*الاستعاذة*
*ما الاستعاذة وما معناها؟
الاستعاذة أُخِذت من قوله تعالى (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) الكلام كان موجهاً إلى الرسول  وما وُجّه للرسول  في مثل هذه الأمور فمن باب أولى أن يأخذ به أتباعه.
*عندنا (إذا) أداة شرط وعندنا (إن) أداة شرط. لماذا اختار (إذا)؟.
في لغة العرب إذا قالوا (إن) معناه احتمال وقوعه قليل، فإذا قالوا(إذا) معناه أن ما بعدها احتمال وقوعه قوي أو واسع أو كثير.
فعندما يستعمل القرآن كلمة (إذا) معناه أن الأصل أن تقرأ القرآن (فإذا قرأت القرآن) هذا حاصل، ثم عندما دخلت (إذا) على الفعل الماضي، وقلنا هي إذا استعملت في الزمان (إذا جاء نصر الله) قرّبته من المستقبل إلى واقع الحال يعني هو أمر قريب.
(فإذا قرأت القرآن) يعني قراءتك للقرآن مسألة قريبة قائمة.
بعض العلماء يقولون هنا (إذا قرأت القرآن فاستعذ): معناها أن الاستعاذة تكون في داخل القراءة، لكن الجمهور قال: هذا الفهم غير دقيق، فهو عندما يقول: إذا قرأت يعني: إذا أردت أن تقرأ، هكذا هي لغة العرب لأنه في القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلى الْكَعْبَيْنِ) يعني ، معناه إذا أردتم أن تقوموا إلى الصلاة توضؤوا. إذا أكلت فقل بسم الله الرحمن الرحيم، يعني إذا جئت لتأكل، لا إذا أكلت، فما معنى أنه بعد أن يفعل الأكل يقول بسم الله؟ يعني حتى في العامية نستعملها نقول : إذا أكلت فقل بسم الله، معناه: قبل أن تباشر الأكل، معناه قبل أن تريد الفعل، قبل أن تريد استفتاح العمل.
فإذا قلت: (إذا قرأت) لا تعني أنه إذا وقعت منك القراءة عند ذلك استعذ؛ لأن بعضهم قال إذا انتهيت من القراءة فاستعذ، إذا خطبت فاخفض صوتك: معناه قبل أن تبدأ الخطابة خذ هذه النصيحة.
فإذا قرأت، أي حينما تريد القراءة، عندما تنوي أن تقرأ.
ولقد غيّر الإسلام معاني بعض الكلمات وفقاً لمفهومه هو، ومنها معنى الصلاة والزكاة، وهي معانٍ كانت مستعملة قديماً لكن ليس بالمفهوم الإسلامي.
(فإذا قرأت): قرأ في الأصل بمعنى: أمرّ بصره على شيء مكتوب، وهذا الذي فهمه الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قال له جبريل: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، يعني أنا لا أحسن أن أمرّر بصري على شيء مكتوب حتى أقرأه. ثم تغيّر المفهوم، فصارت القراءة في الإسلام ترداد ما حواه صدرك مما سمعته، أو مما أمررت بصرك عليه، يعني من محفوظاتك، ولذلك قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، فقرأ (صلى الله عليه وسلم): اقرأ باسم ربك الذي خلق؛ لأنها مرت على قلبه.
فهذه عامة، سواء كانت قراءة القرآن من المصحف أو من الحفظ ينبغي أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
(فإذا قرأت القرآن فاستعذ): الفاء واقعة في جواب (إذا). استعذ : أمر من الفعل استعاذ يستعيذ، وهذه صيغة استفعل فيها معنى الطلب والسعي، فقولك: فهِم غير استفهم: استفهم معناه: سعى طالباً الفهم يعني في الأمر جهد.
