آية (199):
* ما القيمة الفنية في قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) الأعراف)؟ النعيمى
هذه الآية من الآيات التي وقف عندها علماء البلاغة والبيان لما فيها من إيجاز. يمكن أن نقول أنها تمثل صورة مما ينبغي عليه المجتمع المسلم. صحيح أن الخطاب مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) لكن أمته جميعاً تُشمل به، فلما يقال له (خذ العفو) معناه جميع المسلمين، كل مسلم ينبغي أن يلتزم بهذا، (وأمر بالعرف) كذلك و(وأعرض عن الجاهلين) كذلك. نتخيل هذا المجتمع الذي يكون فيه أخذٌ للعفو وأمرٌ بالعرف وإعراضٌ عن الجاهلين بهذا الإيجاز مجتمع في كامل صفاته التي يطمح إليها أي إنسان يريد أن يعيش في مجتمع مسالم في مجتمع كريم نبيل.
نبدأ بكلمة (خذ العفو): كلمة العفو لها جملة معاني ولذلك ما قيل في القرآن: خذ عفو كذا وإنما العفو بجنسه، بكل ما يحمله هذا اللفظ من أجناس العفو ومن أنواع العفو، هو جنس وله أنواع. للتعريف هنا غاية العفو هنا لبيان الجنس. العفو من معانيه: الصفح، أن تصفح عنه، (خذ العفو) أي خذ الصفح خُلُقاً لك. هل (خُذ) تعني أن يأخذ من نفسه أو يأخذ من أحد؟ خذ تحتمل المعنيين خذ لنفسك وخذ من غيرك. خذ العفو: أي خذ الصفح خُلُقاً لنفسك وخُذ الرحمة خُلُقاً لنفسك وخذ ما زاد من تصرفات الناس ومن أخلاقهم هذا خذ من غيرك، خذ منهم ما يَحسُن. لأن من معاني العفو ما يطفو على السطح، خذ منهم الظاهر، ما يظهر. الذي يكون على سطح الماء يطفو هو عفو فخُذ هذا العفو أيضاً من أخلاق الناس ومن تعاملهم ولا تكلّفهم ما لا يطيقون، اقبل منهم هذا الذي هو ظاهر عندهم، اقبل منهم الظاهر، خذ العفو أي خذ هذا الظاهر وفيها نوع من المسامحة، نوع من الرضى بما يصنعون بشرط، وهذا نبّهت عليه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “ما خُيّر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراماً”. يأخذ منهم هذا العفو الظاهر ما لم يكن فيه مخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى لأن المجاملة لا تكون على حساب شرع الله سبحانه وتعالى. هذا يذكره علماء التفسير لما يتكلمون على كلمة (خذ العفو) يقول هذا الظاهر من أمر الناس حتى يأخذ منهم ما تيسر وما حسُن ولا يكلفهم ما لا يطيقون. ثم يضعون هذا القيد: بشرط أن لا يكون في ذلك خلاف لشرع الله سبحانه وتعالى، أن يكون تحت مظلة شرع الله لأنك تريد أن تبني مجتمعاً كريماً فالمجتمع الكريم يُبنى تحت مظلة شرع الله سبحانه وتعالى بتطبيقه ولا يكون بمخالفات شرعية لأنه عندها لن يكون كريماً. تقول أنا أتسامح مع فلان إذا فعل كذا مما يخالف شرع الله تعالى هذا لن يكون المجتمع مجتمعاً كريماً. فإذن في كلمة (خذ العفو) – ونحن سنتكلم بإيجاز لأن المفسرين يفيضون فيها – خذ العفو أي خذ خُلُقاً لنفسك وخُذ خُلُقاً لغيرك على ما يبدو منهم ما لم يكن مخالفة شرعية باعتبار أن من معاني العفو هو هذا الذي يطفو على السطح، يظهر.
