سورة القيامة
آية (1-2):
لقد ذكر المفسرون مناسبة هذه السورة لما قبلها أعني سورة (المدثر) وارتباطها بها. فقد قالوا: إنه سبحانه قال في آخر سورة المدثر: (كلا بل يخافون الآخرة كلا إنه تذكرة) وفيها كثير من أحوال القيامة “فذكر هنا يوم القيامة وجملاً من أحوالها” فكان بينهما مناسبة ظاهرة.
إن هذه السورة قطعة فنية مترابطة متناسقة محكمة النسج، وليس صواباً ما جاء في (الإتقان) أن “من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة القيامة: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسر جداً”
إن ترابط آيات هذه السورة ترابط محكم وتناسبها فيما بينها لا يخفى على المتأمل.
لقد أقسم الله سبحانه بيوم القيامة، وأقسم بالنفس اللوامة على رأي الأكثرين، أو أقسم بيوم القيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة على رأي آخرين وسر هذا الاختلاف، أن ثمة قراءة بإثبات القسم بيوم القيامة أي (لاأقسم) إلا أنهم اتفقوا على إثبات حرف النفي مع النفس اللوامة فكلهم قرأ(ولا أقسم بالنفس اللوامة).
ولا نريد أن نطيل الكلام على اقتران فعل القسم بـ (لا) ودواعيه فقد تكلم فيه المفسرون والنجاة بما فيه الكفاية والذي نريد أن نقوله ههنا: إن كل أفعال القسم المسندة إلى الله في القرآن الكريم مسبوقة بـ (لا) إذ ليس في القرآن الكريم (أقسم) بل كلها (لا أقسم)، وذلك نحو قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم) [الواقعة] وقوله: (فلا أقسم بالشفق) [الإنشقاق]، وقوله: (لا أقسم بهذا البلد) [البلد] وما إلى ذلك فليس القسم ههنا بدعاً من التعبير. وباختصار كبير نرجح أن هذا التعبير إنما هو “لون من ألوان الأساليب في العربية تخبر صاحبك عن أمر يجهله أو ينكره، وقد يحتاج إلى قسم لتوكيده، لكنك تقول له: لا داعي أن أحلف لك على هذا، أو لا أريد أن أحلف لم أن ألأمر على هذه الحال، ونحوه مستعمل في الدراجة عندنا نقول: ما أحلف لك أن ألأمر كيت وكيت. أو ما أحلف لك بالله لأن الحلف بالله عظيم، إن الأمر على غير ما تظن فأنت تخبره بالأمر، وتقول له: لا داعي للحلف بالمعظمات على هذا الأمر”
أو كما ذهبت إليه الدكتورة بنت الشاطئ، وهو أن القصد من ذلك هو التأكيد “والتأكيد عن طريق النفي، ليس بغريب عن مألوف استعمالنا، فأنت تقول لصاحبك: لا أوصيك بفلان تأكيداً للوصية ومبالغة في الاهتمام بها، كما تقول: لن ألح عليك في زيارتنا فتبلغ بالنفي ما لا تبلغه بالطلب المباشر الصريح”
ومهما كان الرأي في دخول (لا) على فعل القسم، فإن هذا لا يغير شيئاً من أصل المسألة، وهي أنه ابتدأ السورة بالقسم بيوم القيامة والنفس اللوامة نفياً أو إثباتاً. وقد حاول المفسرون أن يجدوا المناسبة لاجتماعهما في القسم فقالوا: “المقصود من إقامة القيامة، إظهار أحوال النفوس اللوامة، أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشديدة” .
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): “وجمع سبحانه في القسم بين محل الجزاء وهو يوم القيامة ومحل الكسب وهو النفس اللوامة ولما كان معادها هو محل ظهور هذا اللوم وترتب أثره عليه، قرن بينهما في الذكر
إن السورة مبنية على ما ابتدأت به من القسم، فهي مبنية على أحوال يوم القيامة، وعلى النفس، ولا تكاد تخرج عن ذلك.
هذا أمر والأمر الآخر أنه تعالى لم يقسم بالنفس على صفة الإطلاق، بل أقسم بنفس مخصوصة، وهي النفس اللوامة، وهذا له طابعه الواضح في السورة كما سنبين.
إن الإنسان يلوم نفسه لأحد سببين:
إما أن يتعجل فيفعل ما لا ينبغي له فعله، فيندم على ذلك فيبدأ يلوم نفسه، لم فعلت ذاك؟ لم لم أترو؟
وإما أن يتراخى عن فعل كان الأولى له أن يفعله، وأن يغتنم الفرصة التي سنحت له، ولكنه قعد عن ذلك مسوفاً، ففاته نفع كبير، وقد لا تسنح له فرصة، كالتي فاتت، فيبدأ يلوم نفسه. لم تباطأت، لم لم أفعل؟ لم لم أغتنم الفرصة؟ ونحو ذلك.
والسورة مطبوعة أيضاً بهذين الطابعين من صفات النفس اللوامة، طابع العجلة التي تدعو إلى الندم واللوم، وطابع التباطؤ وتفويت الفرص الذي يؤدي إلى الندم واللوم أيضاً.
فالسورة مبنية إذن على ما ابتدأت به.
يوم القيامة، والنفس اللوامة في حيالها: العجلة والتباطؤ.
أما يوم القيامة، فقد تكررت أحواله في السورة في تناسق لطيف، إلى أي ختمت بقوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) فتناسب بدء السورة مع خاتمتها
آية (3):
ثم قال بعد القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) فعاد إلى القيامة.
والملاحظ في هذا التعبير أنه جمع بين نفس الإنسان ويوم القيامة أيضاً كما ابتدأت السورة فقال: (أيحسب الإنسان) أي: أيظن ذلك في نفسه؟ لحسبان أمر نفسي داخلي، ولم يقل مثلاً: (لنجمعنك إلى يوم القيامة) أو لتبعثن) ونحو ذلك فجمع بينهما في تناسق لطيف مع بداية السورة، وهو احتيار فني رفيع.
ومن الملاحظ أننا لا نجد جواباً للقسم الذي ابتدأت به السورة، وإنما نجد ما يدل عليه وهو هذه الآية. فجواب القسم محذوف ويقدره النحاة (لتبعثن).
وهذا الحذف يتناسب هو والعجلة التي دلت عليه النفس اللوامة وجوها ـ أعني جو العجلة ـ الذي طبعت به السورة.
ومن الملاحظات الأخرى في هذه الآية، أنها مرتبطة بما ورد في آخر السورة وهو قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) أجمل ارتباط حتى كأنهما آيتان متتابعتان تأخذ إحداهما بحجز الأخرى.
آية (4):
ثم قال بعدها: (بلى قادرين على أن نسوى بنانه).
إن هذه الآية تتناسب هي ما ورد في آخر السورة من قوله تعالى: (فخلق فسوى) إلا أن هذه تسوية مخصوصة بالبنان وتلك تسوية عامة. وكل آية موضوعة في مكانها المناسب فآية (نسوى بنانه) مرتبطة بقوله: (نجمع عظامه) فإن البنان عظام، فناسب ذلك بأن يكون بجنب (نجمع عظامه) أما الآية الأخر وهي (فخلق فسوى) فهي مرتبطة بالخلق العام للإنسان، فناسب ذلك الإطلاق والعموم فناسب كل آية موضعها.
وملاحظة أخرى في هذا التعبير، وهي أنه حذف منه عامل الحال، فقال: (بلى قادرين) ولم يذكر عامله، ولم يذكر عامله، ويقدره النحاة بقولهم: (بلى نجمعها قادرين وهذا الحذف يتناسب أيضاً والعجلة التي دلت عليها النفس اللوامة.
آية (5):
ثم قال بعد ذلك: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه).
ومعنى الآية أن الإنسان يريد المداومة على شهواته ومعاصيه، ويقدم الذنب ويؤخر التوبة.
جاء في (الكشاف) في تفسير قوله تعالى: (ليفجر أمامه) “ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه. وعن سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله”.
وجاء في (البحر المحيط): ” إن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه، ويمضي فيها أبداً قدماً راكباً رأسه مطيعاً أمله ومسوفاً بتوبته”.
وارتباط الآية بالنفس اللوامة واضح، فإن الإنسان ههنا يسوف التوبة، يتباطاً عنها ويغره الأمل حتى يموت، فيدركه الندم ويقع تحت مطرقة اللوم.
وانظر بعد ذلك كيف جاء باللام الزائدة المؤكدة في مفعول الإرادة، فقال: (بل يريد الإنسان ليفجر) والأصل أن يقال: (بل يريد الإنسان أن يفجر) لأن فعل الإرادة متعد بنفسه لا باللام كما قال: (يريد الله أن يخفف عنكم) [النساء] غير أنه جاء باللام للدلالة على قوة إرادة الفجور والشهوات عند الإنسان وشدة الرغبة فيها. وهذه مدعاة إلى الندم البالغ، وكثرة لوم الإنسان لنفسه، فارتبط ذلك أحسن ارتباط بالنفس اللوامة.
