هو “أبو بكر عبد القاهر بن عبدالرحمن الجرجاني” الإمام النحوي وأحد علماء الكلام على مذهب الأشاعرة ولد وعاش في (جرجان) وهي مدينة مشهورة بين طبرستان وخراسان ببلاد فارس في مطلع القرن الخامس للهجرة ولم يفارقها حتى توفي سنة 471هـ .
كان منذ صغره محبًّا للعلم، فأقبل على الكتب والدرس، خاصة كتب النحو والأدب والفقه، ولما كان فقيرًا لم يخرج لطلب العلم نظرًا لفقره، بل تعلم في جرجان وقرأ كل ما وصلت إليه يده من كتب، فقرأ للكثيرين ممن اشتهروا باللغة والنحو والبلاغة والأدب، كسيبويه والجاحظ والمبرِّد وابن دُرَيْد وغيرهم.
وتهيأت له الفرصة ليتعلم النحو، على يد واحد من كبار علماء النحو؛ عندما نزل جرجان واستقر بها، وتمضي الأيام ليصبح عبد القاهر عالمًا وأستاذًا، واشتهر شهرة كبيرة، وذاع صيته، فجاء إليه طلاب العلم من جميع البلاد يقرءون عليه كتبه ويأخذونها عنه، وكان عبد القاهر يعتز بنفسه كثيرًا ويكره النفاق، ولا يذل نفسه من أجل المال، ووصل عبد القاهر الجرجاني لمنزلة عالية من العلم، ولكنه لم يُقَدَّر التقدير الذي يستحقه.
اسهاماته
ترجع شهرة الجرجاني إلى كتاباته في البلاغة، فهو يعتبر مؤسس علم البلاغة، أو أحد المؤسسين لهذا العلم، ويعد كتاباه: (دلائل الإعجاز) و(أسرار البلاغة) من أهم الكتب التي أُلفت في هذا المجال، وقد ألفها الجرجاني لبيان إعجاز القرآن الكريم وفضله على النصوص الأخرى من شعر ونثر، وقد قيل عنه: كان ورعًا قانعًا، عالـمًا، ذا نسك ودين.
وترك الجرجاني آثاراً مهمة في الشعر والأدب والنحو وعلوم القرآن، من ذلك ديوان في الشعر وكتب عدة في النحو والصرف منها أهمها: كتاب “الإيضاح في النحو” وكتاب “الجمل”، أما في الأدب وعلوم القرآن فكان له “إعجاز القرآن” و”الرسالة الشافية في الإعجاز” ، هذا بالإضافة إلى “دلائل الإعجاز” و”أسرار البلاغة” الذي أورد فيهما معظم آرائه في علوم البلاغة العربية.
منهجه العلمي
تبحّر الجرجاني في علوم النحو واللغة والبلاغة، ووضع “الرسالة الشافية في الإعجاز” لتأكيد عمله المنهجي في هذا الموضوع المهم، وخالف رأي الكثيرين في الإعجاز، حين زعموا أن إعجاز القرآن، إنما هو “بالصرفة”، أي ان الله صرف العرب عن مضاهاة القرآن، فدفع هذه الفكرة بقوة وإصرار، وألح على تبيان فسادها في مؤلفاته عن الإعجاز، معتبراً ان إعجاز القرآن ليس “بالصرفة”، وانما هو في فصاحته وبلاغته.
ويرى الجرجاني أن الفصاحة والبلاغة، هما مصدر الإعجاز في القرآن، لا عن طريق تخير الألفاظ ولا الموسيقا ولا الاستعارات وألوان المجاز، وإنما عن طريق النظم، اذ ان نظم القرآن وتأليفه، هما مصدر الإعجاز فيه، ويقول الجرجاني: “فإذا بطل الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه.. لم يبق إلا ان يكون في النظم والتأليف”.
وحمل عبدالقاهر الجرجاني على النقاد الذين كانوا ينحازون إلى اللفظ ويقدمونه على المعنى، وكان يحس بوعي نقدي أن ثنائية اللفظ والمعنى عند “ابن قتيبة” هي خطر على النقد والبلاغة، فتقديم اللفظ، قتل الفكر، لأن الفصاحة ليست في اللفظة، وإنما هي في العملية الفكرية التي تصنع تركيباً فصيحاً من الألفاظ.
