لنعمة ربه وهذا كله ممكن في مسألة واحدة وهي إنزال الماء من السماء وإخراج النبات وكلها تحتمل، كيف تأتي الخاتمة؟ الخاتمة تختلف بحسب السياق والغرض. مثال: قال تعالى (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) آل عمران) قال (وتوفنا مع الأبرار)، (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) آل عمران) هنا ختم الآية بـ(انصرنا على القوم الكافرين)، لو أخذناها مقتطعة لسألنا لماذا اختلاف الخاتمة؟ لكن الآية (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) آل عمران) قبلها مباشرة (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)) هل يمكن في القتال أن تقول توفّنا؟ تقول في القتال انصرنا، لذا لا يجوز أن نقتطعها ونضع لها خاتمة. ولا يمكن أن تضع خاتمة تلك الآية في هذه الآية لأن كل منها في سيقا واحدة في سياق حرب وقتال وطلب الثبات. والقدامى يضربون لنا مثالاً (وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها) وردت مرتين كل مرة بخاتمة، الآية الواردة في سورة النحل (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18)) هي في بيان صفات الله فختمها بقوله (إن الله لغفور رحيم) أما الثانية ففي بيان صفات الإنسان وجحوده، فلما كانت في بيان صفات الإنسان وجحوده ختمها (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) إبراهيم) النعم لا تحصى لكن الإنسان ظلوم كفار مع أن نِعَم الله إن الإنسان متتالية عليه ومتتابعة لكنه ظلوم كفار، السياق هكذا واحدة في صفات الله وواحدة في صفات الإنسان فلا يصح أن تؤخذ الآية مقتطعة من سياقها. حتى في حياتنا اليومية نذكر أمراً لكن الغرض من ذكره يختلف، مثلاً تذكر حادثة غريبة تدل على كسل شخص لكنك تذكر الحادثة لبيان صفة الشخص أو للتندر منها أو لبيان أن هذا الشخص لا يصلح في المكان الذي عُهِد به إليه أو سيفرِّط في المسألة، هي مسألة واحدة لكن ما الغرض من الذي ذكرته؟ التعقيب يكون بحسب الغرض من الذكر في حادثة واحدة يمكن أن نذكرها في أماكن متعدة وفي جلسات متعددة وهكذا ينبغي أن يكون النظر في خواتيم الآيات عموماً لا نقتطعها وإنما نضعها في سياقها وننظر الغرض في هذه الآية.
ننظر في الآية (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) كيف اتفقت خاتمة الآية بسياقها؟ ابتدأت بالخلق والبعث وختمت بالسمع والبصر، الخالق ألا بد أن يكون سميعاً بصيراً؟ لا بد أن يكون سميعاً بصيراً، الذي يبعث الخلق من مدافنها لا بد أن يكون سميعاً بصيراً، الخالق الذي يخلق عباده ليعبدوه وليبلوهم أيهم أحسن عملاً لا بد أن يكون سميعاً لأقوالهم بصيراً بأعمالهم، الذي يبعثهم ليحاسبهم على أعمالهم لا بد أن يكون سميعاً لما قالوه في الدنيا وما يحتجون به في الآخرة، وبصير بأعمالهم في الدنيا وبما كانوا يعملون وبما أعد لهم لا بد أن يكون بصيراً بهذا الشيء وأنه لا يبقى منهم أحد لا يحاسب. أعمال الإنسان منها ما يُسمَع ومنها ما يُبصَر ومنها ما يُضمَر ولما قال (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) استوفى ما يُسمع وما يُبصر وما يُضمر، السميع يسمع والبصير يحتمل رؤية العين ويحتمل أن يكون من البصيرة (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) القيامة) (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) غافر) البصير تحتمل من البصر ومن البصيرة إذن سميع يشمل ما يُسمع وبصير يشمل ما يُبصر وما يُضمر وقبلها قال (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)) فإذن ذكر ما يُضمر تنصيصاً إذن هذه الآية شملت ما يُسمع وما يُبصر وما يُضمر وهذا يتلاءم مع الخلق والبعث ولا بد للخالق أن يكون كذلك والباعث لا بد أن يكون كذلك سميع بصير. ونفهم القدرة الإلهية من الخلق والبعث السمع والبصر ولو قال إن الله على كل شيء قدير هذا مفهوم أصلاً لكنه أضاف معنى جديد آخر.
*قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ولم يقل إن الله هو السميع البصير فما دلالة عدم توكيد سميع بصير؟
لما يقول (هو السميع البصير) يعني المتفرد بالسمع والبصر لكنه أثبت لنا في السورة أنه سميع بصير في قوله (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20)) يعني الإنسان يُبصر، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ (29)) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ (31)) إذن أثبت البصر للإنسان. وقال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا (7)) يعني يجعل نفسه كأنه لا يسمع هو يسمع (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) الذي يجادل يسمع الكلام، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا (21)) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) أجابوا عن السؤال إذن أثبت لهم السمع وأثبت لهم الرؤية فكيف يكون متفرداً في السمع والبصر؟ السياق لا يتحمل هذا، في السورة أثبت لهم السمع والبصر. أحد معاني البصير من البصر وهي الأشهر فطالما أثبتها للعباد لا يتناسب أن يقول إن الله هو السميع البصير لأن السورة مليئة بالسمع والبصر.
* ما دلالة تقديم السمع على البصر.؟
الأكثر في القرآن تقديم السمع على البصر (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) غافر) (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) الإنسان) (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) الفرقان) القدامى يقولون أن السمع أفضل واستدلوا على أنه تعالى لم يبعث نبياً أصمّ (يعقوب (عليه السلام) عميَ لكنه لم يفقد السمع)، الظاهر أن السمع بالنسبة لتلقي الرسالة أفضل من البصر لأن فاقد البصر يسمع الرسالة، القرآن يسمعه الأعمى ويفهم مقاصده أما الأصم فلا يفهم. إذن بالنسبة إلى تلقي الرسالة السمع أفضل وفاقد البصر يسمع. وقد يكون سبب آخر أن مدى السمع أقل من مدى الرؤية أنت ترى أشياء من بعيد لكن لا تسمعها تسمع الصوت أقرب فإذا اقتضى هذا الشيء قدم السمع (إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه) يشير إلى معنى قريب منكم، مدى السمع أقرب فمعناها أنه قريب. وقد يقدّم البصر لكن في المواطن التي تقتضي، على سبيل المثال (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) السجدة) قدّم البصر لأكثر من سبب أولاً قال (وَلَوْ تَرَى) والرؤية تحتاج إلى بصر، هم قالوا (أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) كانوا في الدنيا يسمعون عن جهنم والآخرة ولكن لا يبصروها والآن أبصروها وسمعوا، قدّم البصر لأولويته في هذا المقام والإبصار هنا أهم من السمع لأن السمع يدخل في باب الظن الشك أما الإبصار فهو يقين قال (رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) يقين. إذن التقديم والتأخير هو السمع على البصر على العموم لكن إذا اقتضى الأمر تقديم البصر على السمع يقدِّم، وفي الخِلقة يخلق الله تعالى السمع قبل البصر.
آية (29):
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29))
فكرة عامة عن الآية وموقعها في السياق: الآية الكريمة وهي قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)) هو ذكر في السورة قبل هذا الموضع خلق السموات وذكر ما يتعلق بالأرض على العموم من إلقاء الرواسي وغيرها (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ (10)) فذكر خلق السموات والأرض على العموم وما ألقى في الأرض ثم ذكر تسخير ما فيها على العموم أيضاً (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20)) إذن ذكر الخلق وما أودع فيهما على العموم وذكر ما فيهما على العموم وهنا ذكر تسخير بعض ما فيهما هناك تسخير ما فيهما (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) على العموم وهنا ذكر تسخير بعض ما فيهما يعني قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) هذه بعض ما في السموات ليس الكل، هناك تسخير عام وهنا تسخير خاص، وبعدها قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ (31)) وهناك تسخير بعض ما في الأرض. هناك لما قال (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وهنا ذكر بعض ما في السموات ثم قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) هذا بعض ما في الأرض. إذن ذكر العموم في الخلق والتسخير ثم انتقل إلى الخصوص فذكر بعض ما فيهما وهو تسخير الليل والنهار والشمس والقمر من بعض ما في السماء وقال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) هذا بعض ما في الأرض. إذن ذكر العموم ثم انتقل إلى الخاص، هكذا المنهج الذي سار عليه في كيفية ترتيب الآيات.
*ما وجه ارتباط هذه الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) لقمان) بما قبلها وبأول السورة؟
هي ليست مرتبطة فقط بأول السورة وإنما مرتبطة بما قبلها ومرتبطة بأول السورة. قبلها قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) لقمان) إلى قبلها مباشرة قال (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)) ثم تأتي هذه الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)). أولاً (ولئن سألتهم ) والليل والنهار والشمس والقمر أليس مما في الأرض؟ بلى. الأجل المسمى (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) وقبلها (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) متى سيكون البعث؟ في الأجل المسمى الذي ذكره فهي مرتبطة بما قبلها ارتباطاً واضحاً. يأتي ارتباطها بأول السورة (الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)) وقال في هذه الآية التي نحن بصددها (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) هذا اليوم الذي يجازى فيه المحسنون ويحاسب فيه الكافرون، قال (وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أليس هذا في الآخرة؟ بلى، هذا أمر. ربنا ختم الآية (وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)) ذكر الأعمال في أول السورة قال (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (4)) أليست هذه أعمال، هو خبير بما تعملون وهذه أعمال، فكأنما هذه الآية جاءت بعد أول السورة، فإذن المناسبة ظاهرة بما قبلها وبأول السورة.
سؤال: هل كلنا مطالبٌ بأن يُعمل عقله وفكره وما أوتي من ثقافة حتى يفهم آي القرآن الكريم بهذا الشكل؟
بقدر ما يريد وبقدر اختصاصه والمنهج الذي يبتغيه والأمر ليس فيه تكليف وإنما يجتهد.
* هنا قال ألم تر بالمفرد وقبلها قال ألم تروا بالجمع فلماذا؟
ننظر في السياق الذي يوضح لنا الإجابة. أولاً السياق في الآية الأولى بالجمع (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)) إذن الخطاب هو في الجمع فقال ألم تروا. هذا الآية في خطاب المفرد (وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) فقال ألم تر أن الفلك مفرد، السياق هناك في الجمع وهنا في سياق الإفراد، هذا يسمى تحوّل في الخطاب من الجمع إلى المفرد. ذكر أولاً ما في السموات وما في الأرض على العموم فلما ذكر ما في السموات وما في الأرض على العموم خاطب على العموم فقال (ألم تروا) بالجمع ولما ذكر بعض ما فيهما خصص فقال (ألم تر أن الله). إذن لما عمم جمع ولما خصص أفرد، لما ذكر العموم خاطب الناس على العموم ولما ذكر قسماً منهم خاطب بالإفراد فناسب بين الإفراد والإفراد والعموم والعموم. (ألم تروا) الخطاب هنا لكل واحد يرى لكل مخاطَب يصلُح أن يُخاطَب مؤمناً كان أو كافراً، المؤمن يزيد إيمانه والكافر لعله يتفكّر.
*ما دلالة تقديم الليل على النهار في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ)؟
الليل أصلاً أسبق من النهار في الوجود لأنه قبل خلق الشمس كان كله ليل. قبل خلق الشمس كان ليلاً حتى المفسرون القدامى قالوا الليل هو الأصل بدليل قوله تعالى في سورة يس (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) يس) أي النهار هو كالغلاف، نسلخ يعني ننزع النهار فيصير ليل فإذا هم مظلمون. الأصل هو الليل والنهار هو غلاف ولو سلخنا النهار يصير ليلاً. (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُون (15) الحجر) إذا خرج أحد من الغلاف الأرضي لا يرى شيئاً وسيكون في ظلام دامس وهذا من الإعجاز العلمي، إذا صعد فوق الغلاف الجوي يصير ظلاماً دامساً ولا يبصر فالليل هو الأصل ولذلك قدم الليل. يولج يعني يدخل، في القرآن الكريم حيثما ورد الليل والنهار قدم الليل على النهار وكذلك تقديم الشمس على القمر، تقديم الليل لأسبقيته في الوجود. وكذلك القمر وجوده وقالوا القمر هو من الأرض أصلاً والأرض هي من الشمس (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (30) الأنبياء) رتقاً بمعنى ملتصقتين والفتق الإبعاد بينهما كما قال الشاعر: فهي بنت الشمس أُمُّ القمر. إذن هذا التقديم مقصود بحد ذاته داخل القرآن. إذا قال يولج الليل في النهار لا يُفهم منها أنه يولج النهار في الليل لأن النهار قد يقصر وقد يطول والليل أيضاً قد يقصر وقد يطول فهو يولج هذا في هذا ويولج هذا في هذا الليل يدخله في النهار والنهار يدخله في الليل وهذا حاصل في كل لحظة وفي كل وقت الليل يأخذ من النهار والنهار يأخذ من الليل. عندما يولج النهار في الليل يصبح الليل أطول وبالعكس لما يولج الليل في النهار يصير النهار أطول في الصيف النهار أطول لأنه يأخذ جزءاً من الليل وهذا من جملة ما ذُكِر. ليس هذا فقط وإنما هو في كل لحظة يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل لأن الأرض كروية ففي كل لحظة ينتقل الليل والنهار في بقاع الأرض مرة يكون ليلاً ومرة يكون نهاراً، التي كانت ليلاً أصبحت نهاراً والتي كانت نهاراً أصبحت ليلاً فهو في كل لحظة يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ومن هذا نفهم رب المشرق والمغرب، رب المشرقين ورب المغربين، رب المشارق والمغارب، (رب المشارق والمغارب) من جملة ما ذكر فيها أن مشارق الشمس تختلف على مدار السنة في كل يوم تشرق الشمس من مكان وتغرب في مكان آخر ومنها قالوا مشارق الكواكب وليس فقط الشمس فالشمس لها مشارق ولها مغارب في كل يوم بل في كل لحظة فيها مشرق ومغرب لأنها في كل لحظة تشرق في مكان وتغرب في مكان على مدار السنة إذن هي مشارق ومغارب للشمس في كل لحظة وعلى مدار السنة وكذلك الكواكب فيها مشارق ومغارب، المشرقين والمغربين في السنة الصيف والشتاء لأنه في السنة مرتين تأتي لنفس الموضع تشرق من نفس المكان وتغرب في نفس المكان والمشرق والمغرب على العموم.
*ما الفرق بين يولج الليل ويكور الليل؟
الله تعالى يولج ويكور والتكوير استدل به ابن حزم على كروية الأرض وليس فيهما إشكال وإنما هذا زيادة في الإعجاز.
*قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) يولج جاءت بالفعل المضارع ومع الشمس والقمر جاء بالماضي فما دلالة تغير الزمن؟
الفعل المضارع مع يولج لأنه يتجدد، الإيلاج يتجدد في كل لحظة والتسخير ربنا منذ خلقها سخّرها وليست هي كل لحظة مسخرة ابتداءً، بينما يولج في كل لحظة وفي كل يوم هو يولج فالمضارع يفيد التجدد والاستمرار أما سخرها فمنذ خلقها سخرها الله تعالى وهذا أنسب تعبير ولو قال يسخر الشمس والقمر لفهم أنه كل يوم يسخِّرها.
*قال تعالى (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ولم يقل سخر لكم كما جاء في آية قبلها (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20))؟
تلك في مقام تعداد النعم (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) أما هذه الآية ففي سياق إظهار الآيات (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ (31)) فلما كان السياق في تعداد النعم على الإنسان قال (سخر لكم) ولما كان الكلام لمطلق القدرة وليست لها علاقة بالنعم قال (سخر). لما يقول (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عامة وليست في باب تعداد النعم. قال (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى (29)) ذكر أن لهما أجلاً مسمى وهذا لا يناسب النعم لأن من تمام النعم الدوام بينما في الثانية ذكر انقطاع ولذلك للعلم حيثما قال (سخر الشمس والقمر) لم يقل إلى أجل مسمى في جميع القرآن مما يُفهم دوام النعمة لأنه لا يناسب الانقطاع مع دوام النعمة ولذلك لم يرد في القرآن سخر لكم مع أجل مسمى مطلقاً لأن فيها إشعار بالإنقطاع. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يحدد معها إلى أجل مسمى أما (سخر لكم) فلأنها في تعداد النعم لا يقول فيها أجل مسمى.
* (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) عدى الفعل بإلى مع أنه في مواطن أخرى عداه باللام (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى (13) فاطر)؟
القدامى لفت انتباههم هذا الأمر طريقة تعدية الفعل بإلى واللام. (إلى) تفيد الانتهاء، (اللام) قد تفيد الانتهاء وقد تكون للتعليل قد تكون للغرض لغرض الوصول وبيان العلّة. مثال: أدرس لأنجح هذه اللام لبيان العلة والسبب، تأتي اللام بمعنى الانتهاء والأصل أن دلالة (إلى) الانتهاء واللام قد تأتي للانتهاء وقد تأتي للملك والاختصاص و للتعليل. قال القدامى حيث ورد فيها التنبيه على الانتهاء والحشر يوم القيامة جاء بـ (إلى) وحيث كان الكلام على بداية الخلق يأتي باللام. قال (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) هذه الآية في لقمان وقال قبلها (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)) وبعدها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)) الكلام عن الحشر، بينما في فاطر (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13)) هذه بدايات الخلق، الكلام في بدايات الخلق فقال (لِأَجَلٍ مُّسَمًّى)، أما في آية لقمان يتكلم عن الآخرة فقال (إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى). عندما يذكر نهاية الخلق يكون أقرب، الأجل سينتهي إلى أجل مسمى، هو ذكر انتهاء الغاية وذكر الحشر هو انتهاء الغاية فعندما ذكر انتهاء الغاية من حياة الناس يذكر (إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) وعندما يذكر بداية الخلق وليس انتهاء الخلق، مع البداية يذكر اللام وعندما يذكر النهاية يذكر الانتهاء (إلى). (إلى) هي الأصل في معناها الأساسي، واللام للشبه والملك ولها كثير من المعاني
واللام للمِلْك وشبهه وفي تعدية أيضاً وتعليل قفى وزيد
حتى في فاطر (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)) هذا ليس في نهاية الخلق وبعدها (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى (13)) الكلام ليس في نهاية الخلق. عندما يذكر الانتهاء يذكر (إلى) وعندما بدايات الخلق لا يأتي بـ (إلى) وإنما يأتي بما يدل على الغرض والتعليل.
