آية (14):
(وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14))
*هذا كلام الله تعالى مع أن لقمان لم ينتهي بعد من الوصية فلماذا هذه المداخلة؟
أراد الله سبحانه تعالى أن يتولى الأمر بالمصاحبة بالمعروف لعظيم منزلة الأبوين عند الله. ربنا هو الذي أراد أن يأمر ويوصي بالإحسان إلى الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف وليس لقمان وهذه فيها أكثر من حالة: أولاً لو قال لقمان لو أوصى ابنه أنه أطع أبويك لتصور الابن أن الأب أراد أن يستغله ويستفيد منه ويجعله تابعاً له كما الآن عندما يقدم أحد لك نصيحة تنظر هل يستفيد هو منها أو لا؟ الذي وصى هو الله وهذا الأمر لا ينفعه ولا يفيده فإذن ربنا أراد أنه هو الذي يأمر بالإحسان إلى الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لا لقمان لعظيم منزلة الأبوين عند الله فهو الذي تولى هذا الأمر، هذا أمر والأمر الآخر حتى لا يظن ابن لقمان أن أباه هو المنتفع.
قد يسأل سائل لم يجعل لقمان ينتهي من الوصية ثم يأتي بهذه الآية؟ وضع الوصية بعد النهي عن الشرك بالله ربنا سبحانه وتعالى يضع الوصية بالوالدين بعد النهي عن الشرك أو بعد الأمر بعبادته وطاعته ولا يجعلها في آخر الوصايا. هو لا يريد أن يقول (إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)) ثم يقول (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) لكنه وضعها بعد النهي عن الشرك بالله (أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (151) الأنعام) و(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (23) الإسراء) (لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) البقرة) (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (36) النساء) يضعها بعد عبادة الله تعالى وكأنها منزلة تالية بعد العبادة مباشرة الإحسان إلى الوالدين. هذه فيها إشارة إلى عظيم منزلة الأبوين عند الله كون ربنا هو الذي وصى ولم يجعل لقمان يوصي وتدخّل في مكانها بعد النهي عن الشرك تدخل ربنا وأمر وكانت وصية ربنا تعالى بالإحسان إلى الوالدين ثم لم يدع لقمان ينتهي من الكلام فتكن في آخر الكلام وإنما وضعها بعد النهي عن الشرك أو تأتي بعد الأمر بعبادته سبحانه وتعالى.
*ينزل الله تبارك وتعالى منزلة كريمة بعد عبادة الله أو النهي عن الشرك بالله لكن لِمَ الوالدين تحديداً وليس الأبوين مثلا؟
الآية فيها جوانب كثيرة: أولاً استعمل وصّى المشددة ولم يقل أوصينا وذلك للتشديد على الوصية والمبالغة فيها وصّى فيها تشديد على الوصية والمبالغة فيها. ومن الملاحظ في القرآن أنه يستعمل وصّى في أمور الدين والأمور المعنوية وأوصى في الأمور المادية. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ (131) النساء) ويستعمل أوصى في المواريث (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا (11) النساء) . لم ترد أوصى في الأمور المعنوية وفي أمور الدين إلا في موطن واحد اقترنت بأمر مادي عبادي وهو قوله تعالى على لسان المسيح (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) مريم) قال أوصاني لأنها اقترنت بأمر مادي وعبادي وهو الزكاة والأمر الآخر أن القائل هو غير مكلّف لذلك خفّف من الوصية لأنه الآن ليس مكلفاً لا بالصلاة ولا بالزكاة فخفف لأنه لا تكاليف عليه.
وقال (وصينا) بإسناد التوصية إلى نفسه سبحانه بضمير التعظيم وربنا في أمور الخير وفي الأمور المهمة يسند الأفعال إلى نفسه لم يقل وصيّ الإنسان وإنما قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) بإسناد الفعل إليه سبحانه بضمير التعظيم. واستمر ورجع إلى الإفراد (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) وقلنا أنه من عادة القرآن إذا ذكر ضمير التعظيم يذكر قبله أو بعده ما يدل على الإفراد (أَنِ اشْكُرْ لِي) لم يقل أن اشكر لنا.
