آية (14)-(15):
س- قال تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)) ما معنى القاسطون؟
ج- القاسط هو الجائر الظالم والقَسط بفتح القاف هو الجور والظلم بعكس القِسط بكسر القاف هو العدل. هناك قاسطون ومقسطون قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) المائدة) أي العادلون والقاسطون أي الجائرون. الهمزة هي همزة السلب، قَسَط بمعنى جار وظلم وأقسط أزال القسط وأزال الظلم مثل جار وأجار، جار ظلم وأجار رفع الظلم عنه، صرخ وأصرخ صرخ يعني صنع فعل الصراخ وأصرخ أزال الصراخ (مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ (22) إبراهيم) لا تستطيعون أن تعينوني وتزيلون صراخي ولا أنا أزيل صراخكم. إذن القاسطون الجائرون.
س- ما دلالة اختيار القاسطون بمقابل المسلمون بدل الكافرون مثلاً؟
ج- هذا لأكثر من سبب أولاً فيها بيان عظم جرم القاسط تحذير وتهديد للقاسط فجعلها بمقابل المسلم كأن القاسط ليس مسلماً يعني فيها تحذير كبير. إضافة إلى أنه كما ذكرنا في أكثر من مناسبة أنه في هذه السورة لا يقابل الشيء بمقابله وإنما بما يتضمنه، هنا جاء بالمقسطين بمقابل المسلمون ولم يقل الكافرون لأن الكافر يتضمن القاسط الذي هو الجائر والقاسط يتضمن الكافر لأن القاسط هو قسم كافر وقسم غير كافر فإذن القاسط هو يتضمن ما يقابل المسلم (يتضمن الكافر وزيادة) لأن هنالك قاسطين ليسوا كافرين. مثل قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) الجن) الرشد ليس مقابل الضر لم يقل النفع مقابل الضر لأن الرشد أعم من النفع وذكرنا أمثلة كثيرة في السورة وهكذا في سورة الجن أنه لا يقابل الشيء بنقيضه وإنما بما يتضمنه.
س- إذا كان القاسط مسلم ربما تنتفي عنه صفة الإسلام؟
ج- بحسب درجة القسط لكن القاسطون كانوا لجهنم حطباً في كل الأحوال بحسب عظم هذه الصفة فيهم بحسب درجة الصفة فيهم لكن القاسط لا ينجو من العقاب.
وأيضاً إضافة إلى أن السورة وما ذُكِر فيها من معاصي وأوصاف هي أكثر ما تردد فيها من باب المظالم، قال مثلاً: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)) هذا ظلم لأن المنتظر أن يكون جزاء الاستعاذة العون لا الزيادة في الرهق، أنت تستعين بواحد فالمفروض أن يعينك لكن هؤلاء زادوهم رهقاً إذن هذا ظلم، قال تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)) هذا ظلم للرسول اجتمعوا عليه بسبب عبادته لله حتى هو ما قال يدعوهم أصلاً وإنما قال في السورة (يدعوه) ولم يقل يدعوهم، هو (صلى الله عليه وسلم) لم يتعرض لهم ولم يدعوهم إنما عبد الله يدعو الله فلماذا اجتمعوا عليه؟ لو قال يدعوهم لأمكن أن يتعرضوا له إذن هذا ظلم. قال تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)) هذا اعتداء في القول أنت لو قلت على أحد شططاً يكون هذا ظلم فما بالك بمن يقول على الله شططاً؟ هذا مبالغة في الظلم. قال تعالى: (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)) لو كذبت على أحد هذا ظلم فماذا لو كذبت على الله؟! هذا ظلم أشد. حتى هذه الآية مناسبة لما قبلها قال: (فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)) فالبخس ظلم والرهق ظلم. إذن كلمة القاسطون هي أنسب كلمة مع الآية ومع ما قبلها ما تردد فيها من المعاصي يعني اختيار القاسطون أولاً بيّن عظم جرم القاسطون ثم السورة مبنية على أجزاء المقابلة ثم الأوصاف التي ذكرت في السورة السمة العامة في معاصيها تتناسب مع القاسطون، الآية التي قبلها قال تعالى: (فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)) إذن الآية تتناسب مع الآية التي قبلها ومع النسق العام للسورة يعني عموم السورة في اختيار الشيء وعدم اختيار ما يقابله تحديداً وإنما ما يتضمنه. فإذن اختيار القاسطون هو المناسب من كل جهة وهو تحذير عظيم للقاسطين بأنهم سيكونوا حطب لجهنم، هذا مصيرهم. هو بنى العذاب والجزاء على صفة القسط لا على صفة الكفر، هو بنى الجزاء والعذاب على صفة القسط والجور وليس على صفة الكفر وهذا تحذير عظيم للظالِم.
س- نقول ما تفضلت به الآن من حسن اختيار كلمة (القاسطون) واللمسة البيانية التي فيها لو جاءت كلمة (الكافرون) ربما كنتم تلتمسون سبباً لمجيئها وتبرروها؟
ج- نحن تعلمنا أن ننظر في السياق والسمت العام للسورة أو السمت العام للسياق. لو كانت جملة هكذا تصح أن نقابل المسلم بالكافر, أما وضعها في سياقها يختلف. لما نذكر أن السورة مبنية على صفات المظالم لم يذكر إلا صفات المظالم فمن الأنسب اختيار صفة (القاسطون) أو صفة الظلم.