ثم انظر كيف أنه لما بالغ في إرادة للفجور والرغبة فيه، بالغ في اللوم فجاء بصيغة المبالغة، فقال: (اللوامة) ولم يقل (اللائمة) للدلالة على كثرة اللوم، فانظر المناسبة بين المبالغة في الفجور والمبالغة في اللوم، وكيف أنه لما بالغ في أحدهما بالغ في الآخر.
آية (6):
ثم قال بعد ذلك: (يسأل أيان يوم القيامة)
وهذا “سؤال متعنت مستبعد لقيام الساعة” وقد جاء بأداة الاستفهام (أيان) التي تدل على شدة الاستبعاد وهذا المتعنت المستبعد لقيام الساعة هو الذي يقدم الفجور والمعصية ويؤخر التوبة، وهو المذكور في الآية السابقة.
آية (7-10):
وقال بعد ذلك: (فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر) .
وهذه الآيات كأنها جواب السائل عن موعد القيامة المستبعد لوقوعها. وقد بدأ التعبير بـ (إذا) الدالة على الزمان لأن السائل إنما سأل عن زمنها وموعدها، فكان الجواب بالزمان كما كان السؤال عن الزمان.
ومعنى: (برق البصر) دهش فلم يبصر، وقيل: تحير فلم يطرف، وبرق بصره، أي: ضعف.
وذكر البصر مع ذكر الشمس والقمر له سببه ومناسبته، فإن البصر يعمل مع وجود الشمس والقمر، أي: مع النور، فإذا لم يكن ثمة نور فلا يعمل شيئاً كما قال تعالى: (ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) [البقرة].
وفي هذا اليوم قد تعطل البصر كما تعطل الشمس والقمر، فالبصر برق، والقمر خسف، وجمع الشمس والقمر.
ثم انظر كيف قال: (برق البصر) ولم يقل (عمي) أو نحو ذلك، فإن المراد تعطيله مع وجوده، كما فعل بالشمس والقمر، فإنه لم يزلهما ويذهبهما، وإنما عطلهما فهو تناسب لطيف.
ثم انظر كيف قال: (وجمع الشمس والقمر) إشارة إلى تعطيل الحياة الرتيبة إن استمرار الشمس والقمر على حالهما دليل على استمرار الحياة والدنيا إنما هي أيام وليال، وآية النهار الشمس وآية الليل القمر، فجمعهما معاً دليل على تعطيل الحياة التي كان يردوها مسوفو التوبة، والمغترون بالأمل والذين يقدمون الفجور ممن تقدم ذكرهم بقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) ثم انظر بعد علاقة ذلك بالنفس اللوامة التي كانت تقدم الفجور، وتغتر بالدنيا ففاجأها ما يستدعي كثرة اللوم.
ثم انظر مناسبة ذلك للقسم بـ (يوم القيامة)، و(اليوم) يستعمل في أحد مدلوليه لمجموع الليل والنهار فناسب ذلك ذكر الشمس والقمر، إذ هما دليلاً اليوم وآيتاه في الدنيا، أما يوم القيامة هذا فهو يوم لا يتعاقب فيه الشمس بالقمر، بل يجمعان فيه فلا يكون بعد ليل ونهار بل هو يوم متصل طويل.
وفي هذا اليوم يطلب الإنسان الفرار، ولكن إلى أين؟
آية (11-12):
ويبقى السؤال بلا جواب ثم يجيب رب العزة بقوله: (كلا لا وزر) والوزر الملجأ، فلا ملجأ يفر إليه الإنسان ويحتمي به وإنما (إلى ربك يومئذ المستقر) والفار يطلب ملجأ يأوي إليه ويعتصم به ويطلب الاستقرار ولكن لا استقرار إلا إلى الله، فإليه وحده المستقر.
وتقديم الجار والمجرور يفيد القصر والاختصاص، فليس ثمة مستقر إلى سواه. وهذا التقديم يقتضيه الكلام من جهتين:
من جهة المعنى وهو الاختصاص والقصر، وتقتضيه فاصلة الآية أيضاً.
وتقديم (يومئذ) كذلك يقتضيه الكلام من هاتين الجهتين أيضاً. فالمستقر في ذلك اليوم خاصة إلى الله سبحانه، أما في الدنيا فالإنسان قد يجد مستقراً يأوي إليه ويستقر فيه، أما في ذلك اليوم، فلا مستقر لا إلى الله.
وتقديم (إلى ربك) على (يومئذ) له سببه أيضاً ذلك أن الإنسان في تلك الحالة، يبحث عن مكان يفر إليه ويستقر منه، فقدم له ما يبحث عنه، وقال له: (إلى ربك يومئذ المستقر) لأنه هو الأهم، وهو المقصود.
واختيار كلمة (رب) ههنا اختيار مقصود، فالرب هو المالك والسيد والمدبر والمربي والقيم والمنعم. ورب كل شيء مالكه ومستحقه.
والفار إلى من يلتجئ؟ هل يلتجئ إلا إلى سيده ومالكه وصاحب نعمته ومدبر أمره والقيم عليه؟
فهو وزره وإليه مستقره، فهل ترى أنسب من كلمة (رب) ههنا؟
ثم إن اختيار كلمة (مستقر) اختيار دقيق محكم أيضاً، ذلك أن هذه الكلمة تدل على المصدر بمعنى الاستقرار، وتدل على اسم المكان بمعنى مكان الاستقرار، وتدل على اسم الزمان، بمعنى زمان الاستقرار.
وهي هنا تفيد هذه المعاني كلها، فهي تفيد (الاستقرار)، أي: إلى فك الاستقرار، وتفيد موضع الاستقرار وهو الجنة والنار أي إلى ذلك إلى هيئته تعالى.
جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: (إلى ربك يومئذ المستقر): “إلى ربك خاصة (يومئذ) مستقر العباد، أي: استقرارهم، يعني أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إليه. أو على حكمة ترجع أمور العباد لا يحكم عليه غير كقوله: (لمن الملك اليوم) أو إلى ربك مستقرهم، أي: موضع فرارهم من جنة أو نار”.
وجاء في(البحر المحيط): “المستقر، أي: الاستقرار أو موضع استقرار من جنة أو نار إلى مشيئته تعالى، يدخل من شاء الجنة، ويدخل من شاء النار بما قدم وأخر”.
وتفيد زمان الاستقرار أيضاً، أي أن وقت الفصل بين الخلائق، وسوقهم على مستقرهم عائد إلى مشيئته تعالى. فهم يمكثون في ذلك اليوم ما يشاء الله أن يمكثوا، ثم هو يحكم بوقت ذهابهم إلى مواطن استقرارهم، فكلمة (مستقر) أفادت ثلاث معان مجتمعة علاوة على ما تقتضيه الفاصلة في نهاية الآيات. ولا تغنى كلمة أخرى عنها، فلو أبدلت بها (الاستقرار) ما أدت تلك المعاني، فهي أنسب كلمة في هذا الموضع.
آية (13):
ثم قال بعد ذلك: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر).
والمعنى أن الإنسان ينبأ بما قدم من عمل خير أو شر، وبما أخر من عمل كان عليه أن يعمله، فلم يعمله.
وهذه الآية متناسبة مع ذكر النفس اللوامة، في أول السورة في حالتيها اللتين تدعوان إلى اللوم.
أن تفعل فعلاً ما كان ينبغي لها أن تفعله، فتلوم نفسها عليه، وهذا يدخل فيما قدم.
أو تقعد عن عمل كان ينبغي لها أن تعمله، فلم تعمله وهو يدخل فيما أخر.
آية (14-15):
ثم قال بعدها: (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره).
بعد أن أخبر عن أحوال يوم القيامة فيما تقدم، عاد إلى النفس مرة أخرى. وهو اقتران يذكرنا بالاقتران بين يوم القيامة والنفس اللوامة في مفتتح السورة.
والمعنى: أن الإنسان يعرف حقيقة نفسه، ولو جاء بالحجج والأعذار.
آية (16):
وقال بعدها: (لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقراءنه فإذا قرأنه فاتبع قراءنه ثم إن علينا بيانه).
وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها، أن الحجج والمعاذير إنما تلقى باللسان فارتبطت بقوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به). والضمير في (به) يعود على القرآن، ولم يجر له ذكر، وهو مفهوم من المعنى “وكان رسول الله eإذا لقن الوحي، نازع جبريل القراءة، ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعةً إلى الحفظ وخوفاً من أن يتفلت منه، فأمر بأن يستنصت إليه ملقياً إليه بقلبه وسمعه، حتى يقضي إليه وحيه… (لتعجل به) لتأخذه على عجلة ولئلا يتفلت منك”.
وأما قوله: (لتعجل به) فهو تعليل لتحريك اللسان، فالعجلة علة له هذا..
