سورة الإنسان
آية (1):
قال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً {1})
لو نظرنا في سياق السورة نجد أن آيات السورة تذكر الإنسان قبل وجوده وتذكره وهو نطفة أمشاج وتذكره فيما بعد كإنسان مكلّف وتذكره بعد خروجه من الدنيا إلى النعيم والمُلك الكبير أو الأغلال والسعير، فالسورة كلها تذكّره في كل مراحل الإنسان فهي بحق سورة الإنسان ولذا ناسب تسميتها سورة الإنسان.
والسورة تبدأ بقوله تعالى (هل أتى) .إن المفسرين وأهل اللغة عموماً يقولون هل هنا معناها (قد) بمعنى (قد أتى) لكن لا يُقصد بها الإخبار وإنما (قد) مسبوقة باستفهام بمعنى (أقد أتى) فالإستفهام قائم والقصد منه التقرير وليس الإستفهام حقيقة. فالإستفهام حقيقة هو أن يسأل الإنسان (هل أتى) لا أن يُخبر الإنسان (قد أتى) كما أننا لا نقول لشخص قد أنعمت عليك لكن تقول هل أنعمت عليه ليأتي الجواب منه بنعم. فالله تعالى يسأل هل أتى على الإنسان فيجيب الإنسان نعم فجواب السؤال لكل من يسأل هو نعم إذن من الذي خلق الإنسان بعد أن كان عدماً؟ إذا كان أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا فمن الذي خلقه؟ فالجواب (إنا خلقنا الإنسان) أياً كان هذا الإنسان لم يكن شيئاً مذكوراً.
الآن نسأل من المقصود بهذا الإنسان الذي ذكره تعالى في مطلع السورة؟
هنا اختلف المفسرون فقسم قال: إن المقصود هو آدم (عليه السلام) لم يكن شيئاً مذكوراً عندما خلقه الله تعالى من الطين إلى قبل نفخ الروح فيه كان شيئاً ولم يكن مذكورا، وقسم آخر يقول هو الإنسان بدليل قوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) يشمل ذرية آدم (عليه السلام) وليس آدم لأن آدم من تراب فكل واحد من البشر كان شيئاً في الرحم لكنه لم يكن مذكورا. لكن الذي يترجح والله أعلم أن الإنسان في الآية يشمل آدم (عليه السلام) ويشمل ذريته أي جنس الإنسان عموماً. ويأتي سؤال هنا في الحقيقة ما المقصود بـ (لم يكن شيئاً مذكورا)؟ هل المقصود أنه لم يكن شيئاً أصلاً كقوله تعالى في سورة مريم: (ولقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) في خطابه لزكريا (عليه السلام) أو قوله تعالى: (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) أو المقصود أنه خلقه أي كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا؟ فما دلالة كلمة (مذكورا) هنا؟ وهل هي منفية أو مثبتة؟ مثل هذا التعبير في اللغة يحتمل معنيين وهذا من باب التوسع في المعنى، فهو يحتمل نفي القيد أصلاً (لم يكن شيئاً) لا مذكوراً ولا غيره كما في قوله تعالى: (لا يسألون إلحافا( (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) بمعنى أنهم لا يسألون لا ملحفين ولا غير ملحفين فيتعففون ولا يسألون الناس. وكذلك يحتمل نفي القيد فقط بمعنى كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا كما في قوله تعالى (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) لم ينفي خلق السموات والأرض لكنه نفى اللعب. وعليه فإن قوله تعالى: (لم يكن شيئاً مذكورا) تحتمل أنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً أصلاً مذكوراً أو غير مذكور وتحتمل أن يكون شيئاً لكنه غير مذكور.
يُبنى على هذا السؤال سؤال آخر: إذا كان المُراد المعنى الأول (أي النفي أصلاً) أي العموم فلَمِ ذكر كلمة مذكور ولم يقل كما جاء في سورة مريم (ولم تك شيئا) بدون ذكر كلمة مذكور؟ هناك أكثر من سبب لذكر كلمة (مذكور) أولاً هي إشارة إلى تطور على جميع مراحل الإنسان فقد خلق الإنسان من لا شيء وكان شيئاً ولم يكن مذكورا ثم نطفة أمشاج ولو لم يقل مذكورا لأفاد أنه قفز فوق المرحلة الوسطى والسورة كما أسلفنا تتحدث عن تطور مراحل الإنسان وجميع أطواره قبل وجوده ووجوده وهو غير مذكور ووجوده وهو مذكور والنطفة وغيرها. إذن لماذا لم يستخدم كلمة مذكورا في سورة مريم؟ عدم ذكرها في سورة مريم هو المناسب لأن الآية في السورة خطاب لزكريا (عليه السلام) عندما دعا ربه ليهب له غلاماً فقال تعالى: (إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) فيتعجب زكريا: (أنّى يكون لي غلام) فقال تعالى: (ولقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا) بمعنى أن الله تعالى خلقه ولم يكن شيئاً أصلاً ولو قال شيئاً مذكورا لا تظهر قدرة الله تعالى لأنها ستفيد أنه كان شيئاً لكنه لم يكن مذكورا. فالخلق من أبوين أيسر عند الله من الخلق من العدم لكن الله تعالى يريد أن يُظهر أنه خلق زكريا ولم يكن شيئاً مذكوراً أي خلقه من العدم وهذا أصعب من الخلق من ابوين وكله عند الله تعالى سهل لكننا نتحدث من منطق البشر. والعموم يدلُ على القدرة الأكبر ولو قال في آية سورة مريم (شيئاً مذكورا) لم تؤدي المعنى المطلوب في الآية. وهذا أدلُ على القدرة، كذلك في قوله تعالى (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا) لم يأت بكلمة مذكورا هنا أيضاً لأن الخطاب في الآية للذبن أنكروا البعث فهم يسبعدون أن يعيدهم الله بعد موتهم فيخبرهم الله تعالى أن الإعادة أيسر من الإبتداء بالخلق من عدم ونفي الشيء هو أبلغ من الذكر.
ومن الملاحظ أيضاً في هذه الآية استخدام فعل أتى بدل فعل جاء والسبب أن القرآن يستعمل أتى فيما هو أيسر أما جاء فيستعمل فيما هو أشقّ وأصعب. وهنا قال تعالى: (هل أتى على الإنسان ) فالإنسان ليس فيه مشقة أو ثقل على اتيانه في مثل هذه الحالة استعمل أتى دون جاء.
وكذلك قدّم الجار والمجرور (على الإنسان) على الفاعل (حين) والأصل أو يتقدم الفاعل على الجار والمجرور لكن الكلام في الآية هو على الإنسان وليس على الدهر فالدهر يمر والكلام في الإنسان فهو أهم من الدهر في السياق الذي وردت فيه الآية فاقتضى تأخير الفاعل وتقديم الجار والمجرور.
آية (2):
قال تعالى: (ِإنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً {2})
بعد أن أثار تعالى السؤال في الآية الأولى فقال تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا) فإن السامع سيقول قطعاً نعم أتى عليه هذا الحين، فيُطرح سؤال آخر إذن: من خلق هذا الإنسان وأوجده؟ فيجيب الله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) والإجابة جاءت بضمير التعظيم وبالتوكيد (إنّا) ضمير التعظيم مع التوكيد لأن هذا الأمر فيه عظمة وجلال. وقد قدّم إسم إنّ على الجملة الفعلية التي هي خبر إن. ومن جملة معاني التقديم هو القصر بمعنى نحن وحدنا خلقنا الإنسان على سبيل الحصر والقصر وقد أكد تعالى ذلك بـ (إنّ) وذكر ذلك بضمير التعظيم إذن فهو الخالق حصراً ليس معه شريك سبحانه.
وفي نفس الوقت قال (نبتليه) بضمير التعظيم بدليل أن الخالق والمبتلي جهة واحدة وهو الله تعالى لأنه أحياناً قد يكون الإبتلاء من إنسان على إنسان وهذا يدل على عظمة الأمر الذي يبتلي به. ثم قال (فجعلناه) وهذا الفعل منسوب إلى الله تعالى أيضاً وهو سبحانه الذي تفضّل على الإنسان بذلك فخلقه وأنشأه وهو الذي اختبره وذكر الوسائل التي يصحّ معها الإختبار.
(الإنسان):
قال تعالى: (إنا خلقنا الإنسان) وهنا نسأل من هو الإنسان الذي ورد ذكره في الآية؟ في الآية الأولى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا) اختلف في مدلول كلمة الإنسان أهو آدم (عليه السلام) أم ذريته؟ أما في هذه الآية فالمقصود قطعاً هم ذرية آدم لأنه تعالى ذكر أنه خلقه من نطفة أمشاج وهذا لا يكون لآدم الذي خلقه من تراب. المرجّح في الآية الأولى أن المقصود بالإنسان المذكور في الآية هو آدم (عليه السلام) وفي الآية الثانية ذرية آدم (عليه السلام) فذكر الإنسان الأول ومن بعده وهذا يدل على القدرة وعلى الإيجاد والإستمرار ولذلك لم يذكر الضمير في الآية الثانية التي تدل على الإنسان فلم يقل مثلاً إنا خلقناه من نطفة أمشاج باستعمال الضمير بل قال تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) وهذا يدل على أن المقصود قطعاً ذرية آدم. وهذا كله يرجّح أن الإنسان في الآية الأولى يقصد بها آدم (عليه السلام) والإنسان في الآية الثانية يقصد بها ذرية آدم (عليه السلام).
(نطفة أمشاج): الأمشاج لغة هي الأخلاط وكلمة أمشاج تستعمل مفرداً وجمعاً (مشيج ومشج والجمع أمشاج، مشيج تجمع على أمشاج مثل شريف وأشراف، ومشج تجمع على أمشاج مثل بطل وأبطال ومشج ومزج متشابهتان في المبنى والمعنى)، وفي اللغة العربية كلمات عديدة تستعمل مفرداً وجمعاً مثل كلمة بشر وقد استعملت في القرآن الكريم للمفرد (أبشراً منا واحداً نتبعه) والجمع (ما أنتم إلا بشر مثلنا) سورة يس، وكذلك كلمة الفلك استعملت في القرآن للمفرد (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) سورة يس، وللجمع (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة) سورة يونس، وكذلك كلمة طفل تستعمل للمفرد والجمع وقد يستعمل جمعها أيضاً لأنها تجمع على أطفال (والطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) و (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم). والأمشاج هي الأخلاط وكما قلنا تستعمل للمفرد والجمع ونسأل لماذا اختار الجمع على المفرد في هذه الآية؟ كان من الممكن القول (نطفة مشيجة أو مشج) لكن اختيار الجمع لكثرة ما فيها من أخلاط وامتزاجات وهذا موجود في اللغة فيقال : بلد سبسب (أي قفر) وبلد سباسب، يمكن القول بلد سباسب إذا كثر فيه القفر كأن كل جزء من البلد هو سبسب والسبسب هي الأرض الواسعة الصحراء. كذلك نقول أرض قفر وأرض قفار والجمع تعني أن كأن كل جزء من الأرض قفر على حدة، ولهذا قال تعالى إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج من كثرة ما فيها من أخلاط.
(نبتليه): بمعنى نختبره ونمتحنه. الفعل المجرّد بلى يبلو أما فعل ابتلى يبتلي ففيه مبالغة أكثر من فعل بلى مثل صبر واصطبر لأن صيغة افتعل فيها مبالغة مثل كسب واكتسب. إذن قال تعالى نبتليه وليس نبلوه دلالة على المبالغة في الإختبار. وقد استعمل القرآن الكريم نبلو وابتلى في مواضع عديدة فبعد غزوة أحد قال تعالى (وليبتلي الله ما في صدروكم) سورة آل عمران ثم بعد غزوة الأحزاب قال تعالى (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا) سورة الأحزاب. والقول أن الزيادة في المبنى تفيد الزيادة في المعنى غير مضطرد لأنه أحياناً يكون الأقل في المبنى أبلغ في المعنى مثل فعل حذر (صيغة مبالغة) وحاذر (إسم فاعل)، حذر أبلغ من حاذر وفيها صيغة مبالغة (وهذه الأمور تُعرف في أبنية الفعل وفي معانيه في علم الصرف ودلالة الصيغ مثل صيغة فعّل وافتعل وتفاعل واستفعل وغيرها).
ونسأل الآن لماذا جاءت آية سورة الملك باستخدام فعل بلى يبلو في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}) ؟ ولماذا جاء التخفيف في البلاء ولم يستعمل ليبتليكم؟ وما الفرق بينهما؟
لو قرأنا آية سورة الملك (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}) لوجدنا أنها تنتهي بقوله تعالى وهو العزيز الغفور، والمغفرة تقتضي التخفيف أولاً لأن الإبتلاء والشدّة لا تتناسبان مع الغفور التي هي أصلاً صفة مبالغة أما صيغة ليبلوكم فهي أنسب مع المغفرة والتخفيف جزء من المغفرة. وهناك أمر آخر: نلاحظ في سورة الإنسان ذكر تعالى ما يصحّ معه الإبتلاء: (فجعلناه سميعاً بصيرا) (إنا هديناه السبيل) السمع والبصر والإختيار والعقل وأطال في ذلك فلما أطال في ذكر ما تردد أطال في صيغة الإبتلاء (نبتليه) أما في سورة الملك فلم يذكر أياً من وسائل الإبتلاء إنما ذكر خلق السموات مباشرة في الآية التي بعدها فاقتضى استعمال الصيغة المخففة (ليبلوكم).
