(الحمد لله رب العالمين)
نحن نحاول أن نقف بلمسات بيانية عند بعض الجزئيات التي ترد في كلام الله سبحانه وتعالى، والكلام على سورة الفاتحة جملة وتفصيلاً يحتاج إلى حلقات وإلى كلام طويل، بل أكثر من هذا أن الفخر الرازي رحمه الله تحدث مرة، وقال إن في سورة الفاتحة من الأسرار ما يزيد على عشرة آلاف فائدة، فعجِب الناس منها. وكذلك ذكر في بداية كتابه مفاتيح الغيب نفائس من سورة الفاتحة، بحيث أوصلها فعلاً إلى أكثر من عشرة آلاف فائدة.
نحن لا نملك هذا، لكن الذي نقوله إن الله سبحانه وتعالى لأمر ما جعلها أصلاً في الصلاة، بحيث إن المسلم يقرؤها في كل ركعة، وفي الحديث الشريف “لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب أو بأم الكتاب” ولهذا تحتاج إلى تأمل في مفرداتها في كلياتها وجزئياتها.
ففيها تعظيم لله سبحانه وتعالى، وتمجيد له بالحمد، وذكر ربوبيته للعالمين، وإدارته لشؤونهم، وفيها الحديث عن رحمته بهم، وفيها الكلام عن التوحيد، توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وفيها حصر العبادة له، وحصر الاستعانة به، وفيها اللجوء إليه ليثبتنا ويثبت من يقرأ هذه السورة على الصراط المستقيم الذي اتجهنا إليه بدخولنا في الإسلام، والتشبث برحمته سبحانه وتعالى أن لا نذِلّ أو نضِلّ.
فهي فيها معان كثيرة، وسنقف إن شاء الله تعالى عند هذه الجزئيات في جميع السورة.
ونقف أولا عند قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين) وقد اخترنا فيما سبق ما اختاره طابعو المصحف الشريف، وهو ما ذهب إليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وما رواه عبد الرحمن السلمي في أن قول الله عز وجل بسم الله الرحمن الرحيم هو الآية الأولى من سورة الفاتحة، واختيارنا لا يعارض من اختار اختياراً آخر كما قلنا.
فالحمد لله رب العالمين هي الآية الثانية من سورة الفاتحة وفقاً لمصحف المدينة النبوية، ووفقاً لاختيار الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن معه من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رضي الله عنهم أجمعين.
الحمد لله:
سنعرض ما ورد في تفاسير كتاب الله عز وجل حول لفظة الحمد لله؟ حين ننظر في التفسير بشكل سريع نجد أنهم يقولون الحمد أي الشكر ، المديح لله، إلخ.. معناه أنهم يعرضون علينا ألفاظاً تكافئ أو تفسر كلمة الحمد فهي مدح وثناء وشكر، لكن حين نأتي إلى دقائق اللغة، وما اطّلع عليه علماؤنا من لغة العرب نجد أنهم يقولون هناك فرق بين الحمد والمدح، مع أن المدح والحمد مادتهما واحدة (ح-م-د)، لكن هناك اختلافا في التركيب (حمد، مدح)، ولعل هذا التجانس في الصوت هو الذي صنع اتفاقاً واسعاً بين الحمد والمدح، لكن تبقى هناك فوارق جزئية.
*هل يمكن أن نضع مكان الحمد لله المدح لله في سورة الفاتحة؟
الحمد والمدح:
حينما نقول الحمد – وهذا كلام علمائنا في كتبهم- يقتضي ذلك أن يحمد الحامد من هو مستحق للحمد، أما المدح فقد يمدح المادح من هو مستحق ومن هو غير مستحق طمعاً في جائزة أو طمعاً في شيء كما كان يصنع الشعراء، فيقولون هذا الشاعر مدح ولا يقولون حمد. فالحمد لا يكون إلا لمستحق الحمد، بينما الممدوح قد يستحق أن يُمدح، وقد لا يستحق، لكن الشاعر يمدح لغاية في نفسه، وبهذا لا تصلح كلمة المدح هنا؛ لأنها ستحتمل هذين المعنيين، ولأن الله سبحانه وتعالى مستحق للحمد بذاته وصفاته جلّت قدرته.
الأمر الثاني : الحمد لله كما لمسه العلماء في اللغة يتضمن نوعاً من الإجلال والتعظيم والمحبة، فأنت لا تحمد إلا من تُجلّه وتعظّمه وتحبه، أما المدح فليس فيه هذا الشيء. وهذا سبب ثان يرجح كلمة الحمد عن المدح.
