سورة الملك
آية (2):
س- *(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الملك) ما دلالة خلق مع الموت؟
ج- (د.فاضل السامرائى): شبيهٌ بهذا السؤال الفرق بين الخلق والجعل ورد أكثر من مرة. قلنا الجعل: إخبار عن ملابسة مفعول بشيء آخر منه أو فيه أو له مثلاً في قوله سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (30) الأنبياء) النحاة يقولون: ملابسة شيء بشيء أن يكون فيه أو منه أو له أو حالة من حالاته في الغالب, قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ (31) الأنبياء) وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ (61) النمل) أو يجعلها حالة (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا (32) الأنبياء) جعلها سقفاً. ملابسة المفعول بشيء، يجعل له شيئاً أما الخلق فليس بالضرورة ويكون ابتداء. خلق أي صنع على غير مثال أما الجعل فهو الملابسة بشيء قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ (12) الإسراء) صارتا شيئاً آخر، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً (22) البقرة) فيها إشمام بمعنى التحويل أن يجعلها تلتبس بشيء أو يجعل فيها شيئاً أو يجعل منها شيئاً أو يجعلها شيئاً, أما الخلق فلا يفيد هذا المعنى, وإنما هو الإيجاد ابتداءً. قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) لم يجعل لهما شيئاً أو فيهما شيئاً أو منهما شيئاً قال تعالى: (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) الفرقان) وهذا هو الأكثر في اللغة ولهذا قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ). (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا (32) الأنبياء) جعلنا السماء سقفاً لكن خلق السماء، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا (31) الأنبياء) جعلنا فيها تلتبس بشيء.
س- * لماذا جاءت آية سورة الملك باستخدام فعل بلى يبلو في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}) ؟ وفى الإنسان(إنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً {2})ولماذا جاء التخفيف في البلاء ولم يستعمل ليبتليكم؟ وما الفرق بينهما؟
ج- لو قرأنا آية سورة الملك: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}) لوجدنا أنها تنتهي بقوله تعالى: (وهو العزيز الغفور)، والمغفرة تقتضي التخفيف أولاً؛ لأن الإبتلاء والشدّة لا تتناسبان مع الغفور التي هي أصلاً صفة مبالغة أما صيغة ليبلوكم فهي أنسب مع المغفرة والتخفيف جزء من المغفرة. وهناك أمر آخر: نلاحظ في سورة الإنسان ذكر تعالى ما يصحّ معه الإبتلاء, قال تعالى: (فجعلناه سميعاً بصيرا) وقال تعالى: (إنا هديناه السبيل) السمع والبصر والإختيار والعقل وأطال في ذلك فلما أطال في ذكر ما تردد أطال في صيغة الإبتلاء (نبتليه) أما في سورة الملك فلم يذكر أياً من وسائل الإبتلاء إنما ذكر خلق السموات مباشرة في الآية التي بعدها فاقتضى استعمال الصيغة المخففة (ليبلوكم).
أمرٌ آخر أنه تعالى ذكر في سورة الإنسان شيئاً من ابتلاء الأعمال ما لم يذكره في سورة الملك. فذكر في سورة الملك آية في المؤمنين قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {12}) وآية في الكافرين (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {6}) لكن في سورة الإنسان ذكر الإبتلاء في الأعمال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً {24} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {25} وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً {26}) وأفاض في ذكر النعيم في الآخرة مما لم يذكره في الملك قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً {5}) فذكر ما يستدعي الإبتلاء وذكر الكافرين (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً {27}) وذكر الظالمين قال تعالى: (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {31}) والظلم من نتائج الأعمال. إذن السياق والوسائل وما ذكر من الأعمال جعل ذكر الإبتلاء أنسب من كل ناحية من حيث الوسائل وجو السورة والسياق والأعمال هذا من حيث الصيغة.