لم يقل القرآن (فإذا قرأت القرآن فقل أعوذ بالله) لأن ذلك تلقين، الآية تريدنا أن نبذل جهداً باستحضار معنى استعاذ (فاستعذ) لم يقل (أعوذ) أو (عُذ) لأن هذا أمر بالفعل. لكن استعمل صيغة استفعل، ففيها معنى الطلب، يعني يريد لك أن تستحضر، ويكون لديك جهد في الاستحضار والاستعاذة، أو العوذ بالله سبحانه وتعالى. الآية تريدنا أن نكون حاضري الذهن، أن نبذل جهداً في التفكر بالاستعاذة، يعني هناك طلب أن تطلب العوذ وأن تبذل جهداً، وفرق بينها وبين ما ذكرناه.
(فاستعذ بالله) كلمة (الله)، هذه اللفظة عندما تُذكر لا يخطر معها في الذهن وصف محدد من أوصاف الباري سبحانه وتعالى. حين نقول الله : يستحضر الذهن: هو الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى. كل ما خطر في بالك من صفات (الله).
لكن حين تقول (القادر) يخطر في بالك صفة القدرة، حين تقول (الرحمن) صفة الرحمة، حين تقول (القهار) صفة القهر، (الكريم) صفة الكرم.
الاسم الوحيد لذات الله سبحانه وتعالى الذي إذا ذكرته لا يكون معه وصف معين، فهو يحتمل كل الأوصاف، بكل العظمة، هو كلمة الله، وسنعود إليها عندما نتكلم عن بسم الله الرحمن الرحيم.
عندما تستعيذ تستعيذ بالله تعالى من كل ما يحضرك، وأنت بحاجة إلى صرفه عنك حين تقرأ؟ أن يصرف عنك الأفكار ، الخواطر ، الحزن، الأهواء، كل ما تريد؟ كلمة الله تستجيب لما يخطر في ذهنك؛ لأنها ليست منحصرة بوصف معين، فالاستعاذة بالله، واستعذ بمعنى الجأ. تقول فلان رمي بسهم فعاذ بشجرة، بمعنى استجار أو اختبأ أو اتّقى أو لاذ.
فهكذا ينبغي أن تتصور أنك تستعيذ، تستجير، تستنجد بالله، (فاستعذ بالله) أي تصور أنك تلجأ إلى الله تعالى ليخلصك من كيد الشيطان، عند ذلك تكون في مأمن.
لكن لاحظ أن القرآن الكريم استعمل كلمة الشيطان، ولم يقل إبليس لأمرين: أولاً: إبليس هو اسم أبي الشياطين الذي أبى أن يسجد لآدم، وأول من عصى ربه تعالى، وليس شرطاً أن يكون هو الذي يأتي ليوسوس لك بنفسه، لأن له ذرية (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) وكل إنسان وُكّل به شيطانه.
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
والواقع أنه تدنى به الحال، لا ارتقى.
كل إنسان موكل به هذا القرين الذي يحاول أن يضله، والشيطان أبوهم يحاسبهم، ولذلك في الأثر: أنه إذا مات العبد على طاعة الله سبحانه وتعالى (حتى نعرف الخطر الذي يحيط بنا من الشيطان) إذا مات العبد على الإيمان يصرخ الشيطان صرخة يجتمع لها أبناؤه، فيقول: أين كنتم عن هذا؟ كيف مات على الإيمان؟ فيقولون: لقد راودناه فكان مستعصماً. نسأل الله تعالى أن نكون جميعًا من المستعصمين.
هذا شيء، والشيء الثاني أن كلمة إبليس فيها معنى الانكسار والخذلان والحزن، بينما الآية تريد أن تحذّر.
(الشيطان الرجيم): كلمة الشيطان من الشطن الذي هو الحبل الممتد، يعني أن هذا الشيطان يمتد إليك، فكن حذراً منه، لكن حتى لا يغالي الإنسان في كثرة الخوف منه جاءت كلمة الرجيم، وكلمة الرجيم وصف هو أنسب الأوصاف للشيطان في هذا الموضع، يعني لم يقل الشيطان اللعين، الشيطان كذا، الشيطان كذا، وإنما الرجيم حتى تتخيل صورته وهو يُرجم بالحجارة، فكأنه منشغل بنفسه، فكلمة شيطان فيها معنى الحبل الممتد إليك حتى لا تتهاون في شأنه، وكلمة رجيم حتى لا يبلغ بك الخوف منه مبلغاً عظيماً، فهو رجيم مرجوم.