إن العجلة المذكورة هنا تتناسب مع جو العجلة في السورة، ثم إن ذكر سير القرآن من دون أن يجري له ذكر اختصار وإيجاز في الكلام مناسب لجو مجلة هذه، فقد تعاون كل من التعبير والتعليل لبيان هذا الغرض.
آية (17):
وقال بعدها: (إن علينا جمعه وقرآنه)
الملاحظ في هذا التعبير أنه قدم الجار والمجرور على الاسم، وذلك لاختصاص والقصر والمعنى أننا نحن المتكلفون بجمعه في صدرك تلاوته للناس صحيحاً كاملاً وهذا مواطن من مواطن القصر، لأنه لا يمكن لأحد غير الله أن يفعل ذلك، فإن تثبيت النصوص في النفس وحفظها لمجرد سماعها وعدم نسيانها، وإلقاءها كما هي على مر الزمن، إنما هو من فعل الله وحده فهو الذي يثبت في النفوس أو يمحو منها ما يشاء. إذن فإن ذلك عليه وحده وهذا التقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته الفاصلة.
ولو أخر الجار والمجرور لأخل بالمعنى، ذلك أنه يقتضي عدم القصر ومعنى ذلك أنه يخبر بأنه متكفل بجمع القرآن في صدره، وليس المتكفل الوحيد وذلك كما تقول: (يشرح خالد لك هذا الأمر) فإنك ذكرت أن خالداً يشرح له الأمر ولم تفد أن خالداً يخصه بالشرح ولا يشرح لأحد غيره ولو قال: (لك يشرح خالد هذا الأمر) لأفاد أنه يخصه بالشرح ولا يشرح لأحد آخر. فتقديم الجار والمجرور على عامله يفيد القصر غالباً.
وهذا موطن قصر، إذ لا يمكن أن يفعل ذلك غير الله تعالى، أعني التكفل بتثبيت القرآن في النفس بمجرد سماعه.
وإدخال (إن) يقتضيه المعنى أيضاً في أكثر من جهة:
من ذلك أنها تفيد التعليل كما في قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) [التوبة] فهنا أفادت التعليل وبينت سبب النهي عن تحريك اللسان فقد قال: لا تحرك به لسانك، لأن جمعه في صدرك نحن نتكفل به. ولو لم يدخل (إن) لم يرتبط الكلام ولا نتفى معنى التعليل إذ لو قال: (لا تحرك به لسانك لتعجل به علينا جمعه وقرآنه) لم تجد له هذا الحسن الذي تجد، ولا نفصل الكلام بعضه عن بعض فـ (إن) ربطت الكلام بعضه ببعض وأفادت التعليل.
ومن ذلك أنها تفيد التوكيد، وهذا الموطن يقتضي التوكيد إذ إن حفظ الإنسان لكل ما يلقى إليه بمجرد سماعه أمر غريب والتكفل به يحتاج إلى توكيد ولذا جاء بـ (إن) المؤكدة.
آية (18-19):
وقال بعد ذلك: (فإذا قرأنه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه)
ومعنى: (فاتبع قرآنه) أي: اتبعه بذهنك وفكرك، أي: فاستمع له.
والإسناد إلى ضمير الجمع هنا له دلالة إضافة إلى التعظيم الذي يفيده من الجمع ذلك أن القارئ هو جبريل، وليس الله.
جاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى: (فإذا قرآنه فاتبع قرآنه) “جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته… ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام (من يطع الرسول فقد أطاع الله). وجاء في (البحر المحيط): فإذا قرأناه، أي: الملك المبلغ عنا”.
وكذلك المبين في قوله تعالى: (ثم إن علينا بيانه) فالذي يبين للرسول يوضح هو الملك، فهو يقرأ بأمر الله ويبين بأمر الله فالأمر مشترك. الله هو الملك يبلغ، ولذا عبر بأسلوب الجمع، والله أعلم، وأظن أن الفرق موضح بين قوله: (فإذا قرآنه فاتبع قرآنه) والقول: (فإذا قرأته فاتبع قرآنه).
والقول في التقديم في (ثم إن علينا) هو في الآية قبلها. فإن تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص أيضاً ذلك أن تبين ما أشكل منه مختص تعالى.
آية (20-21):
وقال بعد ذلك: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة)
والعاجلة يؤثرها بنو آدم على وجه العموم، ويقدمونها على الآخرة وارتباطها بما قبلها وهو قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) ظاهر فكلتاهما في العجلة وإيثارها، فالرسول eكان ينازع جبريل القراءة ولا يصبر حتى يتمها ليأخذه على عجل، والناس على وجه العموم يؤثرون العاجلة على الآخرة، فهو طبع عام في البشر خلقوا عليه كما قال تعالى: (خلق الإنسان من عجل) [الأنبياء] فالموضوع إذن موضوع واحد هو العجلة.
وكلاهما يتعجل ما هو أثير لديه ومفضل عنده.
جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: (كلا بل تحبون العاجلة)، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء ومن ثم تحبون العاجلة: (وتذرون الآخرة)… فإن قلت: كيف اتصل قوله: (لا تحرك به لسانك) إلى آخره بذكر القيامة؟ قلت: اتصاله به من جهة التخلص منه إلى هذا التوبيخ بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة.
وجاء في (روح المعاني) في هذه الآية: “كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) تعميم الخطاب للكل كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك، لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة… ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) فإن ملوح إلى معنى: بل تحبون الخ”.
إن هذه الآية كما هو واضح مناسبة لجو العجلة التي بنيت عليها السورة، وهي متصلة ـ كما مر بنا ـ بقوله تعالى: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) فإن الإنسان يسوف بتوبته ويغره أمله ويؤثر ما بين يديه ويغمس نفسه في شهواته، ويستحب عاجل حياته ولا ينظر فيما وراء ذلك من أمور الآخرة، فهي متصلة بما قبلها وبقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) أتم اتصال.
كما أنها متصلة بالنفس اللوامة التي بنيت عليها السورة اتصالاً ظاهراً بالنفس اللوامة كما ذكرنا تلوم نفسها لأحد سببين:
إما أن تعجل فتعمل عملاً تندم عليه، فتلوم نفسها علة ذلك، وهذا ما أكده قوله: (كلا بل تحبون العاجلة) وإما أن تؤخر عملاً كان ينبغي لها عمله وقرتها خيره، فتندم عليه، فتلوم نفسها على ذلك وهذا ما يفيده قوله: (كلا بل تحبون العاجلة و تذرون الآخرة) فهو هنا عجل أمراً وترك آخر فندم من الجهتين ولام نفسه الحالتين، لام نفسه في العجلة ولام نفسه في الترك.
وما أحرى أن تسمى هذه النفس بالنفس اللوامة، لأن دواعي اللوم لكاثرة عليها.
ثم انظر كيف اختار الفعل: (وتذرون) على (تتركون) ذلك أم في تذورن) حذفاً واصله (توذرون) من (وذر) ليدل ذلك على طابع العجلة الذي يريد أن ينتهي من الشيء في أقرب وقت. فاختيار هذا الفعل المحذوف الواو، مناسب لجو العجلة.
و قد تقول: ولم لم يقل: (تدعون) وهو فيه حذف كما في (وتذرون)
والجواب ـ والله أعلم ـ أن اختيار (تذرون) على (تدعون) له سببه ذلك أن الفعل (وذر) في عموم معانيه يفيد الذم، ومنه قولهم: امرأة وذرة أي: رائحتها رائحة الوذر، وهو اللحم، وقولهم (يا ابن شامة الوذر) وهو سب يكنى به عن القذف. وفي الحديث : (شر النساء الوذرة المذرة) بخلاف (ودع) فإن من معانيه الراحة والدعة وخفض العيش. وقد يفيد المدح ومنه قولهم، رجل وديع، أي: هادئ ساكن. في حين أن الموقف ذم فإنهم يحبون العاجلة ويذرون الآخرة، فاختار الفعل الذي يقال في عموم للذم ولم يختر الفعل الذي يقال في كثير من معانيه و أكثر معانيه للمدح. وهو اختيار فني رفيع.
آية (22-25):
ثم قال بعد ذلك: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة)
هذا الصنفان هما ما يؤول إلى أحدهما الناس يوم القيامة. الذي يؤثر الآخرة ويعمل لها، والذي يحب العاجلة ويذر الآخرة. وهذه الآيات مرتبطة بأول السورة وهو القسم بيوم القيامة أتم ارتباط. فإنه في يوم القيامة ينقسم الناس إلى هذين الصنفين.
ثم إن لاختيار كلمة (رب) وتقديم الجار والمجرور سببه أيضاً.
أما اختيار كلمة (رب) فهو أنسب شيء ههنا، فإن وجوه أهل السعادة تنظر إلى ولي نعمتها في الدنيا والآخرة ومربيها وسيدها الذي غذاها بالنعم وهداها إلى طريق السعادة، وأوصلها إليه ولم تكن قد رأته من قبل. ولم يرد في السورة من أسماء الله تعالى غير لفظ (الرب).