الوالدين: هو لم يقل أبوين لأكثر من سبب: أولاً لو لاحظنا الوالدين والأبوين: الوالدين تثنية الوالد والوالدة لكن غلّب المذكر، الأبوين تثنية الأب والأم لكن غلّب الأب إذن في الحالتين غلّب المذكر الأبوين تغليب الأب وفي الوالدين تغليب الوالد. لكن لماذا اختار الوالدين؟ الولادة تقوم بها المرأة وليس الرجل أما تسمية الوالد يقول أهل اللغة على النسب والوالدة على الفعل هي التي تلد. إذن اختار لفظ الوالدين التي هي من الولادة التي تقوم بها الأم لكنه لم يختر الأبوين واختار لفظ الولادة ولم يختر لفظ الأبوة. الوالدين (الوالد والوالدة) مأخوذة من الولادة أما الأبوين فليست من الولادة من حيث اللفظ والقرآن يستعمل أبوين للجدّين (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَقَ (6) يوسف) ويستعمل أبوين لآدم وحواء (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ (27) الأعراف)
إذن هو اختار لفظ الولادة لماذا؟ جملة دواعي لسبب الاختيار: الأول لو نقرأ السياق (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ (14)) ذكر الحمل والفصال والفصال هو الفطام من الرضاعة، ماذا بين الحمل والإرضاع؟ الولادة. فهو ذكر الحمل والفصال أي الفطام من الرضاعة بينهما الولادة فاختار لفظ الوالدين. ثم فيه تذكير بولادته وهو جاء إلى الدنيا ضعيفاً عاجزاً حال ولادتك وهما أحسنا إليك وربياك يذكره بالحالة الأولى التي يكون فيها أعجز ما يكون. وفيها تعبير إحسان الصحبة إلى الأم أكثر من الأب. الولادة هي للأم وليس للأب فلما قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) فيها إشارة إلى أن إحسان الصحبة والوصية للأم أكثر من الأب وحتى شرعاً وفي الحديث (من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فقال (صلى الله عليه وسلم) أمك ثم أمك ثم أمك) الولادة تقوم بها الأم فيها إشارة إلى أن حسن الصحبة ينبغي أن تكون للأم أكثر من الأب فقال (الوالدين). وهناك خط لا يتخلف في جميع القرآن عندما يذكر الإحسان إلى الأبوين والبر بهما والدعاء لهما يذكر لفظ الوالدين ولا يذكر الأبوين لم يقل رب اغفر لي ولأبوي وإنما الوالدين (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ (28) نوح) (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) ليس الأبوين (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (151) الأنعام) لم يرد مرة واحدة في القرآن في إحسان الصحبة أو البر أو الدعاء بلفظ الأبوين وإنما كله بلفظ الوالدين. ويستخدم الأبوين في المواريث ولعل ذلك لأن نصيب الأب أكبر من نصيب الأم فيغلّبه لكن الوالدين يغلّب الأم لأن الأم أولى بالدعاء وحسن الصحبة. في المواريث يذكر أبويه لأن نصيب الذكر أكثر من نصيب الأنثى. أما في يوسف قال (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا (100) يوسف) قيل هذا من باب الإكرام لهم قد يظن ظان أن هذا من باب الإكرام. لماذا لم يقل (رفع والديه)؟ هو رفع أبويه على العرش لأكثر من سبب: على الأرجح أنهما كانا أمه وأباه وهذه مسألة خلافية. أولاً لم يرد في قصة يوسف ذكر للأم وإنما ذكر الأب وهو الذي حزن وفقد بصره، لم يرد ذكر للأم في قصة يوسف حتى قال (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) يوسف) فإذن كونه لم يرد ذكر للأم معناه الأب يتغلب. هذا أمر والأمر الآخر أنه لما قال (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) هذا إكرام للأم وليس للأب هو إلماح إلى تكريم الأم فقال (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) أي عظموه والمفروض أن الابن يعظم الأبوين فلما كان فيها تعظيم الأبوين لابنهما اختار أقلّهما وهو الأبوين أقلّهما بحسن الصحبة وهذا أدل على إكرام الأم لما قال (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) هذا تعظيم والمفروض أن الابن يعظّم أبويه فلما ذكر (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا ً) لم يذكر والديه إشارة إلى تعظيم الأم ومنزلتها ثم إلماح أن العرش للأب وليس للأم.
*قال تعالى (أن اشكر لي) ولم يقل اشكر لنا مع أنه قال (ووصينا)؟
ذكرنا في الحلقة السابقة شيئاً عن هذه الآية قلنا قال (وصّينا) ولم يقل أوصينا وقلنا أسند الإيصاء إلى نفسه سبحانه للأمور المهمة قال وصّينا بضمير التعظيم وقلنا قال بوالديه ولم يقل بأبويه وذكرنا أن هذا خط عام في القرآن أن الوصية والبر والدعاء يذكر لفظ الوالدين. نلاحظ في هذه التوصية أنه ذكر الأم ولم يذكر الأب لأن الحمل والفصال هو للأم وليس للأب وهذه إشارة أنها أولى بحسن الصحبة مع أنه قال والديه وقلنا أن كلمة والديه تدل على أن الأم أولى بحسن الصحبة من الولادة وهنا قال (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) ثم هو لم يقل وهناً فقط وإنما قال وهناً على وهن أي ذكر الضعف المستمر. الوهن هو الضعف يعني هو يثقل عليها دائماً وباستمرار ثم ذكر مدة الفصال ولم يذكر مدة الحمل أولاً لأن الفصال بيد المرأة تستطيع أن تفطم الرضيع متى ما تريد. حدد مدة للفصال عامين لو لم تلتزم المرأة تزيد أو تقل، بينما الحمل لم يذكر له مدة أولاً لأن الحمل ليس بيد المرأة كالفطام ثم الحمل قد يزيد وقد ينقص قد يكون مدة الحمل ستة أشهر أو سبعة أشهر أو ثمانية أشهر (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا (15) الأحقاف) وابن عباس استند من هذه الآية أن الحمل قد يكون ستة أشهر لأنه قال في آية أخرى (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) إذن بقي مدة الحمل ستة أشهر معناه يصح الحمل في ستة أشهر، قد تضع المرأة حملها في ستة أشهر. لم يذكر الحمل هنا لأنه ليس بيد المرأة الفصال بيد المرأة. هنا الوهن وصف الحمل لأن كل يوم يمر عليها يكون ثقيلاً عليها يوهنها ويضعفها وهو ليس على وتيرة واحدة كلما كبر الجنين يثقل عليها إذن هو وهن على وهن. كل المدة وهن على وهن لكنه لم يذكر كم مدة الحمل لأن المرأة لا دخل لها في مدة الحمل لكن لها دخل في مدة الرضاعة تستطيع أن تفصل الطفل من الرضاعة في أقل من عامين إذا شاءت لكن أفضل مدة للفصال في عامين كما قال القرآن الكريم.