آية (3):
س- (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (3) الملك) ما معنى طباقاً وما الفرق بين طباقاً وطبقات؟ وهل الأرض مثل السموات سبع طباق أو طبقات؟
ج- (د.حسام النعيمى): جمع طبقة طبقات والطبقة هي مرحلة أو صورة من الصور يكون فوقها شيء فتقول هذه طبقة تعلوها طبقة تعلوها طبقة فهي طبقات، شرائح كما يقال شيء فوق شيء. أما الطباق فهي مصدر، طابق بين شيئين لكن في معنى شيء فوق شيء، المطابقة كأنه شيء فوق وشيء أسفل وتطابق بينهما. ومنه الطَبَق الذي هو الغطاء. فلما يقول طابق بين الشيئين يطابق طباقاً. فكلمة طباق تأتي جمعاً لطبقة وتأتي مصدراً من طابَقَ فلما يستعمل كلمة طباق تكون أشمل وأوسع من طبقات. (سبع سموات طباقاً) أي واحدة فوق الأخرى وكأنها متطابقة متناظرة متشابهة في وجودها فتعطي معنيين.
والأمر الثاني أن الكلمة التي فيها جمعان: طبقة جمعها طبقات وطباق لما تكون الكلمة فيها جمعان جمع تكسير وجمع مؤنث سالم. العرب تفضل جمع التكسير لأن جمع المؤنث السالم جموع الأعاجم. لما تأتي مثلاً كلمة مقبرة فيها تاء جمعت على مقابر ومقبرات ومقابر أفصح ولذلك شاعت لأنها جمع تكسير. كذلك مرتبة جمعها مراتب ومرتبات. فلما يكون جمع التكسير فهو يفضل على جمع المؤنث السالم لأن جمع السلامة هو جمع الأعاجم وجمع الأطفال وانظر إلى الطفل تسأله كيف يجمع أحمر فيقول أحمرات لأنها أيسر عليه.
فكلمة طباقاً جمع تكسير ومصدر فهي أشمل وأوسع ثم هي من حيث اللغة أعلى من كلمة طبقات.
الطبقات السبع أوالسموات السبع التي جعلت متطابقة أو بعضها فوق بعض لا ندري ما ماهيتها؟ ولا ندري مم تتألف؟ لا علم لنا وكل ما لدينا الحديث في رحلة الإسراء والمعراج أن الرسول إستفتح ففتح له أبواب السماء على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز لا ندري. وعندنا قوله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) إذن هذه النجوم التي نراها هي جميعاً تحت السماء الدنيا والنجوم ملايين السنوات الضوئية وإذا كانت الثانية في السنة الضوئية 386 ميل في الثانية فكم هي السنة الضوئية؟ تضرب الناتج بأرقام فلكية (نضرب الرقم *60*60*24*365) ملايين السنوات الضوئية هناك نجوم كلها تحت السماء الدنيا فما هي السماء الدنيا؟ ما وصلنا في الكشف إلى كل النجوم فهذا شيء مهول فإذن لا نعلم ما هي لكننا نؤمن أنها سبع سموات طباقاً.
قال تعالى (ومن الأرض مثلهن) الألف واللام في كلمة الأرض هنا قد تكون للتعريف أنها الأرض التي نعيش عليها. (ومن الأرض مثلهن) هل تعني سبع أراضين؟ أي أن هناك ست أراضين أخرى عليها مخلوقات؟ أين تكون؟ أم المراد (ومن الأرض مثلهن) أن المادة التي تكونت منها الأرض هي مثل مادة السموات؟ الآية تحتمل هذا المعنى. (ومن الأرض) هذه الأرض مثلهن؟ ما في الأرض مثلهن؟ لم تقل عدد طبقات الأرض وإنما قال (ومن الأرض) ما قال عددهن وإنما قال مثلهن وكلمة (مثلهن) تحتمل العدد وتحتمل المادة فكلا المعنيين صحيح ولا مرجَّح بينهما. أين يكون هذا؟ هذا غيب لا نعلمه، هل مادة الأرض مكونة من مادة السماء من الغازات المحترقة التي تجمدت؟ أم مكونة من شيء آخر؟ هي سبعة؟ أين تكون هذه الأراضين؟ كل مجموعة شمسية تشبه مجموعتنا الشمسية فيها كواكب تدوةر ويمكن أن يكون هناك حياة في أماكن أخرى والله أعلم.
