آية (9):
*ما دلالة استخدام اسم الإشارة في الآية(إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9) الإسراء) و(ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة)؟(د.فاضلالسامرائى)
اسم الإشارة نفس الاسم أحياناً يستعمل في التعظيم وأحياناً يستعمل في الذم والذي يبين الفرق بينهما هو السياق. كلمة (هذا) تستعمل في المدح والثناء “هذا الذي للمتقين إمام” ويستعمل في الذم (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) الفرقان) (ذلك) تستعمل في المدح (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (32) يوسف) تعظيم، وأحياناً يكون في الذم تقول هذا البعيد لا تريد أن تذكره فهنا الذي يميز بين ذلك الاستعمال والسياق. (ذلك الكتاب لا ريب فيه) هنا إشارة إلى علوه وبعد رتبته وبعده عن الريب وأنه بعيد المنال لا يستطيع أن يؤتى بمثله (ذلك الكتاب لا ريب فيه) دلالة على البعيد والله تعالى قال في نفس السورة (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ (24)) هذا الأمر بعيد عن المنال أن يؤتى بمثله. إذن ذلك الكتاب إشارة إلى بعده وعلو مرتبته. والقرآن يستعمل (هذا) لكن في مواطن (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9) الإسراء) عندما قال يهدي للتي هي أقوم يجب أن يكون قريباً حتى نهتدي به لكن لما قال ذلك الكتاب هو عالي بعيد لا يستطاع أن يؤتى بمثله. ثم إنه لم يذكر القرآن إلا بـ (هذا) ولم يقل (ذلك) كلما يشير إلى القرآن يشير بـ (هذا) (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء) لأن القرآن من القراءة وهو مصدر فعل قرأ وكلمة قرآن أصلاً مصدر، قرأ له مصدرين قراءة وقرآناً (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) القيامة). لما تقرأ تقرأ القريب إذن هذا هو القرآن. الكتاب بعيد ليس قراءة وإنما قد يكون في مكان آخر وهو في اللوح المحفوظ يسمى كتاباً. هناك فرق بين الكتاب والقرآن فالكتاب فيه بعد متصور أما القرآن فيكون قريباً حتى يُقرأ. حتى في كلمة الكتاب لما يقول أنزلنا يقول كتاباً (وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا (12) الأحقاف) (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (92) الأنعام).
*ما الفرق بين ختام الآيتين في قوله تعالى في سورة الحديد: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) وفي سورة الإسراء قال تعالى: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)) بالتأكيد فما دلالة هذا التأكيد؟(د.فاضلالسامرائى)
أولاً فواصل الآيات هي أنسب مع كل واحدة لأن الإسراء فيها مدّ (أليما، عجولا) لكن ليس هذا هو السبب الأول أو الوحيد أي ليست مناسبة خواتيم الآيات هو السبب الأول وقد يكون سبباً مكملاً يأتي بعد السبب الأول. المعنى هو السيد وليست الفاصلة. وقد يأتي بسورة كاملة ثم يأتي بآية لا توافقها أي آية ففي بداية سورة الإسراء قال تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1)) ولا تجد مثل هذه الفاصلة في جميع السورة وإنما كلها مدّ. فالمعنى هو الأول لكن قد يأتي مع تمام المعنى ما يناسب الفاصلة. نذكر لماذا أكدّ ولماذا لم يؤكد والنتيجة أنه كل آية مناسبة لفواصل الآيات. في آية الحديد قال تعالى (فالذين آمنوا) بصيغة الفعل أما في الإسراء فقال تعالى:(ويبشر المؤمنين) بالاسم. معلوم كما هو مقرر في البلاغة وفي اللغة أن الاسم يدل على الثبوت والفعل يدل على الحدوث والتجدد والاسم أقوى من الفعل، هناك فرق بين أن تقول هو متعلم أو هو يتعلم وهو يتثقف وهو مثقف، هو يتفقه وهو فقيه، هو حافظ أو هو يحفظ من الثوابت في اللغة أن الاسم يدل على الثبوت في اللغة حتى لو لم يقع. في البلاغة عموماً يذكر أن هذا أمر ثابت تذكره بالصيغة الاسمية قبل أن يقع، تسأل مثلاً هل سينجح فلان؟ فتقول: هو ناجح قبل أن يمتحن لأنك واثق أنه ناجح كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً (30) البقرة) (وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) هود) لم يقل سأغرقهم. هذا في التعبير أقوى دلالة من الفعل. الاسم يدل على الثبوت والفعل يدل على الحدوث والتجدد. فإذن في سورة الحديد قال (فالذين آمنوا) صيغة فعل وفي الإسراء(ويبشر المؤمنين) فالصيغة الاسمية أقوى.