ويشرح الجرجاني، نظرية الصورة المجتمعة من اللفظ والمعنى، ويشبهها بعملية الصياغة، ويعتبر أن النظم والتأليف هما الإعجاز في الكلام، والذي يحققه التفاوت، تماما مثلما يحدث النظم في الإبريسم الذي يحافظ على “العامل العمدي” في إنشاء صورة ما، وقد وضح الجرجاني المصطلح النقدي الذي أسماه الصورة في الكلام فقال: “وأعلم أن قولنا الصورة، إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا..”
ويتحدث عن البينونة بين معنى ومعنى وصورة وصورة فيقول: “ثم وجدنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونة في عقولنا وفرقاً.. قلنا للمعنى في هذا صورة غير صورته في ذلك”، ويرى الجرجاني أن التفاوت في الصور، هو الطريق لإثبات الإعجاز، فإذا بلغ الأثر الأدبي درجة من التميز لا يلحقه فيها أي أثر آخر، صح أن يسمى معجزاً.
أما التأكيد على الصورة فقد أبعد “الجرجاني” نفسه عن الخوض في العلاقة بينها وبين “الفاعل” لها او القوة الفاعلة لها، لأن الناقد يستكشف الجمال الفني، وان طبيعة إعجاز هذه الصورة الجمالية، هي التي تتخذ دليلا على الفاعل، دون أن تفضي الى التحدث عن مدى العلاقة بينها وبينه.
وللجرجاني رأيه في المعنى ومعنى المعنى، وهو نظرياً يتصل بتفاوت الدلالات الناجم عن طريق الصياغة. فالمعنى: هو المفهوم الظاهر في اللفظ. أما معنى المعنى، فمرحلة تتجاوز المعنى الظاهر، إلى المستوى الفني في الكتابة والاستعارة. وفي هذه المرحلة يكون التفاوت في الصورة والصياغة.
ووضع الجرجاني كتابه “أسرار البلاغة” لدراسة معنى المعنى، حيث درس التشبيه والتمثيل والاستعارة، وألمح الى أن “معنى المعنى” يقوم على مستويات متفاوتة في الدلالة والتأثير معاً، وكانت له وقفته النقدية حين تحدّث عن التناوب بين المكني والصريح وضرورة إعلاء شأن قوة التمثيل من الزاوية العقلية بغية الوصول إلى اللذة النفسية في تتبع صور الجمال
مؤلفاته
يوجد للجرجاني أكثر من خمسين مؤلفا في علم الهيئة والفلك والفلسفة والفقه، ولعل أهم هذه الكتب: كتاب التعريفات وهو معجم يتضمن تحديد معاني المصطلحات المستخدمة في الفنون والعلوم حتى عصره، وهذا المعجم من أوائل المعاجم الاصطلاحية في التراث العربي، وقد حدد فيه الجرجاني معاني المصطلحات تبعا لمستخدميها وتبعا للعلوم والفنون التي تستخدم فيها، وجعل تلك المصطلحات مرتبة ترتيبا ابجديا مستفيدا في ذلك من المعاجم اللغوية التي يسهل التعامل معها، ويعد هذا المعجم من المعاجم المهمة، وأشار المستشرقين لأهميته الدلالية والتاريخية.
وللجرجاني عدة كتب في النحو منها : (المغني) و(المقتصد) و(التكملة) و(الجمل) وفي الشعر منها: (المختار من دواوين المتنبي والبحتري وأبو تمام) ، ومن مؤلفاته الأخرى : رسالة في تقسيم العلوم ، وخطب العلوم ، وشرح كتاب الجغميني في علم الهيئة، وشرح الملخص في الهيئة للجغميني، وشرح التذكرة النصيرية وهي رسالة نصير الدين الطوسي، وتحقيق الكليات.
وفاته
توفي شيخ البلاغيين (عبد القاهر الجرجاني) سنة 471هـ، لكن علمه مازال باقيًا، يغترف منه كل ظمآن إلى المعرفة ويهدي إلى السبيل الصحيح في بيان إعجاز القرآن الكريم.