س- ما دلالة استخدام كلمة الرحمن في الآية (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ (3) الملك) مع أن الكلام عن خلق السموات؟
ج- (د.فاضل السامرائى): سورة الملك تبدأ بالكلام عن الله سبحانه وتعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3)) الذي خلق سبع سموات, فالكلام عن الرحمن هذا أمر, والأمر الآخر أن السموات من خلق الرحمن, ولما قال ما ترى من خلق الرحمن دخل فيها السموات كلها وغير السموات, ولو قال السموات لم يدخل غير السموات, وقد يكون هناك تفاوت في غيرها. لو قال (ما ترى في خلق السموات من تفاوت) نفى التفاوت في خلق السموات ولم ينفه في غيرها. ومن ثم فالسموات من خلق الرحمن تدخل في خلق الرحمن, ودخل فيها كل ما خلق الرحمن, إذن ما ترى فيه من تفاوت, ولو قال (ما ترى في خلق السموات) إذن نفى التفاوت عن السموات أما غيرها فلم ينفه عن غيرها من خلق الرحمن. الأوْلى والأكرم أن يقول (خلق الرحمن) لأنه-بذلك- دخل فيها السموات وكل خلق الرحمن ومنه السموات, ولو قال السموات كان يكون هناك احتمال أن هناك تفاوتاً في غير السموات.
رب العالمين يوجه بصرنا إلى أمور كثيرة في خلق الأرض وفي خلق السموات وغير السموات, قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ (3)) وكلها من خلق الله. ثم تكلم عن السموات وقال (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ (5)).
آية (9):
س- لم قال تعالى فى سورة يس: (وما أنزل الرحمن من شيء) فأسند الفعل إلى الرحمن, وقال في سورة الملك: (وقلنا ما نزل الله من شيء (9) الملك) وفي سورة الأنعام: (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء (91) الأنعام) بإسناد الفعل إلى الله؟
ج- (د.فاضل السامرائى): كل تعبير هو الأنسب في مكانه. فأما في سورة الملك فإنه يشيع فيها ذكر العذاب ومعاقبة الكفار فقد ذكر فيها مشهداً من مشاهد الذين كفروا في النار وسؤالهم عن النذر التي جاءتهم وذلك قوله: (وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)) ثم حذر عباده من عقوبته وبطشه في الدنيا وألا يأمنوا عذابه من فوقهم أو من تحت أرجلهم وأن يعتبروا بما فعله ربنا مع الأقوام الهالكة, قال تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)) ثم حذرهم مرة أخرى وهددهم بقوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)) وعاد مرة أخرى فذكر إنكار الكفار ليوم النشور واستبعادهم له وحذرهم من عقوبات رب العالمين في الدنيا والآخرة فقال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)) وإزاء كل هذا التحذير والتخويف وذكر مشاهد العذاب لم يذكر بخصوص المؤمنين وجزائهم إلا آية واحدة وهي قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)) فلا يناسب إزاء كل هذا التهديد والتحذير للكافرين وما أعده الله لعذابهم في جهنم أن يقرنه باسم الرحمن. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أن القائلين لهذا القول إنما هم في أطباق النيران وأنهم ألقوا فيها فوجاً بعد فوج وقد اشتد غضب الله عليهم ولم تدركهم رحمته فلا يناسب ذكر الرحمن هنا أيضاً.
ثم إن الله جعل العذاب بمقابل الرحمة فقال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) الحجر) ولما كان المشهد مشهد العذاب كان ذلك في مقابل الرحمة, فلا يناسب هذا العذاب ذكر الرحمة وبخاصة أن هؤلاء كفروا بربهم فلا ترجى لهم رحمة ولا ينالهم من إسم الرحمن نصيب.
