آية (26)-(27):
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27))
(قيل ادخل الجنة) لقد طوى القرآن ذكر ما حصل له بعد قولته التي قالها وما فعل به قومه وكيف واجهوه. إلا أن بيّن أنه لم يكد يتم قوله حتى قيل له: (ادخل الجنة) ولم يذكر أمراً أو مشهداً بين الدنيا والآخرة ومعنى ذلك أنهم لم يمهلوه بعدها البتة فإنه ما إن قال ذلك حتى وجد نفسه على باب الجنة يقال له: ادخل الجنة. فاختصر كل ما لا حاجة له به وإنما دل عليه المقام. ومن مظاهر الاختصار أنه بنى الفعل للمجهول فقال: (قيل) ولم يذكر القائل لأنه لا يتعلق غرض من ذكر القائل ولعل القائل هم الملائكة. كما أنه لم يقل: (قيل له) لأن ذلك معلوم من السياق.
جاء في الكشاف :”قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له لانصباب الغرض إلى المقول وعظمه لا إلى المقول له مع كونه معلوماً”.
وهكذا يطوي ما حصل له بعد قولته ويطوي الفاعل فيبني الفعل للمجهول ويطوي المقول له ولا يذكر إلا قوله: (ادخل الجنة). فيسير التعبير في نسق واحد وفي جو تعبيري واحد.
جاء في روح المعاني في قوله (ادخل الجنة): “استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك. والظاهر أن الأمر إذن له بدخول الجنة حقيقة وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الدنيا فعن عبد الله بن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قصبه من دبره وأُلقي في بئر وهي الرس, (وقيل قتل بغير ذلك من أنواع القتل – انظر ص 228) … والجمهور على أنه قتل. وادّعى ابن عطية أنه تواترت الأخبار والروايات بذلك”.
(قال يا ليت قومي يعلمون) ما إن دخل الجنة حتى تمنى أن قومه يعلمون بإكرامه وحسن عاقبته فإنهم لو علموا ذلك لاهتدوا وآمنوا بمثل ما آمن به ونالهم من الكرامة مثل ما ناله. وهو لم يتمن ذلك في نفسه فقط بل قال ذلك بلسانه فواطأ القلب اللسان وفي ذلك إشارة إلى تمني الهداية لقومه وحب الخير لهم. ولم يمنع ذلك من سوء ما فعلوه به فإن المؤمن يحب الهداية للخلق ولو كانوا ألدّ أعدائه بل ولو أساؤوا إليه وعذبوه بل ولو قتلوه. جاء في الكشاف: “وإنما تمنى على قومه بحاله ليكون علمهم بها سبباً لاكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والعمل الصالح المفضيَيْن بأهلهما إلى الجنة. وفي حديث مرفوع (نصح قومه حياً وميتا). وفيه تنبيه عظيم على وجوب كظم الغيظ والحلم عن أهل الجهل والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار وأهل البغي والتشمر في تخليصه والتلطف في اقتدائه والاشتغال بذلك عن الشماتة به والدعاء عليه. ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته والباغين له الغوائل وهم كفرة عبدة أصنام”.
وجاء في روح المعاني: “وإنما تمنى على قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة جرياً على سنن الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء وفي الحديث: (نصح قومه حياً وميتا).
وفي هذا القول إشارة للدعاة وللمسلمين ليحبوا الهداية لعموم الخلق وأن يترفعوا عن الحقد والضغينة. لقد تمنى أن يعلم قومه أمرين:
1. مغفرة ربه له وذلك ليتوبوا ولا ييأسوا من رحمة الله.
2. وإكرامه ليحفزهم ذلك إلى العمل لينالوا حسن العاقبة.
(بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) (ما) تحتمل أنها مصدرية أي يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي وجعلني من المكرمين. ويحتمل أن تكون اسماً موصولاً أي يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي به ربي وجعلني من المكرمين أي ليتهم يعلمون بالسبب الذي غفر لي به ربي وهو اتباع الرسل. وقال (بما) ولم يقل (بالذي) ليشمل المصدرية والموصولة أي بالمغفرة والإكرام وبسبب ذلك فيجمع المعنيين ولو قال (بالذي) لم يدل إلا على معنى واحد. ولم يأت بالمصدر الصريح فيقل: (يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي وجعلي من المكرمين) لأنه لو قال ذلك لدل على معنى واحد وهو المصدرية دون المعنى الآخر.
