سورة يس
*ما دلالة الأحرف المقطعة في القرآن الكريم؟
السورة تبدأ بـ (يس) بالأحرف المقطعة وقيل فيها كلام كثير قال فيها القدماء كلاماً كثيراً ولا أستطيع أن أضيف إلى ما قالوه, وسبق أن ذكرنا في بداية سورة لقمان أنهم يقولون أنها تلفت انتباه السامع تجعله يصغي لما تبدأ بهذه الأحرف التي لم يألفها العرب, تبدأ كلامك بأحرف مقطعة ثم تتكلم, هذه غير مألوفة فتجعلها كأنها وسيلة تشد الذهن للإصغاء ولذلك هم قالوا هي فواتح للتنبيه حتى ينتبه لها السامع. وقسم قالوا هي إشارة إلى حروف المعجم أن الكتاب أُلف من هذه الحروف التي تتكلمون بها وتألفونها لكن جعل ربنا سبحانه تعالى من هذه الأحرف كلاماً معجزاً وأنتم تتكلمون وتحداكم به فهذه إشارة إلى أن هذا الكلام المعجز إنما هو من جنس ما تتكلمون, لكن فعل الله تعالى به كلاماً لا يستطيع أن يتكلم به الإنس والجن وقد أعجزهم. هذا الذي قيل وقيل أكثر من ذلك وهم نظروا في الأحرف المقطعة في القرآن الكريم مثل الزمخشري وحاولوا أن يجدوا لها ظواهر معينة قالوا مثلاً: الأحرف المقطعة مجموعها 14 حرفاً يعني نصف حروف المعجم تشمل أنصاف الحروف يعني من كل نوع تشمل نصفه، يعني هي تشمل نصف الحروف المهموسة (فحثه شخص سكت) وتشمل نصف الحروف المجهورة ونصف الشديدة (أجد قط بكت) ونصف الرخوة ونصف المُطبقة (ص، ض، ط، ظ) ونصف المنفتحة ونصف القلقلة ونصف اللين (الواو والألف) ونصف المستعلية (خص ضغط قظ) ونصف المستفلة ونصف الذلاقة (فر من لب) ونصف حروف الحلق، كلها أنصاف الحروف، نصف حروف المعجم والمستعملة هي أكثر الحروف الدائرة في كلام العرب في الكلام عموماً. ثم قالوا قسم يبدأ بحرف واحد (ن، ق، ص) وقسم حرفين (يس، طه) وقسم ثلاثة (الم، الر) وقسم أربعة (المص، المر) وقسم خمسة (كهيعص، حم عسق) وتنتهي لأن التأليف خمسة، الأسماء الأصلية لا تزيد على خمسة، وحروف المعاني حرف واحد مثل الباء والواو وحروف الجر وعندنا حرفين سواء كان مبنياً أو معرباً مثل أب ومع وغيرها وعندنا حروف وأسماء وعندنا ثلاثة وهي من أكثر الأنواع وعندنا أربعة وعندنا خمسة. ثم نظروا نظرة أخرى وانتبهوا لأمور أخرى قالوا مثلاً: (الم) الألف حرف حلقي واللام لساني (وسطي) والميم شفوي، كل سورة تبدأ بـ (الم) تذكر أول الخلق ووسط الخلق ونهاية الخلق، تدرجت كل سورة بتدرج الحروف قالوا كل سورة تبدأ بهذه الأحرف يجب أن تتعرض لبداية الخلق ووسط الخلق ونهاية الخلق، سورة لقمان، سورة البقرة من خلق آدم إلى التشريعات إلى القيامة. ليس فقط هذا ثم انتبهوا فلاحظوا أن كل السور التي تبدأ بحرف الطاء (طس، طسم، طه) كلها أول ما تبدأ بقصة موسى. (حم) كل السور التي تبدأ بـ (حم) إما تبدأ بتنزيل الكتاب أو القسم به تحديداً (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) )(غافر) ، (حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)) . (فصلت) ، (حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)) ( الشورى) ، (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)) ( الدخان) ، (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) ) (الزخرف) بين التنزيل والقسم (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)) ( الأحقاف)، كلها ملاحظات حاولوا أن ينتبهوا إليها. وقالوا أيضاً : التي تبدأ بالسور تحاول أن تطبع السورة بهذه البداية فقالوا التي تبدأ بالقاف يكثر فيها الكلمات القافية والتي تبدأ بالصاد تكثر فيها الكلمات الصادية فهم حاولوا أن ينظروا إلى هذه الأشياء نظرات كثيرة ثم حاولوا أن يجعلوا منها عبارات وحاولت كل فرقة أن تجعل عبارة مؤيدة لفرقتها منها عبارة (نصٌ حكيم قاطعٌ له سِرّ) وذكروا أموراً أخرى تتعلق بالفِرق والمعتقدات فيصنعون منها عبارات لأنها هي أربعة عشر حرفاً نصف حروف اللغة، هي حروف الزيادة (سألتمونيها) كم جمعوا لها؟ اليوم تنساه، يا أوس هل نمت؟
*هل (يس) اسم للنبي صلى الله عليه وسلم؟
هذا الكلام أثير قديماً أيضاً وليس كلاماً جديداً. هم ذهبوا في (يس) وفي (طه) باعتبار أنهم يرجحون أنها من أسماء الرسول باعتبار قال: (يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)) ،(طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)) هذا الاستدلال غير سديد لأنه لو أخذنا بهذا لكانت (حم (1) عسق (2)) من أسماء الرسول أيضاً ؛لأنه قال بعدها: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)) وتكون (كهيعص) من أسماء الرسول لأنه قال بعدها (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)) (ربك) وتكون (ن) من أسماء الرسول لأنه قال بعدها (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)).
*إذن الربط بين المخاطَب كما جاء في تضعيف الآيات والأحرف المقطعة ليس صواباً؟
العلماء رجحوا أنها كبقية الأحرف المقطعة مثل (الم) وغيرها ولا تدل على أنها أسماء للرسول .
* ما دلالة استعمال وصف الحكيم؟
أولاً ربنا تعالى أقسم بالقرآن قال: (يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2)) القرآن علَم على الكتاب الذي أنزل على الرسول .
*هو يقسم بالكتاب أيضاً، في بعض الأحرف المقطعة التي ذكرتها يأتي بعدها القسم بالقرآن أو بالكتاب؟
الكتاب ليس عَلَماً لكن القرآن عَلَم على هذا، علم يعني اسم كيف أن الإنجيل علم على كتاب أنزل على عيسى (عليه السلام) يعني يحدد مسمى بعينه تعريفه في اللغة ما أُطلِق على اسم بعينه ولم يتناول ما أشبهه، يعني لما تقول هذا محمد أو خالد لا يتناول رجالاً آخرين وإنما علم يتناول ذات معينة أما كلمة رجل عامة، اسم جنس. إذن القرآن علم على الكتاب الذي أنزل على الرسول . هو في الأصل مصدر من قرأ قراءة وقرآناً (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)) ( القيامة) يعني قراءته، مصدر قرأ قراءة وقرآن فهو في الأصل مصدر ثم أطلق علماً على الكتاب (وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ).
*هل له علاقة بالأحرف المقطعة؟
الملاحظ أن قسم تبدأ بالإشارة إلى القرآن سواء عن طريق ذِكره أو عن طريق القسم (ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1)) وكذلك الكتاب قسم تبدأ بالإشارة للكتاب (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) )(البقرة) (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) )(آل عمران) أو قسم به (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) الزخرف) وأحياناً يجمع بينهما كتاب وقرآن مبين. الملاحظ أنه في كلامنا على ما بعد الأحرف المقطعة تحديداً أنه إذا ذكر الكتاب بعد الأحرف المقطعة قَسَماً أو ذِكراً ذكر الكتاب وحده لم يجمعه مع القرآن تتردد لفظ الكتاب ومشتقات الكتابة أكثر من لفظ القرآن في السورة.
مثلاً في سورة البقرة قال (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)) نلاحظ في هذه السورة تتردد لفظة الكتابة ومشتقاتها 47 مرة ولفظ القرآن ما ورد إلا مرة واحدة فقط (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (185)) وهذا لم يتخلف، في آل عمران قال (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) تردد فيها لفظ الكتاب ومشتقاته 33 مرة ولم يرد لفظ القرآن، هذا لم يتخلف في الأعراف ويونس وهود وإبراهيم والشعراء . الذي ورد فيه لفظ القرآن يكون لفظ القرآن يتردد أكثر مثلاً (طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)) لفظ القرآن ورد ثلاث مرات والكتاب مرة واحدة، في سورة ق :(ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1)) ورد لفظ القرآن مرتين والكتاب مرة واحدة فقط ، في سورة ص تعادلا (ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ (1)) لكن (كتاب أنزلناه مبارك) فإذا اجتمع لفظ القرآن والكتاب في بداية السورة مثلاً :(طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1) )(النمل) ذكر الأمرين بعد الأحرف المقطعة يتقارب اللفظان في السورة ويمكن أن يكون الفرق بينهما لفظة واحدة مثل : سورة الحجر (الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1)) الكتاب مرتين القرآن ثلاث مرات متقاربة، الفرق بينهما واحد، النمل (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (1)) القرآن أربع مرات والكتاب خمس مرات، متقاربة. (يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2)) القرآن ورد فيها مرتين ولم يرد فيها لفظ الكتاب، هذا ظاهر الملاحظة. فإذن أحياناً يذكر ربنا تعالى القرآن ومرة الكتاب ومرة يجمع بينهما للدلالة على أنه يُقرأ ويُكتب، كتاب مكتوب في اللوح المحفوظ هناك ومقروء وأيضاً هو مكتوب ومقروء هاهنا.
إذا ذكر الكتاب بعد الأحرف المقطعة تكون السمة الغالبة للسورة ذكر الكتاب فيها وإذا ذكر القرآن تكون السمة الغالبة للسورة ذكر القرآن وإذا ذكرهما معاً يكونان متقاربين من بعضهما البعض بفرق واحد أو اثنين.
*ما دلالة ذكر وصف الحكيم هنا؟
ذكرنا سابقاً أن الحكيم يحتمل عدة معاني يمكن أن تكون كلها مرادة، حكيم قد تكون فعيل بمعنى مفعول محكم حكيم محكم لأن فعيل يأتي بمعنى فعول مثل :أسير مأسور، وقتيل مقتول ، وجريح مجروح ، وحكيم محكم (مفعول به) والمحكم هو الذي لا يتناقض ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وربنا قال (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ (1) )(هود) (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ (7))( آل عمران) إذن من المحتمل أن يكون هذا المعنى مقصود حكيم بمعنى محكم، ما قال محكمات وقال (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) ويمكن أن يكون صاحب حكمة يكون القرآن حكيماً لأنه ذو حكمة متضمن للحكمة متصف بالحكمة إذا كان متصفاً بالحكمة فهو حكيم وإن كان متضمناً للحكمة فهو حكيم يكون الإسناد مجازي حق الإسناد إلى الله لأن ربنا تعالى هو القائل فإذا وصف الكتاب بالحكيم فحقيقة المسألة إسناده إلى الله تعالى, وهذا من باب الإسناد المجازي كما قال ربنا (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97))( هود) هو قال ما الأمر برشيد والمقصود فرعون، فرعون ليس برشيد لما قال (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) إذن صاحبه ليس برشيد ولم يقصد الأمر لأنه صدر عن غير رشيد فيكون الأمر غير رشيد ولو صدر الأمر عن رشيد لكان رشيداً إذن هي متلازمة فلما كان القرآن حكيماً فقائله حكيم. وقد يكون حكيم صيغة مبالغة في الحُكم، الحاكم اسم فاعل والحكيم مبالغة في الحكم. يجوز أن نطلق على الحاكم حكيم إذا كان مكثراً (حكيم صيغة مبالغة على وزن فعيل) فإذن حكيم من الحكم والحاكم فهو هذا القرآن الحكيم العادل القوي الفصل وحكمه يعلو على جميع الأحكام فهو يحكم ويهيمن على غيره لأنه نسخ ما قبله من الأحكام والكتب ثم قال ربنا: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ (48))( المائدة) إذن هو حكيم بهذا المعنى مهيمن في الأحكام ومهيمن على الأحكام كلها ومهيمن على ما سبق من الكتب نسخها ومهيمناً عليها يصدقها أو يكذبها يقول عنها محرفة أو غير محرفة إذن هو مهيمن. إذن جمع بلفظ الحكيم عدة معاني كلها مرادة مطلوبة هو أرادها هكذا أراد أن يجمع هذه المعاني كلها جمع بين الحقيقة والمجاز العقلي والاستعارة ومعاني مختلفة حكيم وحاكم ومحكم وذو حكمة.
(يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2)) هذا قسم جوابه (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)) والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين أقسم بالقرآن على كونه رسولاً من الرسل. إذن هو “والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين”، أثير سؤال من المخاطَب بهذا القسم؟ هل هو يقسم للرسول أو للمكذبين؟ لا شك أنه يبلِّغ الرسول والمقصود من القرآن التبليغ ونشر الدعوة ومخاطبة كثير من المكذبين والمنكرين ودعوتهم للإسلام إذن معناه أنه هو يقسم للمدعوين للمخاطبين يقسم لهم بالقرآن إنك لمن المرسلين. هناك سؤال يقال أن المفروض أن في القسم يتفق المقسِم والمقسَم له على التعظيم المقسِم هو الله تبارك وتعالى والمقسَم له هم المخاطبين يتفقان على تعظيمه حتى يكون القسم؟! لا بد أن يؤمنوا هم بالقرآن ليقسم لهم لكنهم هم لم يؤمنوا فكيف يقسم لهم؟! القوم لا يرون أنه كلام الله ولا يرون أنه رسول فلماذا القسم؟ يقولون القرآن جعله الله تعالى معجزة للرسول فالقرآن هو الدليل الأكبر على رسالته والبرهان الأعظم عليها وقال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51))( العنكبوت) وربنا تعالى سمى القرآن برهان: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ (174) )(النساء) معناه فيه الدليل وتحداهم به أكثر من مرة وصفه بأنه قرآن إذن هو أقسم بما تقوم الحجة عليه لأنهم لو تدبروا هم لم يستطيعوا أن يأتوا بمثله جعل فيه برهان إذن ما فيه من الأدلة على صدق الرسول كافية إذن قال لهم لو تأملتم هذا القرآن فإنه أحكم إحكاماً لا إحكام بعده وفيه الدليل على نبوة الرسول فهو يقسم به لأنه هو الدليل إذن هذا ليس قسماً هكذا وإنما قسم بالبرهان وما فيه من دليل وهذا نستعمله في حياتنا اليومية مثلاً لو شخص أنكر فضل شخص آخر عليه وأنت تعلم أن القميص الذي يلبسه الآن هو من فضله عليه تقول له وحق هذا القميص هو محسن لأنه يعلم أن هذا القميص الذي يلبسه من فلان وأنت تنكر إحسانه القميص الذي أنت تلبسه هو من إحسانه عليك فأنت تقسم بما تقيم عليه الحجة وكأن القسم بالقرآن هنا لأنه هو البرهان وهو المعجزة وقد تحداهم به وقد عجزوا أنتم هذا الذي عجزتم عنه هو هذا أنا أقسم به لأن فيه الدليل وأنه أعجزكم وأنه أفحكم وأنا أقسم بهذا. وهناك أمر آخر القرآن الكريم هو البرهان وهو موضوع الرسالة، البرهان يعني فيه الدليل على نبوة محمد فيه أدلة كثيرة وهو موضوع الرسالة في آن واحد فيه التوحيد وفيه الأحكام لأنه أحياناً تختلف المعجزة عن موضوع الرسالة مثلاً موسى عليه السلام قلب العصى حية أو إخراج اليد بيضاء ليستا موضوع الرسالة، موضوع الرسالة هو الإيمان بالله والتوحيد وإنما هذه هي معجزة لتصديق الرسالة إذن المعجزة اختلفت عن موضوع الرسالة، ناقة صالح ليست موضوع الرسالة هذه معجزة وموضوع الرسالة هي دعوتهم إلى التوحيد (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ (73))( الأعراف) وإخراج الناقة معجزة لتصديق صالح أما القرآن فهو معجزة وهو موضوع الرسالة. كل الأنبياء كانت المعجزة مخالفة للرسالة أما مع سيدنا محمد هو نفسه المعجزة وموضوع الرسالة (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) )(العنكبوت) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ (174) )(النساء) إذن هو المعجزة لأنه تحداهم به وهو موضوع الرسالة فهو جمع الفضلين هو معجزة وهو موضوع الرسالة.
*ما دلالة كل التأكيدات في الآية (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)( يس)؟
ذكرنا في الحلقة الماضية قوله تعالى: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) )(يس) ذكرنا القَسَم بالقرآن وأجاب القَسَم بقوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)، والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين. وذكرنا أن القرآن هو البرهان وهو موضوع الرسالة في آن واحد وليس كبقية الأنبياء تكون المعجزة هي دليل على صحة الرسالة إلقاء العصى حية ليست موضوع الرسالة وإنما موضوع الرسالة التوحيد والتعليمات التي أنزلت إليهم أما القرآن فهو البرهان وهو موضوع الرسالة في آن واحد. يبقى السؤال لماذا أكد (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ)؟ أكّد بـ (إنّ) وباللام (إنك لمن) وأجاب القسم (والقرآن الحكيم إنك) وذلك لشدة إنكار القوم والتوكيد يكون على ما يحتاج إليه المخاطَب هل هو منكر أو غير منكر فقوة هذا الإنكار يؤكد فإن كان لا يحتاج إلى توكيد لا نؤكد وقد نحتاج إلى مؤكد واحد أو أكثر، ربنا تعالى قال: (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6))( يس) هذا أمر ثم قال: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)) هذا أمر، و(وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (9)) ذكر أن الإنذار وعدمه سواء عليهم (وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (10)) إذن الغفلة مستحكمة فاستدعى هذا الزيادة في التوكيد، هذه الأمور كلها تستدعي زيادة في التوكيد فناسب أن يقول (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وأجاب القسم إذن هو مناسب.
*إذا كانوا هم يكذبون بنبوة سيدنا محمد فلماذا لم يقل إنك رسول بدل إنك لمن المرسلين؟
فرق بين إنك رسول وإنك من المرسلين، قوله: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يدل على أنه واحد من جماعة مشتركين في هذا الوصف، أنه واحد منهم واحد من الأنبياء، لو قال إنك رسول هذا إخبار بالصفة بغض النظر إذا كان أحد يشاركه أو لا يشاركه، ذكر صفته التي يكذبونها هم أنه رسول بينما قال: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يعني أنت واحد من جماعة أرسلوا بهذا الأمر. يعني فرق أن تقول هو ناجح أو هو من الناجحين، هو ناجح يعني أنه نجح بغض النظر عما إذا كان هناك ناجح آخر غيره قد لا يكون هناك ناجح غيره بينما من الناجحين يدل على أن هناك من اشتركوا بهذا الوصف، هو ناجح تحتمل أن يكون هو الوحيد الناجح أما هو من الناجحين قطعاً يكون هناك ناجحون آخرون (وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43))( هود) ابن نوح ليس هو المغرَق الوحيد. إذن (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يدل على أنه هو واحد من جماعة وليس بدعاً من الرسل (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ (9) )(الأحقاف) أنا سائر في هذا الطريق كما سار غيري من الأنبياء أنا واحد منهم لست بدعاً.
*ما دلالة ترتيبها مع ما قبلها؟
(يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4)) هذا التعبير من حيث الترتيب النحوي واللغوي يحتمل أمرين: يحتمل أن يكون خبراً بعد خبر والأخبار قد تتعدد (إنك لمن المرسلين وإنك على صراط مستقيم)
أخبروا باثنينِ أو بِأكثَرا عن واحدٍ كَهُم سَراةٌ شُعَرَا
الإخبار يتعدد (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) )(البروج)، فإذن يحتمل أن يكون خبر على خبر يعني: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) كما نقول: إنه من أهل بغداد من أصحاب الثراء. كما يحتمل أن يكون متعلقاً بالمرسَلين يعني إنك على صراط مستقيم متعلق بقوله إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم أرسلت على صراط مستقيم سيكون متعلق بما قبله. إذن يحتمل أن يكون خبر على خبر ويحتمل أن يكون متعلقاً بما قبله يعني أنك من الذين أرسلوا على صراط مستقيم أنت من المرسلين على هذا الأمر على صراط مستقيم. الفرق بين التقديرين من حيث الدلالة لو جعلناه خبر بعد خبر كان يمكن الاستغناء بأحد الخبرين (إنك لمن المرسلين) وتكون جملة تامة لكن أنه على صراط مستقيم أنه من المرسلين إذن لا يجوز الاستغناء عن (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). إذن لو جعلناه خبر بعد خبر يحتمل أن نستغني بواحد فنقول: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أو إنك (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) والمعنى تام. إذن يحتمل أن نكتفي بأحد الخبرين والمعنى تام بما نريد نحن. وربنا قال في موطن آخر اكتفى (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) )(البقرة) لم يقل على صراط مستقيم، أو قد يكتفي بـ (إنك على صراط مستقيم) (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) )(الزخرف) هذا إذا جعلناه خبراً أما إذا جعلناه متعلقاً لا يصح ولا يكتفي يجب أن يكون متعلق به ويذكر الأمران معاً إذن كل تقدير له دلالة، لو جعلناه خبر يمكن أن نكتفي ماذا يريد المتكلم أن يقول؟ إذا أراد أن يكتفي بذلك قال: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أو أراد أن يكتفي بأنه على صراط مستقيم يقول (على صراط مستقيم) وإذا أراد الارتباط والتعلق ليس له أن يقول ذلك. تقول أنت من المرسلين إلى أوروبا، أنت من المرسلين بهذه الرسالة، أنت من المرسلين على نفقة الدولة مرتبط بها إذا قدرناه على أنه مرتبط لا يكتفي ولا بد أن نذكره وإلا يختل، إذن لو جعلناه خبر بعد خبر يصح الاكتفاء، ولو أراد التعلّق لا يكتفي، لا يصح لأنه أراد أن يربط هذا بذاك يتعلق به فلا يكتفي.
*إذن ليس لنا أن نحدد دلالة معينة أو وجهة سياقية محددة؟
نقول احتمال والتركيب يحتمل وهناك كثير من التعبيرات الاحتمالية في اللغة العربية.
*وبهذا الخصوص مرة يقول تعالى: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) و(عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) لماذا جمع الاثنين هنا مع أنهما وردتا في القرآن متفرقتين؟
هو بحسب السياق الذي ترد فيه لو قال: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) واكتفى دل على أنه على صراط مستقيم تضمناً لا تصريحاً، لو قال: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وسكت يحتمل جملة أمور وجملة معاني يحتمل أنه على صراط مستقيم لأن المرسل أكيد يكون على صراط مستقيم لكن متضمن يشمل أموراً أخرى يحتمل أنه صادق بما يأمر به ومحتمل أنه يأمر بالخير ومحتمل أنه مجرد الإخبار أنه من المرسلين، لا يريد له معنى متضمن فقوله (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) حدد أمراً معيناً يريده المتكلِّم لم يجعل ذلك للذهن واحتمالات كثيرة هو عندما يقصد إلى أمر معين يذكره عندما يقصد العموم يعمم كما هو شأن العموم والخصوص. أما لو قال (إنك على صراط مستقيم) وسكت كما قال في (الزخرف) لا يدل على أنه من المرسلين. السؤال إذن لماذا اكتفى في موطن (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وفي موطن (إنك عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)؟ لو وضعنا الآيات في سياقها يتضح الجواب: في البقرة قال: (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) )(البقرة)، في الزخرف قال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43))( الزخرف). نضع كل واحدة في سياقها: في البقرة التي لم يذكر على صراط مستقيم هذه أصلاً لم نر فيها ذكراً للدعوة، السياق ليس فيه ذكر للدعوة والدعوة هي صراط مستقيم، وردت في سياق القصص القرآني ذكرها في سياق قصة طالوت وجالوت وقسم من الأنبياء أيضاً، عندما ذكر قصة طالوت وجالوت وذكر قسماً من الأنبياء قال: (تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) )(البقرة) يعني أراد أن يُخبر أن هذا دليل على إثبات نبوته بإخباره عما لم يعلم من أخبار الماضي، قصة لم يعلمها لا هو ولا قومه فأجراها على لسانه أخبر بها أعلمه بها الله سبحانه وتعالى، فإذن لما ذكر هذه القصة التي لا يعلمها قومه ولا يعلمها هو فأجراها على لسانه هذا يدل على رسالته. كما ذكر تعقيباً في قصة نوح لما قال له: (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) )(هود) الله تعالى أعلمه، فيها دلالة على كونه مرسَلاً من قِبَل الله سبحانه وتعالى يعني هذه دليل على إثبات نبوته ورسالته، في قصة يوسف (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ (102)) وهذه مثل تلك، يعني هذه هي البرهان, والدليل على أنه مرسَل من المرسلين لم يقل على صراط مستقيم هي ليست في سياق الدعوة وإنما في سياق إثبات نبوته. آية الزخرف هي في سياق الدعوة إلى الله وفي هداية الخلق (أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (40) الزخرف) هو مكلَّف إذن بالهداية (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) )(الزخرف) إذن الكلام في سياق الدعوة. ثم لاحظ عندما قال: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) يعني إنك لمن المرسلين إذن هو جمع الاثنين جمع الرسالة: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) وقال: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا) من قبلك يعني أنت بعدهم فأنت واحد منهم. إذن هو جمع الأمرين هنا ولكن بشكل آخر وذكر الدعوة إلى الله لأنه في سياق الدعوة فذكر (إنك عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) ثم وصف الصراط أنه مستقيم وليس الصراط يعني مستقيم الصراط هو الطريق الواسع (أصلها سراط (بالسين) من سرط بمعنى بلع لأنه يبلع السابلة لأنه ضخم ولذلك قسم يسموه لَقْم لأنه يلتقمهم) مستقيم وصف آخر للصراط (فاهدوهم إلى صراط الجحيم).
*نفهم مستقيم لا اعوجاج فيه؟
صراط الجحيم يعني طريق الجحيم، هذا المستقيم الصراط هو الطريق الواسع والمستقيم وصف آخر للصراط، المستقيم هو أقرب الطرق الموصِلة إلى المراد أيّاً كان هذا المراد فهو أقرب الطرق إليه فليس هنالك أقرب منه طريق قويم ومستقيم وأقصر الطرق الموصلة إلى المراد ولا يحمل إيجاباً أو سلباً أو وصفاً طيباً أو غير طيب. المستقيم الاستقامة :أنه الطريق المستقيم القويم التي توصلك إلى المطلوب بأقصر طريق وأقرب وأيسر طريق.
(فاستقم) استقم معناها كن معتدل الأمر لا تمل إلى الباطل أو كذا ما أراد ربنا من الأمور القويمة.
*ما دلالة تقديم (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) على (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)؟
التقديم له عدة أمور: أولاً: كونه من المرسلين هو أفضل من كونه على صراط مستقيم لأن كونه نبي يتضمن أنه على صراط مستقيم، هو مرسل ونبي وهو أيضاً متضمن تضمناً أنه على صراط مستقيم لكن لو قال على صراط مستقيم أولاً لا يدل على أنه نبي، إذن هذا يتضمن. ثم هذا من تقديم السبب على المسبَب هو كان على صراط مستقيم بسبب أنه نبي فالرسالة سبب في كونه على صراط مستقيم، إذن هذا بتقديم السبب. ثم ذكرنا أنه أمر آخر لما قدّم: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) يمكن أن نعلق به (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) لو أخرناه لا نستطيع أن نعلّق فتعطي توسعاً في المعنى أكثر.
*إذن في القرآن الكريم ليست هناك كلمة زائدة أو تعبير زائد؟
طبعاً لا يمكن. (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) و (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) كل واحدة وردت في موطن بينما وردت في يس معاً كل واحدة في سياقها: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) في سورة البقرة في سياق إثبات الرسالة وليست في سياق الدعوة بينما في الزخرف في سياق الدعوة ثم ذكر أنه رسول: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ).
*نقرأ في بعض الكتب أن هذا حرف جر زائد فما مفهوم الزيادة في القرآن الكريم؟
فرق بين كونه زيادة أو مصطلح. هذا مصطلح لأنه لما يكون حرف زائد يعني المعنى العام يبقى نفسه ولو حذف مع زيادة التوكيد هم يقولون أن الحرف الزائد يفيد توكيداً في الغالب، يعني ليس ممكناً أن تطرحه هكذا وليس له فائدة، الحروف الزائدة من المؤكدات وقد تكون لأسباب أخرى وعندهم أمور أخرى يسموها زيادة تزيينية أو دلالة أخرى، يقولون الزيادة بين العامل والمعمول لكن لو أسقطه لبقي المعنى العام هو هو (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46))( فصلت) لو حذفنا الباء يبقى المعنى العام هو هو أن الله لا يظلم أحداً وإنما جيء بها للزيادة في التوكيد. قسم من القدامى يسمونه حرف صلة تصل ما بعدها بما قبلها. هنا فرق بين ما يقصده النُحاة من الزيادة لأن هذا مصطلح عندهم وقد قالوا: (لا مشاحّة في الاصطلاح) هذا مصطلح وبين ما يقصده آخر من زيادة في القرآن النحاة لم يقولوا أنه زيادة هكذا ليس له فائدة وإنما يقولون: حرف زائد هذا مصطلح نحوي لا يعني أنك ترميه وليس له فائدة وإنما الزيادة لغرض التوكيد والمعنى العام هو ما جيء به بين العامل والمعمول ولو حذف لبقي دلالة الكلام واحدة مع زيادة في التوكيد كما تدخل (إنّ) على الكلام تقول: محمد قادم وإنّ محمداً قادم نفس الدلالة لكن زاد التوكيد فهذه مثلها.
*ما معنى لا مشاحّة في الاصطلاح؟
يعني لا مجادلة, قلنا: هذا مصطلح لا نقصد به المعنى اللغوي. مشاحّة يعني : مجادلة يعني : لا مجادلة هذا مصطلح فيه سعة.
