*ما وجه الإختلاف من الناحية البيانية بين آية 62 في سورة البقرة وآية 69 في سورة المائدة؟
د.فاضل السامرائى :
في المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69)) وفي البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62)). النصب ليس فيه إشكال وإنما الرفع هو الذي كثيراً ما يُسأل عنه. فالنصب منصوب معطوف على منصوب. أما الرفع في آية سورة المائدة من حيث الناحية الإعرابية فليس فيه إشكال عند النحاة ؛ لأنهم يقولون على غير إرادة (إنّ)، أوعلى محل اسم إنّ.
في الأصل اسم إنّ قبل أن تدخل عليه مرفوع، فهذا مرفوع على المحل، أو يجعلوه جملة: والصابئون كذلك.
لكن لماذا فعل ذلك حتى لو خرّجناها نحوياً؟ هي ليست مسألة إعراب فقط، فالاعراب يخرّج لأنه يمكن أن نجعلها جملة معترضة وينتهي الإشكال، لكن لماذا رفع؟
(إنّ) تفيد التوكيد، ومعنى ذلك أن بعض الكلام مؤكد، وبعضه غير مؤكد، (الصابئون) غير مؤكد، والباقي مؤكد، لماذا؟ لأنهم دونهم في المنزلة، فهم أبعد المذكورين ضلالاً، يقول المفسرون أن هؤلاء يعبدون النجوم. صبأ في اللغة أي خرج عن المِلّة، عن الدين، فالصابئون خرجوا عن الديانات المشهورة، وهم قسمان: قسم قالوا إنهم يعبدون النجوم، وقسم متبعون ليحيى (عليه السلام) ، فهؤلاء أبعد المذكورين عن الدين، والباقون أصحاب كتاب، الذين هادوا أصحاب كتاب عندهم التوراة، والنصارى عندهم الإنجيل، والذين آمنوا عندهم القرآن، أما الصابئون فليس عندهم كتاب، وإن كان قسم من الصابئين يزعمون أن عندهم كتابا، لكنهم بالنسبة لنا هم أبعد المذكورين ضلالاً وهم دونهم في الديانة والاعتقاد، ولذلك لم يجعلهم بمنزلة واحدة فرفع فكانوا أقل توكيداً.
*لماذا لم يأت بها مرفوعة ووضعها في نهاية الترتيب؟ هنا ندخل في مسألة التقديم والتأخير، وليس في مسألة المعنى، وهذه ليست الآية الوحيدة التي فيها تغيّر إعرابي، ففي آية التوبة (وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ (3) التوبة)، لم يقل ورسولَه مع أنه يمكن العطف على لفظ الجلالة الله، وإنما عطف على المحل أي: (ورسوله بريء)؛ لأن براءة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليست ندّاً لبراءة الله تعالى، ولكنها تبع لها وليست مثلها، براءة الله تعالى هي الأولى، ولو قال ورسولَه تكون مؤكدة كالأولى، فإشارة إلى أن براءته ليست بمنزلة براءة الله سبحانه وتعالى، وإنما هي دونها – رفع على غير إرادة (إنّ).، وهذا موجود في الشعر العربي:
إن النبوةَ والخلافةَ فيهم والمكرماتُ وسادةٌ أطهارُ
قال المكرماتُ ولم يقل المكرماتِ؛ لأن هؤلاء السادة لا يرتقون لا إلى النبوة ولا إلى الخليفة. فهذه الدلالة موجودة في الشعر ففهمها العرب.
يبقى السؤال حول التقديم والتأخير في الترتيب: آية المائدة قال (والصابئون والنصارى)، وآية البقرة (والنصارى والصابئين). في المائدة قدّم ورفع الصابئين، لأنه ذمّ النصارى في المائدة ذماً فظيعاً على معتقداتهم، تكلم عن عقيدة التثليث، وجعلهم كأنهم لم يؤمنوا بالله، وكأنهم صنف من المشركين (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (72)) (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74)).
فلما كان الكلام عن ذم عقيدة النصارى أخّر النصارى حتى تكون منزلتهم أقل، وقدّم الصابئين مع أنهم لا يستحقون.
