(مالك يوم الدين)
فيها وقفة، فيها قراءتان مشهورتان، وهناك من قرأ مَلَك وملاّك لكن المشهور في السبعة أن بعضهم قرأ مالك يوم الدين، وبعضهم قرأ ملك يوم الدين، .
(مالك يوم الدين)
فيها وقفة، فيها قراءتان مشهورتان، وهناك من قرأ مَلَك وملاّك لكن المشهور في السبعة أن بعضهم قرأ مالك يوم الدين، وبعضهم قرأ ملك يوم الدين، ولي في هذا كلام قد يطول نرجئه للحلقة القادم
مالك يوم الدين:
نحن ما زلنا في سورة الفاتحة ووقفتنا هذا اليوم عند قوله تعالى (مالك يوم الدين). كلمة مالك هي في قراءة سبعية، وملك في قراءة سبعية. المشرق العربي والإسلامي وباكستان وتركيا وهذه البلاد تقرأ مالك يوم الدين، وفي شمال إفريقيا والمغرب العربي يقرؤون ملك يوم الدين بقراءة نافع برواية قالون، وهذا يستدعي أن نبين بشيء موجز مسألة القراءات وكيف جاز أن يقرأ بعضهم مالك وبعضهم يقرأ ملك.
أولاً: هي رسمها في المصحف  من غير ألف، وهذا الرسوم سوّغ للعربي من القديم أن يقرأها بالألف لماذا؟ نحن عندنا الحركات لا تُرسم حتى بعد أن وُضعت لها رموز، لا نرسم الحركات، نقول كتب لا نضع فتحة على الكاف، لا نفعل هذا، وكذلك الضمة والكسرة لا نضعهما، والألف فتحة طويلة عندما تمد الصوت بالفتحة في (كتب) مع الكاف تصبح ألفاً (كاتب)، علماؤنا يقولون لو مددت الصوت بالفتحة نشأ من بعدها ألف، لكن الدرس الصوتي يقول تصبح ألفاً، وهذا ليس من شأننا.
نحن إذن لا نضع الحركات، هذه الفتحة في (كَتَب) كما أننا لا نكتبها، ولكننا نقرأها كَتب، وفرق بينها وبين كُتب وكتاب، وكلها غير مرسومة.
يبدو أن الكاتب العربي قديماً كان ينظر إلى صوت المدّ في الألف كما ينظر إلى الفتحة، فكما أنه لا يكتب الفتحة أو يكون له صوت للفتحة، كان لا يكتب الألف في كثير من المواضع، وأحياناً كان يكتبها متقصداً حتى لا يكون هناك إغفال لصورة الألف.
أما الواو والياء فكانوا في الغالب يرسمونهما لأن لهما صورتين: الواو التي تشبه الألف في كونها حرف مدّ مثل الواو في (نقول)، علماؤنا يقولون الواو الساكنة المضموم ما قبلها، والياء في (نبيع) الياء الساكنة المكسور ما قبلها، والواو التي قبلها حركة، أو بعدها حركة ليست من جنسها تختلف. واو (وجد) وواو (لون) غير واو (نقول) من حيث الصوت، حين ترسم المقاطع على شكل الرسم الطيفي مثل تصوير القلب، واو (وجد) تظهر قاعدة للمقطع نقطة في الأسفل، بينما واو نقول تظهر قمة في المقطع، فهذه غير هذه، لكن رُسمت بشكل واحد، فالواو والياء لها صورة قيمتها قيمة حرف اعتيادي مثل وجد ولون ويبس وليت، والواو والياء هما حركتان طويلتان مثل نقول ونسير؛ فلأن لهما صورتين رسمتا في الغالب، أما الألف فليس لها إلا صورة واحدة وهي المدّ، هي فتحة طويلة، ولذلك الغالب أنهم لا يرسمونها، حين ننظر إلى المنحوتات القديمة تأتينا مثلاً كلمة (الحارث) أحد الملوك الذين حكموا الشام من الأنباط قديماً نجد أنه مكتوب الحرث من غير ألف، وكلمات كثيرة جداً.
