آية (29):
*جاء في القرآن كله تقديم كلمة شهيد على بيني وبينكم كما جاء في سورة الأنعام: (قل الله شهيد بيني وبينكم) وسورة يونس آية 29 والرعد آية 43 والإسراء آية 96 والأحقاف آية 8 أما في سورة العنكبوت فقد جاءت كلمة شهيد متأخرة عن بيني وبينكم في الآية 52 (كفى بالله بيني وبينكم شهيداً) فما سبب الاختلاف؟(د.حسام النعيمى)
مسألة التقديم والتأخير في القرآن الكريم تستدعي النظر في عموم التقديم والتأخير في اللغة بمعنى أن لغة العرب لماذا تقدم ولماذا تؤخر؟ لا شك أن هناك أسباباً للتقديم. الأصل عندنا نظام للجملة العربية بشقّين: الفعل مع مرفوعه سوءا كان فاعلاً أو نائب فاعل ثم تأتي المتممات من مفعول به، حال، مفعول مطلق إلى آخره . والشق الثاني : المبتدأ والخبر ثم يأتي بعده المتممات. أحياناً بعض المتممات تتقدم على الخبر. الأصل مبتدأ وخبر أو فعل ومفعول في بعض الأحيان تكون هذه المتممات بينية تدخل بين المبتدأ والخبر (أركان الجملة الرئيسية) وفي بعض الأحيان حتى المتممات وهناك نظام لها: المفعول به يتقدم على غيره في كلام العرب وهم لديهم هذا المثال: (ضرب الأمير اللصَّ ضرباً مبرّحاً أمام داره في بيته). يذكرون هذه المتممات. فالمفعول به يتقدم. وهناك نظرية العامل والمعمول: المعمول يتقدم على عامله. الأصل في المعمول أن يتأخر على عامله. هذا فيه تفصيل.
لكن نجد أنه بشكل عام التقدم يكون للاهتمام في الغالب إلا في بعض الأحيان. يكون التقديم لإقامة الجملة. مثلاً حينما يكون المبتدأ نكرة ولا مسوّغ للابتداء به إلا تقدم الخبر وهو ظرف أو جار ومجرور كما جاء في ألفية ابن مالك:
ولا يجوز الابتدا بالنّكره ما لم تُفِد كعند زيدٍ نمره
وهل فتى فيكم فما خِلٌ لنا ورجلٌ من الكِرام عندنا
ورغبةٌ في الخير خيرٌ وعمل بِرٍّ يزينُ وليُقس ما لم يُقل
فأحياناً يكون التقديم والتأخير واجباً وله مواطن وقوانين في لغة العرب ومن خلال كلام العرب علماؤنا استطاعوا أن يستنبطوا هذه القواعد أو القوانين. فلما نأتي مثلاً إلى كلمة زيدٌ في المكتبة، يمكن أن تقول: في المكتبة زيدٌ. سيبويه يقول يجوز الوجهان على معنيين مختلفين: في الجملة الأولى أخبرنا عن وجود إنسان في مكان معين هو المكتبة وهو زيد، فسواء قلنا زيد في المكتبة أو في المكتبة زيد، نحن نسبنا الوجود لزيد في المكتبة لكنه يقول لا. عندما تقول زيد في المكتبة، عنايتك بالإنسان زيد أكثر من عنايتك بالمكان (في المكتبة). لما تقول : في المكتبة زيد، أنت تعتني بالمكتبة أكثر من عنايتك بزيد. تتضح الصورة أكثر عندما تدخل (إنما): إنما في المكتبة زيد. هنا صار الحصر في الآخر فلم يعد الاهتمام بما تقدم وإنما صار الاهتمام بالمتأخر لأنه حُصر. (إنما في المكتبة زيد) تقولها عندما يختلف الناس من في المكتبة؟ بعضهم يقول في المكتبة عمرو والآخر يقول في المكتبة زيد والآخر يقول في المكتبة حسن فأقول: إنما في المكتبة زيد. فالمسؤول عنه هو الآخر المحصور. لكن لما نعرف زيداً لكن لا ندري أين هو؟ تقول العرب: إنما زيد في المكتبة، هنا اختلفوا في المكان.
فأحياناً المتقدم هو المعني به وأحياناً يأتي بحيث تؤخر ما أنت مهتم به، لكلٍ قانونه ولكلٍ نظامه.