* ختمت الآية (وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فما دلالة تقديم العمل على الخبرة الإلهية؟
مر هذا السؤال معنا في سورة الحديد. هنالك قاعدة استنبطت مما ورد في القرآن الكريم: إذا كان السياق في عمل الإنسان قدم عمله (والله بما تعملون خبير) لو كان السياق في غير العمل أو كان في الأمور القلبية أو كان الكلام على الله سبحانه وتعالى قدّم صفة الله خبير (خبير بما تعملون). مثال: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) البقرة) هذا عمل، لما ذكر عمل الإنسان قدّم عمله (بما تعملون خبير)، (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد) هذا عمل، قتال وإنفاق ختمها (والله بما تعملون خبير) لما ذكر عمل الإنسان قدّم عمله. (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) البقرة) هذا عمل فقدّم (والله بما تعملون خبير). (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) التغابن) هذا عمل أيضاً. (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) النمل) هذا ليس عمل الإنسان فقدّم الخبرة على العمل وقال خبير بما تفعلون. أو لما يكون الأمر قلبياً غير ظاهر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) الحشر) فهذا على العموم أنه إذا كان الأمر في عمل الإنسان قدم العمل وإذا كان في غير عمل الإنسان أو في الأمور القلبية أو عن الكلام عن الله سبحانه وتعالى يقدم خبير. العرب كان تعي هذه المعاني والقواعد من حيث البلاغة، البليغ هو الذي يراعي، هذه أمور بلاغية فوق قصد الإفهام يتفنن في صوغ العبارة ومراعاة البلاغة. على سبيل المثال عندما تضيف إلى ياء المتكلم (هذا كتابي، أستاذي، قلمي) بدون نون، بالنسبة للفعل تقول أعطاني، أضاف نون الوقاية، عموم الكلمات نأتي بنون الوقاية مع الفعل مثل ضربني وظلمني أما مع الاسم فلا تأتي هذه قاعدة وعموم الناس يتكلمون بها دون أن يفطنوا إلى أن هذا اسم وهذا فعل، الناس يقولونها وهي قواعد أخذوها على السليقة. الناس يتفاوتون في البلاغة العرب كلهم كانوا يتكلمون كلاماً فصيحاً من حيث صحة الكلام ولذلك يؤخذ من كلام المجانين عندهم لأن المجانين يتكلمون بلغة قومهم ويستشهدون بأشعار المجانين لأن كلامهم يجري على نسق اللغة أما البلاغة فمتفاوتة ويقول (صلى الله عليه وسلم): أنا أفصح من نطق بالضاد. صحة الكلام كل واحد يتكلم على لغة قومه أما من ناحية البلاغة فهناك تفاوت. الله تعالى تحداهم في البلاغة وفي طريقة النظم والتعبير وتحداهم بأن يأتوا بسورة والسورة تشمل قصار السور مثل العصر والكوثر سورة، الإخلاص سورة قبل التشريع وهناك إعجاز كثير في القرآن في الإخبار عن المغيبات والمستقبل وعندما تحداهم الله تعالى تحداهم بسورة ليس فيها تشريع وليس فيها إخبار عن الغائب أو عن الماضي.
في الآية قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى (29) لقمان) ما هو هذا الأجل؟ يوم القيامة. وهذا موعد النظر في الأعمال فقد العمل لأنه موعد النظر في الأعمال فقدم عمل الإنسان على الخبير فمن كل ناحية ناسب تقديم عمل الإنسان (وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
سؤال: إذن السياق القرآني له خصوصية خاصة؟
لا بد من النظر في السياق قبل إعطاء الحكم.
آية (29):
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29))
فكرة عامة عن الآية وموقعها في السياق: الآية الكريمة وهي قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)) هو ذكر في السورة قبل هذا الموضع خلق السموات وذكر ما يتعلق بالأرض على العموم من إلقاء الرواسي وغيرها (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ (10)) فذكر خلق السموات والأرض على العموم وما ألقى في الأرض ثم ذكر تسخير ما فيها على العموم أيضاً (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20)) إذن ذكر الخلق وما أودع فيهما على العموم وذكر ما فيهما على العموم وهنا ذكر تسخير بعض ما فيهما هناك تسخير ما فيهما (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) على العموم وهنا ذكر تسخير بعض ما فيهما يعني قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) هذه بعض ما في السموات ليس الكل، هناك تسخير عام وهنا تسخير خاص، وبعدها قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ (31)) وهناك تسخير بعض ما في الأرض. هناك لما قال (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وهنا ذكر بعض ما في السموات ثم قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) هذا بعض ما في الأرض. إذن ذكر العموم في الخلق والتسخير ثم انتقل إلى الخصوص فذكر بعض ما فيهما وهو تسخير الليل والنهار والشمس والقمر من بعض ما في السماء وقال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) هذا بعض ما في الأرض. إذن ذكر العموم ثم انتقل إلى الخاص، هكذا المنهج الذي سار عليه في كيفية ترتيب الآيات.
*ما وجه ارتباط هذه الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) لقمان) بما قبلها وبأول السورة؟
هي ليست مرتبطة فقط بأول السورة وإنما مرتبطة بما قبلها ومرتبطة بأول السورة. قبلها قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) لقمان) إلى قبلها مباشرة قال (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)) ثم تأتي هذه الآية (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)). أولاً (ولئن سألتهم ) والليل والنهار والشمس والقمر أليس مما في الأرض؟ بلى. الأجل المسمى (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) وقبلها (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) متى سيكون البعث؟ في الأجل المسمى الذي ذكره فهي مرتبطة بما قبلها ارتباطاً واضحاً. يأتي ارتباطها بأول السورة (الم (1) تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)) وقال في هذه الآية التي نحن بصددها (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) هذا اليوم الذي يجازى فيه المحسنون ويحاسب فيه الكافرون، قال (وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أليس هذا في الآخرة؟ بلى، هذا أمر. ربنا ختم الآية (وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)) ذكر الأعمال في أول السورة قال (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ (4)) أليست هذه أعمال، هو خبير بما تعملون وهذه أعمال، فكأنما هذه الآية جاءت بعد أول السورة، فإذن المناسبة ظاهرة بما قبلها وبأول السورة.
سؤال: هل كلنا مطالبٌ بأن يُعمل عقله وفكره وما أوتي من ثقافة حتى يفهم آي القرآن الكريم بهذا الشكل؟
بقدر ما يريد وبقدر اختصاصه والمنهج الذي يبتغيه والأمر ليس فيه تكليف وإنما يجتهد.
* هنا قال ألم تر بالمفرد وقبلها قال ألم تروا بالجمع فلماذا؟
ننظر في السياق الذي يوضح لنا الإجابة. أولاً السياق في الآية الأولى بالجمع (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)) إذن الخطاب هو في الجمع فقال ألم تروا. هذا الآية في خطاب المفرد (وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) فقال ألم تر أن الفلك مفرد، السياق هناك في الجمع وهنا في سياق الإفراد، هذا يسمى تحوّل في الخطاب من الجمع إلى المفرد. ذكر أولاً ما في السموات وما في الأرض على العموم فلما ذكر ما في السموات وما في الأرض على العموم خاطب على العموم فقال (ألم تروا) بالجمع ولما ذكر بعض ما فيهما خصص فقال (ألم تر أن الله). إذن لما عمم جمع ولما خصص أفرد، لما ذكر العموم خاطب الناس على العموم ولما ذكر قسماً منهم خاطب بالإفراد فناسب بين الإفراد والإفراد والعموم والعموم. (ألم تروا) الخطاب هنا لكل واحد يرى لكل مخاطَب يصلُح أن يُخاطَب مؤمناً كان أو كافراً، المؤمن يزيد إيمانه والكافر لعله يتفكّر.
*ما دلالة تقديم الليل على النهار في قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ)؟
الليل أصلاً أسبق من النهار في الوجود لأنه قبل خلق الشمس كان كله ليل. قبل خلق الشمس كان ليلاً حتى المفسرون القدامى قالوا الليل هو الأصل بدليل قوله تعالى في سورة يس (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) يس) أي النهار هو كالغلاف، نسلخ يعني ننزع النهار فيصير ليل فإذا هم مظلمون. الأصل هو الليل والنهار هو غلاف ولو سلخنا النهار يصير ليلاً. (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُون (15) الحجر) إذا خرج أحد من الغلاف الأرضي لا يرى شيئاً وسيكون في ظلام دامس وهذا من الإعجاز العلمي، إذا صعد فوق الغلاف الجوي يصير ظلاماً دامساً ولا يبصر فالليل هو الأصل ولذلك قدم الليل. يولج يعني يدخل، في القرآن الكريم حيثما ورد الليل والنهار قدم الليل على النهار وكذلك تقديم الشمس على القمر، تقديم الليل لأسبقيته في الوجود. وكذلك القمر وجوده وقالوا القمر هو من الأرض أصلاً والأرض هي من الشمس (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (30) الأنبياء) رتقاً بمعنى ملتصقتين والفتق الإبعاد بينهما كما قال الشاعر: فهي بنت الشمس أُمُّ القمر. إذن هذا التقديم مقصود بحد ذاته داخل القرآن. إذا قال يولج الليل في النهار لا يُفهم منها أنه يولج النهار في الليل لأن النهار قد يقصر وقد يطول والليل أيضاً قد يقصر وقد يطول فهو يولج هذا في هذا ويولج هذا في هذا الليل يدخله في النهار والنهار يدخله في الليل وهذا حاصل في كل لحظة وفي كل وقت الليل يأخذ من النهار والنهار يأخذ من الليل. عندما يولج النهار في الليل يصبح الليل أطول وبالعكس لما يولج الليل في النهار يصير النهار أطول في الصيف النهار أطول لأنه يأخذ جزءاً من الليل وهذا من جملة ما ذُكِر. ليس هذا فقط وإنما هو في كل لحظة يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل لأن الأرض كروية ففي كل لحظة ينتقل الليل والنهار في بقاع الأرض مرة يكون ليلاً ومرة يكون نهاراً، التي كانت ليلاً أصبحت نهاراً والتي كانت نهاراً أصبحت ليلاً فهو في كل لحظة يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ومن هذا نفهم رب المشرق والمغرب، رب المشرقين ورب المغربين، رب المشارق والمغارب، (رب المشارق والمغارب) من جملة ما ذكر فيها أن مشارق الشمس تختلف على مدار السنة في كل يوم تشرق الشمس من مكان وتغرب في مكان آخر ومنها قالوا مشارق الكواكب وليس فقط الشمس فالشمس لها مشارق ولها مغارب في كل يوم بل في كل لحظة فيها مشرق ومغرب لأنها في كل لحظة تشرق في مكان وتغرب في مكان على مدار السنة إذن هي مشارق ومغارب للشمس في كل لحظة وعلى مدار السنة وكذلك الكواكب فيها مشارق ومغارب، المشرقين والمغربين في السنة الصيف والشتاء لأنه في السنة مرتين تأتي لنفس الموضع تشرق من نفس المكان وتغرب في نفس المكان والمشرق والمغرب على العموم.
*ما الفرق بين يولج الليل ويكور الليل؟
الله تعالى يولج ويكور والتكوير استدل به ابن حزم على كروية الأرض وليس فيهما إشكال وإنما هذا زيادة في الإعجاز.
*قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) يولج جاءت بالفعل المضارع ومع الشمس والقمر جاء بالماضي فما دلالة تغير الزمن؟
الفعل المضارع مع يولج لأنه يتجدد، الإيلاج يتجدد في كل لحظة والتسخير ربنا منذ خلقها سخّرها وليست هي كل لحظة مسخرة ابتداءً، بينما يولج في كل لحظة وفي كل يوم هو يولج فالمضارع يفيد التجدد والاستمرار أما سخرها فمنذ خلقها سخرها الله تعالى وهذا أنسب تعبير ولو قال يسخر الشمس والقمر لفهم أنه كل يوم يسخِّرها.
*قال تعالى (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ولم يقل سخر لكم كما جاء في آية قبلها (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20))؟
تلك في مقام تعداد النعم (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) أما هذه الآية ففي سياق إظهار الآيات (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ (31)) فلما كان السياق في تعداد النعم على الإنسان قال (سخر لكم) ولما كان الكلام لمطلق القدرة وليست لها علاقة بالنعم قال (سخر). لما يقول (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عامة وليست في باب تعداد النعم. قال (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى (29)) ذكر أن لهما أجلاً مسمى وهذا لا يناسب النعم لأن من تمام النعم الدوام بينما في الثانية ذكر انقطاع ولذلك للعلم حيثما قال (سخر الشمس والقمر) لم يقل إلى أجل مسمى في جميع القرآن مما يُفهم دوام النعمة لأنه لا يناسب الانقطاع مع دوام النعمة ولذلك لم يرد في القرآن سخر لكم مع أجل مسمى مطلقاً لأن فيها إشعار بالإنقطاع. (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) يحدد معها إلى أجل مسمى أما (سخر لكم) فلأنها في تعداد النعم لا يقول فيها أجل مسمى.
* (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) عدى الفعل بإلى مع أنه في مواطن أخرى عداه باللام (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى (13) فاطر)؟
القدامى لفت انتباههم هذا الأمر طريقة تعدية الفعل بإلى واللام. (إلى) تفيد الانتهاء، (اللام) قد تفيد الانتهاء وقد تكون للتعليل قد تكون للغرض لغرض الوصول وبيان العلّة. مثال: أدرس لأنجح هذه اللام لبيان العلة والسبب، تأتي اللام بمعنى الانتهاء والأصل أن دلالة (إلى) الانتهاء واللام قد تأتي للانتهاء وقد تأتي للملك والاختصاص و للتعليل. قال القدامى حيث ورد فيها التنبيه على الانتهاء والحشر يوم القيامة جاء بـ (إلى) وحيث كان الكلام على بداية الخلق يأتي باللام. قال (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) هذه الآية في لقمان وقال قبلها (مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)) وبعدها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)) الكلام عن الحشر، بينما في فاطر (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13)) هذه بدايات الخلق، الكلام في بدايات الخلق فقال (لِأَجَلٍ مُّسَمًّى)، أما في آية لقمان يتكلم عن الآخرة فقال (إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى). عندما يذكر نهاية الخلق يكون أقرب، الأجل سينتهي إلى أجل مسمى، هو ذكر انتهاء الغاية وذكر الحشر هو انتهاء الغاية فعندما ذكر انتهاء الغاية من حياة الناس يذكر (إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) وعندما يذكر بداية الخلق وليس انتهاء الخلق، مع البداية يذكر اللام وعندما يذكر النهاية يذكر الانتهاء (إلى). (إلى) هي الأصل في معناها الأساسي، واللام للشبه والملك ولها كثير من المعاني
واللام للمِلْك وشبهه وفي تعدية أيضاً وتعليل قفى وزيد
حتى في فاطر (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)) هذا ليس في نهاية الخلق وبعدها (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى (13)) الكلام ليس في نهاية الخلق. عندما يذكر الانتهاء يذكر (إلى) وعندما بدايات الخلق لا يأتي بـ (إلى) وإنما يأتي بما يدل على الغرض والتعليل.
* ختمت الآية (وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فما دلالة تقديم العمل على الخبرة الإلهية؟
مر هذا السؤال معنا في سورة الحديد. هنالك قاعدة استنبطت مما ورد في القرآن الكريم: إذا كان السياق في عمل الإنسان قدم عمله (والله بما تعملون خبير) لو كان السياق في غير العمل أو كان في الأمور القلبية أو كان الكلام على الله سبحانه وتعالى قدّم صفة الله خبير (خبير بما تعملون). مثال: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) البقرة) هذا عمل، لما ذكر عمل الإنسان قدّم عمله (بما تعملون خبير)، (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) الحديد) هذا عمل، قتال وإنفاق ختمها (والله بما تعملون خبير) لما ذكر عمل الإنسان قدّم عمله. (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) البقرة) هذا عمل فقدّم (والله بما تعملون خبير). (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) التغابن) هذا عمل أيضاً. (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) النمل) هذا ليس عمل الإنسان فقدّم الخبرة على العمل وقال خبير بما تفعلون. أو لما يكون الأمر قلبياً غير ظاهر (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) الحشر) فهذا على العموم أنه إذا كان الأمر في عمل الإنسان قدم العمل وإذا كان في غير عمل الإنسان أو في الأمور القلبية أو عن الكلام عن الله سبحانه وتعالى يقدم خبير. العرب كان تعي هذه المعاني والقواعد من حيث البلاغة، البليغ هو الذي يراعي، هذه أمور بلاغية فوق قصد الإفهام يتفنن في صوغ العبارة ومراعاة البلاغة. على سبيل المثال عندما تضيف إلى ياء المتكلم (هذا كتابي، أستاذي، قلمي) بدون نون، بالنسبة للفعل تقول أعطاني، أضاف نون الوقاية، عموم الكلمات نأتي بنون الوقاية مع الفعل مثل ضربني وظلمني أما مع الاسم فلا تأتي هذه قاعدة وعموم الناس يتكلمون بها دون أن يفطنوا إلى أن هذا اسم وهذا فعل، الناس يقولونها وهي قواعد أخذوها على السليقة. الناس يتفاوتون في البلاغة العرب كلهم كانوا يتكلمون كلاماً فصيحاً من حيث صحة الكلام ولذلك يؤخذ من كلام المجانين عندهم لأن المجانين يتكلمون بلغة قومهم ويستشهدون بأشعار المجانين لأن كلامهم يجري على نسق اللغة أما البلاغة فمتفاوتة ويقول (صلى الله عليه وسلم): أنا أفصح من نطق بالضاد. صحة الكلام كل واحد يتكلم على لغة قومه أما من ناحية البلاغة فهناك تفاوت. الله تعالى تحداهم في البلاغة وفي طريقة النظم والتعبير وتحداهم بأن يأتوا بسورة والسورة تشمل قصار السور مثل العصر والكوثر سورة، الإخلاص سورة قبل التشريع وهناك إعجاز كثير في القرآن في الإخبار عن المغيبات والمستقبل وعندما تحداهم الله تعالى تحداهم بسورة ليس فيها تشريع وليس فيها إخبار عن الغائب أو عن الماضي.