الأمر الثالث: أن الحمد إنما يكون بعد النِعمة، أما المدح فيمكن أن يكون بعدها، ويمكن أن يكون قبلها. فإذا بدأنا بكلمة الحمد لله، فمعنى ذلك أننا علمنا نِعَم الله عز وجل علينا، ولذلك نحمده سبحانه، عندما نقول الحمد لله يعني أننا نعترف يا ربنا بما أنعمت علينا من نِعَم (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) هذا فرق آخر بين الحمد والمدح.
المدح لم يرد في القرآن الكريم لا بالمصدر ولا بالمشتقات، ليس في القرآن الكريم مدح، ولا أي صيغة من صيغ المدح لما في المدح من احتمال الصدق والكذب، واحتمال أن يكون المادح كارهاً عندما يمدح، وأنه إن يصدق أحياناً فإن ذلك ليس الغالب عليه.
هل يكون الحمد باللسان؟ الحمد باللسان وبالجنان، لكن لا بد أن تنطق بالحمد، ولا بد أن تترجم ما في الجنان على اللسان، وهذا لا يختلف فيه العلماء.
الحمد والشكر:
*هل يمكن أن نضع الشكر مكان الحمد؟
الحمد مع اشتقاقاتها وردت كثيراً في القرآن الكريم، أحصاها محمد فؤاد عبد الباقي (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) في 67 موضعاً. والشكر استعمل كثيراً في القرآن، فهل نقول الشكر لله بدل الحمد لله؟ قلنا الحمد يقتضي المحبة والتعظيم، والشكر ليس فيه ذلك، حينما تشكر إنساناً ليس شرطاً أن تعظّمه أو تحبه، يمكن أن تشكره لشيء فعله لك، فلو قلنا الشكر لله سنفتقد هذه الخاصية أو الميزة في كلمة الحمد. الأمر الآخر : أن الشكر إنما يكون على نعمة أُنعِم بها عليك فتشكر، (ولئن شكرتم لأزيدنكم)، وتشكر الإنسان الذي يقدم لك خدمة، أما الإنسان الذي يقدم خدمة لإنسان آخر غيرك فأنت لا تشكره. بينما الحمد يكون لما أصابك وما أصاب غيرك من نِعَم فالحمد أوسع من الشكر؛ ومن أجل ذلك كان اختيار الحمد أولى من الشكر.
مسألة المكروه، يقول الناس (الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه) ومعناها أنك لا تحمده سبحانه بسبب المكروه، ولكنك تحمد الله سبحانه وتعالى فيما تعتقد أنه مكروه، وهو في حقيقته خير لك؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يختار لعبده المؤمن إلا الخير، (وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا)، فإذا وقع لك شيء تراه مكروهاً في نفسك كُن مطمئناً وواثقاً أن الخير فيما اختاره الله عز وجل لك، وإن كان في ظاهر الأمر مكروها.
وهذا مجرب، فقد وجدت في كثير من الأحيان عدة حالات في حياتي الشخصية تمر بي فأقول: الحمد لله هذا فيه خير، لكن في داخل نفسي أقول بالحسابات: ليس فيه خير، أين الخير؟ هكذا تحدثني نفسي، لا أرى فيه خيراً، لكن ثقتي بالله تجعلني أقول: فيه خير، ثم تمضي الأيام، ويثبت لي بعد ذلك أن الخير فعلاً في ذلك الذي وقع، وليس الذي كنت أتمناه أو أريده، لذلك في قولنا: (الذي لا يحمد على مكروه سواه) لا تعتقد كراهة ما قدره الله، وإنما تقول: هو سبحانه اختار لي ما هو خير لي في ديني وفي دنياي.
الحمد والثناء:
يأتي في موازاة الحمد كما قلنا : المدح والشكر والثناء، وحين ننظر في كلمة الثناء نجد أننا نستعملها كأننا نسينا مادتها، من أين هي؟
الثناء لا يأتي إلا مع (على)، أنت تقول حمده، وحمد له (تعدي الفعل مباشرة إلى المفعول أو باللام) والتعدي باللام تقرّبه (حمد له فعله)، لكن أثنى لا تأتي إلا مع (على)، والثناء فيه نوع من الاستعلاء، لا ينسجم مطلقاً مع بداية الفاتحة، وحتى في الاستعمالات القديمة، لا نجد أثنى على الله ابتداء، إنما يقال: حمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، فيجعلها ملحقة، لا تأتي منفردة، لمكان (على) هذه؛ لأن فيها نوعا من الاستعلاء.
