آية (79):
* ما أصل المصيبة؟ وكيف تكون المصيبة خيراً (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا (79) النساء)؟(د.حسام النعيمى)
المصيبة مشتقة من جذر (ص و ب) ومنه صارت أصاب (أفعل) يصيب وهذه النازلة مصيبة. صوب لما نردع إلى المعجم نجد لها معاني متعددة كلها تدور حول معنى الإنزال ومنه الصيّب الذي هو المطر وفيه معنى النزول. الشيء الذي ينزل على الإنسان قد يكون خيراً وقد يكون شراً، ينزل عليه الخير أو ينزل عليه الشرّ مثل المطر قد يكون نافعاً وقد يكون ضاراً المطر إذا نزل في غير موسمه يكون ضاراً يحرق الزرع وفي موسمه يكون غيثاً. العربية أحياناً تعطي دلالة خاصة للفظ تصير له خصوصية يختلف عن أصل معناه. معنى أصابه يعني أصابه بخير أو أصابه بشر من حيث اللغة جائز ولذلك استعمل (مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ) أي ما نزل بك من خير فمن الله وما نزل بك من شر فمن نفسك (هذه لنا وقفة فيها). لكن كلمة مصيبة صار لها خصوصية والعربي صار لا يستعملها إلا في السوء. مصيبة (مُفعِلة) من أصاب مثل كلمة نازلة يعني القضية التي نزلت عليها والعرب استعملوها في الشرّ فقط ولم يقولوا نازلة خير فصار لها استعمالاً خاصاً. وذكرنا سابقاً كلمة (لغو) كلمة لغو هذا الجذر يستعمل لتحريك اللسان في الأصل لذلك منه قيل: ولِغ الكلب في الإناء، والكلب لما يشرب يحرّك لسانه بالماء وكلمة لغو تعني حرّك لسانه بالأصوات المصطلح على معانيها. لكن هل نقول أن الأصوات المصطلح على معانيها نستطيع أن نقول كلها خير؟ كلها شر؟ هي من هذه وهذه. لكن العربي خصص كلمة لغو، لغا يلغو لغواً جعله خاصاً بالكلام الذي لا فائدة فيه وبهذا المعنى استعمله القرآن (وإذا مروا باللغو مروا كراما). واللغة (فُعلة) من لغا يلغو مثل فُرصة فهي (فُعلة) في اللغة. اللغة الآن لا نستعملها في السوء وإنما نستعملها في الأصوات المصطلح على معانيها فتكون خصوصية، فصار اللغو له خصوصية وإلى يومنا هذا لا نستعمله في الكلام الاعتيادي وكذلك المصيبة صارت مخصصة لما يسيء الإنسان. ما يصيبه من مصيبة في ظاهر الأمر يراه سوءاً له ما تراه شراً فيما أصابك قد لا يكون شراً وفي الغالب الأصل أن ما يصيب المؤمن ليس شراً وإن رآه شراً وفي الحديث ” عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير” وفي حديث البخاري “من يُرد الله به خيراً يُصِب منه” أي يمتحنه فيصبّره فيصبر فترتفع درجته. ففي كل الأحوال له خيراً فإذا أصابته مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. نحن لله سبحانه وتعالى. المصيبة هنا بمعنى ما تراه ضرراً. عندما يصيبك ضرر ستقول إنا لله وإنا إليه راجعون نحن جزء من مُلك الله سبحانه وتعالى هو مالك الملك ونحن جزء منه وهذا الملِك يتصرف بنا كيف يشاء. القرآن الكريم جاء على أساليب العرب أو إذا عكسنا الأمر إن أساليب العرب ارتقت شيئاً فشيئاً إلى أن جاءت إلى لغة القرآن الكريم. لا نفهم أن المصيبة هنا بمعنى الخير، إنسان يمضي ويعثر بشيء في رجله فتنكسر هذا ظاهره ليس خيراً لكن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله يحمد الله عز وجل لأنه مستقر في قلبه أن هذا له خير قد لا يرى وجه الخير. ومن خلال تجارب حياتي أحياناً يداخلني شيء لعله من الشيطان، يصيبني أمر أقول الحمد لله ولكن في الداخل أقول لا أرى فيه ذرة خير لكن أغالب نفسي وأقول أنا إنسان مؤمن ما دام الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول أمره كله خير فإذن هو خير وتمضي الأيام وأكتشف ولو بعد سنوات أن ما قد كان أصابني وظننته شراً كان فعلاً فيه كل الخير. وكل إنسان له مثل هذه التجارب والإنسان المسلم يثق بالله سبحانه وتعالى ويتيقّن وعندنا دروس حتى أبوا الغلام الذي قتله العبد الصالح في قصة موسى (عليه السلام) في سورة الكهف ظاهره شر إنسان يُقتَل ولده ولكن الله تعالى يخبرنا أنه أراد خيراً بالأبوين (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) فقد يكون هذا الغلام محارباً للإسلام. وقد يسعى الإنسان لكي يكون له ولد ثم يندم على أنه خلّفه والله تعالى يجعل من يشاء عقيماً قد يقتل نفسه أن يزق بذرية ولا تدري لماذا فقد يأتيك ولد يحارب الدين. الذين يحاربون الدين من داخلنا كما يقول محمد محمد حسين في كتابه “حصوننا مهددة من داخلها” وهو كتاب قيّم.