هل النون أصلية في شيطان وشياطين؟ في ذلك قولان: البعض يقول: هو من شاط أي ابتعد، والبعض يقول: هو من الشطن، وهذا الذي رجّحناه.
ثم يقول تعالى: (إنه ليس له سلطان) هذا تطمين للمسلم أنه عندما يتوكل على الله سبحانه وتعالى سيحييه الحياة الطيبة، وسينقذه من الشيطان حتى لا يبقى في قلق وخوف ووسوسة؛ لأن المسلم لا ينبغي أن يكون موسوساً، فهذا الشيطان ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، هذه صفتهم: إيمان وتوكل.
*صيغة الاستعاذة:
(فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) جمهور المسلمين قالوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لم يقولوا أستعيذ بالله. فجواب الأمر الطبيعي لقوله: استعذ، هو: أستعيذ، أو: استعذت، وإنما أعوذ فعل مضارع يدل على الحال والاستقبال. أي حين تقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يعني: أنا الآن في حالة عوذ: بينما قولك: أستعيذ يعني: سوف أطلب العوذ. أنت طُلِب منك العوذ في الآية، فأنت الآن تعوذ في الداخل فتقول: أعوذ، ولا تقول (استعذت)؛ لأنه سيكون شيء تاريخي ماض.
*ما حكم من يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؟
هذه الإضافات قديمة وليست جديدة، بحثها العلماء، وقالوا بجوازها، ولكننا نختار من بين الأشياء الجائزة ما هو أفضل. إذا قال المرء: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم له ذلك. لكن من باب الالتزام بالآية أن نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. والإضافة ليس فيها ضير، ولكن كما قلت الأمثل والأرجح والأفضل أن نختار ما اختاره جمهور السلف (الخير في الاتّباع وليس في الابتداع) دائماً الخير في الاتباع في أمور الشرع لأنه كما جاء في الحديث: “خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” فلما كان القدامى في الاستعاذة اختاروا (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فلا داعي للزيادة، ومن زاد شيئاً فلا شيء عليه حتى لا نحجّر واسعاً، لكن نقول: الأفضل هو عدم الزيادة.
* هل من فرق بين الرجيم والمرجوم؟
عندنا لغتان: فعيل ومفعول. فعيل نسميها صفة مشبهة كأن الرجم لازم له، أما حين نقول مرجوم على مفعول، وهي لغة تميم، فقد يكون مرجوماً الآن لكن لا يكون مرجوماً بعد ساعة، بينما رجيم تعني أنها صفته اللاصقة به، وإنما اختيرت الصفة المشبهة التي تدل في الغالب على الثبات لتدل على أن صفة الرجم ملازمة له .
*البسملة*
*بسم الله الرحمن الرحيم: ما هي وما معناها وما تفسيرها؟
الآن ننتقل إلى سورة الفاتحة. وسورة الفاتحة تبدأ بقوله تعالى: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) إلى آخر السورة، نحن هنا نريد أن ننبه إلى مسألة لعلها تتعلق بأصول الفكر الإسلامي والفهم الإسلامي كيف ينبغي أن يكون؟ وماذا ينبغي أن يكون عليه المسلم في علاقته بالآخرين؟.
البسملة فيها كلام، لكن الذي أخذ به المصحف المتداول الآن، مصحف المدينة النبوية، وما أُخِذ عنه، وهو مطبوع بالملايين بين أيدي المسلمين – هو أن تكون البسملة هي الآية الأولى من سورة الفاتحة. وإذا فتحنا المصحف سنجد بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة أمامها رقم 1 ، ومعنى ذلك أنها هي الآية الأولى، وهذا الذي أخذ به المصحف، هو ما كان عليه جمهور عظيم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، وقد نبّه المشرفون على تدقيق المصحف في آخره إلى أنهم أخذوا في عدّ الآيات بما رواه عبد الرحمن السُلَمي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه.
