صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين
لماذا جاءت كلمة الصراط معرفة بأل مرة، ومضافة مرة أخرى (صراط الذين أنعمت عليهم)؟
جاءت كلمة الصراط مفردة، ومعرفة بتعريفين: بالألف واللام والإضافة، وموصوفا بالاستقامة مما يدل على أنه صراط واحد (موصوف بالاستقامة؛ لأنه ليس بين نقطتين إلا طريق مستقيم واحد، والمستقيم هو أقصر الطرق وأقربها وصولا إلى الله) وأي طريق آخر غير هذا الصراط المستقيم لا يوصل إلى المطلوب ولا يوصل إلى الله تعالى.
والمقصود بالوصول إلى الله تعالى هو الوصول إلى مرضاته، فكلنا واصل إلى الله، وليس هناك من طريق غير الصراط المستقيم. (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (المزمل آية 19) (الإنسان آية 29) (إن ربي على صراط مستقيم) (هود آية 56) (قال هذا صراط علي مستقيم) (الحجر آية 41)
وردت كلمة الصراط في القرآن مفردة، ولم ترد مجموعة أبداً، بخلاف السبيل فقد وردت مفردة ووردت جمعا (سبل) لأن الصراط هو الأوسع، وهو الذي تفضي إليه كل السبل (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (الأنعام 153) (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) (المائدة 16) (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) (العنكبوت 69) (هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ) (يوسف آية 108) .
الصراط هو صراط واحد مفرد لأنه هو طريق الإسلام الرحب الواسع الذي تفضي إليه كل السبل، واتباع غير هذا الصراط ينأى بنا عن المقصود. (انظر شرح د. أحمد الكبيسي لكلمة الصراط وغيرها من مرادفات الطريق فيما سيأتي) .
ثم زاد هذا الصراط توضيحا وبيانا بعد وصفه بالاستقامة، وتعريفه بأل بقوله (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) جمعت هذه الآية كل أصناف الخلق المكلفين ولم تستثن منهم أحدا فذكرت:
الذين أنعم الله عليهم، وهم الذين سلكوا الصراط المستقيم، وعرفوا الحق وعملوا بمقتضاه.
الذين عرفوا الحق وخالفوه (المغضوب عليهم)، ويقول قسم من المفسرين إنهم العصاة.
الذين لم يعرفوا الحق وهم الضالون (قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (الكهف آية 103-104) وهذا الحسبان لا ينفعهم، إنما هم من الأخسرين.
ولا يخرج المكلفون عن هذه الأصناف الثلاثة، فكل الخلق ينتمي لواحد من هذه الأصناف.
وقال تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم) ولم يقل تنعم عليهم، فلماذا ذكر الفعل الماضي؟
اختار الفعل الماضي على المضارع أولاً: ليتعين زمانه، فيبين صراط الذين تحققت عليهم النعمة (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (النساء آية 69) صراط الذين أنعمت عليهم يدخل في هؤلاء.
فلو قال: تنعم عليهم لأغفل كل من أنعم عليهم سابقا من رسل الله والصالحين، ولو قال تنعم عليهم لم يدل في النص على أنه سبحانه أنعم على أحد، ولاحتمل أن يكون صراط الأولين غير الآخرين، ولا يفيد التواصل بين زمر المؤمنين من آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة. مثال: إذا قلنا أعطني ما أعطيت أمثالي، فمعناه أعطني مثلما أعطيت سابقا، ولو قلنا أعطني ما تعطي أمثالي، فهي لا تدل على أنه أعطى أحدا قبلي.
ولو قال: تنعم عليهم لكان صراط هؤلاء أقل شأنا من صراط الذين أنعم عليهم، فصراط الذين أنعم عليهم من أولي العزم من الرسل والأنبياء والصديقين، أما الذين تنعم عليهم فلا تشمل هؤلاء.
فالإتيان بالفعل الماضي يدل على أنه بمرور الزمن يكثر عدد الذين أنعم الله عليهم، فمن ينعم عليهم الآن يلتحقون بالسابقين من الذين أنعم الله عليهم، فيشمل كل من سبق أن أنعم الله عليهم، فهم زمرة كبيرة من أولي العزم والرسل وأتباعهم والصديقين وغيرهم، وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم، أما الذين تنعم عليهم فتختص بوقت دون وقت، ويكون عدد المنعم عليهم قليلا؛ لذا كان قوله سبحانه أنعمت عليهم أوسع وأشمل وأعم من الذين تنعم عليهم.
لماذا قال: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضآلين؟
أي لماذا عبر عن الذين أنعم عليهم باستخدام الفعل (أنعمت) وذكر المغضوب عليهم والضآلين بالاسم؟
الاسم يدل على الشمول، ويشمل سائر الأزمنة من المغضوب عليهم، ويدل على الثبوت. أما الفعل فيدل على التجدد والحدوث، فوصفه لهم بأنهم مغضوب عليهم وضالون دليل على الثبوت والدوام.
إذًا فلماذا لم يقل المنعم عليهم للدلالة على الثبوت؟
لو قال صراط المنعم عليهم بالاسم لم يتبين المعنى، أي من الذي أنعم؟ إنما بين المنعم (بكسر العين) في قوله أنعمت عليهم؛ لأن معرفة المنعم مهمة، فالنعم تقدر بمقدار المنعم (بكسر العين)؛ لذا أراد سبحانه وتعالى أن يبين المنعم، ليبين قدر النعمة وعظمتها، ومن عادة القرآن أن ينسب الخير إلى الله تعالى، وكذلك النعم والتفضل، وينزهه سبحانه عن نسبة السوء إليه (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) (الجن آية 10).