أمر آخر أنه تعالى ذكر في سورة الإنسان شيئاً من ابتلاء الأعمال ما لم يذكره في سورة الملك. فذكر في سورة الملك آية في المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {12}) وآية في الكافرين (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {6}) لكن في سورة الإنسان ذكر الإبتلاء في الأعمال قال تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً {24} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {25} وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً {26}) وأفاض في ذكر النعيم في الآخرة مما لم يذكره في الملك قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً {5}) فذكر ما يستدعي الإبتلاء وذكر الكافرين (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً {27}) وذكر الظالمين قال تعالى: (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {31}) والظلم من نتائج الأعمال. إذن السياق والوسائل وما ذكر من الأعمال جعل ذكر الإبتلاء أنسب من كل ناحية من حيث الوسائل وجو السورة والسياق والأعمال هذا من حيث الصيغة.
يأتي سؤال نحوي هنا : قال تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيرا) فما هو وضع نبتليه من الناحية النحوية في الآية؟ نبتليه جملة فعلية تحتمل معنيين: الأول التعليل نبتليه بمعنى لنبتليه كما قال في سورة الملك لنبلوكم، الجملة إسمها استئنافية تفيد التعليل مثل: جئت أشتري داراً أو جئت أتعلم. والإحتمال الثاني أن تكون حال مقدرة من الفاعل. والحال مقسمة إلى ثلاثة أقسام من حيث الدلالة على الزمن:
1. حال مقارنة: مثل جاء ماشياً أو شربت الماء بارداً وهذه أكثر أنواع الحال.
2. حال مقدّرة: تقع في الإستقبال يعني الفعل في زمن والحال في زمن آخر في المستقبل كما جاء في قوله تعالى (وبشرناه باسحق نبياً من الصالحين) وهناك فرق بين الزمن عند تبشير ابراهيم باسحق ولم يكن عندها موجوداً حتى في رحم أمه، أو كقوله تعالى (لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلّقين رؤوسكم ومقصرين) والحلق والتقصير هي آخر الشعائر بعد الطواف والسعي. إذن الفعل يأتي في زمن والحال تأتي في زمن آخر في المستقبل.
3. حال محكية قد يكون زمنها ماضي.
نعود للحال المقدرة ودلالتها في آية سورة الإنسان: نبتليه جملة فعلية حال مقدرة من الفاعل فقوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) بمعنى مبتلين له أي الله تعالى هو المبتلي، ومحتمل أن تكون حال مقدرة من المفعول بمعنى خلقنا الإنسان مُبتلى مثل قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وأصلاً الحال يمكن أن تفيد عِلّة مثل (جئت طامعاً في رضاك) و (جئت مبتغياً عونك) هي حال وتظهر كأنها علة. إذن استخدام كلمة (نبتليه) أفاد معاني عدة وهذا من باب التوسع في المعنى لأنها احتملت أن تكون استئنافية للتعليل، أو حال مقدرة من الفاعل أو حال مقدرة من المفعول. ولو جاء الفعل باللام (لنبتليه) لما أفاد إلا معنى التعليل فقط وصيغة (نبتليه) أفادت عدة معاني وكلها مقصودة في الآية.
ونسأل لماذا لم تستخدم هذه الصيغة في آية سورة الملك لتفيد التوسع ايضاً؟ لأن التعبير في سورة الملك لا يحتمل أصلاً لأنه تعالى ذكر في سورة الملك خلق الموت والحياة ولم يذكر الإنسان أصلاً فكيف تأتي الحال وهو لم يذكر الإنسان ؟ إذن لا يصح التعبير أما في سورة الإنسان فذكر الإنسان لذا جعل كل تعبير في مكانه الذي يؤدي المعنى المطلوب بأوسع صورة.
من الملاحظ في آية سورة الإنسان أن الله تعالى ذكر كل ما يصح معه الإبتلاء ومستلزمات الإبتلاء: السمع (سميعاً) والبصر (بصيرا) والعقل (إنا هديناه السبيل) والإختيار (إما شاكراً وإما كفورا) ولا يمكن للإنسان أن يكون شاكراً أو كفرواً إلا إذا كان عاقلاً، وذكر مادة الإختيار أي السبيل الذي هداه الله له وذكر موقف المكلّفين من الإختيار فقسم منهم شاكر وقسم كفور وذكر عاقبة الإبتلاء (الجنة والسعير) وذكر المبتلي (وهو الله تعالى) وذكر المبتلى (وهو الإنسان) فلم يدع شيئاً يخص الإبتلاء إلا وذكره في هذه الآية والإبتلاء لا يصح بدون هذه الأدوات كلها.
(فجعلناه سميعاً بصيرا): قدّم تعالى السمع على البصر في هذه الآية كما هو شأن الكثير من آيات القرآن في تقديم السمع على البصر لأن السمع أهم في باب التكليف والإختبار من البصر لأن فاقد السمع من الصعب تكليفه بخلاف فاقد البصر الذي يكمن تبليغه وتكليفه بشكل أسهل. والأمثلة في القرآن الكريم عديدة عن تقديم السمع على البصر كقوله تعالى (وهو السميع البصير) (إنني معكما أسمع وأرى) (إن السمع والبصر والفؤاد).
وفي هذه الآية من سورة الإنسان قدّم تعالى السمع والبصر على الهداية فبعد أن قال تعالى: (فجعلناه سميعاً بصيرا) قال: (هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا)لأن السمع والبصر يوصلان المعلومات إلى العقل وبدونهما تتعسّر الهداية والأحكام في الغالب تأتي بما يقدمه السمع والبصر فهما إذن أي السمع والبصر سبيل للوصول إلى الهداية وسبيل العقل لفهم المعلومات. ومن الملاحظ أنه تعالى لم يفصل بين السمع والبصر بالواو كأن يقول (سميعاً وبصيرا) أنما جاءت الصفتان متصلتان (سميعاً بصيرا) لئلا يُفهم أنه تعالى خلق الإنسان على نوعين منهم من يسمع ومنهم من يُبصر.
وهنالك أمر آخر في هذه الآية أيضاً وهو لماذا استخدم صيغة المبالغة (سميعاً) ولم يستخدم (سمّاع) مثلاً؟
في القرآن الكريم يستعمل صيغة المبالغة (سميع) كما في قوله: (وهو السميع البصير) (السميع العليم) ويستعمل صيغة المبالغة (سمّاع) كما في قوله في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {41} سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {42}) وفي سورة التوبة (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ {47}) والفرق في استعمال الصيغتين في القرآن هو أن صيغة سميع استعملت في القرآن كوصف لله تعالى(وهو السميع البصير) ووصف للإنسان (سميعاً بصيرا) وهي في مقام المدح، أما صيغة سمّاع فلم تستعمل في القرآن إلا كوصف للإنسان وفي مقام الذمّ فقط. إذن صيغة المبالغة سميع تستعمل في مقام المدح والإمتنان والتفضّل بالنعمة ففي آية سورة الإنسان وعلى ما جرى عليه في القرآن الثناء هنا بالإمتنان على الإنسان (سميعاً بصيرا) لذا اقتضى استخدام الصيغة (سميع) وليس (سمّاع).
آية (3):
قال تعالى: ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً {3})
نلاحظ أنه كما قال تعالى في الآية السابقة: (إنّا خلقنا) بالتوكيد وضمير التعظيم قال في هذه الآية أيضاً: (إنا هديناه) بالتوكيد وضمير التعظيم أي بإسناد الفعل إلى نفسه تعالى لأن الهداية أمر مهم وهي الغاية التي خُلق الإنسان وقد تفوق خلق الإنسان. والخلق لِعِلّة كما قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فإذا كان الخلق مؤكد فلا بد من أن تكون الهداية مؤكدة وكما أسند تعالى الخلق إلى نفسه في آية سورة الإنسان قال تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) أسند الهداية إلى نفسه أيضاً في قوله: (إنا هديناه السسبيل) ومن ناحية أخرى فإن المنهج الصحيح لا يستطيعه أحد إلا الله تعالى ولا يُنسب إلا إلى الله تعالى ولو تُرِك الناس إلى عقولهم لأصبحوا شيعاً وأحزاباً كلٌ يختار ما يشاء، إذن الطريق الصحيح للهداية لا يستطيعه إلا الله تعالى لأنه هو الذي خلق وهو أعلم بمصالح العباد.
قال تعالى: (إنا هديناه السبيل) عدّى الفعل بنفسه وفعل هدى قد يتعدى بنفسه كقوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم) وقد يتعدى بـ (إلى) كما في قوله تعالى (يهدي إلى الحق) بمعنى يدلّه ويرشده إليه، وقد يتعدّى باللام كما في قوله (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) و قوله (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) وقد تكلمنا باستفاضة عن فعل هدى في شرح سورة الفاتحة , وفي هذه الآية قال تعالى: (إنا هديناه السبيل) لأن التعدية بالفعل بإلى تقال لمن لم يكن في الطريق فتدله وترشده إليه فإذا وصل إلى الطريق يحتاج لمن يعرّفه به وبماذا في الطريق فحينها يتعدى الفعل باللام أما تعدية الفعل بدون حرف جر فتقال لمن كان في الطريق فتبين له مراحل في الطريق ومن لم يكن في الطريق أو كان بعيداً عنها فترشده اليها وتدله إليها. وقال تعالى مخاطباً رسوله (صلى الله عليه وسلم) (ويهديك صراطاً مستقيما) والرسول (صلى الله عليه وسلم) سلك الطريق وقال تعالى على لسان الرسل (وقد هدانا سبلنا) وهم أيضاً كانوا في الطريق. وقال تعالى (فاتبعني أهدك صراطاً سويا) في خطاب ابراهيم (عليه السلام) لأبيه الذي لم يكن في الطريق وكذلك قال تعالى مخاطباً المنافقين (ولهديناهم صراطاً مستقيما). إذن عدم تعدية الفعل في الآية بحرف جر جمعت المعنيين وبذلك أتمّ تعالى نعمته على الإنسان بأن يدلّه ويرشده إلى الطريق لما كان بعيداً عنها ويبيّن له معالم ومراحل الطريق عندما يصل إليها وقامت الحجة على الجميع إذن فالله تعالى يستحق الشكر على ذلك.
قوله سبحانه: (إما شاكراً وإما كفورا): شاكراً صيغة إسم فاعل وكفورا صيغة مبالغة لم يجعلهما على نمط واحد لم يقل إما شاكراً وإما كافراً أو إما شكوراً وإما كفورا. لأن الشكور قليل مصداقاً لقوله تعالى (وقليل من عبادي الشكور) ول قال تعالى شكورا لكان أخرج من بينهم الشاكرين وهم الأكثر فالآية حينها لن تشكل مجموعة الخلق الشاكرين. وكذلك لم يقل كافراً (اسم فاعل) لأن الكافر لم يستعملها القرآن الكريم مقابل الشاكر وإنما بمقابل المؤمن (فمنكم كافر ومنكم مؤمن) إذن لا تصح المقابلة (شاكرا) و(كافرا) لأن القرآن لم يستعملها هكذا. صيغة كفور يستعملها القرآن لأمرين : للكافر المبالغ في الكفر (إن الإنسان لكفور مبين) (وكذلك نجزي كل كفور) ولجاحد النعمة غير الشاكر (إما شاكراً وإما كفورا) (وكان الشيطان لربه كفورا). وهنا يأتي سؤال: كي تكون كفرواً بمعنى غير شاكر في قوله تعالى (وكان الشيطان لربه كفورا)؟ يدل على ذلك اللام في (لربه) لأن الكفر المقابل للإيمان يُعدّى بالباء لا باللام كما في قوله تعالى (إن الذين يكفرون بالله ورسوله) (وكانوا بشركائهم كافرين) فلا نقول يكفر لله وإنما يكفر بالله. وكذلك الكفر المقابل للشكر لا يُعدّى باللام فكفران النعمة يتعدى بنفسه (فاشكروا لي ولا تكفرون)بمعنى كفر النعمة أو كفر صاحب النعمة (وإن كفرتم) إذن ما هي اللام في (لربه)؟ اللام هنا هي لام التقوية إذا جئنا بصيغة المبالغة أو اسم الفاعل هذا الفعل الذي يتعدى بنفسه يمكن إضافة لام التقوية له كما في قوله تعالى (وهو الحق مصدقاً لما معه) فعل صدّق يتعدى بنفسه واللام للتقوية وكذلك قوله تعالى )فعّال لما يريد) أي فعّال ما يريد. إذا تأخر الفعل أو كان مصدراً أو صيغة مبالغة قد يُؤتى باللام المقوّية كما جاء في قوله تعالى (وكان الشيطان لربه كفورا).
أمرٌ آخر أنه تعالى: اختار الشكر على الإيمان في آيات أخرى منها قوله تعالى في سورة التغابن (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {2}) أما في آية سورة الإنسان اختار الشكر مع كفران النعمة لأن نعمة الخلق والهداية لا تقتضي الإيمان فقط وإنما تقتضي الشكر لأنه لما أنعم تعالى على الإنسان بالسمع والبصر والعقل والإختيار والهداية كل هذه نعم تقتضي الشكر فهو الإيمان وزيادة في الآية السابقة في سورة التغابن ذكر تعالى نعمة الخلق فقط أما في سورة الإنسان ذكر الخلق والهداية فكما زاد وتفضّل بأن جعل الخلق وزيادة ينبغي أن تكون الزيادة أيضاً فذكر الشكر وزيادة.