وهناك آراء أخرى، وروايات أخرى، لكننا نقول إنه حينما تكون هناك أكثر من رواية في قضية معينة، ويقتنع المسلم بإحدى هذه الروايات بناء على ما يراه من دليل، فينبغي أن يعتقد أن ما أخذ به هو لصاحب الأجرين، وما أخذ به مُخالِفه هو لصاحب الأجر الواحد، هذا نصف الاعتقاد، والنصف الثاني أن يُقرّ في نفسه باحتمال أن يكون ما أخذ به هو للأجر الواحد، وما أخذ به مخالِفه هو لصاحب الأجرين حتى لا نبقى في شد وتعصب.
أنا مقتنع الآن تماماً بأن ما أخذ به هذا المصحف، من عدّه البسملة آية من الفاتحة نقلاً عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وجمهور من الصحابة إذن – أنا معتقد أن الآخذ بهذا آخذٌ برأي صاحب الأجرين من المجتهدين، وأن ما أخذ به غيري من عدم عدّها آية من الفاتحة هو صاحب الأجر الواحد، لكنني في الوقت نفسه معتقد أنني قد أكون صاحب الأجر الواحد وهو صاحب الأجرين، أؤكد على ذلك حتى نتخلص من فكرة المشاحّة والمجادلة وإضاعة الوقت فيما لا فائدة من ورائه، لأن هذا أخذ به جمع من الصحابة، وذلك أخذ به جمع آخر من الصحابة، ولسنا خيراً من القرون الأولى التي قال فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم): خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ومن هنا نحن سنقف عند قوله بسم الله الرحمن الرحيم بوصفها الآية الأولى من سورة الفاتحة.
يقولون أن البسملة وردت 114 مرة كعدد سور القرآن فهل في هذا إعجاز؟ هذه الآية وردت في سورة النمل في داخلها (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)) ولم توضع في براءة أو سورة التوبة، فجاءت على عدد سور القرآن الكريم 114 مرة.
بسم الله:
هذه اللفظة حينما نقول بسم الله في أول المصحف الشريف، يعلّمنا الله سبحانه وتعالى – وهذا من فضله جلّت قدرته – أن نُجري على ألسنتنا ما ينبغي أن نقوله، كما أن آدم (عليه السلام) لما عصى ربه لم يعرف كيف يتوب وكيف يستغفر، فأوحى إليه الله سبحانه وتعالى كلمات (فتلقى آدم من ربه كلمات) فرددها، فتاب عليه, هذه الفاء التي في (فتاب عليه) تسمى الفاء الفصيحة؛ لأنها تفصح عن كلام محذوف، يعني فرددها، فتاب الله عليه. فمن فضل الله تعالى على هذه الأمة أن علّمها كيف تقول، وكيف تدعو، وكيف تناجي ربها، فتبدأ بكلمة بسم الله.
والعلماء يقدّرون محذوفاً، يقولون: لأن الجار والمجرور في الكلام لا يقويان على الوقوف وحدهما، بل ينبغي أن يتعلقا، أي أن يرتبطا بفعل أو ما يقوم مقام الفعل من أسماء الفاعلين والمفعولين، فيقدّرون : بسم الله أبتدئ، أو بسم الله ابتدائي، بسم الله أبتدئ القراءة، بسم الله أبتدئ الأكل، بسم الله أبتدئ اللبس، بسم الله أبتدئ حياتي وأنا خارج من منزلي، بسم الله أبتدئ وأنا داخل على أهلي في منزلي، بحسب ما تفعله تقول: بسم الله.
وقدّروا هذا المحذوف من فعل أو غيره بعد كلمة بسم الله حتى لا يبتدئ الإنسان في ذهنه بغير اسم الله، يعني أن تكون كلمة بسم الله هي البداية، أنت تبدأ بها في كل شأن من شؤون حياتك وعند ذلك تكون مطمئناً أنك مع الرحمن الرحيم، مع اللطيف الخبير، مع الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين، مع الله سبحانه وتعالى، فتبدأ بسم الله.
