*آية (1):
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1))
*(سبّح) ما معنى كلمة التسبيح؟ وهل له أنواع؟
التسبيح هو التنزيه عما لا يليق، أصل التسبيح هو التنزيه (سبّح لله) أي نزّهه هؤلاء كلهم بما نفقه وبما لا نفقه من تسبيحهم (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) الإسراء) الطير تسبّح والأشجار تسبّح وكل شيء يسبح (وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) الرعد) لا نفقه تسبيحها. التسبيح هو التنزيه عن كل ما لا يليق، عن كل نقص، أن تقول لله ولد أو تشبهه بخلقه أو أي شيء لا يليق بذاته. التسبيح ورد في صور شتّى: ورد التسبيح بالفعل الماضي (سبّح) وورد بالفعل المضارع (يسبح) وورد بفعل الأمر (فسبِّح) (سبِّح اسم ربك) وورد باسم المصدر (سبحان الذي أسرى بعبده) كل هذا ورد فيه، لماذا؟ سبّح للزمن الماضي، يسبح مضارع للحال والاستقبال (المضارع للاستقبال كما في قوله تعالى (إن الله يفصل بينهم) هذا في يوم القيامة) حتى أن بعض النحاة قالوا هو للاستقبال أولاً ثم للحال. (سبِّح) الأمر وهو يدل على أن تبدأ به وتستمر، سبحان اسم مصدر. اسم المصدر قريب من المصدر، سبحان معناه علمٌ على التنزيه.نلاحظ أن الفعل مرتبط بزمن وبفاعل حتى يكون فعلاً، المصدر هو الحدث المجرّد الذي ليس له زمن ولا فاعل. إذن صار التنزيه استغراق الزمن الماضي (سبح) والحال والمستقبل (يسبح) والأمر بالتسبيح ومداومته, (سبّح) وسبحان التسبيح وإن لم يكن هناك من لم يسبح في السموات والأرض قبل الزمان وبعد الزمان إن كان أحد أو لم يكن فهو يستحق التنزيه سبحانه سواء كان هناك من يسبح بفاعل أو بدون فاعل فاستغرق جميع الأزمنة وقبل الأزمنة وبعد الأزمنة واستغرق الخلق وما قبل الخلق وما بعد الخلق.
ليس هذا فقط إنما لاحظ كيف ورد التسبيح؟ ورد التسبيح (سبِّح اسم ربك الأعلى) ذكر الاسم، و(سبّحوه بكرة وأصيلا) لم يذكر الاسم وذكر المفعول به مباشرة، (سبّحه) (سبِّح اسم ربك الأعلى) متعدي وسبّح باسمه متعدي بالباء، متعدي بنفسه والتعدية بالاسم وبالحمد (فسبح بحمد ربك)، (سبّح) هو في الأصل فعل متعدي. الفعل اللازم هو الذي يكتفي بفاعله ولا يأخذ مفعول به مثل ذهب ومشى ونام، الفعل المتعدي يتعدى إلى مفعول به مثل أعطى، وأحياناً يستعمل المتعدي كاللازم بحسب الحاجة مثلاً أحياناً يكون متعدياً إلى مفعولين أو يذكر مفعولاً واحداً مثلاً (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) الضحى) ماذا يعطيك؟ أطلق العطاء ولم يقيّده بأمر معيّن. وقالوا يستعمل استعمال اللازم كما في قوله تعالى: (حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) التوبة) وأحياناً لا يذكر المفعول به أصلاً (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) يونس) (يفقهون) فعل سمع متعدي (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) النمل) علم تأخذ مفعولين ما ذكرها لأنه أراد الفعل بالذات ولم يُرِد المتعلق. قد نستعمل المتعدي كاللازم نريد الفعل وليس مرتبطاً بالمفعول به كما تقول مثلاً: فلان يعطي ويمنع، ماذا يعطي؟ وماذا يمنع؟ (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه) هو يسمع ويرى ولا يقيّد بشيء معين.
*لم لم يستخدم اسم المصدر ليخرجه من دائرة الزمان ودائرة الفعل؟
هذا فيه زمان وفيه فاعل (أسمع وأرى) الفاعل موجود والزمن موجود.
