آية (2):
س- *(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الملك) ما دلالة خلق مع الموت؟
ج- (د.فاضل السامرائى): شبيهٌ بهذا السؤال الفرق بين الخلق والجعل ورد أكثر من مرة. قلنا الجعل: إخبار عن ملابسة مفعول بشيء آخر منه أو فيه أو له مثلاً في قوله سبحانه: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ (30) الأنبياء) النحاة يقولون: ملابسة شيء بشيء أن يكون فيه أو منه أو له أو حالة من حالاته في الغالب, قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ (31) الأنبياء) وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ (61) النمل) أو يجعلها حالة (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا (32) الأنبياء) جعلها سقفاً. ملابسة المفعول بشيء، يجعل له شيئاً أما الخلق فليس بالضرورة ويكون ابتداء. خلق أي صنع على غير مثال أما الجعل فهو الملابسة بشيء قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ (12) الإسراء) صارتا شيئاً آخر، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً (22) البقرة) فيها إشمام بمعنى التحويل أن يجعلها تلتبس بشيء أو يجعل فيها شيئاً أو يجعل منها شيئاً أو يجعلها شيئاً, أما الخلق فلا يفيد هذا المعنى, وإنما هو الإيجاد ابتداءً. قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) لم يجعل لهما شيئاً أو فيهما شيئاً أو منهما شيئاً قال تعالى: (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) الفرقان) وهذا هو الأكثر في اللغة ولهذا قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ). (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا (32) الأنبياء) جعلنا السماء سقفاً لكن خلق السماء، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا (31) الأنبياء) جعلنا فيها تلتبس بشيء.
س- * لماذا جاءت آية سورة الملك باستخدام فعل بلى يبلو في قوله تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}) ؟ وفى الإنسان(إنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً {2})ولماذا جاء التخفيف في البلاء ولم يستعمل ليبتليكم؟ وما الفرق بينهما؟
ج- لو قرأنا آية سورة الملك: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ {2}) لوجدنا أنها تنتهي بقوله تعالى: (وهو العزيز الغفور)، والمغفرة تقتضي التخفيف أولاً؛ لأن الإبتلاء والشدّة لا تتناسبان مع الغفور التي هي أصلاً صفة مبالغة أما صيغة ليبلوكم فهي أنسب مع المغفرة والتخفيف جزء من المغفرة. وهناك أمر آخر: نلاحظ في سورة الإنسان ذكر تعالى ما يصحّ معه الإبتلاء, قال تعالى: (فجعلناه سميعاً بصيرا) وقال تعالى: (إنا هديناه السبيل) السمع والبصر والإختيار والعقل وأطال في ذلك فلما أطال في ذكر ما تردد أطال في صيغة الإبتلاء (نبتليه) أما في سورة الملك فلم يذكر أياً من وسائل الإبتلاء إنما ذكر خلق السموات مباشرة في الآية التي بعدها فاقتضى استعمال الصيغة المخففة (ليبلوكم).
أمرٌ آخر أنه تعالى ذكر في سورة الإنسان شيئاً من ابتلاء الأعمال ما لم يذكره في سورة الملك. فذكر في سورة الملك آية في المؤمنين قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ {12}‏) وآية في الكافرين (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {6}) لكن في سورة الإنسان ذكر الإبتلاء في الأعمال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً {7} وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8}) (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً {24} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً {25}‏ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً {26}) وأفاض في ذكر النعيم في الآخرة مما لم يذكره في الملك قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً {5}) فذكر ما يستدعي الإبتلاء وذكر الكافرين (إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً {27}) وذكر الظالمين قال تعالى: (يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً {31}‏) والظلم من نتائج الأعمال. إذن السياق والوسائل وما ذكر من الأعمال جعل ذكر الإبتلاء أنسب من كل ناحية من حيث الوسائل وجو السورة والسياق والأعمال هذا من حيث الصيغة.

اترك تعليقاً