ثم قال: (وأمُر بالعرف): العُرف هو كل ما تعارف عليه الناس مما لا يحتاج إلى إثبات وجدل. يعني الناس تعارفوا أن الكرم محمدة وأن البخل مذمّة، تعارف الناس على ذلك ولا يحتاج إلى مناظرة فلسفية ومناقشة كيف أن الكرم يكون محمدة ويقولون الكرم فيه تبذير! فتجد أفراداً من المجتمع والمجتمع لا يعرف لهم ما يفعلون، يعني لا يقرّهم على ما يفعلون ويسميهم بخلاء ولا يسميهم حكماء في مالهم. يعني الإنسان الذي يبخل على نفسه علماً أن الله تعالى يحب أن يرى آثار نعمته على عبده، الله سبحانه وتعالى أنعم عليه ثم هو لا يأكل ولا يُطعِم أهله إلا أسوأ ما يكون. فهؤلاء قِلّة. الذي جرى عليه العرف أن هناك قيماً متعارفاً عليها سواء كان من حيث الخير أو من حيث الشر. فيُطلب من الرسول (صلى الله عليه وسلم) ومن أتباعه لأن الله سبحانه وتعالى يقول (قل هذه سبيلي أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) أتباع الرسول (صلى الله عليه وسلم) ملزمون بما أُمِر به (صلى الله عليه وسلم). الأمر بالعرف لأنه في بعض الأحيان يكون هناك تهاون من بعض الأشخاص مما تعارف عليه الجمهور عند ذلك ينبغي أن تأمر به والساكت عن الحق شيطان أخرس إنما في إطار ما أوضحه الحديث الشريف في مواطن أخرى: “من رأى منكم منكراً فليغيّره” منكراً أي ليس معروفاً لأن العُرف غير النُكر.
*سؤال: إذا تعورف – كما في بلاد الغرب – هناك فواحش تظهر في المجتمع ويُقِرّها العُرف هناك وليس الشريعة الإسلامية فهل يؤمر بهذا العرف؟ أم أيضاً في سياقات الشريعة الإسلامية؟
الآية لم تقل (خُذ بعُرف) وإنما العرف المعروف في مجتمعاتكم المسلمة، الذي تعرفه النفوس بفِطَرها السليمة وليس بالفطرة المعوجة. الإنسان بفطرته السليمة عنده غيرة، كل المخلوقات تغار، انظر إلى عش العصفور: عصفور وعصفورة يبنيان عشاً فهل يقترب عصفور آخر من العش نفسه؟ لا يمكن. انظر إلى الحيوانات، فلما تنتكس الفطرة البشرية إلى ما دون الحيوانية والإنسان لا يغار على عرضه ويرى زوجته أو ابنته أو أخته مع رجل آخر! هذا صار عندهم مألوفاً ولكن الفطرة السليمة في تلك البلاد ما زالت تنكره، ما زال هناك أصوات ترفض هذا. هو عُرفهم هناك ولكن نحن مأمورون بأن نأمر بعُرفنا في ظل شرع الله سبحانه وتعالى ولهذا عرّفها (العُرف). العرف المخصوص الذي ألفتموه فيما بينكم من مكارم الأخلاق ومما يُحمد به الإنسان. حتى بعض أعراف الجاهلية لما جاء الإسلام ووجدها خيراً أقرّ بها وأمر بها. لما ننظر في بعض أبيات عنترة بن شداد يقول:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مخباها
هذا خُلُق رفيع ولعله من نُبل هؤلاء الناس أو مما وصل إليهم من أخلاق النبوة الأولى. هو فارس بدوي في الصحراء تأتي الريح فتضرب خيمتها فتنكشف فإذا انكشفت يغض طرفه إلى أن تتستر ويكرر هذا المعنى بقوله:.
وإن جارتي ألوت رياحٌ ببيتها تشاغلتُ حتى يستر البيتَ جانبُه
أما نقول لبعض الناس نتمنى أن تكون عندكم بعض أخلاق الجاهلية؟! العُرف الذي هو معروف من مكارم الأخلاق مما هو في ظل شرع الله سبحانه وتعالى وما خالف الفطرة السليمة لا يكون عرفاً سليماً. العُرف هو الذي عندكم في ضوء ما تعارفتم عليه من مكارم الأخلاق ومن نبلها، هذا ينبغي أن تأمر به وهذا الأمر لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولمن تبعه.