* قال تعالى أن اشكر لي ولوالديك ولم يقل أن اشكر لنا؟
وصاه بالشكر للمنعم الأول الذي هو الله الذي أوجد من العدم وهيأ له أسباب الحياة وهياً له من يحمله ويرضعه وهو ضعيف عاجز. ثم وصاه بالشكر لوالديه. ونحن قلنا هذا خط عام في القرآن أنه إذا ذكر ضمير التعظيم يذكر قبله أو بعده ما يدل على التوحيد. (ووصينا أن اشكر لي) وصينا ضمير تعظيم، أن اشكر لي ضمير الإفراد توحيد. ما المقصود بالشكر؟ هل تقول بلسانك الحمد لله؟ ليس الشكر مطلق القول باللسان لأن الشكر عمل كما قال تعالى (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) سبأ) يعني من لم يؤد حق النعمة فليس بشاكر ولو بقي الليل والنهار يقول الحمد لله يعني من آتاه الله مالاً ولم يؤد حقه فليس بشاكر وإن شكر بلسانه، الشكر عمل ويكون معه القول. (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) اشكر لي حق الله تعالى أن يقوم بتأدية نعم الله تعالى عليه عملاً وقولاً إذن (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) إشارة إلى أن الحياة لا تنتهي وأن هذه مرحلة وإشارة إلى الحياة الآخرة في (إليّ المصير) أي المرجع إذن إشارة إلى الحياة الآخرة
*ما علاقة (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) بصدر الآية؟
مآل ذلك فيما إن خالفت إليّ سيجزيك بما تعمل وبما أوصاك به ربك كأن هذه تذكير بالمآل، مآل ذلك ماذا سيكون؟ ثم قال (إليّ) بتقديم الجار والمجرور، الجملة خارج القرآن المصير إليّ، قدّم الخبر للدلالة على الحصر إليه لا إلى غيره وفي هذا نفي للشرك وإثبات للمعاد. نفي للشرك إليه حصراً لأن المصير إليه وحده، لا شريك مع الله (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) نفي للشرك وإثبات للمعاد إليه حصراً. ولو قال المصير إليّ لا يفيد الحصر إذن المصير إليّ غير إليّ المصير.
*في صدر الآية نفهم أن الكلام عن غائب (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ) ثم يتحول إلى المخاطب (أن اشكر لي)؟ من المخاطب؟
هو قال (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ) عموماً، بماذا وصاه؟ بأن اشكر لي ولوالديك، إذن الوصية هي أن اشكر لي ولوالديك. جملة (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) هذا مما يوجب الشكر لهما لأنهما أنعما عليه من حمله وإرضاعه وتعهده. أصل التركيبة ووصينا الإنسان بوالديه أن اشكر لي ولوالديك.
*هل في القرآن جملة اعتراضية؟ الجملة الاعتراضية مصطلح نحوي.
*هل تعني الآية أن الأب مهضوم الحق؟
لا قال بوالديه لكن أيهما أولى بحسن الصحبة؟ قال بوالديه ولم يقل بأمه وهي أولى بحسن الصحبة كما في الحديث. ذكرنا في الحلقة الماضية أن أبوين ووالدين كلاهما من حيث اللغة تغليب المذكر، الوالدان هما الوالد والوالدة تثنية الوالد والوالدة لكن غُلِّب فيها لفظ المذكر وهو الوالد والأبوان هما الأب والأم لكن غُلِّب بلفظ المذكر الذي هو الأب إذن كلاهما تغليب المذكر وهذا ورد في اللغة يقولون القمران أي الشمس والقمر لكن قلنا في الخط القرآني العام يذكر مع الوصية والدعاء البر يذكر الوالدين أما في المال فيذكر لفظ الأبوين لأن لفظ الأب له نصيبه في الميراث أكثر. الذَكَر عموماً أكثر من الإناث (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ (11) النساء) (مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا (11) النساء). في أمور الدين والطاعات يقول يوصّي وفي غير ذلك يقول يوصي والوالدان يستعملها في البر والدعاء لهما ولم يأت في القرآن في الدعاء والبر بلفظ الأبوين وقلنا ويستعمل الأبوين للجد (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَقَ (6) يوسف) واستخدم أبويكم في الجنة لآدم وحواء (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ (27) الأعراف). وذكرنا قصة يوسف وقلنا فيها ما قلنا وهناك سؤال قد يثار في الذهن: لماذا لم تذكر أم يوسف مع أنها كانت حزينة على يوسف؟ في القصة كلها الأب هو مثار الحزن وفقد بصره ثم هناك حقيقة أن هذا من حسن التقدير لأم أم يوسف لأنها أم يوسف وأم أخيه وليست أم الأبناء الآخرين فلا تستطيع أن تواجههم بالكلام وقد يُسمعونها كلاماً لا يرضيها لأنها ليست أمهم وبمثابة الغريبة بينما هو أبوهم يستطيع أن يقرّعهم وهذا من حسن التقدير لها فقد تكتم في نفسها ولا تستطيع أن تقول.
