*قال تعالى في سورة النحل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)) هل لهذا الترتيب وجه بلاغي؟(د.حسام النعيمى)
هذا ورد في ثلاث آيات باختلاف: في سورة البقرة قدّم (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)) السبب في هذا أن الآية تتكلم عن قتل وقتال فالخوف قدم على الجوع.
في سورة النحل: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)) الكلام عن الرزق فالرزق يناسبه الجوع فقدّم الجوع .
في سورة قريش (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)) الكلام على التجارة والأموال والتجارة طعام وأصلاً تجارتهم كانت طعاماً فقدّم الجوع (فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف).
*ما دلالة استخدام المفرد ثم الجمع في الآية (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) النحل)؟(د.حسام النعيمى)
الكلام على قرية ثم قال كانت آمنة مطمئنة، الحديث على مفرد مؤنث، يأتيها رزقها، فكفرت، فأذاقها الله، ثم قال: (بما كانوا يصنعون). لم يقل بما كانت تصنع وهذا نوع من الالتفات لأن هذا الصُنع الذي عوقبوا بسببه هو لم يكن من صُنع القرية بعامّتها. لما قال: (كانت آمنة) يريد أن يشير إلى القرية بكاملها فيها أمان، شوارعها آمنة وحيواناتها آمنة وكلها في أمان، ليعطي صورة الأمن العام. ذكر القرية لأنه معلوم أن أهلها كانوا آمنين كما قال في موضع آخر: (واسأل القرية) أي اسأل أهل القرية، الكلام على أهل القرية لكن بدأ بهذا العموم حتى يبيّن الخير الشامل واستمر الكلام. لما ورد إلى سبب الخسران وسبب المعصية (بما كانوا يصنعون) الباء للسببية أي بسبب. لو قال بما كانت تصنع يبقى الكلام عاماً لنسب الكفران إليها جميعاً لكن أراد أن يبين أن الذين يحاسبون هم أهل القرية لأن هذه الواو في (تصنعون)واو جماعة العقلاء فحتى يبين أن المراد هنا سكان القرية التفت في الآخر وذكرهم.
القرية كانت آمنة بكليّتها يشملها الأمن مطمئنة هذا الاطمئنان العام، يأتيها رزقها رغداً والروق يأتيها عاماً لكل من في القرية، فكفرت بأنعم الله نسب الكفران إليها وهو حقيقة لهؤلاء العقلاء الذين صرّح بهم بعد ذلك. هو نسب الكفران إليها (فكفرت بأنعم الله) استمراراً للسياق، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف لأن الكل ذاق.
ما قال فكفروا فأذاقهم لأنه سيصير هناك نوع من الخلل، يصير أذاقهم للعقلاء فقط بينما لباس الجوع والخوف أصاب القرية كلها حتى حيواناتها. كفرت بعقلائها لأن غير عقلائها لا ينسب إليهم الكفر لكن هنا كفرت. لو قال كفروا لا يستطيع بعدها أن يقول فأذاقها وإنما سيقول فأذاقهم وعند ذلك غير العقلاء ذاقوا أيضاً الجوع والخوف فبقي الكلام مستمراً. الغضب عندما ينزل يعمّ وينزل على المطيعين وعلى العصاة لكن الكفران هو للعقلاء فبيّن ذلك فيما بعد لما انتهى الكلام ورسم الصورة. قرية آمنة مطمئنة، كفرت، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ثم قال بما كانوا يصنعون ما قال بما كانت تصنع لأن الصناعة التي أدت إلى غضب الله سبحانه وتعالى خاصة بالعقلاء فيُفهم من جميع الكلام الذي يدور على التأنيث هو أهل هذه القرية لكن المظلة العامة شملت الأحياء الذين فيها بعقلائها وغير عقلائها، بحيواناتها لأن الخير الذي كان يأتيهم كان يأتي لكل من في القرية، وفي الآخر التفت ليبين السبب الحقيقي فيما أصاب القرية. والالتفات هو التحول من صورة إلى صورة.

اترك تعليقاً