آية (5): (تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ )
أولاً: الكلام عن القرآن، بعد أن عظّم القرآن بأن أقسم به: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)) هذا إذن تعظيم، قسم ووصفه بالحكمة، بعد أن فعل هذا بالتعظيم وبالقسم به ووصفه بالحكمة عظمه بإضافته إلى ذاته (تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) ليس كل كتاب فيه حكمة تنزيل العزيز الرحيم، إذن هو عظّمه بإضافته إلى ذاته العلية. نلاحظ أن الكتاب يعظم من ناحيتين، أي كتاب يأتي يعظم من ناحيتين : أولاً من حيث ما أودع فيه فإذا كان مضمونه عظيماً فهو عظيم وإذا كان غير ذلك فهو غير ذلك هذا يسموه تعظيم لذاته، ثم تعظيم من حيث مرسِله، من أرسله؟ ترسل كتاباً إلى واحد في دائرة رسمية قد يكون الكتاب ليس بذي قيمة فحواه لكن إذا كان المرسِل ذا قيمة بالغ الأهمية يكتسب الكتاب قيمة من المرسِل. إذن هناك أمران لتعظيم الكتاب من حيث ذاته ومن حيث مرسِله. ثم إن المرسِل صاحب الكتاب الذي أرسله إما أن يكون مرهوباً مخوفاً ذا قوة أو أن يُرجى خيره ويُطمع في نعمته وإما أن يكون مخوفاً محذوراً يُحذر وإما أن يكون عنده خير كثير يُنعِم به على الآخرين ففي الحالتين العظمة تصدر من هذا الكتاب لما قال: (تنزيل) جمع بين الترغيب والترهيب، الترهيب في (العزيز) العزة والترغيب في (الرحيم) في رحمته بالآخرين وليس متجبراً إذن فخّم الكتاب وعظّمه من ناحيتين من حيث ذاته وما فيه من الحكمة (حكيم) وعظّمه من حيث مرسِله بصفتي العزيز الرحيم ولذلك جمع بينهما.
*ألا يعطي عدم الجمع بينهما نفس الدلالة؟
لا, فالعزيز ليس بالضرورة رحيماً والرحيم ليس بالضرورة عزيزاً عنده مال وأشياء أخرى وليس بالضرورة أنه قوي أو أنه صاحب جيش. في الجمع بين العزيز الرحيم دلالة معينة ؛ القوة وهي مصدر الرهبة والنِعمة والخير والإفاضة على الآخرين مصدر الرحمة. وهناك أمر آخر وهو التعظيم بدليل كلمة (تنزيل) تنزيل أنه في مكان عالي محفوظ، التنزيل يكون من علو وإلا كيف تكون تنزيلاً؟ الكتاب إذا لما كان ثمينا حُفِظ في مكان أمين لا تمسه الأيدي ولا يعبث به العابثون فأشار أنه نزل إلى رسوله تنزيلاً فهو في مكان مرتفع في مكان عالي لا تمسه الأيدي (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212))( الشعراء) في مكان عال إذن نزّله. القرآن عُظِّم من أكثر من ناحية أولاً القسم به (والقرآن) ووصفه بأنه حكيم وأنه في مكان عال, وأضافه الله إلى ذاته باسمي العزيز الرحيم للترغيب والترهيب. إذن جمع كل ما يفيد التعظيم من حيث دلالته ومن حيث صفاته ومن حيث مرسِله ومن حيث مكانه والقسم به، الذات والمرسِل والصفة والمكان جمع فيه كل أمور التعظيم.
(تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)) شرعنا في ذكر هذه الآية وبيان قسم مما فيها وهو قوله: (تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)) ذكر القرآن :(وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)). وذكرنا أن فيها إشارة إلى تعظيم القرآن من عدة نواحٍ هي: القسم به ، و (والقرآن) ثم وصفه بأنه حكيم (الحكيم) ثم (تنزيل) معناه أنه في مكان عالٍ وأضافه إلى نفسه بوصفين العزيز والرحيم, وهذان الوصفان ينبئان عن الترغيب والترهيب ؛ فالعزيز فيه ترهيب ما فيه من عزة وقوة والرحيم فيه ترغيب. اختيار العزيز الرحيم فيه أكثر من دلالة في السورة، لا شك أن العزيز هو الغالب، لكن الملاحظ أن هذه السورة طُبعت بطابع هذين الاسمين الكريمين ؛ فالجو العام للسورة جو يشيع فيه ذكر العزة والرحمة، العزة تظهر في نصر أوليائه ومحق أعدائه ، وهو أهلك أصحاب القرية بصيحة واحدة في ذكر القرية التي كذبت :(إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)) هذه عزة، وذكر أن آلهتهم التي يعبدونها من دون الله لا تغني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون إن أرادها الرحمن بضُّر (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)) ليس لها وجاهة ولا قوة لأن الشفيع له وجاهة وإلا كيف يشفع عند واحد؟! لا تغني شفاعتهم شيئاً يعني ليس لها وجاهة. الآلهة لو اجتمعت لا تغني شيئاً عند صاحب العزة ولا تنفع شفاعتها عنده ولا ينجّونهم إذن كيف تكون العزة؟! وما قيمة هذه الآلهة؟! مع اجتماعها ليس لها وجاهة ولا قوة، هذا عزيز. ذكر أنه إن شاء أغرقهم فلا معين لهم ولا يتمكن أحد من إنقاذهم إلا إذا أراد هو (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)) لا صريخ لهم يعني لا معين لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا هذا فيه عزة (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا (44)) فيها رحمة. ذكر أنه تأخذهم صيحة واحدة تأخذهم جميعاً فلا يبقى منهم أحد ويجمعهم بصيحة واحدة، يأخذهم جميعاً بصيحة واحدة ويجمعهم بصيحة واحدة قال: (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)) ثم قال: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)) فهل هناك أعظم من هذه العزة؟! ذكر أنه لو شاء نطمس على أعينهم أو يمسخهم على مكانتهم فلا يستطيعون مضياً ولا يرجعون (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)) المسخ يعني يجعلهم على حالة يحوّلهم، المسخ التحويل يمسخه يجعله إلى شيء جامد أو حجر يحوّله تماماً. ذكر أن أمره بكلمة واحدة ينفذ في الجميع يفعل ما يشاء ويكون ما يريد (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)) هذه العزة ظاهرة واضحة في جميع السورة. والرحمة أيضاً واضحة مترددة في السورة تتردد كثيراً، الرحمة ومقتضيات الرحمة (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)) (وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ (11)) (وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ (15)) (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ (23)) (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)) (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)) (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)) (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)) ثم ذكر عدد من مظاهر الرحمة، من مظاهر الرحمة التي شاعت في السورة أو ذكرها في السورة ما جعل في الأرض لعباده من جنات وأنهار وما أخرج منها من حبوب يأكلون منها قال: (وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)) وأنه حمل ذريتهم في الفلك المشحون وخلق لهم من مثله ما يركبون (وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)) خلق لهم أنعاماً فهم لها مالكون وذللها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، لهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73))، كيف تكون مظاهر الرحمة؟ جعل لهم من الشجر الأخضر ناراً (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80))، أرسل رسلاً فحذّرهم من عبادة الشيطان وهداهم الصراط المستقيم، هذه كلها من مظاهر الرحمة. إذن شاع مظاهر هذين الاسمين ومقتضياتهما في السورة كثيرة (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)). حتى هذان الاسمان لهما علاقة بالآية التي بعدها ليس فقط بجو السورة، هو قال بعدها (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)). الملاحظ أنه سبحانه وتعالى يذكر هذين الاسمين بعد إنزال العقوبات بالأقوام الآخرين قال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) هذه في الشعراء عندما يذكر كل رسول ويعاقب أقوامهم يقول: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) بعد ذكر كل عقوبة في الأقوام يقول العزيز الرحيم، قوم نوح قوم شعيب، كلهم وراءها يقول: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) يعني (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)) وقال: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ). (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)) تنزيل العزيز الرحيم بما بعدها (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)) هذا ترابط. حتى لما ذكر أهل مكة في سورة الشعراء لما قال: (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)) ثماني مرات تكررت في السورة ذكر هذين الاسمين بعد العذاب (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) كقوله تعالى: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)). من مقتضيات العزة أن يعزّ المؤمنين وينصرهم وتكون العزة في حق المؤمنين نصراً وتأييداً وفي حق الكافرين محقاً وهلاكاً، مقتضيات الرحيم أن يرحم المؤمنين ويكرمهم وأن يقيم الحجة على الكافرين لا يعذبهم بدون إقامة الحجة عليهم يعني يبين لهم الحجة الواضحة ويهديهم إلى الصراط المستقيم حتى تقوم عليهم الحجة ثم يعذبهم بعد ذلك هذا من رحمته تعالى لا يعذبهم هكذا بدون إقامة حجة.
نلاحظ أنه ذكر ثلاثة أسماء له سبحانه وتعالى واحداً بالتضمّن وهو الحكيم (يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2)) وصف القرآن بالحكيم فصاحبه حكيم لأن قائل الحكمة هو حكيم، وآخران بالتصريح (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)). إذن واحداً بالتضمين وهو الحكيم وآخران بالتصريح وهما العزيز الرحيم. كمال الاتصاف بهذين الاسمين أن العزيز الرحيم أن تكون الحكمة معهما، العزيز الغالب والرحيم فيه رأفه فكمال الاتصاف أن تكون معهما الحكمة يعني العزيز لا بد أيضاً من تمام الحكمة ولا بد أن تجتمع فالعزيز إذا لم يكن حكيماً يكون متهوراً وإذا لم يكن رحيماً تكون وبالاً على جماعته إذن الحكمة بمثابة الضابط للعزة والرحمة فهو عزيز رحيم بحكمة. الرحمة من دون عزّة ضعف ومن دون حكمة نقص، إذن هذه الصفات يكمل بعضها بعضاً. لا خير في رحمة من دون عزة ولا حكمة ولا خير في عزة من دون حكمة ولا رحمة ولا خير في حُكم (حكيم) من دون عزة ولا رحمة. حكيم تجمع الحكم والحكمة، إذن من متطلبات الحُكم أن يكون فيه عزة ورحمة. إذن هذه أكمل ارتباط وأكمل اتصال. إذن العزيز الرحيم والحكيم هو كمال الاتصاف ولا يصح إفراد إحداهما على الأخرى وإلا يكون نقصاً أو عيباً أو تهوراً وضعفاً لأن الرحمة من دون عزة ضعف والرحمة من دون حكمة نقص لأنه لا يعرف أين يضعها وكيف يضعها قد يضعها في غير مكانها وأحياناً الرحيم يحتاج إلى القوة والشدة ينبغي أن يضعها في مكانها الرحيم ينبغي أن يكون حكيماً فيعلم أين يضع هذه الرحمة.
آية (6):
(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6))
(لتنذر) هذه اللام حرف جر وما بعدها منصوب، هذه لام التعليل هي حرف جر وكل لام تنصب المضارع هي حرف جر، كل لام ينتصب بعدها المضارع هي حرف جر لأن النصب بـ (أن) المضمرة بعدها فيكون مصدراً مأولاً (لأن تنذر) فحذف (أن) وكل لام ينتصب بعدها مضارع هي حرف جر هذا عند الجمهور لأن النصب سيكون بتقدير (أن) وأن مصدرية يكون مصد مأول مجرور باللام. الفعل هنا ليس منصوباً باللام وإنما بـ (أن) مضمرة، (أن) والفعل مصدر مجرور باللام إذن هذه اللام حرف جر وكل لام ينتصب بعدها المضارع هي حرف جر هذه قاعدة سواء كان الإضمار واجباً أو جائزاً. إذن أصبح عندنا الآن جار ومجرور، هذا الجار والمجرور متعلق بشيء إما متعلق بنزّل أو تنزيل يعني نزّله لتنذر، أو تنزيل العزيز الرحيم لتنذر، أو بالفعل المحذوف (تنزيل) نعربه مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نُزِّل تنزيل العزيز الرحيم اللام إما متعلقة بالمصدر أو بالفعل المقدر ويجوز الوجهان. أو يمكن الاحتمال أن يكون متعلقاً بالمرسلين (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)) لماذا أُرسِل؟ لينذر قوماً. إذن فيها احتمالان أنه نُزِّل لينذر وأنت من المرسلين لتنذر، ليست هناك قرينة سياقية تحدد معيناً لأن القرآن أُنزل لينذر والرسول ليُنذر، لماذا أنزل القرآن؟ لينذر، ولماذا أرسل الرسول؟ لينذر، لا نحتاج لقرينة سياقية، هذا توسع في المعنى. الخطاب في الآية للرسول : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)). إذن إما من المرسلين لتنذر وإما أنزل لينذر. و(ما) نافية: (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)) يعني لم ينذر آباؤهم فهم غافلون.
*من هم الغافلون؟
هؤلاء القوم المنذَرين ما أنذر آباؤهم، آباؤهم عبدة أصنام
*ألم يكن لديهم نبي؟
أقرب واحد هو سيدنا عيسى وبينه وبين الرسول خمسة قرون هؤلاء سموهم أهل الفترة ثم عيسى جاء لبني إسرائيل قسم من العرب كان له علاقة معهم ولم يبعث للعرب تحديداً فهم غافلون.
*غافلون عن ماذا؟
غافلون عن الدين الحق، ربنا تعالى قال للرسول : (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3))( يوسف) هذا قبل أن تأتيه النبوة الغفلة عن الحق وعن الطريق المستقيم ليس كوصف عام لأن هذا هو المقصود ما يتعلق بالشريعة الحقة الطريق المستقيم الذي يريده ربنا، من أين يعلم هذا الشيء؟
*إذن (لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)) لا نأخذها على مدار السب والقذف لكنها توصيف حالة بأنهم غافلون عن طريق الله.
لا شك هم غافلون عن الشرائع الحقة التي أنزلها ربنا وهي متضمنة في قوله: (لِتُنْذِرَ) يعني :هم غافلون عن هذا النذير الذي أتى به سيدنا محمد حتى يذكرهم ويهديهم إلى الطريق لأنهم غافلون عن هذه الطريق لا يعلمون. إذن سبب الغفلة أنهم لم يُنذر آباؤهم، هذا سبب الغفلة عاشوا على ما عاش عليه الآباء وهم لم يُنذروا هم قالوا: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) )(الزخرف) لم يُنذروا. هذا أرجح قول وقسم ذهب أن (ما) اسم موصول أو مصدرية وهذا يحتاج إلى تكلّف كثير هذا يعني أهل اللغة ولا يعني المشاهدين كثيراً. (ما) اسم موصول بمعنى الذي أي الذي أنذر آباؤهم، قالوا: لتنذر آباؤهم يعني :الذي أنذر آباؤهم الأقدمون إسماعيل لكنهم غفلوا فهم غافلون يعني: نفس الإنذار الذي أنذر به آباؤهم الأولون لكنهم غافلون, كما تقول انصح فلاناً كما نصحت أباه فإنه غافل عن ذلك، الغفلة هنا يقصد بها القوم وأنا أميل أن (ما) نافية.
آية (7):
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7))
* ما معنى حق القول؟
حق القول في القرآن معناه ثبت لهم العذاب. القول هو قوله تعالى :(وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13))( السجدة). كلمة حق القول إشارة إلى حق القول مني. الذي ورد في القرآن الكريم طبعاً عموم النحاة كلهم يذكرون أن حق القول المقصود به :(وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) )(السجدة) أو قَالَ: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) )(ص) حق القول في القرآن الكريم وكذلك حقت الكلمة لم ترد إلا في ثبوت العذاب هذا يمتد في جميع القرآن استقصاء بإلا بمعنى وجب لهم العذاب أو ثبت لهم العذاب مثال :(قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63))( القصص) (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25))( فصلت) (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) )(الأحقاف) (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) )(السجدة) (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) )(يس) (لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) )(يس) (فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) )(الصافات) (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ (19) )(الزمر) (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) )(الزمر) (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) )(غافر) (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97))( يونس) (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33) )(يونس) كلها لم ترد في القرآن إلا بهذا المعنى وهذه الدلالة، حق القول أو حقت الكلمة لم ترد إلا بهذه الدلالة.
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)) ذكرنا في الآية الكريمة معنى حق القول قلنا :أنه ثبت لهم العذاب ووجب لهم العذاب كما في (حقت كلمة ربك) كما ذكرنا في حينها، وقال: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)) ما قال :فهم لم يؤمنوا ولم يقل: فهم غير مؤمنين، فهم لا يؤمنون يعني في المستقبل، حق القول ثبت العذاب أنهم لا يؤمنون طالما ثبت العذاب عليهم وحقّ ووجب ولو آمنوا في المستقبل لما حق القول، وهذا ما حصل فإن أكثرهم لم يؤمنوا.
* ربنا يستشهد بعضهم هنا أن الإنسان لا دخل له؟
ليس للإنسان، هو يتكلم عن كفار قريش عن فئة محددة :(لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)) الكلام إخبار عن أمر معين في مجموعة معينة في قريش وهذا ما حصل فإن أكثرهم لم يؤمنوا وهذا يعتبر إعجازاً لأنه إخبار بشيء قبل حصوله وحصل وهذا يؤيد جانب النبي ونبوّته لأنه لو آمن أكثرهم لكُذِّبت هذه الآية، هو ما قال : فهم لم يؤمنوا هذا كلام عن الماضي لم يؤمن ولكن قد يؤمن في المستقبل، لم يقل: فهم غير مؤمنين الإخبار عن لحال غير مؤمنين في الحال لكن قد يؤمنون في المستقبل وإنما قال: (فهم لا يؤمنون) إذن هو إخبار (لقد) لام القسم وجواب القسم وقد للتحقيق (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)) يعني : هذا الأمر مفروغ منه، هذا الأمر مقسم عليه وهذا إخبار بالغيب قبل وقوعه وهذا من الأدلة الكثيرة على صدق الرسول . وقال :(أكثرهم) للدقة لأن قسم منهم آمنوا وهم قِلّة.
* ما اللمسة البيانية في تقديم القول على الجار والمجرور في هذه الآية مع أنه في موطن آخر عكس الترتيب قال (لقد حق عليهم القول)؟
في آية سورة يس قدّم القول على الجار والمجرور (أكثرهم) وفي مواطن أخرى قدّم الجار والمجرور فقال : (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ (25))( فصلت) (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) )(يونس) التقديم والتأخير كما هو مقرر في علم البلاغة حسب العناية، السياق، ما كانت العناية به أكثر هو مدار التقديم والتأخير عليه، يقدم ما كان مدار العناية إذا كان الاهتمام بالقول أكثر قدم القول وإذا كان الاهتمام بمن حق عليهم القول أكثر يقدم من حق عليهم القول (عليهم). إذن إذا كان الاهتمام بالقول يقدم القول وإذا كان الاهتمام بمن حق عليهم القول بالأشخاص، بالمجموعة يقدّم (عليهم). مثال: قال تعالى (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) )(فصلت) قدّم (عليهم) من حق عليهم القول لأن سياق الناس فيمن حق عليهم القول الأقوام الذين حق عليهم القول الكلام على أعداء الله ابتداءً في عشر آيات في هذا السياق من الآيات 19 إلى 29 في سورة فصلت (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) ) الكلام كله عمن حق عليهم القول (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)) كل الكلام على أعداء الله وليس هناك كلام عن القول أو من قال: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)) إلى أن يقول: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)) السياق كله فيمن حق عليهم القول، في أعداء الله إذن ناسب تقديم (عليهم). في حين قال :(كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33) )(يونس) قدم (كلمة) على الجار والمجرور لأن الاهتمام ليس منصرفاً إلى هؤلاء وإنما الكلام على الله صاحب الكلمة ونعمه واستحقاقه للعبادة فناسب تقديم (كلمة) نذكر السياق : (فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)) الكلام عن الله سبحانه وتعالى (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)) الكلام عن الله فذكر كلمته: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)) فلما كان الكلام عن الله واستحقاقه للعبادة قدّم (كلمة) ولما كان الكلام على أعداء الله قدّمهم.
في آية يس: (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)) قدّم القول لأنه لم يقل فيهم إلا (فَهُمْ غَافِلُونَ (6)) والباقي كله ما يفعله الله يعني استحقاق هذه الكلمة أنه جعل في أعناقهم وجعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً، فِعْل ربنا بما تستحقه الكلمة فإذن كل تعبير في مكانه المناسب. حقّ القول يعني ثبت لهم العذاب.
* قد يقول قائل حتى في اللغة خارج القرآن محمد بالداخل أو بالداخل محمد، المهم أن محمد بالداخل فما الفرق بين السياقين؟
من الناحية البلاغية أو من مجرد الإفهام العام؟ أنا لو أخطئ في اللغة الآن وأقول حضر محمداً ومحمد حضر فتقول لو قلت محمدٌ!. إذن لا بد أولاً أن تجري على سنن اللغة وليس على مجرد الإفهام العام. حضر محمداً لا تصير على هذا، لا يجوز مع أن السامع يفهم المقصود أن محمد حضر.
* خرق الثوبُ المسمارَ، هذا شاهد نحوي؟
عند بعض أهل اللغة هذه لا تقال إلا فيما يتضح فيه الفاعل قطعاً، عند أمن اللبس، (ورد الحوضُ الفرسَ) عند أولئك يجوز هذه لغة خاصة العرب لم يستعملوها وإنما استعملها قوم من العرب قِلّة ولم يستعملوها إلا فيما أُمن فيه اللبس فقط ما استعملوا أكرم محمد خالد.
* عندما نقول ضرب موسى عيسى فمن الذي ضرب؟
هنا يجب تقديم الفاعل إذا لم يتبين الفاعل من المفعول التزم تقديم الفاعل وتأخير المفعول هذه قاعدة، هذا من حيث اللغة. “أكرم أخي صديقي” من الذي أكرم؟ المقدّم قطعاً هو الفاعل.
من حيث الدلالة اللغوية الحقيقية أما أن يتكلم كلاماً هكذا، محمد في الداخل هذا إخبار والمخاطَب خال الذهن لا يعلم أين محمد، في الداخل محمد هو يظن أنه ليس في الداخل وإنما في مكان آخر، هذا جواب لسؤال أين محمد؟ محمدٌ في الداخل هو يسأل عن مكانه فقدّم المكان. أين محمد؟ محمد في الداخل، ذاك إخبار أولي تخبره إخباراً. في الداخل محمد قد يظن أنه في المدرسة وليس في داخل البيت قد يظن أنه في السوق، إذا كان المبتدأ معرفة أما إذا كان نكرة فيجب تقديم الجار والمجرور (ولا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تفد).
* إذن يمكن أن نستقرئ مسرح الحالة من خلال الكلمات المكتوبة؟ نستقرأ حال التصور الذهني للمتحدثين والمخاطبين من خلال ما قيل من كلام؟ وعلى هذا النحو جاء القرآن الكريم يقدم ويؤخر؟
وعلى هذا النحو جاء القرآن الكريم لأن هذا من الناحية البلاغية تغني عن النغمة الصوتية لأن أحياناً النغمة الصوتية تؤدي معنى معيناً. من عناصر الجملة النغمة الصوتية، القدامى فطنوا لها يقول ابن جنّي: محمد عــالم يمد الألف ويقولون: محمد عالم عنده علم قليل، يقولون: (عنده علم) يفخمون الصوت في (عنده) للدلالة على علمه الكبير بينما يقولون: (عنده علم) بدون تفخيم للدلالة على علمه القليل.
*إذن هنالك بعض الرسائل التي تقول الدعـــاء أعذب نهر جرى، هذا له صدى في الدراسات القديمة؟
يقولون: سألنا فلاناً فوجدناه إنســاناً (بمد الألف وتفخيم الصوت). نحن نقرأ القرآن بما ورد إلينا من قواعد.
* سياق الآية يدلنا دلالة كاملة؟
يغني لأن القراءة ليست فقط تخاطب وإنما كتابة، التخاطب يكون بين اثنين موجودين، المكتوب الآن أكثر من المسموع فاللغة العربية تعطيك المعنى بهذه الجوانب التقديم والتأخير والقطع وما إلى ذلك وهذه المعاني تعطيك المقصود بينما في اللغات الأخرى ليس فيها تقديم وتأخير.
آية (8):
(إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8))
* ما معنى الأغلال وما معنى مقمحون؟
الأغلال جمع غُل وهو حلقة من حديد تحيط بالعنق أو باليد، قَيْد، أو تجمع بينهما (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ (29) )(الإسراء). المُقمَح الذي يرفع رأسه ويغضّ بصره. وقال: المعنى أنه جعل في الأعناق أغلالاً يعني أطواقا من حديد غلاظ ليست واسعة الفتحة ضيّقة أخذ العنق إلى الذقن فلا يستطيع أن يتحرك ولا يستطيع أن يمد رأسه فلا بد أن يرفع رأسه إلى أعلى ويغض بصره، لا يستطيع أن يلتفت لأن الأغلال تقيّد حركته. هؤلاء إذن لا يتمكنون من الرؤية ولا البصر ولا يهتدون لأنه هذه حالهم فكيف يهتدون؟ فإذن هم بهذه الصورة العنق كله في طوق ثقيل غليظ ليس واسع المساحة إلى العنق بحيث لا يتمكن أن يلتفت ويطأطئ رأسه إذن هو رافعًا رأسه (فهم مقمحون) بيان لحالتهم أن هؤلاء لا يهتدون لأنهم لا يبصرون، لا يبصر فكيف يهتدي؟! هذه حالتهم ولا يمكن حتى أن يلتفتوا لا إلى اليمين ولا إلى اليسار، يتخبطون، هذه حالهم.
ذكرنا في قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)) فبيّنا الغُل وقلنا هو حلقة من حديد وذكرنا أنه جعل في أعناقهم أغلالاً يعني طوقا من حديد؛ هذه الأطواق ثِقال عِراض من حيث تشمل الرقبة كلها ليست واسعة الفتحة فهم لا يستطيعون الالتفات يميناً أو يساراً أو أن يطأطئ رأسه فيبقى رافع الرأس، المقمح هو الرافع رأسه الغاضّ بصره.
آية (9):
(وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9))
* لماذا بدأ تعالى بقوله (من)؟
الآن في ذهني أنك سألت عن التقديم والتأخير قبل قليل في الآية التي سبقت (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا) قدّم الأعناق على الأغلال لأن الكلام عليهم وليس عن الأغلال، لم يتكلم عن الأغلال شيئاً بينما الكلام عليهم هم. في هذه الآية تكلم تعالى عن الذين لا يؤمنون أنهم مقمحون وصف حالتهم فقدّمهم ولم يتكلم عن الأغلال.
نأتي للآية الكريمة :(وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)) أيضاً بالمناسبة لم يقل سداً من بين أيديهم لأن الكلام عليهم وليس عن السد، لم يتكلم عن السد وإنما الكلام عنهم مثل الآية السابقة (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا). يبقى السؤال لماذا ذكر (من)؟ لماذا لم يقل جعلنا بين أيديهم سداً؟ (من) تفيد ابتداء الغاية يعني جعل السد ليس بينهم وبين السد أي فاصل، (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) يعني: ليس هناك فاصل بين السد وبين أيديهم لو قال: بين أيديهم تحتمل المسافة القريبة أو البعيدة (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6) )(ق) كم بينك وبين السماء؟! كثير، ما قال من فوقهم لا يصح. (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19))( الملك)، (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا (10) )(فصلت).
(من) كما ذكرنا تفيد ابتداء الغاية فلما قال: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) يعني: متصل بهم ليس بينهم وبين السد مسافة وإنما السد ملتصق بهم لو قال :(بين أيديهم) تحتمل هذا وتحتمل المسافة البعيدة وذكرنا مثالاً: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ (6))( ق) لم يقل من فوقهم لأنها مسافة بعيدة. (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19))( الملك)، وقال تعالى في فصلت يتكلم عن الأرض: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا (10) )(فصلت) لأن الجبال هي ملتصقة بالأرض ليس بينها وبين الأرض فاصل لذلك لم يقل رواسي فوقها، (فوقها) تحتمل الملاصقة وعدمها أما (من فوقها) فتعني الملاصقة. وفي مناسبة ذكرنا العرش في يوم القيامة (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ (75) )(الزمر) ليس بينهم وبين العرش فراغ ولو قال حول العرش تحتمل. إذن عندما قال: (من بين أيديهم ومن خلفهم) يعني: سدا من بين أيديهم ليس بينهم وبينه فاصل ومن خلفهم سدا ليس بينهم وبينه فاصل فيمنعهم من الحركة، هم بين سدين. المراد بالمعنى البسيط من الآية: أنهم لا يمكن أن يتحركوا فيهتدوا إلى الطريق، هذه حالهم هم محجوزون، في هذه الحالة الطوق في عنقه ومقمح الرأس فكيف يهتدي؟! (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)) الصراط يراد له سالك ، هؤلاء كيف يسلكون؟! كيف يهتدون؟ هؤلاء معناه أنهم لا يمكن أن يهتدوا، هؤلاء مثلهم كمثل هذا فكيف ينتقل من الكفر إلى الإيمان؟ قال تعالى: (لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)) الصراط يراد له مشي وهنا ذكر ما يمنع السير، السد يمنع السير وعدم النظر يمنع السير.
*ما دلالة تقديم (من بين أيديهم) على السد؟
ذكرنا أن الكلام عليهم هم وليس على السد لم يتكلم عن السد سوى أنه جعله بين أيديهم ومن خلفهم. فلما كان الكلام عليهم والسياق فيهم هم قدّم ما يتعلق بهم قال: (من بين أيديهم) الكلام ليس على السد وإنما عليهم هم.
* ما دلالة (ومن خلفهم سداً) مع أنه ذكر أنه جعل من بين أيديهم سداً وهذا يمنعهم من الحركة؟
لم يقل هذا فقط وإنما قال: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، يعني: هو ليس فقط جعل السد وإنما أغشاهم فكيف يبصرون؟! زيادة في عدم الاهتداء. منع طريقة أن يجوزوا على الصراط بالأغلال في الأعناق وبالسد من بين أيديهم ومن خلفهم وأغشاهم فهم لا يبصرون.
لماذا ذكر السد من خلفهم؟ الآن سائر في طريق فانقطع عليه الطريق ماذا يفعل؟ يرجع إلى مكانه، لكن إذا جعل من خلفه سداً لا يستطيع العودة إذن هو في مقام الهلكة، لا يستطيع أن يذهب إلى الأمام ولا أن يرجع إلى مكانه إذن جعل السد من خلفه حتى يمنعه من العودة إلى مكانه فهو قطع الطريق عليه من الأمام فأراد أن يرجع إلى مكانه لم يستطع لأن هناك سد من خلفه إذن هو بقي في مكانه حتى يهلك لأن هذا المكان هو مهلكه يبقى في مكانه إلى أن يهلك فلا يرجع إلى مكانه ولا يتقدم.
