(2):
*ما الفرق بين دلالة كلمة الكتاب والقرآن؟ وما دلالة إستخدام ذلك الكتاب في الآية (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) البقرة) ولم تأت هذا الكتاب أو هذا القرآن أو ذلك القرآن؟
د.فاضل السامرائى :
كلمة قرآن هي في الأصل في اللغة مصدر الفعل قرأ مثل غفران وعدوان: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ {18} القيامة) ثم استعملت علماً للكتاب الذي أُنزل على الرسول (صلى الله عليه وسلم) (القرآن).
أما الكتاب فهي من الكتابة، وأحياناً يسمى كتاباً؛ لأن الكتاب متعلق بالخط، وأحياناً يطلق عليه الكتاب وإن لم يُخطّ (أنزل الكتاب) لم يُنزّل مكتوباً، وإنما أُنزل مقروءاً، ولكنه كان مكتوباً في اللوح المحفوظ قبل أن ينزّل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
هذا من ناحية اللغة، أما من ناحية الإستعمال، فيلاحظ أنه عندما يبدأ بالكتاب يتردد في السورة ذكر الكتاب أكثر بكثير مما يتردد ذكر القرآن، أو قد لا تذكر كلمة القرآن مطلقاً في السورة. أما عندما يبدأ بالقرآن فيتردد في السورة ذكر كلمة القرآن أكثر الكتاب، أو قد لا يرد ذكر الكتاب مطلقاً في السورة، وإذا اجتمع القرآن والكتاب يترددان في السورة بشكل متساو تقريباً ونأخذ بعض الأمثلة:
في سورة البقرة بدأ بالكتاب (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ {2}) وذكر الكتاب في السورة 47 مرة، والقرآن مرة واحدة في آية الصيام (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ).
في سورة آل عمران بدأ السورة بالكتاب (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ {3}) وورد الكتاب 33 مرة في السورة، ولم ترد كلمة القرآن مطلقا في السورة كلها.
في سورة طه: بدأ السورة بالقرآن (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى {2}) وورد القرآن فيها ثلاث مرات، والكتاب مرة واحدة.
في سورة ق بدأ بالقرآن (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ {1}) وورد القرآن ثلاث مرات في السورة بينما ورد الكتاب مرة واحدة.
في سورة ص تساوى ذكر القرآن والكتاب.
في سورة الحجر بدأ (الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ {1}) وورد ذكر القرآن ثلاث مرات والكتاب مرتين.
في سورة النمل بدأ (طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ {1}) وورد ذكر القرآن ثلاث مرات والكتاب أربع مرات.
* ما دلالة استخدام اسم الإشارة (ذلك) في الآية (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) بدل اسم الإشارة هذا؟(د.فاضل السامرائى)
إسم الإشارة أحياناً يستعمل في التعظيم وأحياناً يستعمل في الذم، والذي يبين الفرق بينهما هو السياق.
كلمة (هذا) تستعمل في المدح والثناء “هذا الذي للمتقين إمام” ويستعمل في الذم (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) الفرقان)، و(أولئك) تستعمل في المدح “أولئك آبائي فجئني بمثلهم” أولئك جمع ذلك، وهؤلاء جمع هذا، وتستخدم أيضا في الذم، (ذلك) و(تلك) من أسماء الإشارة (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (32) يوسف) تعظيم، وأحياناً تكون في الذم فتقول: ذلك البعيد، لا تريد أن تذكره، فالسياق هوالذي يميز دلالة الاستعمال.
(ذلك الكتاب لا ريب فيه) هنا إشارة إلى علوه وبعد رتبته، وبعده عن الريب، وأنه بعيد المنال لا يستطيع أن يؤتى بمثله، (ذلك) دلالة على البعيد، والله تعالى قال في نفس السورة (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ (24)) هذا الأمر بعيد عن المنال أن يؤتى بمثله، إذًا ذلك الكتاب إشارة إلى بعده وعلو مرتبته.
والقرآن يستعمل (هذا) لكن في مواطن، مثل: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9) الإسراء)، فعندما قال يهدي للتي هي أقوم يجب أن يكون قريباً حتى نهتدي به، لكن حين قال ذلك الكتاب أراد أنه عالٍ بعيد لا يستطاع أن يؤتى بمثله.