لما نأتي لنظام الفعل والفاعل : أكرم زيدٌ خالداً (زيد أعطى وخالد أخذ)، أكرم خالداً زيدٌ، لم يتغير المعنى الأساسي أيضاً زيد أعطى وخالد أخذ لكنك اعتنيت بالكرم وخالد أكثر من اعتنائك بزيد. فإذا قلت: خالداً أكرم زيدٌ، تكون عنايتك بخالد أكثر من الكرم وأكثر من زيد. العربية لأنها لغة معربة فيها هذه المرونة وهذه السعة.
نأتي إلى الآية (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) العنكبوت) في غير القرآن يمكن القول: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم. بل حتى في القرآن في آيات أخرى في خمس آيات وردت بهذه الصيغة (كفى بالله شهيداً بيني وبينكم) تأتي شهيداً بعد اسم الجلالة. أما في الآية موضع السؤال في سورة العنكبوت: (كفى بالله بيني وبينكم) جاءت متقدمة على (شهيداً). إذن هناك سر جعل هذه الكلمة مقدمة. والذي قدّمها في خمسة مواضع يستطيع أن يقدمها في الموضع السادس فلماذا جاءت (كفي بالله بيني وبينكم شهيداً) شهيداً متأخرة؟
جاء في الآية: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)) الخطاب للرسول (صلى الله عليه وسلم) (أنزلنا عليك) و (عليهم) إذن (عليك، عليهم) فناسب أن يقدّم (بيني وبينكم) لأن الخطاب للرسول (صلى الله عليه وسلم): قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً) وإلا كان يمكن أن يقول (كفى بالله بينك وبينهم شهيداً) هذا شيء.
الأهم من هذا أنه عندنا كلمة (يعلم) هذه جملة فعلية هي وصف لكلمة (شهيداً) (شهيداً يعلم) يعني شهيداً عالماً فلما كان يعلم وصفاً لشهيدا فلو قدم شهيداً وجعله (وكفى بالله شهيداً بيني وبينكم يعلم) يكون هناك فاصلاً بين الصفة والموصوف يطول الكلام ويضعف. حينما تفصل الصفة وموصوفها يضعف الكلام من حيث التركيب سيتبعد الوصف عن صفته ويكون (بيني وبينكم) فاصلاً. فتفادياً لهذا الضعف – ولغة القرآن اللغة الأعلى والأسمى والأرقى- فتفادياً لهذا الضعف واتّكاء على ذكر المخاطب والغائبين (عليك، عليهم) نوع من التنسيق، والأصل أن يتفادى الفصل بين الصفة والموصوف بكلام (بيني وبينكم) تطيل الفاصل والأصل في اللغة العليا أن لا يُفصل بين النعت ومنعوته. وهو قد يجوز أن تفصل لكن ليس هو الأفضل في اللغة العليا. لذلك جاء (كفى بالله بيني وبينكم شهيداً يعلم) لأن (يعلم) نعت لـ(شهيداً) فلا بد أن تتصل بها.
الآيات الأخرى جاءت على الأصل يعني أن العامل تقدم على المعمول لأن (بيني وبينكم) معمولان لـ (شهيداً) تقدم على العامل. لكن لما يتقدم (شهيد) يأتي المعمول بعدها. الطبيعي أن يأتي العامل ثم يأتي المعمول (كفى بالله شهيداً بيني وبينكم) فما جاء على الأصل لا يُسأل عنه. كما تقول: كتب زيد رسالة، لا نقول لماذا تقدم الفاعل ؟ هذه رتبته هكذا يأتي قبله. إذا جاء الشيء على الأصل لا يُسأل عنه عندما يكون العامل مقدّماً على معموله فهذا هو الأصل. بيني وبينكم معمولان متعلقان بـ (شهيداً) لما يأتي (بيني وبينكم) بعد (شهيداً) لا يُسأل عنه لأن هذا الأصل. مع ذلك لو نظرنا في الآيات التي قد تأخر فيها الظرف نجد أن هناك أسباباً دعت إلى تأخيره ولا يمكن أن يتقدم:
الآية في سورة يونس: جدل بين المشركين ومن كانوا يعبدونهم، كانوا يتخذونهم آلهة من دون الله يتبعون ما يقولون وإن خالف قولهم شرع الله. (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) يونس) هؤلاء الشركاء يريدون شاهداً ليس المهم بيننا وبينكم المهم الشاهد يشهد لهم أنهم ما كانوا يعبدونهم ولذلك جاءت (وكفى بالله شهيداً بيني وبينكم) بينما هناك في الآية التي تقدمت فيها جاءت بسبب وجود (يعلم) الذي هو الصفة أخّرها وقدّم الظرف، والظرف اللغة تتوسع فيه.