آية (12):
(وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12))
*لماذا قال نشكر لله؟
*ما هي الحكمة أولاً؟ الحكمة هي وضع الشيء في محله في القول والعمل، إحسان القول والعمل وتوفيق القول بالعمل إذن الحكمة لها جانبين قولي وعملي فمن أحسن القول ولم يحسن العمل فليس بحكيم. نلاحظ ربنا سبحانه وتعالى أسند إيتاء الحكمة إلى نفسه (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) وذلك لأن الله تعالى يسند أفعال الخير لنفسه والحكمة لا يسندها قطعاً إلى غير الله سبحانه وتعالى. حتى لما قال ومن يؤتى الحكمة قال قبلها (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا (269) البقرة) أسند إيتاء الحكمة لنفسه كما هو المعتاد في أفعال الخير. يبقى السؤال لماذا قال أن اشكر لله ولم يقل فاشكر؟ ما معنى أن اشكر لله؟ هناك فرق بين أن اشكر لله وفاشكر لله؟ ينبغي أن نعرف الفرق بين التعبيرين حتى نفهم لماذا قال أن اشكر ولم يقل فاشكر. قسم يقول (أن) تفسيرية، أن التفسيرية يسبقها ما فيه معنى القول دون حروفه أي دون حروف القول (ق، و، ل) مثل أوصى وأوحى يسبقها معنى القول أوصيناه أن افعل، لما تقول قال تصير مقول القول. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131) النساء) هذه تفسيرية تفسر ما سبق، ما هي الوصية التي فسرها؟ (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (7) القصص) ما هو الوحي؟ فهي تفسر الوحي الذي أوحاه. الأكثرون يذهبون إلى أنها تفسيرية (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) ماذا آتاه؟ أن اشكر لله؟ لذلك قالوا هل هي الحكمة أو هي من الحكمة ولذلك قسم ذهب إلى أنها ليست تفسيرية وإنما هي وأوصيناه أن اشكر لله يعني هناك معطوف محذوف، أن اشكر لله في تقديره لمحذوف أتيناه وأوصيناه. هذا التعبير (أن اشكر) يفيد ثلاث معاني أنه آتاه الحكمة وأوصاه بالشكر وآتينا لقمان الحكمة يعني طلب منه الشكر يعني آتاك الله الحكمة فاشكر على ما آتاك، آتاك الحكمة فاشكره لأن الحكمة من النِعَم فاشكره وإن من الحكمة أن تشكر ربك ليزيد الخير (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (7) إبراهيم). هو يشكر الله على أن آتاه الحكمة والشكر حكمة في حد ذاتها. لما قال (أن اشكر لله) تجمع ثلاث معاني أولاً أن أوصاه بالشكر والآخر لقد آتاك الحكمة فاشكر لله على ما آتاك من نعمة لأن الحكمة نعمة تستحق الشكر ومن الحكمة أن تشكر ربك. لو قال فاشكر ليس لها إلا معنى واحد يشكر على إيتائه الحكمة بينما هذه إن من الحكمة أن تشكر ربك، هذا معنى آخر جديد إن من الحكمة أن تشكر ربك لأنه لئن شكرتم لأزيدنكم إذن إن من الحكمة أن تشكر ربك حتى تستزيد من الخير في الدنيا والآخرة، إذن إن من الحكمة أن تشكر ربك وقال آتاك الله الحكمة فاشكره على هذه النعمة وهذا معنى آخر، والأمر الآخر آتيناه الحكمة وأوصيناه بالشكر هذا كله في قوله تعالى (أن اشكر لله) لو قال فاشكر لله لا تعطي هذه المعاني وفيها ضعف، لو قال (ولقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر لله) من الذي يشكر؟ المخاطب، هو لا يخاطب لقمان وإنما يتكلم عن لقمان بضمير الغائب ليس بضمير المخاطب فيصبح الفعل فاشكر فعل أمر للمخاطب، لم يؤتك شيئاً فتشكره على أمر لم يؤتيك إياه وإنما أعطاه شخصاً آخر؟. إذن من كل النواحي التعبيرية (أن اشكر) وليس فاشكر. ثم يأتي (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) شكر لفلان أو شكر فلاناً هل هو متعدي أو لازم؟ للشخص في القرآن يكون متعدياً (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) لقمان)، العمل تعدية شكرت لفلان صنيعه للعمل يكون مفعول به، وللشخص يتعدى باللام شكرت لفلان صنيعه، شكرت لله نعمته أو شكرت لفلان، لو شكرته على الفعل تقول شكرت عطاءك متعدياً بذاته أصل الفعل الذي تشكره بسببه يكون متعدياً بذاته وإذا كان الشكر للمنعم يتعدى باللام. لم يقل أن اشكر لنا لأنه أراد أن يبين من المتكلم. (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) يريد أن يبين من هو الذي آتاه الحكمة فذكره باسمه الصريح فقال (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) هذا أمر والأمر الآخر أنه تعالى لم يذكر ضمير الجمع في موطن من المواطن في القرآن الكريم إلا إذا كان قبله أو بعده ما يدل على الإفراد لئلا يتوهم الشرك أصلاً ويزيل أي شائبة من شوائب الشرك حتى لا يتصور أنه إذا قال آتينا يكون أكثر من إله لم يرد في القرآن موطن واحد في ضمير الجمع لله إلا سبقه أو كان بعده ما يذكر على أنه واحد (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) لقمان) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) القدر) .