إذا أتينا إلى الفعل أثنى نجد أن الثلاثي منه ثنى، والثني هو العطف، ففيه معنى الانعطاف، كأنه لم يكن منصرفاً إليه ثم انصرف إليه، بينما الحمد لله تريدنا أن نتجه ابتداء إلى الله سبحانه وتعالى، ولم يرد الثناء بكل تصريفاته في كتاب الله عز وجل، لا المدح ولا الثناء، لعله لمكان هذا المعنى، لأن فيه انعطافا وتحوّلا، والله أعلم.
(الحمد لله)
كلمة الحمد إذًا مميزة عن غيرها من الألفاظ، ولا يصلح غيرها هنا. وهذه الألف واللام في الحمد هي أل الجنسية ، لبيان الجنس، تريد الآية أن تقول جنس الحمد، يعني أنها لا تدع من الحمد شيئاً، بل كلّه بكل جنسيته.
الحمد لله: اللام في كلمة (لله) هي للتخصيص أو الملك، فكأن الحمد خاص بالله سبحانه وتعالى، العلماء يضربون لنا مثالاً، ولله المثل الأعلى، كما تقول: السرج للفرس، والسرج لا يكون إلا للفرس، وكما نقول الآن الطاقية للرأس، فالطاقية لا تكون إلا للرأس، فالحمد لله معناها: الحمد مختص لله سبحانه وتعالى.
لكن الله سبحانه وتعالى من رحمته وتلطفه وفضله أنه جعل إمكان حمد الآخرين، من أين علمنا إمكان حمد الآخرين؟ من أنه سبحانه لم يقل: لله الحمد، فيحصر الحمد له جل وعلا، مثلما جاء في قوله تعالى كما سيأتي (إياك نعبد)، فعندما يقدم المفعول أو المتعلق في الحصر لا تستطيع أن تعطف، بينما إذا لم يكن حصر يمكنك أن تعطف.
فضلاً عن أنه عندما يقال لله الحمد، فهذا التقديم يعني أن هناك نوعا من الشك في الحمد، والموضع ليس موضع شك، وإنما موضع تلقين وتعليم، يعلّمنا الله تعالى كيف نتجه إليه بالدعاء؛ لأن الجملة إنشائية المعنى ، وإن كانت جملة خبرية (الحمد لله: مبتدأ وخبر) فأنت عندما تقول: الحمد لله لا تريد أن تخبر إنساناً أن الحمد خاص بالله، وإنما أنت تدعو وتمجد الله سبحانه وتعالى، تعظّمه فتقول الحمد لله.
عندما يقرأ الإنسان الفاتحة (الحمد لله)، أو عندما يصيبه شيء فيقول الحمد لله، فإنه لا يريد أن يخبر أحداً أن الحمد لله، وإنما يريد أن يتوجه إلى الله تعالى بالثناء عليه وتعظيمه وتمجيده. وهي إن كانت جملة خبرية غير أن معناها معنى إنشائي؛ لأن معناها معنى دعاء، وهو سبحانه يريد أن يعلمنا هذا الكلام؛ لذلك لا يصلح فيها هنا تقديم الجار والمجرور (لله الحمد).
الحمد لله أو إن الحمد لله؟
هل يمكن أن نقول : إن الحمد لله في هذا الموضع؟ الجواب هو نفس ما سبق، فالموضع ليس موضع شك، أنت تقول: زيد ناجح لمن هو خالي الذهن، لكن إذا كان هناك إنسان يشك في نجاح زيد، فيأتي ويقول لك زيد لا ينجح، فتقول له: إن زيداً ناجح، وبقدر زيادة الشك تزيد التوكيدات، فإذا كان شكه عظيماً نقول له: إن زيداً لناجح، تدخل اللام، وقد تلجأ إلى القسم (والله إن زيداً لناجح)، والموضع ليس موضع شك هنا، وإنما موضع يقين لذلك لم يقتض التأكيد، إذًا الحمد لله هي أولى من الألفاظ الأخرى، وهي أولى من التقديم والتأخير، وسنأتي إلى مواطن خمسة جاءت فيها (لله الحمد)، ونبين لماذا قدمت كلمة لله على كلمة الحمد.
والحمد لله أولى من (حمداً لله) فعندما يقول الإنسان حمداً لله : تكون (حمداً) مصدرا مؤكدا أيضاً، ونقول الموضع ليس موضع تأكيد، هذا أولا. وحمداً: مصدر منصوب، إذًا هناك ناصب له، والناصب الأصل فيه أن يكون فعلاً فمعنى ذلك أن الجملة فعلية تقدّر، والجملة الفعلية دالّة على الحدوث، بينما الجملة الاسمية ثابتة دالة على الثبات، فالحمد لله بجملتها الاسمية أثبت من حمداً لله.