وأما تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (إلى ربها ناظرة) فللاختصاص، فإن هذه الوجوه لا تنظر إلا إليه، فإن النظر إليه يذهلها عن كل ما عداه وينسي أهلها ما عداه من النعيم، فإن أهل الجنة ما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه كما في الحديث الصحيح. فهذا من أوجب مواطن الاختصاص فالتقديم اقتضاه المعنى كما اقتضته موسيقى الفاصلة وهذا الجمع بين النضرة وسعادة النظر إلى وجهه الكريم، يشبه الجمع بين النضرة والسرور في قوله تعالى: (ولقاهم نضرة وسروراً) [الإنسان].
ثم قال بعدها في الصنف الشقي: (ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة)
وهذه بمقابل الوجوه الناضرة، وهي وجوه من آثر العاجلة، وترك الآخرة، وجوه من يريد ليفجر أمامه، الوجوه التي ينبغي لأصحابها أن كثروا اللوم لأنفسهم ويبالغوا في اللوم.
وتقديم (يومئذ) في الآيتين يفيد الاختصاص وهو ما يقتضيه المعنى الفاصلة، فإن نضرة أصحاب النعيم خاصة بذلك اليوم، أما في الدنيا ربما لم تعرف وجوههم النضرة. وكذلك أصحاب الوجوه الباسرة، فإن البسور مختص بذلك اليوم، وربما كانت وجوههم من أنضر الوجوه في الدنيا.
(تظن أن يفعل بها فاقرة) والفاقرة: الداهية العظيمة التي تقصم فقار الظهر وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة تكسر فقار الظهر.
واختيار فعل الظن مناسب أحسن مناسبة لجو السورة والسياق مع أن الموطن موطن علم ويقين، وقد فسره أكثر المفسرين بالعلم واليقين، وذلك أن الإتيان بفعل الظن متناسب مع تأخير التوبة وإيثار العاجلة وتقديم الفجور، فإنه في الحياة الدنيا بنى حياته على الظن، فهو يظن أن سيمتد به العمر ويطول به الأجل، فيسوف بتوبته ويقم شهوته. وهذا الظن يرافقه إلى اليوم الآخر، فهو إلى الآن يظن وقوع الداهية ظناً، وهو إلى الآن في حال ظن وأمل لا في حال علم وبصيرة، فهو لا يرى إلا اللحظة التي هو فيها، وما بعدها فهو عنده ظن لا يقين كما كان شأنه في الدنيا يقدم شهوته ويؤثر عاجلته ويقول: أيان يوم القيامة؟
فانظر هذا الاختيار الرفيع لفعل الظن في هذا الموقف، وانظر تناسب ذلك مع النفس اللوامة التي لا ترى إلا ما هي عليه حتى تفوتها الفرصة، ويفوتها معها الخير، ويدركها سوء العاقبة، فتلوم نفسها على ما فرطت في جنب الله.
وذكر لاختيار فعل الظن سبب آخر هو أن الظان لا يعلم نوع العقوبة، ولا مقدارها فيبقى رجلاً أشد الوجل، خائفاً أعظم الخوف من هذا الأمر الذي لا يعلم ما هو ولا مداه ولا كيف يتقيه ألا ترى أن الذي يعلم ما سيحل به يكون موطناً نفسه على ذلك الأمر بخلاف الذي لا يعلم ماذا يتقي، وما مداه وما نوع تلك الفاقرة.
جاء في (روح المعاني): “وجيء بفعل الظن ههنا، دلالة على أن ما هم فيه، وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبداً… وإذا كان ظاناً كان أشد عليه مما إذا كان عالماً موطناً نفسه على الأمر”.
ولاختيار الفاقرة دون غيرها سبب سنذكره في مكانه.
واختيار تعبير (أن يفعل بها) بالبناء للمجهول دون أن يقول مثلاً: (أن تصيبها فاقرة) أو (تحل بها) أو نحو ذلك له سبب لطيف. ذلك أن قوله: (أن يفعل بها) معناه أن هناك فاعلاً مريداً يفعل بفقار الظهر ما يريد من تحطيم وقصم. أما القول: (أن تصيبها) أو (تحل بها) فكأن ذلك متروك للمصادفات والظروف، فقد تكون الفاقرة عظيمة أو هينة والفواقر بعضها أدهى من بعض. فقوله: (أن يفعل بها) أنسب اختيار في هذا السياق إذ لا تترك ذلك للمصادفات والموافقات، بل كان ذلك بقدر.
ثم إنه لم يقل: (أن نفعل بها) بإسناد الفعل إلى ذاته العلية، لأنه لم يرد أن ينسب إيقاع هذه الكارثة والشر المستطير إلى نفسه كما هو شأن كثير من التعبيرات التي لا ينسب الله فيها السوء إلى ذاته العلية نحو قوله: (وأنا لا ندري أشر اريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) [الجن] وقوله (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا) [الإسراء] فلم ينسب الشر إلى ذاته.
آية (23):
س- ما الفرق بين ناضرة وناظرة في الآية (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) القيامة)؟
ج- (د.حسام النعيمى): هذا فيه كلام لكن منهج أهل السنة والجماعة ومنهج جمهور المسلمين أن هذه الوجوه المؤمنة ستكون يوم القيامة من النضارة وهو الحُسن يعني وجوه حسنة مشرقة إلى ربها ناظرة من النظر وهي الرؤية وجمهور المسلمين وفقاً لأحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) يرون أنهم سيرون ربهم لا يضارون فيه كما يرون القمر الآن. لكن السؤال هل بأعيننا هذه؟ الإنسان بمجرد أن يموت في لحظة موته ينتقل من قوانين إلى قوانين أخرى، قوانين الحاضر أو المشاهدة غير قوانين الغيب. نحن نعلم أن الرسول يقيناً إذا سلّمنا عليه يرد علينا السلام ولذلك نُكثِر من الصلاة والسلام عليه حتى نتبارك بكثرة ردّه (صلى الله عليه وسلم) علينا. بقوانين الأرض كيف يردّ إنسان على ملايين الناس كلٌ في مكان في لحظة واحدة؟ هو يقول (صلى الله عليه وسلم) يردّ الله تعالى عليّ روحي فأردّ السلام هذا في قاون وفي قانون آخر لما يحدثنا في الإسراء والمعراج وهو في طريقه إلى بيت المقدس رأى موسى (عليه السلام) يصلي في قبره خلف الكثيب الأحمر ثم لما وصل إلى بيت المقدس استقبله موسى (عليه السلام) هناك مع الأنبياء وصلى (صلى الله عليه وسلم) بهم ثم لما صعد إلى السماء وجد موسى (عليه السلام) في السماء السادسة. هذا لأن له قوانين أخرى. إذن ناضرة هي من الحُسن مكتوبة بالضاد التي هي الصاد المنقوطة والتي نحار الآن في نطقها وتناولن هذا في حلقة سابقة. النطق الصحيح لها ممكن أن ترخي لسانك وتخرج صوتك من حافة اللسان مع ما يليه من الأضراس جانبي ويمتد به الصوت كما يمتد بالشيــــن. عدد من المسلمين يقول ناضرة هنا بمعنى منتظرة، هؤلاء يعطّلون أحاديث كثيرة صحيحة وردت في الصحاح في البخاري ومسلم. لهم رأيهم ولهم منهجهم وكلٌ له رأيه لكن نحن نعتقد برأي جمهور المسلمين.
آية (26-27)
س- في قضية عودة الضمير على غير مذكور ودلّ عليه السياق هل يمكن إعطاؤنا مثالاً من القرآن؟
ج- (د.فاضل السامرائى): (كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) القيامة) (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) ص) الشمس هل التي توارت بالحجاب، (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) الرحمن) الضمير يعود على غير مذكور ومعلوم من السياق.
ثم قال بعدها: (كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق)
“والضمير في (بلغت) للنفس وإن لم يجر لها ذكر”. وعدم ذكر الفاعل ولا ما يدل عليه مناسب لجو العجلة الذي بنيت عليه السورة. ونحوه ما مر في حذف جواب القسم في أول السورة، وحذف عامل الحال (قادرين) وعدم ذكر ما جرى عليه الضمير في قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) وغيره مما سنشير إليه.
(وقيل من راق) وحذف الفاعل وإبهامه في (قيل) مناسب لإضماره وعدم ذكره في (بلغت التراقي) كلاهما لم يجر له ذكر، وكذلك الإبهام في (راق) مناسب لسياق الإبهام هذا، فإن كلمة (راق) مشتركة في كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقي) وهو الذي يقرأ الرقية على المريض ليشفى، وفي كونها اسم فاعل للفعل (رقي يرقى) بمعنى (صعد) ومنه قوله تعالى: (أو ترقى في السماء) [الإسراء].
واختلف في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين:
من يرقيه فيشفيه وينجيه من الموت؟
أو من يرقى بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟.