ثم إنه حين يذكر القرآن لا يشيرإليه إلا بـ (هذا)، ولا يقول (ذلك)؛ لأن القرآن من القراءة، وهو مصدر الفعل قرأ، وكلمة قرآن أصلاً مصدر، قرأ قراءة وقرآناً، وأنت إذا قرأت تقرأ القريب، فهذا هو القرآن، أما الكتاب فهو بعيد، لأنه قد يكون في مكان آخر، فهو في اللوح المحفوظ يسمى كتاباً،أما القرآن فيكون قريباً حتى يُقرأ.
وفي سورة الأنعام أشار إلى الكتاب فقال: (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (92) الأنعام). بينما لم يقل في آية البقرة “هذا الكتاب لا ريب فيه” لكونه بعيدا، لا يستطاع أن يؤتى بمثله، وقد قال في السورة نفسها: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) يعني أنه بعيد عليكم، فاسم الإشارة (ذلك) دل على علوِّ منزلته.
*مقارنة بين بداية سورة لقمان وبداية سورة البقرة ؟(د.فاضل السامرائى)
• في سورة لقمان أشار إلى الآيات (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)، ولم يشر إلى الكتاب كما في البقرة (ذلك الكتاب)، ولو لاحظنا في سورة لقمان تتردد كثير من الآيات السمعية والكونية، مثلاً قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7))، وذكر الآيات الكونية كخلق السموات بغير عمد، وإلقاء الرواسي، وإخراج النبات، وسمّاها آيات (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)).
• استخدمت كلمة الكتاب ومشتقات الكتابة في البقرة أكثر من استخدام كلمة الآيات، بينما في لقمان كلمة الآيات أكثر من الكتابة. في البقرة مشتقات الكتاب والكتابة ذكرت 47 مرة وذكرت الآيات 21 مرة، وفي لقمان ذكر الكتاب مرتين، والآيات خمس مرات، هذه سمة تعبيرية السور التي بدأت بالكتاب ذكر فيها الكتاب أكثر، والتي بدأ فيها بالآيات ذكرت فيها الآيات أكثر.
• وصف الله الكتاب في لقمان فقال: (الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)، بينما في البقرة لم يصف الكتاب. ما معنى الحكيم؟ الحكيم قد يكون من الحكمة أو من الحكم، أو استواؤه وعدم وجود الخلل فيه، وهذا من باب التوسع في المعنى، فلو أراد تعالى معنى محدداً لخصّص، في سورة البقرة لم يصف الكتاب لأن السورة فيها اتجاه آخر. وفي لقمان قال: (الحكيم)، ثم قال: (هدى ورحمة)، وفي البقرة قال: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة). ووصفه بالحكيم في لقمان مناسب لما ورد في لقمان من الحكمة والحِكَم: (آتينا لقمان الحكمة) ، وقوله في البقرة :(لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) متناسب مع (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ (23) البقرة) وربنا وصف نفسه بأنه عزيز حكيم في سورة لقمان أكثر من مرة، فكلمة حكيم مناسبة لجو السورة التي تبدأ (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)).
• في البقرة قال (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ثم قال (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ (24)) اتقوا النار مقابل المتقين، فهناك مناسبة بين هدى والمتقين، وكلمة التقوى ترددت كثيراً في البقرة، فإذًا (لاَ رَيْبَ فِيهِ) متناسب مع قوله (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ) والمتقين واتقوا الله. وفي لقمان قال بينما في البقرة قال فقط (هدى للمتقين)، فما الفرق بين المتقي والمحسن؟ المتقي هو الذي يحفظ نفسه ويتقي الأشياء، والمُحسِن هو الذي يحسن إلى نفسه وإلى غيره (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) البقرة)، الإحسان يتعداه إلى نفسه وإلى غيره، أما التقوى فتقتصر على النفس، والإحسان إلى الآخرين من الرحمة، فلما تعدى إحسانهم إلى غيرهم فرحموهم استخدمت كلمة رحمة(هدى ورحمة للمحسنين) ، حتى في الآخرة زاد لهم الجزاء، قال تعالى في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس) وهذه رحمة، فكما زاد الجزاء لهم في الآخرة زاد لهم في الدنيا، (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) و(هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ).
ونلاحظ أن هذه الأوصاف هدى ورحمة للمحسنين مناسبة لما ورد في عموم السورة، وما شاع في جو السورة، الهدى والرحمة والإحسان، فمن مظاهر الهدى المذكورة في سورة لقمان قال: (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15)) فالذي يسلك السبيل يبتغي الهداية، ومن مظاهرالرحمة قوله تعالى: (أن تميد بكم) فهذا من الرحمة، ولما ذكر تسخير ما في السموات والأرض : (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) هل هناك أعظم من هذه الرحمة؟ ومن مظاهر الإحسان إيتاء الزكاة والوصية بالوالدين والإحسان إليهما، فجو السورة كلها شائع فيه الهدى والرحمة والإحسان، وهذا ليس في البقرة.