هل نقول نحمد الله، أو أحمد الله، أو احمدوا الله: ونحمد كلام مجموع فإن هذه اللفظة، في موضعها هاهنا لا يصلح مكانها غيرها.
هذا كلام الله سبحانه وتعالى بهذا التفصيل الذي فصّله العلماء كما قلت، من الرازي وغيره، إلى أستاذنا الدكتور فاضل السامرائي الذي تحدث في ستين صفحة عن هذه المسألة، وبيّنوا جميعا أن هذه الكلمة لا تصح كلمة أخرى في موضعها.
الحمد لله: لم يقل الحمد للقادر، الحمد للرحمن، الحمد للعظيم، أو أي اسم من أسماء الله الحسنى، وهذا تكلمنا عنه لما قلنا (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) و(بسم الله الرحمن الرحيم). هذه اللفظة (الله) تضم تحت لوائها جميع الأسماء الأخرى بكل ما فيها، ولذلك توصف ولا تصف: نقول الله الرحمن، الله الرحيم لكن لا نقول: الرحمن الله.
أين وردت: الحمد لله رب العالمين في القرآن؟
هذا فيما يتعلق بلفظة (الحمد لله) وقبل أن ننتقل إلى كلمة رب العالمين، لنا وقفة لننظر أين وردت الحمد لله رب العالمين كاملة؟
الحمد لله رب العالمين في بداية الفاتحة بعد البسملة معناها بداية عمل.
في نهاية سورة الصافات بعد الحديث عن الكون وما يضم إلى قيام الساعة وانتهاء الحياة (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)).
كذلك في نهاية سورة الزمر(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)).
وفي الأنعام (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)) .
ففي بداية الفاتحة جاءت، وفي نهاية الحياة جاءت، فنهايات السور تشير جميعا إلى نهاية الحياة.
والحمد لله رب العالمين فيها كلام عن الناس، لاحظ الآية الأولى(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) يونس) هذا يوم القيامة في الجنة، وفي سورة غافر (هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)) هناك في آخر الدعاء، وهنا يحتمل أوله وآخره (فادعوه مخلصين له الدين) كأنما الحمد في الأولى والآخرة.
هنا الفائدة التي نقولها أن كلمة الحمد لله رب العالمين جاءت في أول الفاتحة تحميداً وتمجيداً لله سبحانه وتعالى، وبها يختم العمل والدعاء، وتأتي في سور أخرى في الآخرة أي الحمد لله رب العالمين في البدء وفي الختام, ومما ذكرنا يتضح أن لفظة الحمد في هذا الموضع هي الأمثل حتى من بين جميع الألفاظ في حقها الدلالي. وصورة الحمد بالألف واللام والرفع أمثل من سائر الصور، وعندنا في الحديث “كل أمر ذي بال لا يبدأ بحمد الله فهو أقطع” وفي رواية “فهو أجزم”.
مداخلة: كلمة الحمد ظلمت كثيراً في كتب التفسير، والإمام ابن كثير وغيره يعممون الحمد، ويخصصون الشكر، وفي تصوري أن ذلك خطأ من حيث الطريقة لا من حيث المضمون، فالحمد لله في الفاتحة حمد مطلق، حمد على كل ما يعلمه الإنسان وما لم يعلمه، وعلى ما حمده الله تعالى بذاته لذاته، بينما الحمد في قوله تعالى في سورة الكهف (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) حمد تخصيص.
الحمد ليس معناه الشكر، وابن القيم قال: الحمد ينقسم إلى حمد شكر وحمد مدح. وأنا أقول أن الحمد مقام إلهي ومقام تعبدي، والله تعالى ألهمه كل المخلوقات (وإن من شيء إلا يسبح بحمده). فالحمد عام يخصص بحمد الكهف أو بمحامد القرآن.
ويرد الدكتور حسام على مداخلة المشاهد فيقول: الحمد يراد به جنس الحمد على الإطلاق، وأنا لست ميّالاً للتعرض لما قاله بعض علمائنا السابقين فيما لا نوافقهم عليه، ولكننا سنتكلم عن كلمة الحمد.