المحاضرة التي ألقاها فضيلة العالم الأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي في جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم عام 1423 هـ الموافق 2002 م
لمحات قرآنية تربوية (نظرات بيانية في وصية لقمان لابنه)

تبدأ الوصية من قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم(13) وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ(17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ(18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ(19))
تلك هي الوصية وقد بدأت بذكر إتيان لقمان الحكمة
“وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ” 12
الحكمة
والحكمة هي وضع الشيء في محله قولا وعملا، أو هي توفيق العلم بالعمل، فلا بد من الأمرين معا: القول والعمل، فمن أحسن القول ولم يحسن العمل فليس بحكيم، ومن أحسن العمل ولم يحسن القول فليس بحكيم. فالحكمة لها جانبان: جانب يتعلق بالقول، وجانب يتعلق بالعمل. والحكمة خير كثير كما قال الله تعالى: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” البقرة 269.
الله تعالى مؤتي الحكمة ولذلك نلاحظ أنه تعالى قال: ” وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ”.
قال (آتينا) بإسناد الفعل إلى نفسه، ولم يقل: لقد أوتي لقمان الحكمة، بل نسب الإتيان لنفسه. والله تعالى في القرآن الكريم يسند الأمور إلى ذاته العلية في الأمور المهمة وأمور الخير، ولا ينسب الشر والسوء إلى نفسه ألبتة. قال تعالى: “وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً10” الجـن .
فعندما ذكر الشر بناه للمجهول، وعندما ذكر الخير ذكر الله تعالى نفسه. وهذا مطرد في القرآن الكريم، ونجده في نحو: “آتيناهم الكتاب” و “أوتوا الكتاب” فيقول الأولى في مقام الخير، وإن قال الثانية فهو في مقام السوء والذم. وقال تعالى: ” وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً 83″ الإسراء فعندما ذكر النعمة قال: (أنعمنا) بإسناد النعمة إلى نفسه تعالى. وعندما ذكر الشر قال: “وإذا مسه الشر” ولم يقل: إذا مسسناه بالشر. ولم ترد في القرآن مطلقا: زينا لهم سوء أعمالهم، وقد نجد: زينا لهم أعمالهم، بدون السوء، لأن الله تعالى لا ينسب السوء إلى نفسه، ولما كانت الحكمة خيرا محضا نسبها إلى نفسه.
ـ إن قيل: فقد قال في موضع: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا” البقرة 269.
فالرد أنه عز وجل قد قال قبلها: “يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” فنسب إتيان الحكمة إلى نفسه، ثم أعادها عامة بالفعل المبني للمجهول.
مقام الشكر
ـ( أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ)
لها دلالتان:
الأولى ـ أن الحكمة لما كانت تفضلا ونعمة فعليه أن يشكر النعم، كما تقول: لقد آتاك الله نعمة فاشكره عليها. والله آتاه الحكمة فعليه أن يشكره لأن النعم ينبغي أن تقابل بالشكر لموليها. (آتاك نعمة الحكمة فاشكره عليها)
الثانية ـ أن من الحكمة أن تشكر ربك، فإذا شكرت ربك زادك من نعمه “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ 7)” إبراهيم ولو قال غير هذا ، مثلا (فاشكر لله) لكان فيه ضعف، ولم يؤد هذين المعنيين. وضعف المعنى يكون لأن الله تعالى آتاه النعمة “وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ” فإن قال بعدها: (فاشكرلله ) فهذا أمر موجه لشخص آخر وهو الرسول، فيصير المعنى : آتى الله لقمان الحكمة فاشكر أنت!! كيف يكون؟ المفروض أن من أوتي الحكمة يشكر ولذلك قال: “أن اشكر لله” فجاء بأن التفسيرية ولو قال أي تعبير آخر لم يؤد هذا المعنى.
الشكر والكفر
(وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12))
“يشكر” قال الشكر بلفظ المضارع ، والكفران قاله بالفعل الماضي “ومن كفر” من الناحية النحوية الشرط يجعل الماضي استقبالا ، مثال (إذا جاء نصر الله)، فكلاهما استقبال. ويبقى السؤال : لماذا اختلف زمن الفعلين فكان الشكر بالمضارع والكفر بالمشي على أن الدلالة هي للاستقبال؟
من تتبعنا للتعبير القرآني وجدنا أنه إذا جاء بعد أداة الشرط بالفعل الماضي فذلك الفعل يُفعل مرة واحدة أو قليلا، وما جاء بالفعل المضارع يتكرر فعله
مثال: ” وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا92″ النساء وبعدها قال: “وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا 93” النساء فعندما ذكر القتل الخطأ جاء بالفعل الماضي لأن هذا خطأ غير متعمد، إذن هو لا يتكرر وعندما جاء بالقتل العمد جاء بالفعل المضارع (ومن يقتل) لأنه ما دام يتعمد قتل المؤمن فكلما سنحت له الفرصة فعل. فجاء بالفعل المضارع الذي يدل على التكرار.
مثال آخر: “وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً 19” الإسراء .