(وأعرِض عن الجاهلين): خلال الأمر بالعرف وخلال محاولة بناء المجتمع المسلم في ضوء ما يريده الله سبحانه وتعالى سيصطدم – سواء كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو من سار على خطاه (صلى الله عليه وسلم) – سيصطدم بأناس جهلة إما أنهم يجهلون شرع الله سبحانه وتعالى وإما أنهم من الجهل ضد الحلم. ليس فيهم حلم وإنما حمقى والأحمق هو أيضاً يسمى جاهلاً. الجهل إما من عدم المعرفة وإما من الجهل ضد الحلم كما قيل:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظُنّ أنيَ جاهل
يعني تصوروا أني لا أعلم أو تصوروا أني غير حليم. الجهل إما يكون ضد الحلم والعقل والرشد وإما أن يكون الجهل عدم معرفة.
**سؤال: لمَ سُميَ العصر الجاهلي جاهلاً؟ وهل يندرج هذا المعنى في الآية؟
كلا لا يندرج وليس المراد هنا العصر الجاهلي. والعصر الجاهلي لم يسمّه الناس وإنما سمّاه الله سبحانه وتعالى بغير هذا المصطلح (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) فقال الناس هذا العصر الجاهلي أي العصر الذي وصفه القرآن بالجاهلية. لذلك لما يأتي بعض الأدباء وبعض كُتّاب النقد الأدبي ويريد أن يتفاصح ويقول عصر ما قبل الإسلام وهذا أولاً ما كتبه المستشرقون. فإذا كان ربك أطلق على تلك الحقبة “الجاهلية” ففيم أنت تريد أن تتخلى عن هذا اللفظ؟ هذه واحدة. والمسألة الثانية: الإسلام لم يقل الذين كانوا في ذلك العصر كانوا في جهالة مطلقة من كل شيء والآن كنا نتكلم عن نُبل وقيم بعض الأخلاق الموجودة عندهم، هم ليسوا صِفراً كما يحاول بعض الناس للأسف الشديد يتكلم عن الناس قبل الإسلام وكأنهم كانوا في حمأة الرذيلة وفي حمأة المخالفات في كل شيء، لا يا أخي. أمةٌ بهذا الشكل السيء الذي تصفون لا تستحق أن تُرسل إليها رسالة ولا تستحق أن تحمل آخر رسالة في الأرض. هذه أمة كريمة نبيلة كانت على مستوى رفيع، الرجل فيهم يعرّض نفسه للقتل من أجل كلمة: قيل لهانئ ابن مسعود، شيخ بني شيبان، لما قيل له ائتنا بدروع النعمان وبناته، قال: هذه أمانة عندي ولا يمكن أن أسلّمها، ودخل العرب لأول مرة في معركة مع الإمبراطورية الساسانية من أجل يقولون: أنا كسرى، أنا دولة عظمى، سأبيدكم، ائتني بما عندك، يقول: هذه أمانة. وقاتل العرب في تلك المرحلة على تخوم الصحراء وكتب الله سبحانه وتعالى لهم النصر كما ورد في الحديث الشريف ” وبي نُصِروا” بسببي نُصِروا بمعنى أنه حتى يُنزع من قلوب العرب هذه الرهبة والخوف من هذه الدولة العظيمة فإذا جاء الإسلام وامتدت الفتوحات لا يكون العرب في خوف لأن عندهم سابقة في الجاهلية قاتلوا. هذه أمة كريمة، أمة نبيلة، نعم تقول أنهم كانوا مشتتين فوحّدهم الإسلام وكان بعضهم وبعض شرائح المجتمع سفيهة، وفي كل مجتمع هناك سفهاء، فحاول الإسلام أن ينقّي هذه السفاهة. كان فيهم من يئد البنات، قلة قليلة جداً وفي أواخر حياة العصر الجاهلي وإلا كان انعدم العرب لو فعلوها كلهم لكن لأن الجُرم عظيم أرّخه القرآن الكريم (وإذا الموءودة سُئلت بأي ذنب قُتلت) هذا جُرمٌ عظيم ولو حدث مرة واحدة أو مرتين يستحق أن يُسجّل وليس كل العرب هكذا. لما نقول العصر الجاهلي لأنهم كانوا يجهلون الدين ويصرّون على عبادة الأصنام هذا جهلهم فقط. الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول عن حلف الفضول: “لو دُعيت لمثله الآن لأجبت” ” وإنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. هذه أمة لا ينبغي أن تُهان أما أن يأتي أبو نواس وهو سكران ويهرف ( يتكلم بما لا يعرف كلاماً لا معنى له، نوع من الخرافة): لا در درك قل لي من بنو أسد ومن قيس