* هل تكرار كلمة السد له دلالة معينة؟
طبعاً، السد الثاني غير السد الأول، هذا غير هذا، هذا نكرة فتكرارها له دلالة، مثل: رأيت رجلاً وأكرمت رجلاً يعني: الرجل الثاني غير الأول وإلا قلنا رأيت رجلاً وأكرمت الرجل هو كما في قوله تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (16))( المزمل) هو نفسه لو قال فعصى فرعون رسولاً لكان غيره. إذن السد من خلفهم غير السد من بين أيديهم سد من الأمام وسد من الخلف السدان منفصلان تماماً والتنكير هنا له دلالة معينة. لو قال (السد) لدل على أنه نفسه.
* ما الفرق بين دلالة كلمة (خلفهم) و(بعدهم) ؟
بعد نقيضة قبل وأظهر استعمال لها في الزمان. أما خلف فهي نقيضة قُدّام (وهي في الغالب للمكان) هذا من حيث اللغة. والخلف في اللغة هو الظهر أيضاً.
أحياناً لا يصح وضع إحداهما مكان الأخرى فلا يمكننا أن نضع خلف مكان بعد ففي هذه الآيات لا يمكن أن تحلّ خلف محل بعد (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52))( البقرة) (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120))( البقرة) (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ (230))( البقرة) (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) )(آل عمران) لأن كلها متعلقة بالزمان.
أما خلف فهي في الأصل للمكان، (ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) الأعراف) (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9))( يس) (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255))( البقرة) (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9))( النساء) أي يلونهم مباشرة كأنهم واقفين خلفهم وكذلك قوله تعالى (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)).
* قال تعالى في سورة البقرة (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)) لم يقل هذا في سورة يس مع أن المعنى واحد فما دلالة هذا؟
في يس ضمن ما ذكر في البقرة لأنه عندما قال: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)) كأنما ختم على أبصارهم غشاوة، عندما جعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم معناه أنهم لا يسمعون أغشاهم لأن السد عالٍ فكيف يسمعون؟ أغشاهم إما بالسد أو بغشاء آخر فكيف يسمع؟ إذن ذهب السمع وذهب البصر إذن كيف يفقه؟ منافذ العلم سُدّت إذن هو لا يسمع ولا يبصر ولما كانت منافذ العلم مسدودة معناه لا يفقه بمعنى أن الله ختم على قلوبهم لكن لماذا كان التعبير بصورة أخرى؟ لماذا هناك قال ختم الله على قلوبهم تصريحاً وعلى سمعهم وهنا قال: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)) مع أن هذا يفضي إلى ما في البقرة؟ ذكرنا قبل قليل ربنا تعالى قال في سورة يس: (يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)) والصراط للسير فذكر ما يمنع السير مناسبة لذكر الصراط وهو يفضي إلى ما في البقرة لكن هو المناسب، ذكر ما يمنع السير وهو السد الذي يمنعه من الذهاب إلى الصراط، يمنعه أن يسير في ، أليس الصراط للسير؟ هو ذكر ما يمنع السير فهو أنسب لذكر الصراط فلما قال: (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)) ذكر ما يمنع السير الأغلال التي تمنع والسد. بينما في البقرة قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) هذا يتعلق بالإيمان بالغيب والتقوى، إذن المسألة متعلقة بالإيمان والتقوى في سورة البقرة والتقوى محلها القلب كما قال التقوى هاهنا وأشار إلى قلبه فقال: (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ) فكيف يتقون؟ هو قال: (هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) والتقوى هاهنا فكيف يتقي؟! لا يستطيع. ثم ذكر أنه ختم على السمع وعلى الأبصار غشاوة فكيف يؤمن إذا ليس له قلب؟ انسدت منافذ العلم والتقوى والهدى كلها انسدّت، انسدت منافذ التقوى السمع والبصر والقلب كما انسدت الطرق أمام الذي على الصراط فلما كان الكلام على الصراط ذكر ما يمنع من الصراط ولما كان الكلام على التقوى والإيمان ذكر ما يمنع من الإيمان والتقوى. مع أن أحدها يفضي إلى الآخر لكن كل واحد أنسب لسياقها فواحدة أنسب للصراط والثانية أنسب للتقوى والإيمان فكل واحدة مناسبة لمكانها.
*(وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)) لماذا لم يتكرر فعل (جعلنا) كما في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11))( النبأ)؟
التكرار يفيد التوكيد في الغالب. هل المطلوب السير إلى الأمام أو الرجوع؟ السير إلى الأمام، إذن ليسا بمنزلة واحدة الرجوع ليس كالسير إلى الأمام. السير إلى الأمام يكون عندك هدف والأهم هو السير إلى الأمام قال: (وجعلنا) إذن العودة إلى الخلف ليست بمنزلة السير إلى الأمام فلم يقل (جعلنا) لأنهما ليسا بمنزلة واحدة ولو قال: (وجعلنا من خلفهم سدا) يدل على أنهما بمنزلة واحدة بينما إلى الأمام ليس كـ إلى الخلف. بينما في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11))( النبأ) كلاهما لا تقوم الحياة إلا بهما وهما بمنزلة واحدة لا تصلح الحياة بأحدهما لا تصلح الحياة بليل لا نهار فيه أو نهار لا ليل فيه وقال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72))( القصص) هذان بمنزلة واحدة للحياة الليل والنهار لا تصلح الحياة بأحدهما فكرر (جعلنا) أما في سورة يس فليسا بمنزلة واحدة.
آية (10):
(وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10))
* إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا ينذر؟
أولاً ربنا أجاب عن هذا فألزمهم الحجة: (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164))( الأعراف) حجة عليهم، إذن الغرض إقامة الحجة والإعذار، هذا من ناحية ثم إذا كان الوعد والإنذار بالنسبة إليهم فليسا سواء بالنسبة إليه لم يقل سواء عليك أأنذرتهم وإنما قال سواء عليهم أأنذرتهم، هو مكلف بالدعوة حتى لمن لا يستجيب لا تسقط عنه حتى لمن علم أنه لا يستجيب فعليه أن يدعو ليس عليه سواء ولكن عليهم سواء هو لا يقف عن الدعوة هذا الأمر وهذا الإنذار في غاية الأهمية لا يسقط حتى لو علم أن هؤلاء سواء عليهم الإنذار لأنه هؤلاء المنذرون المكذبون قد يستهزئون أمام آخر فيسمع فيدخل في عقله شيء مما يسمع، وقد ينقلون شيئاً إلى شخص آخر من باب النقل فيقتنع، قد لا يقتنعون هم لكن قد يقتنع من يسمع. إذن يكون سواء الإنذار عليهم وليس عليه، الإنذار لا يسقط ولا بد أن ينذرهم سواء كان الإنذار عليهم وعدمه سواء أو لم يكن، هم لا يلقون بالاً لهذا ولكن هذا يدخل في صحيفة أعماله أنه بلّغ وفيه حسنات حتى هو ليس مكلفاً أن يستجيب هؤلاء أو لا يستجيبون وإنما هو مكلف بالتبليغ. هذا توصيف لحالهم وليس إلزاماً لهم لكي يقيم الحجة عليهم ولذلك (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)) بالنسبة إليه إذا أنذر هذا دخل في صحيفة أعماله أنه بلّغ فتكتب له حسنات، هذا المبلِّغ الذي يبلّغ تكتب له الأجور وإن لم يستجب أولئك (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ (33))( فصلت) إذا كان الإنذار وعدمه سواء عليهم فليس سواء عليه فهو في كل حال مستفيد دخلت في قائمة حسناته حسنات إذن هي ليست سواء عليه وإنما عليهم سواء هو يبلّغ في كل الأحوال حتى لو علم أن هؤلاء لن ينفع معهم يبلِّغ فيقيم الحجة وتكتب له حسنات وإشارة إلى أن الدعوة إلى الله لا تسقط في حال من الأحوال وتقام الحجة عليهم وهو منتفع ترتفع درجاته ومنزلته في الجنة وقد يستفيد عن طريق هؤلاء بالنقل قد ينتفع آخر بما يقوله هؤلاء سواء عن طريق الاستهزاء أو القول أو التندر قد يستفيد غيرهم.
* هذا السياق بهذا التركيب (وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)) ألا يجعلنا نفهم أن الأمر للرسول من قبل الله عز وجل طالما أنه ختم عليهم هكذا فلا يبلغهم والدليل (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)) هذا قصر لمن يبلغ ولمن ينذر (صلى الله عليه وسلم)؟
ذاك تنذر إنذاراً نافعاً ولا تعني لا تبلِّغ إلا أولئك لأن هؤلاء لا يسقط عنهم الإنذار وإنما ينفع الإنذار من اتبع الذكر وخشي الرحمن إن كان هؤلاء لا ينتفعون. هذه قصر الفائدة وليس قصر الإنذار والتبليغ (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)) هؤلاء يستفيدون من الإنذار وليس قصر الإنذار على هاتين الطائفتين. الإنذار ينفع صنفين صنف الذين اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب والصنف الآخر الذي ليس مقمحاً وإنما من يسمع ويقبل من كان حياً يسمع النصيحة ويقبل ولذلك هم قالوا من اتبع أكثر المفسرين قالوا: معناها من اتبع ومن يتّبع لأن الفعل الماضي قد يأتي للمستقبل (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (149))( البقرة) خرجت فعل ماضي ولكنها تفيد المستقبل. (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160))( البقرة) هذه أفعال ماضية، التوبة قبل الكتمان أو بعد الكتمان؟ بعد الكتمان، وقال: (يكتمون) ما قال كتموا. هذا موجود في اللغة قد يأتي الماضي للدلالة على المضارع.
آية (11):
(إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ {11})
*هل الإنذار خاص بالكافرين في القرآن؟(د.فاضل السامرائى)
الإنذار في القرآن الكريم لا يكون خاصاً للكفار والمنافقين وقد يأتي الإنذار للمؤمنين والكافرين. والإنذار للمؤمن ليس فيه توعد فهو للمؤمنين تخويف حتى يقوم المؤمن بما ينبغي أن يقوم به كما في قوله تعالى: (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ {11})( يس) وهذا ليس فيه تخصيص لمؤمن أو كافر. وقد يأتي الإنذار للمؤمنين (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ {214} )(الشعراء) (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ {18})(فاطر) وقد يكون للناس جميعاً (وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ {44})( إبراهيم) (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {51})
آية (12):
*لماذا جاءت (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12))(يس) بالنصب (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52))( القمر)مرفوعة؟(د.فاضل السامرائى)
كل له دلالة (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12))( يس) بالنصب (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52))( القمر) لم يقل وكلَ شيء فعلوه، لا يمكن أن تقول وكلَّ شيء فعلوه في الزبر المعنى خطأ لأنها تعني أنهم فعلوا كل شيء في الزبر وهم لم يفعلوا شيئاً في الزبر، أصلاً لا يصح. (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49))( القمر) لا يمكن أن تقول كلُّ شيء تصير غير معنى وتعني المخلوقات على قسمين قسم خلقه ربنا وقسم خلقه واحد آخر. لا يمكن.
* في سورة يس كلمة مبين وردت سبع مرات كثيرة وكل مرة تأتي بمعنى مختلف فلماذا وجودها 7 مرات ودلالة اختلاف معانيها؟(د.فاضل السامرائى)
مبين معناها ظاهر واضح ومُظهِر لنفسه (مبين أبان) وهذه تصلح أن تكون صفة لأشياء متعددة مختلفة: بلاغ مبين، سحر مبين، عدو مبين، ضلال مبين، ظاهر العداوة والدلالة، عدو مبين عن نفسه، ظاهر ومظهِر لنفسه، كتاب مبين، نذير مبين، يمكن أن يكون صفات لأشياء عديدة، فوز مبين مثل عظيم فوز عظيم، عذاب عظيم، قرآن عظيم هي صفة بحسب الموصوف وهنالك أشياء كثيرة يمكن أن توصف بمبين أو عظيم أو كبير.
آية (13):
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13))
(واضرب لهم مثلاً): يحتمل هذا التعبير معنيين: المعنى الأول أن المقصود اضرب لأجلهم مثلاً أي بيّنه لهم واذكره لهم وقصّ عليهم قصة أصحاب القرية ليتعظوا وليعلموا أنك لست بدعاً من الرسل وإنما أرسل قبلك رسل وأنذروا قومهم وأن موقفهم من رسلهم كان التكذيب وإنكار الرسالات وأنهم آذوا رسلهم وعذبوهم فأهلكهم الله لعل قومك يتعظون. والمعنى الآخر أن المقصود مثِّل لنفسك حال قومك بأصحاب القرية واجعلهم مثلاً لهم أي شبِّه حالهم بحال أصحاب القرية فإن حال قومك شبيه بحال أصحاب القرية وأن مَثَلهم كمثلهم كما تقول مخاطباً شخصاً: أنا أشبّه حالك بفلان إذ فعل كذا وكذا. وتقول لشخص: أنا أضرب لزيد مثلاً خالداً فإن كليهما قد خسر في تجارته أي اجعله شبيهاً به. وعلى كلا هذين المعنيين يرتبط المثل بما قبله أحسن ارتباط. فإنه على المعنى الأول أي أن تضرب لهم المثل وتبيّنه لهم فإنه يقول له: بيّن لهم شأن أصحاب القرية وموقفهم من رسلهم فإنهم مثلهم في الاعتقاد والتكذيب وستكون عاقبتهم مثلهم إن أصروا على كفرهم وعنادهم لعلهم يتعظون ويرعوون. وعلى المعنى الثاني يكون المقصود أن قومك ليسوا بدعاً من الأقوام فهناك أقوام مثلهم في التعنت والكفر وأنه سواء عليهم الإنذار وعدمه وأنه حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون وأنت لست وحدك تلاقي من العنت والإيذاء والتكذيب ما تلاقي فهؤلاء أصحاب القرية مثل قومك في موقفهم وعنادهم وإيذائهم رسلهم فقد أرسل إليهم ثلاثة رسل فكذبوهم وآذوهم فتصبّر وتأسّ بهم. وفي ذلك تصبير له وتأسية فيكون ضرب المثل له صلى الله عليه وسلم.
والمعنيان مرادان مرتبطان بما قبلهما أجل ارتباط وأحسنه. جاء في التفسير الكبير في قوله: (واضرب لهم مثلاً) “وفيه وجهان والترتيب ظاهر على الوجهين: الوجه الأول هو: أن يكون المعنى واضرب لأجلهم مثلاً والثاني: أن يكون المعنى واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلاً أي مثّلهم عند نفسك بأصحاب القرية. وعلى الأول نقول لما قال الله: (إنك لمن المرسلين) وقال: (لتنذر) قال: قل لهم: (ما كنت بدعاً من الرسل) بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة. وعلى الثاني نقول: لما قال الله تعالى إن الإنذار لا ينفع من أضلّه الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه الصلاة السلام: فلا تأس واضرب لنفسك وقومك مثلاً أي مثّل لهم عند نفسك مثلاً حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على القتل والإيذاء وأنت جئتهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤوا قرية وأنت بُعثت إلى العالم”.
جاء في روح المعاني: “فالمعنى على الأول: اجعل أصحاب القرية مثلاً لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب أي طبق حالهم بحالهم على أن (مثلا) مفعول ثان لـ ( اضرب) و (أصحاب القرية) مفعوله الأول أُخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه. وعلى الثاني اذكر وبيّن لهم قصة هي في الغرابة كالمثل وقوله سبحانه وتعالى: (أصحاب القرية) بتقدير مضاف أي مثل أصحاب القرية”.
وقال: (إذ جاءها المرسلون) ولم يقل: إذ جاءهم لأنه أراد أنهم أتوهم في مكانهم لينذروهم ولو قال: (إذ جاءهم) لم يفد أنهم أتوهم إلى مكانهم بل يحتمل أنهم كانوا في مكان فأتاهم الرسل إليه. فقد يجتمع أهل قرية في مدينة ما ويأتيهم شخص إلى مكان اجتماعهم فيقال: جاء أهل القرية فلان وكلّمهم ولم يفد ذلك أنه ذهب إلى قريتهم بخلاف قوله: (جاءها) فإنه يفيد أنهم ذهبوا إليهم في دارهم ليبلغوهم دعوة ربهم وينذرونهم وفي هذا من الاهتمام بأمر التبليغ ما فيه. جاء في روح المعاني “وقيل: (إذ جاءها) دون (إذ جاءهم) إشارة إلى أن المرسلين أتوهم في مقرهم”.
وقال: (جاءها) دون (أتاها) ذلك أن المجيء يكون لما فيه مشقة ولما هو أصعب من الإتيان ويبدو أنه كان في المجيء إلى أهل القرية وتبليغهم مشقة وإيذاء وتهديد فاختار المجيء على الإتيان ولذا قال تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء (40))( الفرقان) لأنه كان إتياناً سهلاً وذلك أنهم مروا بها وهم في طريقهم. وقال: (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها (77))( الكهف) لأن إتيانها ودخولها كان ميسراً ولم يجدوا من أهلها مساءة أو مشقة فاستعمل (أتيا) دون (جاءا).
آية (14):
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ {14})
قال: (أرسلنا إليهم) ولم يقل: (أرسلنا إليها) كما قال: (جاءها) لأن الإرسال في الحقيقة إلى أهل القرية لا إلى القرية أما المجيء فكان إلى القرية فإن القرية تطلق على المساكن والأبنية والضِياع وإن كانت خالية، قال تعالى: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها (259))( البقرة) ولذلك قال بعدها: (فكذبوهما) فنسب التكذيب إلى أهلها ولم ينسبه إلى القرية لأنهم هم المرسَل إليهم وهم المكذبون.
وقوله: (فكذبوهما) يدل على أنهما أنذرا أصحاب القرية وبلغاهم دعوة ربهم إلا أنهم كذبوهما وهذه الفاء تسمى فاء الفصيحة وهي التي أفصحت عن المحذوف وهو التبليغ لأن التكذيب لا يكون إلا مع التبليغ فحذف ما هو مفهوم من الكلام وما لا داعي له لأن العناية ههنا بموقف أهلها منهما. وهو الموقف المشابه لموقف أهل مكة. جاء في روح المعاني ” وقيل: (أرسلنا إليهم) دون (أرسلنا إليها) ليطابق (إذ جاءها) لأن الإرسال حقيقة إنما يكون إليهم لا إليها بخلاف المجيء وأيضاً التعقيب بقوله تعالى: (فكذبوهما) عليه أظهر, وهو هنا نظير التعقيب في قوله تعالى: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت)”.
(فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ) عززنا قوّينا والمعنى فقويناهما غير أنه لم يذكر المفعول به فلم يقل: (فعززناهما) ذلك أن المقصود تقوية الحق الذي أرسلوا به علاوة على تقويتهما وليس المقصود تقوية الشخصين فقط، فأخرج الفعل مخرج العموم ولو ذكر مفعولاً به لتقيد التعزيز بذلك المفعول. فنحن نرى فيما نرى أنك تنصر شخصاً وتقويه ولا تنصر فكره ونرى شخصين أو فريقين متخاصمين يحارب أحدهما الآخر أو يقتله وهما يحملان فكراً واحداً. فقال ههنا: (فعززنا بثالث) ليدل على أن التقوية عامة لهما ولدعوتهما. وقد ذهب الزمخشري وآخرون: إلى أن الغرض من الحذف إنما هو لبيان المقصود ذكر المعزز به وهو الحق الذي أُرسلا به. والذي يبدو لي ما ذكرت والله أعلم. جاء في الكشاف في قوله تعالى: (فعززنا بثالث) “فعززنا فقوّينا.. فإن قلت: لمَ ترك ذكر المفعول به؟ قلت: لأن الغرض ذكر المعزز به… وإذا كان الكلام منصباً إلى غرض من الأغراض جعل سياقه له وتوجهه إليه سواء كأن ما سواه مرفوض مطرح ونظيره قولك: (حكم السلطان اليوم بالحق) الغرض المسوق إليه (بالحق) فلذلك رفضت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه”. وجاء في التفسير الكبير” : وترك المفعول حيث لم يقل: (فعززناهما) لمعنى لطيف وهو أن المقصود من بعثهما نصرة الحق لا نصرتهما والكل مقوون للدين المتين بالبرهان المبين”.
وأسند التعزيز إلى نفسه سبحانه فقال: (فعززنا) كما قال: (إذ أرسلنا) للدلالة على أن المرسِل والمعزِّز واحد كل ذلك بأمره سبحانه.
(فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أسند القول إليهم جميعاً لأنهم يدعون بدعوة واحدة وقد انضم الثالث إلى الاثنين في دعوتهما إلى الله سبحانه. (إنا إليكم مرسلون) قالوا: مؤكدة بـ (إنّ) لأن الموقف يحتاج إلى توكيد ذلك أن أصحاب القرية كذبوا الرسولين كما أخبر تعالى: (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا) ولذا قوّاهما بثالث فاحتاج الكلام بعد التكذيب والتقوية بالثالث إلى توكيد فقال: (إنا إليكم مرسلون) وهذا القول إنما هو بعد التكذيب والتعزيز يدل على ذلك (فقالوا) بالجمع وقوله: (إنا إليكم مرسلون) بالجمع.
*(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14))( يس) هل كانوا رسلاً أم أنبياء؟ ومن هما؟
هذه مختلف فيها أيضاً قسم قالوا: هم رسل عيسى إلى أنطاكيا من الحواريين أرسلهم بأمر الله سبحانه وتعالى وقسم قال: هم من رسل الله لم يذكر ربنا سبحانه وتعالى أسماءهم.
آية (15):
(قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15))
(قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) أي كيف اختصكم الله بالوحي دوننا ونحن بشر وأنتم بشر؟ وفي هذا القول تكذيب لهم وإنكار للنبوات على العموم, وقد فصل ما تضمنته هذه العبارة من تكذيب للمرسلين وإنكار للنبوات بقوله بعد: (ما أنزل الرحمن من شيء) فإن هذا القول يعني إنكار النبوات وبقوله: (إن أنتم إلا تكذبون) تكذيب لهم خاصة. فذكر الأمر العام الذي يتضمن الأمرين ثم ذكر كل أمر مما تضمنته العبارة وهذا الإنكار شأن كثير من الأمم السالفة فإنهم أنكروا أن ينزل الله على بشر من شيء، جاء في تفسير ابن كثير في قوله: (ما أنتم إلا بشر مثلنا) :”أي فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر فلم لا أوحي إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة. وهذه شبهة كثيرة في الأمم المكذبة كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله عز وجل: (ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا) أي استعجبوا من ذلك وأنكروه وقوله تعالى: (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فائتونا بسلطان مبين), وقوله تعالى حكاية عنهم في قوله عز وجل: (ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) وقوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً )”.
وقد تقول ولِم لَم يكتف بقوله: (ما أنتم مثلنا) وقد ذكرت أنه يتضمن معنى ما بعده؟ والجواب أنه ليس المقصود من قولهم هذا إثبات بشرية الرسل فإن هذا لم ينازعهم فيه أحد وإنما المقصود إنكار النبوات وتكذيبهم فأوضحوا المقصود وأبانوا عن معتقدهم.
ودفعًا لحجة الرسل الذين سيحتجون عليهم بقولهم: نعم نحن بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فيختصه بالرسالة وإن كوننا بشراً لا يمنع من أن يوحي إلينا ربنا وما إلى ذلك من الحجج التي تبين أنه لا مانع من أن يكون البشر رسولاً وأنه لو أرسل ربنا ملكاً لجعله رجلاً ولالتبس عليهم الأمر أيضاً فأبانوا عن معتقدهم بقولهم: (وما أنزل الرحمن من شيء) ثم بينوا رأيهم في هؤلاء الرسل فقالوا: (إن أنتم إلا تكذبون). وهذه العبارة الأخيرة تعني تكذيب الرسل وعدم الإيمان لهم حتى لو كان الرحمن أنزل شيئاً لأنهم كاذبون فيما يرون.
(وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ) : هذا القول يعني أنهم يؤمنون بالله وينكرون النبوات وهذا شأن كثير من المجتمعات البشرية التي حكى عنها في القرآن نحو قوله: (ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة) وقوله: (أبعث الله بشراً رسولا) ومثلهم قوم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يؤمنون بالله وينكرون النبوات. قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله (61))( العنكبوت). وقال: (وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا بشر مثلكم (3))( الأنبياء) وقال: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2))( ق). جاء في روح المعاني :” وظاهر هذا القول يقتضي إقرارهم بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام”. قال الفخر الرازي : “وقوله: (الرحمن) إشارة إلى الرد عليهم لأن الله لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن؟ فقال إنهم قالوا: ما أنزل الرحمن شيئاً وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئاً هو الرحمة الكاملة؟”.
وقد تقول: ولم قال ههنا: (وما أنزل الرحمن من شيء) فأسند الفعل إلى الرحمن وقال في سورة الملك: (وقلنا ما نزل الله من شيء (9))( الملك). وفي سورة الأنعام: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء (91))( الأنعام) بإسناد الفعل إلى الله؟ فتقول: إن كل تعبير هو الأنسب في مكانه. فأما في سورة الملك فإنه يشيع فيها ذكر العذاب ومعاقبة الكفار فقد ذكر فيها مشهداً من مشاهد الذين كفروا في النار وسؤالهم عن النذر التي جاءتهم وذلك قوله: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)) ثم حذر عباده من عقوبته وبطشه في الدنيا وألا يأمنوا عذابه من فوقهم أو من تحت أرجلهم وأن يعتبروا بما فعله ربنا مع الأقوام الهالكة (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)) ثم حذرهم مرة أخرى وهددهم بقوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)) وعاد مرة أخرى فذكر إنكار الكفار ليوم النشور واستبعادهم له وحذرهم من عقوبات رب العالمين في الدنيا والآخرة فقال: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)) وإزاء كل هذا التحذير والتخويف وذكر مشاهد العذاب لم يذكر بخصوص المؤمنين وجزائهم إلا آية واحدة وهي قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)) فلا يناسب إزاء كل هذا التهديد والتحذير للكافرين وما أعده الله لعذابهم في جهنم أن يقرنه باسم الرحمن. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن القائلين لهذا القول إنما هم في أطباق النيران وأنهم ألقوا فيها فوجاً بعد فوج وقد اشتد غضب الله عليهم ولم تدركهم رحمته فلا يناسب ذكر الرحمن هنا أيضاً.
ثم إن الله جعل العذاب بمقابل الرحمة فقال: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50))( الحجر) ولما كان المشهد مشهد العذاب كان ذلك في مقابل الرحمة فلا يناسب هذا العذاب ذكر الرحمة وبخاصة أن هؤلاء كفروا بربهم فلا ترجى لهم رحمة ولا ينالهم من اسم الرحمن نصيب.
ومن ناحية أخرى إن القائلين في سورة يس إنما هم في الدنيا وهم يتقلبون في نِعم الله ورحمته أما القائلون في سورة الملك فإنما هم في جهنم وقد يئسوا من رحمته سبحانه فناسب كل تعبير موطنه.
وأما سورة الأنعام فإنها يشيع فيها التحذير والتهديد والتوعد وليس فيها مشهد من مشاهد الجنة وإنما فيها صور غير قليلة من مشاهد النار. كما أن السورة لم يرد فيها اسم (الرحمن) على طولها في حين ورد فيها اسم (الله) تعالى (87) سبعاً وثمانين مرة فناسب كل تعبير مكانه.
(إن أنتم إلا تكذبون).
لقد واجهوهم بالتكذيب صراحة بعد أن ذكروا ذلك ضمناً بقولهم: (ما أنتم إلا بشر مثلنا) وقولهم: (وما أنزل الرحمن من شيء) وكان النفي والإثبات بـ (ما) و(إلا) في قوله: (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) وهنا بـ (إنْ) و(إلا) (إن أنتم إلا تكذبون). ذلك أن (إنْ) أقوى في النفي من (ما) فوضع كل حرف في الموضع الذي يقتضيه ذلك أن قولهم: (ما أنتم إلا بشر مثلنا) غير منكور وهو معلوم للجميع. أما قولهم: (إن أنتم إلا تكذبون) فهو موضوع النزاع فإنه الوصف الذي يلصقه أهل القرية بهم ويدفعه المرسلون عن أنفسهم فإن كونهم بشراً لا يحتاج إلى إثبات أو دليل بخلاف إثبات الكذب وأهل القرية لم يذكروا بشريتهم إلا ليصلوا إلى تكذيبهم فإن الغرض من قولهم: (ما أنتم إلا بشر مثلنا) ليس إثبات البشرية لهم وإنما هو إثبات الكذب عليهم فناسب ذكر أقوى الحرفين فينا فيه قوة وإنكار ويحتاج إلى إثبات.
آية (16):
(قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16))
بعد أن بالغ أصحاب القرية في تكذيبهم وردهم رداً غير جميل لم يتركهم رسل الله ولم يرحلوا عنهم وإنما أقسموا على صدقهم واستمروا على إبلاغهم دعوة ربهم قائلين: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) وفي هذا توجيه للدعاة أن لا يسأموا إذا جوبهوا بما يكرهون أو رُدوا رداً غير جميل أو اتهموا باتهامات باطلة بل عليهم أن يعيدوا النصح والتبليغ. وقولهم: (ربنا يعلم) يجري عند العرب مجرى اليمين ويجاب بما يجاب به القسم فقوله: (علم الله) و(ربنا يعلم) وما إلى ذلك هو نوع من القسم في كلام العرب ولذا أجيب بما يجاب به القسم وهو الجملة الاسمية المؤكدة بـ(إن واللام). واختيار هذا التعبير أنسب شيء هنا فإنه إضافة إلى القسم الذي فيه فإنهم نسبوا العلم إلى الله فقالوا: (ربنا يعلم ذلك) فإنهم أرسلوا بأمره وبعلمه. وهو ههنا أبلغ من مجرد القسم بأن نقول: (والله) أو (وربنا) فإن أصحاب القرية قالوا: إن الرحمن لم ينزل شيئاً وإنكم تكذبون فيما ادعيتم به فرد عليه الرسل: بأن ربنا يعلم صدقنا وإننا مرسلون إليكم. وقيل: إن من قال (يعلم الله ذلك) وهو غير صادق فيما يقول فقد كفر لأنه نسب إلى الله الجهل بخلاف اليمين الكاذبة.