فكلمة (ملك يوم الدين) رسمت بالميم واللام والكاف، فلما رُسمت هكذا احتملت قراءتين: احتملت أن تُقرأ مالك، واحتملت أن تُقرأ ملك، لكن هل هذه القراءة كانت بتشهٍّ من القارئ؟ الجواب لا، هذا الرسم الذي بين أيدينا يشير إشارة موجزة إلى فكرة الأحرف والقراءات، ونفهم منها مسألة عامة، وهي هذا النوع من التسامح بين المسلمين واحتمال الرأي الآخر في كتاب الله.
تروي لنا كتب الصحاح والسنن أن اثنين من الصحابة هما عمر بن الخطاب وصحابي آخر، سمعه عمر رضي الله عنهما يقرأ بطريقة غير الطريقة التي يقرأ هو بها، فلبّبه (أي أخذه من تلابيبه)، وجاء به إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال (صلى الله عليه وسلم) : (ما قرأت به صحيح، وما قرأت به صحيح، اقرؤوا كما عُلّمتم، فقد أُنزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف)، هذا متى كان؟ يقول (صلى الله عليه وسلم) : (سألت ربي أن يزيد في الأحرف إلى أن وصلت بها إلى سبعة أحرف) هذه السبعة، هل هي الرقم الذي بين الستة والثمانية؟ أو هي إشارة إلى انفتاح الأمر أي تيسيره وفقاً لما أقرأهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، لم تكن بالرقم سبعة التي بين الستة والثمانية؛ لأن العرب كانت تستعمل بعض الأرقام للإشارة إلى الكثرة تستعمل: سبعة وسبعين وسبعمائة وألف، كما نستعمل نحن الآن كلمة مائة في العامية حين يقول أحدهم: قلت له مائة مرة أن لا يفعل هذا، ومائة ليست العدد الذي بين تسعة وتسعين ومائة وواحد، ولكنها إشارة إلى الكثرة، هذه عادة المجتمع وهكذا كان.
على أية حال سواء كانت الحروف أو الأحرف السبعة هي الرقم سبعة أو غيره – نجد أن ابن جنّي يذكر في كتابه المحتسب في وجوه القراءات الشاذة يفسر معنى شذوذ القراءات، ثم يذكر رواية عن عمر، وهو خليفة يأمر فيُطاع أن رجلاً قرأ بين يديه أو أمامه (فتربصوا به حتى حين) قرأها (عتى حين)، فسأله عمر: من أين الرجل؟ قال: من العراق، وعمر يعلم أن الهذليين لم يذهبوا إلى العراق، ما كان في العراق هُذلي، قال من أقرأك هذا ؟ أنت لست هذلياً، قال: ابن مسعود، وهو هُذلي، وكان يُقرئ الناس، فأرسل له عمر رسالة فيها: (إن الله قد أنزل القرآن، وجعله عربياً، وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تُقرئهم بلغة هذيل). مع أن هذه القراءة أجازها الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن ربه، لكن عمر بثاقب بصره وجد أن السبب الذي من أجله رُخص بهذه الأحرف، زال وهو كون العرب كانوا أمة أمية، أما الآن فالعرب جميعاً يقرؤون ويكتبون في زمانهم، من زمن أسرى بدر بدأت القراءة والكتابة تنتشر، وكان عمر في خلافته يمتحن الأعراب القادمين، حتى انه امتحن رجلاً مرة قال: تقرأ القرآن؟ قال نعم يا أمير المؤمنين، قال: فاقرأ لي أم القرآن، لو قال له اقرأ لي الفاتحة لعرف، فقال الرجل أنا لا أعرف البنات فمن أين أعرف الأمهات، فأخذه وأسلمه إلى المُقرئ، فلبث فترة، ثم انهزم، وترك قصيدة يقول فيها:
أتيت مهاجرين فعلّموني ثلاثة أحرف متتابعاتِ
وحطوا لي أباجاد وقالوا تعلّم سعفصاً وقريّشات
وما أنا والقراءة والتهجّي وما حظ البنين من البنات
صارت الأمة قارئة حافظة، فوجد عمر عند ذلك بثاقب بصره أنه ينبغي أن يجتمعوا على حرف قريش، لأن القرآن نزل بلغة قريش، وعلى حرف قريش، والأحرف الأخرى كانت رُخصاً من الله سبحانه وتعالى.