اسم هذا العصر هو العصر الجاهلي, سماه ربنا سبحانه وتعالى بالجاهلية والمستشرقون سموه (PRE-ISLAMIC) فيأتي البعض ويسمونه ما قبل الإسلام؟!. العصر الجاهلي بمعنى جهل الدين أو جهل العبادة بعد أن كانوا على دين إبراهيم (عليه السلام)، وهو دين التوحيد جهلوا فعبدوا الأصنام ومنهم من قال تُقرِّبنا إلى الله زلفى وبعضهم بقي على الحنيفية، ما كانوا جميعاً ولذا يجب أن يصحح هذا وبودّنا أن إخواننا ممن يعتلون المنابر لا يشتموا ذلك العصر ويتصوروا أنهم بذلك يرفعون قدر الإسلام، لا، الإسلام رفيع القدرة لوحده، بما فيه من مبادئ وقيم. أعطهم حقهم، هؤلاء الناس هم رفعوا شأن هذا الدين، الصحابة رجالٌ من الجاهلية والرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: ” خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا” فالعِلّة إذن “الفقه” وما دام ذهب عنهم الفقه ليسوا خياراً لأنهم من غير فقه الدين. ألم يضحك أحد الصحابة لأنه سبق أن أكل ربّه؟! هذا جهل في الدين لكن سلهم في الحكمة، في الشجاعة، في المروءة، في الكرم، في الغيرة على أعراضهم، أمة في غاية السمو والنُبل هذه الأمة التي كانت في الجزيرة ولذلك اختارها الله سبحانه وتعالى لتحمل آخر رسالة إلى الدنيا جميعاً. في الفتوحات الإسلامية التي بدأت من عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه خارج الجزيرة وامتدت على عهد الخلفاء الراشدين وامتدت إلى عهد الأمويين كل المقاتلين كانوا من هذا العصر. وحتى في الشيشان الآن يقولون أنهم من قبائل عربية وحتى في أقصى بلاد الأفغان وفي روسيا أناس ينتسبون إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) نسباً أنهم من أولاد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه،- هم عربٌ ولا يحسنون كلمة عربية – كما نقول بالعامية “سيّد” أو “الشريف” في شمال إفريقيا. وفي إيران كل عمامة سوداء يزعم صاحبها – والعهدة على صاحبها – أنه من ذرية عليّ، يعني هو عربي ولا يحسن أن يتكلم جملة عربية فامتد هؤلاء في الشرق والغرب. هؤلاء رجال نشروا هذا الدين:
تخالهم في ظهور الخيل نبتُ رُبى من شدة الحَزْم لا من شدة الحُزُم
نبت ربى نشروا هذا الدين فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
الجاهلين إما أن يكون بمعنى غير العالمين أو السفهاء. هذا متى يظهر؟ متى تُعرِض؟ بعد أن تأمر بالعُرف، بعد أن تتحرك وتتكلم معه مرة أو مرتين فإذا وجدت منه جهلاً وحماقة عند ذلك تُعرِض. يقول الإمام علي رضي الله عنه ” ما جادلت أو ما حاججت عاقلاً إلا غلبته وما جادلني أحمق إلا غلبني”. لأنه يرفع شعار لا أقتنع ولو أقنعتني، هذا كيف تتعامل معه؟ هذا الذي وجده يعظ إنساناً جُرِّبت الموعظة معه حتى يئس الناس منه فقيل له: يا فلان ما تصنع؟ قال: أغسل حبشياً لعلّه يبيض، أي أنا ما يئست منه.
الإعراض عن الجاهلين: متى يثبت عندك أنه جاهل؟ بعد أن تدعوه، بعد أن تشافهه، بعد أن تكلمه، بعد أن تدعوه أن يكف عما هو خلاف العرف. إذا تبين جهله وحماقته عند ذلك تُعرِض عنه (وإذا مروا باللغو مروا كراما) (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما).