كلمة (الله) هي في الحقيقة اسم للذات الذي هو كما يقولون في الفلسفة واجب الوجود، وهي لفظ يشير إلى خالق السموات والأرض الذي ليس كمثله شيء. ولفظة(الله) هي اسم لمسمى، يقول جمهور العلماء إنها تشير إلى الذات الإلهية. أنا حين أقول لك إني أحدّثك الآن باسم زيد، وليس بإسمي الشخصي، فكلمة زيد هذه الأصوات: الزاي والياء والدال مع المصوتات التي فيها تجعلك تستحضر في ذهنك ذلك الإنسان، وعندما نقول يوسف، نستحضر في ذهننا صورة الشخص يوسف. لكن كلمة (الله) عندما نقولها فإن كل ما يخطر في أذهاننا يكون الله عز وجل بخلافه؛ لأنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، لكن يُستحضر في أذهاننا هذا المسمّى كما وصف نفسه سبحانه وتعالى، فأنت عندما تقول باسم الله تعني باسم هذا المسمى الذي لفظه الله.
*لماذا لفظة الله؟ قد يقول قائل لماذا لم يقل القادر، القهار، أو أي اسم من أسماء الله الحسنى؟
كلمة الله حينما يقولها الإنسان فإنه يعني بها الذات، الذي وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء. وحتى في الجاهلية أطلقوا كلمة الله على خالق السموات الأرض وما بينهما المهيمن المسيطر على أمور الدنيا، العليم الخبير، خالق الكون، الموجِد للموجودات جميعاً، وذكروا لأصنامهم أسماءً أخرى، فإذا قالوا الإله أو الآلهة فإنهم يعنون بها الأصنام، لكنهم لم يطلقوا كلمة الله على صنم من الأصنام أو معبود من المعبودات، فلفظ الله في أذهان العرب مميز له خصوصية لا يشاركه فيه أحد، فهي ليست ككلمة رب مثلاً، فإنهم يستخدمونها مع الإضافة فيقولون: رب الإبل (أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه) .
من هنا جاء القول عند البعض بأن هذه اللفظة مرتجلة غير مشتقة، لكن الذي يرجحه جمهور العلماء أنها مشتقة، يعني مأخوذة في الأصل القديم من الفِعل ألِه يأله، أو ألَه يألَه بمعنيين متقاربين. ألِه يأله بمعنى عبَد أو أحب حباً عظيماً إلى درجة العبادة، وبعض العرب أبدل الهمزة واواً فقال ولِه يوله، ومنها الولهان العاشق المغرم، فهي في الأصل إذًا بمعنى المحبة العظيمة إلى درجة العبادة، أو العبادة المخلوطة بالحب الغامر. فأصل اللفظة إذن هي عبادة وحب أو عبادة بحُبّ.
ثم دخلت الألف واللام فصارت الإله وهي أصلها إلِه (إلِه يأله إلهاً) كوزن كتاب، فكتاب وزنها فعال، لكن معناها مفعول. تقول هذا كتابنا أي هذا مكتوبنا، هذا الشيء الذي كتبناه، فهي فعال بمعنى مفعول. إله بمعنى مألوه مثلها يعني معبود محبوب، ثم دخلت (أل) على إله فصارت الإله، ثم حذفت الهمزة التي تقابل فاء الكلمة (الإله) لكثرة الاستعمال، والعرب تحذف لكثرة الاستعمال: يقولون في: (لم تكن) :(لم تك) لكثرة الاستعمال – فصارت الله بفتح اللام ووزنها العال لأن الفاء حذفت.
العرب بجمهورهم فخّموا اللام فيقولون (اللَه) بالتفخيم، وليست هناك قبيلة عربية تنطق اسم الجلالة بالترقيق، وفي بعض لغات العرب يفخمون كلمات، ويرققون أخرى، فمنهم من ينطق (الصلاة) مثلا بترقيق اللام، ومنهم من ينطقها مفخّمة، لكن العرب جميعاً كما روى علماؤنا المشافهون لقبائل العرب قالوا: أجمعوا على تفخيم هذا الاسم، إلا إذا كان ما قبله كسرة أو ياء عند ذلك يرقق استثناءً، فنقول (بالله) أو (أفي الله شك). لكن بخلاف ذلك يكون مفخماً.