فالقائل مجهول، أهم أهله ومن يتمنى له الشفاء أم هم الملائكة الذين حضروه أثناء الموت؟
فانظر جو الحذف والإبهام وكيف ناسب ما قبله.
آية (28):
وقال بعدها: (وظن أنه الفراق)
(د.فاضل السامرائى): اختيار فعل الظن اختيار مناسب غاية المناسبة لما قبلها ولجو السورة كما ذكرنا، فهو إلى اللحظة الأخيرة في حال ظن وأمل ولا يزال فراق الحياة عنده ظناً من الظنون لا يقيناً، ومناسب لقوله: (تظن أن يفعل بها فاقرة) فهو في المواطنين، يفترض أن يكون في موقف علم ويقين ولكن مع ذلك لا يزال في موقف ظن.
جاء في (روح المعاني): “والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين. قال الإمام: ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها، فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة”.
آية (29):
قوله تعالى: (والتفت الساق بالساق)
(د.فاضل السامرائى): قيل: معناه لفهما في الكفن، وقيل: انتهاء أمرهما بالموت، وكل ما دل في تفسير الآية يراد به حالة من حالات الموت الذي حصل يقينالً لا ظناً.
آية (30):
قال تعالى: (إلى ربك يومئذ المساق)
(د.فاضل السامرائى): إن تركيب هذه الآية نظير آية (إلى ربك يومئذ المستقر) فإن تقديم (إلى ربك) يفيد القصر والاختصاص، فإن الناس يساقون إلى ربهم وليس إلى مكان أو ذات أخرى، فسوقهم مختص بأنه إلى الله وحده لا إلى غيره.
وكذلك تقديم (يومئذ) فالمساق إليه سبحانه يكون في ذلك اليوم مخصوصاً، وهو يوم مفارقة الدنيا.
وقدم (إلى ربك) على (يومئذ) لأنه هو المهم لأنها جهة المساق ومنتهاه ومستقره. وقد قال في آية سابقة: (إلى ربك يومئذ المستقر) وقال هنا: (إلى ربك يومئذ المساق) فاختير لفظ (المساق) ههنا لأن الآية في مفارقة لروح الجسد عند الموت، فيذهب الميت بعد ذلم ويساق إلى ربه، ثم يوضع في القبر، والقبر ليس مستقراً ولا موطن إقامة، وإنما هو موطن زيارة كما قال تعالى: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) [التكاثر] فسماها زيارة ولم يسمها مكثاً أو إقامة.
أما الآية الأولى فهي في يوم القيامة، يوم قيام الناس من قبورهم والذهاب بهم إلى مستقرهم في الجنة أو النار، وقد سمى الله الجنة مستقراً وكذلك النار قال تعالى: (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً) [الفرقان] فالمساق ينتهي إلى المستقر كما قال تعالى: (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) [الزمر] فهذه غاية المساق ومنتهاه، وكل ذلك إلى الله رب العباد.
آية (31-35):
ثم قال بعدها: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى)
هذه الآيات فيها حشد من الفن عظيم عسى أن أوفق إلى بيان شيء من مظاهره. فمن ذلك:
1ـ إن هذه الآيات وقعت بعد قوله: (والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق) وهذا النفي والإخبار فيها، إنما هو في الآخرة وهي من أحوال الآخرة وأخبارها، فارتبطت بقوله: (لا أقسم بيوم القيامة).
2ـ كما ارتبطت بالنفس اللوامة من جهتيها الداعيتين إلى اللوم، فقد ذكرنا أن النفس اللوامة إنما تلوم نفسها لسببين:
إما أن تقوم بعمل لا ينبغي أن تقوم به فتندم فتلوم نفسها على ذلك، أو تترك عملاً ما كان ينبغي لها أن تتركه، فيفوتها خيره فتندم فتلوم نفسها على ذلك. والنفس هنا قدمت التكذيب والتولي: (ولكن كذب وتولى) وأخرت التصديق والصلاة (فلا صدق ولا صلى) فندمت في الحالتين فاقتضى ذلك أن تلوم نفسها من الجهتين، وأن تكثر ذلك وتبالغ في الملامة.
3ـ كما ارتبطت بقوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) ذلك أنه كذب وتولى، فقدم شهواته ومعاصيه.
4ـ وارتبط قوله: (فلا صدق ولا صلى) بقوله: (يسأل أيان يوم القيامة) فهو مستبعد له مكذب به فهو لم يصدق ولم يصل.
5ـ كما ارتبط ذلك بقوله تعالى: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وآخر) فإنه قدم التكذيب والتولي وأخر التصديق والصلاة.
6ـ وارتبط قوله: (فلا صدق) بقوله: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) ذلك أن التصديق أمر إيماني، وهو من دخائل النفوس التي لا يطلع عليها إلا الله. والإنسان أعلم من غيره بما في نفسه فهو على نفسه بصيرة، ثم إن الإيمان كما يقال: تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان، فهو لم يصدق بالجنان (فلا صدق) وكذب باللسان، كما قال تعالى: (ولكن كذب) فأظهر التكذيب (وتولى) ولم يعمل بالأركان فانتفت عنه حقيقة الإيمان.
7ـ وارتبط عدم الصلاة والتولي بإلقاء المعاذير، فإنه سيسأل عن ذلك، فيحاول أن يدفع عن نفسه بالمعاذير.
8ـ وارتبط قوله: (فلا صدق) وقوله: (ولكن كذل) بقوله: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) فإنه لم يؤمن، والإيمان باليوم الآخر من أهم أركان الإيمان.
9ـ وارتبطت هاتان الآيتان أعني قوله: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى) بقوله: (كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة) فهو قد أحب العاجلة، فكذب وتولى وترك الآخرة.
10ـ وارتبطتا بقوله: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) فإنه لو صدق وصلى لكان من أصحاب الوجوه الناضرة، ولكن كذب وتولى فأصبح من أصحاب الوجوه الباسرة.
قوله: (ثم ذهب إلى أهله يتمطى)
يتمطى، يتبختر وأصله من المطا، وهو الظهر، أي: يلوي مطاه تبختراً، وقيل أصله يتمطط، أي: يتمدد في مشيته ومد منكبيه قلبت الطاء فيه حرف على كراهة اجتماع الأمثال مثل تظنى من تظن.
وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: (تظن أن يفعل بها فاقرة)
والفاقرة هي الداهية التي تقصم فقار الظهر. فهذا الذي يتبختر في مشيته ويلوي ظهره، سيقصم فقار ظهره، فلا يستطيع حراكاً. وهو جزاء من جنس العمل، أفلم يكن يلوي ظهره ويتبختر، فسيحطم هذا الظهر الذي طالما لواه وتبختر به.
وهذا أنسب عقاب له، ولو قال بدل ذلك مثلاً: ستصيبه داهية أو تحل به كارثة أو قارعة لم تجده يحسن هذا الحسن، ولا يرتبط به مثل هذا الارتباط، فإن ذلك لا يجانس تمطيه.
وهي مرتبطة أيضاً بقوله تعالى: (إلى ربك يومئذ المساق) فهو كان يذهب إلى أهله وينقلب إليهم متى شاء، أما الآن فإنه يساق سوقاً إلى ربه وسيده على الرغم من أنفه.
ثم انظر كيف قدم الجار والمجرور في السوق فقال: (إلى ربك يومئذ المساق) لأنه ليس له اختيار، وإنما هو مذهوب به إلى جهة واحدة. أما في الدنيا فهو ينقلب إلى أهله وإلى عمله، وإلى اصدقائه وإلى من شاء ليس ثمة حصر، ولذا لم يقدم الجار والمجرور في الدنيا، فقد كانت له عليها الحرية، أما الآن فهو مسوق سوق العبد إلى مولاه وربه وسيده.
ثم انظر كيف أنه لم يذكر (يومئذ) في الدنيا بخلاف يوم موته وسوقه فإنه كان في الدنيا يذهب كل يوم وليس في يوم معين، أما سوقه إلى ربه فذلك في يوم معين وهو يوم الفراق فلم يحتج إلى ذكر اليوم في الدنيا بخلاف يوم المساق.
فانظر كيف تقابل التعبيران والمشهدان
قوله: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) (أولى لك): عبارة تقال على جهة الزجر والتوعد والتهديد تقول لمن تتوعده وتتهدده، (أولى لك يا فلان) أي: ويل لك، واشتقاقها من (الولي) وهو القرب، فهو اسم تفضيل يفيد قرب وقوع الهلاك.
جاء في (الكشاف): (فأولى لهم) “وعيد بمعنى: فويل لهم، وهو أفعل من الولي وهو القرب ومعناه: الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه”.
وجاء في (روح المعاني): (أولى لك فأولى) “من الولي بمعنى القرب، فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء، كأنه قيل: هلاكاً أولى لك بمعنى: أهلكك الله تعالى هلاكاً أقرب لك من كل شر وهلاك… وفي الصحاح عن الأصمعي، قاربه ما يهلكه: أي نزل به… وقيل: اسم فعل مبني ومعناه: وليك شر بعد شر”.
