سورة العصر
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))
موقع السورة في سياقها في القرآن الكريم:
هذه السورة وقعت بين خُسرين الخسر الأول الذين ألهاهم التكاثر قبلها، هؤلاء في خُسر حتى زاروا المقابر والخُسر الآخر في سورة الهمزة الذي جمع مالاً وعدده حتى نبذ في الحُطمة. الخُسر الأول رؤية الجحيم (لترون الجحيم) والخُسر الآخر النبذ في الحطمة (كلا لينبذن في الحطمة) إذن هذه وقعت بين خسرين أقسم على أن الإنسان في خسر إلا من استثناهم ربنا والسورة وقعت بين خُسرين خُسر الذين ألهاه التكاثر حتى زار المقابر وخُسر الذي جمع مالاً وعدده حتى نبذ في الحطمة. ثم هذا هو الترتيب الطبيعي بحسب السبق يعني رؤية الجحيم قبل الدخول، يراها ثم يدخل فذكر رؤية الجحيم في سورة التكاثر ثم ذكر نبذه في الحطمة في سورة الهمزة، إذن أول مرة رأى ثم نُبذ وهذا ترتيب طبيعي بحسب السبق. والطريف أن سورة التكاثر التي رأى فيها الجحيم سُبقت بسورة القارعة التي يكون فيها الناس كالفراش المبثوث هذه قبل الرؤية قبل رؤية الجحيم، إذن ترتيبها أنهم كانوا كالفراش المبثوث ثم رأوا الجحيم ثم نبذوا في الحطمة. في القارعة يكون الناس كالفراش المبثوث ثم رؤية الجحيم ثم النبذ في الحطمة فهي إذن مرتبة ترتيباً بحسب السبق. ووقعت سورة العصر بين خسرين الخسر المذكور وخسر قبلها وخسر بعدها وهذا تناسب غريب.
س- ما دلالة القسم بالعصر تحديداً في هذه السورة؟
ج- من معاني العصر الدهر (العصور) هذا لغة، وربنا أقسم بالدهر لأنه الشاهد على ما أقسم عليه (إن الإنسان لفي خسر) والدهر هو أكبر شاهد، العصر هو أكبر شاهد على ما أقسم عليه وهو أن الإنسان لفي خسر إلا هؤلاء منهم من هلك ومنهم من قُتِل ومنهم من عُذّب والذي أحيا حياً من الناس ولم يؤمن كان خاسراً في عموم الحياة إلا هؤلاء. فإن شئتم أن تعلموا ذلك فاسألوا الدهر لأنه خير شاهد على ما أقسمت عليه. العصر هو الشاهد على أن الإنسان في خسر إلا هؤلاء الأصناف فلا شك أن الدهر والزمن والتاريخ هو شاهد دقيق على ما أصاب الإنسان غير المؤمن.
يمكن أن يقال لماذا لم يقسم بوقت آخر كالفجر أو الضحى في هذه السورة مع أنه أقسم بها في مواطن أخرى؟ لأنه لو أقسم بها لم تكن مرحلة للإستشهاد. الفجر ليس هنالك مرحلة للإستشهاد فالناس ما زالوا في أول الزمن ليس هنالك شاهد أما العصر يعني مرّ فترة طويلة وقيل أنها وقت صلاة العصر وهذا من معانيها. من معانيها الدهر ومن معانيها وقت صلاة العصر والمعنيين مرادان في السورة، صلاة العصر بحد ذاتها أي إنسان الآن من الصباح إلى المساء هناك وقت كافي لتعرف حقيقته الناس من أول الدهر إلى زمن العصر والرسول (صلى الله عليه وسلم) كما في الحديث بُعث من العصر إلى المغرب فإذن هذه مدة كافية للإستشهاد فيها ووقع فيها من أحداث أي هي مدة كافية للاستشهاد أما الفجر والناس لم يستيقظوا فكيف يكون استشهاد وكيف يكون دليلاً على الاستشهاد بأنهم في خسر ليست هنالك مدة كافية تدل على الاستشهاد ولو قال الضحى أيضاً نفس الشيء لم تكن هنالك مدة كافية للاستشهاد، الفجر أول النهار والضحى بدايته، كذلك المغرب، المغرب غروب الشمس إذن غروب الحياة وزوال الدنيا فما الفائدة من الاستشهاد؟ لقد غربت الدنيا وذهبت والناس ذهبوا إلى الحساب فما الفائدة من الاستشهاد؟ لذلك أنسب وقت للقسم والاستدلال هو العصر مدة كافية من أول النهار إلى ما قبل الغروب مدة كافية للاستشهاد والدلالة على ما يفعله الإنسان في هذا العمر الطويل والملاحظ أنه إذا ذكر الأقوان بعد القسم بالأوقات يناسب بين القوم وما يُقسم به. مثلاً قال (والفجر) لما ذكر الفجر قال (ألم تر كيف فعل ربك بعاد) وعاد من أوائل الدنيا بعد نوح. لما أقسم بالضحى (والشمس وضحاها) قال (كذبت ثمود بطغواها) لأن ثمود بعد عاد والضحى بعد الفجر. هنالك مناسبة بين القسم بالوقت وبين الأقوام فإذا ذكر الأقوام فهي مناسبة للوقت الذي يقسم به كمحطة في تاريخ البشرية كلها. فإذن العصر بمعنى الدهر وبمعنى وقت صلاة العصر وكلاهما مراد لأن العصر هو أحسن شاهد على الإنسان وما أحدث فيه من خسران.
