(إياك نعبد وإياك نستعين)
هذه فيها جملة مسائل: أولاً هذه القسمة (إياك نعبد) تتصل بما قبلها من تمجيد الله تعالى (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)، ثم تأتي (إياك نستعين) هي بداية ما للإنسان، ذاك كان لله تعالى ثم صار الكلام للإنسان، الآيات السابقة حين نأتي من بداية الحمد لله رب العالمين نجد تمجيداً من حيث بنية اللغة للغائب، الله سبحانه وتعالى، غائب عن أعيننا، حاضر في قلوبنا، لكن من حيث البنية اللغوية، نقول الحديث عن الغائب : الحمد لله (هو) لم يقل الحمد لك ، رب العالمين (هو)، الرحمن الرحيم (هو)، مالك يوم الدين (هو)، لكن هذا التمجيد والتعظيم لله سبحانه وتعالى زاد من حضور الله سبحانه وتعالى في القلب، فبعد أن انتهى من التعظيم والتمجيد انتقل إلى الخطاب، وهذا يسمونه في العربية الالتفات، وهذا ليس غريباً. إذا نظرنا فيما نقل على لسان إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى (أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)) يخاطب المشركين (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)) بدأ يتكلم عن الغائب ثم قال (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)) لاحظ الانتقال، وهذا وارد كثيراً، يتكلم عن الغائب إلى أن يجعله حاضراً في نفسه فيخاطبه، كأنما استحضرت عظمة الله عز وجل في القلب، وعند ذلك يبدأ الإنسان بالخطاب. هو حتى حين يقول الحمد لله رب العالمين يستحضر عظمة الباري عز وجل، لكن الخطاب صار الآن مباشراً (إياك نعبد).
*ألا يمكن أن يكون هناك نداء محذوف تقديره: يا مالك يوم الدين؟
لا؛ لأن الفائدة العامة في اللغة أنه لا يلجأ إلى التأويل ما أمكن عدم التأويل، حين يمكنك أن تفهم العبادة من غير تأويل لا تؤول.
(إياك نعبد): انتقل من المناجاة، كما بدأ إبراهيم يناجي ربه، الذي يصلي، أو الذي يقرأ الفاتحة، يقرؤها وحده في غير الجماعة فيقرأ (إياك نعبد)، شخص في غير القرآن يقول: إياك أعبد، فلماذا استعمل نون الجماعة، وليس الموضع موضع تعظيم، على العكس نحن في موضع ذلة لله سبحانه وتعالى، وكلما كثرت ذلة الإنسان لربه ازداد خضوعاً لله تعالى، وازداد رفعة أمام الآخرين، وازداد بعداً عن عبودية الآخرين؛ لأن العبودية هي منتهى الخضوع لله عز وجل، يكون في منتهى القرب من الله عز وجل، ازداد تحرراً من الآخرين، لا يكون عبداً للآخرين، أعلى الدرجات العبودية لله عز وجل، لذلك كان أعلى تكريم للرسول (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً)، أعلى درجات التكريم أن جعله عبداً.
*إياك نعبد: لِمَ استعمل الجمع هنا؟
يرى العلماء أن الأمة المسلمة أمة موحدة واحدة، ولذلك يقولون دائماً وحدة الأمة مقدمة على أشياء كثيرة، أنت تنظر هذا الأمر هل فيه وحدة للأمة أو تفرقة؟ إذا كان فيه تفريق الأمة فلا خير فيه، الوحدة مقدمة. بعض علمائنا القدماء مثلاً عند الأحناف أتباع الإمام أبي حنيفة الذي يسمونه الإمام الأعظم، ومنه مدينة الأعظمية قرب ضريحه – يرون أن خروج الدم يفسد الوضوء، الإمام الشافعي مع من تبعه عندهم أحاديث وردت، واطمأنوا إليها أن الدم لا يفسد الوضوء، يسأل أحد الحنفية شيخه يقول له: يا شيخي خروج الدم يفسد الوضوء؟ قال: نعم، قال: فلان يقول لا يفسد الوضوء، قال: له رأيه، لاحظ المرونة عند المسلمين، وليس الانغلاق الذي نراه الآن للأسف الشديد، هذا ليس من ديننا، قال التلميذ: كيف نصلي خلفه، وهو يمكن أن يخرج منه دم وهو لا يراه مفسداً للوضوء، فهو في مذهبي يصلي من غير وضوء؟ فكيف أصلي خلفه؟ قال: يا سبحان الله أنا أقول لكم لا تصلوا خلف فلان؟ صلوا خلفه.