ثانياً الإيمان في سورة الحديد خصصه الله تعالى بالله ورسوله (آمنوا بالله ورسوله) إذن الإيمان مخصص، أما في الإسراء أطلقها (ويبشر المؤمنين) لم يخصص الإيمان بشيء، جعله عاماً في كل متطلبات الإيمان ليست مختصة بالله ورسوله فالإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كل أركان الإيمان أطلقها ولم يقيدها فجعلها أعمّ أما في الحديد فالإيمان مخصص بشيئين: الإيمان بالله ورسوله. في الإسراء مطلق لم يخصصه(ويبشر المؤمنين) هذه في الإسراء أعمّ من آية سورة الحديد.
في سورة الحديد ذكر الإنفاق (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) ولم يذكر غيره من العمل الصالح أما في آية الإسراء فقال (الذين يعملون الصالحات) الذين يعملون الصالحات أعم، الإنفاق هو شيء من العمل الصالح فالذين يعملون الصالحات أعمّ من الذين أنفقوا. إذن أولاً كونهم مؤمنين أثبت من الذين آمنوا ثم أطلق الإيمان بكل مقتضيات الإيمان (مؤمنين) ولم يقيده والعمل أطلقه ولم يقيده بشيء لم يقيده بإنفاق (يعملون الصالحات) فلا شك أن آية الإسراء أعمّ فلما كان أعمّ إذن المغفرة والأجر الكبير تُؤكّد للأعمّ الثابت لا للجزئية. مؤمنين أعمّ وأثبت، مؤمنين عامة على الإطلاق وليس فقط بالله والرسول، العمل بإطلاق، عموم العمل وليس فقط الإنفاق إذن توكيد الأجر الكبير أنسب مع الذين ذكرهم في آية الإسراء مع من هو أعمّ في العمل والإيمان وأثبت في الإيمان. إضافة إلى الفاصلة التي في كل آية لكن لو سألنا شخصاً لا يعلم بالبلاغة نقول له أنت عندك آيتان كالتي معنا فأين تؤكد الأجر؟ يقول في الإسراء. بلاغة القرآن كالقوانين الرياضية الثابتة.
سؤال: ما الذي يحدث لو لم يؤكد في الإسراء؟
لو كان كلاماً عادياً لا يؤكد لكن لما تأتي في البلاغة ويأتيك موطنين كل واحد في مكان. البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال بمعنى ماذا يحتاج الحال؟ هل يحتاج توكيد؟ أنت رأيت إنساناً مُنكِراً تؤكد له، غير منكر لا تؤكد له، إنسان منكر إنكار كبير تقسم له هذا ما يقتضيه الحال. أي الحالين يقتضي توكيد الأجر الكبير؟ لو كان كلام متكلم عادي يتكلم بما يشاء لكن هل هو على حد البلاغة أن يكون كلام في مكانين وواحد منهم فيه أمور أرسخ من الآخر وأوسع وأعم تجعلهما بشكل واحد؟!. في سورة يس مثلاً قال تعالى: (إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ) وقال: (إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) أكّد أول مرة بـ (إن) وهذا التأكيد جاء بعد تكذيب (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ (14)) ثم صدر إنكار آخر بعده (قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15)) فاحتاج لتوكيد بالقسم (قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)) (ربنا يعلم) هذا قسمٌ عند العرب، القَسَم و (إنّ) واللام في (لمرسلون) هذا بعد الإنكار الآخر (قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)). لا يستوي أن يقول إنا إليكم مرسلون لأنه زاد الإنكار فزاد التوكيد. القرآن الكريم يبين ذلك تماماً كالمعادلة الرياضية.