ومن ناحية أخرى أن القائلين في سورة يس إنما هم في الدنيا وهم يتقلبون في نِعم الله ورحمته أما القائلون في سورة الملك فإنما هم في جهنم وقد يئسوا من رحمته سبحانه فناسب كل تعبير موطنه.
وأما سورة الأنعام فإنها يشيع فيها التحذير والتهديد والتوعد وليس فيها مشهد من مشاهد الجنة, وإنما فيها صور غير قليلة من مشاهد النار. كما أن السورة لم يرد فيها إسم (الرحمن) على طولها في حين ورد فيها إسم (الله) تعالى (87) سبعاً وثمانين مرة فناسب كل تعبير مكانه.
آية (10):
س- (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) الملك) ما دلالة استعمال (في) بدل (من) في الآية؟ وفي نفس الآية (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) لماذا لم يقل لو كنا نبصر؟ هل لأن السمع يأتي بعد الدعوة مع أن القرآن الكريم حينما يريد أن يؤكد على الإعجاز يذكر (إن في ذلك لآيات لقوم يبصرون)؟
ج- (د.فاضل السامرائى): نعرف أن (في) تفيد الظرفية يعني ما كنا في أصحاب السعير أي ما كنا في عِدادهم. وهم أُلقوا في السعير هذا الكلام وقد ألقوا في السعير قال تعالى: (إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)). (من) بهذا المعنى تبعيضية، (في أصحاب السعير) تعني أنه فيهم الآن, ولو قال (منهم) هو منهم, لكن لا يقتضي أنه فيهم الآن، لما تقول (في الفريق) يعني هو الآن فيه, لكن لما تقول (من الفريق) ليس نصاً على أنه في الفريق الآن. تقول هو (من العراق) وتقول هو (في العراق)، هو في العرق أي هو في العراق الآن لحظة الحديث. إذن لما قال: (فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) أي هم الآن في السعير, ولو قال (من أصحاب السعير) لا يعني أنهم في السعير الآن, قد يكون ما زال في الصراط أو في مكان آخر. هو (في الطلبة) داخل معهم، (من الطلبة) هو واحد منهم, لكن قد يكون في البيت. إذن هذا الكلام (فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) أدل وأقوى على أنهم في السعير يعذبون الآن. إضافة إلى أن (في) ظرفية و(من) تبعيضية.
استعمال نسمع ونبصر؟ لم لم يقل نبصر مع نسمع؟
(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) هذا معناه أنه يكفي العقل والسماع للنجاة ما يحتاج للإبصار لأن الإبصار مشاهدة ومن رأى كمن سمع. هي تعبر عن حالة معينة في توقيت محدد. هو يكفي الإنسان أن يسمع أو يعقل لينجو لا يحتاج للإبصار لأنه لو شاهد لانتهى وارتفع الحجاب وليس هناك إشكال أصلاً، فمن رأى كمن سمع. يكفي في النجاة السماع. عادة في القرآن السمع يأتي مع البصر لكن هذا مختلف، هذا الآن في السعير ماذا يبصر؟ هل يبصر السعير حتى يؤمن؟ في الدنيا كان يكفيه أن يسمع أو يعقل حتى ينجو لا يحتاج إلى الإبصار، يكفي هذان الأمران للنجاة كما كثير من الناس لا يبصرون فيكفيهم السماع والعقل للنجاة.
إذن ليس هناك كلمة زائدة في القرآن الكريم وكل كلمة عاشقة لمكانها فلم يكرر المتوالية في القرآن (السمع والبصر) هذا يرد في مكان آخر في القرآن (السمع والبصر) مقترنان لكن هنا السماع والعقل كافية للنجاة.
آية (12):
س- في سورة الحديد قال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)) وفي سورة فاطر أضاف المغفرة فقال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)) وفي سورة الملك قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)) فما دلالة ذكر المغفرة مع الأجر وعدم ذكرها؟
ج- (د.فاضل السامرائى): كل موطن في القرآن يذكر فيه المغفرة يجب أن يذكر فيه الذنوب والكافرين في سائر القرآن. لما يضيف المغفرة للأجر الكبير لا بد أن يسبقها أو يأتي بعدها الذنوب والكافرين، يذكر في السياق أمرين: الكافرين والذنوب.