لماذا أفتى الشيخ هذه الفتوى؟ لأن فيها وحدة الأمة، هو يصلي إماماً على فقه مذهبه ، فأنت تتابعه حتى تتوحد الأمة، ولذلك لا صلاة لمنفرد خلف الصف، حين يكون في الصف مجال لأن تقف فلا تصلي خلف الصف؛ لأن هذا نوع من تفرقة الأمة، ووحدة الأمة مقدمة على كل شيء.
ديننا دين أمة، دين جمع، وليس دين أفراد (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) حين يحدثنا القرآن الكريم عن أشياء فهو يريد منا أن نتعلم. لما رأى هارون قومه قد عبدوا العجل – وهو نبي- لم يمنعهم، نصحهم، وحاول معهم، لكن لما وجدهم مصرين على انتظار موسى، قال: ننتظر موسى حفاظاً على وحدة الأمة، فلما جاء موسى (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) طه). فديننا دين أمة وليس دين تشعبات وتبعثرات يرى كل فيها نفسه أبا حنيفة ولكن من غير فقه، وإياك نعبد للجماعة، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة أو سبع وعشرين درجة.
من هنا جاءت كلمة نعبد ولم يكن في مكانها أعبد، وليس المجال مجال تعظيم، كلا، فالمسلم يعبد مع إخوانه (إياك نعبد).
*ما معنى نعبد؟
العبادة في الإسلام التي هي توجه إلى الله تعالى، وتنفيذ لأوامره، لكن لها مفهوما أوسع وأشمل بيّنه الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الحديث الذي رواه عدي بن حاتم الطائي لما دخل على الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، وفي عنقه صليب من ذهب، وفي رواية صليب من فضة، وكان (صلى الله عليه وسلم) يقرأ (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أولياء) قال: إنهم لم يعبدوهم، فبيّن الرسول (صلى الله عليه وسلم) معنى العبادة الذي ينبغي أن نفقهه ونتعلمه، قال: بلى، أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم، إذن التحول عن منهج الله سبحانه وتعالى مما ورد في كتاب الله وسنة رسوله، (صلى الله عليه وسلم) وما أجمعت عليه الأمة، وما استنبطه العلماء من الكتاب والسنة، العلماء لا التلامذة الذين يقرؤون كلمتين مثلاً، ويريدون أن يصبحوا فقهاء، بل ما استنبطه العلماء الذين يدرسون العلم الديني من نشأتهم من صغرهم إلى أن يصبح عالماً باللغة وبالبلاغة وبالنحو وبالفقه وبالتفسير وبالأصول، ما استنبطه هؤلاء من الكتاب والسنة، وأجمع عليه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
والانحراف عن هذا انحراف عن اتباعه  ، واتباع لهوى النفس (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) كيف يتخذ الإنسان هوى نفسه إلهاً؟ هولا يقبل أن يصلي لنفسه، ولكنه يتبع هوى نفسه فيما خالف شرع الله، ولذلك الضابط هو شرع الله عز وجل، لا أسأل ما الحكمة في أي جزئية ؟ لكني أقول ما قول شرع الله تعالى في هذه المسألة؟ وهذا الذي درج عليه المسلمون دائماً، ليس في حياة الناس شيء نستطيع أن نقول إن الإسلام لا رأي له فيه، بدليل أن الناس كانت تسأل عن كل شيء، والعلماء يبينون (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) فهذا معنى العبادة.
وإن ادّعى بعض الناس أن منهجه يوازي منهج الله عز وجل، وهذا يذكرنا بما فعله الرسول (صلى الله عليه وسلم) لما نزل قوله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، يقولون إن المدارس الآن تعمل بوسائل الإيضاح، والرسول (صلى الله عليه وسلم) علّم بوسائل الإيضاح قبل الجميع، فحين نزلت الآية السابقة خطّ خطاً في الأرض، وقال: (هذا صراط الله المستقيم)، وخط خطوطاً على جانبيه وقال: (هذه السبل، وعلى رأس كل سبيل شيطان يدعو إليه). فيجب على الإنسان أن يحذر حين يقول: عندي منهج في الحياة، هو ليس منهج الإسلام، لكنه لا يتعارض مع الإسلام، فإذا كان لا يتعارض فهل يوازي؟ وإذا كان يوازي، فلن يلتقي مع منهج الإسلام؛ لأن الخطان المتوازيان لا يلتقيان، فتعال إلى منهج الإسلام.