*ما اللمسة البيانية في الترتيب؟
قدم الصابئين؛ لأنه قيل إن الصابئين هم التابعون للنبي يحيى (عليه السلام) ، فهو معاصر للمسيح، والمسيح ليس بينه وبين الرسول (صلى الله عليه وسلم) نبي، فهم زمنياً بعد الذين هادوا، وقبل المسيح مع أنهم في عصر واحد؛ لأن يحيى أسبق من المسيح. والنصارى معطوفة على المنصوب لأنه هو الأصل (ولا تظهر عليها علامة الإعراب لأنها اسم مقصور) وهذا هو الأرجح، وليس هناك إشكال في أن تكون الصابئون مرفوعة، فليس بالضرورة أن يكون العطف على الأقرب. وأخّر النصارى في المائدة؛ لأنه ذمّ عقيدتهم، وقدمهم في البقرة لأنه لم يذم عقيدتهم، ووضع الصابئين فيها في آخر المِلل.
قال تعالى في سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {62}) وقال في سورة المائدة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {69}) الآيتان فيهما تشابه واختلاف وزيادة في إحداها عن الأخرى.
أولاً: في سورة البقرة قدّم النصارى على الصابئين (النصب جاء مع العطف لتوكيد العطف)، وفي آية سورة المائدة قدّم الصابئون على النصارى ورفعها بدل النصب. فمن حيث التقديم والتأخير ننظر في سياق السورتين الذي يعين على فهم التشابه والإختلاف، ففي آية سوة المائدة جاءت الآيات بعدها تتناول عقائد النصارى والتثليث وعقيدتهم في المسيح، وكأن النصارى لم يؤمنوا بالتوحيد، تقول الآيات في السورة (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ {72} لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73}) ثم جاء التهديد (وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {73}) (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {75}) واقتضى هذا تقديم الصابئين وتأخيرالنصارى في آية سورة المائدة.
أما من حيث رفع الصابئون في آية سورة المائدة ونصبها في آية سورة البقرة، فالنحاة يجيزون في الإعراب العطف على محل اسم إن (محل اسم إن في الأصل الرفع) أو أن يجعل منه جملة اسمية، أو جملة إعتراضية. ونسأل لماذا رفع الصابئون؟ بغض النظر عن الناحية الإعرابية، (إنّ) تفيد التوكيد فإذا عطفنا عليها بالرفع، يعني أننا عطفنا على غير إرادة إنّ، فالرفع جاء في آية سورة المائدة على غير إرادة إنّ، لأن المعطوف غير مؤكد (الصابئون جاءت مبتدأ وليست عطفا على ما سبق، وهي على غير إرادة إنّ) لكن لماذا؟ معنى ذلك أن الصابئون أقل توكيداً، لأن الصابئين أبعد المذكورين عن الحق، فهم ليسوا من أهل الكتاب، ولذلك لم يلحقوا بهم في العطف. أما في سورة البقرة فقد قدّم النصارى وأكدهم، وأخّر الصابئين، لكنه جعلهم ملحقين بالنصارى.
ثانياً: هناك فرق بين الآيتين (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) في آية سورة البقرة، أما في سورة المائدة (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) مع أن المذكورين في الآيتين هم أنفسهم (الذين آمنوا، الذين هادوا، النصارى، الصابئين) فلماذا جاء في سورة البقرة (فلهم أجرهم عند ربهم، ولم تأت في سورة المائدة؟
في سورة المائدة السياق كما قلنا في ذمّ عقائد اليهود والنصارى ذمّاً كثيراً مسهبا، أما في البقرة فالكلام عن اليهود فقط لا النصارى. وفي سورة المائدة جاء الكلام عن اليهود أشدّ مما جاء في البقرة حتى إنه يذكر العقوبات في المائدة(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ {60}) أكثر من البقرة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ {65}).
وسياق الغضب في المائدة على معتقدات النصارى واليهود أشدّ، وذكر معاصيهم أكثر، ولم تُجمع القردة والخنازير إلا في سورة المائدة، فاقتضى السياق أن يكون ذكر الخير والرحمة في المكان الذي يكون الغضب فيه أقل (في سورة البقرة)؛ ولذلك كان جو الرحمة ومفردات الرحمة في سورة البقرة أكثر مما جاء في سورة المائدة.
فقد وردت الرحمة ومشتقاتها في سورة البقرة 19 مرة، بينما وردت في المائدة 5 مرات؛ لذا اقتضى التفضيل بزيادة الرحمة في البقرة، والأجر يكون على قدر العمل.
أنواع العمل الصالح في السورتين: في سورة المائدة ورد ذكر عشرة أنواع من العمل الصالح (الوفاء بالعقود، الوضوء، الزكاة، الأمر بإطاعة الله ورسوله، والإحسان، التعاون على البر والتقوى، إقام الصلاة، الجهاد في سبيل الله، والأمر باستباق الخيرات).