*الشكر جاء في الآية بصيغة المضارع بينما الكفر جاء بصيغة الماضي فهل لذلك من لمسة بيانية؟
قال تعالى (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) السؤال هو لماذا قال ومن يشكر بالمضارع ثم ومن كفر بالماضي؟ هو الشكر يتكرر وينبغي أن يتكرر لأن كل نعمة تمر بك لا بد أن تشكرها ينبغي أن تشكرها. إذن الشكر يتكرر بينما الكفر ليس كذلك يمكن للإنسان أن يكفر ويبقى على كفره ولا يضطر لأن يكفر ويكفر، يكفي أن يكفر في المعتقد أو في شيء أما الشكر فيتكرر. في حلقة سابقة ذكرنا أنه إذا ورد فعل الشرط مضارعاً فهو مظنّة التكرار وإذا ورد ماضياً فهو ليس مظنة التكرار وضربنا أمثلة من جملتها (وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا (93)) فرقنا بين المتعمد والخطأ (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا (19) الإسراء) (وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا (145) آل عمران) الفرق بين الثواب وإرادة الآخرة (وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ (19) الأنفال) (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا (8) الإسراء)، (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي (76) الكهف)، (إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) محمد) وذكرنا في حينها دلالة أن ورود الفعل المضارع بعد أداة الشرط مظنة التكرار ووروده ماضياً ليس مظنة التكرار. وهنا ورد مضارعاً بعد أداة الشرط (من) اسم شرط وجوابه فإنما يشكر لنفسه، فهو مظنة التكرار وينبغي أن يتكرر لأن الشكر ينبغي أن يتكرر لأن النِعم متكررة لا تنقطع بينما الكفر ينبغي أن يُقطع أصلاً ولذلك جاء به بالفعل الماضي فخالف بين الفعلين، المضارع فيه تجدد واستمرار في الغالب أما الماضي فانقطع في الأصل وإن كان النحاة يرون أن الماضي إذا وقع في فعل الشرط يدل على الاستقبال.
*في سورة الروم قال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) فإذا قارنا بين هذه الآية وآية سورة لقمان فما اللمسة البيانية بين الآيتين؟
هناك أكثر من اختلاف بين الآيتين. نلاحظ أنه في آية الروم قدّم الكفر وأخّر العمل (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) ثم نلاحظ أنه ليس هذا فقط وإنما ذكر عاقبة كلٍ من الفريقين في آية الروم بينما في لقمان ذكر فقط عاقبة الشكر ولم يذكر عاقبة الكفر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) بينما في آية الروم ذكر عاقبة الاثنين (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) ذكر عاقبة الكفر (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) وعاقبة الإيمان والعمل الصالح (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ). أما في لقمان فذكر عاقبة الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) يستفيد هو لأن عاقبة الشكر يعود عليه نفعها أما في الكفر لم يذكر شيئاً وما قال يعود عليه كفره. بينما في الروم فقال (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ذكر العاقبة، هناك لم يذكر. إذن صار الخلاف أيضاً من ناحية الجزاء ذكر في لقمان ذكر جزاء الشاكر ولم يذكر جزاء الكافر وفي الروم ذكر جزاء الاثنين الكافر والعمل الصالح. وفي الروم ذكر الفعلين بالماضي (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)). حتى المقابلة في لقمان قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) الكفران بمقابل الشكر بينما في الروم قال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) اختلفت. فهي إذن ليست مسألة واحدة بين الآيتين وإنما أكثر من وجه للاختلاف بينهم والسياق هو الذي يحدد الأمر.