**سؤال: هل هذا الترتيب (خذ وأمر وأعرض) مقصود بذاته؟
هذا الترتيب: خذ، أأمر، أعرِض مقصود بذاته حتى ينبني المجتمع بناء سليماً بهذه الصورة أن يكون هناك نوع من التسامح بين أفراد هذا المجتمع وأن يكون هناك تناصح وتجنب المِراء والجدل لأنك مع الجاهل ستكون في حال مِراء وجدل لا ينتهي إلى نتيجة. ولذلك إذا أحسّ الذي يريد أن ينصح الآخرين أو أن يعظهم أو يرشدهم أن المقابل لا نفع من ورائه أو أن المسألة التي يناقشها لا نفع من ورائها يكفّ عنها. لا يتصور أنه ضعيف الشخصية أو ما شابه لأن هذه مسألة تدخل في النيّة والإخلاص لله سبحانه وتعالى. أنت عندما تحدّث شخصاً في أمر من أمور شرع الله عز وجل لا تحدّثه حتى يقال “هو عالم” لأنه – والعياذ بالله – (حتى يقال هو عالم) أدخلت أو تدخل صاحبها النار يوم القيامة وفي الحديث أن أول من تُسجّر بهم النار (السجر هو وضع الشوك الذي يشتعل بسرعة تحت الجذور الكبيرة)، أول من تُسعّر بهم النار ثلاثة أصناف، من هذه الأصناف رجلٌ يُعرّف نِعَم الله عز وجل أنعم الله عليك بكذا وكذا وكذا فيقال له ماذا صنعت؟ فيقول: ربي وهبتني علماً فبثثته في سبيلك، فيقال له: كذبت وإنما بثثته ليقال هو عالم فقد قيل، فيُسحب إلى النار ويقال أخذت جزاءك. لذلك علماؤنا يشددون على تصفية النيّة لأن الإنسان بطبيعته تنحرف نيّته أحياناً هو يتكلم مع نفسه فيقول: كلامي مؤثّر، أنا نافع، أنا مفيد وغير ذلك، عند ذلك يقولون فإذا دخله شيء من ذلك فليبادر إلى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى ويُقلِع عنه مباشرة لأن الله سبحانه وتعالى يقول عن المتقين (إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) فالمتّقي إذن يمسّه طائف من الشيطان لأن هذه معركة والشيطان يريد أن يدخله النار، لكن انظر العبارة (إذا مسّهم) لا ينتظر أن يغور الطائف في أعماقهم ويظلم قلوبهم وإنما بمجرد المسّ يتذكر فيتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويسأله عز وجل أن يجعل عمله خالصاً لوجهه الكريم. ومن الأدعية المأثورة :” اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل والصواب فيهما”. يمكن أن يكون الإنسان مخلصاً لكن في الخطأ فيسأله الإخلاص في القول والعمل. لما يحدث إنساناً ويريد أن يزيحه عن مخالفة العُرف ويأتي به إلى عُرف الشرع، الإمام مالك إمام دار الهجرة والذي يقيل فيه لا يفتى ومالك في المدينة، أحياناً يُسأل فيقول للسائل: وقع لك هذا؟ حتى يفتيه، هذه ليست مسألة نظريات، فإذا قال السائل: نعم تحرّى الجواب وإذا قال له لا قال لا أدري، فمرة جاءه رجل وسأله فقال: وقع لك هذا؟ قال الرجل: لا ولكن يمكن أن يقع، فقال: لا أدري، فقال: أخرج إلى الناس فأقول مالك لا يدري؟ قال اخرج إلى الناس وقل مالك لا يدري. هذه تربيتنا وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم إذا كان هناك شيئاً لا يعلمه يقول لا يدري وإذا وجد أمامه شخصاً لا يحسن الحوار ودخل الأمر في المِراء والجدل الذي لا معنى له عند ذلك ينسحب إكراماً للمبادئ التي هو يدعو إليها، مبادئ الدين وأفكار الدين وليست من أفكار رجل وإنما المبادئ المستنبطة من الكتاب والسُنّة فلا ننزعج من كلمة الفكر الإسلامي أو المفكر الإسلامي، هو ليس مفكراً بدل محمد (صلى الله عليه وسلم) وإنما هو مفكّر في النصوص والنصوص أنت تفكر فيها.