وهذا نستفيد منه الآن، نحن قلنا إن معنى الترخيص في كتاب الله أنني يمكن أن أقرأ مالك يوم الدين، وتقرأ أنت ملك يوم الدين، ويكون ما قرأت أنا صحيحاً، ويكون ما قرأته أنت صحيحاً، من غير تشنج ومخاصمة، لكن الحاكم الذي يريد أن يوحّد الأمة كان له رأي آخر.
ويبقى هذا الحكم، إذا قرأت مما هو ثابت على السبعة أو العشرة فقراءتك صحيحة عند الجمهور، والأغلبية يقولون في السبعة فقط.
وكذلك صنع عثمان الصنيع الذي قال عنه الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لو كنت أنا لفعلت مثلما فعل عثمان. والذي فعله عثمان هو أنه جمع الناس على حرف قريش، أراد للناس أن تجتمع على حرف واحد، الصحابة كانوا قد انتشروا في الآفاق (وهذا كلام موجز لفكرة الحروف والقراءات حتى يفهمها الناس من غير أهل الاختصاص، ولماذا جاءت ملك ومالك، ورُخّص في كليهما).
كان الصحابة قد انتشروا في الآفاق، وكلٌ أقرأ بما أُقرأ وفقاً لقبيلته، وما أجازه (صلى الله عليه وسلم) عن ربه، وليس من عنده (صلى الله عليه وسلم). لكن نسخ المصاحف التي كتبت في زمن عثمان جاءت بإجماع الصحابة. مكي بن أبي طالب القيسي يقول في كتابه الإبانة عن القراءات: أجمع ما يزيد على اثني عشر ألف صحابي على صحة ما فعل عثمان. أجمع الصحابة على حرف، لكن لأن الكتابة لم تكن منقوطة ولا مشكولة، فلما وصل المصحف الإمام إلى الشام كان الناس يقرأون بقراءة معينة أو حرف معين أو أكثر من حرف، فصاروا يعرضون ما قرؤا على رسم المصحف، فما وافق الرسم ظنوا أن عثمان أراده، وما خالف الرسم تركوه، ولو كان حرفاً من الأحرف السبعة من أجل وحدة الأمة، فكلمة  بهذه الصورة يمكن أن تُقرأ مالك؛ لأنهم ما كانوا يرسمون الألف، ويمكن أن تقرأ ملك، فلما ذهب المصحف إلى الناس الذين كانوا يقرؤون مالك قالوا إذًا عثمان أراد مالك، ولما ذهب إلى الناس الذين يقرأون ملك، قالوا إذًا عثمان أراد ملك، فمن هنا جاءت القراءات. فالقراءات إذن السبع أو العشر، وعلى رأي الأربع عشرة هي بقايا الأحرف السبعة، يعني حرف قريش مع بقايا الأحرف السبعة، فكلها مقروء بها، وما كان يقرأ بها أفراد كما يُتصور، هذه قراءة نافع، وهذه قراءة عاصم، لا ، بل هؤلاء كانوا يمثلون المدن أو القبائل؛ لأننا نجد في كتاب سيبويه وهو أقدم كتاب وصل إلينا من كتب النحو أنه لا يقول قرأ فلان من مكة، ولكنه يقول: وبلغنا أن أهل مكة يقرؤون كذا، وبلغنا أن أهل الكوفة يقرؤون كذا (لأنه كان في البصرة)، وبلغنا أن أهل الشام يقرؤون كذا، يعني يُحيل على البلدان.
في مكة كان أهل مكة يقرأون هكذا، ظهر منهم ابن كثير، ويبدو أن صوته كان جميلاً فشُهِر، وفي المدينة كان نافع، وفي الشام ابن عامر، وفي البصرة أبو عمرو بن العلاء، وفي الكوفة ثلاثة من القراء عاصم والكسائي وحمزة شيخ الكسائي. إذًا من هنا جاءت ملك ومالك وبقية القراءات.