في الآية قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى (29) لقمان) ما هو هذا الأجل؟ يوم القيامة. وهذا موعد النظر في الأعمال فقد العمل لأنه موعد النظر في الأعمال فقدم عمل الإنسان على الخبير فمن كل ناحية ناسب تقديم عمل الإنسان (وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
سؤال: إذن السياق القرآني له خصوصية خاصة؟
لا بد من النظر في السياق قبل إعطاء الحكم.
آية (30):
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30))
فكرة عامة عن الآية: ذكر أمور إيلاج الليل في النهار وصفات ربنا تعالى وما ذكر من إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر وما إلى ذلك هذا كله سبب أن الله هو الحق الموجد الأول الذي أوجد هذا الكون. (ذلك) تعود على ما ذكر سابقاً، كيف حصلت؟ لأن الله الموجد الأول هو الذي فعّل ذلك هو الحق، وما يدعون من دونه الباطل لأنه لا يمكن أن تصنع مثل ذلك وما أمر به ونهى عنه هو الحق لأن ربنا لما كان هو الحق المبين فما فعله هو الحق ليس الباطل وما أمر به هو الحق وكل أوامره ونواهيه لازمة بسبب أنه الحق، فهو الحق تعليل لكل أفعاله وصفاته وتعليل للزوم طاعته سبحانه لأنه الحق والإنسان ينبغي أن يطيع ما هو حق والله هو الحق أوامره هي الحق ينبغي أن يُطاع، صفاته هي الحق ينبغي أن يُعبَد، الله هو الحق ينبغي أن يُعبد. اختيار كلمة الحق تحديداً كل هذا التسخير معناه أن الله هو الحقيقة الوحيدة الموجودة في الكون المستحقة للعبادة وليس ما يدعون من دونه أصنام وتماثيل التي هي الباطل بعينه والله هو الحق وحده وليس هناك حق بمنزلة هذا الحق، الباقي حق بما خلقه ربنا الجنة حق والنار حق كون ربنا خلقها وأوجدها وهو الحق فهي حق.
* كيف نفهم تعريف الحق والباطل في الآية؟
فرق بين أن تقول هو حق فيكون من جملة ما هو حق أنت قلت هذا تلفاز فهو حق وهذا وهذا قدح وهو حق، هو حق لكن ليس هو الحق، الحق الأول الموجب لجميع الأشياء والذي أفاض على كل الأشياء الموجودة بالوجود، هي حق لأن الحق الأول أوجدها والأرض حق والسموات حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق وهذه مخلوقات لله تعالى وهي حق لأن الحق الأول هو الذي أوجدها لو لم يكن الحق الأول موجود لما وُجِد شيء ولهذا تفرّد سبحانه وتعالى بالحق بالتعريف أنه هو الحق المطلق الواحد بهذا المعنى لا يتعداه. وأن ما يدعون من دونه من آلهة هو الباطل. الباطل بالتنكير على العموم والشمول لأنها بمقابل الحق سبحانه وتعالى ليست أن تقول هذه شجرة، هذا حيوان وهذا باطل، ليست بمنزلتها ولكن هذا جعل لله نداً وهو أعلى من منزلة الله (يدعون من دونه) هذا أكبر من الشرك فالشرك أن تجعل لله نداً كفار قريش مشركين لكن قالوا (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أما هؤلاء يعبدون من دونه يعني جعلوا الله تعالى جانباً (من دونه لا تعني أقل منه، من دونه غير ممن هو دونه) هم لا يعبدون الله أصلاً يعبدون من دونه أي ينحّون الله جانباً جعلوه بإزاء الله سبحانه وتعالى هذا هو الباطل بعينه ولو قال باطل لكان من جملة ما هو باطن فأراد تعالى أن يفخم فعلتهم هذه فقال الباطل العبادة أعلى شيء لأنها الغاية من خلق المكلّفين (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات). يدعون من دونه ويعبدون من دونه فهذه ليست مسألة جزئية، هذه مراعاة حالة محددة عند أناس كفروا بالله تعالى.
(وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ) قال ما يدعون ولم يقل من يدعون إظهاراً لجهلهم وسوء م*في هذه الآية قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ) في آية الحج قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)) بضمير الفصل (هو) فلماذا هذا الفرق؟
لا شك أن هو الباطل أقوى لأن ضمير الفصل يفيد التوكيد الحصر والسياق يوضح سبب اختيار كل تعبير. في سورة الحج الصراع مع أهل الباطل، أهل الباطل متمكنون يشردون المؤمنين ويقتلونهم (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)) ثم قال (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)) إذن أصحاب الباطل يقتلون المؤمنين ويجبرونهم على ترك ديارهم ويهاجرون في سبيل الله إذن هم متمكنون ولا تجد مثل هذا في لقمان، فلما كانوا كذلك بهذه القوة وهذا التسلط فأكد الله تعالى بطلانهم (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) لا يغرنكم ما ترونه من تسلطهم وقوتهم فإذن هذا هو الباطل بعينه بإزاء قوة الله تعالى. في لقمان ليس فيها هذا الشيء، قال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) كلها فيها أخذ ورد وسؤال وجواب ليس فيها صورة الباطل المتمكن الذي يعاند المعاجز المعاند الذي يقتل المؤمنين ويضطرهم إلى الهجرة فاحتاج الأمر إلى زيادة تثبيت للمؤمنين وعدم افتتانهم بسلطة أصحاب الباطل ولا شك أن للسلطان فتنة ورهبة فاقتضى السياق أن هؤلاء عليه هو الباطل وتوكيد ذلك هذا أمر وهو الأمر الأول وهو أن أصحاب الباطل في آية الحج هم متمكنون متسلطون معاجزون معاندون يفتنون المؤمنين إذن احتاج إلى تثبيت المؤمنين في هذه الناحية فأكد أن ما عليه هؤلاء هو الباطل. هذا أمر وسبب آخر أنه تقدم في سورة الحج ذكر ما يدعون من دون الله من المعبودات الباطلة (يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ {71}) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)) الكلام على المعبودات الباطلة جاري في آية الحج فأكد أن هؤلاء هو الباطل وليس ذلك في لقمان. فهنالك أمران دعيا إلى التأكيد في سورة الحج أولاً قوة وتسلط أصحاب الباطل في سياق آية الحج وذكر معبوداتهم التي يعبدونها فذكر أنهم على باطل وأن معبوداتهم باطلة لا تنفع شيئاً فأكد هذا الأمر وليس في لقمان هذا السياق فلم يقتضي هذا الأمر. إذن آي القرآن الكريم تغطي كل حالة بقدرها وكل تعبير مناسب لما ورد فيه. مع أن الآيتان تبدوان متشابهتان إلا في ضمير الفصل الذي اقتضاه السياق من أكثر من جهة السياق اقتضى تأكيد أن أهل الباطل ما يدعون من دونه هو الباطل لأنه ذكر عدة مرات ما يدعون من دون الله ولم يذكر هذا الأمر في لقمان وذكر تمكن أصحاب الباطل وقوتهم. لو قال في الحج وأن ما يدعون الباطل الآية صحيحة لكن بلاغة التعبير تكون أقل والبلاغة توزن بالميزان الدقيق لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ومقتضى الحال في كل آية مختلف.
والأمر الآخر أن الضمير (هو) من الناحية اللفظية في سمة التعبير ورد في سورة الحج 13 مرة وفي لقمان ورد 7 مرات فقط لأن السمة التعبيرية في السياق لها أثرها أيضاً فكأنما ورد في سورة الحج ضعف ما ورد في سورة لقمان. وضمير الفصل أصلاً ذكر في الحج 8 مرات وفي لقمان 3 مرات. إذن فمن كل النواحي السمة التعبيرية أو البلاغية أو غيرها ذكر (هو) في آية سورة الحج أكثر مما يقتضيه في سورة لقمان.
* ختمت الآية (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)) ماذا عن هذه الفاصلة؟
جاء بضمير الفصل في الآيتين وعرف العلي الكبير، والعلي هو القاهر الذي ليس فوقه شيء (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) الأنعام) والكبير السلطان العظيم الشأن. إذن بعد أن وصف ربنا تعالى نفسه بأنه هو الحق ووصف ما يدعون من دونه الباطل ذكر أن هذا الحق هو عالي على وجه الثبوت والدوام والحق هو العالي دائماً والباطل هو سافل مهين، الحق هو العالي فالحق هو العالي الذي يزهق الباطل وهو العالي على وجه الدوام والثبوت وظاهر وهو القاهر والباطل هو سافل مهين يزهقه الحق فالحق كبير والباطل صغير صغراً وصغاراً صغير في الحجم وصغار في الحقيقة (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ (124) الأنعام) الصغار بمعنى الذلة مهما انتفش ومهما انتفخ فهو صغير وذليل.
* ألا توحي كلمة (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أنه العلي الكبير؟ وكلمة العلي ألا توحي بأنه كبير؟
الحق أحياناً يأتي في موطن الموت مثلاً (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) فصلت). الآية الكريمة أرادت أن تعلي الله تعالى وتضعه في مكانه اللائق بجلاله وعزيم سلطانه في مثل هذا السياق. (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ (39) النار) هنا الله هو الحق لكن غير هذا الحق، غير سياق. إذن حتى تعدد صفات الله وأسمائه كل اسم يضيف دلالة جديدة حسب السياق الذي يرد فيه.
آية (30):
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30))
فكرة عامة عن الآية: ذكر أمور إيلاج الليل في النهار وصفات ربنا تعالى وما ذكر من إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر وما إلى ذلك هذا كله سبب أن الله هو الحق الموجد الأول الذي أوجد هذا الكون. (ذلك) تعود على ما ذكر سابقاً، كيف حصلت؟ لأن الله الموجد الأول هو الذي فعّل ذلك هو الحق، وما يدعون من دونه الباطل لأنه لا يمكن أن تصنع مثل ذلك وما أمر به ونهى عنه هو الحق لأن ربنا لما كان هو الحق المبين فما فعله هو الحق ليس الباطل وما أمر به هو الحق وكل أوامره ونواهيه لازمة بسبب أنه الحق، فهو الحق تعليل لكل أفعاله وصفاته وتعليل للزوم طاعته سبحانه لأنه الحق والإنسان ينبغي أن يطيع ما هو حق والله هو الحق أوامره هي الحق ينبغي أن يُطاع، صفاته هي الحق ينبغي أن يُعبَد، الله هو الحق ينبغي أن يُعبد. اختيار كلمة الحق تحديداً كل هذا التسخير معناه أن الله هو الحقيقة الوحيدة الموجودة في الكون المستحقة للعبادة وليس ما يدعون من دونه أصنام وتماثيل التي هي الباطل بعينه والله هو الحق وحده وليس هناك حق بمنزلة هذا الحق، الباقي حق بما خلقه ربنا الجنة حق والنار حق كون ربنا خلقها وأوجدها وهو الحق فهي حق.
* كيف نفهم تعريف الحق والباطل في الآية؟
فرق بين أن تقول هو حق فيكون من جملة ما هو حق أنت قلت هذا تلفاز فهو حق وهذا وهذا قدح وهو حق، هو حق لكن ليس هو الحق، الحق الأول الموجب لجميع الأشياء والذي أفاض على كل الأشياء الموجودة بالوجود، هي حق لأن الحق الأول أوجدها والأرض حق والسموات حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق وهذه مخلوقات لله تعالى وهي حق لأن الحق الأول هو الذي أوجدها لو لم يكن الحق الأول موجود لما وُجِد شيء ولهذا تفرّد سبحانه وتعالى بالحق بالتعريف أنه هو الحق المطلق الواحد بهذا المعنى لا يتعداه. وأن ما يدعون من دونه من آلهة هو الباطل. الباطل بالتنكير على العموم والشمول لأنها بمقابل الحق سبحانه وتعالى ليست أن تقول هذه شجرة، هذا حيوان وهذا باطل، ليست بمنزلتها ولكن هذا جعل لله نداً وهو أعلى من منزلة الله (يدعون من دونه) هذا أكبر من الشرك فالشرك أن تجعل لله نداً كفار قريش مشركين لكن قالوا (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) أما هؤلاء يعبدون من دونه يعني جعلوا الله تعالى جانباً (من دونه لا تعني أقل منه، من دونه غير ممن هو دونه) هم لا يعبدون الله أصلاً يعبدون من دونه أي ينحّون الله جانباً جعلوه بإزاء الله سبحانه وتعالى هذا هو الباطل بعينه ولو قال باطل لكان من جملة ما هو باطن فأراد تعالى أن يفخم فعلتهم هذه فقال الباطل العبادة أعلى شيء لأنها الغاية من خلق المكلّفين (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات). يدعون من دونه ويعبدون من دونه فهذه ليست مسألة جزئية، هذه مراعاة حالة محددة عند أناس كفروا بالله تعالى.
(وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ) قال ما يدعون ولم يقل من يدعون إظهاراً لجهلهم وسوء م*في هذه الآية قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ) في آية الحج قال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)) بضمير الفصل (هو) فلماذا هذا الفرق؟
لا شك أن هو الباطل أقوى لأن ضمير الفصل يفيد التوكيد الحصر والسياق يوضح سبب اختيار كل تعبير. في سورة الحج الصراع مع أهل الباطل، أهل الباطل متمكنون يشردون المؤمنين ويقتلونهم (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)) ثم قال (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)) إذن أصحاب الباطل يقتلون المؤمنين ويجبرونهم على ترك ديارهم ويهاجرون في سبيل الله إذن هم متمكنون ولا تجد مثل هذا في لقمان، فلما كانوا كذلك بهذه القوة وهذا التسلط فأكد الله تعالى بطلانهم (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) لا يغرنكم ما ترونه من تسلطهم وقوتهم فإذن هذا هو الباطل بعينه بإزاء قوة الله تعالى. في لقمان ليس فيها هذا الشيء، قال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)) كلها فيها أخذ ورد وسؤال وجواب ليس فيها صورة الباطل المتمكن الذي يعاند المعاجز المعاند الذي يقتل المؤمنين ويضطرهم إلى الهجرة فاحتاج الأمر إلى زيادة تثبيت للمؤمنين وعدم افتتانهم بسلطة أصحاب الباطل ولا شك أن للسلطان فتنة ورهبة فاقتضى السياق أن هؤلاء عليه هو الباطل وتوكيد ذلك هذا أمر وهو الأمر الأول وهو أن أصحاب الباطل في آية الحج هم متمكنون متسلطون معاجزون معاندون يفتنون المؤمنين إذن احتاج إلى تثبيت المؤمنين في هذه الناحية فأكد أن ما عليه هؤلاء هو الباطل. هذا أمر وسبب آخر أنه تقدم في سورة الحج ذكر ما يدعون من دون الله من المعبودات الباطلة (يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ {71}) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)) الكلام على المعبودات الباطلة جاري في آية الحج فأكد أن هؤلاء هو الباطل وليس ذلك في لقمان. فهنالك أمران دعيا إلى التأكيد في سورة الحج أولاً قوة وتسلط أصحاب الباطل في سياق آية الحج وذكر معبوداتهم التي يعبدونها فذكر أنهم على باطل وأن معبوداتهم باطلة لا تنفع شيئاً فأكد هذا الأمر وليس في لقمان هذا السياق فلم يقتضي هذا الأمر. إذن آي القرآن الكريم تغطي كل حالة بقدرها وكل تعبير مناسب لما ورد فيه. مع أن الآيتان تبدوان متشابهتان إلا في ضمير الفصل الذي اقتضاه السياق من أكثر من جهة السياق اقتضى تأكيد أن أهل الباطل ما يدعون من دونه هو الباطل لأنه ذكر عدة مرات ما يدعون من دون الله ولم يذكر هذا الأمر في لقمان وذكر تمكن أصحاب الباطل وقوتهم. لو قال في الحج وأن ما يدعون الباطل الآية صحيحة لكن بلاغة التعبير تكون أقل والبلاغة توزن بالميزان الدقيق لأن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال ومقتضى الحال في كل آية مختلف.
والأمر الآخر أن الضمير (هو) من الناحية اللفظية في سمة التعبير ورد في سورة الحج 13 مرة وفي لقمان ورد 7 مرات فقط لأن السمة التعبيرية في السياق لها أثرها أيضاً فكأنما ورد في سورة الحج ضعف ما ورد في سورة لقمان. وضمير الفصل أصلاً ذكر في الحج 8 مرات وفي لقمان 3 مرات. إذن فمن كل النواحي السمة التعبيرية أو البلاغية أو غيرها ذكر (هو) في آية سورة الحج أكثر مما يقتضيه في سورة لقمان.
