آية (60):
*ما الفرق من الناحية البيانية بين (انفجرت) في سورة البقرة، و(انبجست) في سورة الأعراف في قصة موسى؟(د.فاضل السامرائى)
جاء في سورة البقرة (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60}) وجاء في سورة الأعراف (‏ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ {160}).
والسؤال: ماذا حدث فعلاً هل انفجرت أو انبجست؟ والجواب: كلاهما، وحسب ما يقوله المفسرون فإن العيون انفجرت أولاً بالماء الكثير، ثم قلّ الماء بمعاصيهم.
وفي سياق الآيات في سورة البقرة الذي حفل بالثناء والمدح والتفضّل على بني إسرائيل جاء بالكلمة التي تدل على الكثير، فجاءت كلمة (انفجرت).
أما في سورة الأعراف فالسياق في ذمّ بني إسرائيل، فذكر معها الانبجاس، وهو أقلّ من الانفجار، وهذا أمرٌ مشاهد، فالعيون والآبار لا تبقى على حالة واحدة، فقد تجفّ العيون والآبار، فذكر الانفجار في موطن، والانبجاس في موطن آخر، وكلا المشهدين حصل بالفعل.
إذا لاحظنا سياق الآيات في سورة البقرة (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ {59} وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {60})
أما سياق الآيات في سورة الأعراف (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {161}).
يمكن ملاحظة اختلافات كثيرة في اختيار ألفاظ معينة في كل من السورتين ونلخّص هذا فيما يأتي:

سورة البقرة سورة الأعراف
سياق الآيات والكلام هو تكريم بني إسرائيل، فذكر أموراً كثيرة في مقام التفضيل والتكرّم والتفضّل (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ {49} وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ {50}) و (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ {47}). السياق في ذكر ذنوبهم ومعاصيهم، والمقام مقام تقريع وتأنيب لبني إسرائيل (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ {138}) والفاء هنا تفيد المباشرة، أي بمجرد أن أنجاهم الله تعالى من الغرق أتوا على قوم يعبدون الأصنام، فسألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً مثل هؤلاء القوم.
قوم موسى استسقوه، فأوحى إليه ربه بضرب الحجر (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ)، وفيها تكريم لنبيّ الله موسى (عليه السلام) واستجابة الله لدعائه. والإيحاء أن الضرب المباشر كان من الله تعالى. فموسى هو الذي استسقى لقومه (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ).
(كلوا واشربوا) والشرب يحتاج إلى ماء أكثر، لذا انفجر الماء من الحجر في السياق الذي يتطلب الماء الكثير. (كلوا من طيبات ما رزقناكم) لم يذكر الشرب فجاء باللفظ الذي يدل على الماء الأقلّ (انبجست).
جعل الأكل عقب الدخول وهذا من مقام النعمة والتكريم (ادخلوا هذه القرية فكلوا) الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. لم يرد ذكر الأكل بعد دخول القرية مباشرة، وإنما أمرهم بالسكن أولاً، ثم الأكل (اسكنوا هذه القرية وكلوا).
(رغداً) تذكير بالنعم، وهم يستحقون رغد العيش كما يدلّ سياق الآيات. لم يذكر رغداً؛ لأنهم لا يستحقون رغد العيش مع ذكر معاصيهم.
(وادخلوا الباب سجّداً وقولوا حطة) بُديء به في مقام التكريم، وتقديم السجود أمر مناسب للأمر بالصلاة الذي جاء في سياق السورة (وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ {43})، والسجود هو من أشرف العبادات. (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً) لم يبدأ بالسجود هنا؛ لأن السجود هو أقرب ما يكون العبد لربه، وهم في السياق هنا مبعدون عن ربهم لمعاصيهم.
(نغفر لكم خطاياكم) الخطايا جمع كثرة، وإذا غفرت الخطايا، فقد غفرت الخطيئات قطعاً، وهذا يتناسب مع مقام التكريم الذي جاء في السورة. (نغفر لكم خطيئاتكم)، وخطيئات جمع قلّة، وجاء هنا في مقام التأنيب، وهو يتناسب مع مقام التأنيب والذّم في السورة.
(وسنزيد المحسنين) إضافة الواو هنا تدل على الإهتمام والتنويع؛ ولذلك تأتي الواو في موطن التفضّل وذكر النعم. (سنزيد المحسنين) لم ترد الواو هنا؛ لأن المقام ليس فيه تكريم ونعم وتفضّل.
(فبدّل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم). (الذين ظلموا منهم) هم بعض ممن جاء ذكرهم في أول الآيات.
(فأنزلنا على الذين ظلموا). (فأرسلنا ) أرسلنا في العقوبة أشدّ من أنزلنا، وقد تردد الإرسال في السورة 30 مرة، أما في البقرة فتكرر 17 مرة.
(بما كانوا يفسقون). (بما كانوا يظلمون)، والظلم أشدّ لأنه يتعلّق بالضير.
(فانفجرت) جاءت هنا في مقام التكريم والتفضّل، وهي دلالة على أن العيون بدأت بالإنفجار بالماء الشديد فجاء بحالة الكثرة مع التنعيم. (فانبجست) في مقام التقريع قلّ الماء بمعاصيهم، فناسب ذكر حالة قلّة الماء مع تقريعهم.
*هل خروج الماء كان كثيراً أو قليلاً؟(د.فاضل السامرائى)
خروج الماء كان كثيراً في البداية، لكنه قلّ بسبب معاصيهم، وليس في هذا تعارض كما يظن البعض، لكنه ذكر الحالة بحسب الموقف الذي هم فيه حين كان فيهم صلاح، فقال: انفجرت، ولما كثرت معاصيهم قال انبجست.
نلاحظ أنه قال مرة (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ (60) البقرة) فموسى هو الذي استسقى، وقال مرة (إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ (160) الأعراف) طلبوا منه السقيا، فأيها أجدر بالإجابة أكثر، أن يستقي النبي، أو يستسقي القوم ؟
حين قال استسقى موسى قال انفجرت، وحين قال استسقاه قومه قال انبجست، وهي كلها صحيحة، وتفيد خروج اثنتي عشرة عيناً.
قال تعالى (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ (60) البقرة) ولم يقلها حين قال انبجست، وإنما قال فقط كلوا (كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ (160) الأعراف) فاشربوا يحتاج إلى ماء كثير، والماء الكثير يأتي مع الأكل والشرب، فمع الأكل والشرب قال انفجرت، ولما لم يذكر الشرب قال انبجست.
*هذه قضية يستعصي على الكثير فهمها، فما الموقف الذي حصل بالضبط؟(د.فاضل السامرائى)
(وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً) ومن ناحية اللغة، أُمر موسى بضرب الحجر، ولم تذكر الآية أن موسى ضرب، ففي الكلام حذف، وهو مفهوم.
كذلك قال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا) فلم يقل أيضا ضرب، ومعنى ذلك أن هنالك جُمَلا تُختزل بحسب الحالة مثل (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) الفرقان) وكذلك في النمل (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)) إذًا هناك اختزال.
أولا قال انفجرت، ثم عصوا ربهم فانبجست، وهذا الأمر في القرآن كثير.

اترك تعليقاً