*(سبّح) يستخدمه القرآن متعدياً بنفسه مرة أو بحرف جرّ مرة أخرى فهل هناك من فرق بياني؟
سبّحه أي نزّهه، سبّح لله للتعليل أي الإخلاص تسبّحه لأجله (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) الأنعام) يسموها لام التعليل لبيان العِلّة وهي تدل على الإخلاص. فقوله:(سبّح لله) أي أخلص التسبيح له فمن صلّى ولم يصلي له فلا تقبل صلاته لأنه صلّى رياء ولم يصلي لله، هو قام بالفعل لكن لم يصلي لله لأنه لم يُخلِص، لو سبّح أمام الناس لكن لم يكن التسبيح لله فهو لم يسبح لله، هذا هو الإخلاص معقد النية التي تتحول إلى عبادة, ألم يقل تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) الماعون) هم يصلّون ولكنهم يراءون، (كالذي ينفق ماله رئاء الناس) لو أنفق لله لقُبِل، لو سبّح لله لقُبِل. إذن هناك فرق (سبّح) قام بالفعل لكن (سبّح لله) قام بالفعل وأخلص التسبيح له (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين) لو نسك لغير الله ما يُقبل.
إذا تعدى الفعل بنفسه (سبّحه أي نزّهه) أي قام بالفعل، (سبّح لله) صلّى وصلّى له، زكّى وزكّى له، نسك ونسك له، لأجله إذن (سبح لله) أي سبّحه بإخلاص.
*يقول تعالى: (سبح لله ما في السموات والأرض) ومرة يقول: (سبح لله ما في السموات وما في الأرض) فهل هناك فارق بينهما؟
كل الآيات بلا استثناء إذا كرر (ما) يعقب الآية بالكلام على أهل الأرض في كل القرآن في آيات التسبيح كلها، إذا قال:(ما في السموات وما في الأرض) يعقب الكلام لأهل الأرض (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) الصف) لأهل الأرض، في سورة الحشر (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ (2)) لأهل الأرض. وإذا لم يكرر (ما) لا يذكر أهل الأرض لا يعقبها وإنما يعقبها بشيء عن نفسه أو شيء آخر (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) الحديد) لم يتكلم على أهل الأرض. في جميع القرآن حيث كرر (ما) يعقب الآية بالكلام على أهل الأرض في جميع القرآن ولذلك لاحظ في سورة الحشر بدأ بتكرار (ما) وانتهت السورة بقوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)) ما كرر (ما)، سورة الحشر أولها قال:(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) كرر (ما) وفي نهاية السورة: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لم يكرر (ما) لأنه لم يأت بعدها كلام على أهل الأرض وانتهت السورة. لذلك نقول: القرآن تعبير فني مقصود كل كلمة، كل تعبير، كل ذكر، كل حذف قُصِد قصداً ولم يأت هكذا.
*ما الفرق بين (ما) و (من) في الاستخدام اللغوي؟
في اللغة تستعمل (ما) لذوات غير العاقل ولصفات العقلاء (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ (29) طه) ماذا في يمينه؟ عصاه، (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) لذات غير العاقل ولصفات العقلاء. تقول من هذا؟ هذا فلان، تسأل ما هو؟ تسأل عن صفته فيقال مثلاً هو تاجر، (من هو؟) تسأل عن ذاته. (ما) هي تستعمل لأمرين: لذات غير العاقل ولصفات العقلاء (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء (3) النساء) عاقل وربنا سبحانه وتعالى يستخدمها لنفسه كما جاء في سورة الشمس (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)) يتكلم عن نفسه سبحانه. (ما) تقع على صفات أولي العلم جميعاً حتى قسم من النُحاة أدق لا يقولون العقل لأن الله تعالى لا يوصف بالعقل ولا يصف نفسه أنه العاقل وإنما العالِم، فيقول النحاة لذوي العلم وذوات غير العاقل. في سورة الليل قال تعالى: (وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3)) من الخالق؟ الله سبحانه وتعالى، في سورة الكافرون (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3)) ما أعبد هو الله تعالى، (وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)) الأصنام غير عاقلة و(ما) تستعمل لذوات غير العاقل وتستعمل لصفات العقلاء.