فذكر الآخرة وجاء بالفعل الماضي لأن الآخرة واحدة وهي تراد. لكن عندما تحدث عن الدنيا قال: “وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ 145” آل عمران.
لأن إرادة الثواب تتكرر دائما.
كل عمل تفعله تريد الثواب، فهو إذن يتكرر والشيء المتكرر جاء به بالمضارع يشكر، فالشكر يتكرر لأن النعم لا تنتهي ” وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ 34″ إبراهيم.
فالشكر يتكرر، كلما أحدث لك نعمة وجب عليك أن تحدث له شكرا أما الكفر فهو أمر واحد حتى إن لم يتكرر، فإن كفر الإنسان بأمر ما فقد كفر، إن كفر بما يعتقد من الدين بالضرورة فقد كفر، لا ينبغي أن يكرر هذا الأمر لأنه إن أنكر شيئا من الدين بالضرورة واعتقد ذلك فقد كفر وانتهى ولا يحتاج إلى تكرار، أما الشكر فيحتاج إلى تكرار لأن النعم لا تنتهي. وفيه إشارة إلى أن الشكر ينبغي أن يتكرر وأن الكفر ينبغي أن يقطع، فخالف بينهما في التعبير فجاء بأحدهما في الزمن الحاضر الدال على التجدد والاستمرار وجاء بالآخر في الزمن الماضي الذي ينبغي أن ينتهي.
الله غني حميد
(فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(12))
جاء بإنما التي تفيد الحصر، أي الشكر لا يفيد إلا صاحبه ولا ينفع الله ولا يفيد إلا صاحبه حصرا أما الله فلا ينفعه شكر ولا تضره معصية
( يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر )
لذلك قال (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)
جمع بين هاتين الصفتين الجليلتين الحميد أي المحمود على وجه الدوام والثبوت وهو تعالى غني محمود في غناه
ـ قد يكون الشخص غنيا غير محمود
ـ أو محمودا غير غني
ـ أو محمودا وهو ليس غنيا بعد، فإن اغتنى انقلب لأن المال قد يغير الأشخاص وقد يغير النفوس كما أن الفقر قد يغير النفوس
ـ وقد يكون الشخص غنيا وغير محمود لأنه لا ينفع في غناه، ولا يؤدي حق الله عليه ولا يفيد الآخرين، بل قد يجر المصالح لنفسه على غناه
ـ وقد يكون محمودا غير غني، ولو كان غنيا لما كان محمودا، فإن اجتمع الأمران فكان غنيا محمودا فذلك منتهى الكمال
وفي آية أخرى في السورة نفسها قال: ” لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
نقول: فلان غني أي هو من جملة الأغنياء، وقد يكون ملكا معه أغنياء فإذا قلت هو الغني فكأن الآخرين ليسوا شيئا بالنسبة إلى غناه وهو صاحب الغنى وحده.
فلماذا قال ها هنا فإن الله غني حميد وهناك في السورة نفسها هو الغني الحميد؟
نلاحظ أن في هذه الآية لم يذكر له ملكا ولا شيئا وهذا حتى في حياتنا اليومية نستعمله نقول أنا غني عنك كما قال الخليل:
أبلغ سليمان أني عنه في جو وفي غنى غير أني لست ذا مال
فقد تقول: أنا غني عنك، ولكن ليس بالضرورة أن تكون ذا ثروة ومال فهنا لم يذكر الله سبحانه لنفسه ملكا المعنى أن الله غني عن الشكر وعن الكفر لا ينفعه شكر ولا يضره كفر.
أما في الآية الأخرى فقد ذكر له ملكا ” لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
فعندما ذكر له ملك السموات والأرض المتسع ، فمن أغنى منه؟ فقال (هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)
أهمية الحكمة في الوعظ
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ(13))
من هنا بدأت الوصية، فلماذا صدر بقوله: “ولقد آتينا..” وكان يمكن مثلا أن يحذفها؟
الحكمة لها جانبان : جانب قولي وجانب عملي، وحكمة لقمان ليست فيما ذكره من أحاديث وأقوال وما قاله لابنه من الوصية، وإنما أيضا في العمل الذي فعله وهو تعهده لابنه وعدم تركه بلا وعظ أو إرشاد، وفي هذا توجيه للآباء أن يتعهدوا أبناءهم ولا يتركوهم لمعلمي سوء ولا للطرقات.
وصدّر بالحكمة وهي ذات جانبين قولي وعملي لأمر آخر مهم، فعندما وصى ابنه فهل من الحكمة أن يوصي ابنه بشيء ويخالفه؟ هذا ليس من الحكمة ولو فعله فلن تنفع وصيته، لو خالف الوعظ عمل الواعظ والموجه لم تنفع الوصية بل لا بد أن يطبق ذلك على نفسه، فعندما قال آتينا لقمان الحكمة علمنا من هذا أن كل ما قاله لقمان لابنه فقد طبقه على نفسه أولا حتى يكون كلامه مؤثرا لذلك كان لهذا التصدير دور مهم في التربية والتوجيه.