قال تعالى: (إنا خلقنا) لم يكتف بذلك بل قال: (سميعاً بصيرا) وجعل له عقلاً واختياراً لذا يقتضي الإيمان وزيادة ثم النعم مثل قوله (هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) فالنعمة تقتضي الشكر وليس مجرد الإيمان ومسألة الشكر والإيمان مناسب لجوّ السورة فقد جاء في سورة الإنسان قوله تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً {9}) وقوله تعالى: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً {22}) فذكر الشكر مناسب من جهة السياق ومن ناحية جو السورة الكلي . وهناك أمر آخر حسّن اختيار الشكر (إنا هديناه السبيل) والسبيل هي الطريق المسلوكة الميسّرة السهلة وهناك فرق بينها وبين النجد (وهديناه النجدين) فربنا هدانا السبيل الميسرة للهداية وكونها ميسرة يستدعي الشكر ولما قال (وهديناه النجدين) أتبعها بقوله تعالى (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ {17}) التواصي بالصبر لأن سلوك النجدين يحتاج لمجاهدة وصبر أما هداية السبيل الميسرة فتحتاج إلى شكر. إضافة إلى ما سبق من أين ما نظرنا فالسياق يستدعي الشكر.
وقد يرد السؤال: لماذا قدّم الشاكر على الكفور؟
قدّم الشكر لأنه قدّم ما يستدعي الشكر (النعم التي ذكرها) ثم أنه في السورة أفاض في ذكر جزاء الشاكرين في سبع عشرة آية من الآية : (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً {5}) إلى قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً {22}) في نهاية الآية بينما اختصر في عقاب الكافرين ولم يذكرهم إلا في آية واحدة هي قوله سبحانه: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً {4}) إذن الإفاضة في ذكر جزاء الجنة وذكر الشاكرين اقتضى تقديم الشاكرين على الكافرين، وهناك أمر آخر أنه تعالى قدّم الرحمة على العذاب في آخر السورة أيضاً: (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {31}) لذا بدأ بالشاكرين قال تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً {3}) فأول السورة وآخرها على نفس النسق. ثم إن هذا التقديم (الشاكر على الكفور) هو نظير ما تقدم في القرآن فحيثما اجتمع الشكر والكفر قدم الشكر على الكفر (ليبلوني أأشكر أم أكفر) (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر) (واشكروا لي ولا تكفرون) إلا في آية واحدة فقط في سورة الزمر (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {7}) والسبب في ذلك أنه تقدم ذكر الكفر والكافرين في سورة الزمر (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ {3}) فناسب سياق السورة تقديم الكفر على الشكر وكذلك في آخر السورة ذكر عقاب الكافرين أولاً (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ {71}) ثم جزاء الشاكرين (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ {73}). وقد قال الرازي إن القرآن كله كالسورة الواحدة بل كالآية الواحدة بل الكلمة الواحدة.
آية (4):
قال تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً {4})
نلاحظ فى هذه الآية أنه تعالى أكّد الإعتاد والعذاب (إنا أعتدنا) كما أكد الخلق والهداية سابقاً (إنا خلقنا، إنا هديناه). وهنا يأتي سؤال وهو ما الفرق بين اعتدنا وأعددنا؟ القرآن الكريم يستعمل أعتدنا وأعددنا فلماذا استخدم هنا أعتدنا؟ لأن أعتد فيها حضور وقرب والعتيد هو الحاضر (هذا ما لدي عتيد) أي حاضر وقوله (وأعتدت لهن متكئاً بمعنى حضّرت أما الإعداد فهو التهيئة وليس بالضرورة الحضور كما في قوله تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم) بمعنى هيّأوا وليس حضروا وقوله (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عُدّة) أما في سورة النساء فقال تعالى (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {18}) لأنهم ماتوا فأصبح الحال حاضراً وليس مهيأ فقط، وكذلك ما ورد في سورة الفرقان (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً {37}) قوم نوح أُغرقوا وماتوا أصلاً فجاءت أعتدنا. أما في سورة النساء (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً {93}) هؤلاء لا يزالون أحياء وليسوا أمواتاً فجاءت أعد بمعنى هيّأ. ومما سبق نقول أنه في آية سورة الإنسان بما أن جزاء أهل الجنة بالحضور بصيغة الوقوع لا بصيغة المستقبل كذلك يقتضي أن يكون عقاب الكافرين حاضراً كما أن جزاء المؤمنين حاضر فقال تعالى في أهل الجنة (يشربون من كأس، ولقّاهم نضرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا) وجاء عقاب الكافرين حاضراً بصيغة الوقوع فقال تعالى (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا).
أما في آخر السورة فجاءت الآية: (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {31}) باستخدام (أعد) لأن الكلام في الآية عن أهل الدنيا وليس عن الآخرة.
إضافة إلى ذلك لم يرد في القرآن الكريم كلمة أعددنا مطلقاً أي أعدّ واستعمال الضمير (نا) وإنما يستعمل أعتدنا وهي خصيصة من خصائص التعبير.
تكلّمنا عن الفرق بين أعتد وأعدّ والآية التي قبل هذه الآية (إما شاكراً وإما كفورا) وفي هذه الآية قال تعالى (للكافرين) وهي ليست جمع كفور وإنما هي جمع كافر وكان المضمون أن يجعل الإعتاد لجمع الكفر وهي (كُفُر) على وزن فعول فُعُل مثل صدوق صُدُق ورسول رُسُل وهذا هو القايس. إذن لماذا قال (إما شاكراً وإنا كفورا) ثم قال (إنا أعتدنا للكافرين) ولم يقل (أعتدنا للكُفُر)؟ لو قال أعتدنا للكُفُر لكان يذهب الظنّ أن العذاب يتناول المبالغ في الكفر وليس لغير المبالغ أي كأن الكافر لا يناله العذاب، لكن لمّا ذكر عقاب الكافرين غمن باب أولى أن يكون عقاب الكُفُور أكبر بمعنى أن هذا عذاب من دونه وهو الكافرين فكيف يكون عذاب الكُفُور؟ لا بد أنه أكبر وأشدّ.
(سلاسل وأغلالاً وسعيرا)هنا العذاب بالسلاسل والأغلال والسعير فلماذا ذكر هذا النوع من العذاب؟ السعير هي جهنم للكافر عموماً لماذا ذكر السلاسل والأغلال؟ ذكر تعالى أنه أطلق الحرية للإنسان (إما شاكراً وإما كفورا) والإختيار في الدنيا وهداه السبيل فلم يسلكها ولهذا قيّده الله تعالى في الآخرة لأنه ليس له أن يختار في الآخرة فكما أساء الإختيار في الدنيا قيّده بالسلاسل (والحرية عكس القيد) والسلاسل تُقيّد حركة الأرجل والأغلال تقيّد حركة الأعناق والأيدي كما في قوله تعالى في سورة المائدة آية 64 (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ) قيّد حركته على كل حال بمقابل الحرية المطلقة التي كانت له في الدنيا.
آية (5)-(6):
قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً {5} عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً {6})
ورد في القرآن جمع الأبرار والبررة ونلاحظ أن القرآن الكريم يستعمل الأبرار للناس المكلّفين ويستعمل البررة للملائكة ولم يستعملها للناس أبداً (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ {15} كِرَامٍ بَرَرَةٍ {16}عبس) لماذا؟ الأبرار هي من الصيغ المستخدمة لجموع القَلّة والناس قليل منهم الأبرار (قلة نسبية) مصداقاً لقوله تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ {103}يوسف) فاستعمل القَلّة النسبية بينما الملائكة كلهم أبرار فاستعمل معهم الجمع الذي يدل على الكثرة (بررة).
ثم قال تعالى: (يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) والكأس هي الزجاجة التي فيها شراب فإذا كانت فارغة تُسمّى زجاجة. وفي الآية ذكر تعالى صنفين من هؤلاء (الأبرار) الذين يشربون من كأس ممزوجة بالكافور وقسم آخر هم (عباد الله) في قوله تعالى: (عيناً يشرب بها عباد الله) والمقصود بعباد الله هنا المقرّبون حسب بعض المفسرين وكلمة عبد الله هي أرفع وسام يصف الله تعالى به عبده فلمّا وصف تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) في أعلى مقام قال (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {1} الإسراء) وقال في نوح (عليه السلام) (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً {3} الإسراء) وهناك عبودية إختيارية وعبودية قسرية وهذه هنا عبودية اختيارية. إذن هناك نوعين من المكلّفين وهم أولهم الأبرار وهم يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، وثانيهم المقرّبون الذين يشربون من العين خالصة.
في قوله تعالى (يشربون من) عدّى الفعل بـ (من) وفي المقرّبين عدّى الفعل بالباء (عيناً يشرب بها عباد الله) وهذا يدل على أن جزاء المقربين أعلى من جزاء الأبرار ويقولون أن حسنات الأبرار سيئات المقرّبين، فكيف دلّ على ذلك؟ هناك جملة أمور تدل على ما ذكرنا:
– أولاً بالنسبة للأبرار يُؤتى بكأس يشربون منها أما المقرّبون يشربون بها وهي تفيد الإلصاق بمعنى أقام بالعين وشري بها فإذن صار التلذذ بالنظر وبالشراب،
– ثانياً الأبرار يشربون من كأس ممزوجة بالكافور وليست خالصة (يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) وهي تُمزج بقدر أعمالهم في الدنيا أما المقرّبون فيشربون من العين صرفة خالصة ليست ممتزجة،
– ثالثاً عدّى الفعل بالباء تدل على تضمين معنى روي به (يشرب به) بمعنى يرتوي به على خلاف الشرب الذي لا يدل على الإرتواء فالتعدية بالباء تدل على نزول في المكان والشرب الخالص والإرتواء منها.، ورابعاً قال تعالى في عباد الله يفجرونها تفجيرا بمعنى يُجرونها حيث شاءوا ويقال في الآية أنه معهم قضبان من ذهب في أيديهم يجرونها حيث شاءوا وهذا يدل على أنه ليس فيها عناء ولكنها تتم بسهولة. وهناك فرق بين جزاء الأبرار وجزاء المقرّبين.
– ثم لو لاحظنا تكملة الآية (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) هؤلاء المقربون كما يقال يُعطون قصبان من ذهب أينما ضربوا تتفجر الماء خالصة من العين بأمر سهل في أي مكان يريدونه من أماكنهم وليس هناك مكان محدد لها.
وعليه فإن يشرب بها تفيد الريّ والشراب بها خالصة صرفاً وفيها لذة النظر بالإضافة إلى الإقامة في المكان وامكانية تفجيرها أينما شاءوا من أماكنهم ولم يأت هذا الوصف مع الأبرار.
ونسأل الله تعالى أن نشرب بها وعلينا أن نسأل الله تعالى ما هو أعلى وفي الأثر أن الله تعالى يعطي الناس أشياء كثيرة وأمثالهم لا يرون أن لهم مثل ما أعطى أؤلئك مع أن أعمالهم متساوية فيقول تعالى لهم هؤلاء سألوني فهل سألتموني؟ والله تعالى يُحب أن يُسأل ولذا علمنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) :” اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى”.
آية (7)-(8):
قال تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}
بدأ تعالى الآية بذكر الوفاء بالنذر لأن الوفاء بالنذر واجب ثم جاء بعده ذكر الوفاء بالواجب فكأنه ذكر النيّة المقابلة لعموم العمل فكل عمل تقترن به النية الخالصة لله فكأن قوله تعالى (يوفون بالنذر) هو العمل و(يخافون يوماً) هو النية ، وينبغي أن تكون النية مقابلة للعمل. وقوله تعالى (كان شرّه مستطيرا) بمعنى فاشياً منتشراً ويقال عن يوم القيامة كان شره مستطيرا بمعنى انتشر شرّه حتى ملأ السموات والأرض قر يبقى ملك مقرّب ولا تبي مُرسل إلا جثا على ركبتيه. وفي اللغة استطار الشيئ أي تفشّى الشيئ وبلغ أقصى مدى.
وبعدها قال تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا). وهنا يأتي السؤال على ماذا يعود الضمير في كلمة (حبّه)؟ ذكر فيه أكثر من حالة وإن كان أظهرها على حبه يعني على حب الطعام مع حاجتهم إليه وهذا من باب الإيثار يطعمون الطعام مع أنهم محتاجون إليه مصداقاً لقوله تعالى (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ {92} آل عمران)، ويحتمل أيضاً أن يعود على حب الإطعام فيعود على المصدر (الإطعام) كقوله تعالى (اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى، المائدة آية 8) هو هنا تعود على العدل وهؤلاء يطعمون الطعام بطيب نفس وبدون مَنّة ولا تكدير ، ويحتمل أيضاً أن يكون يعود الضمير على حب الله بمعنى ابتغاء وجهه كما تذكر الآية في نفس السورة قال تعالى: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً {9}). فالضمير إذن يعود على الطعام من باب الإيثار وعلى الإطعام من باب الإحسان وعلى حب الله وهو من باب الإخلاص. وقد قال قسم من المفسرين أن أعلى هذه الإحتمالات أن يكون من باب الإيثار، وهو في الحقيقة يجمع المعاني كلها. ويأتي سؤال هنا لماذا ذكر الله تعالى كلمة الطعام (ويطعمون الطعام) ولم يقل (ويطعمون)؟ ذكر الطعام حتى يصحّ عودة الضمير عليه ولو حذف الطعام لما عاد الضمير عليه وهو أعلى الأوجه كما قلنا سابقاً وهو الإيثار، فذِكر كلمة الطعام أفاد ثلاثة معاني ولو حذف لأفاد المعنى لكن الضمير لن يعود على الطعام وهو الإيثار (ويطعمون الطعام على حبه).