واختيار (الرب) مع الرسالة أنسب شيء فإن الرب هو المربي والهادي والهداية هي المقصودة من الرسالة ولذلك كثيراً ما يقترن الإرسال بالرب وذلك نحو قوله تعالى: (لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا (134))( طه) وقوله: (ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا (47))( القصص) وقوله: (لقد أبلغتكم رسالة ربي (79))( الأعراف) وقوله: (إني رسول رب العالمين (46))( الزخرف).
وإضافته إلى ضمير المتكلمين (ربنا) يعني أن ربهم الذي خلقهم وله كمال الصفات هو الذي أرسلهم وأيدهم بالمعجزات ولو قالوا: (ربكم يعلم…) لاحتمل أن يقولوا لهم: إن ربنا لا يرسل الرسل. ثم إنهم اتخذوا أرباباً لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه فكيف ترسل الرسل؟ ثم إن ذلك يعني أن ربهم هو الذي أرسلهم إلى أهل القرية لأنه ربهم أيضاً ولو لم يكن ربهم لم يعنه أمرهم فإضافة الرب إلى ضمير المتكلمين له أكثر من مناسبة ودلالة. وتقديم الرب على الفعل يفيد التوكيد والتقوية. وتقديم الجار والمجرور (إليكم) يفيد التخصيص أي إنا أرسلنا إليكم على وجه الخصوص لنبلغكم رسالة ربنا.
وقال ههنا: (لمرسلون) باللام وقبلها (مرسلون) بلا لام وذلك زيادة في التوكيد لزيادة الإنكار. فقد أكد العبارة الأولى بـ(أن) بعد التكذيب فلما زاد التكذيب والإنكار بثلاث جمل كل منها غاية في التكذيب والإنكار زاد في التأكيد. فقد قال في المرة الأولى: (إنا إليكم مرسلون) وفي المرة الأخرى (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فأكد بالقسم وهو قوله: (ربنا يعلم) وبالجملة الاسمية وهو تقديم ربنا على الفعل وبإنّ واللام فكان كل تعبير المناسب للمقام.
جاء في التفسير الكبير في قوله تعالى: (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) إنه “إشارة إلى أنهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا بل أعادوا ذلك وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين و (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) وأكدوا باللام لأن (يعلم الله) يجري مجرى القسم لأن من يقول: (يعلم الله) فيما لا يكون فقد نسب الله إلى الجهل وهو سبب العقاب كما أن الحنث سببه”. وجاء في روح المعاني “استشهدوا بعلم الله تعالى وهو جار مجرى القسم في التأكيد والجواب بما يجاب به وذكر أن من استشهد به كاذباً يكفر ولا كذلك القسم على كذب وفيه تحذيرهم معارضة علم الله تعالى.
وفي اختيار عنوان الربوبية رمز إلى حكمة الإرسال كما رمز الكفرة إلى ما ينافيه بزعمهم. وإضافة (رب) إلى ضمير الرسل لا يأبى ذلك ويجوز أن يكون اختياره لأنه أوفق بالحال التي هم فيها من إظهار المعجزة على أيديهم فكأنهم قالوا: ناصرنا بالمعجزات يعلم أنا إليكم لمرسلون. وتقديم المسند إليه لتقوية الحكم أو للحصر أي ربنا يعلم لا أنتم لانتفاء النظر في الآيات عنكم…. وجاء كلام الرسل ثانياً في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جداً حيث إنه أتوا بثلاث جمل وكل منها دال على شدة الإنكار كما لا يخفى على من له أدنى تأمل”.
آية (16):
*مفعول الفعل علِم مفتوح الهمزة (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ (20))(المزمل) (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) )(الحاقة) لكن ورد في بعض المواضع مكسور الهمزة (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42))(التوبة) (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) )(يس) (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) )(المنافقون) لماذا وردت عكس القاعدة؟(د.حسام النعيمى)
فعل علِم ينبغي أن يأتي بعدها (أن) مفتوحة الهمزة لكن إذا جاءت اللام التي سميناها اللام المزحلقة أي لام الابتداء كما في قولنا: (علمت أن زيداً ناجح) فإذا قلنا: (علمت إن زيداً لناجح) عند ذلك نكسر الهمزة في (إن). في ألفية ابن مالك توضيح هذه المسألة:
فاكسر في الابتدا وفي بدء صلة وحيث إنّ لِيَمينٍ ُمكمله
أو حُكيت بالقول أو حلّت محلّ حالٍ كزُرته وإني ذو أمل
وكسروا من بعد فِعلٍ عُلّقا باللام كاعلم إنه لذو تُقى
فحيثما جاءت اللام تُكسر الهمزة كما في قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1))( المنافقون).1
آية (17):
(وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17))
ذكروا أن مهمتهم هي البلاغ المبين حتى إن كذبوهم وأساءوا إليهم فإن هذا لا يثنيهم عن البلاغ لأن هذا أمر نيط بهم وعليهم تنفيذه. ومعنى (علينا) أي نحن مكلفون بذلك وهو واجبنا فواجب الرسل هو التبليغ بل يلزمنا البلاغ المبين أي المبين للحق المظهر له والذي يصل إلى عموم المكلفين بحيث لا يبقى أحد لا يسمع به ولا يعلم ما هو فلا يصح أن نسر ذلك إلى شخص أو نبلغه إلى جماعة مخصوصة فإن ذلك لا يكون بلاغاً مبيناً فالبلاغ المبين يتضمن أمرين: الأمر الأول إيضاح الرسالة وتبليغها كلها بحيث لا يبقى منها شيء غير مبلغ ولا غير معلوم. والأمر الآخر أن يكون التبليغ شاملاً لكل من أرسل إليهم واصلاً إلى كل فرد فلا يترك سبيلا لإيصال الدعوة إلى كل من تعنيه. وإلا لم يكن بلاغاً مبيناً. وعلى هذا فإن عليهم أن يبلغوا كل ما أرسلوا به وألا يكتموا منه شيئاً وأن يوصلوه إلى جميع أصحاب القرية وهذان الأمران لا يصدهم عنهما صاد ولا يدفعهم عنهما دافع لأن ذلك مما ألزموا به إلزاماً.
جاء في التفسير الكبير ” و(المبين) يحتمل أموراً: أحدهما البلاغ المبين للحق عن الباطل أي الفارق بالمعجزة والبرهان وثانيها البلاغ المظهر لما أرسلنا للكل أي لا يكفي أن نبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين وثالثها البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن”.
آية (18):
(قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18))
تطيرنا بكم أي تشاءمنا بكم فلم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا. وقد تقول لقد قال في سورة النمل في قوم صالح: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك (47))( النمل) فأبدل وأدغم فلم لم يقل ههنا كما قال ثمَّ؟ والجواب أنا ذكرنا في كتابنا بلاغة الكلمة في التعبير القرآني أن (اطّير) ونحوه كادّبّر واطّهّر أبلغ من (تطير) ونحوه لمكان التضعيف في الفاء زيادة على تضعيف العين فدل على أن التطير في سورة النمل أشد منه مما في هذه الآية، يدل على ذلك أنهم في هذه الآية هددوهم بالرجم والتعذيب إن لم ينتهوا. وأما في سورة النمل فقد تعاهدوا وتقاسموا بالله على قتله مع أهله (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله (49))( النمل) فدل على أن تطيرهم في سورة النمل أقوى وأشد.
وقد تقول إذا كان الأمر كذلك فلم إذن أكّد التطير بـ (إنّ) في سورة يس فقال: (إنا تطيرنا بكم) ولم يؤكده في سورة النمل فإنه قال: (قالوا اطيرنا)؟ والجواب أنه لا يلزم في الكلام توكيد كل فعل فيه مبالغة وشدة دوما فإنه إذا ذكر المتكلم فعلاً أقوى وأبلغ من فعل أو وصفاً أقوى من وصف لا يلزمه أن يؤكد الفعل أو الوصف الأقوى منهما وإنما يكون ذلك بحسب الغرض فله أن يؤكد أي واحد منهما بحسب ما يقتضيه الكلام فله أن يقول مثلاً (اصطبرت عليك وإني صبرت على فلان) فيذكر الاصطبار من دون توكيد ويؤكد الصبر مع أن الاصطبار أبلغ وأقوى من الصبر لأن الغرض من العبارة أن يخبر باصطباره عليه ويؤكد صبره على الآخر.
ولك أن تقول: (إنه كاذب) فتؤكد اسم الفاعل وتقول: (هو كذاب) فلا تؤكد صيغة المبالغة مع أن المبالغة أقوى من اسم الفاعل ولا يلزم من مبالغة الوصف التوكيد وإنما يكون ذلك بحسب الغرض. قال تعالى: (وإنهم لكاذبون) في أكثر من موطن فأكّد بـ (إنّ) واللام.
وقال: (هذا ساحر كذاب (4))( ص) و(بل هو كذاب أشر (25) القمر) ولم يؤكد مع أن (كذاب) صيغة مبالغة فأكد اسم الفاعل ولم يؤكد المبالغة.
والذي أريد أن أخلص إليه أن المبالغة في الفعل والوصف لا تقتضي التوكيد دائماً وإنما ذلك بحسب الغرض والمقام فلك أن تؤكد أيّ فعل أو وصف أو لا تؤكده ولك أن تؤكد ما هو أقل مبالغة ولا تؤكد الأقوى وبالعكس فكل ذلك إنما يكون بحسب ما يقتضيه الكلام. وإيضاح ذلك أنك قد تذكر شخصاً هو موضع ثقة كبيرة عند من تخاطبه فتقول له: (هو كاذب) فينكر ذلك عليك فتؤكد ذلك بقولك: (إنه كاذب) ثم ينكر عليك قولك إنكاراً أشد من الأول فتقول له: (إنه لكاذب). وتقول عن شخص آخر معروف بكثرة الكذب: (هو كذاب) فلا تحتاج إلى توكيد لأن مخاطبك لا ينكر ذلك عليك. فأنت احتجت إلى أن تؤكد اسم الفاعل دون المبالغة.
ونعود إلى الآيتين فنقول إن قوم صالح أخبروه بتطيرهم الشديد وأما أصحاب القرية فإنهم أكدوا تطيرهم وهو نظير قولنا: (اصطبرت عليك وإني صبرت على فلان) أو (هو مكتسب وإن زيداً كاسب) فيؤكد الأقل دون الأقوى.
إنه في آية يس قوله: (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) أكد التطير بـ (إنّ) وفي آية النمل وهي قوله: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) لم يؤكده ذلك أن كل موطن يقتضي ما ذكر فيه.
فإن أصحاب القرية أطالوا في كلامهم ولم يكتفوا بذكر التطير وإنما هددوهم بالرجم والتعذيب فقالوا: (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) في حين كان الكلام موجزاً في سورة النمل فقد ذكروا التطير ولم يهددوهم بشيء فناسب الإيجاز الإيجاز وناسب التفصيل التفصيل. ولا شك أن القول: (تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) أطول من (اطيرنا بك وبمن معك). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن أصحاب القرية هددوهم بالرجم والتعذيب مؤكدين ذلك بالقسم ونون التوكيد: (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) فناسب ذلك توكيد التطير في حين أن قوم صالح لم يهددوهم بشيء فناسب التوكيد في آية يس دون آية النمل. وهناك أمر آخر وهو أن رهطاً من قوم صالح كانوا يدبرون له ولأهله أمراً خفياً لا يريدون إشاعته ولا أن يعلم به غيرهم وهو أن يبيتوه وأهله بليل أي أن يغيروا عليهم ليلاً ويقتلوهم من دون أن يعلم أحد ثم إنهم إن سئلوا عن ذلك أجابوا أنهم لا يعلمون ذاك وقد تعاهدوا على ذلك وأقسموا عليه: (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله) وهذا يقتضي عدم التهديد والتوعد المعلن لأنه سيفتضح أمرهم بل يقتضي عدم التوكيد في الكلام ولذا ذكروا أنهم متطيرون بهم ليس غير. فاقتضى كل موطن التعبير الذي ورد فيه. هذا علاوة على تردد التوكيد بـ(إنّ) في قصة أصحاب القرية أكثر من مرة: (إنا إليكم مرسلون، إنا إليكم لمرسلون، إنا تطيرنا بكم، إني إذا لفي ضلال مبين، إني آمنت بربكم فاسمعون). في حين لم يرد ذلك في قصة صالح إلا قوله: (وإنا لصادقون) فناسب كل تعبير موطنه وأما قوله: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين (51)) وقوله: (إن في ذلك لآية (52)) فهذا من التعقيب على القصة وليس فيما دار فيها من كلام.
جاء في التفسير الكبير: “لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلو في التكذيب فلما قال المرسلون: (إنا إليكم مرسلون) قالوا: (إن أنتم إلا تكذبون) ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا: (ربنا يعلم) أكدوا قولهم بالتطير بهم”.
(لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) : بعد أن ذكروا تطيرهم بهم هددوهم بالرجم إن لم يكفوا عن دعوتهم وقد أكدوا ذلك بالقسم وبنون التوكيد ويدل على القسم اللام الداخلة على (إنْ) وهي اللام الموطئة للقسم أي الدالة عليه وأكدوا تهديدهم بنون التوكيد الثقيلة الداخلة على الفعل (لنرجمنكم) فكما أكدوا تطيرهم بـ (إنْ) أكدوا تهديدهم بالقسم ونون التوكيد. وقد تقول لقد قال في مكان آخر: (لتكونن من المرجومين (116))( الشعراء) وقال في سورة مريم: (لئن لم تنته لأرجمنك (46)) فلم لم يجعل التعبيرات على نمط واحد؟ والجواب أنه لا يصح جعلها على نمط واحد لأن المعنى مختلف والمقام مختلف؛ ذلك أن قولك: (لأرجمنك) يعني لأوقعن عليك الرجم ولا يعني أن هناك مرجومين معه أو نالهم الرجم. وقولك: (هو من المرجومين) يعني أنه واحد ممن نالهم الرجم. فلا يصح في سورة يس أن يقال: (لئن لم تنتهوا لتكونن من المرجومين) لأنه ليس هناك أشخاص آخرون غير هؤلاء نالهم الرجم فيكونون منهم. وكذلك في آية مريم فإنه قال: (لئن لم تنته لأرجمنك) ولم يقل: (لتكونن من المرجومين) لأنه ليس هنام آخرون معه نالهم الرجم أو سينالهم فإن هذا الكلام موجه من أبي إبراهيم لولده إبراهيم عليه السلام وحده. أما في سورة الشعراء فإنه تهديد لنوح ولمن معه: (قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) أي لئن لم تنته لتكونن من الذين ينالهم الرجم. ولو قال: (لنرجمنك) لكان الرجم مختصاً بنوح دون من آمن معه. فإن قيل ولم لم يقل: (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) كما قال في سورة يس؟ والجواب أن الرسل في سورة يس ثلاثة كلهم بمنزلة واحدة داعون إلى الله مبلغون لرسالته ولذلك جاء الكلام على أنفسهم بصيغة الجمع: (قالوا إنا إليكم مرسلون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون، وما علينا إلا البلاغ المبين) وكان التطير بهم جميعاً (قالوا إنا تطيرنا بكم) فكان الخطاب لهم جميعاً. وأما نوح فهو رسول واحد يبلغ عن ربه أما البقية فهم أتباع وهو صاحب الدعوة والمبلغ فخوطب وطلب منه الكف فقالوا: (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) أي لنرجمنك ومن معك فهذا تهديد له ولأتباعه. وهذا القول نظير ما قاله قوم لوط للوط: (لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين (167))( الشعراء) أي لنخرجنك ومن معك بدليل قوله تعالى على لسان قومه: (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82))( الأعراف) وقوله: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56))( النمل) فلما واجهوا لوطاً قالوا له لتكونن من المخرجين أي لتكونن واحداً منهم وهو تهديد له ولأتباعه أيضاً. فكان كل تعبير هو المناسب في مكانه.
(وليمسنكم منا عذاب أليم) : هددوهم بالعذاب الأليم إضافة إلى الرجم فإنهم لم يقولوا: (أو ليمسنكم منا عذاب أليم) فيهددوهم بأحد الشيئين بل جاءوا بالواو التي تفيد الجمع قم أعادوا اللام الواقعة في جواب القسم (ليمسنكم) للدلالة على أن التهديد بالعذاب مؤكد كالمعطوف عليه لأنه أحياناً يكتفي باللام الداخلة على الفعل الأول أما الفعل الثاني فيكتفي فيه بنون التوكيد فيكون الثاني أقل توكيداً وذلك كقوله تعالى: (لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم (11))( الحشر) فإنه أدخل اللام الموطئة في قوله: (لئن أخرجتم) ولم يدخلها على المعطوف وإنما اكتفى بتوكيد الفعل فقال: (وإن قوتلتم لننصرنكم) فكان الثاني أقل توكيداً من الأول ذلك أنهم أكدوا الفعل الأول لأنه أيسر عليهم ولم يؤكدوا الثاني لأنه أصعب عليهم وأشق.
وكان هناك خيار آخر وهو أن يخفف النون في الفعل المعطوف نظير قوله تعالى: (ولئن لم يفعل ما آمره ليسجننّ وليكوننْ من الصاغرين (32) )(يوسف) فيكون ما دخلت عليه النون الثقيلة آكد مما دخلت عليه النون الخفيفة ولكنه لم يفعل هذا ولا ذاك بل أعاد اللام وأتى بالنون الثقيلة للدلالة على أنهما بمنزلة واحدة في التوكيد وأنهم سيفعلونهما جميعاً. ثم قالوا: (منا) للدلالة على الجهة التي ستقوم بالعذاب فالجهة التي ستقوم بالرجم والعذاب واحدة (لنرجمنكم وليمسنكم منا) فإنه لم يقل: (وليمسنكم عذاب أليم) فيُبهم الجهة إذ لعله لو قالوا ذاك لفهم منه أنهم يقصدون أن آلهتهم هي التي ستمسهم بالعذاب. وقدم الجار والمجرور (منا) على العذاب لأكثر من سبب ذلك أن الكلام عليهم وهم مدار الإسناد (قالوا إنا تطيرنا، لنرجمنكم، وليمسنكم منا) فناسب تقديم ضميرهم فإنهم هم المتطيرون وهم الراجمون وهم المعذبون. ثم إن تقديم الجار والمجرور يفيد تعلقه بالفعل (ليمسنكم) أي (ليمسنكم منا) أي نحن الذين نعذبكم ونتولى أمر ذلك بأنفسنا ولا ندع ذلك لغيرنا ممن قد يرقّ لحالكم أو يخفف عنكم. ولو قال: (ليمسنكم عذاب أليم منا) لاحتمل أن يكون (منا) صفة لـ (عذاب) وعلى هذا الاحتمال يكون العذاب صادراً منهم أمره أما الذي يقوم بالتعذيب فهو غيرهم وهذا يكون نظير قولنا: “استعرت لمحمد كتاباً” و “استعرت كتاباً لمحمد” فإن الجملة الأولى يكون تعلق الجار والمجرور فيها بـ (استعرت) فتكون الاستعارة لمحمد أي “استعرت لمحمد” “كتاباً”، أما الجملة الثانية فتحتمل هذا المعنى وتحتمل معنى آخر وهو استعرت كتاباً عائداً لمحمد أي أن الكتاب هو كتاب محمد وأنت استعرته فيكون المعنى على النحو الآتي: (استعرت) (كتاباً لمحمد) فكان تقديم الجار والمجرور هو الأنسب.
آية (19):
(قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19))
طائركم أي ما طار لكم من الخير والشر أو حظكم ونصيبكم منهما معكم وهو إنما يكون من أفعالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشرّ. وفسر الطائر بالشؤم “أي شؤمكم معكم وهو الإقامة على الكفر وأما نحن فلا شؤم معنا لأنا ندعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وفيه غاية اليمن والخير والبركة” (روح المعاني).
(أئن ذكرتم) أي أئن ذكرتم بما هو خير لكم في الدنيا والآخرة تطيرتم أو تتوعدونا بالرجم والتعذيب؟ وحذف جواب الشرط لإطلاقه وعدم تقييده بشيء معين.
(بل أنتم قوم مسرفون) أي مجاوزون للحد في المعاصي أو في التطير أو في العدوان وأطلق الإسراف ولم يقيده بشيء ليشمل كل إسراف في سوء.
آية (20):
*ما دلالة التقديم والتأخير لكلمة رجل في الآيتين (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى (20))( يس) و (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى (20))( القصص)؟
الآية الأولى في سورة يس والأخرى في سورة القصص في قصة موسى (عليه السلام). (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) يعني هو فعلاً جاء من أقصى المدينة أي من أبعد مكان فيها. (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) ليس بالضرورة ذلك وإنما تحتمل هذا المعنى وغيره. تحتمل أنه فعلاً جاء من أقصى المدينة وتحتمل لا هو من سكان تلك الأماكن البعيدة لكن ليس مجيئه من ذلك المكان ليس بالضرورة. كما تقول جاءني من القرية رجال تعني أن المجيء من القرية، جاءني رجال من القرية أي قرويون هذا يحتمل معنيين في اللغة، هذا يسمونه التعبير الاحتمالي. هناك نوعين من التعبير تعبير قطعي وتعبير احتمالي يحتمل أكثر من دلالة والتعبير القطعي يحتمل دلالة واحدة. لما تقول جاءني رجال من القرية تحتمل أمرين الرجال جاءوا من القرية أي مجيئهم من القرية وجاءني رجال من القرية احتمالين أن المجيء من القرية وتحتمل أنهم رجال قرويون ولكن ليس بالضرورة أن يكون المجيء من القرية. كما تقول: جاءني من سوريا رجل يعني رجل سوري وجاءني رجل من سوريا ليس بالضرورة أن يكون جاء من سوريا، جاء من سوريا رجل يعني جاء من سوريا. وجاء من أقصى المدينة رجل يعني جاء من أقصى المدينة، أما جاء رجل من أقصى المدينة ليس بالضرورة فقد يكون من سكان الأماكن البعيدة، مكانه من أقصى المدينة لكن ليس بالضرورة أن المجيء الآن من ذاك المكان وقد يكون من مكان آخر..
سؤال: تعقيب الآية في سورة يس: (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)) أما في القصص فالتعقيب: (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) المجيء في سورة يس أهم لذا قال: (رجل يسعى) جاء لتبليغ الدعوة وإشهار الدعوة وأن يعلن ذلك أمام الملأ مع أنهم كلهم ضد على أصحاب يس، على الرسل وهناك في القصص جاء ليسرّ في أذن موسى (عليه السلام) كلاماً (إن الملأ يأتمرون بك). هذا إسرار أما ذاك فإشهار، ذاك تبليغ دعوة وهذا تحذير. في قصة يس أن القرية كلها ضد الرسل (إن لم تنتهوا) موسى لم يقل له أحد هذا. في يس كان إشهار الدعوة خطر على الشخص تحتاج إلى إشهار لكن عاقبتها خطر على الشخص. في القصص ليس كذلك لأنه ليس هناك ضد لموسى -عليه السلام- فلما كان الموضوع أهم وإن موضوع الدعوة لا يعلو عليه شيء والتبليغ لا يعلو عليه شيء وهو أولى من كل شيء قال: (من أقصى المدينة رجل يسعى) يحمل هم الدعوة من أقصى المدينة ويسعى ليس متعثراً يخشى ما يخشى وإنما وقال يسعى لتبليغ الدعوة وليس مجيئاً اعتيادياً هكذا لكنه جاء ساعياً. ذاك جاء ساعياً أيضاً لأمر مهم لكنه أسرّ إلى موسى -عليه السلام- ولهذا جاء التقديم والتأخير بحسب الموضوع الذي جاء من أجله. فلما كان الموضوع أهمّ قدّم (جاء من أقصى المدينة) يحمل هم الدعوة. وفي الموضوع الآخر أخّر.
سؤال: الجُمَل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات، صفة رجل يس يسعى لذا عدد القرآن بعض أقواله ومناقبه أما رجل القصص؟
يحتمل أن شبه الجملة (من أقصى المدينة) أن يكون صفة و(يسعى) صفة ثانية هو كونه من أقصى المدينة فتكون صفة، يحتمل أن الجار والمجرور صفة ويسعى صفة ثانية. كلمة يسعى بعد المدينة وبعد رجل، كلمة (رجل) كلاهما نكرة. جملة (يسعى) صفة في آية يس وفي القصص (يسعى) صفة للرجل وليست للمدينة. كلمة رجل في الحالتين نكرة فجملة يسعى في الآيتين صفة. يسعى صفة للرجل في الحالتين.
*في إجابة أخرى للدكتور فاضل:
من حيث الدلالة اللغوية أصل المجيء مختلف بين الآيتين نقول مثلاً جاء من القرية رجل بمعنى أن مجيئه كان قطعياً من القرية وهذا تعبير قطعي أم إذا قلنا جاء رجل من القرية فهذا تعبير احتمالي قد يكون جاء من القرية أو يكون رجلاً قروياً ولم يجيء من القرية كأن نقول جاء رجل من سوريا فهذا لا يعني بالضرورة أنه جاء من سوريا ولكن قد تعني أنه سوري. وإذا قلنا جاء رجل من أقصى المدينة رجل يسعى تحتمل أن يكون من سكان أقصى المدينة وتحتمل أن مجيئه كان من أقصى المدينة. وفي سورة يس (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) تعني أنه جاء قطعياً من أقصى المدينة لأن مجيء صاحب يس كان لإبلاغ الدعوة لأن الرسل في السورة قالوا: (وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ {17}) والبلاغ المبين هو البلاغ الواضح الذي يعمّ الجميع فمجيء الرجل من أقصى المدينة تفيد أن الدعوة بلغت الجميع وبلغت أقصى المدينة ليتناسب مع البلاغ المبين. أما في سورة القصص في قصة موسى (عليه السلام) (التعبير احتمالي) فالرجل جاء من أقصى المدينة للإسرار لموسى .
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20))
في هذا الوقت المتأزم والظرف العصيب الذي كثر فيه التهديد والتوعد واشتد فيه الإرهاب جاء من أقصى المدينة رجل يسعى ليعلن اتّباعه للرسل وإيمانه بهم ويبين ضلال قومه غير مبال بما سيحدث له. وفي هذا التعبير دلالات مهمة في هذا الخصوص.
فقد ذكر أنه جاء من أقصى المدينة أي من أبعد مكان فيها لا يثنيه شيء حاملاً همّ الدعوة.
قال: (من أقصى المدينة) ولم يقل: (من أقصى القرية) وقد سماهما قرية بادئ ذي بدء فقال: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية) ذلك للدلالة على أنها واسعة. فالقرية إذا كانت متسعة تسمى مدينة أيضاً فأفاد أن هذه القرية كبيرة متسعة ولذا أطلق عليها مدينة وذلك يفيد أنه جاء من مكان بعيد وذلك يدل على اهتمامه الكبير بمعتقده الجديد.
قال: (يسعى) أي يعدو ويسرع في مشيه وليس متباطئاً يقدم رِجلاً ويؤخر أخرى وهو توجيه للدعاة بعدم التواني في أمر الله.
لم يسكت عن الحق ولم يجامل أو يهادن بل دعا قومه إلى الإيمان بما جاءت به الرسل وأتباعهم وأعلن عن إيمانه هو.
إن مجيئه من أقصى المدينة يدل على وصول البلاغ إلى أبعد مكان فيها مما يدل على جديتهم في التبليغ وتوسعهم فيه وهو تصديق قولهم (وما علينا إلا البلاغ المبين).
وقال هنا: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) فقدم (من أقصى) على (رجل) وقال في سورة القصص: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20))( القصص) بتقديم (رجل) على (من أقصى المدينة). ذلك أن القصد في آية يس أن يبين أن مجيء الرجل كان من أبعد مواضعها وأما في القصص فإنه يفيد أن الرجل من أقصى المدينة أي هو من أهل المواضع البعيدة غير أنه لا يلزم أن يكون مجيئه من أقصى المدينة وهو كما تقول: “جاءني من القرية رجال” أي جاؤوك من القرية، وتقول: “جاءني رجال من القرية” فالرجال هم من أهل القرية ولكن لا يقتضي أن مجيئهم إليك كان من القرية بل قد يكونون في المدينة ثم جاؤوك. وقد يكون المجيء من القرية فقولك: “جاءني رجال من القرية” يحتمل معنيين بخلاف قولك: “جاءني من القرية رجال”.
وعلى أية حال فإن قوله: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) يفيد أنه جاء من أبعد مكان في المدينة. وقوله: (وجاء رجل من أقصى المدينة) يحتمل ذلك ويحتمل أنه من أهل الأماكن البعيدة وإن لم يكن مجيئه من هناك.
وفي تقديم (من أقصى المدينة) في سورة يس فائدة أخرى حتى لو كان مجيئهما كليهما من أقصى المدينة فإن قوله: (وجاء من أقصى المدينة) يدل على أن الاهتمام أكبر لأكثر من سبب:
1. ذلك أن مجيء الرجل من أقصى المدينة إنما كان لغرض تبليغ الدعوة في حين أن مجيء الرجل إلى موسى كان لغرض تحذيره والأمر الأول أهم.
2. ثم إن مجيء الرجل من أقصى المدينة إنما كان لإشهار إيمانه أمام الملأ ونصح قومه في حين أن مجيء الرجل إلى موسى ليسرّ إليه كلمة في أذنه فمجيء رجل يس إنما كان للإعلان والإشهار ومجيء رجل موسى إنما كان للإسرار وفرق بين الأمرين.
3. إن مجيء رجل يس فيه مجازفة ومخاطرة بحياته وليس في مجيء رجل موسى شيء من ذلك وإنما هو إسرار لشخص بأمر ما ليحذر.
4. إن المجتمع في القرية كله ضد الرسل وعقيدتهم مكذب لهم متطير بهم فإعلان الرجل أنه مؤمن بما جاء به الرسل مصدق لهم فيه ما فيه من التحدي لهم بخلاف مجتمع سيدنا موسى عليه السلام فإنه ليس فيه فكر معارض أو مؤيد وليست هناك دعوة أصلاً.