ففي هذا القول ولقد آتينا لقمان الحكمة عدة دروس مهمة:
 الأول فيما قاله من الحكمة،
 الثاني في تعهده لابنه وتربيته وتعليمه وعدم تركه لأهل السوء والجهالة يفعلون في نفسه وعقله ما يشاء،
 الثالث قبل أن يعظ ابنه طبق ذلك على نفسه فرأى الابن في أبيه كل ما يقوله وينصحه به من خير ، لذلك كان لهذا التصدير ملمح تربوي مهم وهو توجيه الوعاظ والمرشدين والناصحين والآباء أن يبدؤوا بأنفسهم فإن ذلك من الحكمة وإلا سقطت جميع أقوالهم.
التعهد بالنصح مع حسن اختيار الوقت
(وَهُوَ يَعِظُهُ)
نحن نعرف أنه يعظه ويتضح أنه وعظ من خلال الآيات والأوامر وسياق الكلام، فلماذا قال (وَهُوَ يَعِظُهُ)
فيها دلالتان:
1. من حيث اللغة: الحال والاستئناس للدلالة على الاستمرار. وهو يعظه اختار الوقت المناسب للوعظ ، ليس كلاما طارئا يفعله هكذا، أو في وقت لا يكون الابن فيه مهيأ للتلقي، ولا يلقيه بغير اهتمام فلا تبلغ الوصية عند ذلك مبلغا لكنه جاء به في وقت مناسب للوعظ فيلقي ونفسه مهيأة لقبول الكلام فهو إذن اختار الوقت المناسب للوعظ والتوجيه
2. والأمر الثاني (وَهُوَ يَعِظُهُ). فهذا من شأن لقمان أن يعظ ابنه، هو لا يتركه، وليست هذه هي المرة الأولى، هو من شأنه ألا يترك ابنه بل يتعاهده دائما، وهكذا ينبغي أن يكون المربي.
فكل كلمة فيها توجيه تربوي للمربين والواعظين والناصحين والآباء.
الرفق في الموعظة
(يا بني)
كلمة تصغير للتحبيب، أي ابدأ بالكلام اللين اللطيف الهين للابن وليس بالتعنيف والزجر. بل بحنان ورِقّة لأن الكلمة الطيبة الهينة اللينة تفتح القلوب المقفلة وتلين النفوس العصية، عكس الكلمة الشديدة المنفرة التي تقفل النفوس . لذلك قال ربنا لموسى عن فرعون: “فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى 44” طـه .
وأنت أيها الأب إن أجلست ولدك إلى جانبك ووضعت يدك على رأسه وكتفه، وقلت له يا بني ، فتأكد أن هذه الكلمة بل هذه الحركة من المسح تؤثر أضعاف الكلام الذي تقوله ، وتؤثر في نفسه أكثر بكثير من كل كلام تقوله وتزيل أي شيء بينك وبينه من حجاب وتفتح قلبه للقبول. وعندها فهو إن أراد أن يخالفك فهو يخجل أن يخالفك، بهذه الكلمة اللطيفة الشفيقة تزيل ما بينك وبينه من حجاب، ويكون لك كتابا مفتوحا أمامك، وعندها سيقبل كلامك والكلمة الطيبة صدقة .
لذلك بدأ بهذه الكلمة مع أنه من الممكن أن يبدأ الأب بالأمر مباشرة ولكن لها أثُرها الذي لا ينكر ولا يترك، فأراد ربنا أن يوجهنا إلى الطريقة اللطيفة الصحيحة المنتجة في تربية الأبناء وتوجيههم وإزالة الحجاب بيننا بينهم من دون تعنيف أو قسوة أو شدة، وبذلك تريح نفسه وتزيل كل حجاب بينك وبينه ونحن في حياتنا اليومية نعلم أن كلمة واحدة قد تؤدي إلى أضعاف ما فيها من السوء، وكلمة أخرى تهون الأمور العظيمة وتجعلها يسيرة.
ولقد تعلمت درسا في هذه الحياة قلته لابني مرة وقد اشتد في أمر من الأمور في موقف ما، وأنا أتجاوز الستين بكثير، وكان الموقف شديدا جدا، وقد فعل فعلته في جهة ما وخُبّرت بذلك فجئت به ووضعته إلى جنبي وقلت له: يا فلان تعلمت من الحياة درسا أحب أن تتعلمه وهو أنه بالكلمة الشديدة القاهرة ربما لا أستطيع أن أحصل على حقي ولكن تعلمت أنه بالكلمة الهينة اللينة آخذ أكثر من حقي.
أس الوصية
(يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم((13))
لم يبدأ بالعبادة ولم يقل له اعبد الله وإنما بدأ بالنهي عن الشرك، وذلك لما يلي:
 أولا: التوحيد أس الأمور، ولا تقبل عبادة مع الشرك، فالتوحيد أهم شيء.
 ثانيا: العبادة تلي التوحيد وعدم الشرك فهي أخص منه. التوحيد تعلمه الصغير والكبير، فالمعتقدات تُتعلم في الصغر وما تعلم في الصغر فمن الصعب فيما بعد أن تجتثه من نفسه ، ولن يترك ما تعلمه حتى لو كان أستاذا جامعيا في أرقى الجامعات، هذا ما شهدناه وعايناه بأنفسنا فهذا الأمر يكون للصغير والكبير ، تعلمه لابنك وهو صغير، ويحتاجه وهو كبير، أما العبادة فتكون بعد التكليف.