نستفيد من هذا كله شيئا، وهو مقترح نود أن نعرضه، أنه لما كان عثمان وعمر رضي الله عنهما، والصحابة الكرام (اثنا عشر ألف صحابي) أرادوا أن يجمعوا الناس على حرف، فما الذي لا يجعلنا نتمنى أن يجتمع الناس اليوم على قراءة واحدة، نتمنى إذا كانت هناك طباعة جديدة للمصحف يتفق الناس جميعا، ويطبعونه بصورة واحدة، ويقرؤونه بحرف واحد.
لكننا نقول في الوقت الحاضر أنك إذا كنت في الرباط أو في مراكش فاقرأ ملك يوم الدين، إذا قُدّمت إماماً حتى لا يستغرب الناس ، وإذا كنت في بغداد فاقرأ مالك يوم الدين، وإذا كنت في الموصل فلا باس أن تقرأ (فأوردهم النير)، لأنهم في الموصل يقرؤون النار: النير، لكنك في بغداد حين تقول النير يستغرب الناس منك.
نحن لا ننفي القراءات، هي على العين والرأس، ونقول أنتم تعلمتم هذا، وهذا علم الخاصة، أما إذا كنت تريد أن تقول إن الله تعالى يريد أن يقول لنا إن فرعون أورد قومه النار، فلماذا نقول النير؟ فنقول لك: هذه القراءة لمن كانوا يميلون، ورُخّص لهم في هذا، وقريش ما كانت تميل، وما كانت عندها هذه الإمالة. فنتمنى، ولا نقول: إن هذا ممنوع، فلو كان عندنا رجل مثل عمر الذي نهى ابن مسعود وهو الصحابي، أو مثل عثمان أو مثل علي – لكان قد حمل الناس على حرف واحد. هذه هي الغاية، أن نقرأ بصورة واحدة. وإذا أخذت بحرف واحد فهذا ما يأخذ به جمهور علمائنا، إذ لا يرتضون أن تقرأ بأكثر من قراءة في آن واحد، والعلماء يقولون إن أمسكت المصحف فاقرأ به قراءة واحدة إلى النهاية، أو على الأقل في نفس الجلسة.
لم تُكتب الألف في ملك، لكنها تُقرأ، ورسم المصاحف توقيفي على ما رسمه الصحابة على القولين: سواء قلنا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أشار عليهم بطريقة الرسم هذه، أو أن الخط العربي تطور في زمانهم، فرسموا هكذا. وفتوى علمائنا أن رسم المصحف يُكرر كما رسم على زمن الصحابة، فإذا أردت أن ترسم مصحفاً فضع أمامك نسخة قديمة لترسم عليها، فمالك ترسم ؛ لأنك إذا رسمتها مالك كما فعل بعض الخطاط في زمن الدولة العثمانية حين أرادوا أن يجمعوا الناس على حرف واحد، فكتبوها مالك – فسوف تمنع من أراد قراءة ملك، ولا يتقن إلا إياها، فيقول لك أنت حرمتني من القراءة، لكن اكتبها  وقل له أتمنى أن تقرأها مالك أو ملك، فلنتفق على شيء، لتقرأ الأمة جميعاً ملك يوم الدين.
كتابة المصحف توقيفية في كل زمان تكتب كما هي إلا للمتعلمين، فإنها تكتب بخط ذلك الزمان.
الآية أمامنا () ملك ومالك، وبعض العلماء حاول أن يبين أيهما أميز؟ مالك أو ملك؟ لكن المحققين من العلماء يقولون: لا يجوز المفاضلة بين قراءتين سبعيتين، لكنك تقول عند قراءة كذا ستكون الفائدة كذا وكذا وكذا، وعند قراءه هذه تكون الفائدة كذا وكذا وكذا.
