*ما وجه الإختلاف من الناحية البيانية بين آية 62 في سورة البقرة وآية 69 في سورة المائدة؟
د.حسام النعيمى :
الآية الكريمة في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) ذكر الذين هادوا ثم قال النصارى ثم قال الصابئين. في الحج (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)) وفي المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)). في آية البقرة سنجد أن الكلام هنا عن مصائب بني إسرائيل والجرائم التي ارتكبوها: فعلتم كذا، وكذا، وتقتلون النبيين بغير الحق بحيث إن القارئ أو الذي يسمع يدخل في روعه أن هؤلاء لا يمكن أن يرحمهم الله تعالى، فجاءت هذه الآية خلال الكلام عن مصائبهم ومشاكلهم لتبين أن باب التوبة وباب اللجوء إلى الإسلام مفتوح أمامهم، ولذلك قال (فلهم أجرهم) هنا ذكر الأجر، فلما كان الكلام عن أجر الأمم ذكر المؤمنين أولاً وذكر الذين هادوا ثم ذكر النصارى الذين يلونهم، ثم الصابئون الذين يلونهم؛ لأن في الصابئين قولان: فمنهم من يقول هم فريق من النصارى صبأوا، ومنهم من يقول هو قوم جاءوا بعد المسيح، فدرّجها تدريجاً تاريخياً.
أما في سورة الحج، فكان المقصود إظهار التأكيد على أن الذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا يفصل بينهم الله يوم القيامة. وكلمة الذين هادوا لا يظهر إعرابها لأن (الذين) مبنية، والنصارى لا يظهر عليها الإعراب، والآية تريد أن تبين التوكيد فجعلت الصابئين بين الذين هادوا والنصارى؛ لأن الإعراب ظاهر فيها حتى يُعلم أن التوكيد هنا مراد، والتوكيد ظاهر في استعمال (إنّ) في ثلاثة مواضع (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)) من أين عرفناها؟ عرفناها من قوله (الصابئين) لأنها جاءت منصوبة، والنصارى أيضاً، حتى نفهم أن هذا الموضع موضع توكيد بإنّ. وضع الصابئين بين اسمين لا يظهر الإعراب فيهما، والعمل نفسه كُرّر في حالة الرفع (والصابئون) ليُعلم أن الذين هادوا والنصارى في موضع رفع، وسبق أن تكلمنا عنها (الصابئون والصابئين): والآية تقسم الناس إلى قسمين (الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) و (الذين هادوا والنصارى والصابئين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) بشرط الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح وفق دين الإسلام بعد أن نزل الإسلام.
في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62))
الاسم ورد في ثلاثة مواضع: الصابئون والصابئين: في موضعين جاء منصوباً وفي موضع جاء مرفوعاً.
إعراب (إن الذين آمنوا): إن: حرف مشبه بالفعل، الذي اسمها في موضع نصب، آمنوا: صلة الموصول. الواو هنا استئنافية أو عاطفة لجملة، وخبر إن محذوف سيدل عليه ما سيأتي تقديره في الكلام: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ابتدأ كلاماً آخر معطوفا على الكلام السابق (والذين هادوا والصابئين والنصارى) الذين: مبتدأ في محل رفع خبره (من آمن بالله واليوم الآخر فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، جملتا الشرط والجواب يعني: الذين هادوا هذا حكمهم (من آمن بالله واليوم الآخر) هذه جملة خبر المبتدأ، فماذا عندي؟ عندي مبتدأ حُذِف خبره لدلالة ما بعده عليه (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وجاءت الواو لتعطف الجملة الجديدة المكونة من مبتدأ ومعطوفات على المبتدأ وجملة خبرية. الذين وحدها مبتدأ، و (هادوا) في موضع رفع، وهذه معطوفة على المرفوعات، وهذا شبيه تماماً بقول بِشر (إننا وأنتم بغاة) إذ أخبر عن أنتم بقوله بغاة ولو كانت الواو عاطفة على مفرد لما استطاع أن يقول أنتم.
الآية في سورة المائدة:الكلام عن اليهود والنصارى، مرة يذكر اليهود ومرة يذكر النصارى ثم يتكلم عن دعوتهم أن يدخلوا في الاسلام، ثم يقول (إن الذين آمنوا والذين هادوا). نأتي الى التطبيق: (إن الذين آمنوا) الذي: اسم موصول مبني في محل نصب، ولم تظهر علامة النصب على الكلميتن، آمنوا: صلة الموصول لا محل لها من الإعراب، الواو في كلمة(والذين هادوا) الواو عاطفة لجملة على جملة. أوضح الأمر أكثر: الذين آمنوا لا يحتاجون إلى أن يقال لهم (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا) هذا القيد ليس لمن آمن بمحمد (صلى الله عليه وسلم) لأن الأمر أمر دعوة. حين يقول (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)) هذا تبليغ ثم يقول (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)) المفسرون يقولون: ما أنزل إليكم هو الاسلام الذي أنزل إليكم، وينبغي أن تتبعوه. الذين آمنوا يعني المسلمين، والمسلمون لا يحتاج إلى أن يقيدهم ويقول (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا).