**سؤال: ماذا يحدث لو حصل الترتيب: امر بالعرف وخذ العفو وأعرض عن الجاهلين؟
انظر النظام: في البداية أنت تكوّن نفسك (خذ العفو) أي ألزم نفسك بتربية معينة فيها معنى الصفح والسماح، هذه الأمور في البداية هي لتربية النفس. ثم تنتقل إلى مرحلة ثانية الأمور التي لا جدال فيها، مثلاً تأتي إلى رجل مسلم لا يصلي فتقول له يا أخي لا يختلف اثنان أن الصلاة عمود الدين ثم بعد ذلك لما تصل إلى مرحلة أخرى قد تتحدث معه فيقول لك أنا مسلم أصلي مؤمن بالنظام الاقتصادي الفلاني لكن لا أؤمن أن الإسلام نظام اقتصادي لا ينبغي أن ننظر فيه أو أن المرأة كانت في الجاهلية لها زِيُّها والآن لها زي آخر فلماذا تصرون على حشمة المرأة؟ أو كما يقول بعض العامّة: المرأة الشريفة تمشي عريانة بين طابور عسكر ولا شيء عليها، ما هذا الكلام؟! فلما تصل إلى هذه الأمور ستنتقل من موضوع العُرف إلى موضوع جدل لتقنعه بقضية هو غير مقتنع بها فإذا وجدت ممارياً شعاره لا أقتنع ولو أقنعتني! أو أحياناً تتحاور مع شخص وتأتيه بنصوص يقول لك غلبتني، أنت لديك نصوص اسمح لي أن أذهب وآتي بمن لديه نصوص وقد وقع هذا الأمر معي شخصياً في دمشق سمعت رجلاً يشتم صلاح الدين الأيوبي فسألته: لماذا تشتم صلاح الدين؟ وتحاورنا ولما انقطع الرجل قال أنت عندك معلومات أنا سأذهب إلى فلان وآتي به ليحاورك في هذه القضية، يا أخي الله تعالى خلق لك عقلاً!. إذن هذا هو الترتيب الطبيعي (خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين): يربي نفسه، يكوّن نفسه، ينظر إلى الآخرين، يأمرهم بالشيء الذي لا مجال للجدال فيه.
**سؤال: ما اللمسة البيانية في الفعل (أُمُر)؟ ولماذا لم يستخدم فعل انصح أو أُدعُ؟
الأمر ليس دائماً بمعنى الفرض وإنما أن يستخدم هذه الصيغة صيغة (افعل) فإذا كان ممن هو صاحب أمر يكون الأمر على معناه الحقيقي. لأن كلمة (افعل) قد تكون من الأعلى إلى الأدنى: لما رب العزة يأمرنا بشيء، حتى لما يأمرنا يُنظر السياق هل هو أمر إلزام أو أمر إباحة؟ لما يقول تعالى: (وأقيموا الصلاة) هذا أمر إلزام، ولكن لما يقول: (كلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود) هذا أمر إباحة أي يرخّص لكم بالأكل والشرب. فيُنظر في سياق الأمر. أحياناً الأمر يكون من الأدنى إلى الأعلى مثل كلمة: اغفر، فعل أمر لكن هي للدعاء لأنه من البشر إلى رب العزة سبحانه وتعالى (اللهم اغفر لنا، ارحمنا) هذا فعل أمر ولذلك بعض النحويين لا يسميه أمراً وإنما يسميه طلباً. لا هو صيغة أمر لكن من الأدنى إلى الأعلى غرضه الدعاء. إذا كان الأمر من صديق إلى صديق يكون نوع من الالتماس والرجاء.