س- قال تعالى (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) مرة يستخدم خُسر ومرة خسران ومرة خسار فما دلالة خسر هنا؟
ج- أولاً لم يقل إن الإنسان خاسر قال إن الإنسان لفي خسر يعني ساقط في الخسر إلا من استثناهم ربنا. لفي خسر أي ساقط في الخُسر إلا من استثناهم ربنا. إذن هو في حياته ساقط في الخُسر لم يخسر في مسألة تجارة وإنما هو في حياته كلها ساقط في الخُسر إلا من استثناهم ربنا. الخُسر يستعمل لعموم الخسارة أو مطلق الخسارة فكل إنسان هو في خُسر قليل أو كثير إلا من اتصف بأربع صفات: من نقص من ذلك أصابه من الخُسر بمقدار ما نقص يعني من نقص من عمل صالح يصيبه من الخُسر بمقدار ما نقص لذلك يوم القيامة كل إنسان يلوم نفسه كان يمكن أن يستزيد من شيء ولم يفعل، كل مؤمن يرى أنه خسر شيئاً كان يمكن أن يستزيد منه ولم يستزيد. هذا الخُسر، أما الخسار فلم يستعمله القرآن إلا للزيادة في الخسارة، إذا كان واحد خاسر وزاد في الخسارة يسمى خسار لذلك لم يستعمل القرآن هذه الزيادة يسميها خسار يعني ما زاد من الخسر فوق الخسارة هذه الزيادة يسميها خسار (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا (82) الإسراء) الظالمين خسارة فيزيدهم القرآن خساراً، الظالم خاسر ويزيده خساراً. (وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) فاطر) يزيد، هذه زيادة إذن يستعملها في الزيادة فقط (وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) نوح) يستعمل الخسار في الزيادة في الخسارة. أما الخرسان فهو أكبر الخسارة وأعظمها (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) الحج) لم يخسر شيئاً بسيطاً أو زيادة إنما خسر الدنيا والآخرة (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) الزمر) إذن الخسر مطلق الخسارة والخسار هو الزيادة في الخسارة والخسران أعظم الخسارة. الخسار زيادة الألف على الخُسر لما زاد في الخسار زاد الألف ولما زاد الخسران زاد الألف والنون. إذن الخسر هو البداية والخسار فوقها والخسران أعظم الخسارة، يزيد في المصدر للزيادة في الخسارة. هذا استعمال قرآني ولهذا تحداهم به.
س- استثنى الله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) فما هي اللمسات البيانية في هذه الآية؟
ج- ذكر نوعين: تكميل النفس وهو:(الذين آمنوا وعملوا الصالحات)وتكميل الغير وهو:(وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) إذن نوعين من الأعمال الصالحة تكميل النفس بالإيمان والعمل الصالح وتكميل الغير بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر. الإنسان ليس فقط يكون صابراً وإنما يتواصى لبناء المجتمع، يوصي بعضهم بعضاً ليس فقط أن يكون على الحق وإنما أن يكون على الحق ويوصي به وأن يكون صابراً ويوصي به وتواصوا بالصبر بعد التواصي بالحق لأن التواصي بالحق أحياناً يولد مشاكل لأن الحق مر فقد يغضب من توصيه بالحق فيحتاج إلى صبر، ينبغي أن يصبر الموصي يصبر على أذى الآخرين، الصبر على الحق والصبر عن الشهوات والصبر على الطاعات والصبر على أذى الآخرين والصبر على الابتلاء وهو أطلق الصبر في الآية لم يقل الصبر على كذا. وتواصوا بالصبر عموماً لكن مجيئه بعد التواصي بالحق لأن التواصي بالحق قد يؤدي إلى الأذى وقد يؤدي الهلكة إذا وصيت ظالماً قد يؤذيك وقد يقتلك فهذا يحتاج إلى صبر. إذن التواصي بالحق يحتاج إلى تواصي بالصبر والتواصي بالصبر مطلق تواصي بالصبر على الحق، على الطاعات، على الإيمان، على العمل الصالح، عن الشهوات والمعاصي، على المصائب والبلايا التي تقع عليه من موت ومرض هذا كله يحتاج إلى صبر. ثم التواصي فيها معنى المشاركة التواصي أي يوصي بعضهم بعضاًً وهذه فيها مشاركة لبناء المجتمع، كل يوصي بما يعلم لا بما يجهل على بصير يوصي بذلك وكلٌ يوصي بما يعلم بالحق والصبر.