جاء في الكشاف: “(ما) في قوله (بما غفر لي ربي) أيّ الماءات هي؟ قلت المصدرية أو الموصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب”. وجاء في البحر المحيط: “والظاهر أن (ما) في قوله (بما غفر لي ربي) مصدرية. جوزوا أن يكون بمعنى (الذي) والعائد محذوف تقديره (بالذي غفره لي ربي من الذنوب) وليس هذا بجيد إذ يؤول إلى تمنى علمهم بالذنوب المغفورة والذي يحسن تمني علمهم بمغفرة ذنوبه وجعله من المكرمين”. وجاء في روح المعاني: “والظاهر أن (ما) مصدرية ويجوز أن تكون موصولة والعائد مقدر أي يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي به أي بسببه ربي. أو بالذي غفره أي بالغفران الذي غفره لي ربي. والمراد تعظيم مغفرته تعالى له فتؤول إلى المصدرية”. وقال الزمخشري: “أي بالذي غفره لي ربي من الذنوب. وتعقب بأنه ليس بجيد إذ يؤول إلى تمني علمهم بذنوبه المغفورة ولا يحسن ذلك. وكذا عطف (وجعلني من المكرمين) عليه لا ينتظم”.
وما ذهب إليه صاحب الكشاف من أن (ما) تحتمل أن تكون اسماً موصولاً على معنى: بالذي غفره لي من الذنوب يضعفه ثلاثة أمور منها:
1. أن ذلك يؤول إلى تمني علمهم بالذنوب المغفورة ولا يحسن علمهم بما عمل من معاص تستوجب المغفرة كما أشار إلى ذلك صاحب البحر.
2. أن المغفرة معناها الستر وغفران الذنوب سترها وتمنيه علمهم بها يعني تمنيه نشرها وفضحها وهو مغاير لمعنى الستر وما أكرمه الله من سترها فإن ستر الذنوب من جلائل النِعم.
3. أنها لا تنتظم مع قوله: (وجعلني من المكرمين) فإن ذلك يؤول إلى المعنى الآتي: يا ليت قومي يعلمون بالذي غفره لي من الذنوب وجعلني من المكرمين وهو لا يصح لأن (جعلني) ستكون معطوفة على (غفره لي) أي صلة للذي فيكون المعنى يا ليت قومي يعلمون بالذنب المغفور وجعلني من المكرمين. فإن قوله: (ما غفره لي) يعني الذي غفره لي ربي من الذنوب. أو بعبارة أخرى الذنب المغفور.
فلا يصح جعل (وجعلني من المكرمين) صلة له. فاتضح أن (ما) إما أن تكون مصدرية أو اسماً موصولاً والباء تفيد السبب فيكون المعنى: يا ليت قومي يعلمون بالسبب الذي غفر له به ربي وجعلني من المكرمين فيستقيم المعنى على الوجهين والله أعلم.
ولم يذكر العائد فيقل: (بما غفر لي به ربي) ولو قال ذلك لاقتصر على معنى الموصولية الاسمية دون المصدرية فحذف العائد جمع المعنيَيْن.
وقدّم الجار والمجرور على الفاعل فقال: (بما غفر لي ربي) لأنه هو المهم وهو مدار الكلام لأنه معلوم أن الله هو يغفر الذنوب فالفاعل معلوم ولكن المهم أن نعلم المغفور له.
واختيار لفظ الرب ههنا (غفر لي ربي) مناسب لقوله: (إني آمنت بربكم) وإضافته إلى نفسه فيها من الرعاية واللطف ما لا يخفى.
وقدّم المغفرة على جعله من المكرمين لأن المغفرة هي سبب الإكرام ولأنها تسبقه فالمغفرة أولاً ثم يليها الإكرام.
وقوله: (وجعلني من المكرمين) دون قوله وجعلني مكرماً إشارة إلى أن هذا طريق سار عليه قبله المؤمنون والشهداء والصالحون وهو واحد منهم وليس فذاً لم يسبقه إليه أحد. وكون أن معه جماعة مثله أكرمهم ربه فيه زيادة إيناس ونعيم. فإن الوحدة عذاب وإن كانت في جنان الخلد فأكرمه بالجنة والرفقة الطيبة.