وإنما سورة البقرة ذكرت أموراً أخرى: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)) (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أوصاف كثيرة انتهت بقوله: (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5))، أما في لقمان فاختصر (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). وفي لقمان كرر كلمة (هم) وفي البقرة لم يكررها (وبالآخرة هم يوقنون).
والإيمان أعمّ من الإحسان، ولا يمكن للإنسان أن يكون متقياً حتى يكون مؤمناً، وورود كلمة المتقين، المؤمنين، المحسنين، المسلمين يعود إلى سياق الآيات في كل سورة.
• في البقرة قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ولم يقلها في لقمان، وقال في البقرة (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) ولم يقلها في لقمان، وقال في لقمان (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة)، وفي البقرة قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وهذه أعم من الزكاة، فالزكاة من الإنفاق.
في سورة البقرة، قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وبعدها قال (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)) وهذا من الغيب، لم يؤمنوا لا بالله ولا باليوم الآخر، وقال على لسان بني إسرائيل (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (55)) هم لا يؤمنون بالغيب، وطلبهم عكس الغيب، لذلك قال في البداية (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، لا مثل هؤلاء الذين يقولون آمنا وما هم بمؤمنين، ولا مثل هؤلاء الذين طلبوا أن يروا الله جهرة.
بينما في لقمان قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) فهم مؤمنون بالغيب وقال (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ (32) هم دعوا الله، الطابع العام في سورة البقرة : الإنكار على عدم الإيمان بالغيب، بينما في لقمان: الإيمان بالغيب حتى الذين كفروا قال: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فهم يؤمنون بجزء من الغيب، بينما أولئك في سورة البقرة ينكرون (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) .
ونلاحظ أنه في لقمان قال: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، وفي البقرة قال :(وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) لأنه تكرر في البقرة ذكر الإنفاق 17 مرة، وذكرت الزكاة في عدة مواطن، ذكر الإنفاق (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (261)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى (262)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً (274)) 17 مرة تكرر الإنفاق، فهذا أعم.
في لقمان لم يذكر الإنفاق فطابع السورة يختلف.
قال في البقرة (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ)، ولم يقل هذا في لقمان؛ لأن هذا جرى في البقرة، وطلب من أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أُنزل إليه وما أنزل من قبلك في آيات كثيرة جداً (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ (41) البقرة) فالمتقون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وهؤلاء لم يؤمنوا (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ (75)) (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا (76)) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ (91)) وفي آخر البقرة قال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (285)) هذا هو طابع سورة البقرة، وهو مختلف عما في لقمان.
• قال تعالى فى سورة لقمان(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)، وفي آية البقرة قال(وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أي أنه كرر هم قبل (بالآخرة) في لقمان، ذلك أنه تردد في سورة لقمان ذكر الآخرة وأهوالها، والتوعد بها في زهاء نصف عدد آيات السورة وفي أولها وآخرها (لهم عذاب مهين، فبشره بعذاب أليم، لهم جنات النعيم، عذاب غليظ، إليه المصير، مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِه) ثم إنها بدأت بالآخرة :(وَبِالآخِرَةِ هُمْ يوقنون) وانتهت بالآخرة بقوله تعالى :(إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (34))، فناسب ذلك زيادة (هم) توكيداً على طابع السورة.
إضافة إلى ما جاء في السورة من ذكر أنهم محسنون، والمحسنون كما علمنا يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم، وليس كما في البقرة من ذكرالمتقين، والمتقي الذي يحفظ نفسه فحسب، فزاد في وصف هؤلاء الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، وهذا من الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه”- زاد في ذكر إيقانهم ويقينهم لما كانوا أعلى مرتبة وزاد لهم في الرحمة، وزاد لهم في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس). زاد في ذكر إيمانهم فقال: (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)، هم أعلى في اليقين؛ لأن اليقين درجات، والإيمان درجات، والمحسنون يعبدون الله كأنهم يرونه، فدرجة يقينهم عالية، فأكد هذا الأمر فقال: (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) بينما اكتفى في سورة البقرة بقوله: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) .