* ختمت الآية (وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)) ماذا عن هذه الفاصلة؟
جاء بضمير الفصل في الآيتين وعرف العلي الكبير، والعلي هو القاهر الذي ليس فوقه شيء (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) الأنعام) والكبير السلطان العظيم الشأن. إذن بعد أن وصف ربنا تعالى نفسه بأنه هو الحق ووصف ما يدعون من دونه الباطل ذكر أن هذا الحق هو عالي على وجه الثبوت والدوام والحق هو العالي دائماً والباطل هو سافل مهين، الحق هو العالي فالحق هو العالي الذي يزهق الباطل وهو العالي على وجه الدوام والثبوت وظاهر وهو القاهر والباطل هو سافل مهين يزهقه الحق فالحق كبير والباطل صغير صغراً وصغاراً صغير في الحجم وصغار في الحقيقة (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ (124) الأنعام) الصغار بمعنى الذلة مهما انتفش ومهما انتفخ فهو صغير وذليل.
* ألا توحي كلمة (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ) أنه العلي الكبير؟ وكلمة العلي ألا توحي بأنه كبير؟
الحق أحياناً يأتي في موطن الموت مثلاً (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ (53) فصلت). الآية الكريمة أرادت أن تعلي الله تعالى وتضعه في مكانه اللائق بجلاله وعزيم سلطانه في مثل هذا السياق. (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ (39) النار) هنا الله هو الحق لكن غير هذا الحق، غير سياق. إذن حتى تعدد صفات الله وأسمائه كل اسم يضيف دلالة جديدة حسب السياق الذي يرد فيه.
آية (31):
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31))
فكرة عامة عن الآية: ربنا تعالى أول مرة ذكر خلق السموات على العموم وما فيها وذكر تسخير السموات والأرض على العموم ثم ذكر بعض ما فيهما فذكر في الآية السابقة تسخير الشمس والقمر (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ (29) لقمان) هذه من آيات السماء وهنا في الآية ذكر تسخير بعض ما في الأرض لأنه قبلهما قال (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20)) إجمالاً ثم ذكر بعض ما في السماء والآن يذكر قسماً مما في الأرض ما سخره ربنا قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ (31)) فذكر هناك جريان الشمس والقمر وذكر هنا جريان الفلك، هناك (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى (29)) وهنا (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) وهنا ذكر بعض آيات الأرض وهو الفلك التي سخرها لنا ربنا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) وذكر الشمس والقمر. هنا قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) ما المقصود بنعمة الله؟ هنا فيها احتمالان: يعني تجري بسبب نعمة الله هو الذي سخرها فتسخيرها من نعم الله يعني جريانها نعمة من الله، والباء هنا سبب يعني تجري بسبب نعمة الله، والاحتمال الثاني تجري بنعمة الله بما تحمله من البضائع مما أنعم الله به على الإنسان، البضائع من نعم الله (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ (42) هود) تجري بهم أي تحملهم. فإذن تجري بنعمة الله فيها احتمالان بسبب الله وجريانها نعمة من نعم الله لو لم يسخرها لم تجري، سخرها وسخر البحر (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ (32) إبراهيم) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ (12) الجاثية) هذا أمر والاحتمال الثاني تجري بما تحمله من النعم، من البضائع وهي كلها من نعمة الله. الأمران مقصودان في الآية وهذا من باب التوسع في المعنى والمعنيين مرادان أنها تجري بنعمة الله أي بسبب نعمة الله سخرها ولولا نعمة الله لم تجري. في قصة نوح حدد دلالة واحدة للجريان بمعنى تحملهم (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ).
*ما دلالة اقتران صبار مع شكور في الآية؟
قبلها قال (لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ (31)) ما هذه الآيات التي يرنا إياها الله تعالى في البحر؟ منها آيات في التسخير ومنها آيات في أسرار البحار التي يطلع عليها الناس وما فيها من العجائب ومنها آيات في ضعف الإنسان إذا ركب البحر وعجزه (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) الإسراء) الإنسان وخوفه وهذه كلها آيات كيف يعتري الخوف راطب البحر ويتبين ضعف الإنسان وعجزه أمام هذا المخلوق الكبير، وآيات في قدرة الله إذا شاء ينجي وإذا شاء يغرق. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) صبار على طاعة الله وعلى الشدائد، صبّار (على وزن فعال) من صبر على وزن فعال من صيغ المبالغة إما صبار على طاعة الله أو على ما يصيبه من الشدائد. والشكور على ما أفاض به عليه من النعم، وشكور على وزن فعول كثير الشكر. الصبر عام قد يكون صبر عن المعصية أو صبر على الطاعة أو صبر على الشدة فالطاعات تحتاج إلى صبر مثل الصلاة والصوم (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132) طه) والصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان، الطاعات تحتاج إلى صبر والشدائد تحتاج إلى صبر والله تعالى يطلب منا أن نشكر على النعم (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) الروم) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) الجاثية) (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) سبأ) وقد يكون الشكر على النجاة وقال تعالى على لسان الناجين من البحر (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) الأنعام) والنجاة أيضاً نعمة.
هل يقترن الصبار مع الشكور دائماً؟ الصبار لم يرد في القرآن كله إلا مع الشكور بينما الشكور قد تأتي منفردة (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) الإسراء) (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) فاطر) الشكور تأتي منفردة وغير منفردة أما الصبار فلم تأتي في جميع القرآن وحدها وإنما مقترنة بالشكور. لماذا اقترن الصبار بالشكور في هذه الآية طالما أن الشكر ينفرد؟ لما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) هذا اقتضى شكر بعدها مباشرة (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)) هذا اختبار الصبر، ذكر اختبار الصبر وليس الشكر إذن لما ذكر أمرين ذكر النعم وذكر التهديد (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قرن الصبر بالشكر وجاء بالوصفين على صيغة مبالغة لأن الإنسان يحتاج الصبر على وجه الدوام ويحتاج الشكر على وجه الدوام. هناك ملاحظة عامة في القرآن إذا ذكر تهديداً في البحر أو خوفاً فيه قرن الصبر والشكر وإن لم يذكر التهديد والتخويف ذكر الشكر وحده. قال تعالى في سورة لقمان (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)) ذكر الصبر والشكر، في سورة الشورى (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34)) اي يهلكهم، هذا تهديد يهلكهم ويهلك من فيها. ذكر أمرين لما هددهم ذكر الصبر والشكر. إذا لم يذكر التهديد يذكر الشكر وحده (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) النحل) لم يذكر صبّار لأن الآية كلها نعم، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) الروم) كلها نعم، (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) فاطر) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) الجاثية) إذا لم يذكر تهديداً ذكر الشكر وحده وإذا ذكر التهديد قرن صبّار مع شكور في جميع القرآن وقدّم صبار على شكور.
*من المخاطب في الآية (ألم تر)؟
كل من يصح خطابه من المكلّفين. بدأ الخطاب بالمفرد (ألم تر) ثم جاء بالجمع (لنريكم) هذه عامة ولم يخص النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخطاب.
آية (31):
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31))
فكرة عامة عن الآية: ربنا تعالى أول مرة ذكر خلق السموات على العموم وما فيها وذكر تسخير السموات والأرض على العموم ثم ذكر بعض ما فيهما فذكر في الآية السابقة تسخير الشمس والقمر (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ (29) لقمان) هذه من آيات السماء وهنا في الآية ذكر تسخير بعض ما في الأرض لأنه قبلهما قال (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ (20)) إجمالاً ثم ذكر بعض ما في السماء والآن يذكر قسماً مما في الأرض ما سخره ربنا قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ (31)) فذكر هناك جريان الشمس والقمر وذكر هنا جريان الفلك، هناك (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى (29)) وهنا (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى) وهنا ذكر بعض آيات الأرض وهو الفلك التي سخرها لنا ربنا (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) وذكر الشمس والقمر. هنا قال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) ما المقصود بنعمة الله؟ هنا فيها احتمالان: يعني تجري بسبب نعمة الله هو الذي سخرها فتسخيرها من نعم الله يعني جريانها نعمة من الله، والباء هنا سبب يعني تجري بسبب نعمة الله، والاحتمال الثاني تجري بنعمة الله بما تحمله من البضائع مما أنعم الله به على الإنسان، البضائع من نعم الله (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ (42) هود) تجري بهم أي تحملهم. فإذن تجري بنعمة الله فيها احتمالان بسبب الله وجريانها نعمة من نعم الله لو لم يسخرها لم تجري، سخرها وسخر البحر (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ (32) إبراهيم) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ (12) الجاثية) هذا أمر والاحتمال الثاني تجري بما تحمله من النعم، من البضائع وهي كلها من نعمة الله. الأمران مقصودان في الآية وهذا من باب التوسع في المعنى والمعنيين مرادان أنها تجري بنعمة الله أي بسبب نعمة الله سخرها ولولا نعمة الله لم تجري. في قصة نوح حدد دلالة واحدة للجريان بمعنى تحملهم (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ).
*ما دلالة اقتران صبار مع شكور في الآية؟
قبلها قال (لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ (31)) ما هذه الآيات التي يرنا إياها الله تعالى في البحر؟ منها آيات في التسخير ومنها آيات في أسرار البحار التي يطلع عليها الناس وما فيها من العجائب ومنها آيات في ضعف الإنسان إذا ركب البحر وعجزه (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) الإسراء) الإنسان وخوفه وهذه كلها آيات كيف يعتري الخوف راطب البحر ويتبين ضعف الإنسان وعجزه أمام هذا المخلوق الكبير، وآيات في قدرة الله إذا شاء ينجي وإذا شاء يغرق. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) صبار على طاعة الله وعلى الشدائد، صبّار (على وزن فعال) من صبر على وزن فعال من صيغ المبالغة إما صبار على طاعة الله أو على ما يصيبه من الشدائد. والشكور على ما أفاض به عليه من النعم، وشكور على وزن فعول كثير الشكر. الصبر عام قد يكون صبر عن المعصية أو صبر على الطاعة أو صبر على الشدة فالطاعات تحتاج إلى صبر مثل الصلاة والصوم (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132) طه) والصوم نصف الصبر والصبر نصف الإيمان، الطاعات تحتاج إلى صبر والشدائد تحتاج إلى صبر والله تعالى يطلب منا أن نشكر على النعم (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) الروم) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) الجاثية) (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) سبأ) وقد يكون الشكر على النجاة وقال تعالى على لسان الناجين من البحر (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) الأنعام) والنجاة أيضاً نعمة.
هل يقترن الصبار مع الشكور دائماً؟ الصبار لم يرد في القرآن كله إلا مع الشكور بينما الشكور قد تأتي منفردة (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) الإسراء) (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) فاطر) الشكور تأتي منفردة وغير منفردة أما الصبار فلم تأتي في جميع القرآن وحدها وإنما مقترنة بالشكور. لماذا اقترن الصبار بالشكور في هذه الآية طالما أن الشكر ينفرد؟ لما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ) هذا اقتضى شكر بعدها مباشرة (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)) هذا اختبار الصبر، ذكر اختبار الصبر وليس الشكر إذن لما ذكر أمرين ذكر النعم وذكر التهديد (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) قرن الصبر بالشكر وجاء بالوصفين على صيغة مبالغة لأن الإنسان يحتاج الصبر على وجه الدوام ويحتاج الشكر على وجه الدوام. هناك ملاحظة عامة في القرآن إذا ذكر تهديداً في البحر أو خوفاً فيه قرن الصبر والشكر وإن لم يذكر التهديد والتخويف ذكر الشكر وحده. قال تعالى في سورة لقمان (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)) ذكر الصبر والشكر، في سورة الشورى (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34)) اي يهلكهم، هذا تهديد يهلكهم ويهلك من فيها. ذكر أمرين لما هددهم ذكر الصبر والشكر. إذا لم يذكر التهديد يذكر الشكر وحده (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) النحل) لم يذكر صبّار لأن الآية كلها نعم، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) الروم) كلها نعم، (وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) فاطر) (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) الجاثية) إذا لم يذكر تهديداً ذكر الشكر وحده وإذا ذكر التهديد قرن صبّار مع شكور في جميع القرآن وقدّم صبار على شكور.
*من المخاطب في الآية (ألم تر)؟
كل من يصح خطابه من المكلّفين. بدأ الخطاب بالمفرد (ألم تر) ثم جاء بالجمع (لنريكم) هذه عامة ولم يخص النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخطاب.
آية (32):
(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32))
فكرة عامة عن الآية: هذه آية عظيمة من آيات الله في الإنسان. الله تعالى فطر الإنسان على التوحيد، على الإيمان به وتوحيده لكن فطرة الإنسان قد تغطيها أتربة الحياة والمنطق العقلي ينكر أحياناً وجود الله أو يشرك به لكن إذا وقع في مهلكة وأصابه مرض وانقطعت به الأسباب وانقطعت به كل أسباب الرجاء وأيقن بالهلاك وخاب أمله في كل من كان يرجو منه العون وعجز الجميع عن تنجيته انزاح عن الفطرة ما كان يغطيها من الأتربة واتجه إلى الله تعالى وظهرت الفطرة التي فطره الله تعالى عليها مستغيثة بالواحد الأحد فقط (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) الإسراء) هذه آية عظيمة من آيات الله وقد رأينا وسمعنا في حياتنا أناساً من أشد الناس إلحاداً فلما انقطعت بهم الأسباب قالوا يا رب يا حفيظ وطلبوا ممن معهم أن يدعوا لهم بالشفاء، هذه آية عظيمة. الظُلل جمع ظلة وهو الجبل أو السحاب أو كل ما أظلّك، يعني إذا جاءهم الموج كالجبال وغطاهم وأيقنوا بالهلاك دعوا الله مخلصين له الدين، وكأن الآية تصورهم في البحر في عزلة تامة لا أحد يتمكن من الوصول إليهم في هذا البحر العظيم المتلاطم. فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد، من المقتصد؟ هو مقتصد في الإخلاص يعني لم يكن على إخلاصه عندما وقع به الحال كان يدعو ربه ويستغيث كان مخلصاً له الدين فلما خرج لم يكن على هذا الإخلاص قلّ إخلاصه ومنهم مقتصد في الكفر كان كافراً لكن لما نجا قال لعلي أرجع مرة أخرى يقلل غلواءه في الكفر فيقتصد، يقتصد في الطاعة وإما يقتصد في الكفر ويرتدع بعض الشيء المسألة لا تزال قريبة من نفسه وهناك هزة عنيفة فينزجر بعض الانزجار ويرتدع، هذا المقتصد. أما الختار، الختر هو أشد الغدر والخيانة، ختر بمعنى غدر وخان. (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) لقمان)، هو أخلص لله عندما دعا ربه في البحر الآن خرج. والجحود هو إنكار ما تعلم من الحق، ينكر حقاً يعلم أنه حق، هذا معنى الجحود وهو إنكار ما تعلم من الحق لو شخص مدين إلى شخص والمدين يعلم أنه مدين وقال لست مديناً هذا جحود لكن لو نسي لا يسمى جاحداً. الجحود إنكار ما يعلم من الحق (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل) بآياتنا أي بما رأى وما حدث وما حصل بهذه الآيات عموماً كفور جاحد خان العهد الذي قطعه على نفسه سيخلص له دينه ويطيعه لكنه غدر وخان.
*في سورة العنكبوت قال (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)) وفي لقمان قال مقتصد فما الفرق بينهما؟
لو قرأنا الآيتين، آية لقمان الخطر فيها أكبر والهول فيها أعظم (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)) هنا لم يذكر (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) لم يذكر خطراً أصابهم وإنما هذا خوف يعتري راكب البحر عموماً فإذن الهول أكبر وأعظم في آية لقمان (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ) قال فمنهم مقتصد خفف من غلوائه، هناك لما نجاهم من البر (فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) آية لقمان تصور نوعاً من الهول ولهذا ناسب معه مقتصد وفي آية العنكبوت فيها فقط ركوب، في عدم وجود الأهوال لن يرى شيئاً يزجره، ركب في البحر ولم ير آية وكأنه شيء طبيعي ركب في الفلك، هذا أمر وهناك أمر آخر والسياق في العنكبوت يختلف والسياق يتكلم في المشركين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)) هو يعتقد بالله لكن ينصرف إلى غير الله (يؤفكون يعني يصرفون) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)) (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)) إذن هذا السياق في العنكبوت في سياق المشركين أما في لقمان فليس في سياق المجرمين (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)). إذا كان المتحدث عنهم في العنكبوت هم المشركون وفي لقمان لم تصور الآية أنهم مشركون قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) يونس) كلاهما دعا في الآيتين تحسباً لما قد يقع يعني لعله يتم شيء غير متوقع ففي الحالتين دعوا الله. غشيهم الموج اقتضى مقتصد وعدم ذكر غشيهم الموج اقتضى مشركون ما جاءهم شيء يدعوهم إلى الانزجار أو يردعهم.
*(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (32) لقمان) تقديم الجار والمجرور على الدين وفي آيات أخرى قدم الدين على الجار والمجرور (وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146) النساء)؟
في عموم الآيات في القرآن الكريم يقدم الجار والمجرور على الدين عدا آية النساء (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146)) قدم الدين على الجار والمجرور. التقديم والتأخير حسب ما يقتضيه السياق. السياق في سورة النساء في الكلام على المنافقين يبدأ من قوله تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) 9 آيات تتعلق بذكر المنافقين فلما كان الكلام على ذكر المنافقين قدم ما يتعلق بالمنافقين وهو كلمة دين المضافة إلى ضميرهم (وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ) دينهم مضافة إليهم، دينهم أي معتقدهم، أخلصوه لله. الآيات الأخرى كلها الكلام على الله تعالى هنا الكلام على المنافقين فقدم ما يتعلق به والآيات الأخرى الكلام على الله تعالى فقدم ما يتعلق به مثال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ (3) الزمر) الكلام على الله تعالى، ويستمر الكلام (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)) (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14) الزمر) الكلام على الله تعالى فما كان الكلام على الله قدم ضميره ما يتعلق به، (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) غافر) لما كان الكلام على الله قدم ما يتعلق به وهو مضيره ولما كان الكلام على المنافقين قدم ما يتعلق بهم وهو ضميرهم (دينهم) هكذا في جميع القرآن.