وقد وقفنا عند قول الله سبحانه وتعالى (الحمد لله رب العالمين)، وعلمنا ما لكلمة الحمد من أسرار تجعلها مميزة على الكلمات الأخرى التي هي من حقلها الدلالي (المدح، الشكر، الثناء) وكيف أنها هنا أفضل، وبيّنا أن الألف واللام لاستغراق الجنس في كلمة الحمد، وأن (لله) هي للملك، وقلنا هذا نوع من التخصيص كما قالت العرب: السرج للفرس والطاقية للرأس. والحمد لله خاص بالله تعالى، ولكن الله عز وجل أذِن للناس في الدنيا أن يحمد بعضهم بعضاً في هذا الأمر أو ذاك. وكلمة رب العالمين جاءت متعلقة هنا (الحمد لله رب العالمين)، وقلنا أننا سوف نعود إلى كلمة رب العالمين، ولماذا جاءت بهذا الاتصال.
ولكن قبل ذلك نقول إن جملة الحمد لله وحدها وردت في بداية أربع سور ، ثم تكررت في داخل عدد من السور في سبع عشرة مرة نحاول أن نقف عندها بصورة موجزة وسريعة: في بداية الأنعام، والكهف، وسبأ وفاطر: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الأنعام) لاحظ كأنما هذه البدايات تحاول أن تبيّن نماذج من الحمد، قلنا الحمد لله في الفاتحة تعني جنس الحمد، وهنا نماذج يُحمَد الله عز وجل فيها لآلآئه، هنا من رحمته، وهنا من فضله، وهنا من علمه، وهنا من إعطائه العلم للآخرين وهنا من رحمته بهم، وهنا من خلقه السموات والأرض، السور الأربع كأن بدياتها متكاملة:
الأولى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) الأنعام) الكلام عن الخلق، ومعناه التقدير والتصوير، وقد يكون بمعنى البدء، لكنه غالباً بمعنى التقدير والتصوير؛ لأنهم يقولون هذا الصانع خلق القماش يعني قدّره قبل أن يقصه، والخلق غير التكوين والإنشاء، والتصوير معناه أنه يصور الشيء، الكلام خاص عن خلق السموات والأرض، ومن رحمة الله سبحانه تعالى أنه جعل الظلمات والنور، أي أن نظّم السموات والأرض بما فيها من ظلمات ونور مبنية على الحركة، وعلى وجود الإشعاع من داخل بعضها، وخلو بعضها من الإشعاع.
ثم (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) فاطر) هذه المنشئ لاحظ التخليق والإنشاء، ثم (جاعل الملائكة رسلاً) تكلم عن جعل الملائكة.
ثم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) سبأ) هذا الذي في السموات والأرض ملك لله سبحانه وتعالى.
ثم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) الكهف) الملائكة والرسل وإنزال الكتاب، نماذج من آلآء الله سبحانه وتعالى ونعمه التي يُحمد عليها.
فالحمد لله في سورة الفاتحة نظام كليٌّ، وهذه جزئيات في بدايات أربع سور بينها نوع من التلازم والتشابك.
وحين ننتقل إلى عموم سور القرآن الكريم نجد في كل موضع كلمة (الحمد لله) لها معناها ولها مدلولها، لكن يجمعها جميعاً أنه ليس فيها معنى الحصر، وقصر الحمد على الله سبحانه وتعالى، وليس فيها دعوة إلى أن لا يحمد سواه، لكن سنجد في آيات أخرى هناك قصر (له الحمد)، وهو ما سنقف عنده بتفصيل، لماذا قال هنا (له الحمد)؟ وفي الأماكن الأخرى قال الحمد لله بحيث يفسح المجال لأن يحمد الإنسان غير الله سبحانه وتعالى لأمر يقوم به، يمكن أن يحمد على خُلُقه، على علمه، على كرمه، وفي مواضع أخرى حصر الحمد بالله سبحانه وتعالى (لله الحمد) أو (له الحمد).
سنمر مروراً سريعاً على الأماكن التي قيل فيها (الحمد لله) وسنجد أنه ليس فيها مجال لحصر الحمد لله سبحانه وتعالى، وإنما هي صور ونماذج من تفضّل الله سبحانه وتعالى على عباده. أحياناً ينقل لنا كلام عباده، يعلّمنا فيقول (قل، قالوا، قال) تكررت كلمة القول مع الحمد في عشرة مواضع (قل، قالوا، قال) في موضعين مع ضرب الأمثال، وفي موضع دعاء، وهناك أربع مواضع في بداية السور.
نأتي الآن إلى سورة إبراهيم (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)) هذا دعاء إبراهيم يحمد الله عز وجل به، فيذكره الله تعالى لنا حتى نتعلم أن نقول الحمد لله الذي أعطانا هذا، الحمد لله على الهبة، وهذا جزء من الحمد الكلي.