*لماذا قدّم الكفر على العمل الصالح في آية سورة الروم؟
ذكرنا أن التقديم والتأخير هو بحسب السياق وهو الذي يحدد هذا الأمر. السياق في الروم هو في ذِكر الكافرين ومآلهم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) إذن السياق في ذِكر الكافرين فقدّمهم وقال (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ). في لقمان قال (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) بدأ بالشكر فلما تقدم الشكر (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِِ) بدأ بالشكر قال (وَمَن يَشْكُرْ) التقديم والتأخير كله بحسب المناسبة لذلك نلاحظ يقدّم الكلمة في موطن ويؤخّرها في موطن آخر بحسب السياق الذي ترد فيه.
*في الأفعال في سورة لقمان (وَمَن يَشْكُرْ) بين مضارع وماضي بينما في الروم بصيغة الماضي (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) فلِمَ التنوع في الصيغة الزمنية في الفعل؟
آية لقمان فيمن هو في الدنيا (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)) هذه كلها في الدنيا، آية الروم في الآخرة (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) يومئذ يصدعون ومن كفر بعد هذا اليوم أي يوم القيامة ليس هنالك عمل انتهى، ذهب وسيأتي ما قدّم عاقبة من كفر ومن عمل. أما في آية لقمان في الدنيا قال (وَمَن يَشْكُرْ) هو يمكن أن يشكر طالما هو في الدنيا. لكن آية الروم وقعت بعد قوله (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)) انتهى هذا ليس هنالك عمل، انقطع العمل. في الروم يتحدث باعتبار ما كان وما مضى أما في لقمان فيتحدث في الدنيا ولهذا جاءت (يشكر) في لقمان بالمضارع. الكفر ينبغي أن يُقطع وليس مظنّة التكرار والكفر ليس كالشكر لأن الشكر يتكرر.
ذكر عاقبة الكفر في الروم (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) ولم يذكر عاقبة الكفر في لقمان. السبب أنه ذكر عاقبة الكفر في الدنيا وعاقبة ذلك في الآخرة وقبلها قال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)) هذا من عقوبات الكفر وذكر العاقبة فناسب ذكر العاقبة أيضاً في الكفر فلما ذكر عاقبتهم في الدنيا ناسب أن يذكر عاقبتهم في الآخرة. في لقمان لم يذكر ولم يرد هذا الشيء وذكر فقط الشكر ولذلك ذكر عاقبة الكفر والعمل في آية سورة الروم لأن هذا وقت حساب.
*لِمَ قال (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) ولم يقل مهّدوا لأنفسهم؟
أحياناً نعبر عن المضارع للدلالة على المُضيّ ويسمونه حكاية الحال الماضية مثلاً (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (91) البقرة) المفروض قتلتم، (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ (102) البقرة) المفروض تلت، (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ (18) الكهف) المفروض قلّبناهم. يستخدم المضارع أحياناً للدلالة على المضي، هذه تسمى حكاية الحال الماضية هي للأشياء المهمة التي تريد أن تركّز عليها تأتي بها بالمضارع إذا كنت تتحدث عن أمر ماضي، القتل أمر مهم جداً فقال (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء اللّهِ) قد تُحدث نوعاً من أنواع لفت النظر وهم يقولون إما أن تأتي بالماضي فتضعه حاضراً للمخاطب كأنه يشاهده تنقل الصورة الماضية إلى الحاضر بصيغة فعل مضارع فيكون المخاطَب كأنما الآن يشاهده أمامه أو أنك تنقل المخاطَب إلى الماضي فتجعله كأنه من أصحاب ذلك الزمن فيشاهد ما حدث. لذلك حتى البلاغيين يستشهدون بمن قتل أبا رافع اليهودي في السيرة لما يقصون القصة كيف قتل أبا رافع يحكي القصة يتكلم عن أمر مضى فيقول: فناديت أبا رافع فقال نعم، فأهويت عليه بالسيف فأضربه وأنا دهِش، (قال فأضربه أبرز حالة اللقطة لم يقل فضربته). هذه تُدرس في علم المعاني وأحياناً في النحو في زمن الأفعال.