فإذا أتينا إلى فوائد كلمة ملك، وفوائد كلمة مالك نقول أن الجمع بين القراءتين يجمع الفائدتين مع مراعاة شيء، وهو أنه حين نقرأ كلمة ملك ينبغي أن نستحضر في أذهاننا ما كان يستحضره العربي في ذلك الزمان من كلمة ملك.
هناك الآن ملكيات (الملك فلان والملكة فلانة) يوجد ملوك، ولكن عددهم قليل.
والملك الآن اسمه الملك، لكنه لا يكون مالكاً للبلد، ، إنما هو رمز لوحدة تلك الدولة، لوحدة الأمة، لكن غيره هو الذي يتصرف في الشؤون، البرلمان أو الوزارة، الآن هو ملك، لكنه ليس مالكاً قطعاً.
لكن الملك قديماً كان يملك الأرض وكل شيء، حتى جزيئات المملوكات التي يملكها الناس، كأنما هو يملكها لهم، ولذلك لما مزّق كسرى رسالة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، بنفس المفهوم قال (صلى الله عليه وسلم)( مزّق الله ملكه).
والدولة أو المملكة هي ملك للحاكم، فنفهم عندئذ حين نقرأ مالك يوم الدين- نفهم أن الله سبحانه وتعالى هو المالك المتصرف في شؤون ذلك اليوم، يملكه اليوم، ويملك ما فيه.
عندنا الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه ملك (هو الملك القدوس) ولم تُقرأ المالك هنا؛ لأن القراءة في الحقيقة ليست على الرسم، هم كانوا يحفظونها هكذا، فلما جاء الرسم موافقا قراءتهم قرأوها على الحفظ قبل أن يكون على الرسم، ملك لم يقرؤوها مالك؛ لأنه ما من أحد قرأها مالك، وفي مكان آخر قال تعالى (قل اللهم مالك الملك).
فحين نقرأ ملك يكون لنا سند، والسند هو الرواية المتواترة عن الأمة، لا عن فرد، والأمر الآخر موافقة رسم المصحف، وموافقة العربية، وإن كان القرآن كما نقول دائماً حاكم على العربية وليست العربية حاكمة على القرآن.
كلتا القراءتين لها وجهها، والملك أو المالك يمكن أن نجمع بين القراءتين في هذا المجال.
وهذه خلاصة الفكرة: رسم المصحف والقراءة بحسب الأحرف، والعلاقة بين القراءات والأحرف تعني أن القراءات الحالية هي ليست الأحرف، وإنما بقايا الأحرف السبعة، وآثار منها. فالقرآن كُتب على حرف قريش، لكن احتمل فظهرت فيه هذه القراءات، يجب أن نفهم اللفظة كما كانت في ذلك الزمان على ما استعملت.
كان هناك سؤال أرسلته أخت لنا تقول: إن الله تعالى يقول لأيوب (عليه السلام) (اركض برجلك) فتسأل: بم يركض الإنسان ؟ برجله، فلماذا استعمل كلمة اركض برجلك؟
كيف كان الاستعمال القديم لكلمة ركض ويركض ؟ حين ننظر في الاستعمال القديم، وننظر في المعجم نجد أن ركض تأتي بمعنيين: المعنى الأساسي هو تحرك الرجل أو الضرب بالرِجل، يقال ركض الفارس فرسه أي ضربها بقدميه، ثم استعملت بعد ذلك بمعنى آخر وهو العدو (عدا يعدو).
اركض برجلك: هو مريض، والمعنى: ارفس الأرض برجلك ينبثق ماء، هذا مغتسل بارد وشراب، فتغتسل وتشرب، وليس معناها اعدُ، هو مريض يحتاج إلى علاج، فلا يقول له اركض، هو يريد : ارفس برجلك، فافهم العبارة القديمة، كيف كانت تستعمل؟ حين تقرأ (وجاءت سيارة) لا تظن أنها سيارة كما نفهمها اليوم، فلم يكن هناك سيارات. وكلمة قطار، يقال: جاعت القافلة، فذبحوا آخر القطار، كيف؟ القطار هو الصف من الإبل.