5. إن نصر رسل الله وأوليائه ودعاته أولى من كل شيء فإن تعزيزهم تعزيز لدعوة الله وأما موسى عليه السلام فإنه كان رجلاً من المجتمع ليس صاحب دعوة آنذاك ولم يكلفه الله بعد بحمل الرسالة.
فتقديم (من أقصى المدينة) دل على أن الموقف أهم وأخطر ومع ذلك أفادنا أن تحذير شخص من ظالم أمر مهم ينبغي أن يسعى إليه ولو من مكان بعيد. فإن كلا الموقفين مهم غير أن أحدهما أهم من الآخر فقدّم ما قدم ليدل على الاهتمام.
جاء في التفسير الكبير في قوله تعالى: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) :”وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان: أحدهما أنه لبيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي وعلى هذا فقوله: (من أقصى المدينة) فيه بلاغة باهرة وذلك لما جاء من: (أقصى المدينة رجل) وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة… وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى قوله: (وجاء من أقصى المدينة رجل) في تنكير الرجل مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان:
1. الأولى أن يكون تعظيماً لشأنه أي رجل كامل في الرجولية.
2. الثانية أن لا يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا.
المسألة الثانية قوله: (يسعى) تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم وقد ذكرنا فائدة قوله: (من أقصى المدينة) وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة”.
وجاء في روح المعاني ” :(وجاء من أقصى المدينة) أي من أبعد مواضعها (رجلٌ) أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطؤوا معه…. (يسعى) أي يعدو ويسرع في مشيه حرصاً على نصح قومه لأنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذبّ عنهم…. وجاء (من أقصى المدينة) هنا مقدّم على (رجل) عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة. وقال الخفاجي: قدّم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بياناً لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وأن بُعده لم يمنعه عن ذلك. ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وأن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرُب أو بعُد. وقيل: قدّم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر أنهم أتوا بالبلاغ المبين. وقيل: أن لو تأخر توهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود”.
(قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21))
قال لهم (يا قوم) ليعطف قلوبهم وذكر لهم ثلاثة أمور تدعوهم إلى اتباع هؤلاء الدعاة:
1. كونهم مرسلين من الله وهذا أهم ما يستوجب اتباعهم فكونهم مرسلين من ربهم يدعو إلى اتباعهم لأنهم لا يدعون لأنفسهم ولا إلى معتقدات شخصية ولا إلى آراء خاصة ولا إلى أفكار بشرية وإنما يدعونهم إلى ما أراده ربهم وخالقهم.
2. وأنهم لا يسألون أجراً على التبليغ ولا يبتغون مصلحة خاصة كما هو شأن كثير من أصحاب الدعوات والأرضية مما يدل على أنهم مخلصون في دعوتهم.
3. أنهم مهتدون وهذا يقتضي الاتباع وهو بغية كل متبع مخلص. جاء في الكشّاف “: (من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) كلمة جامعة في الترغيب يفهم أي لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة”.
وقد كرر الاتباع بقوله: (اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) لأكثر من غرض فالتكرار يفيد التوكيد ويفيد أمراً آخر وهو أن المرسلين ينبغي أن يتبعوا أصلاً فإذا ثبت أن شخصاً ما مرسل من ربه كان ذلك داعياً إلى أن يتبع قطعاً وهذه دلالة قوله: (اتبعوا المرسلين). أما اتّباع غير المرسلين فيكون لمن فيه صفتان:
1. أن يكون مهتدياً .
2. أن لا يسأل أجراً ولا يطلب منفعة ذاتية.
وهذ توجيه لعموم المكلفين ولو قال: (اتبعوا المرسلين من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) لكان ذلك خاصاً باتباع الرسل ولا يشير إلى اتباع غيرهم من المصلحين والداعين إلى دعوتهم. فتكرار (اتبعوا) أفاد الاتباع للرسل في حالة وجودهم والاتباع الثاني لمن يحمل هاتين الصفتين.
جاء في روح المعاني :”تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن اتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضي”.
واختار (من) على (الذين) لكونها أعمّ فإنها تشمل كل داع إلى الله واحداً كان أو أكثر.
آية (20):
*ما سبب التقديم والتأخير في آية سورة يس (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)) وسورة القصص (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20))؟ (د.حسام النعيمى)
(وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ( 20))( القصص) هذه الآية لو تأملناها: لما يأتي النظام على صورته الطبيعية المفروض أن لا يرد السؤال فالنظام طبيعي هو أن يأتي الفعل ، الفاعل ثم المتممات للفعل مثل المفعول به أو المفعول معه أو الحال أو التمييز أو غيره. هذا نظام الجملة العربية فعل وفاعل ومتممات فلما يأتي نظام (جاء رجل) هذا على النظام طبيعي المفروض لا يُسأل عنه. مع ذلك لأنه ورد في مكان آخر: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20))( يس) يرد السؤال لِمَ لم يحدث تغيير هنا كما حدث في الآية الأخرى؟ نحن سنشرح لماذا حدث التغيير في الآية الثانية؟ السؤال لم لم يحدث فيه تغيير كما هو حدث في الآية الثانية يعني أن يقول في غير القرآن: (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك) هذا الرجل مقصود من الآية أن إنساناً حذّر موسى وكان لاهتمامه أنه جاء يسعى من أقصى المدينة فللاهتمام بالرجل الذي عرّض نفسه للمخاطرة لما يأتي ويحذّر موسى أن هناك من يأتمر بك ويُعرّض نفسه للخطورة ولذلك كان الاهتمام به فقدّم (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) لأنه جاء محذّراً ثم ذكر المكان الذي جاء منه والهيئة التي جاء بها على أن الأصل أن يأتي بعد الفعل مباشرة لكن مع ذلك حتى هذا الأصل حوفظ عليه لأن هناك اهتمام بهذا الإنسان الذي عرّض نفسه للخطر، يعني ليس هناك اهتمام بأقصى المدينة.
هذه واحدة ولما ننتقل إلى الآية الأخرى نجد أنه (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20))( يس) هذا ما جاء ليحذّر وإنما جاء ليدعم المرسلين. جاء ليقويّ التبليغ في الدعوة. لما يأتي ليقويّ التبليغ في الدعوة يعني هو كان مؤمناً إذن هذه شهادة للمرسلين بأن دعوتهم بلغت أقصى المدينة. فإذن المكان هنا أهمّ من الرجل حتى يفهم القارئ أن هؤلاء المرسلين بلّغوا الدعوة ونشروها بحيث وصلت إلى أقصى المدينة فقال: (وجاء من أقصى المدينة) ثم بعد ذلك قال: (رجل) هو غير معتني بالرجل وإنما معتني بالمكان أنه من هذا المكان البعيد جاء مؤمناً فإذن هم اشتغلوا في نشر الدعوة بحيث بلغوا في دعوتهم إلى أقصى المدينة. وهذا هو الفارق لذلك هنا المكان أهم حتى يُظهر جهدهم وما بذلوه من نشر للدعوة.
يقال الجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات فهل رجل في الآية الثانية بعد نكرة هي صفة؟: كلمة (رجل) نكرة في الحالين وإن كانت قُيّدت بالآية الأولى (وجاء من أقصى المدينة رجل) وهذا لا يكسبها تعريفاً وليس تخصيصاً. وهذا يكسبها تخصيصاً تبقى صفة بعد النكرات لا تكون حالاً والجار والمجرور يُكسبها تخصيصاً ولا يكسبها تعريفاً.
آية (22):
(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22))
بعد أن نصح لهم باتباع المرسلين لأنهم على الهدى ذكر أنه بدأ بنفسه فآمن بدعوتهم واتبعهم فقال: (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) لقد اختار من الدواعي الموجبة لعبادة ربه أنه هو المبدئ والمعيد فهو الذي فطرهم وأوجدهم وأنهم إليه يرجعون فلا يتركهم بعد موتهم بل سيحشرهم إليه ويحاسبهم على ما قدموا فله أن يعاقبهم أو يكرمهم وفي هذا تخويف وإطماع. لقد اختار هذين الأمرين من موجبات العبادة وهما البدء والإعادة لعلمهم جميعاً أن آلهتهم لا تفعلها ولا تستطيعها وبهذا سقط كل موجب لعبادة غيره وثبت كل موجب لعبادته. وقد قدم الجار والمجرور (إليه) على (ترجعون) لشدة الاختصاص والمعنى الرجوع إليه حصراً لا إلى غيره وهو نظير قوله تعالى: (وإليه المصير) و (وأن إلى ربك المنتهى) و (وإليه تحشرون). لقد ذكر الموجب لأن يعبده وأن يعبدوه هم فإنه قال: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) وهذا داعٍ لأن يعبده هو فكيف لا يعبد الذي فطره؟ وفيه دعوة لهم أيضاً ليعبدوه لأن الذي فطره فطرهم أيضاً.
وقال: (وإليه ترجعون) وهذا داع لأن يعبدوه هم فإنهم راجعون إليه فيحاسبهم وهو مثلهم راجع إليه أيضاً لأنه فطره. فقوله: (الذي فطرني) يقتضي أنه فطرهم أيضاً. وقوله: (وإليه ترجعون) يقتضي أنه يرجع إليه أيضاً. وبذلك أشار بأوجز تعبير إلى أنه فطره وفطرهم وأنه إليه يرجع وأنهم إليه يرجعون. فما له لا يعبده وما لهم لا يعبدونه؟ وهذا تعبير موجز عن القول: (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه أرجع وما لكم لا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون).
جاء في الكشاف: “أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم ولأنه أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لروحه. ولقد وضع قوله: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) مكان قوله: (وما لكم لا تعبدون الذي فطركم)، ألا ترى إلى قوله: (وإليه ترجعون)، ولولا أنه قصد ذلك لقال: الذي فطرني وإليه أرجع وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال: (آمنت بربكم فاسمعون) يريد فاسمعوا قولي وأطيعوني فقد نبهتكم على الصحيح الذي لا معدل عنه أن العبادة لا تصح إلا لمن منه مبتدؤكم وإليه مرجعكم”.
وجاء في التفسير الكبير :”اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال: (وما لي لا أعبد) بإسناد العبارة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه…. وقوله: (وإليه ترجعون) إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال: (ادعوه خوفاً وطمعا) وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى”.
وجاء في روح المعاني:” تلطف في إرشاد قومه بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كما ينبئ عنه قوله: (وإليه ترجعون) مبالغة في تهديدهم بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب مواجهة وتصريحاً ولو قال: (وإليه أرجع) كان فيه تهديد بطريق التعريض”.
آية (23):
(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23))
بعد أن ذكر من يستحق العبادة وسبب استحقاقه لها أفاد أنه ينبغي أن يوحده وأنه لا ينبغي له أن يتخذ إلهاً من دونه ولا معه أو يتخذ ذاتاً وسيلة لتقربه إليه. أما إنه لا ينبغي له أن يتخذ إلهاً من دونه فذلك قوله: (أأتخذ من دونه آلهة) ولا أن يتخذ إلهاً معه لأن ما يتخذونهم معه لا يملكون ضراً ولا نفعاً فإذا أراده الرحمن بضر لا يملكون له شيئاً فهم إذن دونه فلا يصح أن يتخذوا معه آلهة. ولا أن يتخذوا ذاتاً لتقربه إليه لأنه ذكر أنه لا تغني شفاعتهم شيئاً فلا يصح على ذلك أن يتخذوا ذاتاً لتقربه إليه. وبهذا يكون دعاهم إلى التوحيد الخالص من دون شركاء أو شفعاء أو وسطاء وهو وإن أنكر على نفسه أن يتخذ آلهة من دون الله يقصد بذلك عموم من يصل إليه الخطاب من الناس فلا ينبغي أن يتخذ أحد إلهاً من دونه وما ذكره بحق نفسه لا يخصه وحده وإنما يعم جميع المكلفين فإنه قال: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) وهو لم يفطره وحده بل فطر المخلوقات جميعاً.
وقال: (إن يردن الرحمن بضر) وهذا الأمر لا يخصه وحده بل أراد الله غيره بذلك فالأمر كذلك. لقد أخرج هذا الكلام مخرج الاستفهام الإنكاري وليس مخرج الخبر فإنه بعد أن ذكر ما ذكر قال: (أأتخذ من دونه آلهة) أي أيصح ذلك عقلاً؟ أيجوز اتخاذ غيره إلهاً؟
ولا شك أن كل عاقل سيجيب قائلاً: لا، إنه لا يصح أن تتخذ إلهاً من دونه. وهذا لا شك أقوى من الكلام التقريري الخبري الذي يقول: أنا لا أتخذ من دونه آلهة وذلك لأنه قرار انفرادي رآه هو في حين أن قوله: (أأتخذ من دونه آلهة) يستدعي اشتراك الآخرين في الجواب واتخاذ القرار.
جاء في التفسير الكبير: “ثم قال تعالى (أأتخذ من دونه أولياء) ليتم التوحيد… فقال: (ومالي لا أعبد) إشارة إلى وجود الإله وقال: (أأتخذ من دونه) إشارة إلى نفي غيره فيتحقق معنى لا إله إلا الله. وفي الآية أيضاً لطائف:
الأولى ذكره على طريق الاستفهام فيه معنى وضوح الأمر وذلك أن من أخبر عن شيء فقال مثلاً: (لا أتخذ) يصح من السامع أن يقول له: لم لا تتخذ؟ فيسأله عن السبب فإذا قال: (أأتخذ) يكون كلامه أنه مستغنٍ عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار كأنه يقول: استشرتك فدُلّني والمستشار يتفكر فكأنه يقول: تفكر في الأمر تفهم من غير إخبار مني.
الثانية قوله: (من دونه) وهي لطيفة عجيبة وبيانها هو أنه لما بيّن أنه يعبد الله بقوله: (الذي فطرني) بيّن أن من دونه لا تجوز عبادته..
الثالثة قوله: (أأتخذ) إشارة إلى أن غيره ليس بإله لأن المتخذ لا يكون إله (كذا) ولهذا قال تعالى: (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) وقال: (الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) لأنه تعالى لا يكون له ولد حقيقة ولا يجوز… ولا يقال قال الله تعالى: (فاتخذه وكيلا) في حق الله تعالى حيث قال: (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) نقول ذلك أمر متجدد”.
ونريد أن نذكر أمراً بخصوص قوله تعالى: (فاتخذه وكيلا) فإن الذي يبدو من الاستعمال في اللغة أنه إذا كان الشيء موجوداً أصلاً من غير انفكاك ولا اختيار فلا يقال: (اتخذته) فلا يقال مثلاً: اتخذت فلاناً أباً إذا كان أباه حقيقة ولا يقال: اتخذته أخاً إذا كان أخاه حقيقة وإنما يقال ذلك لما يصح فيه التخلي والترك والاختيار كأن تقول اتخذت فلاناً صديقاً لي لأنك مختار في اختيار الأصدقاء وتقول اتخذت أخاً وصاحباً فيما أنت مختار فيه. ولا يصح أن تقول اتخذت فلاناً خالقاً أو اتخذت الكواكب خالقاً ولا اتخذت الله خالقاً لأنه هو الخالق وليس متخذاً لذلك لكنك تقول اتخذته معبوداً لأنك مختار في اتخاذ ما تعبد.
ونحوه قوله: (فاتخذه وكيلا) فإن لك أن تختار الوكلاء وأن تتخذ من تشاء فاتخذ الله وكيلاً تفلح.
وقد تقول: إن الله وكيل على كل شيء كما قال تعالى: (والله على كل شيء قدير (12))( هود) (وهو على كل شيء وكيل (102))( الأنعام و(62) )(الزمر). فنقول هذه وكالة قسرية وكالة الاختيار والطاعة ونظير ذلك في العبودية فإن العبودية لله قد تكون قسرية كما قال تعالى: (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً (93))( مريم) وقوله: (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء (17))( الفرقان) وهذه العبودية ليست من الطاعة ولا يتعلق بها ثواب. وقد تكون عبودية اختيارية وذلك بأن يختار المرء أن يكون عبداً لله مطيعاً له وهذه هي التي يتعلق بها الثواب كما قال تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون (172))( النساء) وقال: (عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6))( الإنسان). ونحوه الألوهية والربوبية فالله سبحانه هو إله الخلق كلهم وربهم شاءوا أم أبوا. قال تعالى: (وهو رب كل شيء (164))( الأنعام) و (الحمد لله رب العالمين) وقال: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو (163))( البقرة) وقال: (إنما هو إله واحد (19))( الأنعام) وقال)( (وما من إله إلا الله الواحد القهار (65))( ص). وهذه الربوبية والألوهية قسرية شاء الخلق أم أبوا ولا يترتب عليها ثواب وإنما يترتب الثواب والعقاب على من اتخذه إلهاً ورباً أو اتخذ غيره كما قال تعالى: (أتتخذ أصناماً آلهة (74))( الأنعام) (أرأيت من اتخذ إلهه هواه (43))( الفرقان) (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم (31))( التوبة). فالاتخاذ أمر اختياري يفعله المتخذ وهو غير الأمر الكائن أصلاً من غير اتخاذ وذلك نحو “هذا ولدي” و “هذا اتخذته ولداً لي” والله أعلم.
(إن يردن الرحمن بضر): استعمل الفعل المضارع فعلاً للشرط فقال: (إن يردن) واستعمل الماضي في مكان آخر: (إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره (38))( الزمر) وعند النحاة إن الماضي في الشرط يفيد الاستقبال. جاء في التفسير الكبير “قال ههنا: (إن يردن الرحمن بضر) وقال في الزمر: (إن أرادني الله) فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي هنالك واختيار صيغة المضارع ههنا؟ وذكر المريد باسم الرحمن هنا وذكر المريد باسم الله هناك؟ نقول أما الماضي والمستقبل فإن (إنْ) في الشرط تصير الماضي مستقبلاً وذلك لأن المذكور ههنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله: (أأتخذ) وقوله: (ومالي لا أعبد) والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله: (أفرأيتم) وكذلك في قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر) لكون المتقدم عليه مذكوراً بصيغة المستقبل وهو قوله: (من يُصرف عنه) وقوله: (إني أخاف إن عصيت) والحكمة فيه هو أن الكفار كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بضر يصيبه من آلهتهم فكأنه قال: صدر منكم التخويف وهذا ما سبق منكم. وههنا ابتدأ كلام صدر من المؤمن للتقرير والجواب ما كان يمكن صدوره منهم فافترق الأمران”.
والذي يترجح عندنا أن الفعل المضارع مع الشرط كثيراً ما يفيد افتراض تكرر الحدث بخلاف الفعل الماضي فإنه كثيراً ما يفيد افتراض وقوع الحدث مرة كما قال تعالى: (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها (93))( النساء) وقال: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة (92) )(النساء) فجاء مع القتل المتعمد بالفعل المضارع لأنه يفترض فيه تكرر الحدث إذ كلما سنحت للقاتل فرصة قتل مؤمناً بخلاف قتل الخطأ فإنه لا يفترض تكرره.
ونحو ذلك قوله تعالى: (قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً (17))( المائدة) فجاء بفعل الإرادة ماضياً (إن أراد) لأن هذه الإرادة تكون مرة واحدة ولا تتكرر فإنه إذا أهلكه فقد انتهى الأمر.
ونحوه قوله تعالى: (فإن أراداً فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما (233))( البقرة) فإن هذا لا يتكرر فإذا انفصلا فقد انتهى الأمر.
ونحوه قوله تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها (16))( الإسراء) ونحوه قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها (50))( الأحزاب) هذه الإرادة لا تتكرر وإنما تكون مرة واحدة في حين قال: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها (145))( آل عمران) فجاء بفعل الإرادة مضارعاً لأن إرادة الثواب تتكرر ومثله قوله تعالى: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله (62))( الأنفال) فإن إرادة الخديعة تتكرر. ومثله قوله تعالى: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم (71))( الأنفال) فإن إرادة الكفار خيانة الرسول قد تتكرر فجاء بالفعل مضارعاً. فنقول إن استعمال الفعل المضارع في سورة يس في قوله تعالى: (إن يردن الرحمن بضر) إشارة إلى أنه كان يتوقع تكرر وقوع الضرر عليه من قومه وأنهم لا يكفون عن إلحاقه به ما دام بينهم.
وقد تقول لم قال ههنا: (إن يردن الرحمن بضر) فأسند الإرادة إلى الرحمن وقال في الزمر: (إن أرادني الله بضر) فأسند الإرادة إلى الله؟ فنقول: إن القائل في سورة يس يتوقع وقوع الضرر عليه وتطاوله كما ذكرنا فذكر اسم الرحمن كأنه يلوذ به ويعتصم وهو بمثابة سؤاله الرحمة بخلاف ما في الزمر فإنه ليس الأمر كذلك ولا يتوقع نحو هذا. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه حسن ذكر اسم الرحمن مع الشفاعة في سورة يس فقال: (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً) لأن الشفيع إنما يستدر رحمة من يشفع عنده والمتصف بالرحمة قد يقبل شفاعة من ليس له جاه كبير عنده أما هؤلاء الآلهة فلا تنفع شفاعتهم حتى مع الرحمن إذ ليس لهم جاه ألبتة وهذا أبلغ في إسقاط وجاهة هؤلاء. ثم من ناحية ثالثة أنه ورد اسم الرحمن في سورة يس أربع مرات ولم يرد في سورة الزمر ولا مرة واحدة وورد اسم الله في سورة الزمر تسعاً وخمسين مرة وورد في سورة يس ثلاث مرات فقط فناسب ذكر اسم الله في الزمر والرحمن في يس.
وقد علل الفخر الرازي ذكر اسم الرحمن في يس واسم الله في الزمر بقوله: “وأما قوله هناك (إن أرادني الله) فنقول قد ذكرنا أن الاسمين المختصين بواجب الوجود الله والرحمن كما قال تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) والله للهيبة والعظمة والرحمن للرأفة والرحمة. وهناك وصف الله بالعزة والانتقام في قوله: (أليس الله بعزيز ذي انتقام) وذكر ما يدل على العظمة بقوله: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض) فذكر الاسم الدال على العظمة. وقال ههنا ما يدل على الرحمة بقوله: (الذي فطرني) فإنه نعمة هي شرط سائر النعم فقال (إن يردن الرحمن بضر)”.
وقد تقول: لقد قال في سورة يس: (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) وقال في الزمر: (إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته (38)) فذكر الضر في يس ولم يذكر الرحمة إذ لم يقل وإن يردن برحمة لا يمسكوا رحمته في حين ذكر في الزمر الضر والرحمة فقال: (إن أرادني الله بضر …أو أرادني برحمة) فما سبب ذلك؟ والجواب والله أعلم أن ذلك لأكثر من سبب: منها أن صاحب يس كان يتوقع الضر من أهل قريته ولم يكن يتوقع منهم شيئاً من لين أو رحمة بل ربما كان يتوقع القتل لأن الجو كان متأزماً كله تهديد ووعيد وقد انتهى الأمر بقتله فلا يناسب ذكر الرحمة. ومن ذلك أن ذكر اسم الرحمن أغنى ههنا عن ذكر (وإن يردن برحمة) فإن الرحمن يريد الرحمن وهو لا يريدها فقط وإنما يحققها وإلا فليس برحمن فاكتفى بذكر صفته عن أن يقول: (وإن يردني برحمة) بخلاف ما في الزمر فإنه ذكر اسم الله ولم يذكر وصفاً فناسب ذلك أن يذكر الضر والرحمة تصريحاً. وعلى هذا فقد ذكر الأمران في يس على نحو آخر يناسب المقام والله أعلم.
وقد تقول لقد قال في يس: (لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) فاستعمل ضمير الذكور العقلاء في (شفاعتهم) وفي (ينقذون). وقال في سورة الزمر: (هل هن كاشفات ضره) و (هل هن ممسكات رحمته) بضمير الإناث فما الفرق؟
والجواب أن ضمير الإناث يستعمل للإناث ويستعمل لجمع غير العاقل مذكراً كان أو مؤنثاً فتقول الجبال هن شاهقات والجبال جمع جبل وهو مذكر غير عاقل غير أننا نستعمل له ضمير الإناث. قال تعالى: (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج (197))( البقرة). فقال في الأشهر: (فيهن) والأشهر جمع شهر والشهر مذكر غير عاقل فاستعمل له ضمير الإناث. فضمير الإناث يستعمل للإناث ولجمع غير العاقل مطلقاً. وكذلك جمع المؤنث السالم فإنه يستعمل جمعاً للمؤنث بشروطه ويستعمل أيضاً لجمع المذكر غير العاقل اسماً أو وصفاً نحو جبال شاهقات وشاهقات وصف لمذكر غير عاقل وأنهار جاريات وجاريات وصف لأنهار مفردها نهر وهو مذكر غير عاقل. والاسم المذكر غير العاقل قد يجمع جمع مؤنث سالم إذا لم يسمع له جمع تكسير نحو حمّامات جمع حمام واصطبلات جمع اصطبل. وأما ضمير جماعة الذكور نحو (هم) و(الواو) في نحو (يمشون) فهو خاص بجماعة الذكور العقلاء أو ما نزل منزلتهم.
وبعد بيان هذا الأمر نعود إلى الآيتين: قال تعالى في الزمر: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) ومن النظر في هذه الآية يتضح ما يأتي:
1. قال: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله) فجعل آلهتهم لا تعقل وذلك أنه استعمل لها (ما) فقال: (ما تدعون) و(ما) تستعمل في العربية لذات ما لا يعقل.
2. جاء بضمير الإناث: (هن) فقال: (هل هن) وهذا الضمير إما أن يكون للإناث أو يستعمل لجمع غير العاقل مذكراً أو مؤنثاً كما ذكرت فجعلهم غير عقلاء وهو متناسب مع (ما) التي هي لغير العاقل.
3. جاء بجمع المؤنث السالم وهو كما ذكرنا إما أن يكون للإناث أو لصفات الذكور غير العقلاء فجعلهم غير عقلاء.
4. هذه الآية نزلت في المجتمع الجاهلي والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى فيهم: (إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريدا (117))( النساء) فذكر أن ما يدعون من دون الله إنما هي إناث وقد روي عن الحسن: “أنه كان لكل حيّ من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان… وقيل: كان في كل صنم شيطانة”. “وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هي بنات الله” وكانوا يسمون كثيراً منها بأسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة فناسب التأنيث من كل جهة، من جهة أنها غير عاقلة ومن جهة أن لها أسماء مؤنثة أو يرون أنها إناث.
وقال في يس: (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) فاستعمل ضمير العقلاء ذلك لأنه قال: (لا تغن عني شفاعتهم) والشفيع لا بد أن يكون عاقلاً وإلا فكيف يشفع؟ ولذلك قال في الزمر: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون (43)) فجاء بضمير جماعة الذكور للدلالة على أنه لا يكون الشفيع إلا عاقلاً. ثم نفى الشفاعة مع عدم العقل فقال: (قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون) فاستعمل ضمير العقلاء مع الشفاعة.
ثم قال: (ولا ينقذون) والمنقذ لا بد أن يكون عاقلاً أيضاً وإلا فكيف ينقذ؟ ولذلك قال في سورة يس: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون* لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون) فاستعمل ضمير جماعة العقلاء وهو قوله: (لا يستطيعون) و (هم) لأن الناصر لا بد أن يكون عاقلاً وهو كالمنقذ. وهذه الآية نظيرة الآية السابقة فناسب كل ضمير مكانه اللائق به.
وهناك أمر آخر في الآية وهو أنه قال: (إن يردن الرحمن بضر) فأدخل الباء على الضر ولم يقل: (إن يرد الرحمن بي ضراً) وكلاهما تعبير فصيح تقول: (أراد به رحمة) و (أراده برحمة). قال تعالى: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة (17))( الأحزاب) فأدخل الباء على ضمير المخاطبين فما الفرق؟
جاء في التفسير الكبير: “قال: (إن يردن الرحمن بضر) ولم يقل: إن يرد الرحمن بي ضراً وكذلك قال تعالى: (إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره) ولم يقل إن أراد الله بي ضراً نقول: الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بحرف كاللازم يتعدى بحرف في قولهم ذهب به وخرج به ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف ما هو أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف. فإذا قال القائل مثلاً: كيف حال فلان؟ يقول اختصه الملك بالكرامة والنعمة. فإذا قال كيف كرامة الملك؟ يقول اختصها بزيد فيجعل المسؤول عنه مفعولاً بغير حرف لأنه هو المقصود. إذا علمت هذا فالمقصود فيما نحن فيه بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرخاء. وليس الضر بمقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يريد الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله. ويؤيد هذا قوله من قبل: (الذي فطرني) حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فكذلك جعلها مفعول الإرادة وذكر الضر وقع تبعاً. وكذا القول في قوله: (إن أرادني الله بضر) المقصود: بيان أنه يكون كما يريد الله وليس الضر بخصوصه مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده) يعني هو تحت إرادته ويتأيد ما ذكرناه بالنظر في قوله تعالى: (من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً) حيث خالف هذا النظم وجعل المفعول من غير حرف السوء وهو كالضُرّ والمفعول بحرف هو المكلف. وذلك لأن المقصود ذكر الضر للتخويف وكونهم محلاً له. وكيف لا وهم كفرة استحقوا العذاب بكفرهم فجعل الضر مقصوداً بالذكر لزجرهم. فإن قيل: فقد ذكر الله الرحمة أيضاً حيث قال: (أو أراد بكم رحمة) نقول: المقصود ذلك ويدل عليه قوله تعالى من بعده: (ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيرا) وإنما ذكر الرحمة تتمة للأمر بالتقسيم الحاصر وكذلك إذا تأملت في قوله تعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو أراد بكم نفعا) فإن الكلام أيضاً على الكفار وذكر النفع وقع تبعاً لحصر الأمر بالتقسيم”.
والذي يبدو لي غير ذلك فإن الذي يظهر من التعبير القرآني أن ما تتصل به الباء هو الذي عليه السياق وهو مدار الكلام وهو الأهم فيه.
قال تعالى: (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17))( الأحزاب) فقد اتصلت الباء بضمير المخاطبين (بكم) لا بالسوء. والكلام يدور على المخاطبين والسياق عليهم وذلك من الآية الثانية عشرة حتى الآية العشرين. قال تعالى: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)) فقد اتصلت الباء بضمير المخاطبين لأن الكلام يدور عليهم.