* استعمال نفس الفعل مع الحسنة والسيئة (تصبك) لكن في كلمة مصيبة حدد الدلالة الخاصة بها مع الشيء السيء فهل هناك لمسة بيانية في طريقة استعمال القرآن لهذه الألفاظ؟)؟(د.حسام النعيمى)
القرآن على لغة العرب والعرب كانوا يستعملون المصيبة وأصل الاستعمال في المصيبة هي الرمية الصائبة للسهم، الرجل إذا اجتهد فأصاب فهو مصيب والمرأة يقال أصابت حتى نتجنب القول أنها مصيبة ولو كان هذا يجوز من حيث اللغة، يجوز أن يقال: فلانة مصيبة في هذا الأمر لكن الإنسان في كلامه ينبغي أن يتجنب ما هو مُلبِس إلا إذا كان له غاية مثل هذا الذي قال:
خاط لي عمرو قباء ليت عينيه سواء
عمرو كان خياطاً وكان ممتّعاً بإحدى عينيه (أي أعور) فهل كان يدعو عليه بالعمى أم يدعو عليه بالبصيرة والبصر؟ إذن الإصابة يمكن أن تستعمل للحسنة ما أصابك أي ما نالك ونزل بك، هذا في لغة العرب والمصيبة مخصصة.
كيف نسب الحسنة إلى الله والمصيبة إلى نفسك؟
مردّ الأمور جميعاً هي إلى الله سبحانه وتعالى. وأنت تقدم أسباب الوصول إلى الحسنة ويقدم الإنسان أسباب الوصول إلى السيئة ولا يكون وصوله إلى الحسنة إلا بأمر الله سبحانه وتعالى ولا يكون وصوله إلى السيئة إلا بأمر الله سبحانه وتعالى. شخص موظف في دائرة يقدم طلبه فلا ينفذ إلا أن يوافق مديره ولله المثل الأعلى الإنسان يقدم الأسباب ويتخذها. الطريق الموصل إلى الخير والطريق الموصل إلى الشر من الله تعالى مكّن الإنسان من أن يختار (وهديناه النجدين) أحد العلماء يبسط المسألة فيقول الله سبحانه وتعالى إذا شاء هدى، إذا شاء أن يجعلك مهتدياً له ذلك لأنه لا يُسأل عما يفعل في ملكه ولله المثل الأعلى الإنسان لا يُسأل عما يفعل في ملكه، والكون كله ملك الله سبحانه وتعالى ولذلك (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) فهو قادر على أن يهدي الجميع وقادر على أن يضل الجميع ولا يُسأل وقادر على أن يجعلك تختار طريقك ولا يُسألا. حينما يجعلك تختار طريقك هو شاء لك أن تختار أو أنت صارت لك مشيئة من ذاتك؟ الله يشاء (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) لا تكون لك مشيئة وإلا يكون كالملائكة أو الشياطين، الشياطين لا مجال للهداية فيهم والملائكة لا مجال للضلالة لهم وشاء الله عز وجل لهذا الإنسان أن ينظر في الطريقين وفق ما يبيّنه الله سبحانه وتعالى من لطفه وكرمه وإلا المفروض أن العقل يوصله، مع ذلك أرسل الرسل ومعهم الكتب وبيّن طريق الهداية وطريق الضلال. فإذن الإنسان فيما يسلك طريقاً هو في الأصل في خانة مشيئة الله سبحانه وتعالى التي جعلت لك المشيئة أن تختار. أنت ما كنت تستطيع أن تكون ذا مشيئة لولا أن الله تعالى شاء لك أن تكون ذا مشيئة ولا تصل إلا ما تريد إلا برضى الله تعالى فأنت ضمن المشيئة.
(ما أصابك من حسنة فمن الله) لأنك أنت سعيت وقدّمت لكن أنت ما كنت تستطيع أن تصل للحسنة حتى يرضاها الله تعالى فذكر تعالى الأصل لأنه مرتبط بالحسنة. أنت سعيت نحو الحسنة وشاء الله سبحانه وتعالى أن تفعلها قدّمت وشاء لك ففعلت، الحسنة تُنسب إلى الله تعالى. والسيئة أيضاً سعيت وشاء الله تعالى لك أن تصل ولو أراد الله ما وصلت لكن يبقى منحصراً بك لأنك سعيت وكما قال الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) الخير معقود لله تعالى دائماً على أننا نؤمن بالقدر خيره وشره من الله سبحانه وتعالى فنسبت الحسنة إلى الله تعالى وحصرت السيئة بنفسك مع أن نفسك سعت في الحسنة وسعت في السيئة وفي الحالين كانت بالمشيئة وهو تعليم للمسلم كيف يتأدب مع الله سبحانه وتعالى وأن ينسب الخير لله وأن ينسب السوء لنفسه ولذلك نجد علماءنا يقولون عندما يكتبون: هذا ما وصل إليه اجتهادي فإن كان خيراً فمن الله تعالى وإن كان شراً فمن نفسي ومن الشيطان وهذا من الأدب مع الله سبحانه وتعالى.

اترك تعليقاً