*من أين علمت الملائكة أنه سيكون هناك إفساد في الأرض (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)؟(د.حسام النعيمى)
أولاً كلمة خليفة فيها كلام من علمائنا :
القول الأول: وعليه أغلب المفسرين أنه خليفة الله عز وجل في الأرض، أي أن الله سبحانه وتعالى أوكل إليه أن يعمر الأرض، هو يتولى إعمارها، فيبني هذه البيوت وهذه العمارات، ويشق الأنهار، وهذه أفعال لا يفعلها من مخلوقات الله أحد، لا الجن يفعلها، ولا الطيور ولا الدواب، ولا الملائكة، إلا إذا كلفهم الله عز وجل أن يفعلوا شيئا فيفعلونه، أما هذا المخلوق، هذا الإنسان، فقد زُود بوسائل، بحيث يستطيع أن يقوم بالأعمال التي هيأه الله عز وجل لها، فيكون خليفة الله عز وجل في أرضه، فيعمر الأرض، وليس هناك من مخلوقات الله سبحانه وتعالى من يصنع، والتصنيع في اللغة هو الخلق، فهذه الأرض موجود فيها الأشياء، وليس هناك في خلق الله سبحانه وتعالى من يجمع هذه الأشياء، ويجعل منها حاسوبا مثلا إلا هذا الإنسان، فهو مُصنِّع في الأرض، وهذه لا تكون بكلمة كُن فيكون الإلهية، وهو ما يميل إليه الدكتور فاضل السامرائى أيضاً.
القول الثاني : يقول: ممكن أن يكون هناك خلق قبلنا، فهذا المخلوق الجديد آدم هو خلفٌ لذلك الخلق الذي قبلنا.
القول الثالث : أنه خليفة أي يخلف بعضهم بعضاً، فيتوالد ويتكاثر، هذه الآراء جميعاً هي لكبار علمائنا لا نجادل فيها، لأنه أمر غيبي، انتهى خلق الإنسان، والإنسان الآن يعمل، والجدل فيه لا يثمر.
قول رابع: قسم من العلماء يقولون: المراد الأنبياء وبقية البشر تبعٌ لهم، لأن الأنبياء يبلّغون شرع الله ويبلّغون رسالاته، فهم بهذا المعنى خلفاء، لأنهم ينقلون شرع الله عز وجل، وهذا المعنى تحتمله اللغة، ولا مساس فيه بالاعتقاد، خليفة يخلف بعضهم بعضاً، لكن سياق الآية لا يُسعف في هذا، لأن الكلام عن آدم، قال إني جاعل في الأرض خليفة، فتتساءل الملائكة: ما هذا الخليفة؟ ما شأنه؟ ولم يعترضوا على الله سبحانه وتعالى، إنما للاستفسار فقط والكشف، يريدون كشفاً.
من أين علمت الملائكة أن هذا المخلوق الجديد سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟
لعلمائنا أكثر من قول في علم الملائكة بطبيعة هذا المخلوق، وكلها محترمة، وأولها:- وهو الذي يميل إليه عدد من العلماء، وأكاد أجد اطمئناناً إليه، ولا أنفي الباقي، وهو- أن الحوار في القرآن مختصر، كأن الله عز وجل حين قال (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) سألت الملائكة ما شأن هذا الخليفة؟ فقال الله عز وجل: إن هذا مخلوق له ذرية، من هذه الذرية من سيسبحني ويعبدني ويقدسني، ومنهم من سوف يفسد، ويسفك الدماء، ومن هنا نفهم لماذا ذكروا تسبيحهم (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، فإذا كان هناك من سيسبح ويقدس من هذه الذرية، نحن نسبح ونقدس، والقسم الآخر مفسد يسفك الدماء، فما الداعي لإيجاده؟ إذا كان هناك صنفان: من يفسد فيها ويسفك الدماء، ومن يقدس لك ويسبح ، ونحن – أي الملائكة – نقدس ونسبح، فألغِ هذا الثاني، مجرد سؤال أو مقترح، ونلاحظ: سؤال المؤدب، سؤال الملك (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، فهذا الصنف سيفسد، والصنف الآخر من المسبحين، نحن نعوضه (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
هذا الرأي الأول وقد مال إليه عدد من كبار علمائنا من المفسرين.
الرأي الثاني: يقول: لعل لديهم تجربة سابقة من خلق إنسان سابق، أو مخلوق سابق أفسد وسفك دماءً، فقالوا: هذا سيفعل كما فعل الذي قبله، وخلقُ إنسانٍ سابق فيه نظر، إذ ليس لدينا دليل ، لكن الذي يطمئن إليه القلب حقيقة هو هذا الحوار الذي حدث، حتى إن بعض العلماء يسأل ويقول: ما الداعي إلى أن يحاورهم الله سبحانه وتعالى ؟ ويجيب: إن الله سبحانه وتعالى يذكر لنا ذلك في القرآن حتى يعلمنا المشورة والمشاورة، فلا ينفرد الحاكم برأيه، فرب العزة يشاور الملائكة ويحدثهم، ويذكر لنا هذا الأمر، أنه عرض على الملائكة، وقال لهم سيكون كذا، فقالوا له: يا رب، ما شأنه؟ قال: أن قسما منه يسفك الدماء ويفسد، وقسما منه سيسبحني ويقدسني، وهذا واقع الحال، فالبشر الآن منهم من يفسد فيها ويسفك الدماء، ومنهم من يسبح الله عز وجل ويعبده.
وحين عرض الباري عز وجل على الملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) عرض عليهم؛ لأنهم مشتغلون في الأرض، مهمتهم في الأرض، ولا يعقل أنه عرض على كل ملائكة السماء والكون، وإنما على فئة لها شغل بهذا المخلوق الجديد وبمكانه، فإبليس كان من ضمن هؤلاء، ولم يكن ملكاً، لكنه كان من ضمن الذين لهم شغل بذلك؛ لذلك كُلّف مباشرة (ما منعك أن تسجد إذ أمرتك) أُمِر مباشرة بالسجود.

اترك تعليقاً