في سورة فاطر بدأ تعالى بقوله (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)) سوء عمله هذا ذنب، (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (10) فاطر) ذكر الكافرين مع الذنب، (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا) مباشرة بعده في سياق الكفر والذنب. نفس الأمر في سورة الملك قال تعالى: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)) ذنب وكافرون، كلما يقول: (مغفرة وأجر كبير) يسبقها أمران (الكفر والذنب). في سورة الحديد لم يذكر الكافرين ولا الذنب فلم يذكر المغفرة.
آية (14):
س- ما الفرق بين (ما) و (من) في الإستخدام اللغوي؟
ج- (د.فاضل السامرائى): في اللغة تستعمل (ما) لذوات غير العاقل ولصفات العقلاء قال تعالى: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ (29) طه) ماذا في يمينه؟ عصاه، (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) لذات غير العاقل ولصفات العقلاء. تقول من هذا؟ هذا فلان، تسأل ما هو؟ تسأل عن صفته فيقال مثلاً هو تاجر، (من هو؟) تسأل عن ذاته. (ما) هي تستعمل لأمرين: لذات غير العاقل ولصفات العقلاء (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء (3) النساء) عاقل, وربنا سبحانه وتعالى يستخدمها لنفسه كما جاء في سورة الشمس قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)) يتكلم عن نفسه سبحانه. (ما) تقع على صفات أولي العلم جميعاً حتى قسم من النُحاة أدق لا يقولون العقل لأن الله تعالى لا يوصف بالعقل ولا يصق نفسه أنه العاقل وإنما العالِم، فيقول النحاة لذوي العلم وذوات غير العاقل. في سورة الليل قال تعالى: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3)) من الخالق؟ الله سبحانه وتعالى، في سورة الكافرون قال تعالى: (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)) ما أعبد هو الله تعالى، (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)) الأصنام غير عاقلة و(ما) تستعمل لذوات غير العاقل وتستعمل لصفات العقلاء.
(من) إذا إنفردت تكون لذوات العقلاء تحديداً، قد تستعمل في مواطن تخرج عن هذا الأمر مثلاً أنت تُنزِل غير العاقل منزلة العاقل، تتكلم مع حصانك يقولون لك: من تُكلِّم؟ تقول: أكلِّم من يفهمني، من يحفظني، هذا تجوّز. في الأصل أن (من) لذات غير العاقل وأحياناً يشترط العاقل مع غير العاقل فتطلق عليهم (من) فيصير تفصيل (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) النور) من يمشي على بطنه غير العاقل، من يمشي على رجلين الإنسان، اجتمعت في عموم فصّل بـ (من) لها مواطن. أما إذا انفردت فلا تكون إلا للعاقل (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) الملك) لذي العِلم.
آية (19):
س- ما الفرق بين استخدام كلمة الله وكلمة مسخّرات في سورة النحل وكلمة الرحمن وصافّات في سورة الملك؟
ج- (د.فاضل السامرائى): قال تعالى في سورة النحل: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)) وقال في سورة الملك: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19))
1. أولاً وللعلم أن كلمة الرحمن لم ترد في سورة النحل كلها (128 آية) بينما وردت أربع مرات في سورة الملك (30 آية).
2. كلمة (الله) في سورة النحل وردت 84 مرة بينما وردت في الملك ثلاث مرات.
3. هذا من حيث السمة اللفظية، وللعلم أيضاً لم يرد إسناد الفعل سخّر في جميع القرآن إلى الرحمن وهذا هو الخط العام في القرآن وإنما ورد (سخرنا، ألم تر أن الله سخر) ولهذا حكمة بالتأكيد.