*ذكر في لقمان بمقابل الكفر الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) بينما في الروم ذكر الكفر والعمل فاختلف.لماذا؟
الكفر لغةً له دلالتان: الكفر بما يقابل الشكر (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ (152) البقرة) (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) الإنسان) (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ (94) الأنبياء) إذن شكر يقابلها كفر وكفر النعمة أي جحدها. الكفر هو الستر في الدلالة العامة لما تأتي إلى التفصيل شكر يقابلها كفر، شكر النعمة يقابلها كفر النعمة، كفر بالنعمة أي جحد بها وعندنا الإيمان أيضاً يقابله الكفر وهذه دلالة أخرى. إذن كلمة كفر إما تكون مقابل الشكر وإما تكون مقابل الإيمان. إذا كان الأمر متصلاً بالنعمة فهي مقابلة للشكر وإذا كانت متصلة بالعقيدة أو عدم الإيمان فمقابلها الإيمان. العمل يأتي من متممات الإيمان آمن بالقلب وصدّقه العمل “الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل”، لذلك هو السؤال المقابلة تختلف في لقمان مقابل الكفر الشكر (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) في الروم مقابل الكفر الإيمان والعمل لأنه لما ذكر الشكر (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) مقابل الشكر الكفر (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ). الآن في الروم ذكر الكافرين والمشركين قبلها قال (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)) مقابل هؤلاء مؤمنين (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)) فإذن قابل في لقمان الشكر بالكفر وهو يتحدث عن النِعم. أما في الروم يتحدث عن العقيدة (كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) حتى مقصود الآية يؤدي إلى تغيّر الألفاظ وتغيّر دلالتها. في الروم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)) كل واحدة بمقابلها. لما ذكر الكفر مقابل الشكر ذكر الكفر بما يقابل ذلك. لما ذكر الشكر في لقمان ذكر الكفر بما يقابل ذلك فقابل الكفر في الروم بالإيمان والعمل الصالح وقابله في لقمان بالشكر. لا نستطيع أن نفهم آية من آي القرآن الكريم إلا من خلال السياق العام الذي تتحدث عنه الآية لذلك يقولون السياق هو أعظم القرائن.
قال (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) جاء بـ (إنما) للدلالة على الحصر لأنها تفيد الحصر، سيشكر لنفسه حصراً لأنه هو الذي سيستفيد آلأن الله تعالى لا يستفيد من شكر الشاكرين ولا يضره كفر الكافرين (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأن الشكر ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ (7) إبراهيم) وهذه الزيادة تكون في الدنيا والآخرة إذن هي مآلها إليه الشاكر يعود شكره عليه (فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) (إنما) أداة حصر، حصراً ويسميها النُحاة كافّة مكفوفة.
