آية (56):
*ما الفرق بين قوله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) القصص) و (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) الشورى)؟(د.حسامالنعيمى)
الإشكال الذي قد يتبارد إلى ذهن بعض القراء لكتاب الله سبحانه وتعالى متأتٍ من اختلاط معنى كلمة الهداية فيقول لك: مرة يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله (صلى الله عليه وسلم)(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)وفي موضع آخر يقول (وكذلك أوحينا لك وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم). هنا (إنك لتهتدي) بالتأكيد بـ (إنّ) والتأكيد باللام (لام المزحلقة). لام المزحلقة هو مصطلح نحوي: هي لام التوكيد المفروض أن تكون في البداية لكن لما جاءت (إنّ) المفروض أن تقول: زيدٌ مجتهدٌ، لزيدٌ مجتهد هذا للتوكيد، تأتي (إنّ) لا يجتمع المؤكدان في مكان واحد، (إنّ) أقوى لأنها حرف مشبه بالفعل فتُزحلق اللام إلى الخبر فيقال: إن زيداً لمجتهدٌ. هي لام ابتداء فزُحلِقت.
هناك توكيد، هنا: (إنك لا تهدي من أحببت) لما ننظر في الآيات التي تحيط بهذه الآية: الكلام على حال الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يرغب ويحرص على إسلام قومه، على إيمان قومه، وهو بذل معهم جهداً عظيماً في دعوتهم فهم قوم الإنسان حبيبون إلى قلبه فما بالك إذا كان هذا الإنسان هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ علاقة حبٍ بينه وبين كل الكون. فلما ننظر في الآيات نجد أن الكلام على قومه. تقدّم الكلام على أهل الكتاب (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون (54)) أهل الكتاب إذا دخلوا في الإسلام يؤتون أجرهم مرتين،، (وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)) هنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) يتشوق إلى إسلام قومه من غير أهل الكتاب فيقال له – وهي كأنها لمسة حنان لقلب الرسول (صلى الله عليه وسلم)- (إنك لا تهدي من أحببت) يعني ليس من شأنك أو من دأبك، أو من مهمتك أنك تهدي من تحب، أنت تحب قومك لكن فعل الهداية هذا ليس من صلاحياتك. (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)) إذن هذا الكلام على قومه (صلى الله عليه وسلم) الذين مكّن لهم الله سبحانه وتعالى حرماً آمناً، هم أهل مكة فهو حريص عليهم. إذن فمن أين جاء هذا التفريق لا تهدي ولتهدي بالتأكيد؟. يقول علماء اللغة أصل معنى الهدى الإرشاد والبيان والتوجيه. هذا الأصل، لذلك لما أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يورّي، لما شوهد هو والرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: هادٍ ليهدني الطريق، ففُهِم منه أنه مرشد للطريق هذا، يرشده للطريق. لكن الاستعمال أعطى اللفظة أكثر من معنى، يتبين هذا المعنى الخاص في كل مرة من خلال نسق العبارة، من خلال سياقها، فقالوا إذن الهدى هُديان: هدى بمعنى الإرشاد والبيان وهذا مستعمل في القرآن الكريم (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) فصلت) معناه هنا الهدى البيان أي بينا لهم طريق الحق، طريق الخير ومع ذلك استحبوا العمى على الهدى. الله سبحانه وتعالى إذا هدى إنساناً إلى الإيمان لا يتحوّل فإذن المراد بهديناهم هنا بيّنا لهم الطريق. هذا المعنى هو الذي استعمل في قوله (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) أنت تبيّن للناس طريق الشريعة وطريق الهداية، مهمتك البيان والإرشاد (وإنك لتهدي). والمعنى الثاني للهداية هو إيصال الهدى إلى القلب بمعنى إيصال الإيمان إلى القلب. وإيصال الإيمان إلى القلب لا يملكه أحد سوى الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى جاء (إنك لا تهدي من أحببت) بمعنى أنك لا تستطيع أن توصل ثمرة الإرشاد الذي هو الإيمان إلى قلوب الناس، وإنما هذا من فعل الله سبحانه وتعالى (ولكن الله يهدي من يشاء) الإيصال لله. إذن صار للهدى معنيان: المعنى الأول هو الإرشاد، والإرشاد هو مهمة الرسول (صلى الله عليه وسلم)واستعمل بهذا المعنى في آية أخرى كما قلنا (أما ثمود فهديناهم) أي أرشدناهم، و (وهديناه النجدين) وضحنا له الطريقين، أرشدناه إلى الطريقين. (إنك لتهدي) أي إنك لترشد إلى طريق الهداية، هذا جزء من مهمته بل هو أهم مهمة من مهمات الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو الإرشاد والبيان. المعنى الآخر هو إيصال الهداية إلى القلب بحيث ينبني عليها الإيمان، هذا لا يملكه بشر بل لا يملكه مخلوق وهذا المقصود من قوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت) إنك تحب أن توصل الإيمان إلى القلب لكن هذا ليس لك والذي لك هو مجرد البيان والإرشاد فليس هناك تعارض.