4. الأمر الآخر أن السياق في سورة المُلك هو في ذكر مظاهر الرحمن قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) حتى لمّا حذرهم, حذّرهم بما أنعم عليهم من قبل قال تعالى: (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)) ولم يقل فكيف كان عقاب كما جاء في آية سورة الرعد قال تعالى: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)) وهذا من مظاهر الرحمة قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)) (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)) فالسياق في السورة إذن في مظاهر الرحمن. أما في سورة النحل فالسياق في التوحيد والنهي عن الشرك قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)) حتى ختم آية النحل (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ولفظ (الله) مأخوذ من العبادة فهو الأنسب هنا.
5. هذا أمر, والأمر الآخر قال في سورة النحل : (مسخّرات) من باب القهر والتذليل ولا يناسب الرحمة وليس من باب الإختيار. بينما في سورة الملك جعل اختيار (صافّات ويقبضن) من باب ما يفعله الطير ليس فيها تسخير وإعطاء الإختيار من باب الرحمة ثم ذكر حالة الراحة للطير (صافّات) وهذا أيضاً رحمة. إذن لفظ (الرحمن) مناسب لسورة الملك ولفظ (الله) مناسب لسورة النحل.
س- لماذا جاءت صافات ويقبضن في الآية (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) الملك)؟ لم يقل صافات وقابضات؟
ج- (د.فاضل السامرائى): أصل الطير للطيور صفّ الأجنحة والقبض حتى يتمكن من الصفّ. فالقبض طارئ والصفّ هو الأصل. والصفّ هو فرد جناحي الطير. الأصل في الطيران هو صفّ الأجنحة والقبض ليتمكن من الاحتفاظ بالتوازن فلما كان الصفّ هو الحالة الثابتة جاء بالصيغة الدالة على الثبوت وهو الإسم والإسم يدل على الثبوت, ولما كانت الحالة طارئة وهي القبض جاء بالحالة الدالة على الحركة والتجدد وهو الفعل للدلالة على الحركة والتجدد. هذه حالة الطيران. إذا قال صافّات فقط هي ليست من دون قبض وهي تحتاج إلى القبض حتى تتمكن من الموازنة لكن القبض هو طارئ والصفّ هو الأصل الثابت لهذا قدّم صافّات أصلاً لأنه طيران. وصافات جاءت بالصيغة الثابتة للإسم للحالة الثابتة وجاء بالصيغة المتجددة الدالة على الحدوث للحالة المتجددة فناسب بين الحالة والصيغة.
آية (20):
س- ما أصل (ذا)؟
ج – (د.فاضل السامرائى): قال تعالى: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) الملك) وقال (من ذا الذي). (من ذا) في هذه الآية فيها احتمالان: إما (ذا) اسم إشارة (هذا) أو (من ذا) كلها واحدة إسم استفهام بمعنى (من) لكن قالوا إنها أقوى من (من) لأنه زاد في المبنى وزيادة المبنى في الغالب تدل على زيادة المعنى. (من ذا الذي يقرض الله قرضاً) تحتمل أن يكون من هذا الذي ويحتمل من الذي. وهناك فرق بين من ذا ومن هذا: الهاء للتنبيه (هذا: الهاء للتنبيه وذا إسم إشارة). لما يقتضي الكلام الشدة وما إلى ذلك يأتي بـ (هذا) (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) الملك). فرق بينها وبين (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ (255) البقرة) هذا شفيع والشفيع يترجّى، تذهب إلى من بيده الأمر وتشفع لفلان يعني يعلم أن هذا الذي تذهب إليه هو الذي يقضي في الحاجة ويفصل فيها فما قال من ذا الذي. (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) الملك) من هو هذا الذي هو ندٌ لله تعالى؟ الله تعالى يمسك الرزق وهذا يرزق؟! من هذا؟ فجاء بهاء التنبيه لأنها أشد. من هذا الذي هو ندٌ لله تعالى؟ (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) الملك) من هو؟ هذه أشد وأقوى من (من ذا) لأن فيها تنبيه. فالتي فيها تنبيه يقول (أمن هذا) وإذا لم يكن فيها تنبيه يقول (من ذا) وهذا ميزان عجيب في التعبير.
