آية (7):
* لماذا يرد السمع مفردا، والأبصار ثم القلوب بالجمع، (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) البقرة) ؟(د.حسام النعيمى)
هذه هي الآية الثانية في الكلام عن الكفار في أول سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)).
هؤلاء كانوا من عتاة الكفرة، من الذين علم الله سبحانه وتعالى أنهم قد أقفلوا قلوبهم؛ لذا يقال لهم (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، هذه التصريحات في القرآن تجاه الكفار من دلائل النبوة، فهذا لا يكون من كلام بشر؛ لأنه ماذا يكون الموقف لو أن هؤلاء تظاهروا بالإسلام، وقالوا نحن أسلمنا؟ فيصبح الكلام غير وارد، لكن هذا علم الله سبحانه وتعالى.
الختم هو الطابَع من الطين،والأصل فيه أن العربي كان إذا أراد أن يحفظ شيئا من الأشياء يغلق فوهته، ويأتي بشيء من الطين يضعه على مكان عقدة الخيط ويختمه بخاتِمه، ويستخدم الآن ما يسمى الختم بالشمع الأحمر، يعني يقفل المكان، ثم يختم عليه بالشمع الأحمر، هم أغلقوا قلوبهم أولاً، فختم الله سبحانه وتعالى عليها.
ولا يحتج بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ختم فهم مسيّرون؛ لأنهم هم أغلقوا قلوبهم أولاً؛ فالختم لا يكون إلا على شيء مغلق؛ لذا قيل للرسول (صلى الله عليه وسلم) (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) هؤلاء لا يؤمنون، هؤلاء انتهى أمرهم، وهذا الأمر لا يكون لعموم المسلمين، فلا تقل هذا الإنسان مقفل قلبه، لأنك أنت لا تعلم ذلك.
القلب عند العرب هو موطن العقل والتفكير، هكذا يستعملونه، والدماغ عندهم حشو الجمجمة، ففي لغة العرب أن الإنسان يعقل ويفكر ويحس من القلب؛ ولذلك كلّم القرآن الناس على أن موطن العقل وموطن التفكير عندهم هو القلوب.
بماذا يتدبر الإنسان؟ بما يسمعه، لأن الأصل أن الآيات تلقى إلقاء على الناس، فالدعوة شفاهاً، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يكلم الناس ليسمعوا فيتدبروا، فإذا أغلقوا قلوبهم وختم عليها، فكأنهم لا يحتاجون إلى آذانهم. فإذا سمعوا شيئاً يدعوهم إلى التفكر، إلى النظر (قل انظروا ماذا في السموات والأرض) فالسمع هو الوسيلة الأولى التي تدعوك إلى أن تنظر، الطريق إلى القلوب هو السمع، وقد تعطل فما عاد ينفع، فختم عليه أيضا، والسمع وسيلة التذكير بالإبصار فغشّيت الأبصار، أي جعل عليها(غشاوة) .
لذلك جاء هذا الترتيب الطبيعي، ولا يمكن أن يتغير إلا في ظرف معين سنتطرق إليه في سورة الاسراء: (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97).
ومن جانب آخر :
القلوب وما يجول فيها من تفكير شيء واسع مطلق، والإنسان يكون ساكتا وفكره في قلبه ليس له حدود، والنظر أيضاً واسع، لكنه لا شك أقل من القلب، فأنت تنظر إلى مكان محدود؛ ولذلك يأتي النظر في الدرجة الثانية من حيث السعة، ومع ذلك فالنظرمتنوع، يعني أنت ترى أشياء كثيرة، لكن السمع لا يستقبل سوى الصوت اللغوي. البصر يتعامل مع أشياء كثيرة، والقلب يتعامل مع أشياء أكثر، فالذي يتعامل مع الكثير استعمل له الجمع، والذي يتعامل مع الواحد استعمل له المفرد (السمع). فلو أن مجموعة من الناس ألقيت عليهم آية من الآيات، فإنها سوف تدخل آذانهم جميعا ذبذبات واحدة، وتترجم في رؤوسهم – إذا كانوا يعرفون العربية – بصورة واحدة لا تختلف، فالمستقبل في السمع واحد، لكن بعد استقباله كلٌ سيفكر فيه بطريقة خاصة، من زاوية مختلفة، حسب وجهة نظره ، وليس بصورة واحدة، فهذا يقتضي توحيد السمع وجمع القلوب.
القلوب جمع قلب، والأبصار جمع بصر، ليس لهما جمع آخر ، قلوب جمع كثرة، وأبصار جمع قِلّة، فالعرب جمعوا القلب على قلوب لأن القلوب كما قلنا مشاربها وتهيؤاتها وتصوراتها واسعة، فناسبها جمع الكثرة، وجمعوا البصر على أبصار، لأنه أقل سعة من القلب، فناسبه جمع القلة، وهذه بعض أسرار العربية.
ومن خلال النظر في كتاب الله سبحانه وتعالى، قال بعض علمائنا إن إفراد كلمة السمع حدث لأن صورته صورة المصدر، والمصدر عادة لا يُجمع، لكونه يدل على الحدث المطلق.
استخدم القرآن الختم على القلب وعلى السمع، وعطف لأنه أراد أن يجمعهما بختم واحد لارتباط الموضوع، فموضوع التفكر يكون عن طريق السماع، فلما أغلقوا قلوبهم لم يعد هناك فائدة للسمع فختم على الإثنين: ختم على قلوبهم وعلى سمعهم، (وعلى أبصارهم غشاوة) هذه جملة جديدة وليست معطوفة، ولو أردنا أن نقف فإننا نقف على سمعهم، ثم نقول: وعلى أبصارهم غشاوة، البصر يحتاج لتغطية، أما السمع فيحتاج إلى ختم؛ لأنه ليس هناك شيء يغطيه.