تقدير الكلام في غير القرآن: إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هذا فريق، والذين هادوا والصابئون والنصارى بقيد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ما هو القيد؟ أن يكونوا مؤمنين (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا). أن يكونوا مؤمنين حتى يكونوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لذا نقول: ينبغي أن يرتبط الكلام بكلام العربي، إن هناك حذفا يدل عليه المذكور. الذين آمنوا شيء، وهؤلاء شيء آخر، الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون إذا التزموا بهذا القيد الذي هو (مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا).
(والذين هادوا): الواو عاطفة للجملة. الذين: مبتدأ، هادوا: صلة الموصول لا محل لها من الاعراب، الصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: جملتا الشرط والجواب خبر للذين هادوا والجملة كلها معطوفة على الجملة الأولى، فنحن عندنا جملتان تماماً، كقول الشاعر (إنا وأنتم بغاة) والتقدير: إنا بغاة وأنتم بغاة، لكن حذف من الأولى للدلالة في الثانية كقول القائل: خليليَّ هل طبٌ فإني (تقديره: إني دنف) وأنتما دنفان. وبهذا فـ(الذين هادوا): الذين صارت في محل رفع، ودليل كونها مرفوعة، أن الصابئون جاءت مرفوعة، وهنا عطف مفردات (الذين هادوا والصابئون والنصارى) فالذين هادوا مبتدأ بدليل رفع الصابئون.
حتى هذا الذي يتحدث ويقول القرآن فيه غلط في الإعراب هو يجهل العربية أو يتجاهلها، والله تعالى يقول (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) لو لم يكن قلبه مقفلاً لتفهمها.
في العصر العباسي لما شاعت الفلسفة، اعترض أحدهم على جزئية، فقال له أحد العلماء: يا هذا هب أن محمداً ليس نبياً أفتنكر أنه كان عربياً؟ يعني افرض أنه لم يكن نبياً، فهوعربي، أفتعترض على لغة العربي؟
الآن أحدث النظريات اللسانية (النظرية التوليدية التوحيدية) تقول أن ابن اللغة لديه الكفاية اللغوية في أن يدرك ما يوافق لغته وما لا يوافقها، يستطيع أن يقول هذه جملة لاحنة، وهذه جملة صواب من غير دراسة. وإنما أعني بابن اللغة الذي لم يدرسها. أنت الآن إذا قلت لبائع مصري أعطني كيلوين خيارا، يزن لك كيلو واحدا، لأنه تعود أن يقول في لغته 2 كيلو. لم يؤثر – مع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) كل الآسئلة التي سُئلها، وكل الحركات التي تحركها، وكل الأقوال التي قالها، في فراش نومه، إلى ساحة المعركة، وما بينهما سُجّلت – ولم يسجّل أن أحداً اعترض لم رُفِعت هنا، ولم نصبت؛ هنا لأنهم كانوا يدركون ذلك.
في سورة الحج: المجال في سورة المائدة مجال دعوة، وفي مجال الدعوة: الذين آمنوا صنف، وهؤلاء المدعون صنف آخر. في الحج الكلام عن الفصل يوم القيامة، فإذا كان عندك مجموعات تريد أن تفصل بينهم – ولله المثل الأعلى – ستجعلهم كتلة واحدة، وتجمعهم جمعاً واحداً، ثم تفصل بينهم .
لاحظ الآيات في سورة الحج: لم تتكلم عن اليهود والنصارى، وإنما تحدثت عن مطلق الايمان والكفر والحساب يوم القيامة، لذلك ذكرهم أولاً بالتأكيد، ثم جمعهم جميعاً حتى يأتي جملة يفصل بينهم. لاحظ الآية: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)) إذن هنا لا مجال ولا معنى لفصل المؤمنين؛ لأن الفصل سيكون يوم القيامة، كيف يفصل بينهم؟ أنت كيف تفصل بين المتلازمات؟ لا بد أن تكون متلازمة، تجمعها أولا ثم تفصل بينها. فلما جاء الى ذكر الفصل جمعهم، وجعل العطف عطفاً طبيعياً (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) حتى يظهر أن الكلام في محل نصب.
في المائدة: إن الذين آمنوا لهم حكم، وهؤلاء لهم حكم مقيّد إذا فعلوه سينحازون الى الإيمان والإسلام، لكن هنا ليس هناك كلام عن الإيمان أو غيره، وإنما الكلام عن الفصل، كيف يفصل؟ لا بد أن يجمعهم أولاً ثم يفصل.