وفي سورة البقرة ورد ذكر أكثر من ثلاثين نوعا من أعمال الخير، وتشمل كل ما جاء في سورة المائدة ما عدا الوضوء، وفيها بالإضافة إلى ذلك الحج، والعمرة، والصيام، والإنفاق، والعكوف في المساجد، وبر الوالدين، والهجرة في سبيل الله، وإيفاء الديْن، والقتال في سبيل الله، والإصلاح بين الناس، وغيرها كثير، لذا اقتضى كل هذا العمل الصالح في البقرة أن يكون الأجر أكبر (فلهم أجرهم عند ربهم).
من ناحية أخرى، (فلهم أجرهم عند ربهم) تتردد مفرداتها في كل سورة كما يلي:
1. الفاء وردت في البقرة 260 مرة، ووردت في المائدة 180 مرة
2. لهم وردت في البقرة 29 مرة، وفي المائدة 15 مرة
3. أجرهم وردت في البقرة 5 مرات، وفي المائدة مرة واحدة فقط
4. عند وردت في البقرة 19 مرة، وفي المائدة مرة واحدة
5. ربهم وردت في البقرة 10 مرات، ومرتين في المائدة.
وهذه العبارة (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) لم ترد إلا في سورة البقرة بهذا الشكل، وقد وردت في البقرة 5 مرات.
وتردد الكلمت في القرآن يأتي حسب سياق الآيات، وفي الآيات المتشابهة يجب أن نرى الكلمات المختلفة فيها وعلى سبيل المثال:
(فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (الأنعام) الإيمان ومشتقاته ورد 24 مرة، والتقوى وردت 7 مرات. بينما في سورة الأعراف (فمن اتقى أصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ورد الإيمان ومشتقاته21 مرة والتقوى 11 مرة.
(فأصابهم سيئات ما عملوا) في سورة النحل تكرر العمل 10 مرات، والكسب لم يرد أبداً. أما في سورة الزمر (فأصابهم سيئات ما كسبوا) تكرر الكسب 5 مرات والعمل 6 مرات.
(فلما أتاها نودي يا موسى) (طه) تكرر لفظ الإتيان أكثر من 15 مرة، والمجيء 4 مرات، بينما في سورة النمل (فلما جاءها نودي يا موسى) تكررت ألفاظ المجيء 8 مرات، وألفاظ الإتيان 13 مرة.
(إن الله غفور رحيم) (البقرة) تكرر لفظ الجلالة الله 282 مرة، والرب 47 مرة، ولم ترد إن الله غفور رحيم أبداً في سورة الأنعام، بينما في سورة الأنعام (إن ربك غفور رحيم) تكررت كلمة الرب 53 مرة، ولفظ الجلالة الله 87 مرة، ولم تردفي سورة البقرة أبداً إن ربك غفور رحيم
(فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الفاء في موضعها، وهي ليست حرف عطف، ولكنها واقعة في جواب الشرط، ولا يُجاب عليه بغير الفاء، ولا حرف غيرها ينوب مكانها.
(لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) تعبير في غاية العجب والدقة من الناحية التعبيرية، ولا تعبير آخر يؤدي مؤدّاه. نفى الخوف بالصورة الاسمية، ونفى الحزن بالصورة الفعلية، كما خصص الحزن بـ(ولا هم)، ولم يقل لا عليهم خوف:
1. قال لا خوف عليهم ولم يقل لا يخافون، كما قال لا يحزنون؛ لأنهم يخافون، ولا يصح أن يقال لا يخافون؛ لأنهم يخافون قبل ذلك اليوم (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار) (إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا)، وهذا مدح لهم قبل يوم القيامة، أما يوم القيامة فيخافون إلا مَن أمّنه الله تعالى. كل الخلق خائفون (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت)؛ لذا لا يصح أن يقال لا يخافون فالخوف شيء طبيعي موجود في الإنسان.
2. لا خوف عليهم معناها لا يُخشى عليهم خطر. ليس عليهم خطر، فقد يكونون خائفين أو غير خائفين كما يخاف الأهل على الطفل، مع أنه هو لا يشعر بالخوف، ولا يُقدّر الخوف، فالطفل لا يخاف من الحيّة، ولكنا نخاف عليه منها؛ لأنه لا يُقدّر الخوف. فالخوف موجود، ولكن الأمان من الله تعالى أمّنهم بأنه لا خوف عليهم، فليس المهم أن يكون الإنسان خائفاً أو غير خائف، إنما المهم هل يكون عليه خطر أو لا (لا خوف عليهم) وقد يخاف الإنسان من شيء لا يخيف، كالطفل يخاف من لعبة لا تشكل عليه خطراً.