ولفظة الله تقع موصوفا، فيقال: الله الرحمن ، الله الرحيم، لكن لا تأتي وصفاً، فلا نقول الرب الله نصفه، ولذلك يقول بعضهم إن الله هو الاسم الأعظم لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يوصف ولا يصف غيره، ولأنه يحمل كل سمات الأسماء الأخرى (ولله الأسماء الحسنى)، كل اسم من تلك الأسماء موجود تحت مظلة لفظة الله، أضف إلى ذلك هذه الخصوصية في التفخيم، وهذا المعنى الذي فيه من عبودية ومحبة يعني حب الله سبحانه وتعالى. وهو المعنى الذي أدركه المتصوفة القدامى الذين عرفوا الشريعة وكانوا على منهجها، كانوا مغرمين فعلاً بالله سبحانه وتعالى في إطار فهمهم للشريعة، وهم الذين قالوا الحقيقة والشريعة شيء واحد كالشيخ عبد القادر الجيلاني قدّس الله سرّه، ومعروف الكرخي وغيرهم .
الشيخ الجيلاني كان حنبلياً، ودرّس المذهب الحنبلي 30 سنة في مدرسته، كانوا علماء، وكانت فيهم رقة في قلوبهم، فاتّصلوا بالله سبحانه وتعالى بهذا النوع من الشفافية في الروح.
فلفظ الله مر بمراحل إلى أن وصل إلى صورته الأخيرة، فكيف نفسر هذا؟ نحن لا ندري المدة التي استغرقها هذا التحول في لغة العرب؟ هل تم ذلك في وقت قصير؟ أو أنه من الممكن أن يكون هذا اللفظ قد وضِع ابتداء هكذا (الله)؟ لكن هذا التأويل الصرفي مستساغ.
فهذه كلمة بسم الله، مع هذا التصور لتطور لفظ الله سبحانه وتعالى.
الرحمن الرحيم:
كلمة رحمن عندنا الفعل رحم، وعندنا رحمن ورحيم، كلتا الكلمتين مشتقة من ر-ح-م رحم، ومنها جاءت الرحمة، وفيها معنى الانعطاف والعطف، أو الضمّ والاحتضان، نقول: هذا فيه رحمة، أي: فيه عاطفة، وفي الحديث الصحيح: (شققت الرحم من اسمي الرحمن، فهي معلقة بالعرش، تقول: اللهم صِل من وصلني واقطع من قطعني).
والإسلام حريص على الروح الاجتماعية، وصلة الرحم بين الناس، ليس عندنا أب يعيش في معزل عن أبنائه، يطردونه أو يضعونه في ملجأ، أو أم لا تدري من أولادها وأين أولادها كما نرى في الغرب.
كما أن الإسلام دين تراحم، وتعاطف، وتوادّ، تبحث عن جارك وتسأل عنه. بعض الناس الآن لا يعرفون مَنْ جارهم؟ ماذا يشتغل؟ بات جوعان أو شبعان؟ ليس هذا ديننا.
وعند كلمة رحمن نلاحظ التدرج من العام إلى الخاص ، فنحن قلنا أن كلمة الله تضم تحت لوائها كل الأسماء الحسنى التي نستحضرها، وحين ننتقل إلى الرحمن نجد أن صيغتها صيغة فعلان مثل عطشان وظمآن، يسميها العلماء صيغة تكثير أو صيغة مبالغة، يعني فلان عطِش عطشا شديدا. فعطشان أي كثير العطش وعطشه شديد، ورحمن أي كثير الرحمة، ذو الرحمة العامة الشاملة، ولذلك يقولون: كلمة الرحمن معناها: هو رحمن في الدنيا والآخرة، هو رحمن بكل خلقه مؤمنهم وكافرهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحرم الكافر من رحمته، وفي الحديث: (لو كانت هذه الدنيا تعدل جناح بعوضة عند ربكم ما سقى كافراً فيها شربة ماء). لكنه يسقي الكافر، ويعطيه الصحة، ويعطيه النظر، ويعطيه السمع، ويعطيه الاستقامة، وهو يكفر بالرحمن ومع ذلك يرحمه الله في هذه الدنيا، وسيأتي الوقت الذي يحاسبه فيه على كفره، فهو رحمن في الدنيا والآخرة للجميع.