س- ما دلالة استخدام لفظة الرحمن وليس الله تعالى مع القوة والنصرة والجند في الآية (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) الملك)؟
ج- (د.فاضل السامرائى): فعلاً هناك آيتان وردت فيها (من دون الله) واحدة في الكهف, في قوله تعالى: (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا (43)) وفي القصص, في قوله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81)) وهذه الآية معنا (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) الملك) وليس من دون الله. السياق يوضح السبب ويوضح الأمر. السياق في سورة الملك وهي في سياق ذكر النعم أصلاً, قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)) إذن هو السياق في النِعَم فناسب ذكر الرحمن. الآن ننظر في آية الكهف, قال تعالى: (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا) أصلاً السياق في الحوار بين المؤمن والكافر (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) الكهف) هذا لا يصح فيه ذكر الرحمن لأن الآية فيها عقوبة وكلمة الرحمن لا يأتي في موطن عقوبة. في سياق قارون في آية القصص في قوله تعالى: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ) خسف لا يتناسب معه ذكر الرحمن. أما في سورة الملك ففي سياق النعم والنِعَم أقرب للرحمة والآيتان في الكهف والقصص في سياق العقوبات فلا تناسب ذكر الرحمن. ثم نلاحظ في العقوبتين عقوبة صاحب الجنة وعقوبة قارون, عقوبة قارون أصعب لأنه قال فخسفنا به وبداره أما الأول فقال فأحيط بثمره وبقي هو، قال في صاحب الجنة (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ) وفي قارون قال: (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ) (ما) جواب قَسَم لأنها داخلة على الماضي، سيبويه قال فعل نفيه لم يفعل، قد فعل نفيه لمّا يفعل، لقد فعل نفيه ما فعل لأنها قسم كأنه قال والله لقد فعلت، والله ما فعلت (يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ (74) التوبة) (ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) الأنعام) فأيها الأقوى؟ التي مع قارون فقال: (فما كان له من فئة) جاء بـ (من) الدالة على الإستغراق أي من أي فئة بمعنى العموم والشمول مثل (قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) ص) (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ (11) غافر) هذه (من) الإستغراقية تستغرق كل شيء. في آية الكهف قال: (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ) وفي القصص قال: (فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ) الدالة على الاستغراق، كل شيء، التعبير بحسب مقدار العقوبة وقدر العقوبة : (لم تكن – ما كان، فئة – من فئة، من دون الرحمن – من دون الله).
آية (24):
س- ما الفرق بين إستعمال (وإليه ترجعون) و(إليه تحشرون) وما دلالة كل كلمة في القرآن؟
ج- (د.حسام النعيمى): الآية الأولى تتكلم على الجانب المالي (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) البقرة) والآية الأخرى (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) الملك). لما كان الكلام على المال، على القرض، والمال يذهب ويجيء، الله سبحانه وتعالى يقبضه ويبسطه فيناسب الكلام على البسط والقبض الذهاب والإياب، ذهاب المال وإياب المال يناسب كلمة الرجوع، أنتم وأموالكم ترجعون إلى الله لأن فيها قبض وبسط ففيها رجوع.
الحشر إستعمله مع ذرأ لأن ذرأ بمعنى نشر، يذرؤكم في الأرض أي يبثّكم وينشركم في الأرض. هذا الذرء والبثّ يحتاج إلى جمع أن يُجمع والحشر فيه معنى الجمع. فإليه ترجعون, كأنما هذا الرجوع لكن ليس فيه صورة لمّ هذا المذروء المنثور فالذي يناسب الشيء المنثور الموزع في الأرض كلمة الحشر وليس الرجوع صحيح الرجوع كله إلى الله سبحانه وتعالى. واللفظة المناسبة لـ (ذرأكم في الأرض) أي بثّكم كلمة تحشرون هذا الحشر الذي يناسب الذرء.