وقال تعالى: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11))( الفتح) وقد اتصلت الباء بضمير المخاطبين أيضاً وذلك أن الكلام والسياق يدوران عليهم قال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16))( الفتح)
وقال: (وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين (70))( الأنبياء) واتصلت الباء بضمير الغيبة (به) ولم تتصل بالكيد. والكلام على سيدنا إبراهيم عليه السلام وذلك في أكثر من عشرين آية من الآية (51 – 72).
في حين قال: (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38))( الزمر) فقد اتصلت الباء ههنا بالضر وبالرحمة ولم تتصل بالضمير فقد قال: (إن أرادني الله بضر – أو أرادني برحمة) ولم يقل: إن أراد بي ضراً أو أراد بي رحمة وذلك أن الاهتمام والعناية بالضر والرحمة ويدلك على ذلك أنه عقب على ذلك بكشف الضر أو إمساك الرحمة فقال: (إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ) والسياق إنما هو في ذلك والاهتمام به فقد قال تعالى: (أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه) فالكلام على المعتقدات لا على الأشخاص.
وقال: (وإن يردك بخير فلا راد لفضله (107))( يونس) فقد اتصلت الباء بالخير لا بضمير الخطاب فقال: (وإن يردك بخير) ولم يقل وإن يرد بك خيراً وذلك أن الكلام إنما هو في هذا الأمر والسياق عليه قال تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107))( يونس) فالكلام على الضر والخير وما يتعلق بكشفهما أو ردهما لا على الأشخاص وذلك قال: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله). فليس أحد يكشف الضر إلا هو ولا أحد يملك أن يرد خيره تعالى ولذلك عقّب بقوله: (فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده). وقد قال قبل هذه الآية: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) فالكلام في النفع والضر كما ترى وإيصالهما أو دفعهما. وفي هذه السورة أعني سورة يس وصل الباء بالضر فقال: (أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) ولم يقل إن يرد الرحمن بي ضراً وذلك أن الكلام على الضر وهو مدار الاهتمام ولذلك عقب بكشف الضر وإزالته فقال: (لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) أي لا يدفعون الضر عني ولا ينقذونني منه. فاتضح بذلك أن الباء تتصل بما هو أهم في السياق وعليه الكلام والله أعلم.
(لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) : بيّن أن آلهتهم ليس لها جاه ولا قدرة. فكونها لا تنفع شفاعتها شيئاً معناه أنه ليس لها جاه. وكونها لا تنقذ من يعبدها ويلتجئ إليها معناه أنها ليس لها قدرة فكيف يعبدون آلهة هذه صفتها؟!
ثم بيّن أنها بمجموعها ليس لها مكانة ولا جاه وأنها بمجموعها ليس لها قدرة فلو أن آلهتهم جميعها شفعت عند الله لم تغن شفاعتهم شيئاً ولو أن جميعها أرادت أن تنقذه لم تستطع فما أتفه وأضعف هذه الآلهة!.
لقد قدم الشفاعة على القدرة لأن هذا هو الترتيب الطبيعي في الحياة فإن من استعان بشخص على آخر يشفع أولاً عنده فإن لم يُجدِ ذلك نفعاً لجأ إلى القوة وليس العكس. جاء في التفسير الكبير:” ثم قال (لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) على ترتيب ما يقع من العقلاء. وذلك لأن من يريد دفع الضر عن شخص أضر به شخص يدفع بالوجه الأحسن فيشفع أولاً فإن قبله وإلا يدفع فقال: (لا تغن عني شفاعتهم) ولا يقدرون على إنقاذي بوجه من الوجوه”.
وجاء في روح المعاني:” وهو ترقٍ من الأدنى إلى الأعلى بدأ أولاً بنفي الجاه وذكر ثانياً انتفاء القدرة وعبّر عنه بانتفاء الإنقاذ لأنه نتيجته!”
فاستبان من هذه الآيات أن الله مستحق للعبادة من كل وجه:
1. أنه فطر الخلق.
2. وأنه يرسل الرسل إليهم ليرشدوهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم.
3. إليه المرجع والمصير فيعاقب المسيء ويكافئ المحسن.
4. أنه رحيم بعباده (إن يردن الرحمن).
5. أنه قوي مقتدر ليس لقدرته حدود.
6. وأن ما يدعون من دونه ليس لهم جاه وليس لهم قدرة وإن اجتمعوا.
جاء في التفسير الكبير:” وفي هذه الآيات حصل بيان أن الله تعالى معبود من كل وجه. إن كان نظراً إلى جانبه فهو فاطر ورب مالك يستحق العبادة سواء أحسن بعد ذلك أو لم يحسن. وإن كان نظراً إلى إحسانه فهو رحمن وإن كان نظراً إلى الخوف فهو يدفع ضره وحصل بيان أن غيره لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه فإن أدنى مراتبه أن يعد ذلك ليوم كريهة وغير الله لا يدفع شيئاً إلا إذا أراد الله وإن يرد فلا حاجة إلى دافع”.
*ما اللمسة البيانية في تذكير كلمة شفاعة مرة وتأنيثها مرة أخرى في سورة البقرة؟
قال تعالى في سورة البقرة: (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ {48}) وقال في نفس السورة: (وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ {123}). جاءت الآية الأولى بتذكير فعل (يقبل) مع الشفاعة بينما جاء الفعل (تنفعها) مؤنثاً مع كلمة الشفاعة نفسها. الحقيقة أن الفعل (يقبل) لم يُذكّر مع الشفاعة إلا في الآية 123 من سورة البقرة وهنا المقصود أنها جاءت لمن سيشفع بمعنى أنه لن يُقبل ممن سيشفع أو من ذي الشفاعة. أما في الآية الثانية فالمقصود الشفاعة نفسها لن تنفع وليس الكلام عن الشفيع. وقد وردت كلمة الشفاعة مع الفعل المؤنث في القرآن الكريم في آيات أخرى منها في سورة يس (أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ {23}) وسورة النجم (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى {26}).
وفي لغة العرب يجوز تذكير وتأنيث الفعل فإذا كان المعنى مؤنّث يستعمل الفعل مؤنثاً وإذا كان المعنى مذكّراً يُستعمل الفعل مذكّراً، والأمثلة في القرآن كثيرة منها قوله تعالى في سورة الأنعام: (قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ {11}) وسورة يونس (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ {73}) المقصود بالعاقبة هنا محل العذاب فجاء الفعل مذكراً، أما في قوله تعالى في سورة الأنعام: (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {135}) وفي سورة القصص (وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاء بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ {37}) فجاء الفعل مؤنثاً لأن المقصود هو الجنّة نفسها.
*في سؤال عن الآية: (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45))(مريم) في هذه الآية ورد تهديد إبراهيم لأبيه لماذا استخدم اسم الرحمن مع العذاب مع أن اسم الرحمن اسم ينفع المؤمن؟
قال: (مس) والمس خفيف هذا ناسب الرحمة بينما نلاحظ في سورة الأنعام قال: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)) قال: أتاكم وليس المسّ، وقال: عذاب الله. أولاً أتاكم ثم عذاب الله بالإضافة بينما في سورة مريم: (عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) (من هنا للابتداء) عذاب نكرة يعني شيء من العذاب من الرحمن، أما تلك قال عذاب الله. إذن عذاب الله أقوى في التعبير من عذاب من الرحمن، فناسب ذاك المس عذاب من الرحمن. ثم قال: (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) كلها فيها قوة وشدة فقال: (عذاب الله) بينما في مريم قال: (أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ) هذا إضافة أنه لم يرد لفظ الرحمن في الأنعام. ثم من ناحية الرحمة لا تنافي العقوبة إذا أساء أحدهم فعاقبته قد يكون من الرحمة. الرحمة لا يعني أنه لا يعاقب عندما يقول الرحمن ليس معناه أنه لا يعاقب، الرحمن إذا أساء أحد لا بد أن يعاقبه. ولم يرد في القرآن مطلقاً يمسك عذاب الله أو عذاب من الله، مع عذاب الله ليس هناك مسّ وإنما إتيان، وردت: (إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ (23))( يس) لكن لم ترد يمسك عذاب من الله. إذن هناك توأمة بين المسّ والرحمن هذه فيها رقة ورحمة والتنكير و(يا أبت) وجو السورة رحمة بينما في آية الأنعام (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ) هذا تهديد وحتى عذاب الله تعالى فيه درجات (بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) هذه تتناسب مع عذاب الله.
آية (24):
(إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24))
أي إن اتخذت من دونه آلهة فإني إذاً في ضلال ظاهر لا يخفى على من له أدنى مسحة من عقل وهو لا يعني بهذا القول نفسه فقط وإنما يريد بذلك المخاطبين أيضاً. والمعنى إن اتخذتم آلهة هذا شأنها وتركتم فاطركم وخالقكم فأنتم في ضلال ظاهر وقد أجرى القول على نفسه ولم يواجههم بذلك لئلا يثير استفزازهم وعصبيتهم وليستعملوا عقولهم وتفكيرهم لعلهم يرجعون إلى الحق. وقد أكد العبارة بـ(إن واللام) ووصف الضلال بأنه مبين غير خفي لأنه إن فعل ذلك كان كذلك حقاً ولأن المقام يستدعي هذه التأكيدات مع ظهورها لأن المخاطبين ينكرون ذلك أشد الإنكار على ظهوره ووضوحه.
آية (25):
(إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسمعُونِ (25))
أعلن إيمانه في هذا الجو المكفهر بكل صراحة وصدع بالحق من دون مواربة وأعلن أنه بدأ بنفسه وسبقهم إلى ما يدعوهم إليه ولم ينتظر من أحد أن يسبقه فيشجعه ويقوي قلبه ويشد عضده وفي ذلك محض الإيمان ومحض الإخلاص. ثم انظر قوة إيمان هذا الرجل الذي تحدى قومه في ذلك الوقت الذي لا يطيقون فيه أن يسمعوا الرسل فهددوهم بالرجم إن لم يكفوا عن الدعوة. فقال: ها أنا آمنت بربكم فاسمعون. وقوله: (فاسمعون) يدل على أنه أعلن إيمانه بصوت ظاهر مسموع غير خفي ولا متلجلج بسمعه كل أحد. وهذا يدل على أنه غير مبال بما سيحصل له من الرجم والتعذيب وما هو أكثر من ذلك. واختيار (إني آمنت) على أنا آمنت لما في ذلك من التوكيد والقوة. وقوله: (بربكم) دون (بربي) مع أنه قال قبلها: (ومالي لا أعبد الذي فطرني) ليبين أن ربهم هو ربه وهو الذي فطره وإليه يرجعون فهو ربه وربهم. وقيل إن الخطاب بقوله: (بربكم) للرسل أي آمنت بربكم الذي تدعون إليه والحق أن الخطاب للجميع فرب الرسل هو ربه ورب قومه وهو قد أعلن ذلك على الملأ وطلب من قومه اتباع الرسل والإيمان بما يدعوهم إليه. وعلى أية حال فهو صدع بالحق وجهر به ولم يبال بما سيحصل له من جراء إعلانه إيمانه هذا.
قيل: وقوله (آمنت بربكم) أولى من قوله آمنت بربي لأن كل شخص إنما هو مؤمن بربه فيقول له بالمقابل وأنا آمنت بربي أيضاً. فقوله: (آمنت بربكم) يدل على أنه الرب الذي يدعو إليه الرسل ولو كان المقصود ربهم الذي يعبده قومه لما كان في قوله: (اتبعوا المرسلين..) داع. وذكر الإيمان بالرب دون بقية الأسماء الحسنى له أكثر من مناسبة فقد مر قول الرسل: (قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فقال: (إني آمنت بربكم).
وقوله: (إني إذا لفي ضلال مبين) والرب: هو الذي يهدي من الضلال لأن الرب هو المربي والمرشد والمعلم. والهداية من أبرز صفات الرب ولذلك كثيراً ما تقترن الهداية باسم الرب وذلك نحو قوله تعالى: (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50))( طه) وقوله: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (161))( الأنعام) فناسب ذلك ذكر الرب. وهناك أمر آخر حسّن ذكر الرب وهو قوله: (أأتخذ من دونه آلهة) أي لا أتخذ من دونه إلهاً أي معبوداً. وقال ههنا: (إني آمنت بربكم) فجعله هو الإله وهو الرب فهو إلهه وربه وبذلك جمع له بين الألوهية والربوبية.
جاء في التفسير الكبير:” في المخاطب بقوله (بربكم) وجوه:
(أحدهما) هم المرسلون. قال المفسرون: أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو على المرسلين وقال: إني آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي.
و(ثانيهما) هم الكفار كأنه نصحهم وما نفعهم، قال: فأنا آمنت فاسمعون.
و(ثالثهما) بربكم أيها السامعون فاسمعون على العموم كما قلنا في قول الواعظ حيث يقول: يا مسكين ما أكثر أملك وما أنزر عملك، يريد به كل سامع يسمعه وفي قوله: (فاسمعون) فوائد:
(أحدها) أنه كلام متروٍ متفكر حيث قال: (فاسمعون) فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر.
و(ثانيها) أنه ينبه القوم ويقول: إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرت لآمنا معك.
و(ثالثها) أن يكون المراد السماع الذي بمعنى القبول يقول القائل: نصحته فسمع قولي أي قبله.
فإن قلت لم قال من قبل: (ومالي لا أعبد الذي فطرني) وقال ههنا: (آمنت بربكم) ولم يقل آمنت بربي؟ نقول: قولنا الخطاب مع الرسل أمر ظاهر لأنه لما قال: (آمنت بربكم) ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه ولو قال (بربي) لعلهم كانوا يقولون كل كافر يقول: لي رب وأنا مؤمن بربي.
وأما على قولنا الخطاب مع الكفار ففيه بيان للتوحيد. وذلك لأنه لما قال: (أعبد الذي فطرني) ثم قال: (آمنت بربكم) فهم أنه يقول: ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال: آمنت بربي فيقول الكافر وأنا أيضاً آمنت بربي ومثل هذا قوله تعالى: (الله ربنا وربكم).
وجاء في البحر المحيط: “ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق فقال مخاطباً لقومه إني آمنت بربكم أي الذي كفرتم به فاسمعون أي اسمعوا قولي وأطيعون فقد نبهتكم عل الحق وإن العبادة لا تكون إلا لمن منه نشأتكم وإليه مرجعكم والظاهر أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو هو لقومه والأمر على جهة المبالغة والتنبيه… وقيل الخطاب في (بربكم) وفي (فاسمعون) للرسل”.
وجاء في روح المعاني: “الظاهر أن الخطاب لقومه شافههم بذلك وصدع بالحق إظهاراً للتصلب في الدين وعدم المبالاة بما يصدر منهم.. وإضافة الرب إلى ضميرهم لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أرباباً أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم. (فاسمعون) أي فاسمعوا قولي فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك. وقيل مراده دعوتهم إلى الخير الذي اختاره لنفسه”.
آية (26)-(27):
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27))
(قيل ادخل الجنة) لقد طوى القرآن ذكر ما حصل له بعد قولته التي قالها وما فعل به قومه وكيف واجهوه. إلا أن بيّن أنه لم يكد يتم قوله حتى قيل له: (ادخل الجنة) ولم يذكر أمراً أو مشهداً بين الدنيا والآخرة ومعنى ذلك أنهم لم يمهلوه بعدها البتة فإنه ما إن قال ذلك حتى وجد نفسه على باب الجنة يقال له: ادخل الجنة. فاختصر كل ما لا حاجة له به وإنما دل عليه المقام. ومن مظاهر الاختصار أنه بنى الفعل للمجهول فقال: (قيل) ولم يذكر القائل لأنه لا يتعلق غرض من ذكر القائل ولعل القائل هم الملائكة. كما أنه لم يقل: (قيل له) لأن ذلك معلوم من السياق.
جاء في الكشاف :”قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه لا إلى المقول له مع كونه معلوماً”.
وهكذا يطوي ما حصل له بعد قولته ويطوي الفاعل فيبني الفعل للمجهول ويطوي المقول له ولا يذكر إلا قوله: (ادخل الجنة). فيسير التعبير في نسق واحد وفي جو تعبيري واحد.
جاء في روح المعاني في قوله (ادخل الجنة): “استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك. والظاهر أن الأمر إذن له بدخول الجنة حقيقة وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الدنيا فعن عبد الله بن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قصبه من دبره وأُلقي في بئر وهي الرس, (وقيل قتل بغير ذلك من أنواع القتل – انظر ص 228) … والجمهور على أنه قتل. وادّعى ابن عطية أنه تواترت الأخبار والروايات بذلك”.
(قال يا ليت قومي يعلمون) ما إن دخل الجنة حتى تمنى أن قومه يعلمون بإكرامه وحسن عاقبته فإنهم لو علموا ذلك لاهتدوا وآمنوا بمثل ما آمن به ونالهم من الكرامة مثل ما ناله. وهو لم يتمن ذلك في نفسه فقط بل قال ذلك بلسانه فواطأ القلب اللسان وفي ذلك إشارة إلى تمني الهداية لقومه وحب الخير لهم. ولم يمنع ذلك من سوء ما فعلوه به فإن المؤمن يحب الهداية للخلق ولو كانوا ألدّ أعدائه بل ولو أساؤوا إليه وعذبوه بل ولو قتلوه. جاء في الكشاف: “وإنما تمنى على قومه بحاله ليكون علمهم بها سبباً لاكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيَيْن بأهلهما إلى الجنة. وفي حديث مرفوع (نصح قومه حياً وميتا). وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمر في تخليصه والتلطف في اقتدائه والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام”.
وجاء في روح المعاني: “وإنما تمنى على قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة جرياً على سنن الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء وفي الحديث: (نصح قومه حياً وميتا).
وفي هذا القول إشارة للدعاة وللمسلمين ليحبوا الهداية لعموم الخلق وأن يترفعوا عن الحقد والضغينة. لقد تمنى أن يعلم قومه أمرين:
1. مغفرة ربه له وذلك ليتوبوا ولا ييأسوا من رحمة الله.
2. وإكرامه ليحفزهم ذلك إلى العمل لينالوا حسن العاقبة.
(بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) (ما) تحتمل أنها مصدرية أي يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي وجعلني من المكرمين. ويحتمل أن تكون اسماً موصولاً أي يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي به ربي وجعلني من المكرمين أي ليتهم يعلمون بالسبب الذي غفر لي به ربي وهو اتباع الرسل. وقال (بما) ولم يقل (بالذي) ليشمل المصدرية والموصولة أي بالمغفرة والإكرام وبسبب ذلك فيجمع المعنيين ولو قال (بالذي) لم يدل إلا على معنى واحد. ولم يأت بالمصدر الصريح فيقل: (يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي وجعلي من المكرمين) لأنه لو قال ذلك لدل على معنى واحد وهو المصدرية دون المعنى الآخر.
جاء في الكشاف: “(ما) في قوله (بما غفر لي ربي) أيّ الماءات هي؟ قلت المصدرية أو الموصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب”. وجاء في البحر المحيط: “والظاهر أن (ما) في قوله (بما غفر لي ربي) مصدرية. جوزوا أن يكون بمعنى (الذي) والعائد محذوف تقديره (بالذي غفره لي ربي من الذنوب) وليس هذا بجيد إذ يؤول إلى تمنى علمهم بالذنوب المغفورة والذي يحسن تمني علمهم بمغفرة ذنوبه وجعله من المكرمين”. وجاء في روح المعاني: “والظاهر أن (ما) مصدرية ويجوز أن تكون موصولة والعائد مقدر أي يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي به أي بسببه ربي. أو بالذي غفره أي بالغفران الذي غفره لي ربي. والمراد تعظيم مغفرته تعالى له فتؤول إلى المصدرية”. وقال الزمخشري: “أي بالذي غفره لي ربي من الذنوب. وتعقب بأنه ليس بجيد إذ يؤول إلى تمني علمهم بذنوبه المغفورة ولا يحسن ذلك. وكذا عطف (وجعلني من المكرمين) عليه لا ينتظم”.
وما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن (ما) تحتمل أن تكون اسماً موصولاً على معنى: بالذي غفره لي من الذنوب يضعفه ثلاثة أمور منها:
1. أن ذلك يؤول إلى تمني علمهم بالذنوب المغفورة ولا يحسن علمهم بما عمل من معاص تستوجب المغفرة كما أشار إلى ذلك صاحب البحر.
2. أن المغفرة معناها الستر وغفران الذنوب سترها وتمنيه علمهم بها يعني تمنيه نشرها وفضحها وهو مغاير لمعنى الستر وما أكرمه الله من سترها فإن ستر الذنوب من جلائل النِعم.
3. أنها لا تنتظم مع قوله: (وجعلني من المكرمين) فإن ذلك يؤول إلى المعنى الآتي: يا ليت قومي يعلمون بالذي غفره لي من الذنوب وجعلني من المكرمين وهو لا يصح لأن (جعلني) ستكون معطوفة على (غفره لي) أي صلة للذي فيكون المعنى يا ليت قومي يعلمون بالذنب المغفور وجعلني من المكرمين. فإن قوله: (ما غفره لي) يعني الذي غفره لي ربي من الذنوب. أو بعبارة أخرى الذنب المغفور.
فلا يصح جعل (وجعلني من المكرمين) صلة له. فاتضح أن (ما) إما أن تكون مصدرية أو اسماً موصولاً والباء تفيد السبب فيكون المعنى: يا ليت قومي يعلمون بالسبب الذي غفر له به ربي وجعلني من المكرمين فيستقيم المعنى على الوجهين والله أعلم.
ولم يذكر العائد فيقل: (بما غفر لي به ربي) ولو قال ذلك لاقتصر على معنى الموصولية الاسمية دون المصدرية فحذف العائد جمع المعنيَيْن.
وقدّم الجار والمجرور على الفاعل فقال: (بما غفر لي ربي) لأنه هو المهم وهو مدار الكلام لأنه معلوم أن الله هو يغفر الذنوب فالفاعل معلوم ولكن المهم أن نعلم المغفور له.
واختيار لفظ الرب ههنا (غفر لي ربي) مناسب لقوله: (إني آمنت بربكم) وإضافته إلى نفسه فيها من الرعاية واللطف ما لا يخفى.
وقدّم المغفرة على جعله من المكرمين لأن المغفرة هي سبب الإكرام ولأنها تسبقه فالمغفرة أولاً ثم يليها الإكرام.
وقوله: (وجعلني من المكرمين) دون قوله وجعلني مكرماً إشارة إلى أن هذا طريق سار عليه قبله المؤمنون والشهداء والصالحون وهو واحد منهم وليس فذاً لم يسبقه إليه أحد. وكون أن معه جماعة مثله أكرمهم ربه فيه زيادة إيناس ونعيم. فإن الوحدة عذاب وإن كانت في جنان الخلد فأكرمه بالجنة والرفقة الطيبة.
إن أصحاب القرية ومعتقدهم وموقفهم من رسلهم شبيه بحال قوم الرسول صلى الله عليه وسلم وموقفهم منه من عدة نواح ولذلك صح أن يضربوا مثلاً:
1. فقوله: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما) شبيه بموقف كفار قريش الذين قال الله فيهم: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم) وقوله: (وكذبوا واتبعوا أهواءهم (3))( القمر)
2. وقول أصحاب القرية لرسلهم: (ما أنتم إلا بشر مثلنا) شبيه بقول كفار قريش: (هل هذا إلا بشر مثلكم (3))( الأنبياء) وقولهم: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2))( ق)
3. وقولهم: (إن أنتم إلا تكذبون) شبيه بقول كفار قريش: (هذا ساحر كذاب (4))( ص) وقوله تعالى فيهم: (وكذبوا واتبعوا أهواءهم (3)) (القمر)
4. وقولهم: (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) شبيه بموقف كفار قريش من رسول الله والمؤمنين معه فقد آذوهم وعذبوهم حتى أن بعضهم مات من التعذيب وقد رُجِم رسول الله بالحجارة في الطائف. وأخبر عنهم ربنا قائلاً. (وإذ يمكر بك الذي كفروا ليثبتوك أن يقتلوك أو يخرجوك (30))( الأنفال)
5. وقولهم: (وما أنزل الرحمن من شيء) شبيه بقولهم: (ما أنزل الله على بشر من شيء)
6. وقول المؤمن لهم: (اتبعوا من لا يسالكم أجراً) شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: (قل ما أسألكم عليه من أجر (57))( الفرقان)
7. وقوله: (أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) يعني أنهم اتخذوا آلهة من دونه الله يعبدونهم وهذا شبيه بمعتقدات العرب في الجاهلية الذين اتخذوا من دون الله آلهة والذين قال الله فيهم: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون* لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)
8. لقد بيّن أن أصحاب القرية لم يؤمنوا إلا واحداً منهم وأنهم استوى عليهم الإنذار وعدمه مثل كفار قريش الذين قال الله فيهم: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) وقال: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون).
وأن الرسل الذين أُرسلوا إلى أهل القرية يصح أن يكونوا مثلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
1. فإنهم كذبوا كما أن الرسول كذبه قومه.
2. وأنهم بلغوا الرسالة مع تكذيب أصحاب القرية لهم.
3. وأنهم بلغوا الرسالة مع أنهم غرباء عن أهل القرية فقد جاؤوها داعين إلى ربهم.
4. أنهم واجهوهم بالتطير منهم والتهديد.
5. وأنهم بلغوا رسالة ربهم بلاغاً مبيناً بحيث علم به كل واحد من أهل القرية.
6. وأنه ثبّت من آمن منهم حتى استشهد.
فكأن أصحاب القرية مثلاً في حالهم هم وفي حال رسلهم الذين بلغوا دعوة ربهم. وحال أهل القرية وموقفهم من رسلهم وسوء عاقبتهم التي لاقوها نتيجة التكذيب تكون مثلاً لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم ليرتدعوا وليراجعوا أنفسهم.
إن قصة أصحاب القرية مرتبطة بالآيات الأول التي ذكرناها من هذه السورة والتي ذكرنا أنها بنيت عليها السورة ومقاصدها:
1. فقد ارتبط قوله: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم) بقوله: (إنك لمن المرسلين) فذكر أنه واحد من المرسلين وضرب مثلاً بمرسلين قبله.
2. وارتبط قوله: (فكذبوهما فعززنا بثالث) بقوله: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون)
3. وارتبط قوله: (وإليه ترجعون) بقوله: (إنا نحن نحيي الموتى)
4. وارتبط قوله: (إن يردن الرحمن بضر) بقوله: (وخشي الرحمن بالغيب)
5. وارتبط قوله: (بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) بقوله: (فبشره بمغفرة وأجر كريم)
فقوله: (قيل ادخل الجنة) بشارة له فهو مقابل (فبشره) وقوله: (بما غفر لي ربي) يقابل (بمغفرة). وقوله: (وجعلني من المكرمين) يقابل (أجر كريم) والله أعلم.
آية (28):
(وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28))
أي لم يحتجْ إلى إنزال جند من السماء ليهلكهم فهم أتفه من ذلك. وقوله: (وما كنا منزلين) يعني أنه ما كان يصح في حكمتنا وتقديرنا أن ننزل عليهم جنداً من السماء ولا ينبغي ذلك لأنهم أقل شأناً من هذا. وقيل أيضاً أن المعنى “أننا ما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم”. وعلى هذا يكون معنى قوله: (وما كنا منزلين) أنه لا ينبغي أن ننزل على هؤلاء جنداً من السماء لإهلاكهم وإنا لم نكن نفعل ذلك فيما مضى. فيكون المعنى نفي الإنزال على وجه العموم بدءاً من الماضي إلى هؤلاء القوم. وأما إنزال الجند لنصرة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في بدر والأحزاب فذلك إنما كان تعظيماً لشأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو لا يشمله قوله: (وما كنا منزلين) فإن ذلك متعلق بالأمم الماضية.
جاء في التفسير الكبير: “(وما كنا منزلين) أية فائدة فيه مع أن قوله: (وما أنزلنا) يستلزم أنه لا يكون من المنزلين؟ نقول قوله: (وما كنا) ما كان ينبغي لنا أن ننزل لأن الأمر كما كان يتم بدون ذلك فما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى إنزال. أو نقول: (وما أنزلنا، وما كنا منزلين) في مثل تلك الواقعة جنداً في غير تلك الواقعة فإن قيل: فكيف أنزل الله جنوداً في يوم بدر وفي غير ذلك؟ حيث قال: (وأنزل جنوداً لم تروها) نقول: ذلك تعظيماً لمحمد صلى الله عليه وسلم”.
وذهب قوم إلى أن (ما) في قوله:(وما كنا منزلين) ليست نافية وإنما هي اسم موصول معطوف على (جند) أي ما أنزلنا على قومه من جند من السماء والذي كنا ننزله على الأمم من أنواع العذاب. ورده أبو حيان بأن ذلك يعني عطف المعرفة على النكرة المجرورة بـ (من) الزائدة وهو لا يصح. جاء في البحر المحيط: “وقالت فرقة (ما) اسم معطوف على جند. قال ابن عطية أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم، انتهى.
وهو تقدير لا يصح لأن (من) في (من جند) زائدة، ومذهب البصريين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين: أحدهما: أن يكون قبلها نفي أو نهي أو استفهام والثاني: أن يكون بعدها نكرة. وإن كان كذلك فلا يجوز أن يكون المعطوف على النكرة معرفة. لا يجوز (ما ضربت من رجل ولا زيد) وأنه لا يجوز (ولا من زيد) وهو قدر المعطوف بـ (الذي) وهو معرفة فلا يعطف على النكرة المجرورة بـ (من) الزائدة”.
ورد أبو حيان فيه نظر فإن العطف في نحو هذا غير جائز غير أنه لا يعطف على اللفظ وإنما يعطف على الموضع. فإنه لا يصح أن نقول: (ما جاءني من امرأة ولا محمود) بجرّ محمود وإنما نقول برفع محمود. ولا يصح أن نقول: (ما رأيت من امرأة ولا خالدٍ) بجرّ خالد وإنما نقول: (ما رأيت من امرأة ولا خالداً) بالنصب لأنه لا يمكن توجه العامل إلى المعرفة.