فكلمة ملك ينبغي أن نفهمها في إطارها في ذلك الزمان، الملك في ذلك الزمان كان متصرفاً في شؤون رعيته، ولذلك جاء على لسان بلقيس (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) كانوا يتصرفون كطغاة على الجميع، ولم تكن تلك سمة الملوك فحسب، بل كل الرؤوساء حتى شيوخ العشيرة
لك المرباع منها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول
يعني حين تغزو القبيلة وتأخذ الغنائم: فللشيخ أولاً ربع الغنيمة من غير تقسيم، وما يصطفيه لنفسه، وما هو غير قابل للقسمة، وما يختاره له أو لغيره، هكذا كان التصرف.
فهذا المُلك هو التصرف العام الذي ينبغي أن نفهمه من قوله تعالى (مالك يوم الدين) أو (ملك يوم الدين) أي أن الله تعالى هو المتصرف في كل شيء تصرفاً مباشراً، وليس لأحد أن يتصرف في هذا الملك، فضلاً عما يحتاج هذا من تفصيل، ولا نريد أن نطيل في هذه المسألة.
الدين من الألفاظ المشتركة في القرآن الكريم، فهي تأتي بمعنى الطاعة والإسلام والحساب والجزاء فما اللمسة البيانية في اختيار الدين؟
اختيار كلمة (الدين) لم يقل القيامة أو الجزاء، وهذه اللفظة لها معان كثيرة كلها مرادة، لو قال مالك يوم القيامة، يكون التصور هو قيام الناس من قبورهم ولا يكون فيه معنى المحاسبة، معنى الجزاء، معنى إدخال الجنة، معنى إدخال النار، ولا يكون فيه معنى الطاعة والالتزام، ولا يكون فيه معنى الاعتقاد السليم. هذا يومكم، هذا يوم الدين الذي يبرز فيه الدين، ويتعالى فيه الدين، كل هذه المعاني مرادة، ولو ذكر أي لفظ منها تغيب معاني الألفاظ الأخرى.
________________________________________
مالك يوم الدين:
نحن قلنا في الحلقة الماضية أن لفظة مالك يوم الدين هي قراءة لعدد من القراء الذين يمثلون مدناً، وذكرنا ما قاله سيبويه في هذا المجال بأنه كان يشير إلى البلدان، إلى المدن: قرأ أهل الشام وقرأ أهل المدينة، ولم تكتب الألف؛ لأن الكتبة فيما يبدو كانوا ينظرون إلى الألف كما ننظر الآن نحن إلى الفتحة، فكما أننا لا نكتب الفتحة، كانوا لا يكتبون الألف، ولكن يلفظونها، ومن هنا بقيت من آثار الأحرف ملك ومالك.
ودعونا إلى أن يبقى الناس في المكان الذي اشتهر فيه لفظ مالك يقرأون مالك، حتى لو عُلم أن هناك قراءة أخرى، والمكان الذي اشتهر فيه قراءة ملك يُقرأ فيه ملك، ثم تمنينا على أمتنا أن تتوحد على حرف واحد أو على رواية واحدة تأسياً بما فعله عثمان رضي الله عنه، وأقره عليه اثنا عشر ألفاً من الصحابة، وأحرقوا سائر الأحرف، فلا يتشبث الإنسان، ويقول ماذا أصنع؟ كل حرف يغني، أي تستطيع أن تستغني به، هذا الكلام الذي قلناه، فإذا قرأ بأي قراءة مما قرأ به القراء السبعة بالإجماع أو العشرة أو القراء الأربعة عشر، وهناك من قال أكثر، لكن على الأقل القراء السبعة، من يقرأ بقراءتهم لا يعترض عليه إلا من قبيل أن تجعل الناس يتساءلون ما هذا؟ وما الفائدة منه؟ ما الفائدة أن تقرأ (فأدخلهم النير)؟ أنت تعرف أدخلهم النار، فهل تقرؤها حتى يعلموا أن هناك قراءة؟ ماذا يستفيدون؟ وهذا على خلاف ما أراده عثمان رضي الله عنه، واثنا عشر ألفاً من الصحابة، حين أحرقوا الأحرف وليس بقايا الأحرف، وإجماع الصحابة حُجّة.
