*د.أحمد الكبيسى:
قال تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿256﴾ البقرة)، وفي لقمان يقول عز وجل (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿22﴾ لقمان)، ليس فيها: لا انفصام لها. مرة (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) ومرة (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) فقط بدون لا انفصام لها، لماذا؟
العروة الوثقى لكل شيء هي ما تحمله منه، ولكل شيء آلة تتمسك بها من الوقوع أو الهلاك، يعني مثلاً ركاب في سفينة، وجاءتها عاصفة في يومٍ عاصف، ولكي لا يتطاير الناس في البحر كل واحد تمسك في مكان، إما في حبل، أو في زردة، أو في حلقة من الحلقات الحديدية، هذه هي العروة الوثقى. فرب العالمين عز وجل يشبه هذا الدين ببناء كبير، ولا بد أن تتمسك فيه بعروة لماذا؟ لأن العواصف حولك لا حدود لها، إبليس هذا شغله، أنه يراكم هو وقبيله، هذا الشيطان، كل همه أن يرخي يديك من التمسك بهذه العروة، بفسقٍ أو فجورٍ أو بدعة أو طائفية أو كفر أو زندقة، والتاريخ مليء.
كل الأديان السماوية تسجل تاريخ الذين تمسكوا بعروة ثم أفلتوها، وانحرفوا إلى فكر آخر، وطائفية أخرى، وأضلوا الناس. والقرآن يحدثنا عن بني إسرائيل وانحرافاتهم، ونحن نعاني من هؤلاء معاناة على امتداد التاريخ.
ما خلا جيل من طائفة تحاول أن ترخي يديك عن هذه العروة الوثقى التي أنت متمسك بها، ومتى ما ارتخت يداك هلكت، وتخطفتك الطير (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴿31﴾ الحج).
هذه العروة الوثقى مرة قال (لا انفصام لها)، ومرة بدون لا انفصام لها.
ومعنى تنفصم: تنقسم وتنفصل، يعني أنت يدك هي التي انفصمت عن العروة، التيار قوي السحب، فيدك لم تتحمل هذا الضغط، فانفتحت يدك فانفصمت عنها. والتاريخ ملئ بهذا ، كل دعاة الشر، هؤلاء الشياطين يحاولون أن يجعلوك تنفصم عن هذه العروة الوثقى وهي الإسلام كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم.
إذًا هذه العروة الوثقى نوعان: نوع هو عقيدة لا اله إلا الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد و غيره عن شخص رأى رؤيا فقال له النبي: هذه العروة هي الإسلام، فتمسك بها ماحييت إلى أن يدركك الموت وأنت عليها، وهي لا اله إلا الله.
هذه لا انفصام لها، رب العالمين يشهد أن من تمسك بالعروة الوثقى – وهو يقول قبلها لا إكراه في الدين – فهي قضية إيمان وكفر، إذا رأيت شخصا يعبد الأوثان، لماذا تكرهه؟ قل له فقط اترك الأصنام، واعبد الله.
إذا جاء واحد وقال لا اله إلا الله، بهذه القولة سوف يبقى عليها إلى يوم القيامة، ولن ينفصم عنها، هذا من تمسك بالعروة الوثقى التي هي لا اله إلا الله.
الإسلام نفسه عندما نزل، قال رب العالمين إن المشرك إذا صار مسلما لن يرجع عنه أبدا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (لا أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها فتهلككم) .
الآية الثانية في سورة لقمان، الخطاب فيها للمسلمين، بينما في الأولى الخطاب لغير المسلمين، قال (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، الذي يريد أن يسلم مرحبا به، لكن لا تكره هؤلاء المشركين.
في الثانية يخاطب المسلمين (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)، وهو محسن: أي رجل تقي صالح مصل، محسن في صلاته، في صيامه، في زكاته، فهو ليس عابدا، بل عابد بإحسان، بشكل جيد، هذا استمسك بالعروة الوثقى فقط، ولم يقل: لا انفصام لها، قد تنفصم، كلنا ليس أحد في هذه الدنيا إلا وفي يوم من الأيام ارتكب ذنباً مع كونه من المحسنين.