الرحيم:
أما الرحيم فهي مرتبة ثالثة: الله، الرحمن، ثم تأتي الرحيم، لاحظ أن لفظة الله لا يُسمّى بها مخلوق، كذلك كلمة الرحمن لا يسمى بها مخلوق ولا حتى بالإضافة، لذلك لما سمي مسيلمة نفسه رحمن اليمامة أخزاه الله سبحانه وتعالى.
يقول علماؤنا الرحيم بالمؤمنين، لذلك كلمة الرحيم يمكن أن يوصف بها البشر؛ لأنها رحمة قليلة بالقياس إلى الرحمن، ولا تقارن برحمة الله سبحانه وتعالى، ووصِف محمد  بالرحيم (لقد جاءكم رسول من أنفسكم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). من الممكن أن تقول هذا إنسان رحيم، لكن لا يمكن أن تقول هذا إنسان رحمن، وهذا التدرج يفيد الانتقال من الكلي إلى الجزئيات.
ونتوقف عند شيء آخر في (بسم الله الرحمن الرحيم) يتعلق بالرسم، فكلمة اسم ينبغي أن يكون فيها ألف، وكلمة الله ينبغي أن يكون فيها ألف، وكلمة الرحمن ينبغي أن يكون فيها ألف، هذه الألِفات غير موجودة هنا، نقول في هذا المجال إن خط المصحف توقيفي، وقولنا خط المصحف توقيفي هو نقل لما قاله القدماء، لكن ماذا يعنون بالتوقيف؟
فيه قولان: بعضهم يرى أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال لهم: ارسموا هذه الكلمة هكذا، مع أنه كان أمياً، لكن كان هذا بإلهام من الله تعالى، فجاء رسم الكلمات هكذا. وفريق آخر من العلماء يقولون لا، ليس عندنا نص ثابت يقول إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال ارسموا كلمة رحمن هنا هكذا، وارسموها هنا هكذا، بل هذا رسم الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذه مرحلة من مراحل تطور الخط العربي.
وعقلاً كان يمكن أن يُغيّر رسم المصحف إلى الكتابة الحديثة، لكن المسلمين أبوا ذلك، وأول من أفتى بعدم جواز تغيير خط المصحف هو الإمام مالك رحمه الله، حين سُئل بعد أن انتشر التعليم، وتطور الخط العربي: أنكتب المصحف بإملاء اليوم؟ فرأى رحمه الله أن هذا قد يكون سبباً للتحريف، فقال: لا بل على الكتابة الأولى التي أقرّها صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جميعاً في عهد عثمان عندما بعث المصاحف إلى الآفاق. رأى – رحمه الله – أن الذي أجمع عليه صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يثبت كما هو، أما التعليم للصبيان، أو اقتطاع الآيات لغرض علمي تعليمي فلا بأس أن يكون على كتابة اليوم.
لهذا إذا أردت إلى اليوم أن تكتب مصحفاً، فإنك تضع نسخة من المصحف القديم، وتنقش عليه حرفاً حرفاً، فما رسمه القدماء ترسمه، وما تركوا رسمه لا ترسمه.