*يبقى شيء، أما كان يمكن في غير القرآن أن يقال: نعبدك؟ لِمَ قال: إياك نعبد؟
في غير القرآن يمكن أن يقال: يا رب نعبدك، فما معنى هذا التفسير؟ كلمة نعبدك: الكاف مفعول به والمفعول به في لغة العرب، لأنها لغة مُعربة يُتصرف فيه بالتقديم والتأخير، كما يقول سيبويه: جواز الوجهين، يعني على معنيين مختلفين، حين نقول: كتب زيدٌ رسالةً، أو كتب رسالةً زيدٌ، يجوز الوجهان، لكن هذا المعنى يختلف عن هذا المعنى، صحيح أن المعنى الكلي واحد، وهو أن إنساناً، اسمه زيد كتب شيئاً هو رسالة. لكن حين قيل: كتب رسالةً زيدٌ، أو أكرم خالداً محمدٌ، نعلم أن خالداً آخِذ؛ لأنه منصوب، لأن العربية في إعرابها فيها مجال للتقديم والتأخير، فالمعنى يختلف، ولا بد أن يختلف المعنى الجزئي. صحيح أن خالدًا آخذ، حين نقول: أكرم خالداً زيدٌ، أو أكرم زيدٌ خالداً، أو خالداً أكرم زيدٌ، معلوم أن خالدًا آخذ، وزيد مُعطٍ، لكن هناك فوارق في المعنى.
فحين نقول نعبدك، نأخذ الكاف، نريد أن نضعها في الأول لغرض بلاغي سنذكره، الكاف لا تنفرد وحدها كما في خالداً أكرم زيدٌ، خالداً يمكن أن ينفرد وحده، أما الكاف فلا تنفرد، وتحتاج لما تعتمد عليه، العرب جعلوها تعتمد على لفظة (إيا): إياك، إياكم، إياكما، إياكنّ. وصار للعلماء فيها كلام. العربي قال: إياك أكرمت، والعلماء ناقشوا هل الضمير هو الكاف وحده؟ هل الضمير إيا والكاف للبيان؟ أو هو مجموع إياك؟ هذا لا يعنينا صراحة، المهم أن إياك مختلفة فلماذا؟ إذا نظرنا إلى لغة العرب واستعمالاتها نجد أنه إذا قدم العامل على الفعل والفاعل فإن ذلك يعني الحصر، ومعنى ذلك أنني حين أقول: خالداً أكرمت، أريد أن أقول أني أكرمت خالداً، ولم أكرم أحداً سواه، إياك أعين، يعني: أعينك، ولا أعين أحداً سواك، بحيث لا يصح أن تعطف، فلا يجوز أن تقول خالداً أكرمت، وأكرمت زيداً، يقول لك: آخر الكلام يضرب أوله، أنت تقول لي خالداً أكرمت، معناه أكرمت خالداً، ولم أكرم أحداً سواه، ولاحظ الإيجاز: خالداً أكرمت، بدلا من (خالداً أكرمت، ولم أكرم أحداً سواه)، العربية تقول: خالداً أكرمت، والعربي يفهم هذا، هذه لغة العرب، وهذه لغة القرآن التي يريدون الآن أن يحولوها إلى لغات، لا ندري ماذا نقول عنها.
فالمسلم أو العربي عموماً حين يقرأ: (إياك نعبد) نفهم منها أننا نعبدك، ولا نعبد أحداً سواك، اختزلت بكلمتي (إياك نعبد)، وهي ترتبط بالجزء الأول من قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين)، إياك نعبد تتصل بكلمة الله، وإياك نستعين تتصل بكلمة ربّ، لذلك يقولون الأولى فيها توحيد الألوهية، والثانية فيها توحيد الربوبية، فجمعت الفاتحة التوحيدين: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، إياك نعبد تعني نعبدك، ولا نعبد أحداً سواك بكل ما في العبادة من معنى، فانحصرت العبادة في الله سبحانه وتعالى.