إذاً العروة الوثقى الأولى: هي الإيمان بالله الواحد الأحد لا إله إلا الله، هذه الآية تقول إن هذه العروة لا انفصام لها. العروة الوثقى الثانية: العمل، وليس التوحيد، العبادات، والحلال والحرام، لم يقل: لا انفصام لها، قد تنفصم، كل ابن آدم خطاء، ما فينا واحد تقي وصالح إلا وفي يوم ترك الصلاة سنة من السنين، ترك الصيام مرة أومرتين، شرب خمر، يعني كل ابن آدم خطاء (المؤمن كالسنبلة يميل تارة ويستقيم أخرى) (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم جاء بقومٍ يذنبون) (المسلم كالفرس في أخيّته)، هذه الحلقة التي يربطون فيها الفرس (يجول ويدور ويعود إلى أخيته)، يروح ويبتعد قليلاً عن الإسلام، لكن يرجع، إذاً تنفصم عروة العمل، وعروة الإيمان والتوحيد لا تنفصم أبداً ببركة النبي عليه الصلاة والسلام، الذي هو كما قال تعالى (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴿2﴾ الجمعة).
إذاً هذه التزكية التي زكى الله بها هذه الأمة، أنها لا تشرك بالله أبداً، ولكن في العمل كما قال صلى الله عليه وسلم (ولكن ساعة وساعة).
كل واحد منا له عروة، عروة الحاكم العدل، إذا تمسك بها ولم تنفصم جاء يوم القيامة متجلياً، غفر الله كل ذنوبه. عروة العالم الصدق، إذا كان صادقاً ولا يخاف في الله لومة لائم جاء يوم القيامة وكل ذنوبه مغفورة.
عروة التاجر الإخلاص والنصيحة وهكذا.
حديث عجيب عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث عن البراء بن عازب، قال: كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألهم النبي (أي عرى الإسلام أوثق؟) قالوا (الصلاة يا رسول الله قال: حسنة وما هي بها، ثم قالوا: الزكاة يا رسول الله، قال: حسنة وما هي بها، قالوا: الصوم صوم رمضان قال: حسنٌ وما هو به، قالوا: الجهاد قال: حسنٌ وما هو به) تصور الصلاة الصوم الزكاة الحج الجهاد كله، قال رسول الله ما هو، إذاً ما هي أوثق عروة؟ قال (أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله).
تأمل فيها، أنت قد تصلي، ولكن قد تنافق، قد تصلي وأنت غضوب، وتحقد على الناس وتحسدهم، قد تصلي وأنت بك بخل على أمك وأبيك ووالديك وأهلك الخ.
أما إذا بلغ إيمانك أن جعلك تحب في الله، وتبغض في الله، لا تحب لصداقة، ولا لمن أعطاك معروفاً، إنما لأن هذا إنسان طيب فتحبه، معنى هذا أن قلبك ليس فيه حسد ولا غيرة ولا غل، قلب كهذا لا يمكن إلا أن يكون صالحاً فهو قلب سليم (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿89﴾ الشعراء)، بالضبط هذا هو القلب السليم قطعاً، صلاته عظيمة، وحجه عظيم، وصومه عظيم، الخ.
وحينئذٍ ليس كل مصلٍ صالحا، ولكن كل من يحب في الله ويبغض في الله صالح، إذاً علامة القلب السليم أن يحب في الله ويبغض في الله. هذه أوثق عروة.
الكلام في العروة الوثقى كلام طويل، ولكل نوع من أنواع العبادة عروة، ونحن قلنا مرة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ﴿35﴾ المائدة) كل واحد من هذه الأمة سيأتي يوم القيامة مشهوراً بعمل (إن لكل عبدٍ في السماء صيتاً كصيته في الدنيا)، هذا العالم، هذا المنفق، هذا الصابر، هذا المجاهد، هذا الكريم، هذا البار بوالديه، كل واحد له صيت، كل واحد له عروته، العروة الأساسية لا إله إلا الله، وهذه ما دمت دخلت بها مصدقاً بها قلبك، أو أنك ولدت عليها اطمئن فلن ترتد أبداً، ويبقى العمل، الأولى لا انفصام لها (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) وهذه شهادة من رب العالمين. الثانية: قال: من يعمل صالحاً ويسلم وجهه يكون استمسك بالعروة الوثقى (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) لكنه لم يقل لا انفصام لها؛ لأنك قد تنفصم، كثير من الناس راحوا ورجعوا، ويختم له إن شاء الله على خير وبخير. هكذا الفرق بين الآيتين.