آية البقرة: ممكن أن تُحمل على الوجهين. أولاً: آية المائدة تكلمت عن اليهود والنصارى، وفي الحج لم يذكر يهودا ولا نصارى أو أي شيء، أما هنا في البقرة فذكر اليهود فقط، وتكلم فيهم كلاماً يوحي لمن يقرؤه أن هؤلاء ليس لهم شفاعة ولا يمكن أن يكونوا على خير مطلقاً.
وحين نأتي الى الآيات نجد في هذه المواطن تجميعا لمصائبهم وما صنعوا (وإذ فرقنا بكم البحر، وإذ واعدنا موسى، ثم اتخذتم العجل، لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، لن نصبر على طعام واحد، فبدل الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) تكاد تقول: هل لهؤلاء من منجاة؟ هل لهؤلاء من مخلص؟ لما كان هذا حالهم جاءت الآية في وسط الكلام عليهم كأنما تريد أن تبين أن هناك بابا مفتوحا لهم ولغيرهم للولوج فيه، والدخول في هذا الدين. خلال الكلام في الآيات التي قبلها (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)) ثم يعود إليهم مباشرة (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)) الكلام هل هؤلاء لهم مخرج؟ عند ذلك ذكر (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) هناك لم يذكر الأجر، وهنا تحدث عن الأجر؛ لأن الكلام عن اليهود وحدهم، حتى يعلم الانسان أن هؤلاء وغيرهم لهم منجاة ،ولهم منفذ، والمنفذ هو الايمان بالله واليوم الآخر، عند ذلك يكون لهم أجرهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الفارق (إن الذين آمنوا) يحسن فيها أن نحملها على وجهين: إما أن تقول كما قلنا في المرة الأولى (إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ثم جاء المعطوف منصوباً؛ لأن المعطوف على اسم إنّ يمكن أن يأتي مرفوعاً ويمكن أن يأتي منصوباً. المرفوع يكون جملة ابتدائية عند ذلك، مثل (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (التوبة)) أي ورسوله كذلك بريء، تمّ الكلام هنا، لكن الحديث هنا قبل تمام الخبر كأن تقول: إن زيداً وخالداً في المكتبة، ولك أن تقول: إن زيداً وخالدٌ في المكتبة، وهذا رأي جمهور الكوفيين في الحقيقة. أنت تستطيع أن تقول هناك جملة اعتراضية : إن زيداً في المكتبة وخالد في المكتبة. صار العطف قبلهم، لكن أنا أميل الى قراءة (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) قُريء – والقراءة منسوبة إلى ابن عباس وإلى ابي عمر (وملائكتُه) ومعناه أن الله يصلي على النبي وملائكته يصلون، وعند ذلك نكون فصلنا صلاة الله تعالى عن صلاة عباده من الملائكة وغيرهم، هذا المعنى ممكن أن نفهمه حتى مع النصب، وهو الذي نميل إليه حقيقة (إن الله وملائكتَه) إن الله يصلي، وإن ملائكته يصلون، هنا التأكيد مراد، الواو عاطفة، وملائكته معطوفة على اسم إنّ، وتكون منصوبة مباشرة، والخبر يكون الخبر للثاني.
وهذا ليس تشتتاً، وإنما هذا كلام العرب، كيف تتحصل على هذا المعنى، لو كان الكلام كله منصوباً في غير القرآن، لو قال الصابئين بالنصب سيختلط الذين آمنوا بالذين هادوا والصابئين، بينما نحن نريد لهم أن يكونوا كياناً مستقلاً له صفته. وتغيّر الوجه الإعرابي دلالة على تغيّر المعنى، يقول إن الذين آمنوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون بشرط الإيمان، وهذا الشرط لم يذكره مع الذين آمنوا لأنهم آمنوا فعلا.
حكمة التقديم والتأخير:
الصابئون وردت في ثلاثة أمكنة: في البقرة والمائدة والحج، ففي المائدة والحج قدم الصابئين لغرضين: الأول لبيان الإعراب، وحملها على الكلمة التي قبلها في موضع نصب أو موضع رفع، ووضعها بين النصارى والذين هادوا لأن كليهما لا يظهر عليه علامة الإعراب، فوضعها في النصف فتبيّن الأول.
والشيء الثاني يرتبط بالمعنى حتى لا يُفهم أن اليهود والنصارى واحد.
أما في البقرة فحشرهم على الجانب التاريخي؛ لأنه لم يذكر النصارى إنما ذكر اليهود وحدهم، فذكر اليهود ومن وراءهم بالترتيب التاريخي؛ لأن النصارى لم يرد لهم ذكر هنا، والذين آمنوا (المؤمنون) مقدّمون على الجميع .

اترك تعليقاً