ثم عندنا (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) النحل) رب العالمين يعلمنا بالأمثال، يضرب لنا مثلاً حتى نتعلم، فعندما نقول الحمد لله، معناه الحمد لله الذي علّمنا بضرب المثل الذي يعلّمنا، (وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) نحن نقول الحمد لله الذي علّمنا، بل أكثر هؤلاء الذين لا يؤمنون لا يعلمون بما علّمنا الله عز وجل من ضربه للمثل.
وهنا وقفة قصيرة: عبّر عن عبد مملوك، ومن رزقناه منا رزقاً حسناً، عبد ومرزوق، وقال (لا يستوون) (من) لفظها لفظ مفرد، ومعناها معنى جمع، فكأن الآية تريد أن تقول هذا العبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، هل يستوي مع هذا الذين ينفق، وهذا الذي ينفق، وهذا الذي ينفق، وهؤلاء الجمع من المنفقين؟ هل يستوي هذا معهم؟ فاستفادت الآية من كلمة (من)، فمرة عبّرت بالمفرد، ثم رجعت مرة أخرى لتعبّر بالجمع.
الآية الأخرى أيضاً تعليم بالمثل (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) الزمر). لم يقل (من) هنا، بل قال: رجل ورجل فلا بد أن يستعمل التثنية، الحمد لله الذي علّمنا بضرب المثل وأكثرهم لا يعلمون.
فحمد الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات لا يستدعي أن لا يحمد سواه، فإذا علّمنا أحد شيئاً أو أكرمنا بشيء يمكن أن نقول: نحمد فلانا، يعني لم يدعنا نقصر الحمد عليه، لكن أورد نماذج من الحمد لله رب العالمين الذي هو حمد الجنس، وهذه كأنها تفريعات.
الآية في سورة الأعراف، ومن هنا بدأ يسبقها القول: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)) يعلمنا أن هؤلاء الذين وُجهوا إلى الجنة صاروا يقولون الحمد لله فهو نوع من تفضله سبحانه وتعالى عليهم وعلينا عندما يعلمنا أن نقول كما قالوا.
عندنا في الإسراء الآية 111 (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)) هذا تلقين وتعليم أن نحمد الله عز وجل الذي علمنا التوحيد، وعلمنا بعض صفاته سبحانه وتعالى، ونقول الحمد لله.
ومع نوح (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) المؤمنون) أيضاً تعليم بالأمر (قُل) نوع من التعليم.
وفي الحكاية عن قولهم (وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) النمل) إذا وجد الإنسان في نفسه شيئاً قد أكرمه الله تعالى به يقول الحمد لله، وهي أيضاً جزئية من كلّية جنس الحمد المخصص لله سبحانه وتعالى.
وفي النمل (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) النمل) تعليم أيضاً، تعليم أن نقول الحمد لله أنه سبحانه وتعالى اصطفى عباداً وجعلهم مؤمنين وألقى عليهم السكينة والاستقرار. وفيها (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) النمل) احمد الله عندما تظهر هذه الآيات، أو عندما يعلمك كيف تحاور، وكيف تناقش، فتقول الحمد لله.
وفي لقمان (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لقمان) لو سألت الكفار من أنزل الماء من السماء يقولون الله؛ لأنهم كانوا يعرفون الله، لكن كانوا يعبدون الأصنام، يقولون تقربنا إلى الله زلفى.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) العنكبوت) لو استعملوا عقولهم ما عبدوا هذه الأصنام (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لقمان) ليس عندهم علم في هذه الأمور، في هذا الشرع، في هذا الدين، يعني لم يستعملوا عقولهم ولم يستعملوا علماً عندهم.
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) فاطر) تعليم وتدريب بقول غيرهم أن هؤلاء الذين دخلوا الجنة قالوا هذا الكلام فتعلموا وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى.
(وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) الزمر) تعليم وتدريب لنا أن نقول كما قالوا في دخولهم الجنة (هذا في المستقبل ولكنه ماض في علم الله سبحانه وتعالى) .
وكل هذ المواضع ليس فيها موضع يريد الله تعالى أن يقصر الحمد فيه عليه جلّت قدرته، لكن لما ننتقل إلى مواضع أخرى نجد أن سياق الآيات يريد أن يبين لنا أن الحمد في هذا الجو مقصور على الله سبحانه وتعالى، لا يستقيم هنا أن تحمد غير الله عز وجل مع أن الله سبحانه وتعالى رخّص لك أن تحمد سواه لنفع أو فضل يقدمه لك.