س- إذن النظر إلى المُفردة أو اللفظة داخل آي القرآن الكريم مع التي قبلها والتي بعدها والآية مع الآيات التي قبلها والتي بعدها ومع النسق العام للسورة والمنظومة داخل القرآن كله؟
ج- هذا التفت إليه القدامى وذكروا في السياق وقالوا: هو من أهم القرائن, وبحثوا فيها وأطالوا فيه وكلمة السياق ليست حديثة مبتدعة وإنما هي قديمة ذكروها في علوم القرآن. أعرابي ينتبه إلى السياق عندما قرأ القارئ قول الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ (38) المائدة) ختمها بقوله والله غفور رحيم فاعترض على السياق وقال: لا تستقيم وسياق الآية, وقال: أراها (وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عز فحكم فقطع ولو غفر ورحم ما قطع، هو اعترض على السياق. نحن لاحظنا في القدامى لما كان يتنافر الشعراء في الجاهلية يقول أحدهم: أنت تقول الشعر وابن عمه, وأنا أقول الشعر وأخاه، البيت وأخاه بمعنى يعني أنت تقول البيت وابن عمه يعني بعيداً عنه في المعنى وليس مناسباً له وأنا أقول البيت وأخاه أي أقرب إليه في المعنى، هذا السياق.
س- إذن يكون ربما من الإعجاز في القرآن فكرة النظم المفردات مع بعضها البعض والآيات مع بعضها البعض؟
ج- طبعاً ولذلك القرآن لم يجعل الإعجاز في آية وإنما جعله في سورة، القرآن لما تحداهم لم يتحداهم بآية لأن الآية قد تكون بكلمة أو كلمتين مثل (مدهامتان) (يس) وإنما تحداهم بسورة، فقالوا بما يقابل السورة لو كان عندنا أي تعبير بمقدار أقصر سورة سيكون معجزاً لأنه أصبح فيه سياق وارتباط حتى (إنا أعطيناك الكوثر) فيها سياق (إنا وأعطيناك وليس آتيناك ولربك وليس لنا).
س- ما هي اللمسات البيانية في قوله تعالى (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا)؟
ج- أولاً اختار صفة تحري الرشد بمعنى بحثوا وطلبوا وابتغوا واختيار الرشد مناسب لما تردد في السورة من ذكر الرشد وهي أكثر سورة تردد فيها الرشد كما في قوله تعالى: (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ (2)) (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)). إذن اختيار تحري الرشد هذا مناسب لما ورد في السورة لكن هنالك أمر هو ذكر عذاب القاسطين لكن لم يذكر جزاء المسلمين قال سبحانه: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)) وقال عن المسلمين: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)) ولم يذكر الجزاء، تحري الرشد هذا طلب الرشد لكن ماذا سيجزيه ربه؟ في القاسطون ذكر العذاب الصريح أما مع المسلمين لم يذكر الجزاء، أولاً لأنه مناسب لما تردد في السورة من ذكر العذاب، ذكر العذاب أكثر من مرة ولم يذكر جزاء المسلمين في كل السورة لكن ذكر العذاب في أكثر من مناسبة. قال سبحانه: (فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)) (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)) (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)) كلها عذاب ولم يذكر في كل السورة جزاء، جو السورة كلها ليس فيها ذكر جزاء وإنما ذكر عذاب العصاة. إذن عدم ذكر جزاء المسلمين هنا مناسب لجو السورة في عدم ذكر الجزاء في السورة كلها وذكر جزاء القاسطين مناسب لجو السورة في ذكر العذاب في أكثر من موضع. فإذن هذه مناسبة وتناظر لطيف في التعبير.
س- لماذا تتفرد سورة الجن بهذه السمات؟
ج- لا أعلم لماذا تتفرد ولكن هذه المسألة تحتاج إلى نظر لكننا الآن نصف ما هو موجود.
س- ما بُحِثَ هذا السؤال قديماً لِمَ هذه السمات التعبيرية لكل سورة في القرآن الكريم؟ سورة الجن لها مقابلات من نوع خاص وتراكيب خاصة ومصطلحات خاصة؟ لماذا هذا الجو العام في سورة الجن تحديداً؟
ج- هذه تحتاج لدراسة، والقدامى بحثوا تناسب الآيات كلها جميع الآيات في كل القرآن. من المؤلفات الموجودة في تناسب الآيات والسور كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور وكذلك مشهورة في كثير من كتب التفسير مثل البحر المحيط فيه ذكر لهذه المسألة وروح المعاني كذلك.
س- ما الفرق بين الرُشد (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (256) البقرة) والرَشََد (فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) الجن) والرشاد (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر)؟
ج- الرُشد يقال في الأمور الدنيوية والأُخروية أما الرَشَد ففي الأمور الآخروية فقط، هكذا قرر علماء اللغة. قال تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا (6) النساء) في الدنيا، (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ (256) البقرة)، (وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) الكهف) الرُشد في الأمور الدنيوية والأخروية أما الرَشد ففي الأمور الأخروية لا غير فالرُشد أعمّ ويشمل. الرشاد هو سبيل القصد والصلاح (وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر) أي سبيل الصلاح عموماً، طريق الصواب. الرشاد مصدر. المادة اللغوية واحدة لهذه الكلمات وهي كلها الرُشد والرَشد والرشاد كلها مصادر. رشِد ورَشَد.

اترك تعليقاً