واختيار هذا الدعاء أنسب شيء ههنا، فهو دعاء عليهم وتهديد لهم بالويل القريب والشر الوشيك العاجل، فهو مناسب لإيثارهم العاجلة وتقديمهم الفجور والشهوات وتأخيرهم الطاعات، فكما عجلوا في فجورهم وشهواتهم ومعاصيهم عجل لهم الويل والثبور. وهو مناسب لجو العجلة في السورة الذي ذكرنا قسماً من مظاهره.
لقد ورد هذا الدعاء في سورة محمد فقال: (فأولى لهم) غير أننا نلاحظ الفروق التعبيرية الآتية بينهما:
1ـ إنه كرر الدعاء في سورة القيامة في الآية الواحدة فقال: (أولى لك فأولى) ولم يكرره في سورة محمد بل قال: (فأولى لهم).
2ـ ثم إنه عاد فكرر الآية: (أولى لك فأولى) كلها في سورة القيامة، فكان تكراران: تكرار جزئي في الآية ، وتكرار كلي للآية.
3ـ في آية (أولى لك فأولى) كرر لفظ (أولى) فقط ولم يكرر (لك).
4ـ فصل بين الدعائين في الآية الواحدة بالفاء.
5ـ فصل بين الآيتين بـ (ثم).
وبالتأمل في السياقين نجد السبب واضحاً.
قال تعالى في سورة محمد: (ويقول الذين أمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم).
وقال في سورة القيامة: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى).
وكل سياق يقتضي ما ذكر فيه من جهات متعددة منها.
إن المذكور في آية القيامة أشد كفراً وضلالاً من المذكورين في آية محمد، ذلك أنه قال في آية محمد: (رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) وهؤلاء من ضعفة الدين.
جاء في (الكشاف): “(الذين في قلوبهم مرض) هم الذين كانوا على حرف غير ثابتي الأقدام”.
وجاء في (روح المعاني): “(رأيت الذين في قلوبهم مرض) أي: نفاق. وقيل: ضعف في الدين”.
في حين قال في سورة القيامة: (فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى) وربما أظهر الأول التصديق والصلاة في حين أن الثاني أظهر التكذيب والتولي، ثم ذهب إلى أهله متبختراً بذاك فهو إذن أولى بالوعيد الشديد.
2ـ إن المذكورين في سورة محمد أخبر عنهم وهم أحياء، والأحياء ترجى لهم التوبة، وباب التوبة مفتوح، أما المذكور في سورة القيامة فأخبر عنه بعد الموت وقد مات على التكذيب والتولي وتحقق عليه الوعيد الشديد.
3ـ ذكر في آية سورة محمد صفة واحدة، وهي الجبن عن القتال، فهددهم مرة واحدة في حين ذكر أكثر من صفة من صفات الكفر في سورة القيامة فكرر تهديده.
4ـ ذكر صفتين للمذكور في سورة القيامة وهما: عدم التصديق وعدم الصلاة: (فلا صدق ولا صلى) ولكل منهما ذكر تهديداً:
فلا صدق ……… أولى لك
ولا صلى……… فأولى
ثم كرر هاتين الصفتين وأكدهما بمعناهما، فقال: (ولكن كذب) وهي بمعنى (فلا صدق) ثم قال: (وتولى) وهي إثبات لعدم الصلاة وغيرها من الطاعات. فالآية الثانية تكرير وتوكيد لما نفاه عنه في الآية الأولى. ولذا كرر التهديد وأعاده، لأنه أعاد الصفتين كلتيهما بمعناها فقال: (ثم أولى لك فأولى).
وعلى هذا فهو ذكر عدم التصديق وأكده بالتكذيب، وذكر عدم الصلاة وأكده بالتولي، ولكن تهديد ووعيد فكرره أربع مرات كل وعيد مقابل صفة.
5ـ لقد ذكر صفتين كما أسلفنا في سورة القيامة، وهاتان الصفتان ليستا بدرجة واحدة من الضلال بل إحداهما أشد من الأخرى.
فالأولى: هي التكذيب أو عدم التصديق.
والأخرى: التولي ومنه عدم الصلاة.
وعدم التصديق أو التكذيب هو إنكار لإيمان من أساسه، فهو لم يصدق بالرسالة ولا ببقية أركان الإيمان.
والثانية: عدم الصلاة. جاء في (فتح القدير): “(فلا صدق ولا صلى) أي: لم يصدق بالرسالة ولا بالقرآن ولا صلى لربه… وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه”.
ولا شك أن عدم التصديق، هو أكبر جرماً وضلالاً لأن صاحبه لم يؤمن أصلاً. أما عدم الصلاة فهو أخف. ذلك أن المؤمن إذا قصر في الطاعات تكاسلاً فقد يغفر الله له أو يتجاوز عنه، لأنه لا يزال في دائرة الإسلام. وقد قال أكثر الفقهاء أن المسلم إذا ترك الصلاة تهاوناً وتكاسلاً غير جاحد لفرضيتها لا يخرجه ذلك عن الإسلام.
أما إذا لم يؤمن ولم يصدق فلا ينفعه شيء، وإن فعل ما فعل من مظاهر الطاعة. ولذا كانت قوة التهديد بمقابل قوة الوصف. فقال مقابل (فلا صدق) (أولى لك) فذكر (لك) ومقابل (ولا صلى) (فأولى) بحذف (لك ) إشارة إلى عظم الإيمان وأهميته، وإشارة إلى أن الصفتين المذكورتين ليستا بدرجة واحدة في الضلال.
فهذا الحذف ليس للفاصلة فقط، وإن كانت الفاصلة تقتضيه أيضاً، وإنما هو للمعنى وللفاصلة.
6ـ إن الصفتين لم يكررهما بلفظهما بل بمعناهما ومقتضاهما، وهما في لفظ الإعادة والتوكيد أشد سوءاً ونكراً مما ذكرهما أولاً.
فإنه قال أولاً:(فلا صدق) وقال في التأكيد والإعادة: (ولكن كذب) والتكذيب إنما يكون بالإعلان والإشهار أما عدم التصديق فلا يستلزم الإعلان، وقد تقول: (هو لا يصدق غير أنه لا يعلن تكذيبه) فربما لا يصدق إنسان بأمر غير أنه لا يكذب به.
فالتكذيب إذن أشد سوراً أو ضلالاً من عدم التصديق.
وكذا قوله: (ولا صلى) فقد كرره وأكده بقوله: (وتولى) والتولي أعم من عدم الصلاة وأشد.
وعلى هذا فآية التوكيد أشد من الآية المؤكدة.
وقد فرق بين الآيتين بـ (ثم) وذلك لجملة أسباب:
منها أن (ثم) قد تفيد عموم البعد والتباين وليس المقصود بها التراخي في الزمن فقط، ومن ذلك قولهم: (أعجبني ما صنعته اليوم، ثم ما صنعته أمس أعجب).
ونحو ذلك قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذات متربة ثم كان من الذين أمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) [البلد].
دخلت (ثم) لبيان تفاوت رتبة الفلك والإطعام من رتبة الإيمان.
فما بعد (ثم) أبعد في الرتبة مما قبلها، وكذلك ههنا فإن التهديد الثاني أقوى من الأول.
وقيل: إن التكرار عهنا مبالغة في التهديد والوعيد.
ومنها: أنه جاء بـ (ثم) لتوكيد الكلام، إذ أن جملة التوكيد قد يفصل بينها وبين المؤكدة بحرف العطف، تقول: والله ثم والله. وفي (روح المعاني): “إنها كررت للتأكيد”.
وربما جاء بـ (ثم) للتراخي الزمني أيضاً، إذ هناك عذاب في القبر وعذاب في الآخرة، وبينهما مدة مديدة كما قال تعالى في آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) [غافر].
فهم يعرضون على النار غدواً وعشياً في القبر، ويوم تقوم الساعة لهم عذاب أشد.
وعلى هذا يكون التهديد الأول في القبر والثاني في الآخرة، وجاء بهما بـ (ثم) الدالة على المهلة والتراخي، والدالة على بعد ما بين تهديدين والعذابين في الشدة.
ونحوه ما قيل في قوله: (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) [التكاثر] فقد قيل: أن العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت والعلم الثاني في القبر.
جاء في التفسير القيم وقوله: “(كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) قيل تأكيد لحصول العلم كقوله: (كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون) [النبأ] وقيل: ليس تأكيداً بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثاني في القبر، وهذا قول الحسن ومقاتل. ورواه عطاء عن ابن عباس.
ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه:
أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره مع فخامة المعنى وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة.
الثاني: لتوسط (ثم) بين العلمين، وهي مؤذنة ما بين المرتبتين زماناً وخطراً”.
وجاء في (فتح القدير) في قوله: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) “قيل: ومعنى التكرير لهذا اللفظ أربع مرات: الويل لك حياً والويل لك ميتاً، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار”.