والله سبحانه لا ينسب السوء لنفسه، فقد يقول (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون) (النمل آية 4) لكن لا يقول زينا لهم سوء أعمالهم (زُين لهم سوء أعمالهم) (التوبة آية 37) (زُين للناس حب الشهوات ) (آل عمران آية 14) (وزُين لفرعون سوء عمله). (غافر آية 37) (أفمن زُين له سوء عمله) (فاطر آية 8) (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) (الأنفال آية 48)، أما النعمة فينسبها الله تعالى إلى نفسه لأن النعمة كلها خير (ربي بما أنعمت علي) (القصص آية 17) (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) (الزخرف آية 59) (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا) (الإسراء آية 83) ولم ينسب سبحانه النعمة لغيره إلا في آية واحدة (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك) (الأحزاب آية 37) فهي نعمة خاصة بعد نعمة الله تعالى عليه.
*(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7) الفاتحة)
لماذا ذكرت المغضوب عليهم بصيغة المبني للمجهول والضالين بصيغة اسم الفاعل؟(د.فاضل السامرائى)
أولاً جيء بكل منهما اسماً (المغضوب عليهم) و(الضالين) للدلالة على الثبوت، الغضب عليهم ثابت، والضلال فيهم ثابت، لا يرجى فيهم خير ولا هدى، لم يقل صراط الذين غضب عليهم وضلوا، وإنما المغضوب عليهم ولا الضالين، فجاء الوصفان بالاسمية للدلالة على ثبوت هذين الوصفين فيهما.
يبقى السؤال: لماذا جاء المغضوب عليهم اسم مفعول، ولم يقل غاضب اسم فاعل؟
مغضوب عليهم اسم مفعول، يعني وقع عليهم الغضب، لم يذكر الجهة التي غضبت عليهم ليعم الغضب عليهم من جميع الجهات، غضب الله، وغضب الغاضبين لله من الملائكة، وغيرهم، لا يتخصص بغاضب معين، ليس غضب عليهم فلان أو فلان، وإنما مغضوب عليهم من كل الجهات، بل هؤلاء سيغضب عليهم أخلص أصدقائهم في الآخرة (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) الأنعام) (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا (25) العنكبوت) إذًا مغضوب عليهم من جميع الجهات، من كل الجهات، فحذف جهة الغاضب فيه عموم وشمول. أما الضالون فهم الذين ضلّوا.
لماذا قال المغضوب عليهم ولم يقل غضبت عليهم؟
جاء باسم المفعول وأسنده للمجهول، ولذا ليعم الغضب عليهم من الله والملائكة وكل الناس حتى أصدقاؤهم يتبرأ بعضهم من بعض، حتى جلودهم تتبرأ منهم، ولذا جاءت المغضوب عليهم لتشمل غضب الله وغضب الغاضبين.
غير المغضوب عليهم ولا الضآلين: لم ذكر لا؟
ولم يقل غير المغضوب عليهم والضالين؟ إذا حذفت (لا) يمكن أن يفهم أن المباينة والابتعاد هي فقط للذين جمعوا الغضب والضلالة، أما من لم يجمعهما (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) فلا يدخل في الاستثناء. فإذا قلنا مثلا: لا تشرب الحليب واللبن الرائب (أي لا تجمعهما)، أما إذا قلنا: لا تشرب الحليب ولا تشرب اللبن الرائب كان النهي عنهما كليهما إن اجتمعا أو انفردا.
فلماذا قدم إذُا المغضوب عليهم على الضآلين؟
المغضوب عليهم الذين عرفوا ربهم ثم انحرفوا عن الحق، وهم أشد بُعدا لأنه ليس من علم كمن جهل؛ لذا بدأ بالمغضوب عليهم، وفي الحديث الصحيح أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأما النصارى فهم الضالون. واليهود أسبق من النصارى؛ ولذا بدأ بهم واقتضى التقديم.
وصفة المغضوب عليهم هي أول معصية ظهرت في الوجود، وهي صفة إبليس عندما أُمر بالسجود لآدم عليه السلام، وهو يعرف الحق، ومع ذلك عصى الله تعالى، وهي أول معصية ظهرت على الأرض.
أيضا عندما قتل ابن آدم أخاه، كانت أول معصية في الملأ الأعلى وعلى الأرض (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه) (النساء آية 93) ولذا بدأ بها.
أما جعل المغضوب عليهم بجانب المنعم عليهم، فلأن المغضوب عليهم مناقض للمنعم عليهم، والغضب مناقض للنعم.
خاتمة سورة الفاتحة مناسبة لكل ما ورد في السورة من أولها إلى آخرها: فمن لم يحمد الله تعالى فهو مغضوب عليه وضال، ومن لم يؤمن بيوم الدين وأن الله سبحانه وتعالى مالك يوم الدين وملكه، ومن لم يخص الله تعالى بالعبادة والاستعانة، ومن لم يهتد إلى الصراط المستقيم، فهم جميعا مغضوب عليهم وضالون.
ولقد تضمنت السورة الإيمان والعمل الصالح، الإيمان بالله (الحمد لله رب العالمين)، واليوم الآخر (مالك يوم الدين)، والملائكة والرسل والكتب (اهدنا الصراط المستقيم)، لما تقتضيه من إرسال الرسل والكتب. وقد جمعت هذه السورة توحيد الربوبية (رب العالمين)، وتوحيد الألوهية (إياك نعبد وإياك نستعين)، ولذا فهي حقاً أم الكتاب.