كلمة الدين: قد يقول قائل لماذا لم يقل مالك يوم القيامة؟ أو يوم الحساب أو يوم الحشر؟ قلنا إن كلمة الدين تضم كل هذه المعاني، فالدين الحساب، والدين الجزاء، والدين المُلك، ومنه سُميت المدينة، أي المملوكة، لأن عموم الأرض عادة غير مملوكة، فحين تملك هذه الأرض، وتبني، ويصير فيها ملك تسمى مدينة أي القطعة المملوكة التي يملكها الناس، ومن الدين الاعتقاد أو العقيدة، فلو وضعت أي كلمة أخرى لا تسد مسد كلمة الدين؛ لأن كلمة الدين شاملة لكل هذه الأمور، فهو يوم الحساب، وهو يوم الجزاء، وهو يوم الدين نفسه يوم العقيدة، يوم بروز وظهور وانتصار الاعتقاد، وهو العادة والشأن (يقولون دينه وديدنه)، وكل هذه المعاني، لذلك نقول ليس هناك شيء يسد مسد لفظة الدين، كل هذه المعاني تجمع في هذا اليوم.
تبقى كلمة يوم: في التطور الدلالي الآن صار عندنا اليوم يمثل 24 ساعة، وهذا ليس من كلام العرب. الأصل في كلام العرب أن اليوم هو النهار، فإذا قالوا ثلاثة أيام، يعني ثلاثة نهارات، ومنه قوله تعالى (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما)، هذا معناه أن الحساب سيكون في ظرف ليس كظرف حياتنا الآن، لأننا إلفنا الآن دوران الأرض، فيكون ليل ونهار، وينظر في ذلك إلى قوله تعالى: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات) فالحساب في يوم، يعني قياسهما، وكم يطول هذا النهار؟ في الآية الكريمة في سورة المعارج يقول تعالى (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)، فذلك اليوم اختلف في طوله المفسرون، وقيل إن طوله على الكافرين يكون شديدا، وقيل بل يكون طويلا طولا عاماً للناس جميعاً؛ لأن الانتظار يطول حتى إن بعض الواقفين في هذا الموقف يقولون: ربنا أنقذنا من هذا ولو إلى النار لشدة الكرب.
وفي هذا الوقت يكون هناك أصناف من الناس في ظل ظليل، كما حدّث الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا يشهدون هذا العنت: ” سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق، فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا، ففاضت عيناه” رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله رب العالمين، يذكرنا هذا بقصة يوسف (عليه السلام) الذي رأى برهان ربه، يعني معرفته بالشريعة. فهؤلاء السبعة يكونون منعمين في ظل ظليل.
فاليوم إذًا نهار ، كيف يكون هذا النهار؟ ما طوله؟ لا يكون هناك ليل يسكنون فيه، ليس هناك سكون، هذا موجز.
خصّ تعالى يوم الدين بالذكر مع كونه مالكاً للأيام كلها، فلماذا لم يقل مالك يوم الدين والدنيا؟ الذي يملك هذا اليوم، يوم الجزاء، يوم المحشر، يملك كل شيء، ويملك كل ما في ذلك اليوم.
وحين يقول ملك اليوم، يعني ملك اليوم وما فيه، الزمن هذا بذاته لا فائدة من مِلكه، أن نملك زمناً، وكيف نملك الزمن؟ لكن هذا أمر الله تعالى يملك الزمان والمكان، وما في الزمان وما في المكان، فملكه سبحانه وتعالى عام، لا حاجة لذكر الدنيا لأنه من باب أولى إذا ملك يوم الدين وملك الحساب فهو يملك كل شيء. هذا فيما يتعلق بمالك يوم الدين، وكما قلت الإمام الرازي قال: في الفاتحة وحدها ما يربو على عشرة آلاف مسألة، ونحن نقتنص منه ومن غيره مما وقفوا عنده.

اترك تعليقاً