 ثالثا : أمر آخر أنه أيسر، فالأمر بعدم الشرك (أي بالتوحيد) هو أيسر من التكليف بالعبادة، العبادة ثقيلة ولذلك نرى كثيرا من الناس موحدين ولكنهم يقصرون بالعبادة، فبدأ بما هو أعم وأيسر؛ أعم لأنه يشمل الصغير والكبير، وأيسر في الأداء والتكليف.
ثم قال (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)
لماذا اختار الظلم؟ لماذا لم يختر : إثم عظيم، ولماذا لم يقل كبير؟
لو تقدم شخصان إلى وظيفة أحدهما يعلم أمر الوظيفة ودقائقها وأمورها وحدودها، ويعبر عن ذلك بأسلوب واضح سهل بين، والثاني تقدم معه ولكنه لا يعلم شيئا ولا يحسنها وهو فيه عبء، وعنده قصور فهم وإدراك، فإن سوينا بينهما أفليس ذلك ظلما؟
ولو تقدم اثنان للدراسات العليا وأحدهما يعرف الأمور بدقة ويجيب على كل شيء، وله أسلوب فصيح بليغ لطيف، وآخر لا يعلم شيئا ولا يفقه شيئا ولم يجب عن سؤال ولا يحسن أن يبين عن نفسه، فإن سويت بينهما أفليس ذلك ظلما؟
والفرق بين الله وبين المعبود الآخر أكبر بكثير، ليست هناك نسبة بين الخالق والمخلوق، بين مولي النعمة ومن ليس له نعمة، فإن كان ذاك الظلم لا نرضى به في حياتنا اليومية فكيف نرضى فيما هو أعظم منه فهذا إذن ظلم، وهو ظلم عظيم.
والإنسان المشرك يحط من قدر نفسه لأن الآلهة التي يعبدها تكون أحط منه، وقصارى الأمر أن تكون مثله، فهو يعبد من هو أدنى منه، أو بمنزلته، فهذا حط وظلم للنفس بالحط من قدرها، إنه ظلم لأنه يورد نفسه موارد التهلكة ويخلدها في النار وهذا ظلم عظيم.
وأمر آخر أن الإنسان بطبيعته يكره الظلم، قد يرتضيه لنفسه لكن لا يرضى أن يقع عليه ظلم ، فاختار الأمر الذي تكرهه نفوس البشر (الظلم) وإن كان المرء بنفسه ظالما.
وفي هذا القول تعليل، فهو لم يقل له: (لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ) وسكت، وإنما علل له، وهذا توجيه للآباء أن يعللوا لا أن يقتصروا على الأوامر والنواهي بلا تعليل، لا بد من ذكر السبب حتى يفهم لماذا، لا بد أن يعرف حتى يقتنع فهو بهذه النهاية (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) أفادنا أمورا كثيرة في التوجيه والنصح والتعليم والتربية.
عظم حق الوالدين
(وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(14))
(ووصينا) من قائلها؟ هذه ليست وصية لقمان، هذا كلام الله ، لقمان لم ينه وصيته، هذه مداخلة، وستتواصل الوصية فيما بعد .قبل أن يتم الوصية قال الله (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْه)ِ ، ولم يدع لقمان يتم الوصية، بل تدخل سبحانه بهذا الكلام ، وذلك لأسباب:
 أولا: أمر الوالدين أمر عظيم، والوصية بهما كذلك، فالله تعالى هو الذي تولى هذا الأمر، ولم يترك لقمان يوصي ابنه به، فلما كان شأن الوالدين عظيما تولى ربنا تعالى أمرهما، لعظم منزلتهما عند الله تعالى.
 ثانيا: لو ترك لقمان يوصي ابنه يا بني أطع والديك لكان الأمر مختلفا. لأننا عادة في النصح والتوجيه ننظر للشخص الناصح هل له في هذا النصح نفع؟ فإن نصحك شخص ما فأنت تنظر هل في هذا النصح نفع يعود على الناصح؟ فإن كان فيه نفع يعود على الناصح فأنت تتريث وتفكر وتقول: قد يكون نصحني لأمر في نفسه، قد ينفعه، لو لم ينفعه لم ينصحني هذه النصيحة. لو ترك الله تعالى لقمان يوصي ابنه لكان ممكنا أن يظن الولد أن الوالد ينصحه بهذا لينتفع به، ولكن انتفت المنفعة هنا فالموصي هو الله وليست له فيه مصلحة.
وقال: (ووصينا) ، ولم يقل: وأوصينا.
والله تعالى يقول (وصّى) بالتشديد إذا كان أمر الوصية شديدا ومهماً، لذلك يستعمل وصى في أمور الدين، وفي الأمور المعنوية: (“وَوَصَّى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 132” البقرة ) (“وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ 131” النساء).
أما (أوصى) فيستعملها الله تعالى في الأمور المادية : “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ” النساء.
لم ترد في القرآن أوصى في أمور الدين إلا في مكان واحد اقترنت بالأمور المادية وهو قول السيد المسيح : “وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً 31” مريم.
في غير هذه الآية لم ترد أوصى في أمور الدين، أما في هذا الموضع الوحيد فقد اقترنت الصلاة بالأمور المادية وقد قالها السيد المسيح في المهد وهو غير مكلف أصلا.
قال وصّى وأسند الوصية إلى ضمير التعظيم (ووصينا) والله تعالى ينسب الأمور إلى نفسه في الأمور المهمة وأمور الخير.