3. ولا هم يحزنون: جعل الحزن بالفعل، فأسنده إليهم لماذا لم يقل (ولا حزن)؟ لأنه لا يصح المعنى فلو قالها لصار المعنى أنه لا يحزن عليهم أحد، بينما المراد أن الإنسان منهم لا يكون حزيناً.
4. ولا هم يحزنون: بتقديم (هم) تعني أن الذين يحزنون غيرهم وليسوا هم. أراد نفي الفعل عن النفس، وإثبات الفعل لشخص آخر، كأن أقول (ما أنا ضربته) نفيته عن نفسي، وأثبتّ وجود شخص آخر ضربه، (ويُسمّى هذا التقديم للقصر)، أما عندما أقول (ما ضربته) يعني لا أنا ولا غيري. ففي الآية نفى الحزن عنهم، وأثبت أن غيرهم يحزن (أهل الضلال في حزن دائم). ولم يقل لا خوف عليهم ولاحزن لهم؛ لأنها لا تفيد التخصيص، (ولأنه يكون قد نفى عنهم الحزن ولم يثبته لغيرهم)، ولو قال ولا لهم حزن لانتفى التخصيص على الجنس أصلاً، ولم ينف التجدد، وقوله تعالى (لا خوف ٌ عليهم ولا هم يحزنون) لا يمكن أن يؤدي إلى حزن، بل نفى الخوف المتجدد والثابت،(لا خوف)، ونفى الحزن المتجدد: (لا هم يحزنون) ولا يمكن لعبارة أخرى أن تؤدي هذا المعنى المطلوب.
5. لماذا إذن لم يقل (لا عليهم خوف) ولماذا لم يقدم هنا؟ لأنه لا يصح المعنى، ولو قالها لكان معناها أنه نفى الخوف عنهم، وأثبت أن الخوف على غيرهم، يعني يخاف على الكفار، لكن من الذي يخاف على الكفار؟ لذا لا يصح أن يقال لا عليهم خوف، كما قال ولا هم يحزنون.
6. لماذا قال لا خوفٌ ولم يقل لا خوفَ عليهم (مبنية على الفتح)؟ لا خوفَ: لا النافية للجنس تفيد التنصيص في نفي الجنس (لا رجلَ هنا معناها نفينا الجنس كله) أما (لا خوفٌ) عندما تأتي بالرفع فيحتمل نفي الجنس ونفي الواحد. والسياق عيّن أنه لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون من باب المدح على سبيل الاستغراق وفي مقام المدح. وفي قراءة أخرى خوفَ (قراءة يعقوب). فالرفع أفاد معنيين لا يمكن أن يفيدها البناء على الفتح، لا خوفٌ عليهم تفيد دلالتين، أولاً إما أن يكون حرف الجر متعلق بالخوف خوفٌ عليهم والخبر محذوف بمعنى لا خوف عليهم من أي خطر، من باب الحذف الشائع، ويحتمل أن يكون الجار والمجرور هو الخبر (عليهم) ، مثاله قولنا: الجلوس في الصف: قد تحتاج إلى خبر، فنقول الجلوس في الصف نافع وجيّد، وقد تحتمل معنى أن الجلوس (مبتدأ)، و(في الصف) خبر، بمعنى الجلوس كائن في الصفّ. ففي الرفع تدل (لا خوفٌ عليهم) على معنيين: لا خوف عليهم من أي شيء، وتحتمل لا خوف عليهم، أن يكون الجار والمجرور متعلقا بالخوف، أومتعلقا بالخبر المحذوف (من أي خطر).
أما في النصب (لا خوفَ عليهم) فلا يمكن أن يكون هذا الأمر، ولا بد أن يكون الجار والمجرور هو الخبر (لا خوف عليهم) ولا يحتمل أن يكون متعلقاً، وهذا يؤدي إلى معنى واحد وليس معنيين، فلماذا لا يصح؟ لأنه إذا تعلق بكلمة خوف يجب أن نقول لا خوفاً عليهم (لآنه يصبح شبيها بالمضاف) ولا يعد مبنياً على الفتح، وإنما منصوب.
* ما الفرق بين(عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) و (وَعَمِلَ صَالِحًا)؟( د.فاضل السامرائى)
في عموم القرآن إذا كان السياق في العمل يقول (عملاً صالحاً)، كما في آخر سورة الكهف (مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا (110))؛ لأنه تكلم عن الأشخاص الذين يعملون أعمالاً سيئة، ويكون السياق في الأعمال (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104))، والسورة أصلاً بدأت بالعمل (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)).
فمع العمل يقول عملاً. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) البقرة) ليست في سياق الأعمال فقال: (عملا صالحاً).