آية (27):
س- ما معنى قوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27) الملك)؟
ج- (د.فاضل السامرائى): الزلفة أي القريب، الآية تتكلم عن يوم الحشر وهي في سورة الملك في قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)) هو يعدهم بالحشر وهم يسألون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين في قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (25))؟ (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27)) لما رأوه قريباً منهم لأن الزلفى هي القُرب، يقال ذو زلفة أي قريب. أزلفت والزلف قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) الشعراء) أي قُرِّبت، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (3) الزمر) أي الأصنام تقربهم إلى الله تعالى. فالزلفة هي القُرب. قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) رأوا يوم القيامة، يوم الحشر وكانوا من قبل يستبعدون هذا الحشر فلما رأوه زلفة سيئت وجوه (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ساءهم رؤيته (سيئت) فعل مبني للمجهول. (ساء) فعل يتعدّى نقول ساءتني رؤيته، إذن سيئت مبني للمجهول ووجوه نائب فاعل. لما رأوا الحشر قريباً منهم ساءت الوجوه رؤيتهم، أصلها ساء يوم القيامة وجوه الذين كفروا فقيل سيئت وجوه. سيئت يوم القيامة وجوه الذين كفروا، وبناها للمجهول لأن المعنى واضح والكلام على الحشر واستبعادهم وهو قريب أمامهم. أنتم تشاهدونه الآن وخرجوا وراءه والحشر أمامهم كما قيل: (وأزلفت الجنة للمتقين) أزلفت للتقريب وليس بالضرورة أن يكون فيه شيء من الهدوء والسكينة. لم يقل فلما رأوه قريباً.
س- ما دلالة التعبير بكلمة (زلفة) بغض النظر عن أي كلمة أخرى؟
ج- الزلفة بمعنى تقرّب إليه، تزلّف إليه أي تقرّب إليه شيئاً فشيئاً، يفعل الحِيَل ليتقرب حتى في الصلاة قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ (114) هود) الزُلف من الليل هي أقرب الصلاة إلى النار وهما المغرب والعشاء. الزُلَف من الليل أي ما هو أقرب إلى النهار وهما صلاتي المغرب والعشاء. هذا يراه كثير من المفسرين وبعضهم يرى أن معناه تقرّب إلى الله بصلاة الليل وليس بالضرورة صلاة المغرب والعشاء. فالزلفة فيها تقرّب على العموم.
آية (29):
س- ما دلالة تقديم وتأخير الجار والمجرور فى قوله تعالى (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)؟
ج- (د.فاضل السامرائى): ومن هذا النوع من التقديم قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) الملك) فقدم الفعل آمنا على الجار والمجرور (به) وأخّر توكلنا عن الجار والمجرور (عليه) وذلك لأن الإيمان لما لم يكن منحصراً في الإيمان بالله بل لا بد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الأخر وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه، بخلاف التوكل فإنه لا يجوز إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قدّم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره لأن غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه.
آية (30):
س- ما دلالة هذا السؤال في ختام سورة الملك (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ (30) الملك)؟
ج- (د.فاضل السامرائى): قوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) هذا سؤال تقريري يقرر السامعين عن المنعم الأول، من المنعِم؟ وأنه لا يمكن أن يفعل أحد غير ما يريده سبحانه. نحو هذا السؤال ورد في آيات سابقة، قبلها قال تعالى: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)) ثم قال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) السياق هو عن المنعِم الأول والجواب عن كل ذلك لا أحد غيره فله الفضل وله المنّة. إذن هو السؤال تقريري والسياق هكذا في جملة أسئلة متعاقبة عن المنعِم الأول الذي تفضل علينا بالنعم. ليس سؤالاً واحداً وإنما هي عدة أسئلة.
معنى الآية (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) الله تعالى يخاطب الناس ويذكّرهم بالنِعم فمن غير الله يأتيكم بماء معين؟ هذا يسمى استفهام تقريري، من غير الله؟ لا أحد فله الفضل وله المنّة. غرض الاستفهام في القرآن كما في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ (116) المائدة) يقرره أيضاً كالمحاكمة، لو كان الأمر بمقتضى علم الله تعالى لا يحاسب أحداً فالله تعالى يعلم ولكنه يقيم الحجة يوم القيامة.