(من) إذا انفردت تكون لذوات العقلاء تحديداً، قد تستعمل في مواطن تخرج عن هذا الأمر مثلاً أنت تُنزِل غير العاقل منزلة العاقل، تتكلم مع حصانك يقولون لك: من تُكلِّم؟ تقول: أكلِّم من يفهمني، من يحفظني، هذا تجوّز. في الأصل أن (من) لذات غير العاقل وأحياناً يشترط العاقل مع غير العاقل فتطلق عليهم (من) فيصير تفصيل (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) النور) من يمشي على بطنه غير العاقل، من يمشي على رجلين الإنسان، اجتمعت في عموم فصّل بـ (من) لها مواطن. أما إذا انفردت فلا تكون إلا للعاقل (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) الملك) لذي العِلم.
*(سبّح لله) بصيغة الماضي وفي بعض السور (يسبح) بصيغة المضارع فهل هذا مقصود بذاته؟
نلاحظ أنه كل سورة تبدأ بـ (سبّح) بالفعل الماضي لا بد أن يجري فيها ذكر للقتال في كل القرآن أي سورة تبدأ بـ (سبّح) فيها ذكر للقتال والمبدوءة بـ (يسبح) ليس فيها ذكر للقتال أبداً. سورة الصف: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4)) كل التي تبدأ بـ (سبّح) لا بد أن يجري فيها ذكر القتال. هذه الآية في سورة الحديد (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)) (لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10))ليس هنالك سورة في القرآن تبدأ بـ (سبح) إلا ويجري فيها ذكر للقتال وليس هنالك سورة في القرآن تبدأ بـ (يسبح) إلا لم يذكر فيها القتال. هذا توجيه للناس في الحاضر والمستقبل أن يتركوا القتال، أن لا يقاتلوا، الذي جرى جرى في تاريخ البشرية والله تعالى حكيم فعل ما فعل ودعا الناس يفعلون ما يشاؤون، هو التوجيه للخلق، للعقلاء، للناس، للمسلمين أنه في الحال والاستقبال عليهم أن يتركوا القتال ويعيشوا حياتهم، ينصرفوا إلى التعاون وما هو أنفع وما هو أجدى وما هو خير. هو توجيه لما يقول (يسبح) المضارع يدل على الحال والاستقبال لم يذكر القتال وكأنما هو توجيه – والله أعلم – للخلق في حاضرهم ومستقبلهم أن يتركوا القتال، أن لا يتقاتلوا فيما بينهم، أن يتفاهموا، أن يتحاوروا، أن يتحادثوا، أن تكون صدورهم رحبة، هذا أنفع لهم من القتال، الماضي ماضي ذهب لكن (يسبح) كأنه توجيه لعباده. الرابط بين القتال والتسبيح: التنزيه عما لا يليق والقتال لا يليق كما قالت الملائكة (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) البقرة).
*تقديم الجار والمجرور على الفاعل في قوله (سبح لله ما في السموات والأرض):
التقديم حسب الاهتمام في البلاغة، هل الكلام على الفاعل الآن أو على مستحق التسبيح؟ الكلام على الله وليس على الفاعل لكن يتقدم المفعول على الفاعل لأغراض بلاغية.
*لماذا قدم السموات على الأرض؟
أولاً من الذين كان يسبح سابقاً أهل السماء أو أهل الأرض؟ أهل السماء لأن أهل الأرض لم يكونوا موجودين أصلاً، قبل أن خلق آدم فبدأ بمن هو أسبق تسبيحاً، بمن هو أدوم تسبيحاً (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) الأنبياء) (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) فصلت) فبدأ بأهل السماء لأنهم أسبق في التسبيح قبل خلق آدم ولأنهم أدوم تسبيحاً، أدوم في هذه العبادة.
