آية (85):
*د.حسام النعيمى:
في قوله تعالى: (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴿85﴾ النساء) عندما نرجع إلى معجمات اللغة نجد أن كلمتي نصيب وكفل يكادان يكونان بمعنى واحد بل عندما يفسرون النصيب يقولون الحظ أي الجزء ولما يأتون إلى الكفل يقولون الحظ أو النصيب أي يفسرون الكفل بالنصيب. فعندما نأتي إلى اللسان: “والنصيب الحظ من كل شيء- الحظ يعني الجزء من كل شيء- والكفل النصيب ويرجع ويقول الكفل الحظ”، وهو قال النصيب الحظ. لكن يبقى هناك فارق جزئي بسيط بين الكلمتين فعندما ننظر في كلمة نصيب نجد أن النون والصاد والباء من نصب الشيء يعني جعله شاخصاً نصبه ومنه الأنصاب وما ذبح على النصب هذه الحجارة الكبيرة الظاهرة الشاخصة فعندما يقول نصيب كأنه شيء شاخص ظاهر.
الكفل أصله في اللغة هو الثوب الذي يدار ويجعل على شكل حلقة ويوضع على سنام البعير لأن السنام لا يمكن أن يجلس عليه فيديرون ثوباً يضعونه على السنام حتى يجلس عليه الراكب أو يضعه خلف السنام فيستقر ويجلس عليه هذا أصل كلمة الكفل ولذلك هو يمثل تغطية جزء من ظهر البعير فقالوا هو كالنصيب لأنه يغطي جزءاً منه الصورة عندما يقول هذا جزء وهذا جزء. صورة الجزئية مع النصيب صورة ظاهرة بارزة وصورة الجزئية مع الكفل صورة مختفية مخفية مجلوس عليه لذلك نجد أن كلمة النصيب تستعمل في الخير وفي الشر: له نصيب من الخير وله نصيب من الشر بحسب السياق. كلمة الكفل استعملها في الشفاعة السيئة لأن هذا النصيب هو لا يريد أن يبرزه، أن يظهره، كأنه يخجل منه، يستحي منه فما استعمل النصيب هذا البارز لأن مع السيئة سيئة يريد أن يتستر لكن له منها برغم تستره لأن عامل السيئة لا يعملها جهاراً نهاراً إلا إذا كان سفيهاً والعياذ بالله وكان المجتمع يرخص له بذلك والعياذ بالله. فانظر إلى اختلاف الصورتين في اللغة واستعمل القرآن الكريم هذا الأمر أيضاً فكان ممكن أن يقول في غير القرآن (من يشفع شفاعة حسنة يكن له كفل منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها) يكررها في غير القرآن أو (ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له نصيب منها) لكن كأنما أريد لقارئ القرآن أن يتذوق وأن يتحسس هذا الفارق بين الصورتين المتخيلتين: صورة النصيب البارز الشاخص وصورة الكفل المستور لهذا لما استعمل القرآن الكريم كلمة الكفل في الخير ضاعفها فقال (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ (28) الحديد) اثنان حتى يظهر ولم يقل نصيب لأن النصيب واحد وهو يريد أن يكثره وأن يضاعفه ثم هو تشجيع لهم فالآية نزلت في النصارى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ (28) الحديد) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) أي الذين آمنوا بعيسى عليه السلام (اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ) أي بمحمد صلى الله عليه وسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) فعندما استعمله للخير ضاعفه هذا شيء.
شيء آخر لو نظرنا إلى كلمة نصيب وكفل من حيث أحرف اللغة: الأصوات نون – صاد – باء، النون حرف متوسط بين الشدة والرخاوة يقابله اللام بين الشدة والرخاوة لكن نجد النون في نصيب أعلى بشيء وهو الغُنّة. هذا الحرف الذي هو النون كاللام فهذا فيه حرف متوسط وهذا فيه حرف متوسط لكن النون فيه زيادة على اللام هذه الغُنّة التي يقال عنها أنها صوت محبب يخرج من الخيشوم ففيه ميزة. عندما نأتي للصاد والفاء كلاهما مهموس فالصاد مهموس والفاء مهموس الصاد رخو والفاء رخو فكأنهما بمنزل واحد ثم يرتقي الصاد لأن فيه إطباقاً والفاء مستتر. فإذن صار عندنا النون واللام مجهوران متوسطان لكن النون فيه غنة، الصاد والفاء مهموسان رخوان لكن الصاد يعلو في ما فيه من إطباق، الباء والكاف كلاهما شديد انفجاري لكن يعلو الباء في أنه معه اهتزاز الوترين مجهور فالباء شديد مجهور والكاف شديد مهموس فمجموع أحرف نصيب أبرز من مجموع أحرف كفل فواءمت العربية هنا اللغة. لكن القرآن استفاد من اللغة ووضع هذا هنا وهذا هنا في مكانه نحن- مع نظرنا حقيقة في علو لغة القرآن- نريد أن نؤكد في الوقت نفسه سمو هذه العربية التي اختارها الله عز وجل لغة لكتابه فليأتونا بمثل هذا في لغة أخرى. آلاف الألفاظ من هذه الطريقة لما نوازن بين الأصوات والاختيارات فليأتوا بعشرة ألفاظ لفظ من هنا ولفظ من هنا فيه مثل هذه الميزة. نقول هذا حتى لا ينكفئ على نفسه متكلم العربية حتى يعلم أن لغته لغة سامية ومن أجل ذلك جاء بها كتاب الله عز وجل.
لاحظ نصيب وكفل المعنى يكاد يكون متقارباً وفي العربية ليس هنالك ترادف إلا في بعض حتى بعض الأسماء. المفردات في الاسم ممكن أن يكون هذا الاسم في هذه القبيلة له هيئة مخالفة للهيئة فقضية المدية والسكين ممكن أن تكون المدى المستعملة عند غِفار لها هيئة معينة غير هيئة السكاكين عند غيره فهذه كانت مدية وهذه سكين قد يصح هذا لكن كم عندنا مما اجتمع من اللهجات من هذه المخالفة؟ قليل لكن اللغة العامة ولغة القرآن ليس فيها ترادف ولا كلمة تصح مكان كلمة ومثال هذا النصيب: الحظ من الشيء، والكفل: الحظ من الشيء ولكن لماذا مع الحسنة استعمل نصيب ومع السيئة استعمل كفل إذا كانا بمعنى واحد؟ والمعاجم تفسر بعض الكلمات ببعض على التساهل لأنه يؤدي هذا المعنى هو لا ينظر إلى تلك الدقة فهو عندما يقول له كفل من هذا الشيء أي له حظ منه جزء منه، له نصيب من هذا فله جزء، فالدلالة واحدة فالذي يشفع شفاعة حسنة له شيء من هذه الحسنة والذي يشفع شفاعة سيئة له شيء من هذه السيئة هذا المعنى العام. ولكن عندما تأتي إلى اختيار الألفاظ تجد أنه اختيرت كلمة نصيب هنا لهذا واختيرت كلمة كفل هنا لهذا. سيئة الإنسان يتستر فيها فاختير له اللفظ الذي يدل على الجزء مما هو مستور مخفي منخفض، والحسنة لأن الإنسان يظهرها ثم هي تضاعف وتنمو بخلاف السيئة الثابتة المستقرة فهذه المضاعفة والنمو تجعلها شاخصة الحسنة وفيها تشجيع ظهور فهذا معنى نصيب ومعنى كفل.