ننظر في سياق الآيات: (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) القصص) نلاحظ السياق هنا سياق حصر، والكلام عن الآخرة، وسنجد أنه حينما يكون الشيء منحصراً، يعني سياق الآية فيه قصر أشياء على ذات الله سبحانه وتعالى لا تصلح لغيره تأتي (له الحمد) بتقدم الجار والمجرور، يقول له الحمد، لا يقول الحمد لله، الحمد يرفض لغيره في هذه المواضع، في مثل هذا السياق، فهو حين قال (وهو الله لا إله إلا هو) حصر بالنفي وبـ (إلاّ)، فالموضع موضع حصر، لذلك قال (له الحمد) ولم يقل الحمد لله؛ لأنه لا يستقيم مع الحصر، ثم إن فيه ذكر الآخرة، وفي الآخرة لا يُحمد سوى الله تعالى. من تحمد في الآخرة؟ في يوم القيامة؟ لا يوجد مخلوق يُحمد يوم القيامة، ولا يحمد إلا الله تعالى، إذا ذُكِرت الآخرة انحصر الحمد بالله سبحانه وتعالى، له الحمد، وله الحكم أيضاً (وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) القصص) فالجو العام في الآية هو حصر؛ لذا لا يصح هنا أن يقال في غير القرآن: (لا إله إلا هو الحمد له وله الحكم) لا يستقيم، التقديم فيه معنى الحصر، له الحمد وليس لغيره لأنه عندما يقدم الضمير أو المفعول لا تستطيع أن تعطف، لكن حينما يقدم غير الضمير يعني الجار والمجرور مثلا إذا قدّم فإن ما كان مرتبطاً بالله تعالى يصح أن يعطف، وما عداه لا يجوز أن يعطف. نلاحظ في قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا (10) فاطر) فحصرها فيه وحده، وفي موضع آخر أجاز العطف عليها لارتباطها به سبحانه (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) المنافقون) فعطف مع وجود الضمير العائد على الله تعالى، يعني أخذ العزة من عزة الله تعالى، ثم قال وللمؤمنين فلم يذكر الضمير، أراد: وللمؤمنين بالله ورسوله، ولو قال في غير القرآن (للمؤمنين بهما) لضعف الكلام، ثم يكون جمع الرسول مع الله تعالى وهذا لا يكون بالضميرين.
فعندما يقول (له الحكم، إليه ترجعون، لا إله إلا هو) لا يستقيم إلا (له الحمد).
الآية بعدها في سورة الروم (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18))، كلمة سبحان الله سُئل عنها الإمام علي كرم الله وجهه فقال: كلمة رضيها الله عز وجل لنفسه، فنحن نقولها، لا يمكن أن نقول سبحان فلان، التسبيح والتنزيه والتقديس لا يكون إلا لله عز وجل، فهذه كلمة حاصرة حصرت (سبحان الله)، التسبيح منحصر، ثم الزمن منحصر، والمكان منحصر. ذكر الزمان والمكان بحصر (حين تمسون) المساء والصباح والعشي والظهر، وجعلت (وله الحمد في السموات والأرض) للمكان، فكأنه صار هناك نوع من الاختلاط والاتصال بين التسبيح والحمد في هذه الأوقات، والتسبيح والحمد لله سبحانه وتعالى في السموات والأرض، ففيها إطلاق، وفيها حصر، وفيها حصر للزمان، وحصر للمكان، فإذًا لا يناسبه إلا حصر الحمد بالله سبحانه وتعالى.
*(الحمد لله ) التي يتلفظ بها المسلم في بداية يومه ، ما الفرق الكبير الواضح الذي ينبغي أن نعرفه بين الحمد لله ولله الحمد؟
عندما يقول الحمد لله يوجّه الحمد لذات الله سبحانه وتعالى، وحينما يقولها مجردة (الحمد لله) معناها أنه يحمد الله سبحانه وتعالى بمطلق الحمد، لكن إذا قال لله الحمد معناها أنه يحصر الحمد لله سبحانه وتعالى، يقول لله الحمد حصراً. والذي عُلّمنا إياه أن نقول: (الحمد لله)، فإذا قال الإنسان: لله الحمد، فهو كلام صحيح ليس فيه شيء، لكننا نقول كلمة الحمد لله في القرآن الكريم إنما جاءت في هذه المواضع التي أوردناها، ونحن نحرص أن نتأسى بأسلوب القرآن الكريم في كلامنا.
هذه الآية الأخرى في سورة سبأ التي بدأت بالحمد لله، انظر ما قاله سبحانه (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)) ففي قوله (له ما في السموات والأرض) تقديم وتأخير، كأني أقول في غير القرآن: الذي ما في السموات والأرض له؛ لأن (ما) مبتدأ، و(له) خبر، فلما قدّم لغرض حصر الملكية ( له ما في السموات وما في الأرض) لا يشاركه أحد في ملكه حسن العطف (وله الحمد)؛ لأنه سبق بهذا التقديم مع ذكر الآخرة.