إياك نستعين:
وما قلناه في إياك نعبد من حيث استعمال نون الجمع نقوله هنا في نستعين، المسلم يرى نفسه في الجماعة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار كما في الحديث، هذا دين جماعة، وفي إياك نستعين التقديم أيضاً، لم يقل: نستعين بك أو نستعينك، بل قال: إياك نستعين، فحصر الاستعانة بالله سبحانه وتعالى، وأيما استعانة بغير الله عز وجل فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى هو إخلال بتوحيد الربوبية، والله سبحانه وتعالى يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، فينبغي على المسلم أن يحذر. لقد بلغ الأمر بالمسلمين فيما مضى بشأن تجنب الاستعانة بالآخرين حتى فيما يقدر عليه الآخرون أن أحدهم: إذا سقط السوط منه وهو على الفرس لا يقول لأحد ناولني السوط، وإنما ينزل هو ويأخذ سوطه.
ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى أمور كثيرة كالرزق، والشفاء، لا يقدر عليها الإنسان، فعندما تدعو إنساناً أن يشفيك، أو يرزقك، أو يمنحك شيئاً هو لا يملكه لنفسه (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً)، هو لا يملك لنفسه، فمن أين يعينك؟ نعم يمكنه أن يعينك في حمل طاولة، تستعين به فتقول له احمل معي هذه، وهو يقدر على ذلك، أما فيما لا يستطيع أن يعينك عليه إلا الله عز وجل فالأحياء لا يملكون أن يعينوك عليه، ومن باب أولى الأموات.
الشيخ عبد القادر الجيلاني يقول في كتابه الغُنية: وإذا زرت قبراً (لأن زيارة القبور وفق الدين سُنة، يعني أن تزور القبور للاتعاظ، وللدعوة للمقبور) فلا تضع يدك عليه، ولا تقبله فإن ذلك من أعمال اليهود.
تذهب الآن إلى مرقده هو نفسه، فتجد من يمسك بالشباك ويقبله، وهو الذي يقول في كتابه: (ولا تقبله، فإن ذلك من أعمال اليهود). ويقف بعضهم عند فلان وفلان سواء كان من الصالحين أو آل بيت النبوة، ويقول يا فلان أريد منك كذا وكذا، وهذا يتعارض مع صحيح الكتاب والسنة، ونحن مسؤولون أمام الله تعالى ما دام هذه الآية قد وردت أن ننبّه على هذا.
لا يُسأل في هذه الأمور إلا الله تعالى لقوله :(إياك نستعين)، ينبغي أن نفهم لغة العرب، لأن الاستعانة لا تجوز بغير الله سبحانه وتعالى، الاستعانة تكون بالبشر فيما يقدرون عليه وهو أحياء، وهناك أمور وهو أحياء لا يقدرون عليها، فكيف وهم أموات؟
إذن إياك نستعين هنا حصر للاستعانة بالله سبحانه وتعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل : رد غائب، رزق، شفاء مريض، أي شيء من الأشياء التي لا يملكها إلا الله تعالى، والله تعالى يملك جميع الأشياء، لكن هناك أشياء ممكنة كأن تقول لولدك ناولني هذا القميص، فتستعين به في هذه الأشياء التي يقدر عليها، لكن ما لا يقدر عليه (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً)، ومن باب أولى الأموات.
*لماذا تكررت إياك؟
لو قيل في غير القرآن (إياك نعبد ونستعين) لفهم منه الحصر باجتماع الفعلين، يعني إذا جمعنا العبادة والاستعانة لا تكون إلا بك، وإذا فرّقناهما يمكن أن تكون لغيرك، وهذا لا يريده القرآن. فأنت حين نقول لشخص مثلاً: إياك أحترم وأُكرِم، يمكن أن يفهم أنك تحصر الاحترام والإكرام فيه باجتماعهما، وممكن أن تحترم زيداً وتُكرِم خالداً، لكن الاحترام والإكرام مجتمعيْن محصوريْن في المخاطب، ويمكن أن أحترم خالداً لكن لا أكرمه، ويمكن أن أكرم زيداً لكن لا أحترمه؛ اتقاء شرّه كما كان يحدث مع الشعراء (كفوا عني لسانه، اقطعوا عني لسانه) لكن حين نقول: إياك أحترم وإياك أكرم، يعني لا أحترم سواك، ولا أُكرِم سواك. فلما قال تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) كان المعنى: لا نعبد سواك، ولا نستعين بأحد سواك .
