*ما الفرق بين(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴿191﴾ البقرة)و(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴿217﴾ البقرة)؟(د.أحمد الكبيسى)
قال تعالى:(وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴿191﴾ البقرة) وفي آية أخرى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴿217﴾ البقرة). كلنا نعرف أن القتل من الجرائم العظيمة والأحاديث في ذلك مخيفة جداً (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة الدماء).
تصور لو أن رجلاً كما وقع في التاريخ المعاصر قتل مدينة كاملة فيها ملايين، كما هو في هيروشيما وناكازاكي والخ والبقية تأتي. كيف يمكن أن تتخيل عقابه يوم القيامة؟ لا بد أن يكون عقابه كبيراً من حيث الكمّ وشديداً من حيث الكيف، هذا الفرق بين (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴿217﴾ البقرة) حجماً (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴿191﴾ البقرة) كيفاً أنت قد تعذب واحد بالضرب مليون سنة هذا كبير، ولكنه ليس شديداً، وقد تعذبه مليون سنة بالخوازيق والنار والأفاعي والعقارب وأنواع الحريق الخ هذا شديد. إذاً بقدر ما أن القتل سواء كان لفردٍ واحد (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) بحيث لو اجتمعت مدينة كاملة على قتل رجلٌ واحد لكان ينبغي أن يقتل رجال هذه المدينة بالكامل، كل من اشترك في قتله. تأمل هذا، تأمل هذه الأحاديث الواردة في هذا الباب أنه لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل بغير حق لأكبهم الله في النار، من أجل قتل واحد، هذا القتل يهون إلى جانب الفتنة.
عندنا بلاء وعندنا فتنة، وهذان أسلوبان من أساليب تمحيص الإيمان (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ﴿31﴾ محمد) (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴿2﴾ العنكبوت) فامتحان الإيمان إما ببلاء تكرهه نفسك، وإما بفتنة تحبها نفسك.
قد يمحص إيمانك بما تكرهه مرض، سرطان، ظلم، عمى، فقر شديد، يعني أنواع الأشياء المكروهة كل هذا ابتلاء لكي الله رب العالمين يعلمك أن تشكر وتصبر أو تكفر، وهذا دأبنا جميعاً، كلنا نصاب ببلاء تكرهه أنفسنا من فقر أو مرضٍ أو سجنٍ أو ما شاكل ذلك، فمنا من يصبر صبراً مطلقاً، ومنا من يصبر صبرا نسبياً، ومنا من لا يصبر ويجزع، هذا عن البلاء فيما تكرهه نفسك.
أما الفتنة فيما تحبه نفسك من النِعم فقد كنت فقيراً فصرت غنياً جداً، هل ستستعمل هذه النعمة في شكر الله في الصالحات وتعين الناس؟ أو سوف يدعوك هذا إلى التكبر والطغيان والجبروت؟
صرت ملكاً أو أميراً أو شيخاً أو رئيس جمهورية أو ما شاكل ذلك بعد أن كنت مغموراً، هل هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك ستستعملها في طاعته بالعدل والرحمة والشفقة وإحقاق الحق أو بالقتل والظلم والتعذيب في السجون وما إلى ذلك؟
العلم، الأولاد (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ﴿14﴾ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿15﴾ القلم) .
هكذا الفرق بين الفتنة والبلاء أن البلاء فيما تكرهه نفسك، والفتنة فيما تحبه نفسك، وفي كلتا الحالتين أنت ممتحن. بل أن النعم أحياناً أقسى من النقم، أحياناً تصبر على البلاء، سجنت وعذبت وضربت وافتقرت فصبرت، ولكن عندما أصابتك النعمة لم تصبر، طغيت، صار عندك مال ونفوذ وحكم.
نشهد طبقات من الناس تكافح حاكماً ظالماً، أحزابا وجماعات يسجنون، تقطع أوصالهم بالتعذيب الذي فاحت روائحه، فيصبرون يخرجون من السجن أبطالاً، وقد صبروا على أنواع التعذيب اللامحدود، ثم قفزوا إلى الحكم وإذا بهم أسوأ من ذلك الظالم ألف مليون مرة، يعني لما أصابهم البلاء صبروا، ولما أصابتهم النعمة لم يصبروا، أشبعوا الناس ظلماً وقهراً وسرقات وفسادا كما يحدث في بعض دول العالم الآن.
هذا هو الفرق إذاً بين الفتنة وبين البلاء، كيف تكون الفتنة أكبر من القتل؟ الفتنة أكبر من من القتل بكثير؛ لأنها تمتد قروناً من العداوة والبغضاء، مثل الأوس والخزرج دامت الحرب بينهما مائة وعشرين عاماً، فلما جاء الإسلام وحّد بينهم (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿63﴾ الأنفال) إذاً قد يصطلح المحاربون بعد حرب دامت قرناً. وحينئذٍ فالفتنة أكثر لأنها تدوم قروناً طويلة، فالقتل يزول، والفتنة لا تزول.

اترك تعليقاً