ثم ذكر ثلاثة أصناف من البشر بالترتيب التالي (مسكيناً ويتيماً وأسيرا) فتقديم المسكين على اليتيم واليتيم على الأسير يفيد جملة أمور:
1. التقديم بحسب الرتبة وحسب الحاجة: وتقديم المسكين لأن المسكين محتاج على الدوام وهو من المذكورين في باب الزكاة واليتيم قد لا يكون محتاجاً وقد يكون غني لكن المسكين يكون إطعامه على الوجوب والتطزع ، أما الأسير قج يكون كافراً والكافر لا يدخل في باب الوجوب على أفراد المسلمين إنما يدخل في باب الوجوب على الحاكم أو ولي الأمر. وبدأ بالواجب (الوفاء بالنذر) وكذلك بدأ بمن هو أولى وهو المسكين أولاُ ثم اليتيم ثم الأسير.
2. التقديم بحسب الكثرة: فالمساكين هم أكثر من اليتامى لأن اليتم يزول بالبلوغ أما المسكين فيبقى مسكيناً كذلك اليتامى أكثر من الأسرى لأن هؤلاء الأسرى لا يكونون إلا في وقت الحرب وهم أقل من اليتامى والمساكين وهذا ملحظ آخر للتقديم وهو تقديم الأكثر ثم الأقل.
3. وقد يكون للتقديم مسوّغ آخر وهو بحسب القدرة على التصرف. فالمسكين له الأهلية الكاملة على التصرف أما اليتيم فأهليته ناقصة حتى يبلغ أما الأسير فلا يمكن أن يتصرف حتى يأمر فيه صاحب الأمر.
وهناك عدة أمور تسوّغ التقديم بهذه الصورة وعندما ذكر الأسرى كان مناسباً لما ذكره في عذاب الكافرين (سلاسل وأغلالاً وسعيرا) لأن الأسرى يقيّدون بالأغلال والسلاسل
ونأتي لسؤال آخر لماذا استعمل كلمة (ويطعمون) ولم يستعمل (ويتصدقون)؟
والجواب حتى لا يخُصّ ذلك الصدقات أو يخصّ من تجب عليهم الصدقات أو تجب لهم الصدقات وليس كل المسلمين تجب عليهم الصدقة أو تجب لهم الصدقة لكن أراد عموم فعل الخير سواء كان الفاعل غنياً أو فقيراً وساء كان المُطعَم تجب عليه أو لا ويشمل المتصدَق عليهم وغير المتصدَق عليهم . وكلمة تطعمون تدل على فعل الخير العام وهذا المعنى لم تكن لتدل عليه كلمة يتصدقون.
آية (9):
قال تعالى: (َإنمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً {9})
تتناول الآية الكريمة أمرين في إطعامهم الطعام وقد مرّ في الآية السابقة أنهم يطعمون الطعام مع حاجتهم إليه (على حبّه) وهذا أشهر الأوجه وأعلاها كما ذكرنا سابقاً، وأنهم مخلصون لله في إطعامهم في هذه الآية. وقوله تعالى (على حبّه) تدل على الإيثار وهنا في هذه الآية تدل على الإخلاص في قوله تعالى (لوجه الله) وهذا أعلى أنواع الإطعام أن يجتمع فيه الإيثار والإخلاص.
قال تعالى: (إنما) ولم يقل مثلاً نحن نطعمكم فلماذا؟
ج- إنما تفيد القصر والحصر في اللغة يعني تخصيص الإطعام لهذا الأمر (الغاية هي لوجه الله ولا يطعمون إلا لوجه الله) أي لا يبتغون شيئاً آخر وهذا هو أعلى أنواع الإخلاص. ولو قال نحن نطعمكم سيؤدي هذا إلى أمرين ويفيد أنهم يطعمون لوجه الله ولا ينفي إطعامهم لغير وجه الله بخلاف المعنى المقصود من الآية والتي هو قصر الإطعام لوجه الله تعالى فقط وهذا يفيد أن الأعمال كلها حصراً يجب أن تكون ابتغاء وجه الله تعالى.
ويقول بعض أهل اللغة أن القول (نحن نطعمكم) هي حصر بالتقديم (تقديم نحن على نطعمكم) نقول نعم ولكن هذا حصر بالفاعل وليس حصر بالقعل وهذا يُغيّر المعنى المقصود (يعني نحن لا غيرنا نطعمكم) وهذا معنى غير مطلوب في الآية ولا يصح لأن هناك غيرهم من يُطعم إما استخدام (إنما) في الآية فهي تفيد التخصيص الفعل (لا الفاعل) لوجه الله تعالى.
ثم قال تعالى في الآية: (لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) أي لا نريد مكافأة على الإطعام بالعمل (لأن الجزاء هو المكافأة على العمل) ولا نريد شكراً باللسان. نلاحظ قوله تعالى (إنما نطعمكم) ولم يقل بعدها (قالوا لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) أو يقولون، لكنه لم يذكر فعل القول حتى يشمل لسان الحال فهم لم يقولوا ذلك بلسانهم ولكن قالوه بلسان حالهم وقد يكون أبلغ. ومن المفسرين من يقول أنهم لم ينطقوا بهذا القول ليشمل لسان الحال ولسان النطق. وهذا من باب الإخلاص أيضاً أنهم قالوه بلسان حالهم.
ثم أن الآية بقوله تعالى (لا نريد منكم) ولم يستخدم مثلاً (لا نريد جزاء ولا شكورا) وهذا لتدلّ على أنهم يريدون الجزاء والشكر من رب العالمين فهم لم ينفوا إرادة الجزاء والشكر وإنما أرادوه من رب العالمين فقط لا من الناس الذين يطعمونهم، ولا يصح أصلاً أن نقول لا نريد جزاء ولا شكورا بشكل مطلق.
ثم نلاحظ أنه قدّم الجزاء على الشكر وهذا لأن الجزاء بالفعل أهم من الشكر باللسان فالناس فس الدنيا يهمهم الجزاء وليس الشكر باللسان فقط فالمطلوب الأول في العمل هو الجزاء لذا بدأ به سبحانه أما الشكر فهو ثناء باللسان ولا يُعدّ جزاء العمل.
وكذلك نلاحظ تكرار (لا) في قوله: (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) ولم يقل: (لا نريد منكم جزاء وشكورا) وهذا دليل على أنهم لا يريدون أي واحد من الجزاء أو الشكر على وجه الإجتماع أو على وجه الإفتراق حتى لا يُفهم أنهم قد يريدون أحدهم.
ثم نلاحظ أيضاً أنه قال :(لا نريد) ولم يقل (لا نطلب) لأن الإنسان قد يريد ولا يطلب فنفي الإرادة أبلغ وأعمّ من نفي الطلب فهو إذن ينفي الطلب وزيادة (الإرادة).
ثم نلاحظ استعمال كلمة (شكورا) وليس (شكرا) الشكور تحتمل الجمع والإفراد في اللغة وهي تعني تعدد الشكر والشكر في اللغة يُجمع على الشكور ويحتمل أن يكون مفرداً مثل القعود والجلوس، وقد استعمل القرآن كلمتي الفسق والفسوق لكن لكل منها دلالته فجاءت كلمة الفسق مع الأطعمة والذبائح أما كلمة الفسوق فجاءت عامة لتدل على الخروج عن الطاعة. والجمع يدل على الكثرة أي لا نريد الشكر وإن تعدد وتكرر الإطعام باعتبار الجمع. وقد استعمل القرآن الكريم كلمة الشكور في الحالتين وإذا اردنا الشكور مصدراً فهو أبلغ من الشكر واستعمال المصادر في القرآن عجيب والذي يُقوي هذه الوجهة استعمال الشكور لما هو أكثر من الشكر. ولقد استعملت كلمة الشكور في القرآن مرتين في هذه الآية وفي آية سورة الفرقان (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً {62}) فقط واستعمل الشكر مرة واحدة في قصة آل داوود (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ {13}سبأ) ومن ملاحظة الآيات التي وردت فيها كلمتي الشكور والشكر نرى أن استعمال الشكر جاء في الآية التي خاطب بها تعالى آل داوود وهو قلّة بالنسبة لعموم المؤمنين المخاطبين في سورة الفرقان أو في هذه السورة التي فيها الإطعام مستمر إلى يوم القيامة والشكر أيضاً سيمتد إلى يوم القيامة ما دام هناك مطعِمين ومطعَمين. إذن هو متعلقات الشكر في هاتين الآيتين أكثر من متعلقات الشكر في قصة آل داوود. وفي سورة الفرقان قال تعالى (لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكورا) وكلمة (يذّكّر) فيها تضعيفين فالذي يبالغ في التذكر هو مبالغ في الشكر فيبدو والله أعلم أن استعمال الشكور أبلغ من استعمال الشكر في آية سورة الإنسان.
آية (10):
قال تعالى: (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً {10})
هذه جملة مستأنفة تفيد التعليل. وهي تعطي السبب لماذا يطعمون الطعام ولا يريدون الجزاء ولا الشكور لأنهم يخافون من ربهم يوماً عبوساً قمطريرا. وقد وصف اليوم بالعبوس على المجاز لآن اليوم لا يوصف بالعبوس مثل العرب تصف الليل بالقاتم (مجاز عقلي) ومحتمل لإرادة الشمول والعموم فهو عبوس هو وأهله ومن فيه وما فيه هو وأهله لليوم ومن فيه. وعبوس صيغة مبالغة وقمطرير أي شديد العبوس وهي صيغة مبالغة تدلّ على الشّدة.
قال (إنا نخاف من ربنا) ومن قبل قال (لوجه الله) ولا فرق بين استعمال لفظي الرب والله (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {64}) فالله هو الرب سبحانه.
وإذا استعرضنا الآيات السابقة نجد أنه تعالى قد ذكر عبادتين ظاهرتين هما الوفاء بالنذر والإطعام، وعبادتين قلبيتين هما الخوف من اليوم الآخر والإخلاص لوجه الله، ونفى عنهم شيئين هما الجزاء والشكور، وذكر صنفين ممن يطعَمون هما صنف مسالم (اليتيم والمسكين) وصنف محارب (الأسير)، وذكر صنفين من المسالمين هما المسكين واليتيم، وأحدهما بالغ والآخر قاصر.
آية (11):
قال تعالى: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً {11} )
لما ذكر أنهم يخافون ذلك اليوم قال ربنا وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم بدل العبوس النضرة وكلاهما في الوجه وبدل الخوف والسرور ومحلهما القلب، قابل العبوس بالنضرة وهما في الوجه وقابل الخوف بالسرور وهما في القلب. مقابل الخوف الأمن ولكنه قابل بين الخوف والسرور والعبوس والنضرة. السرور هو الأمن وزيادة وقد يكون الإنسان في أمن لكنه بلا سرور ثم نلاحظ أنه أيضاً مقابل الخوف قال السرور وليس الأمن ومقابل العبوس قال النضرة ولا تقابل العبوس لأن الوجه قد يكون غير عابس لكنه غير نضر. وهذا زيادة لأنه تعالى قال (من جاء بالحسنة فله خير منها) ولم يقابلها بمثلها بل بخير منها. فالسرور مقابل الحزن وليس مقابل الخوف، فالخوف عادة يكون قبل أن يقع الشيء فإذا وقع حزن الإنسان كما في قوله تعالى (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) فأصبح في حزن لذا ذكر العاقبة السرور. وقال أيضاً في الآية السابقة (يخافون يوماً) وقال في هذه الآية (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) ولم يقل يخافون شر اليوم وإنما جاءت الآية (يخافون يوماً) أما في هذه الآية فذكر تعالى (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) وهذا يعني أنهم هم خافوا اليوم بما فيه من شرور ومصاعب وحساب وهو يوم عسير ومن شورو ذلك اليوم أنه (يجعل الولدان شيبا) لكنه تعالى وقاهم شر ذلك اليوم فقط ولم يقيهم اليوم ومشهد ذلك اليوم وفي هذا إنذار وتخويف كبيران فكل أنسان سيشاهد ذلك اليوم بما فيه وحسبه أن يقيه الله تعالى شر ذلك اليوم. إذن الله تعالى يقيهم شر اليوم ولا يقيهم مشد ذلك اليوم الذي سيشهده كل الناس أجمعين.
والفاء في قوله (فوقاهم) تفيد السببية في أغلب معانيها ولو كانت عاطفة أو يُنصب بعدها الفعل وهي تعني بسبب ما فعلوه في الدنيا وقاهم الله شر ذلك اليوم.