لكن الملاحظ أنه في البقرة وفي لقمان قدم الجار والمجرور على الفعل: (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فلم يقل وهم يوقنون بالآخرة، والأصل في اللغة العربية أن يتقدم الفعل، ثم تأتي المعمولات الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور، والتقديم لا بد أن يكون لسبب، وهنا قدم (وبالآخرة) (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ)؛ لأن الإيقان بالآخرة صعب، ومقتضاه شاق، أما الإيمان بالله فكثير من الناس يؤمنون بالله، لكن قسما منهم مع إيمانه بالله لا يؤمن بالآخرة مثل كفار قريش (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ (32) الجاثية)، وهم مؤمنون بالله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25) لقمان)، هم مؤمنون بالله لكن غير مؤمنين بالآخرة، ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) والتقديم هنا للإهتمام والقصر.
• النهاية واحدة (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، هؤلاء المذكورون بهذه الصفات (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ)، واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة؛ لأن الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، لم يقل على هدى من الله، وإنما قال على هدى من ربهم، وفيها أمران: كان يمكن أن يقال هدى من الله؛ لأن لفظ الجلالة الله، الاسم العلم يصح أن تُنسب إليه كل الأمور، ولكن هناك أشياء من الجميل أن تنسب إلى صفاته سبحانه وتعالى بما يناسب المقام مثل أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم، فهنا قال على هدى من ربهم، والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد، فيتناسب اللفظ مع الهداية، واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن، وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) طه) (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (161) الأنعام) فكثيراً ما تقترن الهداية بالرب، وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي، إضافة إلى أن كلمة: (ربهم) تفيد الإخلاص بالنصح والتوجيه والإرشاد (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) فلا شك أن ربهم فيه إخلاص الهداية وإخلاص التوجيه، ورب الإنسان يعني: مربيه أخلص له من غيره.
وهناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى، وبين إضافة رب إلى هم ، فلو استعمل الاسم العلم فلن تكون هناك إضافة لهم، لكن على هدى من ربهم، لا شك أن ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم؛ لذا فاختيار كلمة رب مناسبة مع الهداية، ثم إضافته إليهم أمر آخر يفيد أنه أرأف بهم وأرحم بهم، يحبهم ويقربهم إليه، وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه .
وهناك أمر التفت إليه الأقدمون: قال تعالى (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ)، (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) يس) (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) النمل) يستعمل القرآن مع الهداية لفظ (على)، بعكس الضلال فإنه يستعمل له لفظ (في ) (لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) يوسف)، (إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) يس) وليس فقط في الضلال وإنما ما يؤدي إلى الضلال (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) التوبة) (فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس) كأن المهتدي مستعلٍ، يبصر ما حوله، ويتمكن مما هو فيه، ثابت يعلم ما حوله،ويعلم ما أمامه، أما الساقط في اللجة أو في الغمرة أو في الضلال فلا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة .لذا يستعمل ربنا تعالى مع الهداية (على ) ومع الضلال (في).
• ثم ختم الآية بقوله (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولاً: جاء بضمير الفصل (هم)، وجاء بالتعريف (المفلحون)، لم يقل أولئك مفلحون، ولم يقل هم مفلحون، وإنما أخبر أن هؤلاء هم المفلحون حصراً، ليس هنالك مفلح آخر. وأولئك: الأصل أنه اسم إشارة من الناحية المحسوسة – إذا لم نرد المجاز- للبعيد وهؤلاء للقريب، هذا الأصل، مثل هذا وذلك. ثم تأتي أمور أخرى مجازية، كأن يكون هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلو مرتبتهم وفلاحهم بأولئك، إشارة إلى علو منزلتهم، وعلو ما هم فيه، فالذي على هدى هو مستعلٍ أصلاً فيشار إليه بما هو بعيد، وبما هو مرتفع، وبما هو عالٍ، ثم حصر الفلاح فيهم، فقال :(وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فمن أراد الفلاح – ولا شك أن كل إنسان يريد الفلاح – فليكن منهم.
• والذي يؤمن بالآخرة يؤمن بكل شيء، وهي ليست كلمة تقال. ولذلك ذكر ركنين أساسيين واحدة في إصلاح النفس، وواحدة في الإحسان إلى الآخرين: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإقامة الصلاة هي أول ما يسأل عنه المرء، ولذلك قال: (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصراً، لا فلاح في غير هؤلاء، ومن أراد الفلاح فليسلك هذا السبيل، وليس وراء ذلك فلاح.

اترك تعليقاً