7ـ لذا جاء بالفاء بين الأوليين لقربهما وتعجيلهما فقال: (أولى لك فأولى) فإن ما بين العذابين قريب، وهو عذاب الدنيا وعذاب القبر.
وكذلك جاء ما بين العذابين الآخرين بالفاء، لقربهما وتعجيلهما فقال: (أولى لك فأولى) فإن ما بين العذابين قريب، وهو عذاب الدنيا وعذاب القبر.
وكذلك جاء ما بين العذابين الآخرين بالفاء، لقربهما من بعضهما وهو (أولى لك فأولى) الثانية فإنهما متصلان بيوم القيامة ودخول النار. فكل عذابين قريبين من بعضهما فصل بينهما بالفاء. وقد فصل بـ (ثم) للفاصل الزمني البعيد بين كل منهما.
هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، أنه جيء بالفاء الدالة على التعقيب بلا مهلة لمناسبة العجلة التي بنيت عليها السورة في قوله: (كلا بل تحبون العاجلة) وقوله (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) وغير ذلك من السياقات التي تدل على العجلة.
آية (35):
س- ما دلالة التكرار في قوله تعالى (أولى لك فأولى) (ثم أولى لك فأولى) في سورة القيامة؟
ج- (د.فاضل السامرائى): التكرار في القرآن الكريم جزء من الإعجاز. والآية فيها عطف على جزء من الآية بالفاء ثو عطف بـ (ثمّ) في الآية الثانية.
(أولى لك)عبارة تقال على جهة الزجر والتوعّد والتهديد، واشتقاقها من (الوَلي) وهو القرب فهو اسم تفضيل يفيد قرب وقوع الهلاك الويل كلمة دعاء عليهم بأن يليهم المكروه. واختيار هذا الدعاء أنسب شيء هنا فهو دعاء عليهم وتهديد لهم بالويل القريب والشر الوشيك العاجل فهو مناسب لإيثارهم العاجلة وتقديمهم الفجور والشهوات وتأخيرهم الطاعات فكما عجلوا في المعاصي عجّل الله تعالى لهم الويل والثبور وهو مناسب لجو العجلة في السورة . جو السورة هو في إيثار العاجلة عن الآخرة (كلا بل تحبون العاجلة* وتذرون الآخرة) ومن حُبّ الشخص للعاجلة عجّل له الويل فاستعمل (أولى). وكلمة (أولى) بعد الموت وفي النزع لأن العذاب يكون قريباً منه في هذه المرحلة. وفي قوله تعالى (أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى) تكرار جزئي في الآية الواحدة وتكرار كلي للآية، فلماذا التكرار الجزئي؟
قال تعالى (فلا صدّق ولا صلّى ولكن كذّب وتولّى) كل واحدة لها أولى لك (أي لكل منها تهديد) لكن هل هذه الأمور كلها متساوية وفي منزلة واحدة؟ (لا صدّق) تعني أنه لم يؤمن بشيء، (لا صلّى) إذا لم يصدّق وفعل ما فعل من مظاهر الطاعة فلا ينفعه، أما إذا كان مؤمناً وتكاسل في الطاعات هذا تُرجى له التوبة والمغفرة ولا يخرج من المِلّة. إذن الأساس الأول هو التصديق فالأمران ليسا بمرتبة واحدة فجعل لكل واحد منها تهديداً. فعدم التصديق أكبر جرماً وضلالاً لأن صاحبه لم يؤمن أصلاً أما عدم الصلاة كما أسلفنا فهو أخفّ. فلذلك كانت قوة التهديد بمقابل قوة الوصف فقال مقابل (فلا صدّق) (أولى لك) فذكر (لك) ومقابل (ولا صلّى) قال (فأولى) بحذف (لك) إشارة إلى عظم الإيمان وأهميته وإشارة إلى أن الصفتين المذكورتين ليستا بدرجة واحدة في الضلال.وزيادة (لك) في قوله (أولى لك) للأهمية كما جاء في سورة الكهف (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا) وفي الآية الأخرى (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا). أما لماذا خصصت الصلاة بالذكر فلأن الصلاة هي أهم العبادات.
لماذا تكرار الآية (أولى لك فأولى)؟ قال تعالى في الآية (ولكن كذّب وتولّى) وكذّب معناها لا صدّق وتولى من معناها عدم الصلاة. فكرر الأمران الأوليان بمعناهما وجاء (كذّب) مقابل لا صدّق وتولّى مقابل لا صلّى لذا كرر التهديد كما في الآية الأولى، وعدم التصديق أو التكذيب هو إنكار للإيمان من أساسه فهو لم يصدّق بالرسالة ولا ببقية أركان الإيمان. وقد ذكر تعالى عدم التصديق وأكده بالتكذيب وذكر عدم الصلاة وأكده بالتولي ولكلٍ تهديد ووعيد فكرره أربع مرات كل وعيد مقابل كل صفة.
وجاء بالفاء بين أجزاء الآية (أولى لك فأولى) وجاء بـ (ثمّ) بين الآيتين، وثمّ ليست فقط للتراخي الزمني ولكنها تأتي للتوكيد أيضاً. فلا صدّق ولكن كذّب وكذّب أكثر من لا صدّق وتقتضي الإعلان والإشهار لذا هي أكثر من ولا صدّق. وتولّى هي في عموم الطاعات وهي أكثر من ولا صلّى لذا جاءت ثمّ للتراخي.
أما استخدام الفاء في (فأولى) الأولى لأن ما بين العذابين الأوليين عذاب الدنيا وعذاب القبر قريب وكذلك في الآية الثانية لأن ما بين العذابين الآخرين قريب وهو بين يوم القيامة ودخول النار، الآية (أولى لك فأولى) قيلت في حالة الإحتضار يبدأ العذاب في النزع ثم في القبر وبينهما مسافة قريبة لذا جاء بالفاء لقربهما أما الثانية (ثم أولى لك فأولى) جاءت في الحشر والنار وجاء بالفاء بينهما لقربهما اي الحشر والنار أما استخدام ثمّ بين القبر والحشر دلالة على التراخي والفاصل الزمني البعيد بين كل منهما ولأن بين القبر والحشر آلاف السنين، واستخدام ثم يفيد عموم البعد والتباين وليس التراخي في الزمن فقط. فالتكرار للفظ أولى أربع مرات دلالة على أن الويل لك حياً والويل لك ميتاً والويل لك يوم البعث والويل لك يوم تدخل النار.
آية (36):
ثم قال بعد ذلك: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى)
هذه الآية مرتبطة بأول السورة، وهو القسم بيوم القيامة، ومرتبطة بقوله تعالى: (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) ومرتبطة بقوله: (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) ذلك أنه مجزي عن عمله ولا يترك سدى، بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بالآية قبلها وهي (أولى لك فأولى) ذلك أن معناها: أنه لا يترك سدة بل سيعاقب على فعله، ومرتبطة بما بعدها وبآخر السورة، وهو قوله: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)
وغنية هذه الوثاقة في الارتباط عن كل قول.
آية (37):
قوله تعالى: (ألم يك نطفة من منى يمنى)
حذف نون (يكن) لسببين ولله أعلم:
الأول: مراعاة لجانب العجلة الذي طبعت به السورة، وتكررت مظاهره في أكثر من موطن، فحذف نون (يكن) للفراغ من الفعل بسرعة وهو الملائم لجو العجلة في السورة.
الثاني: أن الإنسان لا يكون إنساناً من المني وحده حتى يراق في الرحم، ويلتقي بالبويضة، فبالمني والبويضة يكتمل الخلق وبهما يتم الإنسان، أما المني وحده، فلا يكون منه إنسان وكذاك البويضة وحدها. فنقص من فعل الكون إشارة إلى أن التطوير المذكور في الآيات هذه لا يكون إلا بهما معاً، أما المني فهو جزء من السبب. ولم يتم الفعل إشارة إلى ذلك.
ومعنى (يمنى): يراق في الرحم، فإن لم يمن فلا تكوين، وهذا من مواطن الحذف البديعة.
آية (37):
س- ما اللمسة البيانية في حذف نون (يكن) في قوله تعالى (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى)؟
ج- (د.فاضل السامرائى): الحكم النحوي: جواز الحذف إذا كان الفعل مجزوماً بالسكون ولم يليه ساكن أو ضمير متصل. متى ما كان الفعل (كان) مجزوماً ويليه حرف متحرك ليس ساكناً على أن لا يكون ضميراً متصلاً يجوز فيه الحذف (يمكن القول لم يكن ولم يك) فتحذف النون تخفيفاً.
إما إذا كان ما بعده ساكناً فلا يجوز الحذف (لم يكن الرجل) لا يمكن القول لم يك الرجل.
ولا يجوز الحذف أيضاً لو كان ضمير متصل (لم يكن هو) لا يجوز قول لم يك هو.