آية (12):
قال تعالى: (وجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً {12})
في الآية السابقة قال تعالى (ولقّاهم) وفي هذه الآية قال (وجزاهم) لأن اللقاء يكون قبل الجزاء أي قبل أن يدخلوا الجنة وبعد اللقاء أدخلهم الجنة فصار الجزاء. (اللقاء أولاً ثم يأتي الجزاء بعده) جزاهم الله تعالى بعد اللقاء جنة وحريرا وقال تعالى (بما صبروا) و(ما) هنا تحتمل معنيين : إما أن تكون ما مصدرية بمعنى جزاهم بصبرهم وتحتمل أن تكون إسم موصول والعائد كحذوف بمعنى جزاهم بالذي صبروا عليه، من الطاعات والإيثار، وحذف العائد ليشمل المعنيين ولو ذكر العائد لتخصص بمعنى واحد وهذا من باب التوسع في المعنى، إذن جزاهم للصبر ولما صبروا عليه. وجمع أمرين وهما الجنة والحرير والجنّة كما في اللغة هي البستان وفي الآخرة هي إسم لدار السعادة وفيها جنتان كما قلنا في لقاء سابق عن قوله تعالى في سورة الرحمن (ولمن خاف مقام ربه جنتان) (راجع لمسات بيانية في آي القرآن الكريم) وقلنا أنه قد يكون للمتقي أكثؤ من جنّة ولهذا يجمع القرآن جنة على جنات كما ورد في الآيات (جنات عدن) و(جنات الفردوس) وهذه الجنات كلها في الجنة. وجزاهم جنة والجنة للأكل وجزاهم الحرير وهو للبس وهم أطعموا الطعام فقط لوجه الله فجزاهم الله تعالى أكثر مما فعلوا مصداقاً لقوله تعالى (من جاء بالحسنة فله خير منها) وفي هذه الآية زاد الحرير على الجنة وهذا يدل على كرم الله تعالى.
آية (13):
قال تعالى: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً {13})
قد يسأل البعض عن تكرار فيها في الآية (متكئين فيها) ثم (لا يرون فيها) ألا يكفي أن تُذكر مرة واحدة؟ فنقول لو حذف (لا) الثانية ولو قال مثل ما ذهب الظنّ إليه باستخدام (لا) مرة واحدة لوقع لبس ولكا أوهم أنه فقط عند الإتكاء لا يرون شمساً ولا زمهريرا وأنهم لو غادروا المكان لرأوا الشمس والزمهرير ولكن هذا المعنى غير مطلوب لأن المقصود بالآية أنه سواء عند الإتكاء أو عندما يغادروا المكان لا يرون شمساً لولا زمهريرا في كلتا الحالتين. فالتكرار إذن أفاد معنى آخر ولذا اقتضى تكرار (فيها). والشمس هي دليل النور والزمهرير في اللغة هو البرد الشديد وقد قيل في لغة العرب أيضاً أنه هو القمر فإذا أخذنا في الإعتبار المعنى الأول للزمهرير تكون الآية بمعنى لا يرون فيها لا شمس ولا قمر وإذا أخذنا المعنى الآخر للزمهرير وهو البرد الشديد تكون الآية بمعنى لا يرون فيها دفءً ولا برداً والدفء يأتي من الشمس والزمهرير من البرد فنفى البرد والحرّ ونفى القمر في آن واحد، ولهذا اختار كلمة الزمهرير لأنها تجمع بين هذين المعنيين. ولو استعمل القمر بدل الزمهرير لأفاد معنى واحداً فقط.
آية (14):
قال تعالى: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً {14})
جمع تعالى لهم بين دنو الظلال وتذليل القطوف التي تفيد الدنو أيضاً وهذه القطوف لا يردها بُعد ولا شد وبهذا جمع إضافة إلى الدنو أنها ميسّرة وليس هناك ما يمنع من رد اليد عنها. فلماذا قال دانية باستخدام الصيغة الإسمية وذللت بالصيغة الفعلية؟ الظلال ثابتة مستقرة فجاء بالصيغة الإسمية التي تدلّ على الثبوت أما القطوف فهي متجددة سواء كانت في جنّة أهرى أو في نفس الجنة وهي تتجدد كلما أكلوا منها أو قطفوا منها ولذا جاء بالصيغة الفعلية التي تدلّ على التجدد. وقد قيل فيها معنى آخر فقد جاء في الآية (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا) قسم من المفسرين ذهب إلى أن المعنى وجنّة دانية عليهم ظلالها بمعنى لهم جنتان كما قلنا سابقاً (ولمن خاف مقام ربه جنتان) الأولى فيها جنة وحرير والثانية دانية عليهم ظلالها.
آية (15)-(16):
قال تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا {15} قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً {16})
بعدما ذكر الفاكهة ذكر الشراب بعدها وأنه يُطاف عليهم بها وذِكر المشروب بعد الطعام هو الجاري عليه في القرآن كله فحيث اجتمع الطعام والشراب في الدنيا أو الآخرة قدّم الطعام على الشراب (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) (وهو الذي يطعمني ويسقين) وغيرها. وذكر الطعام قبل الشراب لأن الطعام أهمّ.
ثم قال تعالى (قوارير من فضة) والمعلوم أن القوارير تكون من زجاج فكيف جمع بين القوارير التي هي من زجاج وبين الفضة؟ ونقول أن الفضة هي فضة في صفاء القوارير وشفافيتها وهذه هي فضة الجنّة العجيبة.
وقوله تعالى: (قدّروها تقديرا) فيها معنيين الأول على مقدار حاجتهم لا أكثر ولا أقلّ والثاني على ما تشتهيه أنفسهم كيف تكون هيئة القوارير وشكلها أي قدّروها على ما يرغبه الشخص من هيئة وشكل. يأتون بما هو أحبّ لنفسهم والشراب نفسه مقدّر في شكل الإناء وترتيبه وفيما يُقدّم فيه.
وذكر في الآية فضة وأكواب من فضة وفي آية سورة الزخرف قال تعالى (يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71}) باستعمال ذهب وليس فضة
فلماذا الإختلاف بين الإستعمال للفضة في آية سورة الإنسان والذهب في آية سورة الزخرف؟
إذا استعرضنا الآيات في سورة الزخرف: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ {70} يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ {71} وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {72} لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ {73}) لو لاحظنا الآيات في سورة الإنسان والزخرف نلاحظ أنه:
1. في سورة الزخرف ذكر أنهم المتقون (الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ {67}) ثم أضافهم إلى نفسه تعالى وهذا أشرف فخاطبهم (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ {68}) ثم طمأنهم من الخوف مخاطباً إياهم مباشرة (لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ) وهذه مرتبة أعلى مما جاء في آيات في سورة الإنسان حيث جاء فيها :(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً {11})
2. وجاء في الزخرف أنهم جمعوا بين الإيمان والإسلام قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ {69}) والإيمان هو التصديق بالقلب والإسلام هو الإنقيلد في العمل كما تذكر الآيات في القرآن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وأحياناً يُقصد بالمؤمن المسلم. أما ما ورد في آيات سورة الإنسان فهي جزء من صفات المتقين التي جاءت في الزخرف لأن فيها العمل فقط (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}) والإيمان يدخل فيه عموم العمل الصالح .
3. في الزخرف ناداهم الله تعالى مخاطباً إياهم مباشرة (ادخلوا الجنة) أما في الإنسان فجاء قوله تعالى (وجزاهم بما صبروا) وما جاء في الزخرف هو أعلى مكانة ولم يكتف بهذا بل إنه تعالى في الزخرف أدخلهم هم وأزواجهم (أنتم وأزواجكم) وهذا لم يرد في سورة الإنسان وهذا يدل على زيادة الإكرام في سورة الزخرف.
4. وقال في الزخرف (تُحبرون) وفي الإنسان (نضرة وسرورا) والحبور أعمّ وهو يشمل السعادة والسرور والبهاء والجمال والنعمة والإكرام المبالغ فيه وسِعة العيش أما ما في سورة الإنسان فهو جزء مما ذُكر في سورة الزخرف. ففي الزخرف إذن شمل ما جاء في سورة الإنسان وزيادة.
5. وقال تعالى أيضاً في سورة الزخرف (وفيها ما تشتهيه الأنفس) ولم يذكر ذلك في سورة الإنسان ثم قال (فيها خالدون) ولم ترد في سورة الإنسان وكلها تدل على الزيادات في النعيم.
6. ثم ذكر في سورة الزخرف: (فيها فاكهة كثيرة) ولم يذكرها في سورة الإنسان لذا ناسب أن يأتي بصحاف من ذهب في الأولى وقوارير من فضة في الثانية .
7. والأمر الآخر أنه في سورة الزخرف لم يذكر الفضة أبداً وجو السورة شاع فيها ذكر الذهب والتنعّم والزخرف ففيها جاء قوله تعالى: (وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ {33}) فإذا كان هذا للذين كفروا بالرحمن في الدنيا فكيف يكون جزاء المتقين في الآخرة أقل مما كان للكافر في الدنيا (سقف من فضة وعليها معارج) ؟ وسقف الفضة والمعارج هي أكثر من قوارير من فضة فكأنها تدل على أن الجنة جزاؤها أقل من الدنيا فلا يسمح جو السورة في الزخرف باستخدام قوارير من فضة فيها لأنه لا يناسب أن يعطي الله تعالى الكافر في الدنيا أكثر مما يعطي المتقين في الجنة. إذن ينبغي أن يكون للمتقين في الآخرة جزاء أعظم لذا جاء بصحاف الذهب جزاء المتقين في سورة الزخرف.
8. وفي سورة الزخرف ذكر تعالى أيضاً أن فرعون استكبر في نفسه وثم استخفّ بموسى (عليه السلام) كما في قوله تعالى على لسان فرعون مخاطباً قومه: (فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ {53}) فكيف يناسب ذكر الفضة في السورة إذا كان فرعون المكتبر العالي في الأرض يستعمل الذهب؟ فالأفضل أن جاء تعالى بالفضة والذهب كل في مكانها الذي ناسب جو السورة ووضع كل تعبير في مكانه يناسب سياق الآيات في كلتا السورتين.
هل البَدَل يفيد التوكيد؟
للبدل عدة أغراض منها:
أن يكون للإيضاح والتبيين قد يكون للمدح أو الذمّ قد يكون للتخصيص كما في قوله تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) الانسان).
التفصيل قد يكون للتفخيم قد يكون للإحاطة والشمول وقد يكون للتوكيد أيضاً.
وللبدل أنواع لا مجال لذكرها في هذا المقام منها الاشتمال وبعض من كُلّ وغيره ولكل نوع من أنواع البدل دلالة وسياق.
آية (17)-(18):
قال تعالى: (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18))
قبل هذه الآية قال تعالى: (وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15)) فلمّا ذكر تعالى أنه يُطاف عليهم بالآنية والأكواب ناسب أن يقول يُسقون وليس يشربون أما في الآية الأولى فلم يذكر الآنية أو الطائفين لذا جاء قوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)) وذكر الطائفين فيما بعد. ولفظ السلسبيل يوحي بالسلاسة وسهولة المسار هذا ما يقابل طعام الكفار الذي قال فيه تعالى (وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) المزّمل) والذي يظهر أن الشراب المذكور في قوله تعالى (ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا) أعلى من الذي ورد في الآية السابقة ومن تسلسل الآيات فإن الشراب يُحمل إليهم ويُسقونه ثم أنه تعالى وصف آنية الشراب الذي يطاف عليهم بها (من فضة) ووصف الطائفين (لؤلؤاً منثورا) وهذه الأمور لم تُذكر في الآية الأولى. إذن فقد استوفى عناصر الطزاف كلها: الطائفين (ولدان) والمطوف عليهم (الأبرار) والمطوف به (الشراب والآنية) ولم يبق شيء لم يُذكر منها.
.
آية (19)-(20):
قال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20))
ونلاحظ أنه تعالى قال بعدها هذه الآية, وولدان جمع ولد وهم صغار السّن. فبعد وصف الآنية من الفضة ووصف السقاة وصفهم باللؤلؤ المنثور لأنهم سراع في الخدمة ومنثورين في كل مكان في حين لما أخبرنا تعالى عن الحور العين قال تعالى: (وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) الواقعة) وصفهم بأنهم لؤلؤ مكنون أي في أماكنهم مستورين مُصانين غير منثورين في كل مكان. وفي سورة الطور وصف تعالى الغلمان باللؤلؤ المكنون قال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)) فما السبب في ذلك؟ أولاً الوصف باللؤلؤ المكنون له جانبان: جانب الصون والحفظ باعتباره محفوظ في الصدف، وجانب آخر جانب الصفاء لأن اللؤلؤ أصفى وأنقى وأبيض ما يكون وهو في الصدف فإذا خرج من الصدف تغير لونه وقد يصبح أسود اللون خارج الصدف. فعندما يُقال مكنون يكون المقصود هذان الجانبان.
لكن يبقى السؤال لماذا جاء في سورة الطور لؤلؤ مكنون للغلمان؟
الفرق بين الآيتين أنه في آية سورة الإنسان قال تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)) لم يذكر (لهم) وإنما ذكر الولدان الذين يأتون بالأشياء كما يأمر الله تعالى أما في آية سورة الطور: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)) ذكر (لهم) بمعنى خاصّين بهم وليسوا عامّين كالذين ورد ذكرهم في آية سورة الإنسان، فأصبحوا مكنونين لأنهم أصبحوا في الأسرة والعائلة متخصصين في خدمتها. أي عائلة؟ إذا نظرنا إلى الآيات التي سبقت الآية المذكورة في الطور نجد قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)) فالكلام عن الأسرة وهذه الأسرة أصبح لها خصائص كذلك قوله تعالى: (ويطوف عليهم غلمان لهم) أي خاص بهم كأنهم لؤلؤ مكنون وسياق الآيات في سورة الطور فيه خصوصية شديدة للمؤمنين.