ولو قال في غير القرآن: إياك نعبد ونستعين لعنى أن جمع العبادة والاستعانة محصورة بك، لكن يمكن أن نعبد واحداً ولا نستعين به، ويمكن أن نستعين بغيرك ولا نعبده، ممكن هذا وممكن هذا، وحتى ينتفي هذا الفهم، وحتى يكون المقصود أن تنصرف هِمّة الإنسان واعتقاداته وعقيدته لله وحده سبحانه وتعالى قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) وكان لا بد من التكرار؛ لأنه لو لم يكرر لالتبس الأمر، والقرآن الكريم بعيد عن اللبس.
________________________________________
تكلمنا في الحلقة السابقة عن قول الله سبحانه وتعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) وتكلمنا عن اختيار تقديم (إياك) على نعبد، وتقديم (إياك) على نستعين، وفائدة ذلك، ولماذا لم يقل في القرآن نعبدك ونستعينك، وبيّنا أيضاً لماذا جاءت كلمة نعبد بصيغة الجمع، ولم تأت بصيغة الإفراد، وكذلك نستعين، لمَ لم يقل إياك أعبد مثلاً؟. وقد وردت بعض الاستفسارات في قضايا تتعلق بهذه الآية نحب أن نقف عندها أيضاً.
من ذلك في قوله تعالى (وإياك نستعين):
*هل بالإمكان أن يقال في غير القرآن (وبك نستعين)؟
إياك نعبد وإياك نستعين: الفعل يتعدّى بنفسه (استعانه) أو يتعدى بحرف الجر (استعان به)، وهو متعدٍ في الحالتين: استعنته أو استعنت به، وإذا تقدّمت (بك نستعين) سيكون معنى الحصر أيضاً في إياك وفي بك. لكن لماذا فُضّلت إياك على بك؟ ما الفائدة؟ نلاحظ أن في الآيات السابقة نوعا من التربية والتوجيه، وليس فيها موضع شك، والتأكيد يكون في مواضع الشك.
أنت تقول نجح زيد إذا كان السامع خالي الذهن، لكن إذا كنت تعلم أن لديه بعض الشك في نجاح زيد، فتقول له: لقد نجح زيد، فتستعمل مؤكدات، إن زيداً ناجح، أو إن زيداً لناجح، بحسب ما تعتقده من شك في نفسه، فلما كان الفعل يتعدى بنفسه، فإن هذه الباء لا تزيده معنى، يعني هي ليست مثلاً للمصاحبة أو الوسيلة، كما تقول كتبت بالقلم فلما لم تأت لزيادة معنى فهي للتأكيد، تقول: ليس زيدٌ مسافراً، نفيت السفر عن زيد، فإذا أردت التأكيد تقول: ليس زيد بمسافر، وكما في قوله تعالى (أليس الله بكاف عبده) فهنا نحتاج التأكيد. أما موضع الآية فليس موضع تأكيد، يعني ليس هناك شك في أن الله سبحانه وتعالى يعلّم المؤمنين أن يقصروا الاستعانة عليه سبحانه، فما ليس فيها شك لا تستعمل فيه الباء (بك نستعين)، فجاءت (إياك نستعين)؛ لأنه لو جاءت إياك نعبد وبك نستعين، فكأنه يريد أن يزيل شكاً بهذا التأكيد، ولو استعملها لأراد أن هناك شكا في الاستعانة بالله، والشك هنا غير وارد، ففي قوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) كان هناك شك، وإلا قال: أليس الله كافياً عبده، فلما أكد المعنى أراد أن يزيل شكاً في نفوس المتلقين، وهذه لغة العرب. هذا شيء، والشيء الثاني أنه لو قال: إياك نعبد وبك نستعين، لفوت هذه المناسبة والملاءمة بين(إياك نعبد وإياك نستعين) إياك وإياك، وتلك مسألة ثانوية، لكن المسألة الأساسية ترتبط بالمعنى (وإياك نستعين).