ثم هنالك أمر:(إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) كان يمكن أن يقال وتواصوا بالحق والصبر أو تواصوا بالحق وبالصبر لكنه قال وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر بتكرار الفعل وحرف الجر لأهمية كل واحد منهما وهذه أعلى الاهتمامات. هذه آكد من تواصوا بالحق والصبر وآكد من تواصوا بالحق وبالصبر (ذكر الباء ولم يذكر الفعل) فهذه المرحلة آكد (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) هذه آكد حالة. هذا ليس مجرد تكرار في القرآن وإنما يحمل دلالة مؤكدة.
س- في آية سورة العصر ذكر التواصي وفي موطن آخر في سورة التين لم يذكر التواصي: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فما دلالة هذا؟
ج- في سورة التين فيما ينجي من دركات النار فقال سبحانه: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ (6)) هذا يكفي للخروج من دركات النار. هذا الحد الأدنى الذي يخرجه من دركات النار ويدخله الجنة لكن لا ينجيه من خُسر.كان ممكن أن يحصل عليه أكثر. هذا إن ترك شيئاً خسر شيئاً قطعاً إن ترك التواصي بالحق أو خسر التواصي بالصبر خسر شيئاً فالتواصي فيه حسنة إذن تركه فيه خُسر. في سورة التين ذكر الحد الأدنى الذي ينجيه من النار ويدخله الجنة، ما الذي ينجي من أسفل سافلين؟ الإيمان والعمل الصالح فليس هناك حاجة للتواصي.
س- في العصر (وتواصوا بالحق) على ماذا هي معطوفة؟
ج- معطوفة على الصلة وهذه كلها من الصلة، صلة الموصول:(آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).
س- سورة العصر: (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)) ثم يستثني (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)) بالجمع وليس بالإفراد لم يقل إلا الذي آمن؟
ج- الإنسان جنس وليس المقصود به واحد من الأفراد، لا يعني به شخصاً واحداً معيناً, وإنما هو اسم جنس والجنس عام يشمل الكثير وليس واحداً وإنما يدل على عموم الجنس ولا يقصد شخصاً معيناً. عندنا أل الجنسية وأل العهدية، تقول اشتريت الكتاب. (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ (7) السجدة) لا تعني واحداً، الإنسان يشمل الجنس كله تقتطع منه من تشاء وما تشاء فالذين آمنوا هذا مستثنى من الجنس الذي هو أكثر من هؤلاء. (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) هود) الذين شقوا جنس وليس واحداً لذا قال (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)) (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا (108))، الخلق هكذا منهم أشقياء ومنهم سعداء هو أراد الجنس والجنس أعم من الجمع وقد يكون الجمع مجموعة من الجنس فالرجال مجموعة من جنس البشر لذا الجنس أعم ولذلك عندنا استغراق الجنس. لذا لما قال الذين آمنوا هم مجموعة من الجنس وهناك آخرون. وقال:(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) التواصي أكثر من واحد وإلا كيف يتواصى؟ إذن لما قال:(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا من الجنس وعندما قال:(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) يقتضي أن يكون هنالك أكثر من واحد. إذن الإنسان اسم جنس يدل على الجمع وهو أعمّ. حتى في النحو لما تأتي بلا النافية للجنس عندما تقول لا رجل أوسع من لا رجال، عندما يقول لا رجال نفى الجمع لكنه لم ينف المفرد والمثنى لكن لما نقول لا رجل نفى الجمع والمفرد والمثنى، لا رجل نفى الجنس كله لا واحد ولا اثنان ولا أكثر وإنما مطلقة.