وقال تعالى: (إذا رأيتهم) وإذا كما نعلم في اللغة تدل على التحقيق والتيقّن وهي ليست من باب الإفتراض ولهذا لم يأت بـ (إن) أو (لو) لأن إذا كما قلنا تستخدم لتيقّن الحدث أو للدلالة على الحدث الكثير الوقوع ولهذا جاءت كل الآيات التي تتحدث عن أحداث يوم القيامة باستخدام (إذا) لأنها محققة الحصول . أما (إن) فهي تستخدم للأمر الإفتراضي كما في قوله تعالى (فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض) (وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً) و (إن كان للرحمن ولد) ليس موجوداُ أصلاً وإنما هو افتراض وبعيد الحصول. أما (لو) فتستخدم للتمني ولما هو أبعد (لو أنفقت ما في الأرض جميعا) وتأني في الأشياء المستحيلة وما هو أبعد من (إن) أصلاً.
وقوله تعالى: (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا) تدل على تحقق الرؤية. وكذلك قوله: (وإذا رأيت ثم رأيت) بمعنى إذا رأيت حيث وقفت هناك رؤية. ورأيت هنا وإن كان فعلاً متعدياً لكنه ليس بالضرورة ذكر المفعولين للفعل المتعدي وإنما يؤتى بالذي يناسب قصد المتكلم فأحياناً يستعمل الفعل امتعدي استعمال اللازم أو يتعدى الفعل بمفعول به واحد وقد لا يؤتى بالمفعولين والأمثلة في القرآن كثيرة منها قوله تعالى (فأما من أعطى واتقى) لم يذكر لمن أعطى وما أعطى، أو يأتي بمفول به واحد كما في قوله تعالى (حتى يُعطوا الجزية عن يد) لم يذكر لمن يعطوها ، وقوله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) لم يذكر ماذا يعطيه، وقد يُذكر المفعولين كما في قوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر). وهذ الإطلاق كم في قوله (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) وذكر المفعولين أو أحدهما أو عدم ذكرهما يكون بحسب ما يريد الكتكلم.
وقوله تعالى: (وإذا رأيت) بمعنى مطلق الرؤية ليس هناك شيء محدد أو مكان محدد أينما وقعت الرؤية وهذا من دلالة القدرة والنعيم الذي في الجنة لعباد الله المؤمنين.
وقوله تعالى: (إذا رأيتهم حسبتهم) قد يتساءل البعض أن كلمة حسبتهم بمعنى ظنّ وأن هناك تشابه في المعنى أو يحتملان دلالة قريبة كما في كلمتي النظر والرؤية. فنقول أن النظر قد لا يكون معه رؤية بمعنى تنظر إلى المكان سواء رأيته أم لم تره. والرؤية تفيد تحقق المرئي (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) لذا استخدم تعالى الفعل رأى هنا في الآية لتفيد تحقيق الرؤية.
س- ما الفرق بين ثُم وثمّ؟
ج- ثُم حرف عطف وثمّ إسم ظرف بمعنى هناك (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) الإنسان) لا تدخل حرف الجر على ثُمّ. ثُم حرف عطف لا يجوز إدخال حرف جر عليه.
آية (21):
قال تعالى: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21))
يقول المفسرون: إن عاليهم تعني فوقهم لكنها في الحقيقة لا تعني فوقهم لأن الفوقية لا تقتضي الملامسة فقد يكون الشيء ملامساً وقد لا يكون إذا كان فوقهم كما في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) الملك) وكذلك قوله: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154 النساء)) وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) ق) فوقهم هنا تُعرف بالظرف المُبهم الذي ليس له حدود مثل كلمة يمين لا حدود لها كل ما على يميني يمين. وعليه فإن كلمة عاليهم تفيد الملامسة وتعني يلبسونها.
وقوله تعالى: (وحُلّوا فيها أساور من فضة) هي مقابل ما ذكره للكافرين (سلاسل وأغلالاً وسعيرا) وهنا نسأل لماذا ذكر تعالى أساور من فضة هنا في سورة الإنسان بينما ذكر في مواضع أخرى في القرآن أساور من ذهب (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) الكهف) ومرة أساور من ذهب ولؤلؤ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) فاطر) قسم من المفسرين قال أنها تدل على المعاقبة أو الجمع أي مرة يلبسون ذهب ومرة فضة ومرة يجمعون بينها.
فلماذا جاءت ذكر اساور فضة في سورة الإنسان بينما جاءت من ذهب ولؤلؤا في سورة فاطر؟
يجب أن يكون هناك سبب لإختيار كل منها في السورة المناسبة وإذا نظرنا في سياق الآيات في سورة فاطر من قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35))
ففي سورة فاطر قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)) وفي سورة الإنسان قال سبحانه: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}) والأكيد أن الإنفاق سراً وعلانية هو أعم وأشمل من إطعام الطعام على حبه المسكين واليتيم والأسير.
ثم إن يتلون الكتاب ويقيمون الصلاة هي أرفع وأعلى من الوفاء بالنذر لأن النذر أصلاً مكروه شرعاً وفي الحديث: “النذر صدقة البخيل” فالأمو التي ورد ذكرها في فاطر هي أعم وأرفع وأعلى مما ورد في سورة الإنسان فتلاوة القرآن أوسع من إفامة الصلاة ولهذا قدّم التلاوة على الصلاة والإنفاق لأن الصلاة لا تصح إلا بتلاوة القرآن والتلاوة تكون في الصلاة وفي غير الصلاة.
ثم إن التلاوة والصلاة جاءت بصيغة المضارع بينما جاء الإنفاق بصيغة الماضي لتكرر التلاوة والصلاة أكثر من الإنفاق. فالوصف في سورة فاطر أعلى مما جاء في سورة الإنسان هذا أمر
والأمر الآخر أنه تعالى في سورة فاطر ذكر (يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) بينما قال في سورة الإنسان: (إن هذا كان لكم جزاء) ففي سورة فاطر توفية وزيادة وهما أعلى من الجزاء لذا ذكر الؤلؤ وهو الزيادة ، وكذلك في فاطر قال تعالى: (إنه غفور شكور) وفي الإنسان قال تعالى: (وكان سعيكم مشكورا) فزاد المفغرة على الشكر في سورة فاطر.
ثم ذكر في سورة فاطر: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا) باسناد الفعلين إلى نفسه تعالى وهذا في مقام التكريم ثم ذكر الإصطفاء بالذات وهو من باب التكريم أيضاً. اصطفاهم هذا تكريم والتكريم الآخر هو الإسناد في قوله (أورثناهم).
قسّم تعالى المصطفين إلى قسمين (مقتصد) و(سابق بالخيرات) ذكر السابقين وهم أعلى المكلفين فلا يناسب معهم أن يذكر الأساور من فضة لأنها قد تدل على أن الفضة للسابقين مه أنه يجب أن يتميزوا لأنهم أعلة المكلّفين ولهذا جاء بأساور من ذهب لؤلؤا ليتناسب مع المذكورين.
قوله تعالى في فاطر: (ويزيدهم من فضله) (وذلك هو الفضل الكبير) يناسب الزيادة أيضاً لأن هذا الفضل يقتضي الزيادة
ذكر المغفرة والشكر مرتين (إنه غفور شكور) و(إن ربنا لغفور شكور). من الناحية البلاغية، لمّا ذكر تعالى (يتلون كتاب الله) قال (إنه غفور شكور) بجون اللام ولمّا ذكر الظالم لنفسه والمقتصد ذكر أنهم يخلون الجنّات ذكر اللام في قوله: (إن ربنا لغفور شكور) لأنه هؤلاء محتاجون للمغفرة أكثر ولولا المغفرة لما دخلوا الجنة وهؤلاء أحوج إلى المغفرة من الأولين لذا أكد باللام (إن ربنا لغفور شكور) فالتأكيد جاء بحسب الحاجة إلى المغفرة.
قال تعالى في سورة الإنسان: (حُلّوا أساور من فضة) وفي فاطر (يحلون فيها من أساور من ذهب) فيها تكريم لأن (من) تفترض الكثرة لأنهم أعلى من المذكورين في سورة الإنسان لأنه عندما نقول لأحد مثلاً إلبس هذه الثياب أو البس من هذه الثياب بالتأكيد الثانية أوسع لأن له أن يختار من بين الثياب ما يشاء.
ثم قال تعالى: (حُلوا) بصيغة الماضي وفي سورة فاطر (يحلّون) بصيغة المضارع وفي الآيتين الفعل مبني للمجهول لكن في سورة الإنسان الإخبار بما هو حاصل أما في سورة فاطر فالإخبار بشيء لم يحدث بعد وفيه إخبارهم أنهم سيدخلون الجنة (يدخلون الجنة) لذا جاءت يُحلّون.
يبقى السؤال لماذا قال في سورة الإنسان (يُطاف عليهم ويُسقون ويطوف عليهم) بصيغة المضارع مع أنه قال (جزاهم وحّلوا) بصيغة الماضي وهذا للدلالة على تجدد الطواف والإستمرار فيه فهو لا ينقطع ولا يناسب أن يقول تعالى (طيف عليهم) لذا جاء بصيغة المضارع في الطواف والسقيا. وكذلك يلبسون ويحلون لأن التحلية هي من الحلي والتزيّن.
قال تعالى: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)
طهور هي صيغة مبالغة على وزن فعول بمعنى الطاهر والمطهِّر والمبالغة فيهما والعرب استعملت كلمة طهور للشيئين وطهور مشتقة بالأصل من الفعل الثلاثي طهُر.
الطاهر ليس بالضرورة مطهِّر فكثير من السوائل طاهرة لكنها ليست بالضرورة مطهِّرة. واستعمال طهور هنا مناسب لسياق الآيات وتشتمل المعاني كلها الطاهر والمطهر والمبالغة فيهما. والصيغ لها فروق بيانية فيما بينها مثل غفّار وغفور كلتاهما صيغة مبالغة وكذلك همّاز وهُمزة كلتاهما صيغة مبالغة لكنها ليست متساوية في الدلالة. والعرب كانت تتحدث هذه اللغة فاللسان عربي أصلاً لكن الناس يختلفون فيه فيكون بعضهم أبلغ من بعض ويختلفون في اختيار الكلمات والسياق والبلاغة وتنتهي قمة الإعجاز في القرآن الكريم.
س- لماذا استخدم كلمة (طهور) في الآية؟
ج- ذكر تعالى في الآيات السابقة من السورة: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)) و (وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)) و(وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) ذكر لنا تعالى ثلاثة أنواع من الشراب كل منها أعلى من الذي سبقها أولاً ذكر أنهم يشربون من كأس (كافورا) ثم في الثانية ذكر أنهم يُسقون كأساً (زنجبيلا) هنا الفعل مبني للمجهول وذكر الساقي (ولدان مخلدون) والآنية التي يُسقون فيها (آنية من فضة) ثم الثالثة ذكر تعاله أنه سقاهم ربهم وهذه أعلى الدرجات لم يثل يُسقون ولا يشربون وإنما سقاهم ربهم فهذا الشراب هو أفضل من السابقين لأنه أسنده تعالى إلى الربّ سبحانه وتعالى وهذه الآيات دلّت على أن الشراب أنواع مختلفة.
شراباً طهورا كلمة موجزة تحوي معاني كثيرة بينما وصف في الآيات السابقة ما يشربون فيه من آنية وصفاً دقيقاً ولم يذكر في هذا الوصف إلا (شراباً طهورا) وهذا يدل على أن الشيء عندما يكون فوق الوصف لا يذكر شيئاً ولا تستطيع اللغة ولا الوصف أن يعبروا عن هذا الأمر العظيم، كما ورد في سورة الرحمن (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)) وصف البطائن ولم يصف الظاهر ونقول إذا كانت البطائن من استبرق فكيف يكون الظاهر؟ لا يُتصور الظاهر ولهذا لم يُذكر لأنه ما من لغة أو وصف يمكن أن يعبر عما يوجد هناك من نعيم وسعادة مصداقاً لقوله تعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) السجدة). وكذلك عندما يصف لنا تعالى شجرة الزقوم (طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) الصافات) لم يراها أحد ولم ترد على ذهن الإنسان وكما أن في الجنة أمور لا يعلمها أحد كذلك في النار.
آية (22):
قال تعالى: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22))
س- لماذا تقديم (لكم) على جزاء في الآية؟
ج- قبل التقديم لما ذكر تعالى أن هؤلاء لا يريدون جزاء ولا شكورا (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)) جزاهم ربنا أحسن الجزاء وشكر لهم لذا قدّم (لكم) على جزاء فصار جزاء بالفعل وشكر باللسان.