*في لقمان قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ما دلالة الجمع بين غني وحميد؟ وما دلالة حميد في اللغة؟
الحميد هو ابتداءً الذي يستحق الحمد على الدوام. (غني حميد) من ألطف الجمع في الدنيا لأن الشخص عموماً حتى في حياتنا الدنيا قد يكون غنياً غير محمود، غنياً لا يُحمد في غناه قد يكون بخيلاً ومحمود غير غني. فإذا اجتمع أنه غني وحميد في آن واحد فهذا من الكمال أن يكون غنياً وحميداً لأنه لاحظنا أناساً نعرفهم لم يكونوا أغنياء لكنهم كانوا محمودي السيرة وكانوا يُمدحون فلما اغتنوا تغيّرت طباعهم فربنا جمع بين الغنى وأنه محمود على الدوام. هو محمود وحميد لكن هناك فرق بين الصيغتين: حميد فعيل بمعنى مفعول على الأرجح مثل جريح وقتيل وكسير وأسير. لكن ما الفرق بين هاتين الصيغتين محمود وحميد؟ عندنا قاعدة أن فعيل أبلغ من مفعول. حميد ومحمود هذه اسم مفعول وليست صيغة مبالغة، حميد اسم مفعول أي الذي يُحمد كثيراً على الدوام وإن يقول البعض أنه قد تكون بمعنى حامد والأرجح في كتب اللغة أن حميد أي محمود الذي يُحمد على نِعَمه. إذن كلاهما اسم مفعول، قتيل ومقتول كلاهما اسم مفعول، جريح ومجروح كلاهما اسم مفعول. بين فعيل ومفعول فعيل أبلغ من مفعول عموماً يعني كأنما الوصف أصبح في صاحبه ملازماً له خِلقة. هناك فرق بين كفّ مخضوب (بالحنّاء) قد يكون مرة وقد يكون ليس من عادته أن يخضب كفّه بينما كفّ خضيب مستمر، فيه استمرار. طرف كحيل وطرف مكحول يقال أين الطرف الكحيل من المكحول؟ الطرف المكحول قد يكون كُحل مرة في الأسبوع أو الشهر أما كحيل فهو يستمر صاحبه على كحله كأنه خِلقة، وطرف أكحل هذا خِلقة. إذن كحيل كأنه خِلقة من الكثرة والدوام. ثم (مفعول) تحتمل الحال والاستقبال لما تقول أراك مقتولاً هذا اليوم وبعده لم يُقتل، وكما قال تعالى (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا (102) الإسراء) لم يقع بعد هذا ولما قال عبد الله بن الزبير: اعلمي يا أماه أني مقتول من يومي هذا. صيغة مفعول تقال لما حصل أو لما لم يحصل في المستقبل عندما تقول هو مقتول قد يكون هو فعلاً مقتول وقد يكون ليس مقتولاً لكن سيقتل لكن فعيل لا يمكن إلا أن يكون قد قتل بالفعل، لا يمكن أن تقول لمن سيقتل قتيل ولا تقال إلا لمن وقع عليه الفعل حقاً. أما (مفعول) فليس بالضرورة وتقال لما وقع أو لما سيقع. ثم فعيل أبلغ في كيفية الحدث، يقولون لا تقولوا لمن جُرِح في أُنملته جريح وإنما مجروح. فعيل يقال على وجه الاتساع والشمول ولما هو أبلغ. جريح يعني جرح بالغ، مجروح يقال للجرح البسيط أو البليغ وهو عام أما جريح (فعيل) فلا تقال إلا للوصف البليغ، جريح لا تقال إلا للمثخن بالجراح على وجه المبالغة والشمول والاتساع ولمن وقع عليه، مجروح لا تقال، إذن ربنا غني حميد.
*ورد في سورة إبراهيم (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)) وفي لقمان في مكان آخر قال (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) وهنا قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) فكيف نفهم الفروق البيانية الدلالية الموجودة بين الثلاث الآيات ونظهر اللمسات البيانية فيها؟
ربنا سبحانه وتعالى قال في سورة إبراهيم على لسان موسى (وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ)، في لقمان قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) فأكد في سورة إبراهيم فقال (فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) أكد بإنّ واللام في (إن الله لغني)، في لقمان أكد بإنّ وحدها وقال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) في إبراهيم زاد اللام وفي لقمان التوكيد فقط بإنّ. وقلنا أن السياق هو الذي يوضح هذا الأمر. لو نقرأ الآية في لقمان (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) إذن قسّم العباد إلى قسمين قسم شاكر وقسم كافر، من يشكر ومن كفر إذن قسم العباد إلى قسمين. في إبراهيم افترض