ولم تكن الحروف في رسم المصحف الأول كما هو معلوم منقوطة ولا مشكّلة، فلما انتشر الإسلام، وصار الناس لا يقرؤون عن الشيوخ، بل يقرؤون من الكتاب، من المرسوم، وبدؤوا يحفظونه من غير شيخ كما هو الحال الآن – وهذا خطأ فادح، فالذي يريد أن يحفظ سورة ينبغي أن يقرأها على مقرئ، حتى لا يحفظ كلمة خطأ وتعلق بذهنه – فصاروا يخطئون في المرفوع والمنصوب، إلى أن تنبّه زياد ابن أبيه، وحاول مع أبي الأسود الدؤلي التابعي حل هذه المشكلة، فقال له: ضع للناس شيئاً يعصم ألسنتهم من اللحن، أي من الخطأ في القرآن، فقال: كيف أضع شيئاً ما وضعه صحابة رسول الله؟ فقال: هو والله خير. فلم يقتنع إلى أن وضع زياد ابن أبيه على مدرجته (على الطريق) قارئاً ذا صوت جميل، وقال له: إذا جاء أبو الأسود الدؤلي فاقرأ قوله تعالى (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) واقرأها (ورسولِه) بالكسر، وهذا طبعاً يقلب المعنى. فلما سمعها أبو الأسود الدؤلي جاء إلى زياد فقال: ابغني كاتباً، وقال له: إذا ضممت فمي في الحرف فضع نقطة بين يديه (نقطه مطموسة) إلى آخره، فوضع علامات يميز بها بين المرفوع والمنصوب والمجرور، وهذا حديث قد يطول.
هكذا تُرسم (بسم الله الرحمن الرحيم) اسم رُسمت من غير ألف، ولفظة الرحمن حيثما وردت في القرآن هي من غير ألف، ولفظة الله حيثما وردت في القرآن هي من غير ألف، ولفظة اسم قد تأتي أحياناً بألف وأحياناً من غير ألف، وربما يكون في ذلك سر، وقد يكون هذا الذي كان عليه الكُتّاب.
لو نظرنا في الآيات التي بين أيدينا من سورة الفاتحة: الآية الأولى (بسم الله الرحمن الرحيم) نجد أن كلمة اسم أضيفت إلى لفظة الله ودخلت عليها الباء، وفي سورة النمل الآية 30-31 (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31))، نجد أيضا أن الباء اتصلت بكلمة اسم، وأضيفت إلى اسم الجلالة (الله)، وفي سورة هود الآية 41 (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)) أيضاً أضيفت إلى لفظ الجلالة الله وابتدأت بالباء، وإذا كانت الآيات بهذا الشكل: نستنتج أنه إذا اتصلت (اسم) بالباء، وأضيفت إلى اسم الجلالة (الله) فعند ذلك ينبغي أن تحذف الألف، فعندنا شرطان لحذف الألف مع اسم.
ونحن نسميها ألفا، وهي في الحقيقة رمز لهمزة الوصل، وهمزة الوصل كما هو معلوم تسقط في الدرج، وتثبت في البداية، يعني عندما نقول: ما اسمك؟ (تحذف الألف في اللفظ، ولكن هي ثابتة في الرسم) ولكن إذا قلنا: اسمي فلان، وبدأنا بالهمزة تثبت نطقا ورسما.
فإذًا بهذين الشرطين تحذف ألف اسم، وإذا اختل أحد هذين الشرطين أو كلاهما تثبت الألف، وعندنا نماذج: في سورة الواقعة (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74 و 96)) الباء اتصلت بلفظة اسم لكن أضيفت إلى لفظة رب، ولم تضف إلى لفظة الله، فنجدها في المصحف مرسومة بالألف، وفي الحاقة الآية 52 (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52))، وفي العلق الآية الأولى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)).
وفي سورة المائدة (واذكروا اسم الله) (المائدة4) أضيفت إلى لفظة الله، لكن لفظة اسم غير مسبوقة بالباء، فعند ذلك ذكرت الألف مع أنها مضافة في آية المائدة، وفي الأنعام، وفي الحج، وفي عدة مواطن.
وفي سورة الرحمن: (تبارك اسم ربك) (الرحمن 78) هنا لا الباء موجودة ولا أضيفت إلى اسم الله، فالألف أيضاً موجودة، وكذلك (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) (الحجرات 11) كلمة الاسم فيها الألف.
إذًا الخلاصة نقول: تحذف الألف بوجود هذين الشرطين: الإضافة إلى لفظ الجلالة والاتصال بالباء، وإذا اختل أحد الشرطين أو كلاهما فعند ذلك تثبت الألف، وعلي هذا رسم المصحف.

اترك تعليقاً