جاء في المغني في بحث (العطف على اللفظ): “وشرطه إمكان توجه العامل إلى المعطوف فلا يجوز في نحو: (ما جاء من امرأة ولا زيد) إلا الرفع عطفاً على الموضع ولأن (من) الزائدة لا تعمل في المعارف”.
ونحو هذا يكون العطف على اسم لا النافية للجنس فإن اسم (لا) هذه لابد أن يكون نكرة فإن عطفت عليه معرفة تعيّن رفعه لأن (لا) لا تعمل في المعارف نحو: (لا امرأة فيها ولا زيدٌ) بالرفع فإنه لا يصح في (زيد) النصب أو بناؤه على الفتح. وعلى هذا فما المانع في الآية أن تكون (ما) معطوفة على الموضع فتكون (جند) مجرورة و(ما) منصوبة مثل: (ما رأيت من امرأة ولا زيدا)؟ والمعنيان صحيحان يحتملهما التعبير ويتسع لهما معاً فيكون ذلك من التوسع في المعنى.
وقد أسند الإنزال إلى نفسه فقال: (وما أنزلنا) ليدل على أنه هو الذي أنزل العقوبة فهو الذي أرسل الرسل وهو الذي عززهم بثالث وقد أسند ذلك إلى نفسه فقال: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) فناسب أن يسند الإنزال إلى نفسه أيضاً ليدل على أن الجهة المرسلة والمعاقبة واحدة لا يليق أن يكون هو المرسل والمعاقب غيره. جاء في التفسير الكبير في قوله: (وما أنزلنا): “قال ههنا: (وما أنزلنا) بإسناد الفعل إلى نفسه. وقال في بيان حال المؤمن: (قيل ادخل الجنة) بإسناد القول إلى غير مذكور وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم. وأما في (ادخل الجنة) فقال: (قيل) ليكون هو كالمهنئ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه ادخل الجنة خالداً فيها”.
وقال: (على قومه) بإضافة القوم إلى ضمير الرجل القتيل ذلك أن هذا الرجل أضافهم إلى نفسه فقال لهم: (يا قوم اتبعوا المرسلين) فهم قومه وقد دعاهم بـ (قوم) ليتعطفهم ويدعوهم إلى ما يحييهم فقتلوه فقتلهم ربه سبحانه.
وقال: (من بعده) ولم يقل بعده للدلالة على أنه أنزل العذاب عليهم بعده مباشرة ولم يمهلهم. فإن (من) تفيد ابتداء الغاية. ولو قال وما أنزلنا على قومه بعده لاحتمل الزمن القصير والطويل فجاء بـ (من) ليدل على أنه عاجلهم بالعقوبة من دون إمهال.
جاء في البحر المحيط: “وقوله (من بعده) يدل على ابتداء الغاية أي لم يرسل إليهم رسولاً ولا عاتبهم بعد قتله بل عاجلهم بالهلاك”.
وقال: (من جند) فجاء بـ (من) الدالة على الاستغراق ليدل على أنه لم ينزل جنداً قلّوا أو كثروا. فقد استغرق نفي الإنزال كل الجند ولو لم يذكر (من) لاحتمل نفي إنزال الجنس ونفي الوحدة فقد يحتمل أنه أنزل جندياً أو جنوداً كما يحتمل أنه لم ينزل أصلاً.
واختار كلمة (جند) على (ملك) لأنه في مقام العقوبة والمحاربة فكان اختيار لفظ جند أنسب فإن قومه حاربوا الله ورسوله فحاربهم الله سبحانه من غير جند. واختار الجند على الجنود فقال: (من جند) ولم يقل: (من جنود) ذلك أن الجنود جمع جند فإن الجند يجمع على أجناد وجنود. ونفي الجند يعني نفي الجنود أنا نفي الجنود فلا يعني نفي الجند. ذلك أن نفي الواحد مع (من) الاستغراقية يعني نفي الجنس كله بخلاف نفي الجمع. فإنه إذا قال: (ما أنزلنا من جند) فإن هذا ينفي إنزال الجند والجنود. ونحوه إذا قلت ما حضر من رجال فإنك نفيت الجمع ولكن لم تنف الواحد أو الاثنين فقد يكون حضر رجل أو رجلان أما إذا قلت ما حضر من رجل فقد نفيت الجنس على سبيل الاستغراق سواء كان واحداً أم مثنى أم جمعاً فلم يحضر أحد. فقوله: (من جند) نفى إنزال الجند والجنود ولو قال: من جنود لم ينف إنزال الجند فكان ما ذكره أعم وأشمل.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن الجند اسم جنس جمعي مفرده جندي فالياء للواحد وحذفها يفيد الجنس مثل: رومي وروم ، وزنجي وزنج. أما الجنود فجمع تكسير ومن المعلوم أن اسم الجنس يقع على القليل والكثير فهو يقع على الواحد والاثنين والجمع فإنك إذا عاملت رومياً واحداً أو روميين جاز لك أن تقول: عاملت الروم أما الجمع فلا يصح فيه ذلك وإنما يقع على الجمع فقط.
فقوله: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند) نفى الواحد والاثنين والجمع لأنه نفى اسم الجنس الجمعي ولو جاء بالجنود لم ينف الواحد والاثنين فكان ما ذكره أولى من كل وجه.
واختار (ما) للنفي على (لم) فلم يقل ولم ننزل وذلك لأن (ما) أقوى في النفس من (لم). وقد أكد النفي أيضاً بذكر (من) الاستغراقية المؤكدة فأكد النفي باستعمال الحرف (ما) واستعمال (من) الاستغراقية. وهناك أمر آخر حسّن ذكر (ما) دون (لم) وهو ذكر (من) الاستغراقية فإن القرآن لم يأت البتة بـ (من) الاستغراقية مع (لم) بخلاف (ما).
وقال: (من السماء) ولم يقل من السماوات لأن السماء أعم وأشمل من السماوات فهي تشمل السماوات وتشمل أيضاُ الجو والسحاب وما علاك على وجه العموم فهي تشمل السماوات وزيادة فكان ذلك أشمل وأعم. كما ناسب ذكر (من) الاستغراقية ذكر السماء فإن كليهما للاستغراق والعموم.
وقد تقول: وما الحاجة إلى ذكر (السماء) وهو لم ينزل عليهم جنداً لا من الأرض ولا من السماء؟ فتقول: أنه ذكر أنه لم ينزل عليهم جنداً من السماء وإنما أهلكهم بصيحة منها فالسماء هي مبدأ إنزال العذاب لكن ليس بالجند وإنما بالصيحة.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أنه لو لم يذكر السماء لكانت الآية على النحو الآتي: وما أنزلنا على قومه من بعده من جند ما كنا منزلين. وهذا المعنى لا يصح لأن قوله: (وما كنا منزلين) ينفي إنزال الجنود على أية حال سواء كان من السماء أم من غيرها. في حين أن الله سبحانه أنزل جنوداً وأقواماً على آخرين فحاربوهم ودفع بعضهم ببعض وعاقب بعضهم ببعض. وكل إتيان من مكان عال فهو نزول أو إنزال. وكل حرب حصلت بين قومين أو أقوام وانحدر أحدهما من مكان عال فهو نزول. وقد يعذب الله بعض الناس ببعض ويدفع بعضهم ببعض ويسلط بعضهم على بعض كما قال تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع (40))( الحج) وقال: (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا (5))( الإسراء).
ولا يخلو ذلك من إنزال جند وكان يأجوج ومأجوج ينزلون من الجبل فيفسدون في الأرض. فلو حذف (من السماء) لم يستقم المعنى ولم يصح. هذا وأنه لو حذف أي قيد لم يصح المعنى فإن الآية هي: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28))
1. فإنه لو حذف (على قومه) لم يصح المعنى لأن الله سبحانه أنزل جنوداً من السماء بعده وذلك لنصرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
2. ولو حذف (من بعده) لم يصح المعنى ؛ لأن القصد هو معاقبة قومه بعد قتله فإن حذف الظرف لم يفهم أن العقوبة بسبب قتله والمراد بيان ذلك.
3. ولو حذف (من جند) لم يصح المعنى لأنه لا يعلم المنفي على وجه التحديد فكان النفي عاماً وهو لا يصح إذ سيكون التعبير “وما أنزلنا على قومه من بعده من السماء وما كنا منزلين” وهو نفي لإنزال الجنود ولكل أنواع العذاب من السماء بل هو نفي لكل إنزال من السماء سواء كان خيراً أم شراً وهو لا يصح ولا يستقيم وإذا قيدنا المنزل بالعذاب لم يصح أيضاً إذ سيكون المعنى “وما أنزلنا على قومه من بعده عذاباً من السماء وما كنا منزلين” وهو لا يصح لأن الله سبحانه أنزل عليهم وعلى من قبلهم عذاباً من السماء ولكن ليس جنداً كما أخبر ربنا سبحانه فقد قال في قوم موسى: (فأنزلنا على الذي ظلموا رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون (59))( البقرة) وقال في قوم لوط: (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون (34))( العنكبوت) وأرسل على قومه وعلى من قبلهم الصيحة من السماء. والسماء كلمة عامة تشكل كل ما علا سواء كان سحاباً أم غيره. وقد فسر ربنا الرجز النازل على قوم لوط من السماء بأنه الصيحة وإرسال الحجارة، قال تعالى: (فأخذتهم الصيحة مشرقين (73) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74))( الحجر) فلا يصح الحذف.
4. ولو حذف (من السماء) لم يصح لما ذكرناه. فكان أعدل الكلام كلام ربنا سبحانه.
جاء في التفسير الكبير: “قال (من السماء) وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جنداً من الأرض فما فائدة التقييد؟ نقول الجواب على وجهين: أحدهما: أن يكون المراد وما أنزلنا عليهم جنداً بأمر من السماء فيكون للعموم. وثانيهما: أن العذاب نزل عليهم من السماء فبيّن أن النازل لم يكن جنداً لهم عظمة وإنما كان ذلك بصيحة أخمدت نارهم وخربت ديارهم”.
آية (29):
(إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29))
أي ما كانت العقوبة أو الأخذة إلا صيحة واحدة واسم كان ضمير مستتر ونفى بـ (إنْ) ولم ينف بـ(ما) ذلك لأن (إن) أقوى من (ما) ولذلك كثيراً ما تقترن بـ(إلا) لإفادة القصر. ويتبين من مواطن اجتماعهما. قال تعالى: (ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم (31))( يوسف) فإثبات الملكية ليوسف يحتاج إلى قوة ولذلك نفى بـ(ما) أولاً ثم نفى بـ (إنْ) وإلاّ لما هو أقوى. ونحو ذلك ما ذكرناه في قوله: (ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون) فنفى أولاً بـ(ما) ثم نفى وأثبت بـ(إنْ) و(إلا) ونحوه ما مر قريباً وهو قوله تعالى: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء… إن كانت إلا صيحة واحدة) فنفى بـ (ما) أولاً ثم نفى وأثبت بـ(إنْ) و(إلا).
وقوله (واحدة) نعت مؤكد وقد أفاد أمرين: بيان بالغ قدرة الله وبيان هوانهم وضعفهم فإنهم لم يحتاجوا إلى أكثر من صيحة واحدة. وأضمر اسم كان لظهوره ووضوحه فإنه دل عليه القيام وإن لم يجر له ذكر. وجاء بالفاء وإذا الفجائية للدلالة على سرعة هلاكهم فإن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب و(إذا) تفيد المفاجأة وجاء بهما معاً للدلالة على سرعة المفاجأة بحيث لم تكن بين الصيحة وخمودهم مهلة. ولا يؤدي أي حرف هذا المؤدى فلو جاء بـ(ثم) فقال ثم إذا هم خامدون لدلّ على أن خمودهم إنما حصل بعد مدة من الصيحة نظير قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم تنتشرون (20))( الروم). ولو جاء بالواو لم يدل ذلك على التعقيب أيضاً ولم يدل أن ذلك إنما كان بسبب الصيحة فإن الواو لا تفيد السبب بل تفيد الاتباع فجاء بالفاء للدلالة على معنيين السبب والسرعة ولا يؤدي أي حرف مؤداها.
جاء في التفسير الكبير: “وقوله: (واحدة) تأكيد لكون الأمر هيناً عند الله. وقوله: (فإذا هم خامدون) فيه إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان مع الصيحة وفي وقتها لم يتأخر”.
وجاء في البحر المحيط في قوله (فإذا هم خامدون): “أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة لم يتأخر”. وجاء في روح المعاني: “إن نافية وكان ناقصة واسمها مضمر وصيحة خبرها أي ما كانت هي أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة. و (إذا ) فجائية وفيها إشارة إلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة وقد شبهوا بالنار على سبيل الاستعارة المكنية”.
وقال (خامدون) إشارة إلى سرعة هلاكهم وانطفاء حياتهم كانطفاء السراج. واختيار هذا الوصف أحسن اختيار فإنه مأخوذ من خمود النار وهو سكون لهيبها وذهاب حسيسها يقال “خمدت النار تخمد خموداً سكن لهيبها ولم يطفأ جمرها. وهمدت هموداً إذا أطفئ جمرها البتة وأخمد فلان ناره وقوم خامدون لا تسمع لهم حسّاً. جاء في التنزيل العزيز (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون). قال الزجاج: “فإذا هم ساكتون قد ماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد الهامد”. وفي القاموس المحيط: “خمدت النار خمودا وسمع خمداً وخموداً سكن لهيبها ولم يطفأ جمرها” وفي المصباح المنير: “خمدت النار خموداً من باب قد ماتت فلم يبق منها شيء قيل سكن لهيبها وبقي جمرها”. وفي أساس البلاغة: “نار خامدة وقد خمدت خموداً سكن لهيبها وذهب حسيسها”.
يتضح مما مر أن الفعل خمد يحمل المعاني الآتية:
1. يقال خمدت النار أي سكن لهيبها ولم يطفأ جمرها.
2. وقيل أيضاً خمدت النار إذا ماتت ولم يبق منها شيء.
3. ويقال خمد القوم إذا سكتوا فلم يسمع لهم حس.
4. وخمد القوم سكتوا وماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد الهامد؟
أما همود النار فهو انطفاؤها وعدم بقاء أثر منها.
جاء في لسان العرب: “همدت النار هموداً طفئت طفوءاً وذهبت البتة فلم يبن لها أثر..
الأصمعي: خمدت النار إذا سكن لهيبها وهمدت هموداً إذا طفئت البتة”.
وجاء في القاموس المحيط: “الهمود الموت وطفوء النار أي ذهاب حرارتها” وجاء في المصباح المنير: “همدت النار هموداً من باب قعد ذهب حرها ولم يبق منه شيء”.
واختيار الخمود على الهمود أنسب من عدة نواح منها:
1. أن في ذلك إشارة إلى سرعة سكونهم وانقطاع حركتهم فإن الخمود أسرع من الهمود ذلك أن إطفاء السراج والشعلة إنما يكون في أسرع وقت. جاء في التفسير الكبير: “والخمود في أسرع زمان فقال: (خامدين) بسببها فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة”.
2. وبيان أن حركتهم وأصواتهم قد خمدت فلا تسمع لهم حساً وذلك بعد التوعد والتهديد والضجيج والصخب الذي ملأ القرية وبعد البطش والتنكيل بالرجل الناصح بعد كل ذلك إذا هم ساكتون خامدون لا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزا.
3. ثم إن اختيار الخمود مناسب لقوله: (إن كانت إلا صيحة واحدة) وذلك أنه إذا كان في موضع ما ضجيج وصياح وصخب فإنه لا يسكته إلا صوت أو صيحة أعلى منه فصاح بهم صيحة أسكتتهم وأخمدتهم.
4. إن في اختيار الخمود على الهمود إشارة إلى البعث بعد الموت فإن الخمود لا يعني الفناء وإنما يعني ذهاب اللهب والحرارة وبقاء الجمر فكأن ذلك إشارة إلى مفارقة الأرواح للأبدان وليس فناءها. جاء في روح المعاني: “ولعل في العدول عن هامدون إلى خامدون رمزاً خفياً إلى البعث بعد الموت”.
5. اختيار الخمود على الهمود فيه صورة فنية أخرى وهي صورة الجمر الذي يغطيه الرماد وهي شبيهة بحالة الجثة التي يعلوها تراب القبر وفيها إشارة إلى أنهم يخترقون بالنار في داخلها وإن كان لا يظهر ذلك للناظرين.
6. ومن معاني الخمود الموت أيضاً كالهمود فأعطى الخمود معنى الهمود مع معان أخرى لا يؤديها الهمود كسرعة الهلاك والسكوت بعد الصيحة والرمز الخفي إلى البعث بعد الموت وأن ظاهرهم ساكن بارد وحقيقتهم نار تحرق.
فكان اختيار الخمود أولى والله أعلم.
آية (30):
(يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30))
(يا حسرة على العباد): الحسرة أشد الندم والغم يركب الإنسان حتى يكون حسيراً منقطعاً لا يستطيع فعل شيء لتدارك ما فاته. جاء في لسان العرب “الحسرة أشد الندم حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب الذي لا منفعة فيه”. وقال الزجاج: “الحسرة أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيراً” و “الحسرة على ما قال الراغب: الغمّ على ما فات والندم عليه كأن المتحسر انحسر عنه قواه من فرط ذلك أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه”.
ومعنى (يا حسرة على العباد) على أشهر الأقوال أنه نداء للحسرة مجازاً أي أقبلي يا حسرة فهذا وقت حضورك. جاء في الكشاف في قوله: (يا حسرة على العباد) “نداء للحسرة عليهم كأنما قيل لها تعالي يا حسرة فهذه من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها وهي حال استهزائهم بالرسل والمعنى أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهفون أو هم مُتَحَسَّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثَقَلَيْن”.
ويقوي الدلالة على النداء قوله تعالى: (وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً (14) )(الفرقان) وقوله: (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعو ثبورا (11))( الانشقاق). ومعنى دعاء الثبور مناداته للحضور بأن يقولوا: واثبوراه أو يا ثبوراه أي احضر يا ثبور فهذا وقتك وحينك. والثبور الهلاك. ولا يقصد حقيقة النداء ولكن المقصود بيان أن العباد أوقعوا أنفسهم في أمر عظيم لا يستطيعون منه مخرجاً تركبهم منه الحسرة مركباً عظيماً لا تفارقهم وينالهم من الغم والندم ما يملأ نفوسهم فليس في نفوسهم مكان لغير الكرب والندم وليس فيها موضع استرواح رائحة أمل ولا تنسم نسمة فرج فهم متحسرون نادمون منقطعون لا تفارقهم الحسرة والندم والغم أبد الآبدين. وعبّر بذلك تفظيعاً لما يصيبهم وهو نظير قولنا عن شخص وقد عمل عملاً نعلم أنه سيلحقه منه خسران كبير: يا خسارته، يا ويله مما سيحصل. نقول ذلك استفظاعاً لما يصيبه واستعظاماً له. والعباد هم المكذبون بالرسل المستهزئون بهم.
جاء في التفسير الكبير: “من المتحسر؟ نقول فيه وجوه: الأول: لا متحسر أصلاً في الحقيقة إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عند تحقق العذاب. وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض إذا كان الغرض غير متعلق به، يقال إن فلاناً يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء معطى إذ المقصود أن له المنع والإعطاء. ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل. والوجه فيه ما ذكرنا، أن ذكر المتحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت.
الثاني: أن قائل (يا حسرة) هو الله على الاستعارة تعظيماً للأمر وتهويلاً له حيث يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني. أو نقول ليس معنى قولنا يا حسرة ويا ندامة أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبر عن وقوع الندامة ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال: (يا حسرة) بل يخبر به على حقيقته إلا في النداء فإن النداء مجاز والمراد الإخبار”.
وجاء في تفسير ابن كثير: “(يا حسرة على العباد) أي يا ويل العباد. وقال قتادة: (يا حسرة على العباد) أي يا حسرة العباد على أنفسهم على ما ضيعت من أمر الله وفرطت في جنب الله”.
وجاء في روح المعاني: “ولعل الأوفق للمقام المتبادر إلى الأفهام نداء حسرة كل من يتأتى منه التحسر ففيه من المبالغة ما فيه”.
(ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون): وهذا بيان سبب الحسرة والندم. قوله: (من رسول) يفيد الاستغراق والمعنى أنه لم يسلم رسول من الاستهزاء. وقد تقول: ولم قال ههنا (من رسول) وقال في الزخرف (من نبي)؟ فنقول: إن كل لفظة ناسبت الموطن الذي وردت فيه فقد قال في الزخرف (وكم أرسلنا من نبي في الأولين (6) وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون (7)) فقوله: (كم أرسلنا) يفيد التكثير فإن (كم) هذه خبرية وهي تفيد التكثير والأنبياء أكثر من الرسل فإن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً فناسب كلمة نبي كمّ الخبرية. جاء في ملاك التأويل: “لما تقدم في آية الزخرف لفظ (كم) الخبرية وهي للتكثير ناسب ذلك كله من يوحى إليه من نبي مرسل أو نبي غير مرسل فورد هنا ما يعم الصنفين عليهم السلام”.
وتقديم (به) على الفعل للاهتمام إذ المفروض أن يستقبل العباد رسولهم بالطاعة والاستجابة والإكرام لأنه مرسل إليهم من ربهم ولكنهم استقبلوه بالاستهزاء والسخرية.
وذهب صاحب روح المعاني إلى أن هذا التقديم للحصر الادعائي أو لمراعاة الفاصلة. قال و (به) متعلق بيستهزئون وقدّم عليه للحصر الادعائي وجوّز أن يكون لمراعاة الفواصل”.
ومعلوم أن تقديم المعمول على عامله لا يقتصر على معنى الحصر. نعم إن إرادة الحصر فيه مثيرة ولكن قد يكون التقديم لغير ذلك من مواطن الاهتمام وذلك كقوله تعالى: (وبالنجم هم يهتدون (16))( النحل) فإن التقديم هنا لا يفيد الحصر إذ الاهتداء لا يقتصر على النجوم بل إن وسائل الاهتداء كثيرة قال تعالى: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون (15))( النحل) فذكر من وسائل الاهتداء الجبال والأنهار والسبل”. والأظهر فيما نرى أن التقديم ههنا إنما هو للعناية والاهتمام ويجوز أيضاً أن يكون لما ذكره صاحب روح المعاني والله أعلم.
*في سورة يس (وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)) إلى الآية (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (30)) الإمام الزجاج قال وهذه من أصعب مسألة في القرآن (المجلد الرابع صفحة 284) وجمهور المفسرين قالوا: أن الحسرة على الكافر يتحسر يوم القيامة ووقفت على بعض الأقوال أن المتحسر هو الله عز وجل على ما فات عباده من توحيد وعبادة لأن الياء ياء نداء والحسرة نكرة وهي غير عاقل فأرجو أن يفصل الدكتور في هذه المسألة. من المنادي؟ من القائل (يا حسرة)؟
هذه فيها كلام كثير. ولم يتعرض لهذا ابن جرير أو الإمام الطبري أو الفراء.
ليس هنالك متحسر واحد وإنما نداء للحسرة يعني أقبلي أيتها الحسرة هذا أوانك، هذا وقت حضورك. أحياناً في كلامنا العادي نقول لشخص قد عمل عملاً نعلم أنه سيلحق به خسران كبير نقول له يا خسارته!، يا ويله مما سيحصل له، نقولها استعظاماً لما سيصيبه كما قال في ابني آدم: (قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي (31))( المائدة). (يا حسرة على العباد) يعني هم أوقعوا نفسهم في أمر يتحسر عليه المتحسرون (يا حسرة) يعني يا أيتها الحسرة أقبلي لمن أقعوا أنفسهم. (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا (49))( الكهف) هم يقولون على أنفسهم بالويل، ونحن نقول على الآخرين يا ويله. (يا حسرة على العباد) هم يقولون هو نداء للحسرة لأن يقوي الدلالة على النداء ربنا يقول: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13))( الفرقان) يعني نادوا بالثبور يا ثبوراه! يا ثبوراه! هو نداء لكنه خرج عن معنى النداء الحقيقي لكن لاستعظام ما أوقعوا أنفسهم فيه. لما تقول يا ويله مما سيلحق به معناه أنه هو أوقع نفسه في أمر عظيم لو علِم. كما نقول يتحسر عليهم المتحسرون. هي ليست فئة محددة وليست مرتبطة بأحد وإنما نداء يا أيتها الحسرة أقبِلي فهذا وقت حضورك. يا ويل العباد وحسرتهم على أنفسهم، يا ويل العباد مما فعلوا، يا ويل العباد مما أوقعوا فيه أنفسهم.
*ما الفرق بين الحسرة (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ (39))(مريم) والندامة (وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ (33))(سبأ)؟
الحسرة هي أشد الندم حتى ينقطع الإنسان من أن يفعل شيئاً. والحسير هو المنقطع في القرآن الكريم لما يقول: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ (4))( الملك) حسير أي منقطع، ارجع البصر كرتين، ثم ارجع البصر، الحسير المنقطع. الحسير المنقطع والحسرة هي أشد الندم بحيث ينقطع الإنسان عن أن يفعل شيئاً ويقولون يكون تبلغ به درجة لا ينتفع به حتى ينقطع. (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ (30))( يس) هذه أكبر الحسرات على الإنسان وليس هناك أكبر منها. الندم قد يندم على أمر وإن كان فواته ليس بذلك لكن الحسرة هي أشد الندم والتلهف على ما فات وحتى قالوا ينقطع تماماً. يقولون هو كالحسير من الدواب الذي لا منفعة فيه (أدرك إعياء عن تدارك ما فرط منه). في قصة ابني آدم قال: (قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31))( المائدة) الندم له درجات أيضاً ولكن الحسرة أشد الندم، هي من الندم لكن أقوى من الندم عندما يبلغ الندم مبلغه. (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ (167))( البقرة) منقطعة ولا فائدة من الرجوع مرة ثانية.
*ما دلالة الاختلاف بين الآيات (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26))(السجدة) (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31))( يس) (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128))(طه) ؟(د.حسام النعيمى)
عبارة (أولم يهد) تكررت في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع: في موضعين (أولم يهد) وفي موضع (أفلم يهد). وكلمة (ألم يروا) تكررت كثيراً سأشير إلى أعدادها بشكل سريع. لكن الملاحظ بصورة عامة أن عبارة (ألم يهد لهم) أو ألم يهد له أو لك في غير القرآن العرب تستعملها بمعنى ألم يتبين لك؟، ألم يظهر لك؟ وألم تر، ألم يروا أيضاً بمعنى ألم يتبين لك؟ لكن هناك فارق جزئي بسبب اشتقاق اللفظ: ألم يهد: من الهداية، وألم يروا: من الرؤية، الهداية قطعاً متعلقة بشيء في القلب والرؤية متعلقة بشيء ظاهر مادي. هذا هو الأمر الذي يهيمن على الآيات في جميع المواطن التي وردت. عندما يريد القرآن أن يوجه العناية إلى التدبر والتفكر الزائد بحيث يشتغل القلب بهذا ولا يكون مجرد النظر وتفكير يسير استعمل (أولم يهد) من الهداية (أولم يهد لهم) لأن هذا الفعل فيه هذا المعنى، وغالباً يكون الكلام في الآيات إما على الألباب، القلوب، والآخرة التي تحتاج إلى تأمل وإلى تفكّر أن يتفكر في الآخرة، و (ألم يروا) تشمل هذا وهذا لكن إذا تحدثت عن أمور في الآخرة يراد منها النظر السريع والاستدلال السريع. هذه القاعدة العامة بالنسبة لـ (يهدي) و(يرى).
الآيات الواردة في هذا، السؤال عندنا (أولم يهد) فيها واو، (ألم يروا) ليس فيها هذه الواو. هذه الواو هي واو العطف وواو العطف لا تتقدم على الهمزة لأن الهمزة لها الصدارة كأنما في غير القرآن قال: كذا وكذا وألم يروا؟، لكن (وألم يروا) (وألم يهد لهم) لا تكون في اللغة لأن الهمزة تتقدم فيقول: أولم يروا، تدخل الواو بين الهمزة وبين الكلمة التي تليها. والواو لا تتقدم على الهمزة لأن علماؤنا من خلال استعراضهم لكلام العرب – والقرآن الكريم على لغة العرب – فالهمزة تتقدم فيقول: (أولم يروا)، أولم أقل لك هذا؟ يعني قلت لك كذا وكذا، أولم تستمع لقولي؟ في حقيقتها هي: وألم تستمع، لكن لأن الهمزة لها صدر الكلام تتقدم على حرف العطف الواو. إذن لما نجد أولم معناه هناك سياق عطف، تعطف جملة على جملة، جملة على ما قبلها، العاطف هو الواو والهمزة لا تحيل العطف أي لا تحول بين المعطوف والمعطوف عليه. الهمزة استفهام إنكاري فيه معنى التوبيخ يُنكر عليهم عدم رؤيتهم وينكر عليهم عدم اهتدائهم، فيه إنكار. فالهمزة لا تحول دون هذا العطف لأنه أصله للعطف. فلما نجد الواو أو نجد الفاء نحس أن هناك ربط هذه الجملة بالجملة التي قبلها هناك ارتباط عن طريق هذا العطف أو جاءت في سياق عطف.
لما ننظر في آيات السجدة نجد قوله عز وجل: (أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) ثم يقول (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)) كله عطف لكن لأنه جاءت الهمزة وفيها معنى هذا الإنكار عليهم إنهم لم يستعملوا عقولهم، لم يهتدوا، لم ينظروا فيم أهدي إليهم من معانٍ فجاء العطف.
بينما في سورة يس هناك قطع يعني استئناف. يبدأ من قوله تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)) هذه ربطت بما قبلها، الآية التي تليها بدأت ابتداء (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)) ما قال وإن كانت إلا صيحة واحدة، ليس فيها عطف هنا فصل، والغرض من الفصل توجيه العناية والاهتمام كأنه جملة جديدة. (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) لم يقل ويا حسرة على العباد، ثم جاء قوله: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)) لا يوجد عطف، استأنف لغرض التأكيد (ألم يروا) جعلها مستأنفة ولم يجعلها مرتبطة بما قبلها بحرف عطف. هذا في معاني الوصل والفصل في القرآن الكريم وهذا موطن فصل لغرض التأكيد، لغرض لفت العناية ولغرض الاهتمام (ألم يروا) كأنه بدأ كلاماً جديداً مع أنه مرتبط وآيات القرآن يرتبط بعضها ببعض لكن لما يريد لفت الانتباه والتركيز على معنى معين كأنه يستأنف لغرض التأكيد فهنا (ألم يروا) هذا من حيث وجود الواو وعدم وجود الواو.