*يسأل المقدم: هل من الممكن أن يقال: إياك نعبد ونستعين؟
تكلمنا عن هذا في المرة الماضية، لو قال إياك نعبد ونستعين، لكان معناه نخصّك باجتماع هذين الأمرين، ولا نشرك أحداً سواك باجتماعهما (نعبد ونستعين)، فبمفهوم المخالفة عند ذلك أنه يمكن أن نعبد غيرك، لكن لا نستعين به، أو يمكن أن نستعين به لكن لا نعبده، لو جمعهما (إياك نعبد ونستعين) لحصرت معنى العبادة والاستعانة معا، يعني: هذان الأمران مجتمعان ينحصران بك، لكنهما منفردان يمكن أن يكونا لغيرك، واللغة العربية تقول: إن قوله: إياك نعبد ونستعين يعني: أعبده وأستعينه، لكن يمكن أن أعبد غيره من غير استعانة، وأكون غير مخالف، أو أعبده وأستعين بغيره وأكون غير مخالف. فإذًا حتى ينتفي اللبس تكررت إياك (إياك نعبد وإياك نستعين) ليكون هناك حصر.
*هل يمكن القول: الله نعبد والله نستعين؟
هناك شيء آخر : أكان يمكن أن يقال في غير القرآن (وهذه الاحتمالات تقال في غير القرآن؛ لأن القرآن لا مجال فيه للاقتراحات) الله نعبد والله نستعين؟
من حيث اللغة يتحصل الحصر؛ لأن العبادة تنحصر بالله سبحانه وتعالى، ولا يكون معه معبود سواه، فنحن نستفيد الحصر من قول: الله نعبد: أي نعبد الله ولا نعبد أحداً سواه، الله نستعين: أي نستعين الله، ولا نستعين بأحد سواه، لكن لو نظرنا إلى الآيات سنجد أن الله سبحانه وتعالى يعلمنا منذ بداية الفاتحة أن نتوجه إليه سبحانه بالتعظيم والتمجيد (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين)، بالتوجه إلى العلي العظيم الغائب الحاضر، من حيث اللغة خطاب غائب، أو متكلم على غائب (الحمد لله): هو، (رب العالمين): هو، (الرحمن الرحيم): هو، (مالك يوم الدين): هو، فهو غائب في الخطاب، لكنه حاضر في القلب، فلما جاء إلى (إياك) انتقل؛ لأن العبد سيتوجه إلى الله تعالى بالدعاء، وأنت لا تدعو غائباً، وإنما تدعو حاضراً، فبدأ الانتقال من الغيبة إلى الحضور بهذه الآية (إياك نعبد).
وقلنا هذا ليس غريباً في الاستعمال القرآني: انظر في محاورة إبراهيم (عليه السلام) في سورة الشعراء، وسيكون لنا موقف معها إن شاء الله لاحقاً: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)) لاحظ الانتقالة (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)) وهو ما يسمى الالتفات من ضمير الغائب إلى المخاطب، بدأ ينتقل من ذكر الله تعالى وهو الغائب الحاضر، إلى أن وصل إلى مخاطبة الله عز وجل، كما في قصة إبراهيم، وفي مواضع متعددة.
نحن نناجي ربنا: (الحمد لله رب العالمين) بغيبة، إلى أن يصل قرّبنا إلى الدعاء، فيعلمنا الله سبحانه وتعالى الدعاء: (إياك نعبد وإياك نستعين)، ثم ندعو (اهدنا الصراط المستقيم)، لأننا ندعو حاضراً مخاطباً، ولم يقل يهدينا هو، ولو قال: (الله نعبد) لبقيت غيبة، لكنه يريد أن ينقلنا إلى مرحلة المخاطبة، حتى ننتقل إلى الدعاء.
*لماذا قدّم العبادة على الاستعانة؟
لم يقل إياك نستعين وإياك نعبد، بل قدّم العبادة، وهذا التقديم هو المناسب في سورة الفاتحة؛ لأن العبادة حق الله، والاستعانة طلب العبد، وحق الله مقدّم على طلب العبد، وشيء آخر أنه يتناسب مع قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) الله المعبود، ورب العالمين المستعان؛ لأن في الآية توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية: فإياك نعبد لتوحيد الألوهية، وإياك نستعين لتوحيد الربوبية.
لعل هذه أهم الأمور، وقد تكون هناك أمور أخرى تغيب عنا في (إياك نعبد وإياك نستعين).

اترك تعليقاً