ولم يقل بأبويه بل اختار بوالديه:
الوالدان مثنى الوالد والوالدة، وهو تغليب للمذكر كعادة العرب في التغليب إذ يغلبون المذكر كالشمس والقمر يقولون عنهما (القمران).
والأبوان هما الأب والأم ولكنه أيضا بتغليب المذكر ولو غلب الوالدة لقال الوالدتين، فسواء قال بأبويه أو بوالديه فهو تغليب للمذكر، ولكن لماذا اختار الوالدين ولم يقل الأبوين؟
لو نظرنا إلى الآية لوجدناه يذكر الأم لا الأب: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)
فذكر أولا ا لحمل والفطام من الرضاع (وفصاله) ولم يذكر الأب أصلا ذكر ما يتعلق بالأم (الحمل والفصال) وبينهما الولادة والوالدان من الولادة، والولادة تقوم بها الأم. إذن:
 أولا (المناسبة) فعندما ذكر الحمل والفصال ناسب ذكر الولادة.
 ثانيا: ذكره بالولادة وهو عاجز ضعيف، ولولا والداه لهلك فذكره به.
 ثالثا إشارة إلى انه ينبغي الإحسان إلى الأم أكثر من الأب، ومصاحبة الأم أكثر من الأب، لأن الولادة من شأن الأم وليست من شأن الأب.
لذلك فعندما قال (بوالديه) ذكر ما يتعلق في الأصل بالأم، ولذلك فهذه الناحية تقول : ينبغي الإحسان إلى الوالدة قبل الأب وأكثر من الأب. ولذلك لا تجد في القرآن الكريم البر أو الدعاء أو التوصية إلا بذكر الوالدين لا الأبوين
أمثلة :
“وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً 23” الإسراء.
” وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 36″ النساء.
” قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً 151″ الأنعام .
وكذلك البر والدعاء والإحسان.
“رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ 41” إبراهيم.
” رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً28″ نوح.
“وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً 8” العنكبوت.
” وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً 15″ الأحقاف.
لم يرد استعمال (الأبوين) إلا مرة في المواريث، حيث نصيب الأب أكثر من نصيب الأم، أو التساوي في الأنصبة. لكن في البر والتوصية والدعاء لم يأت إلا بلفظ الوالدين إلماحا إلى أن نصيب الأم ينبغي أن يكون أكثر من نصيب الأب.
كما ان لفظ (الأبوان) قد يأتي للجدين : “وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم وَإِسْحَاقَ 6” يوسف
ويأتي لآدم وحواء: “يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ 27” الأعراف
فاختيار الوالدين له دلالات مهمة.
ثم هو هنا لم يأت بالأب أصلا بل قال ( حملته أمه وهنا ..) ولم يرد ذكر للأب أبدا، لذلك كان اختيار الوالدين انسب من كل ناحية.
قد تقول إن هذا الأمر تخلف في قصة سيدنا يوسف عندما قال: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100” يوسف فاختار الأبوين. الجواب: لم يتخلف هذا الأمر، فعندما قال رفع أبويه لم يتخلف وإنما هو على الخط نفسه، وذلك لما يلي:
 أولا: في قصة يوسف لم يرد ذكر لأم مطلقا ورد ذكر الأب فهو الحزين وهو الذي ذهب بصره .. الخ ولم يرد ذكر للام أصلا في قصة يوسف.
 ثانيا في هذا الاختيار أيضا تكريم للأم لأنه قال: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً100” فالعادة أن يكرم الابن أبويه، ليس أن يكرم الأبوان الابن ولكن هنا هم خروا له سجدا فالتكريم هنا حصل بالعكس من الأبوين للابن ولذلك جاء بلفظ الأبوين لا الوالدين إكراما للام فلم يقل: ورفع والديه.
 وفيها إلماح آخر أن العرش ينبغي أن يكون للرجال.
فلما قال أبويه هنا ففيه تكريم للأم، ويلمح أن لعرش ينبغي أن يكون للرجال ، ويناسب ما ذكر عن الأب إذ القصة كلها مع الأب، فهو الأنسب من كل ناحية.
وهنا قد يرد سؤال: إن الأم هي التي تتأثر وتتألم أكثر وتحزن فلماذا لم يرد ذكرها هنا؟ ألم تكن بمنزلة أبيه في اللوعة والحسرة؟
لا .. المسألة أمر آخر، أم يوسف ليست أم بقية الإخوة، هي أم يوسف وأخيه فقط، ولذلك فيكون كلامها حساسا مع إخوته، أما يعقوب عليه السلام فهو أبوهم جميعا، فإذا عاتبهم أو كلمهم فهو أبوهم، أما الأم فليست أمهم، فإذا تكلمت ففي الأمر حساسية، وهذا من حسن تقديرها للأمور فكتمت ما في نفسها وأخفت لوعتها حتى لا تثير هذه الحساسية في نفوسهم وهذا من حسن التقدير والأدب، فلننظر كيف يختار القرآن التعبيرات في مكانها ويعلمنا كيف نربي ونتكلم مع أبنائنا. {نظرا لانتهاء الوقت المخصص للمحاضرة فقد اضطر العالم الفاضل الأستاذ فاضل السامرائي للوقوف عند هذا الحد}.

اترك تعليقاً