آية (32):
(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32))
فكرة عامة عن الآية: هذه آية عظيمة من آيات الله في الإنسان. الله تعالى فطر الإنسان على التوحيد، على الإيمان به وتوحيده لكن فطرة الإنسان قد تغطيها أتربة الحياة والمنطق العقلي ينكر أحياناً وجود الله أو يشرك به لكن إذا وقع في مهلكة وأصابه مرض وانقطعت به الأسباب وانقطعت به كل أسباب الرجاء وأيقن بالهلاك وخاب أمله في كل من كان يرجو منه العون وعجز الجميع عن تنجيته انزاح عن الفطرة ما كان يغطيها من الأتربة واتجه إلى الله تعالى وظهرت الفطرة التي فطره الله تعالى عليها مستغيثة بالواحد الأحد فقط (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) الإسراء) هذه آية عظيمة من آيات الله وقد رأينا وسمعنا في حياتنا أناساً من أشد الناس إلحاداً فلما انقطعت بهم الأسباب قالوا يا رب يا حفيظ وطلبوا ممن معهم أن يدعوا لهم بالشفاء، هذه آية عظيمة. الظُلل جمع ظلة وهو الجبل أو السحاب أو كل ما أظلّك، يعني إذا جاءهم الموج كالجبال وغطاهم وأيقنوا بالهلاك دعوا الله مخلصين له الدين، وكأن الآية تصورهم في البحر في عزلة تامة لا أحد يتمكن من الوصول إليهم في هذا البحر العظيم المتلاطم. فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد، من المقتصد؟ هو مقتصد في الإخلاص يعني لم يكن على إخلاصه عندما وقع به الحال كان يدعو ربه ويستغيث كان مخلصاً له الدين فلما خرج لم يكن على هذا الإخلاص قلّ إخلاصه ومنهم مقتصد في الكفر كان كافراً لكن لما نجا قال لعلي أرجع مرة أخرى يقلل غلواءه في الكفر فيقتصد، يقتصد في الطاعة وإما يقتصد في الكفر ويرتدع بعض الشيء المسألة لا تزال قريبة من نفسه وهناك هزة عنيفة فينزجر بعض الانزجار ويرتدع، هذا المقتصد. أما الختار، الختر هو أشد الغدر والخيانة، ختر بمعنى غدر وخان. (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) لقمان)، هو أخلص لله عندما دعا ربه في البحر الآن خرج. والجحود هو إنكار ما تعلم من الحق، ينكر حقاً يعلم أنه حق، هذا معنى الجحود وهو إنكار ما تعلم من الحق لو شخص مدين إلى شخص والمدين يعلم أنه مدين وقال لست مديناً هذا جحود لكن لو نسي لا يسمى جاحداً. الجحود إنكار ما يعلم من الحق (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل) بآياتنا أي بما رأى وما حدث وما حصل بهذه الآيات عموماً كفور جاحد خان العهد الذي قطعه على نفسه سيخلص له دينه ويطيعه لكنه غدر وخان.
*في سورة العنكبوت قال (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)) وفي لقمان قال مقتصد فما الفرق بينهما؟
لو قرأنا الآيتين، آية لقمان الخطر فيها أكبر والهول فيها أعظم (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)) هنا لم يذكر (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) لم يذكر خطراً أصابهم وإنما هذا خوف يعتري راكب البحر عموماً فإذن الهول أكبر وأعظم في آية لقمان (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ) قال فمنهم مقتصد خفف من غلوائه، هناك لما نجاهم من البر (فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) آية لقمان تصور نوعاً من الهول ولهذا ناسب معه مقتصد وفي آية العنكبوت فيها فقط ركوب، في عدم وجود الأهوال لن يرى شيئاً يزجره، ركب في البحر ولم ير آية وكأنه شيء طبيعي ركب في الفلك، هذا أمر وهناك أمر آخر والسياق في العنكبوت يختلف والسياق يتكلم في المشركين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)) هو يعتقد بالله لكن ينصرف إلى غير الله (يؤفكون يعني يصرفون) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)) (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)) إذن هذا السياق في العنكبوت في سياق المشركين أما في لقمان فليس في سياق المجرمين (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)). إذا كان المتحدث عنهم في العنكبوت هم المشركون وفي لقمان لم تصور الآية أنهم مشركون قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) يونس) كلاهما دعا في الآيتين تحسباً لما قد يقع يعني لعله يتم شيء غير متوقع ففي الحالتين دعوا الله. غشيهم الموج اقتضى مقتصد وعدم ذكر غشيهم الموج اقتضى مشركون ما جاءهم شيء يدعوهم إلى الانزجار أو يردعهم.
*(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (32) لقمان) تقديم الجار والمجرور على الدين وفي آيات أخرى قدم الدين على الجار والمجرور (وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146) النساء)؟
في عموم الآيات في القرآن الكريم يقدم الجار والمجرور على الدين عدا آية النساء (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146)) قدم الدين على الجار والمجرور. التقديم والتأخير حسب ما يقتضيه السياق. السياق في سورة النساء في الكلام على المنافقين يبدأ من قوله تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) 9 آيات تتعلق بذكر المنافقين فلما كان الكلام على ذكر المنافقين قدم ما يتعلق بالمنافقين وهو كلمة دين المضافة إلى ضميرهم (وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ) دينهم مضافة إليهم، دينهم أي معتقدهم، أخلصوه لله. الآيات الأخرى كلها الكلام على الله تعالى هنا الكلام على المنافقين فقدم ما يتعلق به والآيات الأخرى الكلام على الله تعالى فقدم ما يتعلق به مثال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ (3) الزمر) الكلام على الله تعالى، ويستمر الكلام (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)) (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14) الزمر) الكلام على الله تعالى فما كان الكلام على الله قدم ضميره ما يتعلق به، (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) غافر) لما كان الكلام على الله قدم ما يتعلق به وهو مضيره ولما كان الكلام على المنافقين قدم ما يتعلق بهم وهو ضميرهم (دينهم) هكذا في جميع القرآن.
آية (33):
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33))
* قال تعالى (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ولم يقل اتقوا الله كما ورد في بعض آي القرآن الكريم فما دلالة اختيار كلمة (ربكم) تحديداً؟
ربنا سبحانه وتعالى أمر الناس أن يتقوا ربهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أولاً بإفراد الرب (ربكم) وإضافة إلى ضمير (ربكم) يدل على أن لهم رباً واحداً وليست أرباب، رب واحد للخلق أجمعين وليس هو رب فئة دون فئة أو شعب أو دون شعب، قسم كانوا يقولون هو رب شعب دون شعب وكانوا يقولون هو رب إسرائيل، إذن هو رب الجميع (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) رب واحد وهو رب الجميع، هم كانوا يعتقدون أن هنالك أرباباً (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ (31) التوبة) أيضاً فرعون قال (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) النازعات) (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ (127) الأعراف) (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) يوسف) فإذن هو رب واحد لجميع الناس فقط وهو رب الناس جميعاً ليس رب شعب دون شعب ولا فئة دون فئة، رب واحد. ثم اختيار لفظ الرب له دلالته فهنا الرب هو المربي والسيد والقيم والمنعم إذن بيده النفع والضر لما كل هذه بيده هو الذي ينفع ويضر يمسك رحمته لأن الرزاق من معاني الرب والسيد والمنعم والقيم إذن بيده النفع والضر، (الله) اسم العلم، اللفظة في اللغة الله العلم في اللغة والرب والمنعم هذه صفات وكل واحدة لها دلالة الرزاق ليس معناها الرحمن، (إن لله تسعاً وتسعين اسماً) يسمونها أسماء وصفات (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى (8) طه) يعني هي أسماؤه وصفاته واسمه العلم الله. الله يستعمل في غير الله نقول رب الدار (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ (42) يوسف) (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) يوسف) الرب ليست خاصة بالله ونقول من رب الدار؟ أي من مالكها؟
* هل تكون التقوى من الله أو من الرب؟
التقوى هي لله لكن بصفاته، لما فيه من صفات يتّقوه. أحياناً الناس يتقون شخصاً ويحذرونه لما له من صفة كرئيس أو غيره إما لكونه عزيزاً أو رئيساً فيتقونه لصفته. القرآن قال اتقوا الله، إذن السياق هو الذي يختار. إذن هو الآن (اتقوا ربكم) معناه بيده النفع والضر والناس يتقون من بيده ذلك يخشون أن يقطع عنهم النفع أو يدخل عليهم الضر، هذا واحد ثم قال بعدها (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) والوالد هو المربي والرب أول معنى له هو المربي فإذن مناسبة، الرب الوالد هو مربي أولاده والرب هو المربي فتتناسب مع اتقوا ربكم. الرب هو المعلم والقيم والمرشد والمربي وهي مناسبة مع الوالد وهو القيم على أبنائه ويربيهم وهو المنفق عليهم إذن هناك تناسب، إذن اختيار الرب هنا مناسب لقوله تعالى (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ).
*في قوله تعالى (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذه جملة صفة والقياس كما نعلم أنه في جملة الصفة لا يجزي فيه والد عن ولده كما قال (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) البقرة) (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) النور) فلماذا لا يأتي هنا بـ (فيه)؟
جملة الصفة يكون فيها عائد يعود على الموصوف ضمير قد يكون مذكوراً وقد يكون مقدّراً وهنا مقدر يعني النحاة يقدرون لا يجزي فيه هذا من حيث التقدير، هو جائز الذكر وجائز التقدير لأنه ذكرها في مواطن أخرى (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ) يبقى لماذا اختار عدم الذكر؟ الأمران جائزان وقد ذكرا في مواطن. عادة الحذف يفيد الإطلاق عموماً يعني فلان يسمعك أو فلان يسمع، يسمع أعم، يقول الحق أو يقول، يقول أعم، عدم ذكر المتعلقات يفيد الإطلاق، يعطي المال أو يعطي، يعطي أعمّ. إذن هو الآن أظهر التعبير بمظهر الإطلاق لم يذكر (فيه) معناه أظهره بمظهر الإطلاق. حق السؤال لماذا لم يذكر هنا وفي مواطن ذكر؟ لو جزى والد عن ولده لو دفع في يوم القيامة هل هذا الجزاء يختص بهذا اليوم أو بما بعده؟ بذلك اليوم، لو جزى والد عن ولده (بدون فيه) لو جزى عنه يعني لو قضى عنه ما عليه، هذا الجزاء سيكون الجنة، لو جزى لى يكون في ذلك اليوم انتهى وإنما الخلود وسيدخل الجنة، إذن الجزاء ليس في ذلك الوقت وإنما أثر الجزاء سيمتد، الجزاء سيكون في هذا اليوم ولكن الأثر هو باق ولذلك حيث قال لا يجزي لم يقل (فيه) في كل القرآن مثال: (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48) البقرة) ما قال (فيه)، (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123) البقرة) بخلاف الآيات التي فيها (فيه) (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) البقرة) توفى في ذلك اليوم وإما يذهب للجنة وإما إلى النار. (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) في ذلك اليوم وبعدها ليس فيه تقلب لأنه يذهب للجنة، ذِكر (فيه) خصصها باليوم فقط لما قال (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) هذا في يوم القيامة وليس مستمراً يومياً، الذي في الجنة توفي والذي في النار توفي عمله، التوفي في يوم القيامة توفية الحساب في يوم هو يوم القيامة وأثر التوفية إما يذهب إلى الجنة وإما إلى النار، تقلّب القلوب والأبصار في يوم القيامة ثم يذهب الناس إلى الجنة ولا يعود هناك تقلب قلوب ولا أبصار، وأصحاب النار في النار. لو جزى والدٌ عن ولده لكان أثر الجزاء ليس خاصاً في ذلك اليوم وإنما تمتد إلى الخلود إلى الأبد ولذلك لم يذكر (فيه) وأخرجه مخرج الإطلاق. لذلك حيث قال لا تجزي لم يقل (فيه) لنفي المتعلق وما يترتب عليها فيما بعد.
*(لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) البقرة) وفي سورة لقمان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا (33)) فما دلالة هذه الصيغة؟
الولد يقع على الولد وولد الولد أي الأحفاد أما المولود لا يقع إلا على من ولِد منك. فقول عندي ولد غير قول عندي مولود والولد تستعمله العرب لمن ولِد منك ولمن بعده. الولد يعني ابني أو ابن ابني أما المولود فهو ابني. في الآية الولد لو شفع للأب الأدنى أي لأبيه الذي ولِد منه لن تقبل شفاعته فكيف بالآخرين؟!، (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) هذه خاصة، الأب الأقرب. (لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذه عامة سواء كان ابنه أو حفيده ويقولون أحياناً الحفيد أعز من الولد. لكن المولود خاصة فجاءت (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) يعني لا يشفع لأبيه الأقرب فكيف بغيره؟! فإن كان لا يشفع للأقرب فلن يشفع لغيره.
سؤال: أليست اللغة العربية تبدو عصيّة على الفهم من خلال ما تفضلتم به الآن؟ نزل بها القرآن الكريم ومعظمنا لا يجيدها فضلاً عن الأجانب الذين لا يتعلمون الفصحى فكيف يفهمون كتاب الله عز وجل؟
هناك الفهم العام المارد به العمل المكلف به هذا ليس فيه إشكال لكن النحو والاشتقاق مثلاً ففيه لكل واحد طريقة فطالب النحو غير طالب الصرف غير طالب الاشتقاق غير طالب البلاغة وهكذا كل واحد له طريقه في هذه المسألة وليس كل الناس مكلفون بهذا الأمر إنما هم مكلفون بسلامة الاعتقاد وحسن العمل. ومن أراد أن يتذوق كلام الله فعليه أن يتعلم اللغة العربية فهي متسعة ولكن ليست صعبة فنحن مهما تعلّمنا نجهل أكثر بكثير مما نعلم، هذا هو الواقع وكلنا تلاميذ وكل واحد في مرحلة.
* (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) وفي البقرة قال (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً (48) البقرة) فما الفرق بين الوالد والولد والنفس؟
لا ننسى أنه في هذه السورة نفسها في لقمان ذكر الوالدين والوصية بهما (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) والسورة تحمل اسم لقمان (والد) وهي مأخوذة من موقف وموعظة لقمان لابنه وكيف أوصاه ووصية ربنا بالوالدين وهي داخل وصية لقمان لابنه، إذن هذه أنسب أولاً مع اسم السورة ومع ما ورد في السورة من الإحسان إلى الوالدين والبر بهما ومصاحبتهما في الدنيا معروفاً، في البقرة لم يذكر هذا. فإذن ذكر الوالد والولد في آية لقمان مناسب لما ورد في السورة من الإحسان إلى الوالدين والبر ومع أنه قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) ذكّر هنا أن هذا لا يمتد إلى الآخرة وإنما خاص بالدنيا. في هذه الآية (لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذا في الآخرة إذن المصاحبة بالمعروف والإحسان إليهما وما وصى به في السورة لا يمتد إلى الآخرة (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) إذن الإحسان مرتبط بالدنيا فقط (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) إذن لا يتوقع الأب أن ولده سيجزي عنه في الآخرة، عليه أن لا يتوقع ذلك وأن هذه المصاحبة ستنقطع في الدنيا وهي في أمور الدنيا وليست في أمور الآخرة فإذن هذه مناسبة لقطع أطماع الوالدين المشركين أنه إذا كان ولدهما مؤمناً فلا ينفع عنهما ولا يدفع ولا يجزي عنهما شيئاً في الآخرة فإذن هي مناسبة لما ورد في السورة من ذكر الوالدين والأمر بالمصاحبة لهما ونحوه.
*في الآية (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) قدم الوالد على الولد فلماذا؟
لأن الوالد أكثر شفقة على الولد فالوالد يتمنى أن ينقذ ابنه بأي سبيل من السبل، أية وسيلة بدافع الشفقة وليس بدافع التكليف، أي أب يتمنى أن يدفع عن ابنه الضر إذا رأى أنه سيصيبه فقدم الوالد بدافع الشفقة لأن الأب أحرص على ابنه وأحرص على نفعه وأحرص على دفع الضر عنه.
سؤال من المقدم: في مكان آخر في نفس تصوير الموقف قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) عبس) المرء هو الذي يفر من والديه، فما الفرق؟
فرق بين الجزاء والفرار، هذا الإنسان يريد أن يخلو بنفسه وليس في موقف جزاء هذا ولا إنقاذ، حتى الآن في البيت أحياناً يقول أحدهم اتركوني وحدي، عنده ما يشغله، عنده شيء يفكر فيه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) عبس) فهذا موقف فرار يريد أن يخلو بنفسه، ماذا قدّم؟ ماذا هناك؟ كيف يفعل؟ هذا موقف آخر غير هذا الموقف، موقف ثاني هذا، هذا موقف جزاء وذاك موقف الفرار لينظر ماذا هناك؟ كيف سينجو؟ ماذا قدّم (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) عبس) والفرار المعلوم في الدنيا أولاً المرء يفر من الأباعد ثم ينتهي بأقرب الناس إليه، هكذا عندما تفرّ تفر أولاً من البعيد فالأخ هو أبعد المذكورين (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) عبس) آخر من يفر منهم هم الأبناء لأنهم ألصق الناس بقلبه. وقدّم الفرار من الأم على الفرار من الأب لأن الأب أقدر على النفع والدفع من الأم، في الدنيا الأب هو الذي يدفع أما الأم يمكن أن تبكي وتصيح والأب هو الذي يدفع، هذا الأعرابي الذي بشر بمولودة فقالوا جاءتك مولودة فقال والله ما هي بنعِم الولد نصرُها بكاء وبِرُّها سرقة (تأخذ من مال زوجها وتعطي). إذن الفرار رتب بهذا الترتيب، الفرار من أخيه لأنه أبعد المذكورين قد لا يلتقي به مدة طويلة ولو كانا في مكان واحد في مدينة واحدة وحتى مع الأم والأب هناك بيت شرعي وحده خارج عن امه وأبيه هو يومياً مع زوجه وبنيه لكن قد تمر أشهر دون أن يرى أمه وأبيه، فإذن يوم المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، الصاحبة هو يومياً يأوي إليها وبنيه لأنه قد يفارق الإنسان زوجته ولكن يبقى أولاده معه، الصاحبة هنا بمعنى الزوجة وأحياناً يصير خلاف على الأبناء، إذن البنين آخر من يفر منهم. كل كلمة في اللغة لها دلالة وقد يكون لها أكثر من دلالة مثل المشترك اللفظي والأضداد لكن السياق هو الذي يحددها حتى المترادفات توضع في سياقها.
