آية (13):
* ما الفرق البياني بين قوله تعالى (من مثله) في سورة البقرة و(مثله) في سورة هود؟(د.فاضل السامرائى)
تحدّى الله تعالى الكفار والمشركين بالقرآن في أكثر من موضع فقال تعالى في سورة البقرة: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فأتوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)) وقال في سورة هود: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فأتوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)).
أولاً ينبغي أن نلحظ الفرق في المعنى بين (من مثله) و(مثله) ثم كل آية تنطبع بطابع الفرق هذا. فإذا قلنا مثلاً : إن لهذا الشيء أمثالاً فيقول: ائتني بشيء من مثله فهذا يعني أننا نفترض وجود أمثال لهذا الشيء أما عندما نقول : ائتني بشيء مثله فهذا لا يفترض وجود أمثال لكنه محتمل أن يكون لهذا الشيء مثيل وقد لا يكون فإن كان موجوداً ائتني به وإن لم يكن موجوداً فافعل مثله. هذا هو الفرق الرئيس بينهما.
هذا الأمر طبع الآيات كلها . أولاً قال تعالى في سورة البقرة: (وإن كنتم في ريب) وفي آية سورة هود قال تعالى: (افتراه) وبلا شك (إن كنتم في ريب) هي أعمّ من (افتراه) أن مظنة الافتراء أحد أمور الريب (يقولون ساحر) يقولون يعلمه بشر)( يقولون افتراه) أمور الريب أعم وأهم من الافتراء والافتراء واحد من أمور الريب.
والأمر الآخر أننا نلاحظ أن الهيكلية قبل الدخول في التفصيل (وإن كنتم في ريب) أعمّ من قوله (افتراه) و(من مثله) أعمّ من (مثله) لماذا؟ لو لاحظنا المفسرين نجد أنهم وضعوا احتمالين لقوله تعالى: (من مثله) فمنهم من قال من مثله أي من مثل القرآن وآخرون قالوا أن من مثله أي من مثل هذا الرسول الأمي الذي ينطق بالحكمة أي فأتوا بسورة من القرآن من مثل رجل أمي كالرسول (صلى الله عليه وسلم). وعليه فإن (من مثله) أعمّ لأنه تحتمل المعنيين أم (مثله) فهي لا تحتمل إلا معنى واحداً وهو مثل القرآن ولا تحتمل المعنى الثاني. الاحتمال الأول أظهر في القرآن ولكن اللغة تحتمل المعنيين. وعليه فإن (إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) أعم من (أم يقولون افتراه فأتوا بعشر سور مثله) لأن إن كنتم في ريب أعمّ من الافتراء و(من مثله) أعمّ من (مثله).
ثم هناك أمر آخر وهو أنه حذف مفعولين الفعلين المتعديين (تفعلوا) في قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) والحذف قد يكون للإطلاق في اللغة كأن نقول: “(قد كان منك ما يؤذيني” هذا خاص و” قد كان منك ما يُؤذي” وهذا عام. وإن كان المعنى في الآية هنا محدد واضح لكن الحذف قد يعني الإطلاق عموماً (سياق التحديد ظاهر جداً والحذف قد يأتي في مواطن الإطلاق فحذف هنا).
ونسأل هنا هل يمكن أن نضيف كلمة مفتراة في آية سورة البقرة فيقول مثلاً فأتوا بسورة من مثله مفتراة؟ في آية سورة البقرة (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فأتوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)) كما قال في (مفتريات) في سورة هود؟
فنقول أن هذا التعبير لا يصح من جهتين: أولاً هم لم يقولوا افتراه كما قالوا في سورة هود. والأمر الآخر وهو المهم أنه لا يُحسن أن يأتي بعد “من مثله” بكلمة مفتراة لأنه عندما قال من مثله افترض وجود مثيل له فإذن هو ليس مفترى ولا يكون مفترى إذا كان له مثيل إذن تنتفي صفة الافتراء مع افتراض وجود مثل له. والأمر الآخر لا يصح كذلك أن يقول في سورة هود مع الآية (أم يقولون افتراه) أن يأتي بـ “فاتوا بسورة من مثله” بإضافة (من) وإنما الأصح كما جاء في الآية أن تأتي كما هي باستخدام “مثله” بدون “من” (فأتوا بسورة مثله) لأن استخدام “من مثله” تفترض أن له مثل إذن هو ليس بمفترى ولا يصح بعد قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) أن يقول (فأتوا بسورة من مثله) لنفس السبب الذي ذكرناه سابقاً. إذن لا يمكن استبدال إحداهما بالأخرى أي لا يمكن قول (مثله) في البقرة كما لا يمكن قول (من مثله) في سورة هود.
والأمر الآخر أيضاً أنه تعالى قال في آية سورة البقرة: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ولم يقل ادعوا من استطعتم كما قال في هود: (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ونسأل لماذا جاءت الآية في سورة هود بـ (وادعوا من استطعتم) ولم تأتِ في آية سورة البقرة؟ ونقول أنه في آية سورة البقرة عندما قال (من مثله) افترض أن له مثل إذن هناك من استطاع أن يأتي بهذا المثل وليس المهم أن تأتي بمستطيع لكن المهم أن تأتي بما جاء به فلماذا تدعو المستطيع إلا ليأتي بالنصّ؟ لماذا تدعو المستطيع في سورة البقرة طالما أنه افترض أن له مثل وإنما صحّ أن يأتي بقوله (وادعوا شهداءكم) ليشهدوا إن كان هذا القول مثل هذا القول فالموقف إذن يحتاج إلى شاهد محكّم ليشهد بما جاءوا به وليحكم بين القولين. أما في آية سورة هود فالآية تقتضي أن يقول (وادعوا من استطعتم) ليفتري مثله، هم قالوا افتراه فيقول تعالى ادعوا من يستطيع أن يفتري مثله كما يقولون. إذن فقوله تعالى (وادعوا شهداءكم) أعمّ وأوسع لأنه تعالى طلب أمرين: دعوة الشهداء ودعوة المستطيع ضمناً أما في آية سورة هود فالدعوة للمستطيع فقط.
ومما سبق نلاحظ أن الآية في سورة البقرة بُنيت على العموم أصلاً (لا ريب، من مثله)، الحذف قد يكون للعموم، (ادعوا شهداءكم). ثم إنه بعد هذه الآية في سورة البقرة هدّد تعالى بقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)) والذي لا يؤمن قامت عليه الحجة ولم يستعمل عقله فيكون بمنزلة الحجارة.
ثم نسأل لماذا حدد في آية سورة هود السور بعشر سور؟ هذا من طبيعة التدرج في التحدي يبدأ بالكل ثم بالأقل فالأقل.