*أول آية في سورة الحديد من الناحية البيانية:
ذكرنا أن فيها تقديم وتأخير وفعل ماض ومضارع لكن الآية (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)) العزيز في اللغة هو الغالب الممتنع, والحكيم لها دلالتان إما أن تكون من الحُكم أو من الحِكمة. أصلاً الحكيم لها أكثر من دلالة لكن هنا فيها دلالتين. الحكيم قد تكون اسم مفعول بمعنى محكم (فعيل بمعنى مفعول مثل قتيل بمعنى مقتول) وحكيم بمعنى مُحكم قال تعالى: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) آل عمران), وفي سورة هود قال تعالى: (الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)) يعني مُحكم. هنا في هذه الآية حكيم لها دلالتان: حكيم من الحُكم وحكيم من الحِكمة ونجمع المعنيين للتوسع في المعنى لأنه أحياناً في اللغة الكلمة الواحدة يراد كل معانيها التي تحتملها في آن واحد, وهذا يسمى التوسع في المعنى في جملة واحدة تحتمل كل دلالاتها اللغوية ويريد هذا الشيء وليس لها معنى محدداً لأن أحياناً المعنى احتمالي. الجملة العربية نوعان ذات جلالة قطعية وذات دلالة احتمالية حتى لو وضعتها في سياقها. دلالة قطعية أي دلالة واحدة (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) البقرة) دلالة واحدة وتأتي بدلالة احتمالية تحتمل أكثر من معنى، تقول: اشتريت قدحَ ماءٍ، ماذا اشتريت؟ ماء أو قدح؟ إذا قلتها بالإضافة فيها احتمالان؛احتمال أنك اشتريت الماء ومحتمل اشتريت القدح، فلو قلتها بالنصب : اشتريت قدحاً ماءً تعني أنك اشتريت الماء فقط ولم تشتر القدح، اشتريت الماء ولا يمكن أن تكون اشتريت القدح. هنا الحكيم يحتمل المعنيان والمعنيان مرادان.

تكلمنا في الحلقة الماضية على مفتتح سورة الحديد (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وذكرنا بعض الأمور التي تتعلق بالتقديم والتأخير وذكر (ما) وعدم ذكرها وتوقفنا في نهاية الحلقة عند (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقلنا أن معنى العزيز هو الغالب الممتنع والحكيم فيها احتمالان فعيل من الحِكمة أو من الحُكم. الحكمة هي وضع الشيء في محله قولاً وعملاً ويقولون (توفيق العلم بالعمل). بالنسبة للناس إذا يتكلم واحد في غير مكانه وفي غير مقام فهو ليس بحكيم وإنما ينبغي أن يختار الوقت المناسب مع الأشخاص المناسبين ويتكلم بما هو في مستواهم ولا ينبغي أن يقول شيئاً ويفعل ضده فهذا ليس بحكيم. إذن الحكمة وضع الشيء في محله قولاً وعملاً. والله تعالى ذو الحكمة البالغة. الحكيم فيها اعتباران: قد تكون من باب الحكمة (الحكيم) وقد تكون من باب الحُكم (حكيم) والآية تجمعهما معاً وهذا يسمى باب التوسع في المعنى. أحياناً يؤتى بكلمة واحدة أو تعبير واحد يجمع عدة معان كلها مرادة داخل سياق واحد. إذا أردت أن تعيّن لا بد أن تأتي, أما بتعبير ذي دلالة واحدة قطعية أو تأتي بأمور أخرى حتى تصل إلى هدفك. مثال قوله تعالى: (وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا (160) النساء) ما المقصود؟ كثيراً من الناس؟ كثيراً من الصدّ؟ كثيراً من الوقت؟ يحتمل ولا يوجد قرينة سياقية تحدد أحدها وإنما أرادها الله سبحانه وتعالى جميعاً يصدون كثيراً من الناس وكثير من الصدّ، هذا يسمى التوسع في المعنى. (بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) الفتح) هل قليلاً من الفهم؟ قليلاً منهم؟ يحتمل وهي مرادة. (فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) التوبة) هل هو القليل من الضحك؟ أو من الوقت؟ المعنى: فليضحكوا ضحكاً قليلاً وقتاً قليلاً وليبكوا بكاءً كثيراً زمناً كثيراً ولو أراد تعالى أن يحدد يأتي بما يحدد كما قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) الأحزاب) المراد هنا الذكر. هناك تعبيرات يسموها احتمالية ويراد بها أن تجمع لها المعاني من باب التوسع في المعنى. مثلاً في الأحكام الشرعية: (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ (282) البقرة) و (لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) البقرة) هذا حكم شرعي. (وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ) (لا) ناهية وليست نافية بدليل الراء في (يضارَّ) مفتوحة. هل هي لا يضارَر؟ أي لا يضره أحد أو لا يضارِر، هو لا يضر أحداً؟ محتمل أن الكاتب والشهيد يضغط عليه ويضر عليه ويهدد فيغير من شهادته يحتمل هذا المعنى أو أن الشهيد لا يريد أن يشهد لأسباب في نفسه، يغير في الشهادة. لا يضارَر أو لا يضارِر؟ لو أراد أن يقيّد كان يقول ولا يضارَر فيكون قطعاً هو المقصود (نائب فاعل) لو أراد أن الكاتب هو الذي يُضرِ يقول لا يضارِر. مع أن الله سبحانه وتعالى قال في القرآن (ومن يرتدد) في مكان وقال (ومن يرتد) في مكان آخر (من يشاقق) و (من يشاق) بدل أن يقول ولا يضارِر أو ولا يضارَر جاء بتعبير يجمعهما معاً يريد كلاهما. إذن لو فك يجعل هناك عطف لكنه أوجز تعبيراً ويجمع المعاني ويسمى التوسع في المعنى.
(لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ (233) البقرة) لا يوقع عليها ضرر بحيث الأب يضرها إذا كانت مطلقة؟ أو هي لا تضر زوجها بحيث تمنع ابنها؟ ما المقصود؟ المعنيان مرادان وكلاهما منهي. عندنا باب اسمه التوسع في المعنى في علم المعنى، عندنا دلالة قطعية وعندنا دلالة احتمالية وهذه الاحتمالية تحتمل معاني قد تراد كلها أو بعضها فإذا أريد بعضها أو كلها يسموه التوسع في المعنى.
الحكيم من الحِكمة ومن الحُكم، هذا الجمع (العزيز الحكيم) أجمل جمع: العزيز قد يكون حكيماً وقد لا يكون حكيماً، وقد يكون حاكماً وقد لا يكون حاكماً، الحاكم هو منتهى العزة منتهى العزة أن يكون حاكماً فإذن الآن صار كمال العزة بالحكم أعزّ شيء. نأتي إلى الحكمة إذا كان العزيز متهوراً تكون عزّته صفة ذم فإذن ينبغي أن يتمم بالحكمة. فإذن ربُّنا تعالى هو العزيز الحكيم والحاكم الحكيم، كمّل في العزة بالحُكم فكان أعلى شيء لأن منتهى العزة أن يكون حاكماً وأكمل الكمال عندما كان عزيزاً فهو حكيم وعندما كان حكيماً فهو حكيم إذن اجتمعت العزة والحكم والحكمة. لو كان عزيزاً غير حكيم تكون صفة ذم ولو كان حاكماً غير حكيم تكون صفة ذم. إذن الاثنين مرادان وقدّم العزيز على الحكيم لأنه عزّ فحكم، ليس عندنا في القرآن الكريم حكيم عزيز.
ما الحكمة من تقديم العزة؟ العزة قد لا يكون صاحبها حكيماً، هو تدرج، فبدأ بما هو أقل ثم انتقل للأعلى، يكون عزيزاً ثم يكون حاكماً، كيف يكون حاكماً؟ كيف وصل إلى الحكم؟ إذا لم يكن هناك جماعة تعزه فتوصله إلى الحكم؟ لا بد أن هناك جماعة أوصلوه فلا بد أن يكون عزيزاً عند هؤلاء حتى أوصلوه، إذن عزّ فحكم.
الأمر الآخر، قال:(العزيز الحكيم) بالتعريف ولم يقل هو عزيز حكيم بالتنكير لأنه أراد أن يقصر العزة في الحقيقية وحده لا عزّة لغيره على سبيل الحقيقة والحكيم هو الحاكم في الحقيقة ولا حاكم سواه على وجه الحقيقة. إن الله تعالى هو الذي يعز ويذل ويؤتي الحكم وينزعه (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) آل عمران) إذن هو صاحب العزة، الحكمة (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء (269) البقرة)، الحكم (وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ (41) الرعد) هذا التعريف القصر على أنه في الحقيقة كل عزة سوى عزته هي منه سبحانه سواء أعز أو أذلّ. وقد استخدم كلمة (عزيز) نكرة في القرآن وهذا بحسب السياق الذي تأتي فيه وهذا يحدد التنكير والتعريف

اترك تعليقاً