* (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) يجزي جاء بصيغة بالفعل وجازٍ بصيغة اسم الفعل فما دلالة اختلاف الصيغة؟
الأقوى هو الاسم لأنه يدل على الثبوت، ربنا وصّى الأبناء بالآباء إذن هذا تكليف شرعي يعني الإحسان إلى الأبوين تكليف شرعي ثابت. الأب ليس مكلفاً الإنفاق على الولد إذا بلغ سن الرشد فإذن بعد البلوغ يصير الابن مكلفاً بنفسه وبأبيه، إذن بعد البلوغ الابن هو المكلّف وهو المطلوب منه الإحسان إلى والديه وليس العكس فهذا والأب على وجه الشفقة، الإحسان إلى الأبوين الأبناء هم مكلفون فيه على وجه التكليف والآباء إحسانهم على وجه الشفقة وليس على وجه التكليف. بعد البلوغ الأب ليس مكلفاً شرعاً بالإحسان إلى أبنائه والإنفاق عليهم وإنما الابن هو مكلف شرعاً بالإحسان إلى والديه إذن الأثبت هو الحكم الشرعي (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) بالإسمية الدالّة على الثبوت ولكن بدافع الشفقة أما هذه بدافع التكليف الشرعي ربنا أجبره وكلّف به الفرد. (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذا بدافع الشفقة و (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) هذا بدافع التكليف لأن الابن هو مكلّف بالإحسان إلى الأب. أصلاً المصاحبة ليست واحدة فلا يمكن أن يساوي بينهما، واحدة مصاحبة واجبة من الابن لأبيه بدافع التكليف وواحدة بدافع الشفقة من الأب لابنه وليس مكلفاً شرعاً.
* هل هناك لمسات أخرى في هذه الآية؟
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) ما معنى شيئاً؟ شيئاً فيها احتمالان إما شيئاً من الجزاء معناه سيصير (شيئاً) مفعول مطلق لفعل (يجزي) يجزي شيئاً من الجزاء أنا لا أجزيك شيئاً من الجزاء، هذه يسمونها البعضية والكُلية: ضربته كل الضرب، ضربته بعض الضرب، يسير الضرب، شيئاً من الضرب هذه كلها مفعول مطلق. (شيئاً) فيها احتمالان إما لا يجزي شيئاً من الجزاء أو لا يجزي شيئاً من الأشياء الملموسة مثل (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا (36) النساء) شيئاً فيها احتمالان وليست مثل (ولا يشرك به أحداً) أحداً يعني شخص. (شيئاً) فيها دلالتان إما شيئاً من الشرك لأن الشرك هو درجات هناك شرك أصغر وشرك أكبر أو شيئاً من الأشياء كل شيء سواء كان أحداً من الناس أو الأصنام أو غيره. إذن (لا تشركوا به شيئاً) فيها دلالتان: لا تشركوا به شيئاً من الشرك ولا شيئاً من الأشياء، لا شيئاً من الشرك بأن تستعين بغير الله فالشرك درجات كما أن الإيمان درجات ولا شيئاً من الأشياء. (شيئاً) إما لا شيئاً من الجزاء أو شيئاً من الأشياء مثلاً هو مدين لواحد أو تعدّى على واحد أو سبّ واحداً أو قذف واحداً هذا يتعلق بالأشخاص. اشتريت شيئاً من السوق (شيئاً هنا مفعول به)، (أنا لا أظلمك شيئاً من الظلم) يعني لا أظلمك ظلماً ولو كان قليلاً، كيف نعرب (ظلماً)؟ مفعول مطلق. لا أظلمك شيئاً إذا قصدت به شيئاً من الظلم فهو مفعول مطلق وإذا قصدت به شيئاً من الأشياء فهو مفعول به. بحسب ما يقصد من الكلام وهذا من باب التوسع في المعنى، هو لم يرد أن يحدد معنى واحداً ولو أراد لجاء بشيء يحدده لو قال شيئاً من الجزاء أو شيئاً من الأبناء لصار مفعول مطلق تحديداً هو أراد الإطلاق العام سواء في الجزاء أو في ما يجزى به من الأشياء. (شيئاً) نفهمها هنا للوالد والولد معاً. إذن يحتمل معنيان المصدرية والمفعول به وضربنا سابقاً مثلاً (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) التوبة) وقلنا أنها تحتمل المصدر وتحتمل الظرف، وقتاً قليلاً أو ضحكاً قليلاً (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) الفتح) هل قليل من الأمور أو قليل من الفقه؟ فِقهم قليل أو الأمور التي يفقهها قليلة؟
* أي المعنيين أفضل؟
أنت ماذا تريد؟ هل تريد الإطلاق؟ هل تريد كليهما أو تريد أن يخصص؟ إذا لم يوجد قرينة سياقية يجمع المعاني ويكون هناك توسع في المعنى ما لم يكن هناك قرينة تحدد أحدهما.
(إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33))
لا تغرنّكم هذا نهي عن الاغترار بالحياة الدنيا. وأولاً هو نسب الغر للحياة الدنيا أصلها فلا تغتروا بالحياة الدنيا فكأن الحياة الدنيا والشيطان ينصبان الشَرَك لغرّ الإنسان، لو قال لا تغتروا فقط سيكون النهي متعلقاً بالإنسان. (لا) ناهية، هو ينهي الحياة الدنيا عن أن تغرّ الإنسان وينهي الشيطان عن غرّه والمعنى لا تغتروا لأن الحياة الدنيا تنصب لكم الشرك كأنما الحياة الدنيا والشيطان هما قائمان على نصب الشراك لإيقاع الإنسان بالعداوة. المعنى لا يغتر الإنسان بهذه الحياة لكن والصيغة نهى الحياة الدنيا عن أن لا تغر المسلم. الغرور هو الشيطان وما قال الشيطان، هنالك فرق بين الغُرور والغَرور، الغرور مصدر والغَرور صيغة مبالغة على وزن فعول أي كثير الغرّ للآخرين فهو لم يقل الشيطان لأن الشيطان أشهر من يغرّ الإنسان لكن كل من يغرّ يدخل في ذلك قد يغر شخصٌ شخصاً آخر فيخدعه ويغره فإذن اختار الغرور وليس الشيطان حتى يشمل ويعم كل من يغر شخصاً آخر، ونلاحظ أنه أكّد الفعلين بالنون (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ) ، (وَلَا يَغُرَّنَّكُم) في خارج القرآن فلا تغرّكم أو تغرركم بفك الإدغام، هذه النون نون التوكيد الثقيلة مثل (ليسجنّنّ) والخفيفة مثل (وليكوننّ). المعنى أنه نهي مؤكد، لماذا نهي مؤكد؟ لأن الدنيا والشيطان يغرّان الإنسان قطعاً لا محالة إذن النهي ينبغي أن يكون مؤكداً فلما كان غرهما مؤكد ينبغي أن يكون النهي مؤكداً وقدم الحياة الدنيا على الشيطان لأنها مبتغى الإنسان الأول حتى لما يغرّه الشيطان يغرّه بالدنيا، هو يكدح من أجل الدنيا والشيطان قال (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) طه) عموم ما في السعادة والراحة والدنيا، دنيا فقدمها لأنها مبتغى الإنسان والشيطان إذا أراد أن يغر الإنسان فبسببها. لم يقل لا تغرنكم الدنيا وإنما قال الحياة الدنيا لأن الحياة هي المطلب الأول.
*ما الفرق بين الغَرور والغُرور؟
الغَرور هو الشيطان والغُرور هو المصدر (وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) لقمان) الغَرور صيغة مبالغة واسم للشيطان أما الغرور فهو المصدر.
آية (33):
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33))
* قال تعالى (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) ولم يقل اتقوا الله كما ورد في بعض آي القرآن الكريم فما دلالة اختيار كلمة (ربكم) تحديداً؟
ربنا سبحانه وتعالى أمر الناس أن يتقوا ربهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أولاً بإفراد الرب (ربكم) وإضافة إلى ضمير (ربكم) يدل على أن لهم رباً واحداً وليست أرباب، رب واحد للخلق أجمعين وليس هو رب فئة دون فئة أو شعب أو دون شعب، قسم كانوا يقولون هو رب شعب دون شعب وكانوا يقولون هو رب إسرائيل، إذن هو رب الجميع (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) رب واحد وهو رب الجميع، هم كانوا يعتقدون أن هنالك أرباباً (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ (31) التوبة) أيضاً فرعون قال (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) النازعات) (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ (127) الأعراف) (أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) يوسف) فإذن هو رب واحد لجميع الناس فقط وهو رب الناس جميعاً ليس رب شعب دون شعب ولا فئة دون فئة، رب واحد. ثم اختيار لفظ الرب له دلالته فهنا الرب هو المربي والسيد والقيم والمنعم إذن بيده النفع والضر لما كل هذه بيده هو الذي ينفع ويضر يمسك رحمته لأن الرزاق من معاني الرب والسيد والمنعم والقيم إذن بيده النفع والضر، (الله) اسم العلم، اللفظة في اللغة الله العلم في اللغة والرب والمنعم هذه صفات وكل واحدة لها دلالة الرزاق ليس معناها الرحمن، (إن لله تسعاً وتسعين اسماً) يسمونها أسماء وصفات (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى (8) طه) يعني هي أسماؤه وصفاته واسمه العلم الله. الله يستعمل في غير الله نقول رب الدار (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ (42) يوسف) (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) يوسف) الرب ليست خاصة بالله ونقول من رب الدار؟ أي من مالكها؟
* هل تكون التقوى من الله أو من الرب؟
التقوى هي لله لكن بصفاته، لما فيه من صفات يتّقوه. أحياناً الناس يتقون شخصاً ويحذرونه لما له من صفة كرئيس أو غيره إما لكونه عزيزاً أو رئيساً فيتقونه لصفته. القرآن قال اتقوا الله، إذن السياق هو الذي يختار. إذن هو الآن (اتقوا ربكم) معناه بيده النفع والضر والناس يتقون من بيده ذلك يخشون أن يقطع عنهم النفع أو يدخل عليهم الضر، هذا واحد ثم قال بعدها (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) والوالد هو المربي والرب أول معنى له هو المربي فإذن مناسبة، الرب الوالد هو مربي أولاده والرب هو المربي فتتناسب مع اتقوا ربكم. الرب هو المعلم والقيم والمرشد والمربي وهي مناسبة مع الوالد وهو القيم على أبنائه ويربيهم وهو المنفق عليهم إذن هناك تناسب، إذن اختيار الرب هنا مناسب لقوله تعالى (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ).
*في قوله تعالى (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذه جملة صفة والقياس كما نعلم أنه في جملة الصفة لا يجزي فيه والد عن ولده كما قال (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) البقرة) (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) النور) فلماذا لا يأتي هنا بـ (فيه)؟
جملة الصفة يكون فيها عائد يعود على الموصوف ضمير قد يكون مذكوراً وقد يكون مقدّراً وهنا مقدر يعني النحاة يقدرون لا يجزي فيه هذا من حيث التقدير، هو جائز الذكر وجائز التقدير لأنه ذكرها في مواطن أخرى (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ) يبقى لماذا اختار عدم الذكر؟ الأمران جائزان وقد ذكرا في مواطن. عادة الحذف يفيد الإطلاق عموماً يعني فلان يسمعك أو فلان يسمع، يسمع أعم، يقول الحق أو يقول، يقول أعم، عدم ذكر المتعلقات يفيد الإطلاق، يعطي المال أو يعطي، يعطي أعمّ. إذن هو الآن أظهر التعبير بمظهر الإطلاق لم يذكر (فيه) معناه أظهره بمظهر الإطلاق. حق السؤال لماذا لم يذكر هنا وفي مواطن ذكر؟ لو جزى والد عن ولده لو دفع في يوم القيامة هل هذا الجزاء يختص بهذا اليوم أو بما بعده؟ بذلك اليوم، لو جزى والد عن ولده (بدون فيه) لو جزى عنه يعني لو قضى عنه ما عليه، هذا الجزاء سيكون الجنة، لو جزى لى يكون في ذلك اليوم انتهى وإنما الخلود وسيدخل الجنة، إذن الجزاء ليس في ذلك الوقت وإنما أثر الجزاء سيمتد، الجزاء سيكون في هذا اليوم ولكن الأثر هو باق ولذلك حيث قال لا يجزي لم يقل (فيه) في كل القرآن مثال: (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (48) البقرة) ما قال (فيه)، (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ (123) البقرة) بخلاف الآيات التي فيها (فيه) (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (281) البقرة) توفى في ذلك اليوم وإما يذهب للجنة وإما إلى النار. (يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) في ذلك اليوم وبعدها ليس فيه تقلب لأنه يذهب للجنة، ذِكر (فيه) خصصها باليوم فقط لما قال (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) هذا في يوم القيامة وليس مستمراً يومياً، الذي في الجنة توفي والذي في النار توفي عمله، التوفي في يوم القيامة توفية الحساب في يوم هو يوم القيامة وأثر التوفية إما يذهب إلى الجنة وإما إلى النار، تقلّب القلوب والأبصار في يوم القيامة ثم يذهب الناس إلى الجنة ولا يعود هناك تقلب قلوب ولا أبصار، وأصحاب النار في النار. لو جزى والدٌ عن ولده لكان أثر الجزاء ليس خاصاً في ذلك اليوم وإنما تمتد إلى الخلود إلى الأبد ولذلك لم يذكر (فيه) وأخرجه مخرج الإطلاق. لذلك حيث قال لا تجزي لم يقل (فيه) لنفي المتعلق وما يترتب عليها فيما بعد.
*(لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) البقرة) وفي سورة لقمان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا (33)) فما دلالة هذه الصيغة؟
الولد يقع على الولد وولد الولد أي الأحفاد أما المولود لا يقع إلا على من ولِد منك. فقول عندي ولد غير قول عندي مولود والولد تستعمله العرب لمن ولِد منك ولمن بعده. الولد يعني ابني أو ابن ابني أما المولود فهو ابني. في الآية الولد لو شفع للأب الأدنى أي لأبيه الذي ولِد منه لن تقبل شفاعته فكيف بالآخرين؟!، (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) هذه خاصة، الأب الأقرب. (لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذه عامة سواء كان ابنه أو حفيده ويقولون أحياناً الحفيد أعز من الولد. لكن المولود خاصة فجاءت (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) يعني لا يشفع لأبيه الأقرب فكيف بغيره؟! فإن كان لا يشفع للأقرب فلن يشفع لغيره.
سؤال: أليست اللغة العربية تبدو عصيّة على الفهم من خلال ما تفضلتم به الآن؟ نزل بها القرآن الكريم ومعظمنا لا يجيدها فضلاً عن الأجانب الذين لا يتعلمون الفصحى فكيف يفهمون كتاب الله عز وجل؟
هناك الفهم العام المارد به العمل المكلف به هذا ليس فيه إشكال لكن النحو والاشتقاق مثلاً ففيه لكل واحد طريقة فطالب النحو غير طالب الصرف غير طالب الاشتقاق غير طالب البلاغة وهكذا كل واحد له طريقه في هذه المسألة وليس كل الناس مكلفون بهذا الأمر إنما هم مكلفون بسلامة الاعتقاد وحسن العمل. ومن أراد أن يتذوق كلام الله فعليه أن يتعلم اللغة العربية فهي متسعة ولكن ليست صعبة فنحن مهما تعلّمنا نجهل أكثر بكثير مما نعلم، هذا هو الواقع وكلنا تلاميذ وكل واحد في مرحلة.
* (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) وفي البقرة قال (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً (48) البقرة) فما الفرق بين الوالد والولد والنفس؟
لا ننسى أنه في هذه السورة نفسها في لقمان ذكر الوالدين والوصية بهما (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) والسورة تحمل اسم لقمان (والد) وهي مأخوذة من موقف وموعظة لقمان لابنه وكيف أوصاه ووصية ربنا بالوالدين وهي داخل وصية لقمان لابنه، إذن هذه أنسب أولاً مع اسم السورة ومع ما ورد في السورة من الإحسان إلى الوالدين والبر بهما ومصاحبتهما في الدنيا معروفاً، في البقرة لم يذكر هذا. فإذن ذكر الوالد والولد في آية لقمان مناسب لما ورد في السورة من الإحسان إلى الوالدين والبر ومع أنه قال (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) ذكّر هنا أن هذا لا يمتد إلى الآخرة وإنما خاص بالدنيا. في هذه الآية (لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذا في الآخرة إذن المصاحبة بالمعروف والإحسان إليهما وما وصى به في السورة لا يمتد إلى الآخرة (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) إذن الإحسان مرتبط بالدنيا فقط (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) إذن لا يتوقع الأب أن ولده سيجزي عنه في الآخرة، عليه أن لا يتوقع ذلك وأن هذه المصاحبة ستنقطع في الدنيا وهي في أمور الدنيا وليست في أمور الآخرة فإذن هذه مناسبة لقطع أطماع الوالدين المشركين أنه إذا كان ولدهما مؤمناً فلا ينفع عنهما ولا يدفع ولا يجزي عنهما شيئاً في الآخرة فإذن هي مناسبة لما ورد في السورة من ذكر الوالدين والأمر بالمصاحبة لهما ونحوه.
