قوله تعالى:(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) الفلق) استعاذ برب الفلق من ثلاثة أمور وفي سورة الناس استعاذ بثلاثة صفات من صفات الله من أمر واحد (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)) فما اللمسة البيانية في هذا الاختلاف؟
ج- (د.فاضل السامرائى): سورة الفلق فيما يقع على الإنسان من المكاره وليس من عمل يده لأن كل ما ذكره ليس من عمل الإنسان ولا يحاسَب عليها وقد تدخل في صحيفة حسناته لأنها مما يقع عليه:(مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5))لا يملك منها شيئاً أما في الناس فهي من عمل الإنسان ومحاسب عليها في الدنيا والآخرة فسورة الناس أخطر لأنه يستعيذ من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس من شر المعايب التي يفعلها الإنسان وما في سورة الناس يحاسب عليها في الدنيا والآخرة. فالأولى في شر المصائب والثانية في شر المعايب، الأولى من شر ما يقع عليه من الآخرين والثانية من شر ما يفعله ويقع على الآخرين فإذن الثانية تحتاج إلى استعاذة كبيرة أكبر من الأولى.
س- لماذا بدأ الله تعالى بـ(قُل) في (قل أعوذ برب الفلق)؟
ج- (د.فاضل السامرائى): الله سبحانه تعالى يريد من الإنسان أن يعلن صراحة عن ضعفه بلسانه وعن حاجته لربه أن يُعلِن ويقول ولا يكتفي بحاجته في قلبه. الخطاب موجه للرسول ثم إلى سائر البشر. فإذن ربنا تعالى يريد من الإنسان أن يعلن صراحة عن ضعفه لربه وحاجته إليه حتى يخلّصه مما يخاف ويحذر ولا يكتفي بشعوره بالحاجة. هذا الإعلان عن حاجته لربه ضروري من نواحي: أولها فيه قتل للعجب بالنفس والشعور الكاذب بالاستغناء وهذا من أسباب الطغيان: (كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) العلق) فليعلن حتى يعلن ضعفه أمام ربه ن لا يكون مستغنياً عنه لأن هنالك قسم من الناس يمنعهم الكبر من الاستعانة. والأمر الآخر أنه من أسباب الطاعة يعني هذا الإعلان من أسباب الطاعة لأنك إذا استعنت بشخص تطيعه ولا تعصيه فكيف تستعين به وتعصيه؟ إذن هذا الإعلان (قلأعوذ برب الفلق) أنت تقول هذا الأمر أي أنت تستعين بربك إذن هذا يدعوك إلى طاعته فكيف تستعيذ به وأنت تعصيه؟ لا يمكن. الإستعاذة مما يلين القلوب ويجعلها خاشعة لرب العالمين خاصة إذا صاحَبَ الاستعاذة شعور بشدة الحاجة إلى غياث المستغيثين، هو يعوذ لأن عنده شعور بالحاجة إلى من يعينه، أنت تستعين وتستعيذ بشخص وتطلب العون لأنك تشعر بالحاجة إليه هو أكبر من قوتك فأنت تستعين وتعلن حاجتك وتلتجئ إلى من تلتجيء إليه، أكبر من قوتك وأكبر مما تستطيع. هذا الشيء يلين القلوب خاصة إذا كان الأمر كبير (وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) غافر) ليس من الشيطان وإنما الإستعاذة عامة فهذا الأمر يجعل القلب يلين عندما يصاحبك الشعور بالحاجة إلى ربك وقلبك يلين ويخشع وشبهه أحد الأوائل أنه ينبغي أن يصحب الإنسان عندما يستعيذ بربه مثل شعور صبي ينبحه كلب فميف يتشبث بأبيه، فيكون هذا من أسباب لين القلوب ثم هو مثل التسبيح والذكر ونحن مأمورون بالتسبيح والذكر نذكره بلساننا (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (295) الأعراف) كما نذكر التسبيح بالقول نستعين بربنا بالقول واللسان لا بالشعور وحده. لو قال أعوذ بالله هذا ليس أمراً بالقول هو أمره أن يقوله. (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) النحل) لما قال فاستعذ هو أمرك بالاستعاذة وقُل أيضاً أمر بالاستعاذة.
س- ما مدلول (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أقسم تعالى بالفلق مقابل أربعة أشياء فهل للفلق عظمة كبيرة حتى أقسم الله تعالى به؟
ج- (د.فاضل السامرائى): المشهور في الفلق أنه الصبح وأيضاً في اللغة هو الخَلْق كله (فالق الإصباح). الفلق في اللغة: الصبح والشقّ والخلْق، الخلْق كله فَلَق هذا من حيث اللغة. إذا كان بمعنى الخَلْق فإذن إرتباطها بالمعنى واضح لأنه كله من الخلق:(من شر ما خلق، من شر غاسق إذا وقب، من شر النفاثات في العقد، من شر حاسد إذا حسد). إذا كان بهذا المعنى اللغوي فهذا خلْق ولكن رتبها ترتيباً وانتقل من العام إلى الخاص (من شر ما خلق) هذا عام أي كل ما خلق، ثم يأتي إلى الأخص (غاسق إذا وقب) أي الليل إذا إعتكر ظلامه هذا أخص لأنه من جملة ما خلق، الغاسق هو الليل إذا اعتكر ظلامه ووقب يعني دخل أي إذا دخل الليل المظلم البهيم. إذا كان الفلق بمعنى الخَلْق وهو معنى لغوي موجود فهي مرتبطة بما بعدها بشكل واضح، كله فلْق فقط رتبها ترتيباً بيانياً وانتقل فيها من العام إلى الخاص: (من شر ما خلق) هذا عام، كل ما خلق، (من شر غاسق إذا وقب) أخص، (من شر النفاثات في العقد) هذا أخص وأقل لأن كل يوم يدخل الليل لكن كم عدد النفاثات؟، (من شر حاسد إذا حسد) أخص وأقل، النفاثات جمع وحاسد مفرد إنتقل من العام إلى الخاص ورتبها ترتيباً بيانياً وهذه قمة البلاغة وهي مقصودة أن ترتب ترتيباً بيانياً فنياً بدقة متناهية.
إذا كان الفلق بمعنى الصبح (من شر غاسق إذا وقب) الفلق يعقب الغاسق أو الليل، فإذا كان المقصود بالفلق هو الصبح فارتباطها بما بعدها واضح (من شر غاسق إذا وقب) وهو الليل، والله تعالى يزيل ظلمة الليل ويزيل شروره ويأتي بفلق الصبح والقادر على إزالة ظلمة الليل قادر على إزالة ما بعده من الشرور التي ذكرها (من شر النفاثات في العقد) المسحور في ظلام لا يتبين أمره و (من شر حاسد إذا حسد) والمحسود في ظلام، هذا كله ظلام. الذي أزال ظلمة الليل (غاسق إذا وقب) وجاء بالفلق يزيل كل الشرور ظلمة المسحور والحاسد فاستعذ بالله يزيل عند هذه الشرور، يستعين لها الإنسان بالله تعالى. سواء كان الفلق الخلق أو الصبح فارتباطها واضح والفلق يأتي بمعنى الشقّ كأنه يفلق الصبح من ظلام الليل.

اترك تعليقاً