في سورة طه (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (128))( طه) قصة عن الآخرة نقلها القرآن إلى الواقع الحالي كأنها وقعت لأن المستقبل في عين الله سبحانه وتعالى ماضي. نجد (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)) يعني بناء على كل هذا لأن الفاء للترتيب ترتب شيئاً على شيء، هي للعطف أيضاً لكنها تفيد الترتيب والمباشرة لما تقول: جاء زيد فخالد أي جاء مباشرة بعده وترتب مجيء هذا على مجيء هذا. فيها معنى الترتيب أي بعد كل هذا الكلام (أفلم يهد لهم) الفاء مرتِّبة وفيها شيء من التعليل أيضاً كأنها تبيّن عِلّة ما بعدها أنه هذا الذي ذكرناه ألا يكون مُذكِّراً لكم؟ ينبني على هذا الذي قلناه ما نقوله الآن. أفلم فيها معنى العطف لكن الدلالة فيها إضافة، الفاء فيها معنى العطف وإضافة الترتيب أما الواو فلا تقتضي ترتيباً وإنما مجرد عطف. تقول مثلاً: جاء زيد وخالد ممكن أن يكونا جاءا معاً أو يكون خالد جاء قبل زيد المهم جاء فلان وفلان، تقول سأل عنك فلان وفلان قد يكونا سألا سويا أو كل واحد لوحده تحتمل الاثنين. أما الفاء فهي للترتيب تقول: سأل عنك زيد فخالد، أي سأل زيد وبعد ذلك بقليل سأل خالد. كذلك الفرق بين الفاء و(ثم)، يقولون (ثم) للتراخي والترتيب. أما الفاء فترتيب مباشر والواو ليس فيها ترتيب.
الترتيب في سورة طه مقصود لذاته: الفاء في سورة طه لأنه ينبني على ذلك، يترتب على هذا الكلام، تقول فلان قال كذا وقال فلان كذا فيكون كذا وكذا يعني ينبني على هذه الأقوال هذا الشيء أنت تبني شيئاً على ما قبله، الآن نقول يترتب على هذا إجراء هذا الأمر كذا وكذا أي ينبني عليه. فالفاء هنا ترتيب على هذا المثال الذي ذكرناه، هذا لا يحرك مشاعركم بحيث تهتدون وبحيث تنظرون نظراً في القلب؟.
أما (ألم يروا) جاءت في خمسة مواضع في المصحف كله من غير عطف (ونحن نعتمد في هذه الإحصائيات على ما جمعه محمد فؤاد عبد الباقي رحمة الله عليه في المعجم المفهرس)، بالعطف (أولم يروا) وردت في 11 موضعاً لن أقرأها حتى لا نطيل لكن المشاهد الكريم لو رجع إلى الآيات سيجد أنه لما تأتي (ألم يروا) من غير الواو يعني ليس هناك سياق عطف. وفي 11 موضعاً التي فيها الواو هي في سياق عطف جميعاً. معناه هناك نظام واحد في العبارة القرآنية لا يختلّ. ولا تأتي (أولم) وهو ليس هناك عطف أو تأتي (ألم) والسياق سياق عطف، لا يكون هذا.
(من قبلهم) و (قبلهم):
(من) لابتداء الغاية، تقول جاء فلان من كذا ووصل إلى المكان أي بدأ مجيئه من المكان الفلاني. فلما يقول (كم أهلكنا من قبلهم) يعني القبلية مباشرة من وجودهم هم، يعني يُذكّرهم بمن هلك قبلهم قريباً. تبدأ غاية الهلاك من وجودهم هم يعني كأن يكون من آبائهم، أصدقائهم، أصحابهم، هذا التذكير أوقع في النفس لما يراد التخويف والإنذار لأن هذه الآيات الأولى التي فيها ذكر الآخرة وفيها هزٌّ لضمائرهم أن يهتدوا كأنما أُهدي لهم هذا المعنى فينبغي أن يشغّلوا قلوبهم في هذا الأمر استعمل عند ذلك (من قبلهم) أدعى للتخويف أن فلاناً كان معك وهلك.
(قبلهم) عامّة ليس فيها هذه اللمسة التي تذكرهم بالبداية والقبلية تشمل الجميع لكن لما يريد أن يلمس هذا الشيء قبلك مباشرة يستعمل (من). تقول: ألم تتنبه إلى ما حدث لأخيك من قبل ساعة أو من قليل أو من قبل أن أكلمك؟ (هذا مباشر)، ألم تر ما حدث لأخيك قبل أن أكلمك؟ (هذا كلام عام) من كلامي معك وقبل ذلك، أما من قبل أن أكلمك، يعني الآن من لحظات مرتبط بكلامي معك.
لم يعترض أحد على هذا الكلام لأن هذا في الذروة من كلام العربية لذلك سلّوا سيوفهم وما أخرجوا أقلامهم ليكتبوا بها وكان أيسر أن يكتبوا سطرين حملوا سيوفهم وقتل الابن أباه والأب حارب ولده وهم قوم عنصريون
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
يقاتل آل فلان ولا يكتب سطراً لأنه يستحي أن يكتب شيئاً يضحك منه الناس ويقولون له أين هذا من هذا؟
لماذا هذه الهجمة الشرسة على القرآن هذه الأيام؟ الهجمة الشرسة على القرآن ليست في هذه الأيام وإنما تزيد وتنقص وهي منذ بداية نبوة محمد وهي ماضية إلى يوم القيامة ولا نتوقع أن يأتي زمان لا يكون هناك من لا يحارب الدين. لكن أن يكون هناك استغلال لغفلة المسلمين ولانشغال المسلمين بأمور فتبدأ الحرب على الإسلام بأشكال مختلفة. بعض إخواننا يتحدث عن بعض الناس الذين اتخذوا لأنفسهم منهجاً خاصاً في الفقه هؤلاء لم ينشروا الإسلام في أي بلد كافر من وجودهم في التاريخ ولكن دائماً شغلهم في تحويل المسلمين من عقيدة أهل السنة والجماعة إلى فقههم، هذا شغلهم وعلى قول أحدهم يصيدون السمك من المقلاة! ولا يذهب لصيد السمك، الهند مفتوحة اذهب وادعُ الناس فيها للإسلام! لا نتوقع أن تتوقف الهجمة في أي وقت لكن على الناس أن ينتبهوا إلى ذلك وهو ليس فقط مسألة أسلوب القرآن الكريم وإنما الذي لا يعرف أسلوب القرآن الكريم ولا يعرف أساليب العربية يعرف على الأقل أحكام الشرع ويوازن بين أحكام الشرع والقوانين الوضعية، بين الأحكام الشرعية التي تضمن الخلق النظيف والمجتمع النظيف المتآخي المتواصل وهذه النظم التي تخاف من القانون فإذا غفل عنها القانون فعلت ما لا يفعله الشيطان. المجتمع المسلم مجتمع طاهر نقي نظيف من خلال تعاليم هذا الدين. العرب الآن الذين هم من أعراق عربية لم يعد لديهم ذلك الذوق العربي صرنا نتعلم العربية بحيث إذا سمعت اثنان عراقيان يتحدثان لا يفهمها الجزائري وإذا سمعت اثنان من المغرب يتحدثان أنت لا تفهمهما، فنحن ابتعدنا لذا نقول هذا الكلام هي لمسات للتذكير بهذه المعاني البيانية في كتاب الله عز وجل أما الإيمان والثبات فعلى شرع الله سبحانه وتعالى ومعرفة ما شرّعه الله سبحانه وتعالى.
آية (37):
*مداخلة لأحد المشاهدين حول إجابة الدكتور السامرائي :
في حلقة سابقة عن الآية (وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ (37))( يس) على حسب معرفتي أن الليل الكوني يحتوي على النهار وعلى الظلام لذلك إذا وضعت الكرة الأرضية مقابل الشمس بالليل الكوني صار الجزء المقابل للشمس منوّراً والجزء الذي خلفها غير منوّر مظلم أما الليل إذا خرجنا إلى خارج الغلاف الجوي، إذن الليل الكوني يحتوي على النهار وعلى الظلام وعندما يصطدم الليل الكوني بالكرة الأرضية يسلخ منه رب العالمين النهار الذي هو مقابل للشمس فيبقى بخلف الكرة الأرضية الظلام فلو أخذنا جسماً ووضعناه خلف الكرة الأرضية فإنه لا ينوّر ولا يعطي أي أشعة لأنه لا يوجد. ولو تتبعنا كلمة الليل في القرآن الكريم لوجدناها وردت مع مشتقاتها 83 مرة وكلمة النهار مع مشتقاته ورد 57 مرة وكلمة الظلمات 26 مع مشتقاتها مرة فلو جمعنا النهار مع الظلمات يكون المجموع 83 مرة بما يعادل المرات التي وردت كلمة الليل الكوني. لماذا جمعت الظلمات مع النهار وليس مع الليل؟ لأن الليل يحتوي على الظلمة وعلى النهار. ما المقصود بالليل الكوني؟ الليل الكوني يحتوي على الأشعة وعلى الظلام. الليل الكوني هو المادة الموجودة بالكون مطلقاً. أما الليل الأرضي فهو عبارة عن الليل الكوني مسلوخاً منه النهار.
آية (40):
*(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) لماذا لم يقل يسبح مع أنها لغير العاقل؟(د.فاضل السامرائى)
(كل) لها قواعد في التعبير. (كل) إذا أضيفت إلى نكرة هذا يراعى معناها مثل (كل رجل حضر) (كل امرأة حضرت) (كل رجلين حضرا) إذا أضيف إلى نكرة روعي المعنى وإذا أضيفت إلى معرفة يصح مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، مثال: (كل إخوتك) إخوتك جمع يجوز أن يقال كل إخوتك ذاهب ويقال كل إخوتك ذاهبون، يجوز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى. إذن إذا أضيفت إلى نكرة روعي المعنى كل رجل حضر، كل رجلين حضرا، كل امرأة حضرت. (كل) لفظها مفرد مذكر ومعناها تكتسبه بحسب المضاف إليه. إذا أضيفت لنكرة يراعى المضاف إليه وإذا أضيفت لمعرفة يجوز مراعاة اللفظ والمعنى. نوضح القاعدة: كل الرجال حضر وكلهم حضر، إذا قطعت عن الإضافة لفظاً جاز مراعاة اللفظ والمعنى (كلٌ حضر) (كلٌ حضروا) يجوز، (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ (285))( البقرة) (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33))( الأنبياء) (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) )(ق) مجموعة قوم نوح وعاد وفرعون قال كلٌ كذب الرسل، (كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (116))( البقرة). إذن من حيث القاعدة النحوية أنه إذا قطعت عن الإضافة هذا سؤال (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) لفظاً جاز مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى يمكن أن يقال كلٌ في فلك يسبح وكلٌ في فلك يسبحون لكن هل هنالك اختلاف في المعنى في القرآن ليختار هذا أو ذاك؟ هذا هو السؤال. من حيث اللغة جائز. القرآن استخدم الاثنين (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) )(الأنبياء) (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (84))( الإسراء) (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14))( ق). مما قيل في هذا الخلاف قال: الإخبار بالجمع يعني عندما يقول قانتون حاضرون يسبحون يعني كلهم مجتمعون في هذا الحدث ولما يفرد يكون كل واحد على حدة ليسوا مجتمعين. لما يقال كلٌ حضروا يعني مجتمعون ولما يقال كلٌ حضر يعني كل واحد على حدة. قال تعالى: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كلهم يسبحون في آن واحد، (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) يوم القيامة كلهم مع بعضهم، (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) كلٌ على حدة، (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) كلٌ على حدة كل واحد في أزمان مختلفة.
سؤال: هل هي لغويا معروفة أو خصوصية في القرآن الكريم؟
أصل اللغة ما ذكرنا والقرآن كسى بعض الكلمات دلالات خاصة به في سياق القرآن.
آية (44):
في القرآن يستعمل رحمة من عندنا أخص من رحمة منا، لا يستعمل رحمة من عندنا إلا مع المؤمنين فقط أما رحمة منا فعامة يستعملها مع المؤمن والكافر. (وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44))( يس) عامة، (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً (50))( فصلت) عامة، قال على سيدنا نوح (وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِه (28))( هود)، (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65))( الكهف) (وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84))( الأنبياء) (من عندنا) يستعملها خاصة و (منا) عامة. حتى (نعمة منا) و (نعمة من عندنا)، يستعمل (منا) عامة و (نعمة من عندنا) خاصة مثل (فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ (49))( الزمر) (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ (8))( الزمر) (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ (35))( القمر) (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84))( الأنبياء) (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28))( هود).
آية (47):
*في سورة يس (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47)) ما دلالة (لو) وهل هي أداة جازمة؟
(لو) ليست من الأدوات الجازمة هي من أدوات الشرط غير الجازمة مثل (إذا) ولها معانٍ قد تكون حرف امتناع لامتناع أو حرف شرط من دون امتناع وهي لا تجزم أصلاً مثل: (وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ (30))( محمد) وبعدها الفعل المضارع يكون مرفوعاً.
آية (49):
* (مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49))(يس) (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى (8))( الصافات) ما اللمسة البيانية في كلمتي يخصّمون ويسّمعون؟
ذكرنا سابقا أن يتضرعون ويضّرعون، هذه تسببها من الناحية الصرفية. يخصّمون أصلها يختصمون فصار إبدال التاء صاد وإدغام وهذا إبدال وإدغام جائز من حيث التكوين الصرفي. يسّمعون أصلها يستمعون صار فيها إبدال أيضاً. هذا من حيث التكوين الصرفي يبقى من حيث التكوين البياني. ذكرنا أن يتفعلون التي هي الأصل أطول ويفّعّل فيها مبالغة لأن فيها تضعيفين، ذاك من حيث الزمن أطول (يتفعل) وهذه فيها مبالغة في الحدث لأن فيها إدغام (يخصّمون، يسّمعون). لماذا قال (وهم يخصّمون)؟ الكلام عن الساعة (مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49))( يس) الكلام عن الساعة تأخذهم وهم يخصمون أي وهم منهمكون في أمور الدنيا في الخصومة في الدنيا لكنها لا تنقضي الخصومات تأخذهم رأساً قبل أن تنتهي الخصومات بينهم لأنه في الحديث الساعة تأخذهم فلا يرفع من يأكل اللقمة إلى فيه، قبل أن تصل اللقمة إلى فيه والمتبايعان تأخذه الساعة قبل إنهاء البيع. إذن مبالغة في الاختصام في الدنيا على أقصى حال لكنها تذهب رأساً قبل أن يتموا ذلك. بينما قال في مكان آخر (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31))( الزمر) لم يقل تخصمون لأن تلك فيها إقامة حجة وقضاء وسماع كلام القاضي والشاهد مسألة طويلة ثم يخصّمون في الدنيا ليس كلها فيها فصل وقضاء فإذن فيها مبالغة ولكن فيها سرعة قبل أن تنتهي الخصومة تقوم الساعة عليهم الآكِل لا يستطيع أن يوصل اللقمة إلى فمه والمتبايعان قبل أن تنتهي البيعة تأخذهم وهم يخصمون. وكذلك (يسّمعون) فيها مبالغة (لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ (8))( الصافات) يعني يريدون أقصى التسمع في أقصر وقت فقال يسّمعون لأن تسّمع يحتاج وقت طويل وهم يريدون الوقت القصير.
آية (51):
*(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51))(يس) ما معنى الأجداث؟ وما دلالة استخدام الأجداث بدل القبور؟
الأجداث هي القبور. لكن السؤال لماذا يقول الأجداث أحياناً ولا يقول القبور؟ الأجداث جمع جَدَث نلاحظ لفظ الجدث قريب في اللفظ والاشتقاق من لفظ جَدَثة، الفرق فقط في التاء المربوطة. الجدثة في اللغة هي صوت الحافِر والخُفّ وتأتي بمعنى صوت مضغ اللحم، هذا الجدثة في اللغة وليس الجدث، الجدث هو القبر والجدثة هو صوت الحافر والخُفّ ومضغ اللحم. صوت خروج الموتى من القبر مسرعين (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51))( يس) (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7))( القمر) (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43))( المعارج) الموتى خرجوا مسرعين، هذا عندما يخرجون مسرعين يذهبون إلى مكان الحشر وصوتهم يشبه تماماً صوت الحافر أو الخف عند السير والعدو لذلك هو لا يستعمل أجداث إلا في هذه الحالة في حالة الخروج والركض وكأنه يسمع لمشيهم صوت. القبر لا يستعمله بهذا الشكل وإنما يستعمل جدث فقط في هذه الحالة. نلاحظ عندما يقول: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51))( يس) (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7))( القمر) (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43))( المعارج) لم يستعملها في حالة السكون والهمود مطلقاً. بينما يستعمل القبور (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13))( الممتحنة) (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ (22))( فاطر) ليس فيها حركة، (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4))( الانفطار) القبور وليس الناس بعثرت ولم يذكر أن من فيها يخرج، (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) العاديات) كما تبعثر ما في صندوق بعثرته لكن ليس فيه حركة وعدو. الأجداث خصّها بهذا الاستعمال يعني مناسبة الصوت لمعنى الجَدَثة ومعنى مضغ اللحم يعني خرجوا مسرعين بعد أن مضغتهم الأرض وأكلتهم. إذن هنالك ارتباط دلالي بين الكلمة وما تدل عليه من معنى وهناك اختيار دقيق جداً للكلمة. هناك قبر ولحد وجدث والاختلاف بينها يتعلق بالحركة.
* وردت كلمة أجداث في القرآن ثلاث مرات والقبور ثماني مرات فما هناك فرق بين الجدث والقبر؟(د.حسام النعيمى)
حقيقة هم يقولون لما نأتي إلى معجمات اللغة أي معجم يعني من اللسان إلى الصحاح الواسعة والموجزة يقول لك: الجدث القبر فالأجداث القبور. لكن السؤال لماذا استعمل القرآن الأجداث هنا ولم يستعمل القبور؟ صحيح الأجداث هي القبور لكن نريد أن نعرف حقيقة كان بإمكان القرآن أن يقول (يخرجون من القبور) بدل ما يقولون (من الأجداث) طبعاً علماء اللغة يقولون: القبر عام عند العرب كلمة قد يستعملها قبائل اليمن قبائل العرب وما بينهما وقبائل الشام. أما الجدث فالأصل فيه أنه لهذيل. هذيل قبيلة في وسط الجزيرة يعني من القبائل التي اُخِذ منها العربية وتميم أيضاً في وسط الجزيرة لكن الفرق أن الهُذلي يقول جدث بالثاء والتميمي يقول جدف بالفاء. لاحظ تقارب الثاء والفاء، قريش أخذت من هذيل وصارت تستعملها ونزل القرآن بها. هؤلاء الذين في وسط الصحراء أرضهم رملية فتخيل عندما ينشق القبر تتشقق هذه القبور وكلها رمال ماذا سيكون؟ سيكون نوع من طيران الرمال في الجو لتشققها هذا يتناسب مع صوت الثاء بما فيه من نفث. لما نقول جدث وأجداث الثاء فيه نفخ بخلاف قبر وقبور فيها شدة، فيها حركة لكن فيها شدة ليس فيها هذه الضوضاء ولذلك لم يستعمل الأجداث إلا في بيان مشاهد يوم القيامة بينما كلمة قبر وقبور استعملت في الدنيا والآخرة (إذا القبور بعثرت) يعني ما صوّر لنا الصورة. لاحظ الصور أنا جمعت الآيات الثلاث: هي في ثلاثة مواضع وكلها في الكلام على النشور يوم القيامة وعلى الخروج من القبور أو من الأجداث،
الآية الأولى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51))( يس): يعني جماعات جماعات أفواج ينسلون يتجهون يسرعون في الخروج.
الآية الثانية (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7))( القمر): أيضاً يوم القيامة وأيضاً فيه هذا الانتشار وسرعة الحركة للجراد كأنهم جراد منتشر.
الآية الثالثة (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43))( المعارج): هذا كله في مشهد يوم القيامة في الحركة والانتفاض. لم تستعمل كلمة جدث وما استعمل أي اشتقاق من اشتقاقاتها استعمل فقط أجداث. وفي هذه الصورة صورة مشهد يوم القيامة. بينما كلمة قبر لأنها عامة استعمل منها الفعل (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21))( عبس) واستعمل المفرد (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84))( التوبة) هذا في الدنيا، المقابر في الدنيا، القبور وردت خمس مرات.
آية (52):
*في سورة يس (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)) بحثت في بعض التفسيرات وأشعر أنهم تفاجأوا بيوم المحشر فهل يمكن أن تعني أن هؤلاء ما حصل لهم عذاب البرزج لذا تفاجأوا بيوم الحشر قالوا (يا ويلنا) ولو كان حصل لهم عذاب البرزخ ما تفاجأوا؟
هذا السؤال يجاب عليه بأكثر من جواب. حياة البرزخ بالنسبة لحياة الآخرة هجعة لما يستيقظ ويرى ما يرى كأن البرزخ كان حلماً بالنسبة لاستيقاظة الآخرة، كالمستيقظ من النوم كان يرى كابوساً. حياة البرزخ بالنسبة إلى الساعة كالرقاد. هذه واحدة والأمر الآخر يقال أن بين النفختين يهجع الموتى في قبورهم وينامون فهم كالميت لا يسمع ولا يحس بشيء فيكون هجعة بين النفختين فإذا نُفِخ الثانية استيقظ من رقاده (مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا) قسم يقول بين النفختين هجعة (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68))( الزمر) بين النفختين هجعة لأهل القبور. هذه الآية بعد النفخة الثانية لأنها في المحشر فإذا كان هذا الخبر صحيحاً أن يتحقق أنه بين النفختين هجعة لأهل القبور (مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا). والمرقد مكان الرقاد والفراش
آية (56):
* ما دلالة استعمال الوصف (متكئين) لأهل الجنة خاصة؟
الاتّكاء غاية الراحة كأن الإنسان ليس وراءه شيء لأن الإنسان لو وراءه شيء لتهيّأ له ولم يتكئ. والاتّكاء في القرآن ورد مع الطعام والشراب ومع الجلسات العائلية هذا أكثر ما ورد إلا في موطن واحد.
جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57))( يس) والاتكاء يحسُن في هذا الموضع. وقال تعالى: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51))( ص) يرتبط الاتكاء مع الطعام والشراب وكذلك في سورة الرحمن (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)) و (مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)) وقوله تعالى: (مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16))( الواقعة) و (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20))( الطور) جاء في السياق مع هذه الآيات ذكر الطعام والشراب.
آية (58):
* ما الفرق بين سلام والسلام ؟
السلام معرفة والمعرفة هو ما دلّ على أمر معين، وسلام لك والأصل في النكرة العموم إذن كلمة سلام عامة وكلمة السلام أمر معين. عندما نقول رجل يعني أيّ رجل وعندما نقول الرجل أقصد رجلاً معيناً أو تعريف الجنس. الأصل في النكرة العموم والشمول. إذن (سلام) أعم لأنها نكرة وربنا سبحانه وتعالى لم يحييّ إلا بالتنكير في القرآن كله مثل: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى (59))( النمل) (سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79))( الصافات) (سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109))( الصافات) (سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120))( الصافات) حتى في الجنة (سَلَامٌ قَوْلًا مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ (58))( يس) حتى الملائكة (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73))( الزمر) ربنا تعالى لم يحييّ هو إلا بالتنكير لأنه أعم وأشمل كل السلام لا يترك منه شيئاً. (سلام عليه) هذه تحية ربنا على يحيى والآية الأخرى عيسى عليه السلام سلم على نفسه وليس من عند الله سبحانه وتعالى، سلام نكرة من قبل الله تعالى والسلام من عيسى عليه السلام وليس من الله تعالى والتعريف هنا (السلام) أفاد التخصيص. ويقوون تعريض بالذين يدعون أن مريم كذا وكذا فقال: (والسلام علي) رد على متهمي مريم عليها السلام.
*ما إعراب كلمة قولاً في قوله تعالى (سلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ)؟
هذه الآية (سلامٌ قولاً من رب رحيم) وكذلك (كبرت كلمةً تخرج من أفواههم) فيها وجهان إعرابيان: إما أن تكون تمييزا أو تكون حالا لأن القاعدة النحوية تنص على أن اسم التفضيل إذا كان ما بعده ليس من جنسه يُنصب مثال: (أنت أكثرُ مالاً، هو أحسنُ شعراً) وإذا كان ما بعده من جنسه يُضاف. (يقال: أنت أفضلُ رجلٍ، أحسنُ دارٍ).
وفي الآية (فالله خيرٌ حافظاً) في سورة يوسف تعني أن حفظة الله تعالى خير منكم بدليل قوله تعالى: (ونرسل عليكم حفظة) فكأنه تعالى قارن بينهم (بين إخوة يوسف) وبين حفظة الله (والتمييز أقوى من الحال) لسبب أن الحال قيد لعاملها كأنه خير فقط في هذه الحال من حالة الحفظ أما في التمييز فهي أقوى. ولو قال الله خيرُ حافظٍ فهي تدلّ على أن الله هو الحافظ.
سلامُ قولاً من رب رحيم: قولاً مفعول مطلق.
كبُرت كلمةً: تمييز (الفاعل مفسّر بتمييز بمعنى كبرت الكلمة كلمة).
تبسّم ضاحكاً: حال مؤكدة (اسم فاعل).
آية (65):
*(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65))( يس) (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) )(فصلت) ما اللمسة البيانية في اختلاف ختام الآيتين؟ ولماذا قالوا لجلودهم وليس للسانهم مثلاً؟ ولماذا تشهد الجلود دون باقي الأعضاء؟
نقرأ الآيات: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65))( يس) وفي فصلت (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21))( فصلت)، ذكر في آي يس (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) لأنه ذكر الأيدي والأرجل وهما آيتي الكسب ربنا يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (30))( الشورى) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا (38))( المائدة) (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2))( المسد) اليد والأرجل آية الكسب فناسب هنا الكسب بينما في سورة فصلت لم يذكر آية الكسب وإنما قال: (سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) في يس ذكر آية الكسب الأيدي والأرجل (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ (41))( الروم) بينما في آية فصلت لم يذكر آلة الكسب. إذن (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ملائمة للأيدي والأرجل وهي أدوات الكسب ولما قال: (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ذكر قبلها أدوات العلم: (سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ).
(وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا) لأن الجلود هي التي تُعذّب (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا (56))( النساء) كأنما يقولون فهمنا السمع والبصر لكن أنت يا جلود لِمَ شهدت علينا؟! هي التي ستُعذَّب (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ (56))( النساء) المفروض في نظرهم ألا تشهد ولذلك السؤال موجّه للجلود فقالت: (قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) ليس بأمرنا ولكن الله تعالى أنطقنا. يومئذ كل شيء يتكلم ولا نتكلم بالأفواه ولكن تشهد الأيدي والأرجل: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65))( يس).
آية (81):
*ما الفرق بين قادر وقدير؟
إذا عمّم أو أطلق يستعمل المبالغة، إذا عممها أي إذا قال (على كل شيء) يستخدم (قدير) وإذا قيّدها بشيء يقول (قادر) (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37))( الأنعام) قُيّدت بإنزال آية، (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65))( الأنعام) قيدت بالعذاب، إذا قيّدها يقول قادر لأن قادر اسم فاعل وليس مبالغة، (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) )(يس) قادر اسم فاعل من فعل قدر، قدير صيغة مبالغة. قدر هي مشترك لفظي (فقدر عليه رزقه) مشترك لفظي أي لها أكثر من معنى, يقولون مشترَك لفظي وأنا أرجح مشترِك لأنه اسم فاعل لأن الفعل غير متعدي فلما تقول مشترَك يحتاج مشترك لكذا تقديراً والمشترِك هو الأصل. فحيث أطلق القدرة أو عممها أطلق الصفة (وهو على شيء قدير) ومتى قيّدها قال (قادر) ليس فيها مبالغة وليس فيها كثرة، قدير فيها كثرة. فإذن حيث أطلقها يأتي بصيغ المبالغة وحيث عمّمها بكل شيء يأتي بصيغة مبالغة وحيث قيّدها يأتي باسم الفاعل، هذا الفارق الدلالي بين اسم الفاعل وبين صيغ المبالغة التي تدل على التكثير.
آية (82):
*(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82))(يس) (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68))(غافر) ما اللمسة البيانية في الاختلاف بين الآيتين؟
قراءة الآية توضح المسألة، الآية في يس (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82)) في غافر (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (68)). (إنما أمره) أمره مبتدأ خبره المصدر (أَنْ يَقُولَ لَهُ) (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا) هذه جملة اعتراضية شرطية حذف جواب الشرط لاكتناف ما يدل عليه، (إِذَا أَرَادَ شَيْئًا) هذه جملة اعتراضية ذكر فيها فعل الشرط وحذف الجواب وجوباً لأنه اكتنفه ما يدل عليه (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون (82))( يس) إذن لا يمكن أن يقال غير ذلك، الجملة مبتدأ وخبر كيف يقولها؟!. (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) هذه شرطية عادية (فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ) هذا جواب الشرط مقترنة بالفاء وجوباً. إذن لا سبيل إلى غير ذلك من حيث اللغة لا بد أن يقول ذلك مبتدأ وخبر، أدلة شرط وفعلها وجواب شرط، هذا التعبير الطبيعي ولا يصح أن نضع إحداهما مكان الأخرى.
سؤال: ربنا تعالى يقول: (كن) فعل أمر والشيء غير موجود فكيف يكون المخاطب؟
الشيء الذي يريده هو سبحانه وتعالى يقول له كن فيكون، أحياناً الإنسان يريد شيئاً أحياناً ويسعى إليه ويطلب تحقيقه وهو غير موجود. فربنا إذا أراد شيئاً يقول له كن فيحصل ذلك الشيء.
ليس كما يقولون بأن الشيء موجود في علم الله الأزلي فيخاطبه.