إن أصحاب القرية ومعتقدهم وموقفهم من رسلهم شبيه بحال قوم الرسول صلى الله عليه وسلم وموقفهم منه من عدة نواح ولذلك صح أن يضربوا مثلاً:
1. فقوله: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما) شبيه بموقف كفار قريش الذين قال الله فيهم: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم) وقوله: (وكذبوا واتبعوا أهواءهم (3))( القمر)
2. وقول أصحاب القرية لرسلهم: (ما أنتم إلا بشر مثلنا) شبيه بقول كفار قريش: (هل هذا إلا بشر مثلكم (3))( الأنبياء) وقولهم: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2))( ق)
3. وقولهم: (إن أنتم إلا تكذبون) شبيه بقول كفار قريش: (هذا ساحر كذاب (4))( ص) وقوله تعالى فيهم: (وكذبوا واتبعوا أهواءهم (3)) (القمر)
4. وقولهم: (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) شبيه بموقف كفار قريش من رسول الله والمؤمنين معه فقد آذوهم وعذبوهم حتى أن بعضهم مات من التعذيب وقد رُجِم رسول الله بالحجارة في الطائف. وأخبر عنهم ربنا قائلاً. (وإذ يمكر بك الذي كفروا ليثبتوك أن يقتلوك أو يخرجوك (30))( الأنفال)
5. وقولهم: (وما أنزل الرحمن من شيء) شبيه بقولهم: (ما أنزل الله على بشر من شيء)
6. وقول المؤمن لهم: (اتبعوا من لا يسالكم أجراً) شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: (قل ما أسألكم عليه من أجر (57))( الفرقان)
7. وقوله: (أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون) يعني أنهم اتخذوا آلهة من دونه الله يعبدونهم وهذا شبيه بمعتقدات العرب في الجاهلية الذين اتخذوا من دون الله آلهة والذين قال الله فيهم: (واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون* لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون)
8. لقد بيّن أن أصحاب القرية لم يؤمنوا إلا واحداً منهم وأنهم استوى عليهم الإنذار وعدمه مثل كفار قريش الذين قال الله فيهم: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) وقال: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون).
وأن الرسل الذين أُرسلوا إلى أهل القرية يصح أن يكونوا مثلاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
1. فإنهم كذبوا كما أن الرسول كذبه قومه.
2. وأنهم بلغوا الرسالة مع تكذيب أصحاب القرية لهم.
3. وأنهم بلغوا الرسالة مع أنهم غرباء عن أهل القرية فقد جاؤوها داعين إلى ربهم.
4. أنهم واجهوهم بالتطير منهم والتهديد.
5. وأنهم بلغوا رسالة ربهم بلاغاً مبيناً بحيث علم به كل واحد من أهل القرية.
6. وأنه ثبّت من آمن منهم حتى استشهد.
فكأن أصحاب القرية مثلاً في حالهم هم وفي حال رسلهم الذين بلغوا دعوة ربهم. وحال أهل القرية وموقفهم من رسلهم وسوء عاقبتهم التي لاقوها نتيجة التكذيب تكون مثلاً لقوم الرسول صلى الله عليه وسلم ليرتدعوا وليراجعوا أنفسهم.
إن قصة أصحاب القرية مرتبطة بالآيات الأول التي ذكرناها من هذه السورة والتي ذكرنا أنها بنيت عليها السورة ومقاصدها:
1. فقد ارتبط قوله: (واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم) بقوله: (إنك لمن المرسلين) فذكر أنه واحد من المرسلين وضرب مثلاً بمرسلين قبله.
2. وارتبط قوله: (فكذبوهما فعززنا بثالث) بقوله: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون)
3. وارتبط قوله: (وإليه ترجعون) بقوله: (إنا نحن نحيي الموتى)
4. وارتبط قوله: (إن يردن الرحمن بضر) بقوله: (وخشي الرحمن بالغيب)
5. وارتبط قوله: (بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) بقوله: (فبشره بمغفرة وأجر كريم)
فقوله: (قيل ادخل الجنة) بشارة له فهو مقابل (فبشره) وقوله: (بما غفر لي ربي) يقابل (بمغفرة). وقوله: (وجعلني من المكرمين) يقابل (أجر كريم) والله أعلم.

اترك تعليقاً