إذن من حيث الحكم النحوي يجوز حذف النون أما السبب البياني: على العموم سواء في (يكن) أو في غيرها من الحذوف (تفرّق وتتفرق) (اسطاعوا واستطاعوا) (تنزّل وتتنزّل) في القرآن الكريم يوجد حذوف كثيرة يجمعها أمرين : هل هي في مقام إيجاز وتفصيل أو هل الفعل مكتمل أو غير مكتمل. عندما يأتي بالصيغة كاملة يكون الحذف أتمّ. إذا كان الشيء مكتملاً لا يُقتطع منه وإذا كان غير مكتمل يُقتطع منه.
من الأمثلة على حذف أو عدم حذف النون في فعل (تكن) قوله تعالى في سورة القيامة (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى {37}) حذفت النون هنا لأن النطفة هي من الذكر وهي غير مكتملة بعد وغير مخصّبة وهي لا تكتمل إلا بعد لقاح البويضة إذن حال النطفة الآن غير مكتمل فحذف ما يدل على أن الفعل أصلاً ليس مكتملاً فلزم الإقتطاع أنها غير كاملة والحدث غير كامل.
آية (38-39):
ثم قال: (ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى)
الملاحظ أنه لم يذكر فاعل الخلق ولا التسوية ولا الجعل ولم يجر له ذكراً فقد قال: (فخلق فسوى فجعل) وقد كان بنى الفعل قبلها للمجهول، فلم يذكر فاعله أيضاً، وهو قوله: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) فلم يذكر فاعل الترك، وعدم ذكر فاعل الخلق وما بعده مناسب لحذف فاعل الترك. وكل ذلك مناسب لجو العجلة في السورة.
والهاء في (منه) تعود على المني، فمن ماء الرجل يكون الذكر والأنثى، وليس للأنثى فيه دخل، ولم يكن هذا الأمر معلوماً حتى العصر الحديث، فقد ثبت أن الذكر هو المسؤول عن الجنس وليس الأنثى. وقد ذكره القرآن الكريم قبل اكتشاف قوانين الوراثة وعلم الأجنة فقال: (ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل (منه) الزوجين الذكر والأنثى).
فأعاد الضمير على المني، ولو أعاده على العلقة لقال: (منها) ولم يعده على النطفة مع أنها هي القطرة من المني، لئلا يحتمل إعادته على العلقة وهذا إعجاز علمي علاوة على الإعجاز الفني.
آية (39):
س- ما الحكمة في عدم استخدام كلمة الزوجين في الآية ( وما خلق الزوجين الذكر والانثى)؟ كما يأتي في معظم الآيات التي فيها الذكر والانثى كقوله تعالى:( (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى)(سورة القيامة) وقوله: (وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى)(سورة النجم) وانما قال: (وما خلق الذكر والانثى) بحذف الزوجين؟
ج- (د.فاضل السامرائى): إذا استعرضنا الآيات في سورة القيامة نرى ان الله سبحانه وتعالى فسر تطور الجنين من بداية (ألم يك نطفة) الى قوله (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى) فالآيات جاءت اذن مفصلة وكذلك في سورة النجم (وأنه هو اضحك وأبكى) الى قوله (انه خلق الزوجين الذكر والانثى). لقد فصل سبحانه مراحل تطور الجنين في سورة القيامة وفصل القدرة الالهية في سورة النجم أما في سورة الليل فإن الله تعالى أقسم بلا تفصيل هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قوله تعالى (إن سعيكم لشتى) يقتضي عدم التفصيل وعدم ذكر الزوجين. لماذا؟ لأن كلمة الزوج في القرآن تعني المثيل كقوله تعالى (وآخر من شكله أزواج) وكلمة شتى تعني مفترق لذا لا يتناسب التماثل مع الافتراق فالزوج هو المثيل والنظير وفي الآية (إن سعيكم لشتى) تفيد التباعد فلا يصح ذكر الزوجين معها. الزوج قريب من زوجته مؤتلف معها (لتسكنوا اليها) وكلمة شتى في الآية هنا في سورة الليل تفيد الافتراق. فخلاصة القول اذن ان كلمة الزوجين لا تتناسب مع الآية (وما خلق الذكر والانثى)من الناحية اللغوية ومن ناحية الزوج والزوجة لذا كان من الانسب عدم ذكر كلمة الزوجين في الآية.
آية (40):
ثم قال بعد ذلك: (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى)
اسم (ليس) مكني غير مصرح به وهو اسم الإشارة (ذلك) وقد أشار به إلى ذات غير مذكورة في الكلام، فناسب ذلك عدم التصريح بالفاعل فيما تقدم من الأفعال.
وناسب آخر السورة أولها، فقد أقسم في مفتتح السورة بيوم القيامة، وختمها بإحياء الموتى.
وقد تقول: ولم قال هنا: (أليس ذلك بقادر) على سبيل التقرير، وقال في أوائل السورة: (بلى قادرين) على سبيل الإثبات؟
والجواب أن إحياء الموتى أصعب وأعسر من تسوية البنان في القياس العقلي، وإن كانت الأفعال بالنسبة إلى الله كلها سواء، فجاء في آية إحياء الموتى بأسلوب التقرير الاستفهامي الدال على الأهمية وأكد القدرة بالباء الزائدة فقال: (أليس ذلك بقادر) في حين جاء بالإثبات في تسوية البنان، يقال: (بلى قادرين) ثم إنه حذف الفعل وصاحب الحال، وجاء بالحال أحدها، فقال: (قادرين) ولم يقل: (نجمعها قادرين) فأخلاها من كل توكيد في حين ذكر الجملة تامة، مؤكدة في إحياء الموتى فدل ذلك على الفرق بين المقامين.
آية (40):
س- ما دلالة إستعمال (ذلك) في الآية (فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) الروم) و (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) القيامة) وما دلالة الإختلاف في الأسلوب في الآيتين؟ ولماذا استعمل إسم الإشارة ذلك بدل الله أو ربك؟
ج- (د.حسام النعيمى): العرب تستعمل إسم الإشارة أحياناً للتعظيم وللتفخيم ولبيان علو المنزلة. بشار إبن برد الأعمى لما يقول: بكِّرا صاحبيَ قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير
خلَف قال له: لم لم تقل فالنجاح في التبكير، قال لو قلتها لكانت ضعيفة وأردتها أعرابية (إن ذاك). بعد ذلك يعقب عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز يقول له: ” قلت بكِّرا في النجاح فإن هذا من كلام المولّدين ولا أدخل في معنى القصيدة – وبشار كان فصيحاً – فهل كان هذا القول من خلف والنقد على بشار إلا للطف المعنى وخفائه واعلم أن من شأن (أن) إذا جاءت على هذا الوجه أن تغني غناء فاء العاطفة.
(إن ذلك لمحيي الموتى) يمكن أن نقول فذلك مُحيي الموتى لكن يفوت التأكيد بـ (إن) وتكون (إن) هنا كأنها ربطت الجملة الجديدة بالجملة القديمة من غير رابط فهي في حال وصل وفصل في آن واحد. هذا قد نعود إليه لأن عبارة الجرجاني مهمة “فأنت ترى الكلام بها مستأنفاً غير مستأنف مقطوعاً موصولاً معاً”. لما يستعمل (إن) في مثل هذا الموضع ويأتي بكلمة (ذلك) لغرض التعظيم (إن ذلك) العظيم الشأن غير كلمة إن الله أو كلمة إن الرب أو إن ربك لأن يكون فيها تكرار. (إن ذلك) أيضاً بوجود اللام لزيادة البُعد في النفس لعلوّ شأن الله سبحانه وتعالى.
وهنا نلاحظ في الآية الأولى: (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) الروم) وذكر إسم الجلالة (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ) لو قال : إن الله لمحيي الموتى كأن الكلام إنقطع ولكن لما قال (ذلك) ذلك إشارة إلى من سبق أن ذُكِر يعني: إن ذلك ذا الرحمة الذي يحيي الأرض بعد موتها هو نفسه محيي الموتى. فيها هذا المعنى الإضافي إضافة إلى التفخيم والتعظيم (إن ذلك العظيم الشأن) فيها أيضاً الربط فيما قبلها لأنه سبق أن ذكر إسم الله عز وجل (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) إن ذلك الذي فعل كل هذا هو نفسه الله. (ذلك) تعني الفاعل المُحدِث الله سبحانه وتعالى. وأيضاً في قوله تعالى: (ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40) القيامة) الله تعالى خلق، الله تعالى سوى، فجعل، الفاعل الله، أليس الذي فعل كل هذه الأشياء (يشير إلى تلك الأفعال) لما يقول الله أو الرب كأنه الإسم المجرد لكن الإشارة بـ (ذلك) ربطت بالمعاني السابقة لأنه كما قلنا في المرة الماضية عن الجرجاني أنه قال: هنا إن وأليس جاءت كأنها وصلت وفصلت هي مفصولة لكن وصلت بربطها عن طريق الإشارة، ربطت بما قبلها.