كان يمكن القول (هذا كان جزاء لكم) لكن التقديم أفاد أن الجزاء مختص لكم لأن الجزاء في الآخرة مختص لكل واحد وإذا لاحظنا في القرآن كله قدّم الجار والمجرور للإختصاص لأنه اختصاص به وتعريض للآخرين من أهل النارفقال سبحانه: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) الفرقان) و (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37) سبأ) و (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)) إنما في الدنيا فليس بالضرورة التقديم وقد جاء في سورة القمر مثلاً (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)) لم يأتي التقديم هنا لأن الآية ليس فيها اختصاص والذي كُفر هو نوح (عليه السلام) لكن السفينة لم تحمله وحده وإنما كان معه من آمن معه والجزاء لهم أيضاً لذا أطلق ولم يُخصص فكما كان الجزاء لنوح (عليه السلام) كان للمؤمنين.
آية (23):
قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23))
لماذا جاء في الآية ثلاثة توكيدات بينما جاء في أول السورة توكيد واحد في قوله تعالى: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2))؟ في الآية (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23)) ذكر تعالى ثلاثة أمور ذكر المنزِّل (الله تعالى) وذكر المنزِّل (القرآن) والمنزِّل عليه (الرسول) وأكّد ثلاثة توكيدات (إنّا، نحن، والضمير المتصل في نزّلنا (نا) والسبب أن في الآية أول السورة أمر الخلق لم يُختلف فيه ذلك الإختلاف أي كون الله تعالى هو الخالق فهذا أمر لم ينكره كفار قريش بدليل قوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لقمان) و (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) الزمر) لكن مسألة التنزيل هي التي اختلفوا فيها وأنكروها أشد الإنكار فالتوكيد إذن يعتمد على شدة إنكار الشخص للأمر ولهذا يحتاج للتوكيد أكثر في حالة الإنكار الشديد لأن قريش لم يكونوا يُقرّون بأن الله تعالى نزّل القرآن وهذا يختلف تماماً عن قضية الخلق التي لم يكونوا ينكرونها أصلاً. والأمر الآخر أن التنزيل هو أهم من الخلق لأن الغاية من الخلق العبادة والغاية من التنزيل هو تنزيل كتاب العبادة التي يردها الله تعالى فالتنزيل هو القصد الأول في الخلق فهو أولى بالتوكيد. والتوكيد جاء كما يقتضيه السياق والمقام من جهة الأهمية والإختلاف والتنازع فيه.
وهذا التأكيد يذكرنا بسورة يس قال تعالى: (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)) وقد أكّد في هذه الآية مرتين مع أنه في الآية التي سبقت (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)) أكدّ مرة واحدة لأن الله تعالى أرسل لهم في البداية رسولين فكذبوهما ثم عزز بثالث فأنكروا إنكاراً أكبر لذا جاء التوكيد في الآية الثانية واقتضى أن يؤكد أكثر فصار التوكيد بالقسم لأن (ربنا يعلم) قسم في لغة العرب فلما ازداد الإنكار ازداد التوكيد.
قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا) في هذه الآية ذكر تعالى (عليك) وفي آية سورة الحجر قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) فما دلالة (عليك) في آية سورة الإنسان؟
لو نلاحظ ما جاء بعد هذه الآية لوجدنا أن الكلام موجه إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالأوامر والنواهي قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)) وهناك أمور تتعلق بالرسول المخاطب لذا استخدم (عليك). أما في آية سورة الحجر فلم يرد في الآيات التي سبقت أو تلت ما يتعلق بالرسول (صلى الله عليه وسلم) لكن الكلام متعلق بالقرآن (كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)) وكل الكلام عن الذكر وليس عن الرسول.
س- لماذا جاء ذكر كلمة (القرآن) في آية سورة الإنسان وكلمة (الذكر) في آية سورة الحجر؟
ج- اسم الكتاب المنزّل على الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو (القرآن) ولم يرد في سورة الإنسان له ذكر إلا في هذا الموضع وهذه الآية قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا)، أما في سورة الحجر فقد ورد ذكر القرآن والذكر والآية في سورة الحجر (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)) ثم قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)) فلمّا سماه كفار قريش ذكراً ردّ عليهم الله تعالى بكلمة (الذكر) ولهذا فهي أنسب للآية التي قبلها من استعمال كلمة القرآن رغم أنها وردت في سورة الحجر كثيراً.
آية (24):
قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24))
الآية التي قبلها قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا) ثم أمره بالصبر بعد ذكر تنزيل القرآن لأن التنزيل يستدعي الصبر لما فيه من قول ثقيل وأمور وتكاليف تستدعي الصبر قال تعالى: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) المزمّل) و (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) طه) ويحتاج أيضاً لصبر على الأذى لأنه سيؤذى بسببه لذا كان من المناسب بعدما ذكر تنزيل القرآن أن يذكر الصبر لأنه أمر يستدعي الصبر فقال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ).
دلالة كلمة (حكم): في اللغة قد يكون الحكم بمعنى الحكمة قال تعالى: (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) الشعراء) وقوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) مريم) أي الحكمة. وقد تأتي بمعنى القضاء أو الفصل (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) غافر) وهنا أمره بالصبر لهما معاً أي أن يصبر لحكمة أرادها الله تعالى ولحكم الله وقضائه لأن قضاءه له حكمة بمعنى اصبر لحكم الله وقضائه لحكمة أرادها الله تعالى وهذا ما يُسمى التوسع في المعنى.
قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا) ما دلالة استخدام كلمة آثم وكفور؟
الآثم هو الذي يرتكب الإثم والإثم قد يكون ظاهراً وباطناً بدليل قوله تعالى (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) الأنعام) أو من أعمال القلب أو أفعال الجوارح.
أما الكفور فهو المبالغ في الكفر وفيه دلالتان: الأولى نقيض الإيمان والثانية نقيض الشكر لذا قال تعالى في أول السورة (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)) والكفور المبالغ في الكفر بمعنى نقيض الإيمان هو الذي استعمل في القرآن (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) الحج) و (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) الزخرف) والمبالغ في جحد النعمة والكفر قد يكون باطناً أو جحود باللسان. وكل كفور آثم وليس كل آثم كفور. ولو قال كافر لنهى عن صنف واحد وليس عن الصنفين الذين تدلان علهما كلمة كفور.
س- سما دلالة استعمال (أو) ولم يأتي بواو العطف مثلاً؟
ج- لو جاء بالواو لجاز له أن يُطيع أحدهما إنما استعمال (أو) دلّت على الأمر بأن لا يطيع واحداً منهما على سبيل الجمع أو الإفراد. والآثم هو اسم فاعل والأثيم صفة مبالغة وفي هذه الآية أراد تعالى أن لا يطيع الآثم سواء بالغ في الإثم أو لم يبالغ فلو قال أثيم مثلاً لكان فُهِم أن النهي فقط عن إطاعة الأثيم ويحق له أن يطيع الآثم وأما استخدام كلمة أثيم فهي تدل على النهي عن إطاعة الآثم وهو أقل الدرجات فمن باب أولى أن لا نطيع الأثيم.
في سورة القلم قال تعالى: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)) باستخدام الأثيم لأنه لو لاحظنا ما ورد في السورة لوجدنا أن الله تعالى ذكر فيها كل صفات المبالغة (حلاّف، همّاز، مشّاء، مهين، منّاع للخير) (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)) فجو السورة جو مبالغة والأمر الآخر أن الذي يفعل كل هذه الأمور الذي سبقت ألا يكون أثيماً؟ بالطبع هو أثيم وليس آثم بل إن فعل كل واحدة من هذه الأفعال يجعله أثيماً وليس آثماً فكيف لو اجتمعت كل هذه الصفات في المعتدي فلا بد أن يكون أثيماً.
آية (25):
قال تعالى: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25))
علاقة الآية بما قبلها: أمر الله تعالى الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالذكر والتسبيح بعد الأمر بالصبر قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) والنهي عن طاعة الآثم والكفور قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا) أمره بالإكثار من الذكر. وفي القرآن نلاحظ أن الله تعالى يأمر بالإكثار من التسبيح والذكر في المواطن التي تحتاج إلى صبر وفي الأزمات قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الحجر) وأمره بالتسبيح في قوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) الأنفال) ومداومة التسبيح تفرّج الكروب كما جاء في قصة يونس وهو في بطن الحوت قال تعالى: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) الصافات) فالذي نجّى يونس من بطن الحوت هو مداومته على التسبيح قال تعالى: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)) والتسبيح وذكر الله هي أزكى الأعمال وأرفعها عند المليك. فهو ترتيب منطقي جداً بعدما تضيق الصدور والقلوب نذكر اسم ربنا.
آية (26):
قال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26))
س- لماذا قدّم الجار والمجرور على الفعل؟
ج- لأن التهجد شاق على النفس فقدّم الليل بما يقابل الشدة قال تعالى: (كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)) قدّم ما هو متعلق على الفعل، قال تعالى: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) السجدة) (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) الإسراء) أمورثقيلة وأجرها عظيم لذا قدّم (من الليل) على الفعل (فاسجد له). كما أن الترتيب يفيد علو منزلة السجود وتقديم الجارّ والمجرور سوّغ إدخال الفاء في قوله سبحانه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) ودلالة الفاء هنا أنها تفيد التأكيد على أي حال. وقد قال النحاة أن الفاء قد تكون إما جواب شرط مقدّر يعني مهما كان الأمر فاسجد له وهي دعوة للسجود مهما كان الأمر وقسم آخر يقول أن الفاء زائدة للتوكيد وفي كلتا الحالتين يكون التوكيد للسجود والدلالة على أهميته وعظمته وجاءت الواو قبلها أيضاً (ومن الليل فاسجد له) ولا يصح أن نقول (واسجد له من الليل) لأنها تفوت أهمية السجود (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) قريش) وقوله تعالى (وربّك فكبّر) فلا يصح التقديم بدون الفاء. أفاد التقديم الدلالة على أهمية السجود ومنزلته ويفيد الإهتمام لأن أصل التقديم يفيد الإهتمام وهو الذي يُسوّغ إدخال الفاء في كل أحوالها تدل على عظم منزلة السجود.
س- وعندما أوصى تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يقوم الليل قال تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) المزمل) هنا أخّر الليل كما يقتضي الترتيب النحوي فلماذا لم يأتي بمثل ما جاء في آية سورة الإنسان؟
ج- هذا الأمر في سورة المزمل جاء في أوائل الرسالة ثم لمّا اشتد الأمر أصبح فيه مشقة ويحتاج إلى صبر كما في سورة الإنسان وهذا في مرحلة متقدمة من الرسالة. والقرآن يبدأ شيئاً فشيئاً وكلمة تبتّل يفيد التدرج في العبادة وتبتّل تبتيلا، وتبتيل مصدر الفعل بتّل وهو دلالة على التكثير مثل جرّح تجريح وتجرّع فأمر الله تعالى رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يبدأ بالتدرج وينتهي بالكثرة.
آية (27):
قال تعالى: (إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27))
س- ما هي العاجلة؟ ولم قال ويذرون وراءهم مع أن اليوم أمامهم؟
ج- العاجلة هي الدنيا كما هو معروف يعيشون فيها ويتعجّلون أمرها. ويذرون وراءهم لأنهم نبذوه وراءهم لو عناه أمرهم لجعلوه أمامهم لكنهم تركوه وراءهم هكذا يقول قسم. وفي استعمال العرب لكلمة وراءهم يذكرون أنها تأتي بمعنى أمامهم كما في قوله تعالى: (من ورائه جهنم) بمعنى أمامهم، وقوله تعالى: (وكان وراءهم ملك) الخرق كان بعد أن ركبوا في السفينة ولو تركوه وراءهم لكانوا نجوا منه. وراءهم تستعمل لمن كان طالباً لك وهو أمامك كما نقول باللغة العامية (وراءك امتحان) ليست بمعنى خلفك لكنه يطلبك. إذن العرب تستعمل وراءك بمعنى أمامك إذا كان يطلبه.
فقوله تعالى: (ويذرون وراءهم) بمعنى تركوه وهو يطلبهم وليسوا بفارّين منه. واللمسة البيانية في النعبير بوراء بمعنى أمام لأن كلمة وراء فيها معنى الطلب كما يطلب الغريم غريمه (لا مفر منه طالباً له).
س- في سورة القيامة قال تعالى (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) القيامة) فذكر العاجلة وذكر (وتذرون الآخرة) فلماذا قال في سورة الإنسان يوماً ثقيلاً وفي القيامة قال الأخرة؟
ج- أولاً العاجلة خي نفسها في الآيتين بمعنى الدنيا. أما بالنسبة لاستعمال (يوماً ثقيلا) في سورة الإنسان فلأنه تكرر ذكر اليوم من بداية السورة قال تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)) و(إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)) و(فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)) فالكلام في السورة عن اليوم الذي هو يوم القيامة وهو اليوم الثقيل ثم عندما ينصرف أهل الجنة إلى الجنة لا يكون ثقيلا،. أما الآخرة فهي أعمّ من اليوم.
في سورة القيامة جاءت الآيات بالخطاب المباشر قال تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) القيامة) أما في سورة الإنسان فجاءت الآيات باستعمال ضمير الغائب (ويذرون وراءهم) لأن المقام في سورة الإنسان لا يناسب الخطاب المباشر ولا يصحلأنه ذكر أن قسماً ممن ذُكروا في السورة لم يذروا الآخرة قال تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)) و (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)) وقد وقاهم الله شر ذلك اليوم قال تعالى: (فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)) فلا يصح إذن الخطاب فكيف يخاطبهم أجمعين وقسم منهم يفعل الخير حتى يقيهم الله شر ذلك اليوم فالخطاب لا يناسب.