هناك شيء (إنك لا تهدي من أحببت) ما قال: إنك لن تهدي. لو قال إنك لن تهدي أولاً يكون المعنى للمستقبل (يمكن أن تهدي الآن أو أنك هديت) هذا أمر والأمر الآخر لما يقول (إنك لا تهدي) هذا بيان لحقيقته، لصفته، بينما لما يقول : إنك لن تهدي يدفع الفعل للاستقبال فقط. هو لا يريد أن يدفعه للاستقبال فقط وإنما يريد أن يبين حقيقة. عندما يريد أن يبين حقيقة يستعمل (لا) (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) لا يقول لن يصلح عمل المفسدين لأنها مستقبل لكن لما يقول (لا يصلح) لأن هذا فعل الله عز وجل في الماضي والحاضر والمستقبل. هذه حقيقة يعني إذا أراد أن يعبر عن حقيقة شيء، لما نقول هذه حقيقة يعني حقيقة ثابتة تشمل الماضي والحاضر والمستقبل (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ما قال لن يصلح صحيح (لن) فيها معنى التأكيد لكن (لا) هنا أثمر لأنها تثمر النفي في الماضي والحاضر والمستقبل، لأنها تبين حقيقة، فكذلك هنا (إنك لا تهدي من أحببت) يعني ليس من حقيقتك، ليس من شأنك أن توصل الهداية إلى قلوب الناس فيؤمنون.
ما قال لن تهدي كما قال (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) لأن هذه غير. فإن لم تفعلوا هنا نفى عنهم الفعل في الماضي لأن طولبتم بهذا، كانوا مطالبين (لن تفعل) للماضي لأن (لم) حرف جزم ونفي وقلب، لما نقول لم يكتب نفيت عنه الكتابة وجزمت الفعل من حيث النحو ومن حيث المعنى هو الجزم يعني مؤكد وقلب يعني تقلب معنى الفعل الحاضر إلى الماضي. (فإن لم تفعلوا) يعني ما فعلتم (ولن تفعلوا) في المستقبل لا يكون منكم هذا الفعل لأنهم كانوا طولبوا. أما في الآية فالرسول (صلى الله عليه وسلم) ليس هناك مطالبة أنه هدى في الماضي أو ما هدى فنفاه على الحقيقة كما قال (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) و (إن الله لا يغير ما بقوم) هذه حقيقة ليست في الماضي ولا المضارع ولا المستقبل وإنما حقيقة. دلالة (لا) مع المضارع دلالة على حقيقة الشيء ولما نقول حقيقة الشيء أي هو هكذا، وجوده هكذا، فيشمل الماضي والحاضر والمستقبل.
مجيء (لا) هنا فيها فائدتين ولم يقل (لن) مع أن (لن) فيها معنى التأكيد، والزمخشري نُقِل عنه أنه قال التأبيد.
سؤال: (ولكن الله يهدي من يشاء) المشيئة على من تعود؟
الأمر ليس بالصعوبة التي يتصورها الناس ونعيد ما قلناه قديماً: نقول الله سبحانه وتعالى مالك الملك فإذا فعل شيئاً في ملكه لا يُسأل، هو يتصرف في ملكه فلا تسأله عما يفعل في ملكه جلّت قدرته. هذا المبدأ الأول، والأمر الآخر أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يشاء إضلال كل من خلق ولا يُسأل وقادر على هداية كل من خلق ولا يُسأل وقادر على أن يمنح من خلق حرية الاختيار أن تكون لهم مشيئة. نحن من أين نعلم أننا من أي صنف؟ ممن شاء الله سبحانه وتعالى لنا أن نضل أو ممن شاء الله لنا أن نهتدي أو ممن شاء الله لنا أن نكون مختارين؟ لا ندري. لكن إرسال الرسل ومجيء الكتب معهم والتذكير والتنبيه والإلحاح في طلب الهداية معناه أنه أنت في الخانة التي هي ضمن مشيئة الله عز وجل في أنك ستختار. لنتصور أن هناك ثلاث خانات: خانة للمهتدين وهم الملائكة، وخانة للضالين وهم الشياطين، وخانة شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعلهم هنا (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) إلا أن يشاء الله لك أن تكون ذا مشيئة، يضعك في الخانة الوسط فإذا كنت في الخانة الوسط لا تعتقد أنك تتصرف من غير إرادة الله سبحانه وتعالى إنما أنت تقدِّم. الإنسان يقدم أسباب الضلال وقد يحجبه الله سبحانه وتعالى عن الوصول إلى نهاية الضلال – له ذلك سبحانه – يقدم أسباب الهداية وقد يحجبه الله عز وجل عن الوصول إلى نهاية الهداية، لا يُسأل، فمن هنا يأتي ربط المشيئة كاملة بالله سبحانه وتعالى لكن الإنسان مطالب بأن يقدم أسباب الهداية ويتشبث بالخضوع لله سبحانه وتعالى أن يوفقه للوصول إلى آخر طريق الهداية. ولذلك (ولكن الله يهدي من يشاء) يشاء هنا تحتمل المعنيين: المعنى الأول الذي يمضي في مشيئته نحو الهداية والمعنى الآخر الذي يشاء الله سبحانه وتعالى له أن يصل إلى نهاية طريق الهداية حتى لا ننفصل عن قدرة الله عز وجل وعن الخضوع لله سبحانه وتعالى والإنسان يقول أنا اهتديت بنفسي، كلا. أنت قدمت أسباب الهداية لكن ما كان لك أن تصل لولا مشيئة الله سبحانه وتعالى لكن لا تتوقع أن تقدم أسباب الضلال وتصل إلى نهاية الهداية. الشيء الطبيعي أن الإنسان إذا اتخذ أسباب الضلال سيصل إلى نهاية الضلال وإذا اتخذ أسباب الهداية سيصل إلى نهاية الهداية بتوفيق الله سبحانه وتعالى ومن هنا نفهم (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (79) النساء) لأنك في الحالين قدمت الأسباب لكن ما كنت تستطيع أن تصل إلى نهاية الخير لولا مشيئة الله سبحانه وتعالى. هذه صورة موجزة مختصرة ميسّرة.