آية (48):
*د.حسام النعيمى:
هذه الآية الأولى هي قول الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أو نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47)) إذن الكلام هنا موجّه لأهل الكتاب ونشدد على كلمة (مصدقاً)، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيماًً (48)) ختام هذه الآية (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيماً)، الآية 116 (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا). في الآية الأولى قال: فقد افترى إثماً عظيماً وفي الثانية: فقد ضل ضلالاً بعيداً، لماذا انتهت الآية الأولى هكذا ولماذا انتهت الآية الثانية هكذا؟
معنى الشِرك بالله سبحانه وتعالى:
قبل أن نجيب على هذا السؤال يجب أن نوضح مسألة (ومن يشرك بالله) لأنه عندنا حديث أحب أن يسمعه المشاهدون ونقلت الحديث من “الترغيب والترهيب”: ” قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقام إليه عبد الله بن حزن وقيس بن المضارب فقالا: والله لتخرجن مما قلت أو لنأتينّ عمر مأذون لنا أو غير مأذون، قال: بل أخرج مما قلت، خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل. فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم. ” (رواه الإمام أحمد والطبراني ورجاله ثُقاة). فإذن عندنا هذه العبارة، عندما يقول (ومن يشرك بالله) لأن علماءنا تكلموا في هذا المجال حتى قالوا أنه من مراتب الشرك أن تقول: وحياتك، وحياتي، وحياة فلان، وحقّ فلان، وهذا دراج عند الناس الآن، العلماء المتخصصون يقولون إشارة إلى الحديث الصحيح أنه لا يجوز القسم بغير الله سبحانه وتعالى “من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت” لكن في تصرفات الإنسان، في أقواله أحياناً قد يقع في هذا الذي هو أخفى من دبيب النمل، حتى إن بعضهم تصرف فيه فقال هو أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء. فكيف نخرج منه؟ كيف يعافينا الله سبحانه وتعالى من هذا؟
علّمنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الدعاء : “اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم” الإنسان يلوذ بالله سبحانه وتعالى، يلجأ إليه سبحانه وتعالى، (اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه) لا نريد أن نرتكب شركاً ونحن نعلم أنه شِرك، (ونستغفرك لما لا نعلمه) قد نرتكب شيئاً يدخل في هذا الباب ونحن لا نعلمه فنحن نستغفر الله سبحانه وتعالى منه لأن الله تبارك وتعالى أخذ على نفسه عادة قال: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) حتى هذه المغفرة الثانية علّقها بالمشيئة. فمسألة الشِرك مسألة عظيمة جداً ولذلك حذّر منها علماؤنا كثيراً ولا نريد أن نتوسع في هذا الأمر وهذا المقدار يكفي وعلى المسلم أن يفتش عن أسباب الشِرك ويُنجي نفسه منها، من الاستعانة بغير الله، سؤال غير الله سبحانه وتعالى فيما لا يملكه إلا الله عز وجل، السؤال من المقبورين والطلب منهم عند الأضرحة فيحذر المسلم لأن هذا يحبط العمل والعياذ بالله سبحانه وتعالى. نحن إذا جاءت فرصة لتنبيه المشاهد على قضية جوهرية لا نتركها.
فإذن لما كان الكلام مع أهل الكتاب وأهل الكتاب كانوا يستفتحون على المشركين أن هناك نبي قد أظل زمانه وسيظهر هذا النبي، كانوا يعلمون أنه سيظهر نبي فلما ظهر الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانوا يتوقعون أنه يظهر من أبناء يعقوب (أي من بني إسرائيل) فلما ظهر من أبناء إسماعيل أنكروا مع علمهم اليقين أنه هذا هو النبي الخاتم، مع أنهم يعلمون ذلك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم) يعني الكلام الذي معكم مما هو حق هذا الذي نزّلناه هو مصدق لما معكم (مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أو نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً) تهديد رهيب. (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) هذا العمل الذي تقومون به من إنكار نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) ومما حرفتم من كتابكم ومما ألقيتم من صفات الألوهية على أنبيائكم كل هذا يدخل في إطار واحد هو إطار الشِرك واعلموا أن الله سبحانه وتعالى لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) الافتراء هو خَلْقُ الكذب، هو يصنع الكذب ليس مجرد يكذب وإنما أشار إلى أنه يخلق خلقاً جديداً هو الكذب. لأن الافتراء هو خلق ونلاحظ الافتراء يقابله التصديق، لما ذكر التصديق (مصدقاً لما معكم) هذا القرآن هو صدق ومصدق يقابله شرككم الذي هو افترائكم للكذب. وتكررت الآية الكريمة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا (50)) كرر مسألة الافتراء والكذب فمناسب جداً هنا الكلام على إفتراء الكذب من لدن هؤلاء.
لما جاء إلى الآية 116، هناك قلنا ذكر التصديق فذكر في ما يقابله افتراء الكذب، في هذه الآية (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (116)) نجد أن الكلام ليس مع أهل الكتاب وإنما الكلام مع مشركي العرب فالجهة اختلفت والعلماء يقولون الجهة منفكة، هذه جهة وهذه جهة، الكلام كان مع أهل الكتاب الذين يقرأون والذين عندهم صفات الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان بصورة معينة. الآن الكلام مع مشركي العرب.