دلالة الأمر تختلف من الآمر إلى الآخر ومن السياق. الآمر هو الله سبحانه وتعالى، مرة كانت إلزاماً ومرة كانت إباحة. ننظر الذي صدر منه الأمر والسياق فإذا صدر الأمر ممن له سلطة الأمر لأن هذه في الإسلام مقننة لأن الذي يأمر الناس أمر إلزام هو الإمام أو من ينيبه الإمام. فالإمام الذي هو الإمام المبسوط الطاعة، الحاكم المبايع على إقامة شرع الله سبحانه وتعالى فيما ورد في كتاب الله وسُنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) واجب الطاعة يجب أن يطاع إلا إذا أمر بمعصية. والمعصية هي ما عندنا فيه من الله سبحانه وتعالى عليه برهان وليس باجتهاد. يعني إذا اختلف اجتهادك مع اجتهاد ولي الأمر يمضي اجتهاد ولي الأمر لا تقول هذا اجتهادي لأن اجتهاده أمر ملزم ” اسمعوا وأطيعوا إلا أن تروا كُفراً بواحاً” أي كفراً ظاهراً. أو من يُنيبه من ولاة وحكام لأنه لا يستطيع أن يباشر أموره كلها لوحده، أما عموم الناس ليس لهم أن يأمروا بهذا المعنى أما أمرهم فهو نُصح.
(أُمُر بالعُرف): الأمر خاص بالرسول (صلى الله عليه وسلم) وبمن يليه من الحُكّام، هذا في الأمر المُلزِم. أما الأمر الذي هو بمعنى النُصح كأن أقول لك: افتح المصحف، هذا ليس أمراً لأنه ليس لي عليك سلطة أمر وإنما للالتماس. من حيث القانون ليس لأحد سلطة أمر إلا الذي أمّره القانون. فالأمر ينظر إليه على هذا الأساس فإذا كان الأمر من ولي الأمر يكون واجب التطبيق والطاعة ومعصيته معصية لله ورسوله.
لماذا لم تستخدم كلمة (السفهاء) بدل الجاهلين مع أنها استخدمت في مواطن أخرى في القرآن؟
الجاهلون تحوي الأمرين: الجهل ضد العلم والجهل الذي هو ضد العلم والتعقّل (السفاهة). ولو قال (وأعرض عن السفهاء) سيبقى إنسان جاهل تحدّثه هو ليس سفيهاً وليس عنده علم بالموضوع. إذا حدّثته يقول لك كُفّ عن هذا الكلام وإلا أترك المجلس وهذا نسمعه. مثلاً لما يأتي شخص رائحة الدخان تفوح منه فتقول له يا فلان أنت أخي لو تركت التدخين فيقول لك إذا تكلمت في هذا الموضوع أترك المجلس وأنت تقول له يا أخي أنا ليس لي عليك سلطان أنا آمرك أمراً أي نصحاً. ففرق بين السفيه والجاهل فجمعهما القرآن الكريم بالجاهلين بصنيعتهم.
هل يندرج الكفار مع الجاهلين؟
الكفار يندرجون في الجاهلين. المجتمع الإسلامي ليس إسلامياً صِرفاً إنما فيه كفار وفيه عابد النار (المجوس) مع ذلك قال (صلى الله عليه وسلم): سنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب. إلا العرب في الجاهلية لا يُقبل منهم إلا أحد أمرين: الإسلام أو القتال لأن القرآن عربي، يقال له: اقرأ أنت هل تظن أن هذا الكلام من كلام بشر؟ فإذن إصرارك على عدم الإسلام هو إصرار في غير محلّه بينما عموم البشر لهم إما الإسلام أو الجزية إعلان الخضوع لدولة الإسلام حتى يسمح لدعاة الإسلام (لا إكراه في الدين. حتى لا يقال لهم ماذا تصنعون هنا. هذه الأوامر الثلاثة خاصة للمجتمع كله، أنت تنصح لسبب أنت تعتقد كما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): ” مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فصار الفراش يقع فيها فأنا أذودكم عنها وأنتم تفلّتون مني” (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فالمسلم مأمور لما يجد شخصاً لا يصلي – وأول سؤال يوم القيامة الصلاة فإذا فسدت فسد سائر عمله إذا لم تكن موجودة يُقفل الملف ولا ينفع أنك كنت إنساناً طيباً أو صالحاً أنفقت أو عملت أو غيره – لا يصلي وأنت تعلم بذلك وهو جارك سيكون مصيره خطيراً فكيف تسكت عنه؟ ينبغي أن تحدّثه وأن تذكّره بطاعة الله سبحانه وتعالى. فهو أمر صحيح للرسول (صلى الله عليه وسلم) لكنه عام لجميع أتباعه كلٌ بما عنده من علم.