آية (28):
قال تعالى: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28))
علاقة هذه الآية بما قبلها: قال تعالى في هذه الآية (نحن خلقناهم) وفي الآية السابقة قال تعالى (إنا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلا) وهذا يدل على أن الذي خلقهم وشد أسرهم (نحن) هو الذي أنزل عليهم القرآن (نحن) فينبغي لهم أن يسمعوا لكلام خالقهم ويطيعوا تنزيله فكأن الآية التي سبقت هي مقدمة لهم بأن يسمعوا ما أُنزل على الرسول (صلى الله عليه وسلم).
س- لماذا تقديم ضمير المتكلم (نحن) عن الفعل (خلقناهم)؟
ج- التقديم له أكثر من سبب وإن كان يجمعها الإهتمام لكن مداراته مختلفة. وهنا تقديم المعمول على العامل (نحن: مبتدأ) و(خلقناهم: خبر) وفي هذه الحالة الخبر جملة فعلية وهذا يفيد القصر في الغالب بمعنى لأنه لم تكن هناك جهة أخرى خلقت أو تشاركه سبحانه في الخلق فهو وحده سبحانه متفرّد بالخلق (بمعنى نحن خلقناهم حصراً) وكذلك قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا عليك القرآن) تفيد الحصر. فالذي خلقهم حصراً هو الذي نزّل القرآن حصراً فعليهم أن يطيعوه.
أوجه التقديم: يجمع التقديم تحت عبارة: كأنما يقدمون الذي هم ببيانه
وقد يقدّم الأفضل وقد يقدّم المفضول حسب السياق وقد يقدّم كلمة على أخرى في مكان ويؤخرها نفسها في مكان آخر ولكلٍ مقامه في البلاغة.
وشددنا أسرهم: بمعنى أحكمنا خلقهم أي أحكمنا توصيل مفاصلهم وأحكمناها وثبتناها (أي إحكام الربط). والأسر هي المفاصل والعظام وما إلى ذلك. فهو الذي أحكم خلقهم وشد أسرهم وقد قال تعالى في آية أخرى (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وهذا من تمام النعمة على الإنسان ومن تمام النعمة أن يطيعوه، فالخلق نعمة وشد الأسر نعمة وهو القادر أن يفعل ما يشاء قال تعالى: (وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا).
س- لماذا جاء قوله (وشددنا أسرهم)؟ ألا يمكن أن يقال نحن خلقناهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم؟
ج- نحن خلقناهم هذا أمر وشددنا أسرهم هذا أمر آخر بعد الخلق وهي نعمة أخرى بعد الخلق ولو لم يقلها للأُغفلت نعمة من نعم الله تعالى. فهو تعالى جعلهم أقوياء وهذه نعمة وليس فقط الخلق هو النعمة. مثل قوله تعالى: (هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة) فهناك عدة أمور بعد الخلق ومن إتمام النعمة أن يشد أسرهم فيكونوا أقوياء وخلفاء في الأرض.
س- القرآن كثيراً ما يستعمل الفعل (شدّ) ومضاعفاته مثال قوله تعالى (واشدد به أزري) فهل للفعل شدّ دلالة خاصة في اللغة؟
ج- شدّ في اللغة بمعنى ربط وأحكم وأوثق وشدّ. وشدّ مضعّف والتضعيف في الغالب فيه قوة وشدّ فعل ثلاثي ليس مزيداً لكن من الناحية الصوتية تجعل حرف في حرف فتعطيه قوة.
س- في أول السورة قال تعالى (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) وفي هذه الآية قال تعالى (نحن خلقناهم) فلماذا التوكيد بـ (إن) في الأولى؟
ج- في اول السورة أكّد بـ(إن) وهنا لم يؤكّد لأنه في أول السورة تحدث عن خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئاً مذكورا وهي أصعب من الخلق من أب وأم ثم يضع فيه القابلية على التوالد (وهذه هي البداية) وهي أصعب مما بعدها (نحن خلقناهم) فهذه تأتي من سلسلة الآباء من الأبناء. هذا أمر والأمر الآخر كونه خلقهم أمر غير منازع فيه عند كفار قريش وكثير من الكفار لو سألتهم من خلقهم ليقولون الله. لكنهم ينازعون في أن الخلق لم يكن ثم كان بمعنى أنه ليس له بداية كما يقول الفلاسفة والدهريون وينسبون الخلق إلى سلسلة الوجود ليس له بداية فينكرون قال تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر). فالذي ينازع فيه الفلاسفة إذن هو كون هناك بداية للمخلوقات والخلق (سؤالهم هل هناك بداية؟) وعليه احتاج الأمر إلى توكيد في الآية أول السورة قال تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج). وهناك أمر آخر قوله تعالى (نبتليه) ذكر تعالى أن الخلق الأول للإبتلاء وهذا أيضاً أمر منازع فيه وكفّار قريش كانوا ينكرون هذا ويقولون هل خلق الله الإنسان ليبتليه ثم يحاسبه؟ قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) سبأ) وكثير من الناس ينكرون هذا الأمر أيضاً حتى لو اعتقدوا فعلاً أن الله هو خالقهم. ونلاحظ من كل ما ذكرنا أن الآية في أول السورة احتاجت إلى توكيد فجاء بـ (إن) في قوله تعالى: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) وهو الخلق الأول والبداية وخُلق للإبتلاء وكلها تقتضي التوكيد بخلاف الآية الثانية (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم).
قال تعالى: (وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا)
جاء هنا بـ (إذا) دون (إن) وكما سبق وذكرنا في حلقات سابقة أن استعمال (إذا) يكون للقطع لكثير الوقوع وللمتيقن وقوعه بخلاف (إن) التي تستعمل إذا كان هناك احتمال للوقوع أو المشكوك في وقوعه. واستعمال (إذا) هنا يدل على أن الله تعالى سيبدّل أمثالهم ويأتي بأناس مؤمنين مكانهم فالمشيئة حاصلة وقد تمّت.
آية (29):
قال تعالى: (إنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29))
باختصار هذه الآية هي نظير قوله تعالى (إنا هديناه السبيل) فالتخيير هنا كالتخيير هناك. فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا مكان شاكراً ومن لم يفعل ذلك يكون كفورا
آية (30):
قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30))
إن مشيئتكم واختياركم كان بمشيئة الله تعالى ولو لم يرد الله تعالى ذلك لما أعطى هذا الإختيار.
آية (31):
قال تعالى: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31))
س- ما دلالة هذه الآية وربما يكون هناك من لا يستحق رحمة الله تعالى؟
ج- ذكر تعالى أمرين يرفعان هذا الإحتمال: الأمر الأول أنه قال الله تعالى قبل هذه الآية: (إن الله كان عليماً حكيما) يفعل ذلك لعلمٍ وحكمة ولا يفعل سبحانه إلا لحكمة. ومعناها أنه لا يُدخل في رحمته إلا من علم سبحانه أنه يستحق. والأمر الآخر قال بعدها: (والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليما) استثنى سبحانه من دخول رحمته الظالمين. فقوله تعالى يُدخل من يشاء في رحمته استثنى الظالمون ولا يُدخل سبحانه إلا من يستحق واقتضاه العلم والحِكمة.
س- لماذا جاءت كلمة الظالمين منصوبة؟
ج- هذا يسموه الإشتغال في باب النحو. وكلمة الظالمين مفعول به مقدّم لفعل إما أن يكون من نفس الفعل أو أن يكون بمعناه كأن نقول مثلاً زيداً سلّمت عليه بمعنى حييت زيداً سلّمت عليه لأن فعل سلّم لا ينصب مفعولاً به. وكذلك قوله تعالى السماء رفعها بمعنى رفع السماء رفعها. فإذا كان الفعل يصحّ أن يتسلّط على الأول يُقدّر نفسه وإذا كان لا يصحّ يقدّر ما هو قريب منه. فالنصب هنا من باب الإشتغال وله أغراض عديدة وربما نُفرد له حلقة خاصة لاحقاً.
س- يقول تعالى في أول السورة: (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيرا) وفي هذه الآية قال تعالى: (والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليما) فهل هذا يدل على أن العذاب الأول أشد من الثاني؟
ج- في الآية الآولى قال تعالى (للكافرين) وهنا قال (للظالمين) وليس بالضرورة أن يكون الظالم كافراً، فكل كافر ظالم وليس بالضرورة أن يكون الظالم كافراً. قال الله تعالى (والكافرون هم الظالمون) إذن قطعاً لا بد أن يكون العذاب الأول أشدّ لأنه ذكر الكافرين صراحة وهنا عمّم صراحة فقال الظالمين فمنهم الكافر فيشمله الأول ومنهم من هو غير الكافر فيشمله العذاب الخاص به. والظلم في القرآن جاء في موضع الشرك (إن الشرك لظلمٌ عظيم) والظلم في القرآن قد يكون حتى في الأشياء الخفيفة كما قال الله تعالى (ربنا ظلمنا أنفسنا) و (رب إني ظلمت نفسي) فالظلم يأتي من أشياء قليلة وقد يصل إلى الشرك الأكبر. وكل مشرك ظالم لكن ليس كل ظالم كافر ولهذا اختلف العذاب حسب الدرجة.
س- قال تعالى: (يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) الإنسان) وفي سورة الفتح (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) الفتح) ما دلالة تأخير وتقديم المشيئة؟
ج- الآية الأولى في سورة الإنسان قال تعالى: (يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)) والثانية في سورة الفتح (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)). السياق في سورة الإنسان في غير المرحومين قال تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)) (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)) إلى أن يقول: (يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)) لما كان السياق في غير المرحومين أخّر الرحمة. والسياق في سورة الفتح في المرحومين وفي الكلام عن الله (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)) الكلام عن الله (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)) الكلام في الصحابة (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)) هذا الكلام في المرحومين، فلما كان الكلام في المرحومين قدّم رحمته (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء (25)) ولما كان السياق في غير المرحومين أخّر رحمته. (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ (28)) هذا الكلام عن الله فقدّم ما يتعلق بالله والضمير يعود إليه. من حيث البلاغة ليس (يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ (31)) كمثل (لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء (25)) كل تقديم وتأخير له غرض عند المتكلم البليغ، عندما يتكلم عن الله (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)) قدّم ضميره، ولما كان الكلام على الإنسان قدّم ما يتعلق بالإنسان من يشاء الإنسان (يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ (31)) المشيئة لله لكن (من) للإنسان. كأننا نفهمها يُدخل الإنسانَ الذي يشاؤه الله تعالى. الكلام (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ) فقدّم ما يتعلق به وهناك يتكلم عن الإنسان غير المرحومين فأخّر الرحمة وعندما تكلم عن المرحومين قدّم الرحمة، الكلام عن الله قدّم ما يتعلق به، الكلام عن الإنسان قدّم ما يتعلق بالإنسان.
آية (31):
س- ما التوجيه الإعرابي لكلمة (والظالمين) في الآية (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) الإنسان)؟
ج- (د.حسام النعيمى): الواو ليست للعطف وإلا لعطف الظالمين على الذين يدخلهم تعالى في رحمته وليست للإستئناف.
هذا يسمونه باب الإشتغال. في الإشتغال الواو هنا واو عاطفة جملة على جملة أو إستئنافية يعني تقدير الكلام: وأعدّ للظالمين عذاباً أو أُذكر الظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً. فهو باب في النحو يسمى باب الإشتغال كأنه تعالى عاقب الظالمين لأنه لما يكون الإشتغال بحرف جرّ يأتون بالمعنى. هنا الإشتغال بحرف جر (والظالمين أعدّ لهم). لما نقول: زيدٌ أكرمته: الفعل أكرم يتعدّى، تقول أكرمت زيداً (زيداً مفعول به) ولك أن تقدّمه للإهتمام فتقول: زيداً أكرمت فيكون مفعول به مقدّم، لكن لما تقول: زيداً أكرمته (أكرم) أخذ الهاء فمن الذي نصب زيداً؟ قالوا هنا الفعل إشتغل بنصب ضميره عن نصبه. كيف نعرب زيداً؟ قالوا فيها شتى الأقوال ولكن أفضل الأقوال في الدراسة الحديثة هو ما ذهب إليه الدكتور فاضل السامرائي في كتابه معاني النحو يقول نعرب زيداً إسم منصوب على الإشتغال وكفى. لا نقول هناك فعل محذوف. هنا (والظالمين أعدّ لهم) لأن هذا إشتغل عن طريق حرف الجر (لهم) فتُأوّل عند ذلك من معناها يعني (عذّب الظالمين أو عاقب الظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً) يقدّر فعل. أما على رأي الدكتور فاضل (والظالمين) إسم منصوب على الإشتغال وإنتهى. مثل زيداً مررت به كأنه المقصود: جاوزت زيداً مررت به لكن من أين جئنا بفعل جاوزت؟ قُل منصوب على الإشتغال وإنتهى الأمر. النحو علمٌ نضج وإحترق فلا يبعد أن يكون أحد العلماء القدامى قال مثل هذا الكلام الذي قاله الدكتور فاضل لكن إلى الآن فالدكتور فاضل هو الذي قال هذا الكلام. (والظالمين) منصوب على الإشتغال وليس معطوفاً على مرفوع.