*في الآية (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) قدم الوالد على الولد فلماذا؟
لأن الوالد أكثر شفقة على الولد فالوالد يتمنى أن ينقذ ابنه بأي سبيل من السبل، أية وسيلة بدافع الشفقة وليس بدافع التكليف، أي أب يتمنى أن يدفع عن ابنه الضر إذا رأى أنه سيصيبه فقدم الوالد بدافع الشفقة لأن الأب أحرص على ابنه وأحرص على نفعه وأحرص على دفع الضر عنه.
سؤال من المقدم: في مكان آخر في نفس تصوير الموقف قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) عبس) المرء هو الذي يفر من والديه، فما الفرق؟
فرق بين الجزاء والفرار، هذا الإنسان يريد أن يخلو بنفسه وليس في موقف جزاء هذا ولا إنقاذ، حتى الآن في البيت أحياناً يقول أحدهم اتركوني وحدي، عنده ما يشغله، عنده شيء يفكر فيه (لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) عبس) فهذا موقف فرار يريد أن يخلو بنفسه، ماذا قدّم؟ ماذا هناك؟ كيف يفعل؟ هذا موقف آخر غير هذا الموقف، موقف ثاني هذا، هذا موقف جزاء وذاك موقف الفرار لينظر ماذا هناك؟ كيف سينجو؟ ماذا قدّم (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) عبس) والفرار المعلوم في الدنيا أولاً المرء يفر من الأباعد ثم ينتهي بأقرب الناس إليه، هكذا عندما تفرّ تفر أولاً من البعيد فالأخ هو أبعد المذكورين (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) عبس) آخر من يفر منهم هم الأبناء لأنهم ألصق الناس بقلبه. وقدّم الفرار من الأم على الفرار من الأب لأن الأب أقدر على النفع والدفع من الأم، في الدنيا الأب هو الذي يدفع أما الأم يمكن أن تبكي وتصيح والأب هو الذي يدفع، هذا الأعرابي الذي بشر بمولودة فقالوا جاءتك مولودة فقال والله ما هي بنعِم الولد نصرُها بكاء وبِرُّها سرقة (تأخذ من مال زوجها وتعطي). إذن الفرار رتب بهذا الترتيب، الفرار من أخيه لأنه أبعد المذكورين قد لا يلتقي به مدة طويلة ولو كانا في مكان واحد في مدينة واحدة وحتى مع الأم والأب هناك بيت شرعي وحده خارج عن امه وأبيه هو يومياً مع زوجه وبنيه لكن قد تمر أشهر دون أن يرى أمه وأبيه، فإذن يوم المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، الصاحبة هو يومياً يأوي إليها وبنيه لأنه قد يفارق الإنسان زوجته ولكن يبقى أولاده معه، الصاحبة هنا بمعنى الزوجة وأحياناً يصير خلاف على الأبناء، إذن البنين آخر من يفر منهم. كل كلمة في اللغة لها دلالة وقد يكون لها أكثر من دلالة مثل المشترك اللفظي والأضداد لكن السياق هو الذي يحددها حتى المترادفات توضع في سياقها.
* (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) يجزي جاء بصيغة بالفعل وجازٍ بصيغة اسم الفعل فما دلالة اختلاف الصيغة؟
الأقوى هو الاسم لأنه يدل على الثبوت، ربنا وصّى الأبناء بالآباء إذن هذا تكليف شرعي يعني الإحسان إلى الأبوين تكليف شرعي ثابت. الأب ليس مكلفاً الإنفاق على الولد إذا بلغ سن الرشد فإذن بعد البلوغ يصير الابن مكلفاً بنفسه وبأبيه، إذن بعد البلوغ الابن هو المكلّف وهو المطلوب منه الإحسان إلى والديه وليس العكس فهذا والأب على وجه الشفقة، الإحسان إلى الأبوين الأبناء هم مكلفون فيه على وجه التكليف والآباء إحسانهم على وجه الشفقة وليس على وجه التكليف. بعد البلوغ الأب ليس مكلفاً شرعاً بالإحسان إلى أبنائه والإنفاق عليهم وإنما الابن هو مكلف شرعاً بالإحسان إلى والديه إذن الأثبت هو الحكم الشرعي (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) بالإسمية الدالّة على الثبوت ولكن بدافع الشفقة أما هذه بدافع التكليف الشرعي ربنا أجبره وكلّف به الفرد. (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذا بدافع الشفقة و (وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) هذا بدافع التكليف لأن الابن هو مكلّف بالإحسان إلى الأب. أصلاً المصاحبة ليست واحدة فلا يمكن أن يساوي بينهما، واحدة مصاحبة واجبة من الابن لأبيه بدافع التكليف وواحدة بدافع الشفقة من الأب لابنه وليس مكلفاً شرعاً.
* هل هناك لمسات أخرى في هذه الآية؟
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) ما معنى شيئاً؟ شيئاً فيها احتمالان إما شيئاً من الجزاء معناه سيصير (شيئاً) مفعول مطلق لفعل (يجزي) يجزي شيئاً من الجزاء أنا لا أجزيك شيئاً من الجزاء، هذه يسمونها البعضية والكُلية: ضربته كل الضرب، ضربته بعض الضرب، يسير الضرب، شيئاً من الضرب هذه كلها مفعول مطلق. (شيئاً) فيها احتمالان إما لا يجزي شيئاً من الجزاء أو لا يجزي شيئاً من الأشياء الملموسة مثل (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا (36) النساء) شيئاً فيها احتمالان وليست مثل (ولا يشرك به أحداً) أحداً يعني شخص. (شيئاً) فيها دلالتان إما شيئاً من الشرك لأن الشرك هو درجات هناك شرك أصغر وشرك أكبر أو شيئاً من الأشياء كل شيء سواء كان أحداً من الناس أو الأصنام أو غيره. إذن (لا تشركوا به شيئاً) فيها دلالتان: لا تشركوا به شيئاً من الشرك ولا شيئاً من الأشياء، لا شيئاً من الشرك بأن تستعين بغير الله فالشرك درجات كما أن الإيمان درجات ولا شيئاً من الأشياء. (شيئاً) إما لا شيئاً من الجزاء أو شيئاً من الأشياء مثلاً هو مدين لواحد أو تعدّى على واحد أو سبّ واحداً أو قذف واحداً هذا يتعلق بالأشخاص. اشتريت شيئاً من السوق (شيئاً هنا مفعول به)، (أنا لا أظلمك شيئاً من الظلم) يعني لا أظلمك ظلماً ولو كان قليلاً، كيف نعرب (ظلماً)؟ مفعول مطلق. لا أظلمك شيئاً إذا قصدت به شيئاً من الظلم فهو مفعول مطلق وإذا قصدت به شيئاً من الأشياء فهو مفعول به. بحسب ما يقصد من الكلام وهذا من باب التوسع في المعنى، هو لم يرد أن يحدد معنى واحداً ولو أراد لجاء بشيء يحدده لو قال شيئاً من الجزاء أو شيئاً من الأبناء لصار مفعول مطلق تحديداً هو أراد الإطلاق العام سواء في الجزاء أو في ما يجزى به من الأشياء. (شيئاً) نفهمها هنا للوالد والولد معاً. إذن يحتمل معنيان المصدرية والمفعول به وضربنا سابقاً مثلاً (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) التوبة) وقلنا أنها تحتمل المصدر وتحتمل الظرف، وقتاً قليلاً أو ضحكاً قليلاً (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) الفتح) هل قليل من الأمور أو قليل من الفقه؟ فِقهم قليل أو الأمور التي يفقهها قليلة؟
* أي المعنيين أفضل؟
أنت ماذا تريد؟ هل تريد الإطلاق؟ هل تريد كليهما أو تريد أن يخصص؟ إذا لم يوجد قرينة سياقية يجمع المعاني ويكون هناك توسع في المعنى ما لم يكن هناك قرينة تحدد أحدهما.
(إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33))
لا تغرنّكم هذا نهي عن الاغترار بالحياة الدنيا. وأولاً هو نسب الغر للحياة الدنيا أصلها فلا تغتروا بالحياة الدنيا فكأن الحياة الدنيا والشيطان ينصبان الشَرَك لغرّ الإنسان، لو قال لا تغتروا فقط سيكون النهي متعلقاً بالإنسان. (لا) ناهية، هو ينهي الحياة الدنيا عن أن تغرّ الإنسان وينهي الشيطان عن غرّه والمعنى لا تغتروا لأن الحياة الدنيا تنصب لكم الشرك كأنما الحياة الدنيا والشيطان هما قائمان على نصب الشراك لإيقاع الإنسان بالعداوة. المعنى لا يغتر الإنسان بهذه الحياة لكن والصيغة نهى الحياة الدنيا عن أن لا تغر المسلم. الغرور هو الشيطان وما قال الشيطان، هنالك فرق بين الغُرور والغَرور، الغرور مصدر والغَرور صيغة مبالغة على وزن فعول أي كثير الغرّ للآخرين فهو لم يقل الشيطان لأن الشيطان أشهر من يغرّ الإنسان لكن كل من يغرّ يدخل في ذلك قد يغر شخصٌ شخصاً آخر فيخدعه ويغره فإذن اختار الغرور وليس الشيطان حتى يشمل ويعم كل من يغر شخصاً آخر، ونلاحظ أنه أكّد الفعلين بالنون (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ) ، (وَلَا يَغُرَّنَّكُم) في خارج القرآن فلا تغرّكم أو تغرركم بفك الإدغام، هذه النون نون التوكيد الثقيلة مثل (ليسجنّنّ) والخفيفة مثل (وليكوننّ). المعنى أنه نهي مؤكد، لماذا نهي مؤكد؟ لأن الدنيا والشيطان يغرّان الإنسان قطعاً لا محالة إذن النهي ينبغي أن يكون مؤكداً فلما كان غرهما مؤكد ينبغي أن يكون النهي مؤكداً وقدم الحياة الدنيا على الشيطان لأنها مبتغى الإنسان الأول حتى لما يغرّه الشيطان يغرّه بالدنيا، هو يكدح من أجل الدنيا والشيطان قال (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) طه) عموم ما في السعادة والراحة والدنيا، دنيا فقدمها لأنها مبتغى الإنسان والشيطان إذا أراد أن يغر الإنسان فبسببها. لم يقل لا تغرنكم الدنيا وإنما قال الحياة الدنيا لأن الحياة هي المطلب الأول.
*ما الفرق بين الغَرور والغُرور؟
الغَرور هو الشيطان والغُرور هو المصدر (وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) لقمان) الغَرور صيغة مبالغة واسم للشيطان أما الغرور فهو المصدر.
آية (34):
(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34))
يقولون إن هذه الآية الكريمة ذكرت مفاتح الغيب فبدأت بعلم الساعة وهذا أمر اختص الله تعالى به بنفسه لم يطلع عليه أحد قال تعالى (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) الأحزاب) في أكثر من موطن (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) الأعراف) (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) النازعات) فإذن الساعة ربنا اختص بها حتى تركيب الآية (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قدّم الخبر (عنده) على المبتدأ (علم الساعة) والجملة كلها خبر (إنّ) أصلها علم الساعة عنده، هذا التقديم يفيد الاختصاص أي عند الله فقط حصراً تقديم الخبر على المبتدأ إذا كان المبتدأ معرفة يفيد الحصر في الغالب، قدم الخبر على المبتدأ أفادت الاختصاص أي لا يعلمه إلا هو، و(إنما) أداة حصر وأكد الجملة بـ (إنّ) وهو يفيد تأكيد القصر، إذن التقديم والتأكيد يفيد القصر والحصر بأن علم الساعة منتهاه إلى الله تعالى حصراً.
عتقدهم لأن (ما) لغير العاقل لأنهم يدعون غير عاقل ويتخذونه إلهاً.
* ما دلالة العطف في الآية؟
ربنا سبحانه وتعالى استأثر بالعلم والقدرة لأنه أول مرة ذكر علم الساعة (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ثم قال بعدها (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) يعني هو لم يذكر علة نزول الغيث ما قال ويعلم نزول الغيث لكن قال (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) لأن تنزيل الغيث هو الذي يعني العباد وليس العلم به بمعنى تنزيل الغيث هو الذي فيه حياتهم ومعاشهم فإذن هو ذكر ما هو أمس بحياة الناس ونعمة الله عليهم الغيث تتم به مصالحهم وحياتهم فاختار ما هو أدل على النعم قال (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ). علم الساعة بعد زوال هؤلاء وذهباهم بقرون، في حياتهم الحالية يعنيهم للتذكر وأخذ العبرة أما موعدها فلا يعنيهم، نزول الغيث يعنيهم هم لذلك ذكر ما هو أدل على النعمة فقال (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) قال ينزل بالمضارع لأن هذا يتكرر ويتجدد وكذلك قال (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) لأن هذا متجدد أيضاً الأرحام مستمرة في كل لحظة يحصل ما في الأرحام. ثم إن هذا العلم البعض يقولون أن الناس قد يعلمون علم الأجنة بالسونار وغيره، ليس المقصود فقط علم الجنس ذكر أو أنثى وإنما هذا شيء من العلم، يعلم ما في الأرحام يعلم الجنس وغير ذلك كونه تام أو ناقص، ذكي أو بليغ شقي أو سعيد ما استعداداته البدنية هذه لا يمكن أن يعلم بها أحد فليس المقصود الجنس وإنما الاستعداد الجنسي والنفسي ولون العين أخرس أو غير أخرس وحتى علم الأجنة يعلم فقط عندما يستكمل الجنين ولا يعلمون جنسه عندما يكون علقة ولا يمكن أن يعلموا ما في الأرحام من الآية الأولى وإنما يعلمونه بعد التشكل بينما ربنا تعالى يعلم ما في الأرحام من بدايته والأرحام لا تعني الإنسان فقط وإنما تشمل كل شيئء (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) الرعد) ليس فقط ما يتعلق بالإنسان، ربنا يتكلم عنا يعلم في السموات والأرض (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (4) التغابن). (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) في كل الكرة الأرضية وهو مستمر وليس الجنس فقط وإنما العلم بهذه السعة والشمول والدقة في كل الأحوال على مدى الزمن وفي كل لحظة يحصل فيها الله تعالى فقط يعلم بها.
*(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قصر وحصر أن علم الساعة لله تعالى دون غيره فهل باقي الآية تفيد القصر والحصر أيضاً؟
قسم يقول إذا دخلت (إنّ) ليس بالضرورة تفيد القصر لأنها معطوفة على خبر (إن) وقسم قال كما أنه أفاد القصر في الأول فالمعطوف عليه يفيد القصر أيضاً وقسم قال ليس بالضرورة المعطوف يكون نفس المعطوف عليه، نقول محمد حضر وحضر فلان معه عطف جملة فعلية على جملة إسمية وقد تعطف جملة مؤكدة على جملة غير مؤكدة أو جملة مثبتة على جملة منفية أو العكس: حضر فلان ولم يحضر أخوه، هذا ممكن. ربنا قال تعالى عن نفسه (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) لكن ليس فيها قصر على نفسه فإذن لا غرابة في أن يتحدث أحد يقول نعلم ذكراً أو أنثى لكنه علم ناقص وفي وقت محدد عند الاستكمال. نحن نفهم الآية عامة بهذه الدلالة أن ما في الأرحام في كل لحظة وفي كل الأحوال وهذا لا يمكن أن يكون إلا لله تعالى. ذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ” أجله ورزقه، شقي أو سعيد” هذا لا يعلمه إلا الله تعالى.
(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) تأتي إلى نفس الإشكال إذا كانت تفيد القصر لغة قسم قالوا تفيد وقسم قالوا لا.
هل يستطيع الإنسان أن ينزل الغيث الآن؟ ربنا ينزل الغيث، يسوق السحاب وينزل الغيث، الناس تصلي صلاة الاستسقاء والبلاد الأخرى التي فيها جفاف من ينزل الغيث؟ فلينزلوا غيثهم إذا استطاعوا، الجفاف يأكل الأرض فمن ينزل الغيث إلا الله تعالى فإذن ربنا سبحانه وتعالى هو الذي ينزل الغيث ربنا سبحانه وتعالى هو القادر على ذلك وهو الذي يفعل ذلك إن شاء.
*ما دلالة الترتيب في الآية؟
قبل الترتيب، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا) قسم كان يقول أنا موظف وراتبي محدود فيقول أنا أعلم ما أكسبه اليوم وغداً، أولاً الكسب لا يتعلق بأمور المعاش فقط، المعاش كسب لكن ربنا تعالى ذكر الكسب في الأعمال من الحسنات والسيئات قال (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286) البقرة) (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ (81) البقرة) الكسب قد يكون للقلب (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (225) البقرة) والكسب لليد (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (30) الشورى) فالكسب عام وحتى أصحاب الأجور الثابتة قد يأتيهم ما ليس في البال، بهذا المعنى المطلق لا يمكن أن يعلم أحد ماذا سيكسب غداً لأن الكسب متعلق بالأعمال من حسنات وسيئات وكسب القلب وما إلى ذلك والذي يأتيه من مال. الرزق واحد من معاني الكسب فالكسب عام فلماذا يحدد بشيء واحد؟ ومن يعلم ذلك؟ لا يستطيع أحد أن يعلم ماذا سيكسب غداً وماذا لو توفاه الله؟ (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) هذا مكان الأجل.
