آية (32):
(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32))
فكرة عامة عن الآية: هذه آية عظيمة من آيات الله في الإنسان. الله تعالى فطر الإنسان على التوحيد، على الإيمان به وتوحيده لكن فطرة الإنسان قد تغطيها أتربة الحياة والمنطق العقلي ينكر أحياناً وجود الله أو يشرك به لكن إذا وقع في مهلكة وأصابه مرض وانقطعت به الأسباب وانقطعت به كل أسباب الرجاء وأيقن بالهلاك وخاب أمله في كل من كان يرجو منه العون وعجز الجميع عن تنجيته انزاح عن الفطرة ما كان يغطيها من الأتربة واتجه إلى الله تعالى وظهرت الفطرة التي فطره الله تعالى عليها مستغيثة بالواحد الأحد فقط (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا (67) الإسراء) هذه آية عظيمة من آيات الله وقد رأينا وسمعنا في حياتنا أناساً من أشد الناس إلحاداً فلما انقطعت بهم الأسباب قالوا يا رب يا حفيظ وطلبوا ممن معهم أن يدعوا لهم بالشفاء، هذه آية عظيمة. الظُلل جمع ظلة وهو الجبل أو السحاب أو كل ما أظلّك، يعني إذا جاءهم الموج كالجبال وغطاهم وأيقنوا بالهلاك دعوا الله مخلصين له الدين، وكأن الآية تصورهم في البحر في عزلة تامة لا أحد يتمكن من الوصول إليهم في هذا البحر العظيم المتلاطم. فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد، من المقتصد؟ هو مقتصد في الإخلاص يعني لم يكن على إخلاصه عندما وقع به الحال كان يدعو ربه ويستغيث كان مخلصاً له الدين فلما خرج لم يكن على هذا الإخلاص قلّ إخلاصه ومنهم مقتصد في الكفر كان كافراً لكن لما نجا قال لعلي أرجع مرة أخرى يقلل غلواءه في الكفر فيقتصد، يقتصد في الطاعة وإما يقتصد في الكفر ويرتدع بعض الشيء المسألة لا تزال قريبة من نفسه وهناك هزة عنيفة فينزجر بعض الانزجار ويرتدع، هذا المقتصد. أما الختار، الختر هو أشد الغدر والخيانة، ختر بمعنى غدر وخان. (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) لقمان)، هو أخلص لله عندما دعا ربه في البحر الآن خرج. والجحود هو إنكار ما تعلم من الحق، ينكر حقاً يعلم أنه حق، هذا معنى الجحود وهو إنكار ما تعلم من الحق لو شخص مدين إلى شخص والمدين يعلم أنه مدين وقال لست مديناً هذا جحود لكن لو نسي لا يسمى جاحداً. الجحود إنكار ما يعلم من الحق (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل) بآياتنا أي بما رأى وما حدث وما حصل بهذه الآيات عموماً كفور جاحد خان العهد الذي قطعه على نفسه سيخلص له دينه ويطيعه لكنه غدر وخان.
*في سورة العنكبوت قال (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)) وفي لقمان قال مقتصد فما الفرق بينهما؟
لو قرأنا الآيتين، آية لقمان الخطر فيها أكبر والهول فيها أعظم (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)) هنا لم يذكر (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) لم يذكر خطراً أصابهم وإنما هذا خوف يعتري راكب البحر عموماً فإذن الهول أكبر وأعظم في آية لقمان (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ) قال فمنهم مقتصد خفف من غلوائه، هناك لما نجاهم من البر (فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) آية لقمان تصور نوعاً من الهول ولهذا ناسب معه مقتصد وفي آية العنكبوت فيها فقط ركوب، في عدم وجود الأهوال لن يرى شيئاً يزجره، ركب في البحر ولم ير آية وكأنه شيء طبيعي ركب في الفلك، هذا أمر وهناك أمر آخر والسياق في العنكبوت يختلف والسياق يتكلم في المشركين (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)) هو يعتقد بالله لكن ينصرف إلى غير الله (يؤفكون يعني يصرفون) (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)) (لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)) إذن هذا السياق في العنكبوت في سياق المشركين أما في لقمان فليس في سياق المجرمين (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)). إذا كان المتحدث عنهم في العنكبوت هم المشركون وفي لقمان لم تصور الآية أنهم مشركون قال تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) يونس) كلاهما دعا في الآيتين تحسباً لما قد يقع يعني لعله يتم شيء غير متوقع ففي الحالتين دعوا الله. غشيهم الموج اقتضى مقتصد وعدم ذكر غشيهم الموج اقتضى مشركون ما جاءهم شيء يدعوهم إلى الانزجار أو يردعهم.
*(وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (32) لقمان) تقديم الجار والمجرور على الدين وفي آيات أخرى قدم الدين على الجار والمجرور (وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146) النساء)؟
في عموم الآيات في القرآن الكريم يقدم الجار والمجرور على الدين عدا آية النساء (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ (146)) قدم الدين على الجار والمجرور. التقديم والتأخير حسب ما يقتضيه السياق. السياق في سورة النساء في الكلام على المنافقين يبدأ من قوله تعالى (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)) 9 آيات تتعلق بذكر المنافقين فلما كان الكلام على ذكر المنافقين قدم ما يتعلق بالمنافقين وهو كلمة دين المضافة إلى ضميرهم (وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ) دينهم مضافة إليهم، دينهم أي معتقدهم، أخلصوه لله. الآيات الأخرى كلها الكلام على الله تعالى هنا الكلام على المنافقين فقدم ما يتعلق به والآيات الأخرى الكلام على الله تعالى فقدم ما يتعلق به مثال: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ (3) الزمر) الكلام على الله تعالى، ويستمر الكلام (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)) (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي (14) الزمر) الكلام على الله تعالى فما كان الكلام على الله قدم ضميره ما يتعلق به، (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) غافر) لما كان الكلام على الله قدم ما يتعلق به وهو مضيره ولما كان الكلام على المنافقين قدم ما يتعلق بهم وهو ضميرهم (دينهم) هكذا في جميع القرآن.

اترك تعليقاً