كفر أهل الأرض جميعاً ولم يقسمهم إلى قسمين (إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) إذن في لقمان افترض العباد قسمين وفي إبراهيم افترض كفر أهل الأرض جميعاً فنلاحظ الاختلاف بين التعبيرين في ثلاثة أمور: أولاً في لقمان جرى على التبعيض (بعضهم مؤمن وبعضهم كافر باعتبار من يشكر ومن كفر) بينما في إبراهيم على الشمول شملهم كلهم ولم يستثني أحداً. ونلاحظ في لقمان قال (ومن كفر) بالماضي، في إبراهيم قال (إن تكفروا) بالمضارع، في لقمان فعل الشرط ماضي (ومن كفر) وفي إبراهيم فعل الشرط مضارع (إن تكفروا) والفرق واضح لأنه ذكرنا في حلقة ماضية أنه إذا كان فعل الشرط ماضياً افتراض وقوع الحدث مرة وإن كان مضارعاً افتراض تكرر الحدث فهنا قال (إن تكفروا) يعني إذا داومتم واستمررتم على الكفر دلالة على تكرر الكفر وتجدده (إن تكفروا) يعني تستمرون على الكفر وتداوموا عليه وفي لقمان قال ومن كفر. ثم قال (جميعاً) جاء بالحال المؤكدة. إذن افتراض كفر أهل الأرض بلا استثناء لم يجعلهم قسمين ثم افتراض الكفر مستمر ثم أكد ذلك بـ (جميعاً) فاقتضى ذلك زيادة التأكيد في إبراهيم (فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) الله تعالى لا يحتاج إلى غني لما ذكر هذه الأمور افتراض ليكفر أهل الأرض جميعاً وليداموا على الكفر جميعاً هذه كلها مؤكدات. ربنا تعالى لم يؤكد غني في لقمان لأن الناس فئتان ولما كان الناس على ملة واحدة أكّد لأنه تعالى لا يحتاج إليهم حتى لو كانوا كلهم كفار ويداومون ويستمرون على ذلك. فائدة التأكيد هنا فائدة بلاغية أن الله تعالى غني عن العباد كلهم لو كفروا كلهم جميعاً واستمروا ربنا غني عنهم، تأكيد الغنى.
*هل نفهم أنه – والعياذ بالله – في لقمان ليس غنياً بدرجة غناه في سورة إبراهيم؟
هو التأكيد ليس معنى ذلك لكن الموقف يحتاج لهذا الشيء فالله تعالى يقول عن نفسه عالم ومرة يقول عليم ومرة يقول والله غفور رحيم، إن ربك لغفور رحيم، حسب ما يقتضي السياق وهو سبحانه وتعالى غني عن العباد في جميع الأحوال.
في لقمان أيضاً قال تعالى (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)) جاء بضمير الفصل (هو) وعرّف الغني. ضمير الفصل يقع بين المبتدأ والخبر وأصله مبتدأ وخبر بين اسم إنّ وخبرها، بين اسم كان وخبرها، بين مفعولين، ظنّ وأخواتها يفيد التوكيد ويفيد الحصر أحياناً فقوله إن الله هو الغني الحميد يعني ليس في الحقيقة غنيّ سواه. لمّا قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لم يذكر له مُلك بينما في تلك الآية ذكر له ملك (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) والمعروف أن الغني في كل العالم هو الذي يملك. في الآية الأولى لم يذكر الملك قال (وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) كأنه يقول أنا غنيّ عنك وعن شكرك كما إذا قلت لأحد أعطني لأمدحك يقول لك أنا غني عن ذلك، ليس بالضرورة أن تكون مالكاً وحتى في حينها استشهدنا بقول الخليل لما أرسل له أمير الأهواز بِغالاً محمّلة وطلب منه أن يأتي إليه فقال الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في جِدَةٍ وفي غنى غير أني لست ذا مال
ربنا لم يذكر في آية لقمان الأولى أن له ملك والآية الأخرى ذكر له ملك ولا شك أن الذي يملك هو الغني لأنه (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) يعني ذكر أنه غني والغنى درجات والناس يتفاوتون في الغنى وعندما تقول فلان غني يعني هو أحد الأنبياء وقد يكون هناك أغنياء آخرون وقد يكون هناك من هو أغنى منه، هو أحد الأغنياء. لكن هو الغني أي لا أحد سواه. فلما ذكر (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لم يبق شيء للآخرين، فهو في الحقيقة هو الغني وحده فكل تعبير في مكانه أنسب وأيّ واحد عنده شيء من البلاغة يضع كل تعبير في مكانه كما هو في القرآن ولا يصح أن يضع هو الغني الحميد في مكان ليس فيه ملك وإنما كل كلمة في مكانها المناسب.