حكمة الترتيب في الآية: هو أولاً بدأ بالساعة وهي رأس المغيبات وجعلها بعد قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) هذه الساعة فناسب ذكر ما تقدّم قبلها (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذه الساعة فلما قال عنده علم الساعة ناسب ما قبلها هذا اليوم الذي طلب منا أن نخشاه. هذا أمر ثم ذكر بعد ذكر الساعة تنزيل الغيث (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) وهو أسبق المذكورات بعده وجوداً، بعده ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب أسبقها نزول الغيث، المطر أسبق لأن الإنسان لا يعيش من دون زرع. المطر أسبق المذكورات بعده وجوداً فإذن بدأ بالأسبق هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ربنا تعالى كثيراً ما يستدل في القرآن بنزول الغيث على الساعة (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) ق) إذن صارت مرتبطة بما قبلها، إذن تنزيل الغيث ارتبط بما قبلها وهي الساعة وارتبط بما بعده وهو ما في الأرحام لأن ما في الأرحام يعيشون على الزروع إذن ينزل الغيث له ارتباط بما قبله وما بعده، ارتبط بعلم الساعة أنه تعالى يستدل به على علم الساعة ويستدل به على اليوم الآخر ومرتبط بما بعدها (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) لأن ما في الأرحام كثيراً ما يعيشون على الزروع وما تنبت الأرض سواء كان إنسان أو حيوان ثم ذكر ماذا تكسب غداً هذا بعد الولادة وبعد ما في الأرحام ثم ذكر الموت في الآخر، فإذن رتبها ترتيب أسبقية الوجود والارتباط، فيها إثبات لعلم الله ونفي لما عداه، إثبات لعلم الله (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) ونفي ما عداه (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). ثم ختمها ختمها بقوله (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فأثبت له العلم والخبرة على صفة المبالغة وهذا من اجتماع العلم والخبرة، عليم بالأمور خبير ببواطنها. خبير تضيف إلى عليم.
****عندنا في مزايا اللغة العربية التي لا يمكن التعبير عنها في اللغات الأخرى تعدد أدوات النفي. تقول أنا ما أذهب، أنا لا أذهب، أنا إن أذهب، أنا لست أذهب، كلها تقولها في الإنجليزية I don’t go. (إن أذهب) وردت مثلها في القرآن في قوله (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) الأنبياء) بمعنى نفي (ما). في القرآن قال (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ (9) الأحقاف) نفاها بـ (ما)، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (34) لقمان) قال (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) الطلاق) قال ما أدري وقال إن أدري وقال لا أدري، نفاها كلها. الفرق من حيث الدلالة المعلوم المشهور أنه إذا نفيت الفعل المضارع بـ (ما) دلّ على الحال يعني ما أدري الآن، لا أدري أكثر النحاة يخصصوها للاستقبال لكن قسم من النحاة يقول هي للحال والاستقبال مطلقة وأكثرهم يخصصوها بالاستقبال والزمخشري يقول لا ولن أختان في نفي المستقبل وهذا عليه أكثر النحاة وأنا أميل أنها تكون للحال والاستقبال وأستدل بما استدل به بعض النحاة في القرآن (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ (20) النمل) حال، (أنا لا أفهم ما تقول) حال، (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً (48) البقرة) للاستقبال فهي إذن مطلقة. خاصة هي منتهية بالآلاف والألف حرف مطلق لا يمتد به الصوت فهي ممتدة. (إن أذهب) إن أقوى كما يقول النحاة. (لست أذهب) ليس فيها الكثير أنها تنفي الحال لكن فيها جملة اسمية وفعلية فهي مركبة. (لم أذهب) هذا المضارع، ما ذهبت، لمّا أذهب، إن ذهبت، لست قد ذهبت، كلها نقولها بالإنجليزية I didn’t do صيغة واحدة، (ما) جواب القسم أصلاً، (لمّا) اللام كما بدأ بها سيبويه في باب نفي الفعل قال فعلت نفيه لم أفعل، والله لقد فعل نفيه ما فعل، قد فعل نفيه لمّا يفعل، ليفعلنّ نفيه لا يفعل، سوف يفعل نفيه لن يفعل، هذه النصوص موجودة وكل واحدة لها دلالة.
* هل الله سبحانه وتعالى في حاجة إلى كل هذا التأكيد ونحن نقرّ له بالعلم؟
لأنه قسم يقر له بالعلم وهناك من من لم يقر له بالعلم وإنما هناك من يعبد الحجر وهناك من يعبد الشجر وهناك من يعبد الحيوان وهناك وهناك. فهذا الكلام للجميع. أنت علمت بعد أن علمت من القرآن بعدما أعلمك الله تعالى ولم يكن هناك اختلاف في شيء إلا اختلاف على الله سبحانه وتعالى قسم قالوا (أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) الصافات) وربنا قال تعالى (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) الصافات) يصفونه بأشياء لا ينبغي أن يوصف بها فمن أهمّ الأشياء ينبغي أن نعلم أن ربنا عليم وخبير وقدير وحليم والأسماء الحسنى.
*لماذا حُدد المكان ولم يُحدد الزمان في الآية الأخيرة من سورة لقمان؟
قال تعالى في آخر سورة لقمان (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {34}) وإذا نظرنا إلى سياق الآيات نجد أن الانتقال من أرض إلى أرض والانتقال في الفلك هو السياق ثم بعدها قال تعالى ماذا غشيهم (موج) في قوله (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ {32}) فلما نجاهم إلى البر أي أن كل سياق الآيات تفيد الانتقال من مكان إلى مكان لذا ناسب ذكر المكان في الآية وجاءت بأي أرض تكوت هل في البحر أم في الأرض.
آية (34):
(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34))
يقولون إن هذه الآية الكريمة ذكرت مفاتح الغيب فبدأت بعلم الساعة وهذا أمر اختص الله تعالى به بنفسه لم يطلع عليه أحد قال تعالى (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) الأحزاب) في أكثر من موطن (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) الأعراف) (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) النازعات) فإذن الساعة ربنا اختص بها حتى تركيب الآية (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قدّم الخبر (عنده) على المبتدأ (علم الساعة) والجملة كلها خبر (إنّ) أصلها علم الساعة عنده، هذا التقديم يفيد الاختصاص أي عند الله فقط حصراً تقديم الخبر على المبتدأ إذا كان المبتدأ معرفة يفيد الحصر في الغالب، قدم الخبر على المبتدأ أفادت الاختصاص أي لا يعلمه إلا هو، و(إنما) أداة حصر وأكد الجملة بـ (إنّ) وهو يفيد تأكيد القصر، إذن التقديم والتأكيد يفيد القصر والحصر بأن علم الساعة منتهاه إلى الله تعالى حصراً.
عتقدهم لأن (ما) لغير العاقل لأنهم يدعون غير عاقل ويتخذونه إلهاً.
* ما دلالة العطف في الآية؟
ربنا سبحانه وتعالى استأثر بالعلم والقدرة لأنه أول مرة ذكر علم الساعة (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ثم قال بعدها (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) يعني هو لم يذكر علة نزول الغيث ما قال ويعلم نزول الغيث لكن قال (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) لأن تنزيل الغيث هو الذي يعني العباد وليس العلم به بمعنى تنزيل الغيث هو الذي فيه حياتهم ومعاشهم فإذن هو ذكر ما هو أمس بحياة الناس ونعمة الله عليهم الغيث تتم به مصالحهم وحياتهم فاختار ما هو أدل على النعم قال (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ). علم الساعة بعد زوال هؤلاء وذهباهم بقرون، في حياتهم الحالية يعنيهم للتذكر وأخذ العبرة أما موعدها فلا يعنيهم، نزول الغيث يعنيهم هم لذلك ذكر ما هو أدل على النعمة فقال (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) قال ينزل بالمضارع لأن هذا يتكرر ويتجدد وكذلك قال (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) لأن هذا متجدد أيضاً الأرحام مستمرة في كل لحظة يحصل ما في الأرحام. ثم إن هذا العلم البعض يقولون أن الناس قد يعلمون علم الأجنة بالسونار وغيره، ليس المقصود فقط علم الجنس ذكر أو أنثى وإنما هذا شيء من العلم، يعلم ما في الأرحام يعلم الجنس وغير ذلك كونه تام أو ناقص، ذكي أو بليغ شقي أو سعيد ما استعداداته البدنية هذه لا يمكن أن يعلم بها أحد فليس المقصود الجنس وإنما الاستعداد الجنسي والنفسي ولون العين أخرس أو غير أخرس وحتى علم الأجنة يعلم فقط عندما يستكمل الجنين ولا يعلمون جنسه عندما يكون علقة ولا يمكن أن يعلموا ما في الأرحام من الآية الأولى وإنما يعلمونه بعد التشكل بينما ربنا تعالى يعلم ما في الأرحام من بدايته والأرحام لا تعني الإنسان فقط وإنما تشمل كل شيئء (اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) الرعد) ليس فقط ما يتعلق بالإنسان، ربنا يتكلم عنا يعلم في السموات والأرض (يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (4) التغابن). (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) في كل الكرة الأرضية وهو مستمر وليس الجنس فقط وإنما العلم بهذه السعة والشمول والدقة في كل الأحوال على مدى الزمن وفي كل لحظة يحصل فيها الله تعالى فقط يعلم بها.
*(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) قصر وحصر أن علم الساعة لله تعالى دون غيره فهل باقي الآية تفيد القصر والحصر أيضاً؟
قسم يقول إذا دخلت (إنّ) ليس بالضرورة تفيد القصر لأنها معطوفة على خبر (إن) وقسم قال كما أنه أفاد القصر في الأول فالمعطوف عليه يفيد القصر أيضاً وقسم قال ليس بالضرورة المعطوف يكون نفس المعطوف عليه، نقول محمد حضر وحضر فلان معه عطف جملة فعلية على جملة إسمية وقد تعطف جملة مؤكدة على جملة غير مؤكدة أو جملة مثبتة على جملة منفية أو العكس: حضر فلان ولم يحضر أخوه، هذا ممكن. ربنا قال تعالى عن نفسه (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) لكن ليس فيها قصر على نفسه فإذن لا غرابة في أن يتحدث أحد يقول نعلم ذكراً أو أنثى لكنه علم ناقص وفي وقت محدد عند الاستكمال. نحن نفهم الآية عامة بهذه الدلالة أن ما في الأرحام في كل لحظة وفي كل الأحوال وهذا لا يمكن أن يكون إلا لله تعالى. ذكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ” أجله ورزقه، شقي أو سعيد” هذا لا يعلمه إلا الله تعالى.
(وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) تأتي إلى نفس الإشكال إذا كانت تفيد القصر لغة قسم قالوا تفيد وقسم قالوا لا.
هل يستطيع الإنسان أن ينزل الغيث الآن؟ ربنا ينزل الغيث، يسوق السحاب وينزل الغيث، الناس تصلي صلاة الاستسقاء والبلاد الأخرى التي فيها جفاف من ينزل الغيث؟ فلينزلوا غيثهم إذا استطاعوا، الجفاف يأكل الأرض فمن ينزل الغيث إلا الله تعالى فإذن ربنا سبحانه وتعالى هو الذي ينزل الغيث ربنا سبحانه وتعالى هو القادر على ذلك وهو الذي يفعل ذلك إن شاء.
*ما دلالة الترتيب في الآية؟
قبل الترتيب، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا) قسم كان يقول أنا موظف وراتبي محدود فيقول أنا أعلم ما أكسبه اليوم وغداً، أولاً الكسب لا يتعلق بأمور المعاش فقط، المعاش كسب لكن ربنا تعالى ذكر الكسب في الأعمال من الحسنات والسيئات قال (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286) البقرة) (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ (81) البقرة) الكسب قد يكون للقلب (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (225) البقرة) والكسب لليد (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (30) الشورى) فالكسب عام وحتى أصحاب الأجور الثابتة قد يأتيهم ما ليس في البال، بهذا المعنى المطلق لا يمكن أن يعلم أحد ماذا سيكسب غداً لأن الكسب متعلق بالأعمال من حسنات وسيئات وكسب القلب وما إلى ذلك والذي يأتيه من مال. الرزق واحد من معاني الكسب فالكسب عام فلماذا يحدد بشيء واحد؟ ومن يعلم ذلك؟ لا يستطيع أحد أن يعلم ماذا سيكسب غداً وماذا لو توفاه الله؟ (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) هذا مكان الأجل.
حكمة الترتيب في الآية: هو أولاً بدأ بالساعة وهي رأس المغيبات وجعلها بعد قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا) هذه الساعة فناسب ذكر ما تقدّم قبلها (وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ) هذه الساعة فلما قال عنده علم الساعة ناسب ما قبلها هذا اليوم الذي طلب منا أن نخشاه. هذا أمر ثم ذكر بعد ذكر الساعة تنزيل الغيث (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) وهو أسبق المذكورات بعده وجوداً، بعده ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب أسبقها نزول الغيث، المطر أسبق لأن الإنسان لا يعيش من دون زرع. المطر أسبق المذكورات بعده وجوداً فإذن بدأ بالأسبق هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ربنا تعالى كثيراً ما يستدل في القرآن بنزول الغيث على الساعة (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) ق) إذن صارت مرتبطة بما قبلها، إذن تنزيل الغيث ارتبط بما قبلها وهي الساعة وارتبط بما بعده وهو ما في الأرحام لأن ما في الأرحام يعيشون على الزروع إذن ينزل الغيث له ارتباط بما قبله وما بعده، ارتبط بعلم الساعة أنه تعالى يستدل به على علم الساعة ويستدل به على اليوم الآخر ومرتبط بما بعدها (وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) لأن ما في الأرحام كثيراً ما يعيشون على الزروع وما تنبت الأرض سواء كان إنسان أو حيوان ثم ذكر ماذا تكسب غداً هذا بعد الولادة وبعد ما في الأرحام ثم ذكر الموت في الآخر، فإذن رتبها ترتيب أسبقية الوجود والارتباط، فيها إثبات لعلم الله ونفي لما عداه، إثبات لعلم الله (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) ونفي ما عداه (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). ثم ختمها ختمها بقوله (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فأثبت له العلم والخبرة على صفة المبالغة وهذا من اجتماع العلم والخبرة، عليم بالأمور خبير ببواطنها. خبير تضيف إلى عليم.
****عندنا في مزايا اللغة العربية التي لا يمكن التعبير عنها في اللغات الأخرى تعدد أدوات النفي. تقول أنا ما أذهب، أنا لا أذهب، أنا إن أذهب، أنا لست أذهب، كلها تقولها في الإنجليزية I don’t go. (إن أذهب) وردت مثلها في القرآن في قوله (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (109) الأنبياء) بمعنى نفي (ما). في القرآن قال (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ (9) الأحقاف) نفاها بـ (ما)، (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ (34) لقمان) قال (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) الطلاق) قال ما أدري وقال إن أدري وقال لا أدري، نفاها كلها. الفرق من حيث الدلالة المعلوم المشهور أنه إذا نفيت الفعل المضارع بـ (ما) دلّ على الحال يعني ما أدري الآن، لا أدري أكثر النحاة يخصصوها للاستقبال لكن قسم من النحاة يقول هي للحال والاستقبال مطلقة وأكثرهم يخصصوها بالاستقبال والزمخشري يقول لا ولن أختان في نفي المستقبل وهذا عليه أكثر النحاة وأنا أميل أنها تكون للحال والاستقبال وأستدل بما استدل به بعض النحاة في القرآن (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ (20) النمل) حال، (أنا لا أفهم ما تقول) حال، (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً (48) البقرة) للاستقبال فهي إذن مطلقة. خاصة هي منتهية بالآلاف والألف حرف مطلق لا يمتد به الصوت فهي ممتدة. (إن أذهب) إن أقوى كما يقول النحاة. (لست أذهب) ليس فيها الكثير أنها تنفي الحال لكن فيها جملة اسمية وفعلية فهي مركبة. (لم أذهب) هذا المضارع، ما ذهبت، لمّا أذهب، إن ذهبت، لست قد ذهبت، كلها نقولها بالإنجليزية I didn’t do صيغة واحدة، (ما) جواب القسم أصلاً، (لمّا) اللام كما بدأ بها سيبويه في باب نفي الفعل قال فعلت نفيه لم أفعل، والله لقد فعل نفيه ما فعل، قد فعل نفيه لمّا يفعل، ليفعلنّ نفيه لا يفعل، سوف يفعل نفيه لن يفعل، هذه النصوص موجودة وكل واحدة لها دلالة.
* هل الله سبحانه وتعالى في حاجة إلى كل هذا التأكيد ونحن نقرّ له بالعلم؟
لأنه قسم يقر له بالعلم وهناك من من لم يقر له بالعلم وإنما هناك من يعبد الحجر وهناك من يعبد الشجر وهناك من يعبد الحيوان وهناك وهناك. فهذا الكلام للجميع. أنت علمت بعد أن علمت من القرآن بعدما أعلمك الله تعالى ولم يكن هناك اختلاف في شيء إلا اختلاف على الله سبحانه وتعالى قسم قالوا (أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) الصافات) وربنا قال تعالى (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) الصافات) يصفونه بأشياء لا ينبغي أن يوصف بها فمن أهمّ الأشياء ينبغي أن نعلم أن ربنا عليم وخبير وقدير وحليم والأسماء الحسنى.
*لماذا حُدد المكان ولم يُحدد الزمان في الآية الأخيرة من سورة لقمان؟
قال تعالى في آخر سورة لقمان (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {34}) وإذا نظرنا إلى سياق الآيات نجد أن الانتقال من أرض إلى أرض والانتقال في الفلك هو السياق ثم بعدها قال تعالى ماذا غشيهم (موج) في قوله (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ {32}) فلما نجاهم إلى البر أي أن كل سياق الآيات تفيد الانتقال من مكان إلى مكان لذا ناسب ذكر المكان في الآية وجاءت بأي أرض تكوت هل في البحر أم في الأرض.