وفي سورة الجاثية (ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأرض رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)): (فاليوم) يوم القيامة، (فلله الحمد) ما دام الكلام في الآخرة (فلله الحمد رب السموات) نلاحظ هنا كيف كرر (ورب الأرض) لم يقل رب السموات والأرض لغرض التأكيد، ثم قال (رب العالمين) الذين في السموات والأرض، جمع رب السموات ورب الأرض جمعهما بحرف عطف ثم قال رب العالمين من غير عاطف حتى يشمل كل من فيهما.
وفي سورة التغابن (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)) هنا عندنا التسبيح أيضاً الذي هو حصر لله تعالى (له الملك) قدّم الجار والمجرور، ففيه حصر وعطف، ولذلك قال: (وله الحمد)، ولا يصلح هنا له الملك، والحمد له لا تصلح لغوياً حتى لا يكون هناك ضعف، لأنك تعطف غير محصور على محصور.
وعموماً فقد تأخر لفظ الحمد المبتدأ في خمس آيات، والمعنى في جميعها للحصر.
(رب العالمين):
الآن ننتقل إلى قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين)، لاحظ أننا لما بدأنا بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) في ذكر اسم الجلالة سبحانه وتعالى الحاوي لكل ما تحته من صفات وأسماء، وبدأنا بعد البسملة بمطلق الحمد، وجنس الحمد ناسب ذلك أن يقال( رب العالمين)، لأن من أسباب حمده، ومن جزئيات حمده أنه رب للعالمين.
والعالمون يقول العلماء أنه ما دام جمع مذكر سالم يكون للعقلاء، فصار رب العقلاء الذين هم عالم الإنس، عالم الجن، عالم الملائكة. وبعض العلماء يقولون إن جمع المذكر السالم يطلق إذا كان هناك اختلاط بين العقلاء وغيرهم؛ فرب العالمين معناه رب العوالم، هم يقولون إذا قال العالمون معناه جمع عالم للعاقل وغير العاقل. والبعض يقول سواء هذا أو هذا هو سبحانه وتعالى رب كل شيء.
لكن نأخذ كلمة رب حين نأتي إلى تصريفها نجد أنها من ربّ يَرُبُّ فهو ربٌ، فهو مصدر، لكنه مصدر بمعنى اسم الفاعل، كما قالوا هو عدلٌ: العدل مصدر، لكن قيل هو عدل بمعنى عادل، فثمة فرق بين هو عادل وهو عدلٌ: هو عادل يعني تتحقق فيه صفة العدل، لكن هو عدل أي كأن العدل كله تمثل في شخصه فهناك فرق.
فمن هنا كانت كلمة رب، الرب تأتي بمعنى التنمية (أن ينمي الإنسان الشيء فيرُبَّه) يرُبّه يعني ينميه، يُتِمه، ينتهي منه، وهذا المربي أُخِذت منه كلمة الرب المالك، الذي يملك؛ لأنه يتعهد الشيء بالتربية والنماء شيئاً فشيئاً، ومنه الحديث الذي يرويه الإمام مسلم، وهذا ينفعنا في حياتنا العملية في العلاقات.
الآن ضعفت علاقات الناس على خلاف ما يحبه دين الله سبحانه وتعالى، ديننا يريد منا أن تكون علاقاتنا لوجه الله تعالى وليس لمصلحة ما. مثل هذا الرجل الذي كان يذهب لزيارة أخ له، فأرسل الله تعالى على مدرجته ملكاً قال: أين تريد؟ قال: أريد القرية الفلانية فيها أخ لي أحبه في الله، قال: ألك نعمة عليه ترُبُّها؟ (أي ألك إحسان عليه تريد أن تنميه بزيارة)، قال: لا، ولكني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أن الله سبحانه وتعالى أحبك كما أحببته فيه.
الآن عندما يتصل بك أحد ليزورك لمدة 10 دقائق، ويأتي ليجلس قليلاً تتساءل ما الذي جاء به؟ لعله يحبك في الله وجاء ليزورك، ولكنا نقول لهؤلاء المتحابين في الله أن لا يطيلوا الزيارة، وأن يقدروا ظروف الناس (زُر غبّاً تزدد حباً).
فهذه كلمة رب، وهذه كلمة العالمين، (الحمد لله رب العالمين).

اترك تعليقاً